منتقى الأصول

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1413 ه-.ق

الصفحات: 528

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء الأول

ص: 1

المجلد 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 1

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

الصورة

ص: 5

ص: 6

المقدمة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

طلب إلي - ولعل الأصح كان من المفروض علي - تقديم الكتاب ، علما بأن ذلك من الصعب جدا ، إذ كان المعني به : تقويم الكتاب ، وتقييم مؤلفه .. وهذا ما يعوزني - جدا - متطلباته ، وأراني فاقدا للصلاحيات المفروضة فيه. ولكن حيث لم يكن الامر بالخيار ، فلا مبرر للاعتذار.

1 - تمهيد :

1

ان علم ( أصول الفقه ) في المصطلح الحوزوي يعنى به : مجموعة من المسائل يقع عليها - بالدرجة الأولى - ثقل علم ( الفقه ) ، أي : اثبات الوظائف الشرعية العملية للمكلفين. ولا ضير إذا اكتفينا - في هذا المجال - بهذا المقدار في تعريف العلم ، حيث لا يتطلب منا الموقف تحديده بالدقة ، بل هو ما يتكفله الكتاب نفسه اذن فعلم ( أصول الفقه ) - في الحقيقة - من العلوم الالية لعلم ( الفقه ) ، رغم أنه - في نفسه - يمثل مرتبة سامية من المعرفة بلغها الادراك البشري عبر تاريخه الطويل.

وقد مر على هذا العلم - شأن لداته من سائر العلوم والفنون - أدوار ومراحل ، دور الابداع والتأسيس ، دور التطور والتكامل ، السريع منهما والمتلكئ

ص: 7

القريب من الجمود في بعض الأحايين. كما كان له - إلى جانب ذلك - نصيبه من التوسع والانكماش حسب تبائن الاتجاهات والنزعات ، ونتيجة اختلاف الظروف والأحوال السائدة في الحوزات والمعاهد العلمية.

2

جرت العادة في التقديم لأمثال علم ( أصول الفقه ) على تحديد المراحل التي مر بها العلم منذ فجر تأسيسه ، وحتى عصر المؤلف ، معتبرين له دور التأسيس والابداع ، ودور النضج والكمال .. ومحددين كل ذلك بزمان خاص ، وعصر أحد أعلام ذلك العلم .. واعتبار كل ذلك بوجه الدقة ، مدعوما بشواهد وأدلة لا ترضخ للنقد والتمحيص ، ويكون بعيدا كل البعد عن ذهنيات الكاتب وميوله ، واتجاهاته الموافقة أو المعاكسة لأولئك الاعلام شئ يصعب المصادقة عليه. وهي سبيل ترتكز - على أغلب الظن - على الحدس والاجتهاد أكثر مما تعتمد الحقائق والواقعيات ، بالإضافة إلى ما قد يستلزمه ذلك من البخس بحق بعض ، والايفاء فوق اللازم لحق الآخرين.

فارتأيت لذلك - وانا لا بد لي من تقديم الكتاب - تجنب الطريقة الكلاسيكية المتبعة من أغلبية الكتبة ، وأن ألج الموضوع من باب آخر ، كي لا أرمى بالاندفاع العاطفي ، وليأتي حديثي أبعد ما يكون من التخرص بالغيب ولذلك أعرضت عن تحديق إلى الزمن البعيد ، وتجنبت الكلام عن العصور الساحقة الضاربة في القدم ، واعتبرت موضوع حديثي عن سير هذا العلم في العصر القريب من عصرنا الحاضر ، المشهود حاله أو بالامكان التعرف عليه - لكل أحد - علما بان هذا العلم مدين بالكثير للمساعي المشكورة التي بذلها أئمة هذا الفن الأقدمون ، كشيخنا المفيد ( 336 - 948 / 413 - 1022 ) والشريف علم الهدى ، المرتضى ( 355 - 966 / 436 - 1044 ) وشيخ الطائفة ، الشيخ الطوسي ( 385 - 995 / 460 - 1067 ) وآية اللّه على الاطلاق ، العلامة الحلي

ص: 8

( 648 - 1250 / 726 - 1325 ) وغيرهم ، شكر اللّه مساعيهم الجميلة.

3

لقد طرء على علم ( أصول الفقه ) منذ عهد المرحوم ، الشيخ محمد تقي الأصفهاني ( - / 1348 ه - 1833 م ) في جلساته على كتاب ( معالم الأصول ) للشيخ حسن ، بن زين الدين ، الشهيد الثاني ( قدهما ) ( 959 ه - 1553 م / 1011 ه - 1602 م ) تطور ملحوظ ، سواء أكان ذلك في بحوثه ومسائله ، أم في نوعية التدليل والبرهنة عليها. وهذا شئ لا ينكره كل من لاحظ الكتاب المذكور ، وقارنه بما سبقه من كتب الأصول.

ثم بدى - وهو أكثر جدة ، وتهذيبا ، وتنقيحا في البحوث والأدلة - فيما كتبه شيخنا العلامة الأنصاري ( قده ) ( 1214 ه - 1800 م / 1281 ه - 1864 م ) في ( فرائد الأصول ) المشتهر في الأوساط الحوزوية باسم ال ( رسائل ).

ويجدر بنا في هذا المجال أن لا ننسى دور جملة من أفاضل تلامذة الشيخ الأنصاري ( قده ) ممن كان لهم الدور الفعال ، والاسهام المشكور في تطوير العلم ، كالمحقق الرشتي ، المرحوم ميرزا حبيب اللّه ( 1234 ه - 1819 م / 1312 ه - 1894 م ) والسيد المجدد ، ميرزا حسن الشيرازي ( 1320 ه - 1815 م / 1312 ه - 1895 م ) وغيرهم. جزاهم اللّه تعالى عن العلم وأهله خير الجزاء.

ثم جاء دور المحقق ، الآخوند ، ملا محمد كاظم الخراساني ( 1255 ه - 183 م / 1329 ه - 1911 م ) المشتهر في العرف الحوزوي باسم كتابه ( كفاية الأصول ) بالمحقق صاحب الكفاية. فقد قطع علم ( أصول الفقه ) على عهده شوطا كبيرا في مجال التطوير والتقدم ، بالإضافة إلى ما امتاز به المحقق المذكور ( قده ) من القدرة على التلخيص والتهذيب.

ومن هنا أصبح كتابه ( كفاية الأصول ) بجزئيه ، مع كتاب ( فرائد الأصول ) لشيخنا الأنصاري ( قده ) محور الدراسات الأصولية في كافة الحوزات العلمية ،

ص: 9

في المرحلة الأخيرة من الدراسة التمهيدية ، المصطلح عليها في العرف الحوزوي باسم : ( دراسة السطح العالي ). ولا يزال هذا الامر قائما حتى يومنا هذا في كل الحوزات العلمية بلا استثناء.

وان من الاعتراف بالجميل : الإشادة بدور المحقق الكبير ، المرحوم ، السيد محمد الفشاركي الأصفهاني ( 1253 ه - 1837 م / 1316 ه - 1899 م ) الذي لا ينكر اسهامه الوافر في هذا المجال. جزاه اللّه سبحانه وتعالى خير الجزاء.

4

لقد برز على الساحة - بعد انتهاء دور المحقق صاحب الكفاية ( قده ) - بمستوى الدراسات الأصولية العليا ، ثلاثة من الاعلام ، يعدون بحق العصب الرئيس لعلم الأصول في عصرنا الحاضر ، وهم :

المحقق ، الميرزا ، حسين ، النائيني ( قده ) ( 1277 ه - 1860 م / 1355 ه - 1936 م ) والمحقق ، الشيخ ، محمد حسين ، الأصفهاني ، المعروف ب ( الكمپاني ) ( قده ) ( 1296 ه - 1878 م / 1361 ه - 1942 م ) فقد أسهموا - بجد وجهد - في تطوير العلم ، ونضجه ، وتعميقه .. كما كان لهم الفضل في تكوين الصفوة القيادية للحوزات العلمية ، سواء أكانوا بمستوى المرجعية العامة ، أم كانوا بمستوى أساتذة للدراسات العليا - وقد خلفوا للأجيال القادمة ثروة علمية طائلة ، لا ينضب معينها.

2 - الكتاب!

دورة كاملة محاضرات في ( أصول الفقه ) بكلا قسميه الرئيسيين : اللفظي والعقلي - حسب التجزئة الكلاسيكية - ألقاها ، سماحة آية اللّه العظمى ، الأستاذ

ص: 10

الأعظم ، المحقق العبقري ، السيد محمد الروحاني ، دام ظله الوارف ، من دورات محاضراته الأصولية ، بالإضافة إلى ما تجدد له - دام ظله - من نظريات علمية ، وأبانه من دقائق لم تسبق إليها الفكر ، وأجلاه من غوامض وتحقيقات رشيقة لم يهتد إليها النظر من الدورة الثالثة. وندعو اللّه العلي القدير أن يتفضل على سيدنا - دام ظله - بالدوام والاستمرارية في إفاداته ، وإتمام الدورة الحاضرة من بحوثه - وهي الدورة الرابعة - وأن يليها دورات مقبلة ، ان شاء اللّه تعالى.

وأرى نفسي في غنى من الإفاضة في الحديث حول الكتاب ، وحول شخصية الأستاذ الأعظم - دام ظله - فسطور الكتاب - بل كلماته - تنطق كلها بذلك ، وتصدق ما كان هو المعتقد والمعترف به في الأوساط العلمية من عد درس هذا الأستاذ العظيم مجالا خصبا للنمو العلمي بمستوى الدراسات الحوزوية العليا فلا غرو - إذن - إذا كان قد التف حوله - دام ظله - في مختلف بحوثه ومحاضراته سواء أكانت بمستوى الدراسة التمهيدية العالية - السطح العالي حسب المصطلح الحوزوي - أم كانت بمستوى الدراسات العليا - بحث الخارج - بالاصطلاح المشار إليه. لا غرو ، إذا ما التف حوله ذوو الذكاء المتوقد ، والنشاط العلمي المتوثب ...

هذا ، ومن فروض القول علي انه ليس لي الاسترسال في الحديث بأكثر من هذا فقد عرفته - دام ظله - بعيدا كل البعد عن السماح بذكر ما يرجع إليه أو يخصه .. ولكنني وجدت الاغضاء عن هذا اليسير جفاء بحق هذا الأستاذ العظيم. فليمنحني عفوه ودعاءه ، كما منحني من ذي قبل رشحات من سحاب علمه الماطر ، وغيظا من فيض فضله الهاطل .. أمد اللّه تعالى في عمره الشريف.

ص: 11

3 - المؤلف!

اشارة

1

العلامة ، الحجة ، فقيد الفضيلة ، والعلم ، والتقى ، الشهيد ، السعيد آية اللّه ، السيد عبد الصاحب الحكيم ، نجل سماحة آية العظمى ، الفقيد الراحل ، السيد محسن الطباطبائي ، الحكيم ، طيب اللّه ثراهما.

( 1360 ه 1941 م / 1403 ه 1983 م )

2

إذا كان من مقومات الشخصية ، والتي ترسم معالمها وتخطط لها : الأسرة ، البيئة. التربية والتعليم. فان المترجم له - تغمده اللّه تعالى بوافر رحمته - كان قد حظي من ذلك كله بالنصيب الأوفى ، ونال منها الحظ الأوفر :

الف - الأسرة!

انحدر المترجم له من أسرة ، شريفة ، علمية ، تتمتع بالكثير من أعلام الأمة ورجالاتها ولعل في القمة منهم : والده ، الفقيد الراحل ، آية اللّه العظمى ، السيد محسن الطباطبائي الحكيم ، طاب ثراه ، الذي أشغل دست المرجعية العليا للطائفة لمدة ربع قرن من الزمن تقريبا.

وقد نشأ المترجم له من أحضان هذه الأسرة العريقة بشرفها ، المتميزة بتاريخها والمحافظة على أصالتها ، وقد تجلت فيه كل الدوافع الخيرة والعواطف النبيلة التي كانت تحملها الأسرة ، كما تمثلت فيه المواهب العقلية والنفسية التي كانت تتمتع بها أعيان الأسرة ورجالاتها.

ب - البيئة!

هي : النجف الأشرف ، مثوى باب مدينة علم رسول اللّه ، صلى اللّه عليه وآله وسلم ، رباني الأمة ، وامام الأئمة ، امام المتقين ، وقدوة أهل النهى واليقين ، أمير

ص: 12

المؤمنين ، علي بن أبي طالب ، صلوات اللّه وسلامه عليه. حاضرة الشيعة العلمية الكبرى ما يربو على الألف سنة. تلك المدينة التي أنجبت الألوف من العلماء ، والأدباء .. وأنتجت الألوف ضعف الألوف من الكتب العلمية ، والأدبية ، والتاريخية .. وساهمت مساهمة قيادية في ما لا تعد ولا تحصى من الحوادث والقضايا الاسلامية ، التي كانت بحق نقطة عطف في تاريخ الأمة الاسلامية جمعاء.

ولد المترجم له في هذه المدينة المقدسة ، ونشأ وتعلم بها ، والتحق بحوزتها العلمية ، التي هي - بحق - حوزة الاسلام العلمية الكبرى. وتدرج فيها من دور النشئ الصالح ، إلى مرحلة التلميذ الذكي اليقظ ، ومن مرحلة الطالب الحوزوي إلى دور الأستاذ للدراسات التمهيدية العليا ( تدريس السطح العالي ) إلى أستاذ الدراسات العليا ( تدريس الخارج ).

ج - التربية والتعليم!
اشارة

حظي المترجم له بتربية وثقافة اسلاميتين ، منذ الطفولة وحتى أخريات أيام دراسته. فقد استهل حياته في رعاية أبوين حريصين على اشباع وليدهما بالتربية الاسلامية ، ضمن مراعاتهما لمتطلبات دور الطفولة وحداثة السن. ثم بقي يتقلب في أدوار تالية من حياته خاضعا لاشراف معلمين أكفاء ، وأساتذة هم قدوة في تطبيق مناهج التربية الاسلامية فيما كان يبدو عليه ( قده ) معالم تلك التربية الصالحة حتى اللحظات الأخيرة من حياته.

3

تتمثل شخصية الفقيد - ره - في ثلاث معالم.

1 - شخصيته الخلقية!

كان - رحمه اللّه - خلقيا - أو متخلفا ، وهو لا يقصر به عن الفضيلة في

ص: 13

شئ - بالمعني الذي تحبذه الشريعة ، وتهيب بالناس إليه حليما ، صبورا ، يدارى الناس ويحسن صحبتهم ، بعيدا عن الأنانية الظاهرة المنفرة ، متميزا بين أقرانه بالجدية والابتعاد عن الانشغالية بالأمور التي لا تهمه ولا تمس هدفه ، مثابرا على وظائفه وأعماله وقورا ، رزينا ، لم تحرجه معاكسات الحياة عن وقاره ورزانته ، محافظا على ظواهر الشريعة في سلوكه ، متفانيا في طلب العلم ، مع عزة النفس وعلو الهمة. متحرجا عما يراه ترفعا على الغير رغم ما كان يفرضه منطق المجتمع الذي كان يعيشه بحكم انتمائه إلى المرجعية ، متباعدا - كل البعد - عن معطيات الزعامة الدينية المتمثلة في عميد بيته وسيد الأسرة.

دع عنك حديث مواظبته التامة على التقيد بالاتيان بالفرائض اليومية في أوقاتها والاستغفار بالاسحار ( صلاة الليل ) ، وقراءة القرآن الكريم كل يوم ... هذا بعض من كل لمسته منه - رحمه اللّه - خلال صلتي به فترة تتجاوز الربع قرن : كزميل لا يدانيه في مجلس الدرس ، وشريك لا يجاريه في مجلس البحث وصديق لا يحاكي ما كان فيه من فضائل وفواضل.

2 - شخصيته العلمية!

الف - درس المقدمات : العلوم العربية والأدبية ، والمنطق ، على أساتذة الحوزة كما وحضر في الدراسة التمهيدية العليا ( أو دراسة السطح العالي في المصطلح الحوزوي ) على أساتذة ، بعضهم من أفاضل أسرته ، كالعلامة ، الحجة ، آية اللّه السيد محمد علي الحكيم والعلامة الحجة ، السيد محمد باقر الحكيم.

واختص في الدراسات العليا ( أو دراسة الخارج ) بآية اللّه العظمى السيد الروحاني ، دام ظله ، فقها ، وأصولا. وحضر قليلا - في الفقه - على آية اللّه العظمى ، السيد الخوئي ، دام ظله ، تقريبا منذ سنة 1975.

ب - قام بتدريس السطح العالي : الرسائل ، والمكاسب ، والكفاية سبع

ص: 14

دورات. كما وبدء بتدريس الخارج - فقها وأصولا - منذ : ( 1399 ه - 1979 م ) وحتى قبض عليه - رحمه اللّه - من قبل السلطة الظالمة. فبلغ في الأصول إلى مسألة حجية الخبر الواحد وأتم من الفقه كتابي الاجتهاد والتقليد والطهارة ، وكان موضوع بحثه الفقهي ، كتاب ( منهاج الصالحين ) لوالده آية اللّه العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم طاب ثراه ( 1306 ه - 1886. / 1390 ه - 1970 م ).

وكان - رحمه اللّه - إلى جانب ذلك كله يقوم بالقاء محاضرات توجيهية أسبوعية - في العقائد والاخلاق - على جملة من أفاضل طلبة الحوزة العلمية ، والشباب المثقف ، وكان دأبه تحرير كل ما يقوم بتدريسه أو القاء محاضرة بشأنه.

ج - آثاره ومؤلفاته :

1 - تقريرات بحث أستاذه ، آية اللّه العظمى الروحاني ، دام ظله ، فقها وأصولا. وبهذه المناسبة نؤكد على أملنا في التوفيق لنشر سائر كتبه - رحمه اللّه - تقريرا لمباحث الخيارات ، والصوم ، والزكاة ، والخمس ، والحج ، وغير ذلك ، إن شاء اللّه تعالى.

2 - محاضراته - رحمه اللّه - في ( أصول الفقه ) من أوله إلى مسألة حجية الخبر الواحد ، وكتاب الطهارة من الفقه.

3 - رسالة في طهارة الخمر ، كتبها بارشاد من سماحة والده ، المرحوم آية اللّه العظمى الطباطبائي الحكيم ( قده ).

4 - محاضراته التوجيهية في العقائد والاخلاق.

3 - شخصيته الاجتماعية!

كان - رحمه اللّه - بحكم ابتعاده عن مظاهر الحياة المادية ومتطلباتها ، إلا ما اقتضته الضرورة ومست به الحاجة إليه منها في استمرارية المعيشة. وبحكم

ص: 15

عزوفه عن أعراف الذي كان يعيشه ، حسبما تتطلبه موقعيته الاجتماعية - ولا أعني بذلك العزوف الشاذ ، بل عزوف الزهد والرغبة عنه - لا يهمه سوى طلب العلم والتزود منه بما أوتي من حول وطول ، فكان مغداه بهذا الامل وممساه على هذه النية. وحينما وجد لنفسه من ذلك الرصيد الكافي واللازم كان همه الانفاق بما اكتسبه وتزود منه على أهله ، وفي سبيل رضاه تعالى. وكأنه كان بعمله هذا يهدف إلى ما أرشدت إليه الحكمة المأثورة ، عن امام الأئمة ، أمير المؤمنين ، عليه الصلاة والسلام : ( المال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الانفاق ).

ولو شئنا أن نوجز حياة الفقيد طاب ثراه ، لحق أن يقال : إنه - رحمه اللّه - في ابتغائه العلم كان أحد المنهومين اللذين عنتهما الكلمة المأثورة عن أمير المؤمنين عليه السلام ( منهومان لا يشبعان : طالب علم ... ) ، وكان في حياته الاجتماعية ، مصداقا حيا لقوله عليه السلام : ( خالطوا الناس مخالطة ، إن متم معها بكوا عليكم وان عشتم حنوا إليكم ). طيب اللّه مثواه.

خاتمة المطاف :

لقد قضي - وللأسف - على حياة الفقيد - رحمه اللّه - التي كانت معقد الآمال في الحوزة العلمية ، بقيام الفئة الباغية المجرمة باعتقال الذكور من أسرة آية اللّه العظمى الحكيم طاب ثراه ، كهولا ، وشيوخا ، وشبانا ، وأطفالا منذ العاشرة من العمر ، ومن بينهم سيدنا الفقيد ، في ليلة الثلاثاء 26 رجب 1403.

وقتل مظلوما صابرا مع اثنين من اخوته وثلاثة من أبناء اخوته في ( 7 / شعبان / 1403 ه - 20 / 5 / 1983 ) ثم تلى ذلك وجبات أخرى من الاعدامات بحق أنجال ، وأحفاد .. آية اللّه العظمى الحكيم ، ولا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم. ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ

ص: 16

جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ * وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) صدق اللّه العلي العظيم.

هذا ، وان قضى الظالمون بعملهم الاجرامي على معقد آمال الأمة ، لكنهم لم يقضوا على آمالها وأمانيها ، ففي أنجال سيدنا الفقيد الشهيد ، طاب ثراه الأفاضل الاعلام : السيد علي ، والسيد جعفر ، والسيد أحمد ، كل أمل ورجاء. أمد اللّه تعالى في أعمارهم ، وجعلهم عند آمال الأمة وأمانيها والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين ، وجميع الشهداء والصديقين ، وعباد اللّه الصالحين ، ورحمة اللّه وبركاته.

محمد صادق الجعفري

22 / شهر رمضان المبارك / 1412 ه

* * *

ص: 17

ص: 18

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الميامين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

« رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ».

ص: 19

ص: 20

تمهيد

اشارة

اعتاد الأعلام أن يبتدءوا بالبحث عن بعض الأمور وما يتعلق بها ، كموضوع العلم وخصوص علم الأصول والمائز بين العلوم ونحوها. إلا أنها حيث كانت عديمة الفائدة رأينا أن الإغماض عن ذكرها والبحث عنها أولى. ورأينا أن تكون بداية الكلام في الوضع وما يتعلق به من أبحاث ، وقبل الشروع في ذلك لا بد من البحث في جهة واحدة من تلك الجهات المذكورة بدائيا ، وهي معرفة الضابط للمسألة الأصولية التي به تتميز عن غيرها. فان البحث فيها وان لم يكن بذي فائدة عملية وأثر تطبيقي ، إلا انه حيث جرت سيرة القوم على التعرض لها في كل مسألة بالبحث عن أصولية المسألة وعدمها ، كان البحث فيها هاهنا لازما للحاجة إليها فيما يأتي.

ضابط المسألة الأصولية :

اختلف الاعلام في تعيين الضابط للمسألة الأصولية ، وقد حكي عن المشهور ان المسائل الأصولية هي القواعد الممهدة لاستنباط

ص: 21

الأحكام الشرعية ، وقد كان هذا التعريف هو السائد إلى ان خالفه صاحب الكفاية ، فعرف المسائل الأصولية : بأنها ما يعرف بها القواعد التي تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل (1). والنقطة التي يفترق بها صاحب الكفاية في تعريفه عن تعريف المشهور - غير الاختلاف اللفظي والمفارقة في التعبير بين التعريفين - ، هي زيادته القيد الأخير في تعريفه ، وهو ( أو التي ينتهي إليها في مقام العمل ). وقد أشار قدس سره إلى الوجه الّذي حدي به إلى هذه الزيادة ، بان تعريف المشهور وتحديده لضابط المسألة الأصولية لا يتناول جميع المسائل المحررة في علم الأصول ، لخروج بعض المسائل عن علم الأصول بمقتضاه ولا وجه لذلك ، إذ لا موجب لخروجها عنه والتزام كون البحث فيها في الأصول بحثا استطراديا ، وهي بهذا القيد المضاف إلى تعريفهم تكون من مسائل الأصول. وتلك المسائل كما ذكرها قدس سره هي مسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية ، ومسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

وقد وجه خروج هذه المسائل عن الأصول بتعريف المشهور ، ودخولها فيه بتعريف صاحب الكفاية ، بأن الأصول العملية بين ما لا يكون مفادها حكما شرعيا ولا يتوصل بها إلى حكم شرعي كالأصول العقلية من براءة واشتغال ، فإن مفادها ليس إلاّ المعذرية أو المنجزية ، وظاهر أن ذلك لا يكون واسطة في الاستنباط ، وبين ما يكون نفس مفادها حكما شرعيا كالأصول الشرعية من أصالة الحل ونحوها والاستصحاب بناء على كونه يتكفل إثبات حكم مماثل - كما قد يظهر من بعض عبارات الكفاية في محله (2) - ، فإن أصالة الحل لا يستنبط بواسطتها حكم شرعي ، بل هي عينها حكم شرعي وهو الحلية.

ص: 22


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /9- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 414 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتوهم : ان أصالة الحل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، ويتوصل بواسطتها إليه باعتبار وقوعها في كبرى قياس استنتاج الحكم ، فيقال : هذا مشكوك الحلية وكل ما كان مشكوك الحلية فهو حلال ، فينتج بهاتين المقدمتين حلية المشكوك ويعرف بهما هذا الحكم ، ومثل هذا يكفي في كون القاعدة مما يستنبط بها حكم شرعي.

مندفع : بأن أصالة الحل وان كانت كبرى القياس المذكور ، إلاّ ان ذلك لا يعني كونها مما يستنبط بها الحكم الشرعي ، إذ النتيجة وهي حلية المشكوك المعين عين مفاد القاعدة ، فكان ذلك القياس قياسا لتطبيق الحكم الكلي على موارده الجزئية وصغرياته ومنه الصغرى. ولم يستنبط من القياس المذكور بواسطة القاعدة حكم آخر غير مفادها. فلا يصدق الاستنباط.

وأما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة - فلأنه - لا يتوصل بواسطة نتيجة هذه المسألة إلى حكم شرعي ، سواء أريد من الظن على الحكومة حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظنّي الملازم للإتيان بالمظنونات والمشكوكات ، أو أريد أن العقل يرى بمقدمات الانسداد حجية الظن حيث يقتصر في مقام الامتثال على المظنونات.

أما على الأول فواضح ، لأن حكم العقل بجواز الاقتصار على الامتثال الظّنّي وعدم لزوم الامتثال اليقيني لا يرتبط أصلا بعالم استنباط الأحكام ، بل هو انما يرتبط بعالم إفراغ الذّمّة والامتثال والتعذير عن الواقع لو كان في طرف الموهومات.

وأما على الثاني ، فلأن مرجع حجية الظن بنظر العقل إلى جعله منجزا بحيث يكون حجة على العبد ، فلا يستنبط منه أي حكم من الأحكام.

فاتضح ، ان هذه المسائل لا تندرج في علم الأصول بناء على تعريف المشهور لعدم وقوعها في طريق استنباط الأحكام ، ولكنها مما ينتهى إليها في مقام

ص: 23

العمل بعد اليأس عن الظفر بالدليل ، فتندرج في علم الأصول بناء على تعريف صاحب الكفاية بملاحظة ما أضافه من القيد إلى تعريف المشهور.

بهذا التوجيه وجّه المحقق الأصفهاني نظر صاحب الكفاية في ذكر هذا القيد (1) - ولكنه ذكره بنحو مجمل كان ما ذكرناه توضيحا له - ، ثم أفاد قدس سره بان الإشكال المذكور يسري إلى جل مسائل الأصول بما محصله : ان الأمارات غير العلمية سندا ودلالة يتطرق إليها هذا الإشكال ، وهو ان مرجع حجيتها اما إلى الحكم الشرعي بناء على كون مفاد دليل الاعتبار جعل الحكم المماثل للمؤدى ، أو غير منته إليه أبدا بناء على كون المجعول فيها هو المنجزية والمعذرية فهي على كلا التقديرين لا تقع في طريق استنباط الأحكام.

وتخلصا عن هذا الإشكال في جميع موارده ، وجه الاستنباط بمعنى يحصل بهذه المسائل ، وذلك بدعوى : أن حقيقة الاستنباط ليس إلاّ تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بلا توقف على إحراز الحكم. وظهر ان حجية الأمارات بأي معنى كانت لها الدخل في إقامة الحجة على حكم العمل ، وبذلك جعل الضابط للمسائل الأصولية هو القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي. وتابعة بذلك في تفسير الاستنباط السيد الخوئي - كما جاء في تقريرات درسه - (2).

ولا يخفى أن ما ذكره قدس سره وان كان بظاهره التزاما بوجهة نظر صاحب الكفاية التي أبان عنها اللثام ، إلاّ انه في الحقيقة إشكال عليه في اقتصاره في الإشكال على بعض الموارد ، مع كون الإشكال ساريا إلى جل المسائل.

فالتحقيق : انه يمكن ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى جهة تختص بهذه الموارد التي نبه إليها في كلامه ، ولا تسري إلى غيرها ، كما لا ترتفع تلك الجهة

ص: 24


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 11 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 9 - الطبعة الأولى.

بما وجه به معنى الاستنباط.

اما جهة الإشكال في الأصول ، فهي ما قرره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري : من ان مفاد دليل الأمارة هو جعل المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل دون مفاد دليل الأصل الشرعي. فانه ليس إلاّ جعل حكم ظاهري يصير به فعليا. واما الواقع ، فلا يكون فعليا لحكم العقل بارتفاع فعليته بفعلية الحكم الظاهري.

وعليه ، فإذا لم يكن الواقع مع الأصل فعليا لم يتصور قيام المنجز له أو المعذر عنه ، لأنها فرع فعليته ، فتحصيل الحجة على الواقع بواسطة الأصل لا أساس له.

ودعوى : ان نفي فعلية الواقع بقيام الأصل كاف في كون الأصل معذرا عن الواقع.

فاسدة : لأن نفي فعلية الواقع ليس مفادا للأصل ، بل يستفاد بحكم العقل باستحالة طلب الضدين. ولو كان مثل هذا كافيا في أصولية المسألة لكان كل حكم شرعي من المسائل الأصولية ، لأن ثبوته يستلزم نفي غيره بحكم العقل.

والسر في المطلب ، ان نفس الحكم لا يتكفل نفي حكم آخر ولو بواسطة الملازمة ، بل الدليل الدال عليه يتكفل بالملازمة نفي غيره ، فنفي الواقع بالدليل على الحكم لا بنفس حكم الأصل ، ونفس الدليل مسألة أصولية لأنه من الأمارات. وان كان نفس المفاد أعني الحكم مسألة فرعية.

وهكذا الكلام في مسألة الظن الانسدادي ، فان نتيجتها أجنبية عن المنجزية والمعذرية كأجنبيتها عن الانتهاء إلى الحكم الشرعي.

وذلك لأن الواقع يتنجز بالعلم الإجمالي المستلزم للإتيان بجميع

ص: 25

المحتملات حتى الموهوم منها ، وشأن هذه المقدمات هو بيان عدم الإلزام بالإتيان بالموهومات أو هي والمشكوكات - على الخلاف الّذي أشرنا إليه - ، واما لزوم الإتيان بخصوص المظنون فهو ليس مفاد هذه المقدمات ، بل هو أمر ينتج من ضم العلم الإجمالي ومنجزيته إلى حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بالموهومات والمشكوكات ، فليس نتيجة المسألة حجية الظن أصلا.

وبالجملة : فما عرفته من توجيه خروج المسألتين لا يسري إلى غيره من المسائل. إذ ليس الوجه هو كون نتيجة هذه المسائل أما حكما شرعيا أو المنجزية كي ينتقض بالأمارات ، بل الوجه انها لا ترتبط بالحكم الشرعي الواقعي بحال لا كشفا عنه ولا حجة عليه ، فلا يصح النقض بالأمارات والالتزام بوسعة الإشكال. كما لا يندفع بما وجه به معنى الاستنباط ، إذ ليس من هذه المسائل ما نتيجته حصول الحجة على الحكم الواقعي نفيا وإثباتا كما لا يخفى فلاحظ.

ثم أن المحقق الأصفهاني بعد ما بين ضابط المسألة الأصولية بما عرفته ، أورد على تعريف صاحب الكفاية بأنه يستلزم محذورين :

الأول : انه لا بد من فرض جامع بين الغرضين المذكورين أعني الاستنباط والمرجعية في مقام العمل ، إذ مع عدم الجامع يستلزم تعدد الغرض تعدد فن الأصول ، لأن التمايز بين العلوم - على رأي صاحب الكفاية - بالتمايز بين الأغراض ، والجامع مفقود لتباين الغرضين.

الثاني : ان الانتهاء في مقام العمل ، اما ان يكون مقيدا بأنه بعد اليأس عن الظفر بالدليل على الحكم ، أو لا يكون مقيدا بذلك ، بل يكون مطلقا. فإن قيد بذلك لم تدخل الأمارات فيه ، إذ الرجوع إليها ليس بعد اليأس وحجيتها لا تتوقف على ذلك ، فانه شرط في صحة الرجوع إلى الأصول العملية فقط. وان لم يقيد به وعرّى عنه لزم دخول جميع القواعد الفقهية العامة في التعريف لأنها

ص: 26

مما ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل والتطبيق (1).

ولكن الإنصاف انه لا يستلزم كلا من المحذورين.

اما المحذور الثاني : فحاصل المناقشة فيه انه يلتزم بإضافة القيد المذكور. وخروج الأمارات عن الذيل بذلك ليس بمحذور ، لأنه انما يكون محذورا لو فسر الاستنباط بإحراز الحكم الشرعي واستخراجه بحيث لا يشمل تحصيل الحجة عليه. إذ بذلك تخرج الأمارات عن صدر التعريف أيضا ، لأن المجعول فيها - كما عرفت - اما المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل ، وهي بكلا الوجهين لا تقع في طريق استنباط الأحكام - كما تقدم تقريبه - ، فيلزم من ذلك خروج مسائل الأمارات عن علم الأصول بالمرة.

اما لو التزم بان المراد بالاستنباط المعنى الأعم ، وهو تحصيل الحجة على الواقع ، فمسائل الأمارات تدخل في الأصول بصدر التعريف - كما أشرنا إليه سابقا - ، فخروجها عن الذيل لا محذور فيه ، إذ المحذور المتخيل هو خروجها بذلك عن علم الأصول ، وهو غير تام لشمول الصدر لها ، فتكون من مسائل علم الأصول.

وبالجملة : فالإشكال المذكور يبتني على جعل نظر المحقق الخراسانيّ إلى ما وجهت به عبارته أولا ، وقد عرفت عدم التسليم به والمناقشة فيه.

وأما المحذور الأول : فهو يرتفع بتصور غرض خارجي جامع بين الغرضين ، ويترتب على جميع مسائل علم الأصول. وذلك الغرض هو ارتفاع التردد والتحير الحاصل للمكلف من احتمال الحكم.

توضيح ذلك : ان المكلف إذا التفت إلى شيء بلحاظ حكمه ، فقد يحتمل وجوبه أو يحتمل حرمته ، ومن هذا الاحتمال ينشأ في نفسه التردد والعجز بالنسبة

ص: 27


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 12 - الطبعة الأولى.

إلى العمل فهل يفعل أو لا؟ أو هل يترك أو لا؟ والّذي يترتب على المسألة الأصولية سواء كانت واقعة في طريق الاستنباط أو لم تكن هو ارتفاع هذا التردد ، أما ما أوجب العلم منها كالملازمات العقلية فواضح لانكشاف الواقع بها وارتفاع التردد بذلك لارتفاع منشئه تكوينا.

واما الأمارات غير العلمية ، فلأن نتيجة حجيتها هو تنجيز الواقع بها أو التعذير عنه - اما لأجل أن المجعول فيها ذلك ، أو لأنه مما يترتب على المجعول فيها - وهي بذلك ترفع الحيرة والتردد في مقام العمل.

أما الأصول العملية ، فالعقلية منها يكون مفادها التعذير أو التنجيز وهي بذلك ترفع التحير ، لأن مفادها أن المكلف في أمان من الواقع أو في عهدة الواقع ، وهي بكلا المفادين ترفع التردد. واما الشرعية فبناء على انها تفيد حكما شرعيا تترتب عليه المنجزية والمعذرية ، أو ان التعبد بها يرجع إلى جعل المنجزية والمعذرية ، فكونها رافعة للتحير واضح. وأما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم نظرها إلى الواقع أصلا وان مفادها حكم ظاهري ، فلأن نفس جعل الحكم الظاهري كالحلية في مقام التردد والشك رافع للتردد ومعين للوظيفة العملية.

واما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة ، فلأن حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بغير المظنونات أو غير الامتثال الظني رافع للتحير في مقام العمل ، لأن حقيقته التعذير عن الواقع الثابت في مورد الوهم أو الشك.

فالمتحصل ان مسائل الأصول كلها تنتهي بنا إلى غاية واحدة وهي ارتفاع التردد الحاصل من احتمال الحكم الشرعي ، سواء كانت نتيجتها الاستنباط أو لم تكن كذلك وبذلك يرتفع المحذور المذكور.

نعم يبقى هاهنا سؤال وهو : انه لم عدل صاحب الكفاية إلى هذا التعريف المفصل وذكر كلا القيدين ، مع ان نظره لو كان إلى هذه الجهة المذكورة لكان

ص: 28

يكفي في تعريف علم الأصول ان يقول : « هو القواعد التي يرتفع بها التحير الحاصل للمكلف من احتمال الحكم الشرعي » ، إلاّ أن الأمر في ذلك سهل ، فانه لا يعدو كونه إشكالا لفظيا. ولعل نظره قدس سره إلى الإشارة إلى قصور تعريف المشهور وانه يحتاج إلى إضافة قيد ، لا إلى بطلانه كما قد يشعر به تبديله وتغييره.

والّذي يمكن استفادته مما تقدم إمكان بيان تعريف المسائل الأصولية وضابطها بنحو يكون جامعا للمسائل المدونة ومانعا عن دخول القواعد الفقهية العامة. تقريب ذلك : انه قد عرفت ان المكلف إذا احتمل ثبوت الحكم الشرعي واقعيا كان أو غيره يحصل في نفسه التردد والحيرة بالنسبة إلى وظيفته العملية تجاه هذا الحكم المحتمل.

فهاهنا مقامات ثلاث : أحدها : مقام الحيرة والتردد. والآخر : مقام الاحتمال الموجب للتردد. والثالث : مقام واقع الحكم المحتمل من ثبوت ونحوه.

وعليه ، فالقواعد الأصولية ما كانت رافعة بلا ان تكون بمفادها ناظرة إلى نفس الحكم المحتمل بتعيين أحد طرفيه. بل اما ان تكون بمفادها ناظرة إلى مقام التردد والتحير ، بجعل ما يرفعه بلا ارتباط بكيفية الواقع كمسائل الأصول العملية والأمارات ، بناء على جعل المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل ونحوها من المسائل كما تقدم تقريبه. أو تكون نتيجتها رفع أساس التردد وهو الاحتمال ، اما تكوينا كالملازمات العقلية ، لأنها تستوجب العلم بالحكم فيرتفع التردد بارتفاع منشئه ولا نظر لها إلى نفس المحتمل ، إذ لا تعين أحد طرفي الاحتمال ثبوتا ، بل تكون واسطة في الإثبات باستلزامها العلم لا واسطة في الثبوت الحقيقي للحكم. واما تعبدا كالأمارات ، بناء على جعل الطريقية وتتميم الكشف ، فانه بها يتحقق العلم تعبدا بالحكم بلا ان يكون النّظر إلى نفس الحكم وثبوته حقيقة في واقعه.

ص: 29

فالجامع بينهما هو ارتفاع التردد بها اما ابتداء أو بواسطة رفع منشأ التحير ، بلا ان يكون لها نظر إلى تعيين الحكم المحتمل بأحد طرفيه.

ومن هنا يظهر الفرق بين المسائل الأصولية والمسائل الفقهية فان الثانية ما يكون نظرها إلى المحتمل ، بمعنى ان مفادها نفس الحكم المحتمل ، وهي بذلك لا ترفع التردد ، إذ نفس الحكم لا يرفع التردد وانما دليله يرفعه وهو مسألة أصولية ، فمقام إحداهما يختلف عن مقام الأخرى ، فالفرق بينهما حقيقي وذاتي.

وبهذا التحقيق يندفع النقض بجملة من القواعد الفقهية العامة ، كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وقاعدة الطهارة ، وقاعدة لا ضرر ، وقاعدة نفي العسر والحرج ، ونحوها.

بدعوى : انه قد يستفاد من هذه القواعد حكم كلي ، كاستفادة عدم الضمان في الهبة الفاسدة من قاعدة « ما لا يضمن » ، فانه حيث يشك في ذلك يرجع إلى هذه القاعدة ويستفاد منها عدم الضمان باعتبار عدم الضمان في الهبة الصحيحة.

وكاستفادة طهارة المتولد من الكلب والشاة غير الملحق بأحدهما ، والمشكوك طهارته من قاعدة الطهارة.

وكاستفادة حرمة أو عدم وجوب الوضوء الضرري من قاعدة نفى الضرر.

وكاستفادة عدم وجوب الوضوء الحرجي من قاعدة نفي الحرج. فان المستفاد من هذه القواعد حكم كلي ، ومقتضى ذلك دخول هذه القواعد في الأصول لأنها مما يستنبط بها حكم كلي.

وجه الاندفاع : ما عرفت من عدم كون الملاك في أصولية القاعدة إيصالها إلى حكم كلي لا جزئي ، بل الملاك هو رفعها الحيرة مع كون نظرها إلى مقام غير الحكم المحتمل. فلا يتجه النقض بالتقريب المذكور.

ص: 30

وتحقيق الحال في هذه القواعد على المسلك الّذي قربناه :

أما قاعدة « ما لا يضمن » ونحوها ، فهي انما تنظر إلى نفس المحتمل وهو الضمان وعدمه ، ومدلولها نفس الحكم لا رفع الحيرة والتردد.

واما قاعدة نفي الضرر أو العسر ، فهي تارة تجري في الحكم الكلي الفرعي كنفي وجوب الوضوء الضرري أو الحرجي. وأخرى تجري في الحكم الأصولي كجريانها في نفي وجوب الفحص عن المعارض إذا كان مستلزما للضرر أو العسر ، المساوق لإثبات حجية الخبر الفعلية ، فان وجوب الفحص من المسائل الأصولية. وكجريانها في نفي وجوب الاحتياط عند انسداد باب العلم لاستلزامه الضرر أو الحرج.

وعليه ، فهي بلحاظ جريانها في الحكم الفرعي تكون من المسائل الفقهية ، وبلحاظ جريانها في الحكم الأصولي تكون من المسائل الأصولية. ولا مانع من ان تكون مسألة واحدة من مسائل علمين ، إذ كان فيها ملاكا العلمين - كما يقال في مسألة الاستصحاب من انها أصولية بلحاظ الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، وفقهية بلحاظه في الشبهات الموضوعية -.

وأما قاعدة الطهارة فالتخلص عن النقض بها - لثبوت الملاك المزبور فيها لكون المجعول فيها حكما ظاهريا في مقام التردد والشك بلا نظر إلى نفس الواقع المحتمل - بما أشار إليه صاحب الكفاية من أن المسألة الأصولية يعتبر فيها ان تكون سارية في جميع أبواب الفقه أو جلّها فلا يختص بإجرائها بباب دون آخر ولا كذلك أصالة الطهارة لاختصاصها بمشكوك الطهارة فلا تجري في أبواب المعاملات ولا أبواب الفقه الأخرى كما لا يخفى (1). أو انه يعتبر في أصولية المسألة أن تكون نظرية ومحور النزاع ومحل الكلام ، لا واضحة كل الوضوح

ص: 31


1- الخراسانيّ المحق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /337- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كقاعدة الطهارة إذ لا كلام في ثبوتها ولا نظر.

وبالجملة : فالمسألة الأصولية ما كان نظرها إلى رفع التردد في مقام العمل لا إلى الواقع المحتمل ، فما كان من المسائل ذلك كان من المسائل الأصولية بلا أي محذور في هذا الالتزام.

ويقع الكلام بعد هذا في جهتين يرتبطان بالتعريف والضابط المذكور :

الجهة الأولى : في تخصيص مسائل علم الأصول بما كان مجراها الشبهة الحكمية لا الموضوعية وانه بلا موجب ، بل الوجه هو التعميم ، وذلك لأن الظاهر كون الداعي لأخذه في تعريفات القوم هو التحرز عن دخول كثير من المسائل الفقهية في علم الأصول ، إذ لو لا أخذه وكون المسألة الأصولية مما يتوصل بها إلى حكم شرعي كليا كان أو جزئيا يلزم دخول أكثر موارد الفقه في الأصول للتوصل بالقواعد الفقهية إلى أحكام جزئية كوجوب الصلاة ونحوه. وبزيادة قيد التوصل إلى الحكم الكلي تخرج هذه المسائل.

ولا يخفى ان هذا المحذور لا يتأتى على ما ذكرناه من ضابط المسألة كما هو ظاهر جدا ، فلا موجب لأخذ الوصول إلى الحكم الكلي في ضابط المسألة الأصولية ، وعليه فيكون الاستصحاب في الشبهات الموضوعية من المسائل الأصولية بلا كلام ، لأن نظره إلى مقام الحيرة لا مقام المحتمل.

ومن هنا يظهر عدم الموجب لتقييد المسألة الأصولية ، بما كان المتوصل بها إلى الحكم هو المجتهد ، وما كان إجراؤها بيده دون المقلد ، إذ التطبيق في الشبهات الموضوعية بيد المقلد لا المجتهد ، ولا مانع منه لكون الملزم لأخذه في التعريفات غير متأت على ما ذكرناه فلاحظ.

الجهة الثانية : في دفع وهم.

أما الوهم فهو ، ان المراد من كون المسألة الأصولية ما يقع في طريق الاستنباط - كما هو تعريف القوم - ، أو ما يرتفع به التحير والتردد - كما هو

ص: 32

التعريف الّذي اخترناه - ، اما ان يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو ما يرتفع به التحير والتردد مطلقا ولو كان بالواسطة ، بمعنى ان يتخلل بينه وبين استنباط الحكم بعض المسائل الأخرى. أو يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو يرتفع به التردد في مقام العمل مباشرة وبلا واسطة ، بحيث يترتب عليها الحكم الشرعي رأسا. وكل من التقديرين يستلزم محذورا.

اما التقدير الأول : فلأنه يستلزم دخول كثير من القواعد الفلسفية واللغوية والمنطقية وغيرها في مسائل الأصول ، لوقوعها في طريق تنقيح بعض القواعد الأصولية ، فيترتب عليها الاستنباط ويرتفع بها التحير بالواسطة.

واما التقدير الثاني : فلأنه يستلزم خروج كثير من المسائل المحررة في كتب الأصول عن علم الأصول. كمسألة الصحيح والأعم ، ومسألة المشتق ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، ومسألة ان الأمر ظاهر في الوجوب أو لا ، ومسألة العام والخاصّ في بعض الحالات ، ومسائل المفاهيم.

توضيح ذلك : ان المبحوث عنه في مسألة الصحيح والأعم ، وهو ثبوت وضع اللفظ الشرعي إلى المعاني الشرعية وعدمه ، لا يترتب عليه مباشرة الحكم الشرعي ، إذ لا يعدو هذا البحث البحث عن أمر لغوي. وانما تترتب عليه مسألة أصولية ، وهي جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم وعدم جوازه على القول بالصحيح. بتقريب : ان أساس التمسك بالإطلاق - قبل ملاحظة تمامية مقدمات الحكمة - هو إحراز صدق عنوان المطلق على الفرد الفاقد للخصوصية المشكوك من جهة أخذها في متعلق الحكم ، فمع القول بالصحيح يكون اللفظ مشكوك الصدق على الفاقد للخصوصية المشكوكة ، باعتبار ان كل ما له دخل في متعلق الحكم له دخل في صدق اللفظ. بخلاف القول بالأعم ، لأن يصدق المطلق على الفاقد لا يتوقف على إحراز عدم دخل الخصوصية في المتعلق ، لأنه يصدق على الأعم من واجد الاجزاء والشرائط بتمامها والفاقد لبعضها فليكن هذا منها ،

ص: 33

فان عدمه لا يخل بصدقة.

وعليه ، فالبحث في مسألة الصحيح والأعم ينتهي بنا إلى إثبات أساس الإطلاق ونفيه ، وهذا لا يترتب عليه حكم شرعي ، بل يترتب عليه ما عرفت من المسألة الأصولية ، وهي جواز التمسك بالإطلاق مع الشك بأخذ خصوصية في متعلق الحكم وعدم جوازه ، لأنه تنقيح لموضوعها.

واما مسألة المشتق ، فلان البحث فيها بحث لغوي عن تحقيق الموضوع له اللفظ المشتق ، وظاهر ان الحكم الشرعي لا يترتب عليه مباشرة ، بل بضميمة مقدمات أخرى بلا إشكال.

واما مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلان ما ينتهي إليه بتنقيح أحد طرفيها جوازا أو منعا هو تحقيق موضوع لمسألة أصولية لا معرفة حكم شرعي أو رفع تردد فيه ، وذلك لأنه ان قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بالالتزام بعدم كفاية تعدد العنوان في تصحيحه كان المقام من موارد التعارض ، لتعارض دليلي الحرمة والوجوب. وان قيل بجوازه في نفسه لكنه باعتبار عدم القدرة على امتثال كلا الحكمين لا بد من ارتفاع أحدهما كان المورد من موارد التزاحم ، ومسألة التزاحم كمسألة التعارض من المسائل الأصولية.

أمّا المسائل اللفظية الأخرى ، كمسألة ظهور الأمر في الوجوب ، أو ظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في انتفاء الحكم بانتفاء الشرط أو الوصف ، أو ظهور العام في الباقي بعد التخصيص فيكون حجة فيه ، أو ظهوره في العموم الاستغراقي أو المجموعي ، وغيرها من المسائل المشاكلة لها ، فإيصالها إلى الحكم أو ارتفاع التردد بها انما يكون بضميمة كبرى أصولية وهي حجية الظاهر ، إذ بدونها لا يتوصل إلى المطلوب ، فان ظهور الأمر في الوجوب لا يستفاد منه في نفسه الحكم بل لا بد ان يضم إليه ان الظاهر حجة فيثبت الوجوب ويرتفع التردد ، وهكذا غيرها ، فإن مجرد ثبوت الظهور لا يجدي في إثبات الحكم ، بل

ص: 34

يتوقف على ضم كبرى أصولية وهي كون الظاهر حجة ، فيكون ذلك الظاهر حجة في مدلوله. فظهر بهذا البيان : أن اعتبار رفع التردد بالمسألة الأصولية أو استنباط الحكم مباشرة وبلا واسطة يستلزم خروج هذه المسائل ، وهو مما لا يلتزم به أحد ، كما ان إلغاء هذا الشرط يستلزم دخول غير المسائل الأصولية في الأصول ، وهو أيضا مما يفر عنه الاعلام.

واما الدفع فهو ، بالالتزام باعتبار هذا الشرط ، أعني : ترتب الأثر المزعوم عليها مباشرة بلا واسطة.

وخروج مسألتي الصحيح والأعم والمشتق لا محذور فيه ، بل ذلك هو الظاهر من اعتياد ذكرها في مقدمة الأصول ، وأما الوجه في أصل التعرض إليها مع عدم التعرض إلى نظائرها فهو لأجل عدم استيفاء البحث في تحقيقها في محلها أو لعدم التعرض لها في غير محل.

وأما استلزامه لخروج المسائل اللفظية المذكورة ، ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، فهو ممنوع. اما المسائل اللفظية ، فلأن ترتب الحكم عليها وإن كان بواسطة الكبرى المزبورة ، إلاّ انها حيث كانت من الجلاء والتسليم بحد يرى ان الحكم يترتب بمجرد تنقيح موضوعها وهو أصل الظهور لم تخل وساطتها الارتكازية في أصولية هذه المسائل ، إذ الواسطة المعتبر عدمها في أصولية المسألة الواسطة النظرية التي تلحظ في ترتب الحكم على الصغرى بضمها إليها لا الارتكازية التي لا تلحظ في ترتيب الحكم على الصغرى ، بل يرى ان الحكم مترتب بمجرد تمامية الصغرى.

وأما مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلان المذاهب فيها ثلاثة :

الأول : الجواز مطلقا.

الثاني : الامتناع من جهة اجتماع الضدين ، بدعوى عدم كفاية تعدد العنوان في جواز تعلق الأمر والنهي.

ص: 35

والثالث : الامتناع من جهة التزاحم ، لعدم القدرة على امتثال كلا التكليفين لا في نفسه ، بدعوى : كفاية تعدد العنوان لتصحيح تعلق الأمر والنهي بذي العنوانين. وهي على القولين الأخيرين وان لم تنته إلى رفع التردد في مقام العمل ، بل تحقق موضوع المسألتين ، لكنها بالقول الأول مما يترتب عليها هذا الأثر لإثباتها صحة العمل الرافع للتردد. ويكفي هذا في أصولية المسألة ، إذ لا يعتبر انها تكون مما يترتب عليها الأثر الأصولي بجميع محتملاتها ، بل يكفي فيها ان يترتب عليها الأثر الأصولي ولو بلحاظ بعض محتملاتها.

ومن هنا يظهر عدم الموجب للالتزام بخروجها من مسائل الأصول وكونها من المبادي التصديقية للمسألة الأصولية - كما عليه المحقق النائيني (1) - ، فانه إغماض عن وجود المذهب الأول في المسألة الموجب لكونها من الأصول. فتدبر.

إلى هنا يتحصل لدينا ان المسألة الأصولية هي المسألة النظرية التي يتوصل بها إلى رفع التحير في مقام العمل بلا واسطة نظرية ، سواء كان جريانها في الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية.

ومنه يتضح الفرق بينه وبين الضابط المذكور في الكفاية (2) ، فانه يخصص المسألة الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية ، كما هو مقتضى قيد كون الانتهاء في مقام العمل بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، إذ جريان الأصول في الشبهات الموضوعية لا يشترط فيه الفحص واليأس عن الدليل ، فمقتضى القيد إخراج الأصول والأمارات في الشبهات الموضوعية عن مسائل علم الأصول. وهذه هي الجهة الفارقة بين ما ذكرناه من الضابط وما ذكره

ص: 36


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 333 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /9- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

صاحب الكفاية ، وإلاّ فقد عرفت ان نظر صاحب الكفاية في ما ذكره من المائز يمكن ان يكون إلى ما ذكرناه ، من كون الغاية من المسألة الأصولية هو رفع التردد في مقام العمل.

كما ان ما ذكرناه من الضابط أجمع لمسائل الأصول مما أفاده المحقق الأصفهاني قدس سره في بيان الضابط ، من انه هو القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي (1). إذ قد عرفت انه لا يشمل مسألة أصل الإباحة بناء على كون المجعول فيها الحلية الظاهرية بلا نظر إلى الواقع لا المعذرية ولا الحكم المماثل لعدم تحصيل الحجة على الواقع بها ، ومسألة الظن الانسدادي على الحكومة بالمعنى الّذي عرفته للحكومة ، لأنها لا تنتهي بنا إلى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي كما تقدم تقريبه وقد عرفت دخولها في مسائل علم الأصول على الضابط الّذي ذكرناه لارتفاع التحير بها في مقام العمل.

وقد جعل المحقق النائيني قدس سره ضابط المسألة الأصولية ، ما يقع كبرى في قياس الاستنباط للحكم ، وأضاف إلى ذلك قيدين :

الأول : أن تكون النتيجة حكما كليا.

الثاني : أن لا تصلح هذه المسألة لإلقائها إلى العامي (2).

والسر في إضافة هذين القيدين ، هو أنه مع الاقتصار في الضابط على ما يقع كبرى استنباط الحكم أعم من ان يكون كليا أو جزئيا يلزم دخول أكثر المسائل الفقهية ، كوجوب الصلاة ونحوها ، فانه يستنتج منها أحكاما جزئية في الموارد الجزئية الخاصة ، ولكنها بقيد كون المستنبط حكما كليا لا تندرج في الضابط ، وبذلك تكون أجنبية عن علم الأصول.

ص: 37


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 12 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 3 - الطبعة الأولى.

إلاّ انه لما كان هذا القيد بخصوصه لا يجدي في خروج جميع مسائل الفقه عن علم الأصول ، لوجود بعض المسائل الفقهية التي تكون نتيجتها حكما كليا ، كقاعدة « نفي الضمان بالعقد الفاسد الّذي لا ضمان بصحيحه » وشبهها كما عرفت تقريبه ، احتاج في إخراج مثل هذه المسائل إلى إضافة القيد الآخر - أعني : ما لا يصلح إلقاؤها إلى العامي - ، إذ المسائل الفقهية صالحة لإلقائها إلى العامي بحيث يتولى بنفسه التطبيق دون المسائل الأصولية ، إذ معرفة العامي حجية الخبر أو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته لا تفيده شيئا ، فلا تصلح لإلقائها إليه ، بخلاف معرفته لنفي الضمان في الفاسد الّذي لا ضمان بصحيحه.

ولكنه يشكل بوجود بعض المسائل الفقهية لا تصلح لإلقائها إلى العامي ، وهي بهذا الضابط لا بد ان تكون من المسائل الأصولية.

وذلك كمسألة بطلان الشرط المخالف للكتاب والسنة ، فان العامي بمعرفة هذه المسألة لا يستطيع ان يتوصل بها في الموارد الجزئية أو الكلية التي تنطبق عليها ولو بعد بيان المراد بالمخالفة وانها المخالفة للنص أو الظاهر.

وكمسألة التسامح في أدلة السنن ، فان لها عنوانين بأحدهما تدخل في علم الأصول ، وبالآخر تندرج في مسائل الفقه.

اما العنوان الّذي به تدخل في علم الأصول ، فهو عنوان التسامح في أدلة السنن ، لأن مرجع هذا البحث إلى البحث عن دلالة اخبار « من بلغه ... » على كون موضوع الحجية في اخبار السنن أوسع من غيرها ، فيشمل الضعيف وغيره. وعدم دلالتها ، فيكون موضوع الحجية فيها كغيرها فيقتصر فيه على الصحيح والموثق. ومن الظاهر ان البحث عن حجية الخبر الضعيف ونحوه في مقام وعدم حجيته أصولي لارتباطه بمقام الحيرة والتردد.

اما العنوان الّذي به تدخل في علم الفقه ، فهو عنوان استحباب العمل

ص: 38

الّذي قام على استحبابه أو وجوبه خبر لا يعتمد عليه عملا ، إذ مرجع البحث إلى ان هذه الاخبار تدل على استحباب هذا العمل أو لا تدل ، ومثل هذا البحث بحث من فقهي ، لأنه يدور حول الحكم الشرعي ونتيجته ذلك - أعني : الحكم الشرعي - إثباتا أو نفيا.

ولا يخفى ان المسألة لو كانت بالنحو الثاني المبحوث عنه في الفقه ، لا تكون مما يصلح إلقاؤه إلى العامي ، إذ لا يستطيع العامي ان يستفيد بذلك شيئا كيف؟ وهو يتوقف على معرفة الخبر الضعيف من غيره المتوقف ذلك على الاطلاع في أحوال رجال الحديث وشئونهم.

وإذا عرفت ما في تعريفات المحققين من قصور ، وانها ما بين غير جامع لمسائل الأصول ، وغير مانع عن غيرها من مسائل الفقه ، يتضح لك ان الأوجه تعريفه بما ذكرناه وتحديد الضابط بما قررناه. فقد عرفت جمعه ومنعه ، فليكن على ذكر منك والتفات.

* * *

ص: 39

ص: 40

الوضع

اشارة

ص: 41

ص: 42

الوضع

والكلام فيه يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في حقيقة الوضع. وقد اختلف فيها المحققون ، فقيل : انه أمر واقعي تكويني (1). وقيل : انه أمر وسط بين التكويني. والجعلي وبرزخ بينهما (2). وقيل : انه أمر جعلي ويتفرع أقوال أربعة :

الأول : انه عبارة عن جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى واعتباره بينهما (3).

الثاني : انه عبارة عن جعل اللفظ على المعنى (4).

الثالث : انه عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى.

الرابع : انه عبارة عن التعهد ، والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى الخاصّ (5).

فالأقوال على هذا ستة.

ص: 43


1- وهو مذهب عباد بن سليمان الصميري وأصحاب التكسير على ما في قوانين الأصول 1 / 194 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 10 - الطبعة الأولى.
3- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 29 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 14 - الطبعة الأولى.
5- وهو لملاّ علي النهاوندي في كتابه تشريح الأصول كما في محاضرات في أصول الفقه 1 / 48.

والّذي يمكن ثبوتا من هذه الأنحاء المتعددة هو القول الأخير والثالث ، أعني : « كونه عبارة عن اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى ، وكونه عبارة عن التعهد والالتزام » ومقام الإثبات دائر بينهما.

أما الأنحاء الأخرى فلا يتصور لها معنى معقول يمكن فرضه إثباتا.

ولا بد في وضوح ذلك من معرفة حقيقة كل نحو والمراد منه وبيان جهة المناقشة فيه.

أما القول الأول : أعني القول بأنه أمر حقيقي تكويني واقعي ، فلا بد في معرفة أنحائه والمناقشة فيها ، من بيان المراد من الأمر الحقيقي والأمر الجعلي ، فنقول : المراد بالحقيقي التكويني ، ما كان له نحو ثبوت في نفس الأمر والواقع بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض ، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل ويقابله الأمر الجعلي ، فان ثبوته يتقوم بجعل الجاعل من دون ان يكون له تقرر في نفس الأمر.

ويترتب على هذا ان اختلاف الأنظار في ثبوت الأمر الحقيقي لا يوجب تغيرا في ثبوته ولا يستلزم التبدل فيه ، بل هو على ما هو عليه من التقرر والثبوت ، والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كل من المختلفين للآخر في نظره وعلمه بثبوته أو عدم ثبوته ، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه ، بل يكون كما كان بلا تغير ولا تبدل ، بخلاف اختلافه في الأمر الجعلي ، فانه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره ، فيوجب تبديلا فيه ويكون ثابتا بالنسبة إلى بعض وغير ثابت بالنسبة إلى آخرين ولا يرجع إلى التخطئة في النّظر ، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر. نظير ما لو اعتبر قوم شخصا رئيسا لهم ولم يعتبره آخرون واعتبروا غيره رئيسا ، فان اختلاف النّظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة كل الآخر في دعواه ، إذ لا واقع للرئيس غير الاعتبار ، وانما يرجع إلى الاختلاف في الاعتبار والجعل وذلك يستلزم ان يكون الرئيس لكل غيره للآخر لعدم

ص: 44

اعتباره رئيسا عليهم.

فاللازم الظاهر الّذي يختلف فيه الأمر الحقيقي التكويني مع الأمر الجعلي الاعتباري ، هو ان اختلاف النّظر في الأمر الحقيقي لا يوجب تغيرا فيه ، بل هو على واقعه واختلافه في الأمر الجعلي يوجب تبدله وتغيره.

وبعبارة جامعة : ان الأمور الاعتبارية تختلف باختلاف الأنظار دون الأمور الواقعية الحقيقية ، فانها لا تختلف باختلاف الأنظار ، وان اختلفت فيها الأنظار.

ثم ان الأمور الحقيقية على نحوين :

الأول : ما يكون لها وجود في الخارج ، ويعبر عنه بما يكون الخارج ظرفا لوجوده ، وهي المقولات العشر الجوهر والاعراض التسعة.

الثاني : ما لا وجود له منحازا ولا ما بإزاء ، ويعبر عنه بما يكون الخارج ظرفا لنفسه كالملازمات العقلية ، فان الملازمة بين شيئين من الأمور الحقيقية التي لها تقرر في نفس الأمر ولا ترتبط بجعل جاعل ، إلاّ انه لا وجود لها في الخارج ينحاز عن وجود المتلازمين.

إذا عرفت هذا فنقول : ان المراد من كون الوضع والارتباط الخاصّ بين اللفظ والمعنى من الأمور الحقيقية.

إن كان انه من النحو الأول الّذي له وجود في الخارج ، فهو ممتنع. إذ قد عرفت ان ما يكون بهذا النحو لا يخرج عن المقولات العشر وليس الارتباط من أحدها ، أما عدم كونه من الجواهر فبديهي ، إذ لا وجود لشيء بين اللفظ والمعنى من قبيل الجسم ونحوه من الجواهر كي يعبر عنه بالارتباط.

وأما عدم كونه من المقولات العرضية ، فلأن وجود المقولات يتقوم بالموجودات ، بمعنى انه لا وجود لها الا في ضمن الموجود ، والمفروض ان الارتباط المدعى كونه من الأمور الحقيقية انما هو بين طبيعي اللفظ والمعنى ، لا بين اللفظ

ص: 45

الموجود والمعنى ، لأن استعمال اللفظ متأخر عن الوضع وثبوت الارتباط بينه وبين المعنى ، ووجود اللفظ انما يكون بالاستعمال ، فالارتباط المدعى حاصل قبل وجود اللفظ ، لأنه ثابت قبل الاستعمال ولو لم يحصل الاستعمال بعد ، وهذا يعني انه ليس من نسخ الاعراض ، وإلا لكان ثبوته متوقفا على وجود اللفظ - وإلى هذا الإشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1) -.

وان كان انه من النحو الثاني الّذي لا وجود له ، بل ليس له إلاّ التقرر في نفس الأمر والواقع ، فان ادعى انه من الأمور الواقعية التي لا دخل لجعل للجاعل في ثبوتها أصلا ، كالملازمات لثبوتها في نفسها ، سواء اعتبرها المعتبر أو لم يعتبرها ، وبذلك تكون من الموجودات الأزلية. إذا ادعى ذلك فهو واضح البطلان ، لوضوح وقوع النقل في الألفاظ الموضوعة لبعض المعاني الموجب لتحديد العلقة الوضعيّة والارتباط الخاصّ بين اللفظ والمعنى وتبديل أحد طرفيه وهو المعنى ، وهذا ينافي واقعية الارتباط وذاتيته بنحو لا تمسه يد الجاعل ولا تصل إليه. ألا ترى ان الملازمة بين وجود الزوجية ووجود الأربع خارجا من الأمور التي لا تتغير ولا تتبدل ، بل هي متقررة ولو لم يعتبرها معتبر ، وهكذا الملازمة بين تعدد الآلهة ووجود الفساد ، فانها ثابتة من دون أن تتغير بالاعتبار ، بل من دون ان يكون للاعتبار دخل في ثبوتها؟ وان ادعى انها من الأمور الواقعية المنتهية إلى الجاعل ، بمعنى ان ثبوتها الحقيقي كان بسبب الجعل لا بحسب ذاتها ، فهو معنى معقول ولا يرد عليه النقض السابق ، لفرض كون ثبوته الواقعي بالجعل ، فمع إلغائه وجعل نحو آخر من الارتباط تتبدل العلقة لا محالة. إلاّ ان هذه الدعوى لا شاهد عليها ولا برهان ، فالقائل بها مجازف.

وقد نسبت هذه الدعوى - في تقريرات بحث السيد الخوئي (2) - إلى

ص: 46


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 12 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 41 - الطبعة الأولى.

المحقق العراقي قدس سره وأورد عليه بما ستعرفه.

إلاّ أن الإنصاف يقضي بان نظر المحقق العراقي يمكن ان يكون إلى جهة أخرى ، وهي أن الوضع أمر اعتباري إلاّ انه يختلف عن الأمور الاعتبارية الأخرى ، بان ما يتعلق به الاعتبار يتحقق له واقع ويتقرر له ثبوت واقعي كسائر الأمور الواقعية. فهو يختلف عن الأمور الواقعية ، من جهة انه عبارة عن جعل العلقة واعتبارها. ويختلف عن الأمور الاعتبارية ، بان ما يتعلق به الاعتبار لا ينحصر وجوده بعالم الاعتبار ، بل يثبت له واقع في الخارج.

توضيح ذلك : ان الملازمة بين الماهيتين والطبيعتين كالملازمة بين طبيعتي النار والحرارة ، كما يكون بلحاظ اشتمال كل من الماهيتين في وجودها الخارجي على خصوصية توجب عدم انفكاك وجود إحداهما خارجا عن وجود الأخرى بين النار والحرارة في الوجود الخارجي ، كذلك تحصل بالملازمة بين الوجود الذهني لإحداهما ووجوده للأخرى وعدم الانفكاك بينهما في عالم الذهن ، كما إذا كان تصور إحداهما لا ينفك عن تصور الأخرى كما يقال في العمى والبصر فان تصور العمى لا ينفك عن تصور البصر.

فكما ينتزع عن عدم الانفكاك بين الوجودين الخارجيين والملازمة بينهما الملازمة بين نفس الماهيتين الموجودتين ، كذلك ينتزع ذلك عن عدم الانفكاك بين الوجودين الذهنيين. وهذه الملازمة لها تقرر في نفس الأمر وثبوت واقعي لا تصل إليه يد التغيير والتبديل.

وعليه ، فالمدعى ان الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة والعلقة بين اللفظ والمعنى - كما هو شأن كل جعل ، فانه يتعلق بالمفاهيم - ، وقد نشأ من اعتبار هذه الملازمة ملازمة حقيقية واقعية بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى ، بلحاظ ان ذلك الاعتبار أوجب عدم انفكاك العلم بالمعنى وتصوره عن العلم باللفظ وتصوره ، وتلازم الانتقال إلى المعنى مع الانتقال إلى اللفظ وهذا ، يعني حدوث ملازمة واقعية

ص: 47

بين اللفظ والمعنى.

ولم تبق الملازمة رهينة وحبيسة في عالم الاعتبار ، إذ نشأ منها واقع له ثبوت حقيقي. فاختلف الوضع بهذا عن غيره من الأمور الاعتبارية ، إذ المعتبر فيها لا يخرج عن عالم الاعتبار والجعل.

ثم ان هذا قد يكون مورد التساؤل ، فانه لو كان الناشئ من اعتبار الملازمة ملازمة حقيقية ذاتية مرجعها إلى عدم انفكاك تصور اللفظ عن تصور المعنى ، لزم ان لا يختص في فهم معاني الألفاظ أهل اللغة الموضوع فيها تلك الألفاظ ومن يعلم الوضع ، إذ الاختصاص خلف فرض الملازمة ، ولا إشكال في وقوعه ، بداهة عدم علم كل إنسان بلغات العالم بأجمعها.

لذلك نبّه عليه في كلامه ، والتزم بتخصيص المجعول وتقييده بمورد العلم بالجعل ، بمعنى : ان الجاعل يجعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في صورة العلم بهذا الجعل ، بنحو يكون العلم قيد المجعول لا قيد الجعل ، كي يقال : بان أخذ العلم بالشيء في موضوع نفسه محال. وذلك - أعني أخذ العلم بالجعل قيدا للمجعول - أمر ممكن لا محذور فيه ، كما يقرر في بحث التعبدي والتوصلي.

وعليه ، فاختصاص تحقق الملازمة المزبورة بمن يعلم بالوضع والجعل ، انما هو لتقييد المجعول به وقد عرفت انه منشأ الملازمة الواقعية ، فتقييده يستلزم تقييدها.

فدعوى المحقق العراقي تتلخص في ضمن أمور :

الأول : أن الوضع عبارة عن امر اعتباري ، وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى.

الثاني : انه ينشأ من هذه الملازمة الاعتبارية ملازمة حقيقية ، وبذلك يختلف الوضع عن غيره من الاعتباريات.

الثالث : ان المجعول مقيد بصورة العلم بالجعل.

ص: 48

وظاهر ان هذه الدعوى لا محذور فيها ثبوتا ولا إثباتا ، فتتعين لو كان غيرها ممتنعا ، وسيتضح الحال شيئا فشيئا فانتظر.

ومن هذا البيان يظهر الإشكال في كلام السيد الخوئي من جهات :

الأولى : نسبته القول بان الوضع أمر واقعي حصل بالجعل إلى المحقق العراقي ، مع انه غير ظاهر من كلامه ، بل الظاهر خلافه ، وحدوث الملازمة الواقعية لا يستلزم واقعية الوضع ، إذ المجعول رأسا ليس هو هذه الملازمة ، بل مفهومها.

الثانية : الترديد في الإيراد عليه ، بين ان يكون اختياره حدوث الملازمة مطلقا بلا تقييد بالعلم بالجعل ، وان يكون اختياره حدوثها في صورة العلم إذ لا وجه لهذا الترديد بعد ان عرفت ان المحقق المزبور قد تنبه للإشكال وقيد حدوث الملازمة بصورة العلم ، فلا إجمال في كلامه من هذه الجهة كي يكون مجال الترديد.

الثالثة : الإشكال عليه بعد فرض اختياره الشق الثاني من شقي الترديد أعني اختصاص حدوث الملازمة بصورة العلم بالوضع ، بان الأمر وان كان كذلك إلاّ انها ليست بحقيقة الوضع ، بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة ، ومحل كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي ترتبت عليها الملازمة.

فان هذا الإشكال مندفع بما عرفت ، من عدم ادعاء المحقق المزبور كون هذه الملازمة هي حقيقة الوضع ، بل ما ذكره - كما أوضحناه - ظاهر في انها نتيجة الوضع وأثره فلاحظ وتدبر.

واما القول الثاني : - أعني : القول بان الوضع برزخ بين الواقعي والجعلي - ، فهو الّذي ذهب إليه المحقق النائيني كما في تقريرات بحثه (1).

وتقريب ما ذكره : انه لما لم يكن واضع الألفاظ لهذه المعاني من البشر

ص: 49


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 10 - الطبعة الأولى.

لجهتين : إحداهما : - وهي ترتبط بمقام الثبوت - هو ان الألفاظ المتداولة الموضوعة لمعانيها بحد من الكثرة يمتنع عادة ان يوجد من البشر من يستطيع لحاظها جميعا بمعانيها ووضعها لها ، مع ان الوضع يتوقف على لحاظ كل من اللفظ والمعنى. والأخرى : - وهي ترتبط بمقام الإثبات - هي ان عملية الوضع المذكورة لو سلم إمكانها من الأمور المهمة ، والحوادث الجليلة التي تستدعي انتباه الناس وتداول ذكرها من ألسنتهم ومعرفة من قام بها ، فلو كان لها أثر في الخارج لسجلت في أمهات الكتب كما تسجل الحوادث التي هي أقل منها شأنا ولتناقلتها الألسن في مختلف الدهور ، مع ان الأمر ليس كذلك ، إذ لم يجئ في خبر ان شخصا قام بهذا العمل الجبار ، وهو يكشف عن عدم وقوعه من أحد.

وعليه ، فينحصر ان يكون الواضع هو اللّه جل وعلا ، ويكون الوضع من مجعولاته واعتباراته جلّ شأنه. إلا انه جرت العادة ان يكون إيصال المجعولات الشرعية إلى البشر بواسطة الرسل والأنبياء ، وحيث انه لم يثبت ان رسولا ما أخبر عن اللّه تعالى بوضع لفظ خاص لمعنى خاص كان إدراك هذه الحقيقة الثابتة بالإلهام لا بالتبليغ ، فالوضع ليس بالأمر التكويني الواقعي ، لأنه من اعتبارات اللّه عزّ وجل ومجعولاته وليس مما يحتاج إلى جعل ، كما انه ليس كسائر الأمور الاعتبارية ، لأن إيصالها بواسطة الرسل ، مع انه إيصاله بالإلهام ، فهو بهذا اللحاظ برزخ بين الأمر الحقيقي والجعلي.

وظاهر ان الإيراد على الوسطية المزبورة ، بأنه لا يتصور وجود أمر وسط بين الواقعي والجعلي ، لأن الأمر إما ان يكون له ثبوت وتقرر في نفس الأمر والواقع ، بحيث لا تصل إليه يد الجعل ولا يختلف باختلاف الأنظار ، فهو واقعي ، أولا يكون كذلك ، بل كان أمرا دائرا مدار الجعل ويختلف باختلاف الأنظار ، فهو اعتباري جعلي ولا وسط بينهما ، إذ لا ثالث بين النفي والإثبات.

غير وجيه : فان المحقق المزبور لم يدع ان حقيقة الوضع حقيقة ثالثة

ص: 50

ليست بواقعية ولا جعلية وان الوضع وسط بين الواقعي والجعلي في حقيقته ، إذ التزم بأنه امر اعتباري بيد الشارع. وانما الدعوى كونه وسطا بلحاظ عدم ترتب الآثار العادية المترتبة على الاعتباريات الشرعية عليه فهو وسط من حيث اللوازم والآثار لا من حيث الحقيقة كما توهم.

إلاّ ان الّذي يرد عليه قدس سره في جهات كلامه الأخرى ظاهر ، وبيانه :

أما ما ذكره من المانع الثبوتي لكون الواضع من البشر ، فلأنه انما يتم لو التزم بان وضع الألفاظ لا بد وان يكون دفعة واحدة ، وهو غير مسلم إذ الوضع إنما يحتاج إليه لحصول التفهيم والتفاهم بين الافراد في أمورهم الاجتماعية ، والحاجة إلى الألفاظ الموضوعة تختلف سعة وضيقا باختلاف المحيط والمجتمع كما انها تزداد بمرور الزمن وكثرة الموارد المألوفة المتداولة في ما بين الافراد.

وعليه ، فوضع هذه الألفاظ للمعاني لم يكن بنحو دفعي ، بل بنحو تدريجي حسب ما يتطلبه كل زمن من سعة ما يتفاهم به ، كما انه لم يكن شخصيا ، بل كان عاما. فوضع أولا قسم من الألفاظ لقسم من المعاني ، ثم حصلت الحاجة لوقوع التفاهم ببعض المعاني الأخرى فوضع لها بعض الألفاظ وهكذا كما ان هذا المجتمع يضع هذه الألفاظ لهذه المعاني وغيره يضع غيرها لمعاني أخرى لاختلاف حاجتهم وتنوعها.

وظاهر ان المحذور المذكور لا يتأتى في مثل هذا النحو.

ومن هنا يتضح الإشكال في الوجه الإثباتي ، فانه مجد في فرض دعوى وحدة الواضع وانفراده دون فرض دعوى عدم تعينه بشخص دون آخر ولا مجتمع دون غيره ولا زمان دون زمان ، إذ مثل هذا العمل لم تجر العادة بتسجيله والتنبيه عليه من الوضع التاريخ. بل لعله يكون مستهجنا في عرفهم.

واما ما ما ذكره من كون الوضع من اللّه ، وإن إيصاله يكون بالإلهام - بعد

ص: 51

تسليم كونه ممتنعا في حق البشر - ، فلأن إلهام المتكلم الأول تحقق الوضع وان معنى هذا اللفظ هو هذا المعنى لا يجدي بمجرده في حصول التفاهم ما لم يعلم المخاطب بذلك ، فيدور الأمر بين أحد ثلاثة : اما ان يلهم المخاطب أيضا بذلك بلا ان يحتاج تفهيمه إلى تنبيه. أو يلهم المستعمل عملية الوضع فيضع. أو يلهم المستعمل فيخبر بتحقق الوضع.

والأول : باطل ، إذ من البديهي ان المخاطب لا يتمكن من فهم معنى اللفظ بلا تنبيه سابق.

والثاني : خلف فرض كون الواضع هو اللّه تبارك وتعالى.

والثالث : ممنوع التحقق ، إذ لم يعهد من المستعمل الأول الاخبار بالوضع منه تعالى.

وهذا مضافا إلى ان ما ذكره خلاف الضرورة في مثل وضع الاعلام ، إذ من البديهي ان وضعها من قبل البشر ، وانه لا يعبر عن الذات بأي لفظ قبل وضع شخص لفظا لها.

ثم انه قدس سره بعد ان قرر كون الواضع هو اللّه تعالى ، أفاد بان قضية الحكمة البالغة كون وضع اللفظ الخاصّ للمعنى الخاصّ ، انما هو لمناسبة ذاتية بينهما ، وغاية ما يقرب به ذلك : بأنه مع عدم المناسبة لم يكن وجه لوضع خصوص هذا اللفظ دون غيره فوضعه ترجيح بلا مرجح وهو محال.

وأورد عليه : بان المحال هو الترجح بدون المرجح كوجود المعلول بدون العلة ، لا الترجيح بدون المرجح لا مكان تساوي الافراد في تحصيل غرض واحد مطلوب ، كتساوي الرغيفين من الخبز في الإشباع ، فيؤتى بأحدها تخييرا لحكم العقل بالتخيير حينئذ وإلاّ لزم فوات هذا الغرض ، إذ مقتضى محالية الترجيح بلا مرجح فواته مع تساوي الدخيل فيه من جميع الجهات ، بل عدم إمكان الإتيان بواحد مما له دخل فيه - كما هو مقتضى المحالية - ، مع انه خلاف الوجدان

ص: 52

والعقل لإمكان الإتيان بأحدهما بداهة ، كما انه لا وجه لتفويت الغرض المطلوب.

وثبوت هذا الإيراد وعدمه موكول إلى محله من محالية الترجيح بلا مرجح وعدمها.

فالإيراد الجزمي عليه قدس سره فيما أفاده هو : ان مقتضى محالية الترجيح بلا مرجح لزوم جهة ما في المرجح تصلح للترجيح ، سواء كانت ذاتية فيه أو غير ذاتية ، فلا وجه للحكم بوجود مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى ، مع انه يمكن ان يكون الترجيح ووضع خصوص هذا اللفظ لجهة خارجة عن واقع اللفظ والمعنى ترتبط بعالم المصالح والمفاسد الخارجية فلاحظ. والنتيجة الحاصلة مما ذكرناه : انه لا يعلم لما ذكره المحقق النائيني قدس سره وجه محصل فتدبر.

وبذلك يعلم ان الوضع ليس من الأمور الحقيقية الواقعية ، ولا وسطا بين الحقيقي والاعتباري بالمعنى الّذي قرره المحقق النائيني ، بل من الأمور الاعتبارية المحضة التي تختلف باختلاف الاعتبارات والأنظار. فيدور الأمر بين الاحتمالات الأربعة المزبورة ، وقد عرفت تقريب كلام المحقق العراقي بما يمكن إرجاعه إلى الأول وسيأتي تحقيقه ، فيقع الكلام في الاحتمال الثاني ، وهو كون الوضع جعل اللفظ على المعنى ، وقد التزم به المحقق الأصفهاني (1).

وقد مهد لكلامه تمهيدا ، وهو وان لم يرتبط بالنتيجة التي ذكرها الا اننا نذكره لما يترتب عليه من أثر فيما بعد ، وذلك في مبحث الإنشاء ، حيث قيل ان معنى الإنشاء تسبيب إلى جعل الشارع واعتباره ، ومقتضى هذا عدم كون الوضع من المعاني الإنشائية ، لأنه اعتبار مباشري كما تلاحظ.

وهو : ان الأمور الاعتبارية ما لا واقع لها ولا ثبوت الا في عالم الاعتبار ، بحيث لا يخرج المعنى المعتبر عن مفهوميته وطبيعته ، ولا يوجد في الخارج وانما

ص: 53


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 14 - الطبعة الأولى.

ينسب الوجود له باعتبار صيرورته طرفا لاعتبار المعتبر.

وهذه الأمور الاعتبارية تارة تكون من الأمور التسبيبية ، بمعنى ان المنشئ والمعتبر لا يقصد حصول الأمر الاعتباري بمجرد اعتباره ، بل يقصد التسبيب بهذا الإنشاء إلى الاعتبار العقلائي أو الشرعي أو غيرهما. وذلك كالملكية ونحوها من الاعتبارات الشرعية ، فان الملكية توجد في عالم الاعتبار من الشارع مباشرة ، بمعنى ان من يتولى الاعتبار هو نفسه ومن المتعاقدين بالتسبيب. وأخرى تكون من الأمور المباشرية ، بمعنى ان المعنى المعتبر يحصل بنفس اعتبار الفرد لا باعتبار العقلاء أو الشارع وكان الفرد بإنشائه سببا لذلك.

ومن النحو الثاني الاختصاص الوضعي ، فانه لا يحتاج في وجوده الا إلى اعتبار الواضع والاعتبار ، كما هو واضح قائم في نفس المعتبر بالمباشرة لا بالتسبيب ، وان توقف اثره في بعض الأوضاع على إمضاء العقلاء أو مشاركتهم له فيه ، لكنه لا بنحو يكون وضعه تسبيبا لاعتبارهم ، بل يكون حاصلا بوضعه واعتباره مباشرة ولا يتوقف تحقق الاختصاص في عالم الاعتبار على الاعتبار العقلائي ، بحيث يكون اعتبار الفرد تسبيبا له كتسبيب المتعاقدين لاعتبار الملكية.

وبعد هذا أفاد : « بأنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال ، كالعلم المنصوب على رأس الفرسخ ، فانه أيضا ينتقل من النّظر إليه إلى ان هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر ان الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري ، بمعنى كون العلم موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر ، بخلاف اللفظ فانه كأنه وضع على المعنى ليكون علامة عليه ، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ خاص على معنى خاص » (1).

ص: 54


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 14 - الطبعة الأولى.

والنكتة التي تظهر لنا من عبارته الواضحة هي : انه مع اتحاد سنخ دلالة اللفظ على المعنى مع سنخ دلالة سائر الدوال على مدلولاتها ، فلا مفرق حقيقي بينهما إلاّ ان الجعل والوضع في سائر الدوال حقيقي واقعي دونه في اللفظ ، فانه جعلي واعتباري ، فالفرق لا بد وان ينحصر بين هذين في هذه الجهة فقط.

وقد أورد عليه السيد الخوئي بوجهين :

أحدهما : أن هذا المعنى من المعاني الدقيقة للوضع التي لا يلتفت إليها العرف في أوضاعهم ، فلا يتناسب مع كون الوضع من الأمور العرفية التي يتولاها افراد العرف.

ثانيهما : أن ما ذكره يقتضي ان يكون التعبير عن المعنى بالموضوع عليه لا بالموضوع له ، مع ان المتداول التعبير بالثاني دون الأول ، بل ادعاء عدم صحة الأول غير مجازفة (1).

ولا يخفى ان كلا الوجهين غير واردين :

أما الأول : فلأنه ينقض بكثير من الأمور العرفية التي قام الخلاف فيها على قدم وساق كالخبر والإنشاء ، فان استعمال العرف للجمل الخبرية والإنشائية مما لا يخفى ، مع ان الخلاف في معنى الإنشاء والخبر مما لا ينكر ، وهكذا الكلام في معاني الحروف ، فان استعمال العرف للحروف أكثر من ان يحصى ، مع وقوع الخلاف في معنى الحرف ودورانه في كلام القوم بين المعاني الدقيقة التي قد لا يصل إلى مداها الاعلام فضلا عن افراد العرف ، فهذا دليل على ان كون المعنى من الأمور الدقيقة لا يتنافى مع كونه عرفيا. بل التعهد الّذي التزم به من أدق ما ذكر للوضع من معان كما ستعرف ، للاختلاف في تحديده والتعبير عنه. والسر في ذلك الّذي يكون حلا للجميع : هو ان لهذه الأمور معان عرفية ارتكازية ،

ص: 55


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 43 - الطبعة الأولى.

والخلاف والنزاع انما هو في تفسير ذلك المعنى والكشف عنه وتحديده بنحو جامع مانع ، والدقة في هذا المقام لا في نفس المعنى كي يدعى عدم إدراك العرف ووصوله إليه.

وأما الثاني : فلان ما أفاده المحقق المزبور لا ينافي صحة التعبير عن المعنى بالموضوع له ، باعتبار ان اللفظ انما وضع على المعنى للدلالة على المعنى والانتقال إليه عند ذكر اللفظ ، فالمقصود من كون المعنى موضوعا له انه قد وضع اللفظ للدلالة عليه فاللام بمعنى الغاية. فالمعنى بهذا البيان موضوع عليه وموضوع له ، والتعبير عنه عادة بالموضوع له ، انما هو لأجل كون الغرض من الوضع هو إفادة المعنى والدلالة عليه باللفظ ، ونفس الوضع ملحوظ طريقا إلى هذه الجهة كما لا يخفى. ولكنه مع هذا يصح التعبير عنه بالموضوع عليه بلحاظ جهة نفس الوضع ولا محذور فيه.

فالأولى ان يورد على المحقق الأصفهاني :

أولا : بان الموضوع عليه في سائر الدوال غير المنكشف ، بخلافه في اللفظ. فان العلم انما يوضع على نفس المكان ووجوده كذلك يكون كاشفا عن ان هذا المكان رأس فرسخ. وبعبارة أخرى : ان المكان بوضع العلم عليه يتصف بوصف وهو كونه موضوعا عليه العلم ، وهو بهذا الوصف يكشف عن صفة أخرى فيه كانت مجهولة وهو كونه رأس فرسخ ، وليس الموضوع عليه المكان بوصف كونه رأس فرسخ ، لأن هذا الوصف وصف عنواني لا مدخلية له في تحقق الوضع ، بل الوضع يتقوم بذات المكان ، وهذا بخلاف اللفظ فان الموضوع عليه اعتبارا نفس المعنى والمنكشف به هو نفس المعنى أيضا ، وعليه فلا ينحصر الفرق بين الألفاظ وسائر الدوال بما ذكره ، بل هذا وجه فارق أيضا.

وثانيا : وهو العمدة ، بان الوضع التكويني الواقعي لا يقتضي دلالة الموضوع على الموضوع له بنفسه ، وإلاّ للزم ان يكون كل علم دالا على رأس

ص: 56

فرسخ وهو بديهي المنع. وانما يتوقف أيضا عن سبق بناء وقرار على جعل العلم على رأس فرسخ ، فتحصل الدلالة بسبق هذا القرار والبناء.

وعليه ، فالوضع الاعتباري الجعلي أولى بعدم انتهائه إلى دلالة اللفظ على المعنى بنفسه وتوقفه على سبق القرار والبناء على دلالة اللفظ على المعنى عند الوضع. وإذا انتهى الأمر إلى اعتبار الدلالة وجعلها وعدم كفاية مجرد الوضع تكوينا أو اعتبارا ، فيقتصر عليه ولا احتياج إلى وضع اللفظ على المعنى اعتبارا.

وأما الاحتمال الثالث : فغاية تصويره ، أن اللفظ يعتبر ويجعل وجودا آخر للمعنى في قبال الوجود الحقيقي الواقعي له. وقد اختلف التعبير عن هذا المعنى ، فعبر عنه تارة باعتبار اللفظ نفس المعنى وأخرى بتنزيله منزلة المعنى وجعله وجودا تنزيليا له.

وقد ذكر لهذا الوجه مؤيدات وشواهد لا يهمنا البحث عنها قبل معقولية هذا المعنى وإمكانه ثبوتا ، فان البحث عن المؤيدات الإثباتية فرع الإمكان الثبوتي ، فلا بد من وقوع البحث أولا عن معقوليته.

وقد التزم السيد الخوئي بمعقوليته في نفسه ، ولكن أورد عليه بوجهين :

الأول : ما تقدم في مقام الإيراد على المحقق الأصفهاني من انه معنى دقيق لا تصل إليه أذهان افراد العرف ، مع ان عملية الوضع يقوم بها الصغار فضلا عن الكبار ، بل قد يقوم بها بعض الحيوانات التي لا شعور عندها.

والثاني : ان الغرض المقصود من عملية الوضع هو تحقيق دلالة اللفظ على المعنى لحصول التفهيم بها ، والدلالة كما لا يخفى تقتضي اثنينية الدال والمدلول.

وعليه ، فاعتبار الوحدة بين الدال والمدلول يكون لغوا وعبثا ، لأنه بلا أثر ، إذ لا يترتب عليه أثر الوضع لأنه يقتضي التعدد (1).

ص: 57


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 41 - الطبعة الأولى.

والمناقشة في الوجه الأول قد عرفتها فلا نعيد.

وأما الوجه الثاني : فالمناقشة فيه واضحة ، بيان ذلك : ان اعتبار شيء شيئا آخر يقتضي تحقق الانتقال إلى المعنى المعتبر في ذلك الشيء عند الانتقال إلى ما اعتبر ، سواء كان المعنى الاعتباري مما له وجود حقيقي كاعتبار شخص جاهل عالما ، أو لم يكن له وجود الا في عالم الاعتبار كاعتبار شخص رئيسا. فان الانتقال إلى الشخص الجاهل المعتبر عالما ملازم للانتقال إلى العالم ، وهكذا الانتقال إلى من اعتبر رئيسا ملازم للانتقال إلى الرئيس ، فالتلازم بين الانتقال إلى المعتبر والانتقال إلى ما اعتبر من الآثار التكوينية للاعتبار. ثم ان اعتبار شيء شيئا آخر يكون غالبا بلحاظ ترتيب آثار المعتبر على ما اعتبر ، كترتيب آثار العالم على الجاهل وآثار الرئيس على زيد مثلا. وقد لا يكون بهذا اللحاظ ، بل بلحاظ ترتب الأثر التكويني على نفس الاعتبار ، أعني الملازمة في الانتقال ، وهكذا الحال في اعتبار اللفظ نفس المعنى - على هذا القول - ، فان اعتبار كون اللفظ هو المعنى ليس بلحاظ ترتيب آثار المعنى على اللفظ ، بل بلحاظ ترتب الأثر التكويني للاعتبار ، أعني التلازم بين الانتقال إلى اللفظ والانتقال إلى المعنى ، وظاهر ان هذا لا يتحقق إلاّ باعتبار الوحدة وان أحدهما عين الآخر ، فاعتبار الوحدة ليس بلا أثر كي يكون لغوا ، بل له تمام الدخل في ترتب الغرض ، وهو حصول التفهيم والتفهم بحصول الانتقال إلى المعنى عند الانتقال إلى اللفظ. كما انه لا يتنافى مع اقتضاء الدلالة للتعدد ، إذ الدال هاهنا غير المدلول ذاتا ، فان الدال هو اللفظ والمدلول هو المعنى واعتبار الوحدة لا يضير في التعدد الذاتي المعتبر في مقام الدلالة.

فالتحقيق ان يقال : ان التنزيل قد يطلق ويراد به ما هو أعم من الاعتبار ، وقد يطلق ويراد به معنى يقابل الاعتبار.

فالأوّل : بأن يؤخذ شيء ، فيعتبر كونه شيئا آخر ، فان الاعتبار - كما تحقق

ص: 58

- امر خفيف المئونة لأنه لا يخرج عن الفرض غاية الأمر ان الفرض قد لا يكون له أثر عقلائي فيكون خيالا ويعبر عنه بالخيال. وقد يكون ذا أثر عقلائي أو شرعي فيقال عنه الاعتبار ، فاعتبار ان هذا الجاهل عالم لا مئونة فيه ، ويطلق عليه بأنه تنزيل لوجوده منزلة وجود العالم فيترتب عليه آثار العالم المجعولة من قبل المعتبر.

والثاني : ان يكون شيء بديل شيء آخر في ترتب آثاره عليه التكوينية أو غيرها ويقوم مقامه في ذلك ، وهذا أمر واقعي لا جعلي ، إلاّ انه تارة ينشأ من أمر واقعي أيضا ، كما إذا كان الأثر المترتب عليه والمترتب على غيره من الآثار التكوينية ، كترتب الحرارة على النار والشمس ، فيقال ان النار بمنزلة الشمس وتقوم مقامها - ولا يخفى ان مراعاة الأسبقية أو الأكملية في الأثر لا بد منها في الحكم ، بان المتأخر أو الضعيف بمنزلة الأسبق ، وإلاّ كان كل منهما بمنزلة الآخر -. وأخرى ينشأ من أمر جعلي ، كما إذا كان ترتب الأثر المترتب على آخر بواسطة جعل الشارع ( الجاعل ) أو غيره ، فيعبر عنه بالتنزيل بهذا اللحاظ ، فنفس البدلية أمر واقعي وان كان منشؤها اعتبار ترتب الأثر على البدل فيكون بدلا.

وبالجملة : التنزيل تارة يراد به الاعتبار. وأخرى يراد به ترتيب أثر الغير عليه مع المحافظة على واقع الموضوع حتى في عالم الاعتبار. وهو بالمعنى الأول اعتباري ، وبالمعنى الثاني حقيقي واقعي ، فان كون هذا ذاك بالاعتبار دون كون هذا بمنزلة ذاك - أعني نفس عنوان المنزلية والبدلية - ، فانه أمر واقعي انتزاعي.

وعليه ، فهذا القائل اما ان يقصد بتنزيل اللفظ منزلة المعنى التنزيلي بالمعنى الثاني ، فهو غير معقول ، لأن تنزيل اللفظ منزلة المعنى يكون حينئذ بمعنى ترتيب آثار المعنى على اللفظ ، ومن الواضح انه لا أثر جعليا يترتب على

ص: 59

المعنى كي يكون قابلا لاعتبار ترتبه على اللفظ كي يحصل به غرض الوضع من التفهيم والتفهم. وترتب انتقال المعنى على وجوده لا يمكن اعتبار ترتبه على اللفظ ، لأنه امر تكويني وترتبه على وجود المعنى تكويني لا جعلي ، فهو غير قابل للجعل ولا يتحقق واقعه - وهو المرغوب - بواسطة جعله. فلاحظ.

أو يقصد القائل بالتنزيل المعنى الأول ، يعني : اعتبار اللفظ نفس المعنى ، فيكون للمعنى وجودان أحدهما واقعي والآخر اعتباري. فهو أيضا مما لا يمكن الالتزام به وذلك لأن من آثار اعتبار الشيء نفس آخر هو صحة إطلاق المعنى المعتبر على ما اعتبر كما لو كان نفسه حقيقة وواقعا ، بلا فرق من حيث صحة الإطلاق وحقيقته ، وكونه بلا مسامحة وتجوز ، فيكون التجوز في نفس المعنى وادعاء ثبوته لغيره ، فإذا اعتبر زيد الجاهل عالما صح إطلاق العالم على زيد بلا مسامحة ولا تجوز ، بل التجوز في نفس الادعاء والاعتبار كما هو شأن كل حقيقة ادعائية.

وعليه ، فاعتبار اللفظ نفس المعنى يستلزم صحة إطلاق المعنى على اللفظ وصحة حمله عليه بالحمل الأولي الذاتي ان كان الاعتبار بين الماهيتين ، بان اعتبرت طبيعة اللفظ نفس طبيعة المعنى ، كما هو مقتضى الاتحاد في الماهية فيقال للفظ الماء بما انه لفظ جسم سيال خاص ، ويحمل عليه بالحمل الأوّلي الذاتي ، أو بالحمل الشائع الصناعي ان كان المعتبر نفس المعنى هو وجود اللفظ ، كما هو شأن الاتحاد في الوجود فيحمل واقع الماء - أعني الجسم السيال الخاصّ - على لفظه بالحمل الشائع.

وظاهر ان الإطلاق والحمل المزبور بإحدى صورتيه من بديهي البطلان ، وهذا يكشف عن عدم ملزومهما ، وهو الاعتبار المدعى.

والمتحصل : ان هذا الوجه في تحديد حقيقة الوضع غير وجيه أيضا.

يبقى الكلام في الوجهين الآخرين ، وهو كون الوضع عبارة عن اعتبار

ص: 60

الملازمة والارتباط بين اللفظ والمعنى ، وكونه عبارة عن التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ.

وقد كان الثابت لدينا في الدورة السابقة هو معقولية كلا الوجهين ثبوتا وإثباتا ، وان ترجيح أحدهما لا بد فيه من مرجح.

إلاّ ان الّذي نراه فعلا بطلان القول بالتعهد.

وتوضيح ذلك : ان المراد من التعهد يتصور بأنحاء :

النحو الأول : ان يراد به التعهد ، والبناء على ذكر اللفظ بمجرد تصور المعنى والانتقال إليه. فمتعلق التعهد هو ذكر اللفظ.

وهذا المعنى لا يمكن الالتزام به ، إذ من البديهي الّذي لا إنكار فيه ان الإنسان إذا تصور بعض المعاني ولم يذكر اللفظ لم يعد مخالفا لتعهده وناقضا لبنائه ، إذ لا يرى الشخص ملزما بذكر ألفاظ جميع ما يتصوره من المعاني ولو بلغت من الكثرة إلى حد كبير ، كما لو قرأ الشخص كتابا طويلا في ليلة واحدة ، أو كانت من المعاني التي لا يستحسن التصريح بها.

النحو الثاني : ان يراد به التعهد والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.

وهذا باطل لوجهين :

أحدهما : أن ذلك يستلزم ان يكون مدلول اللفظ هو نفس إرادة التفهيم لا المعنى ، وانما يكون المعنى من قيود المدلول لا نفسه ، بمعنى ان المدلول هو الحصة الخاصة من الإرادة ، وهي الإرادة المتعلقة بهذا المعنى - نظير ما إذا تعهد بالإشارة بالإصبع عند مجيء زيد ، فان مدلول الإشارة يكون نفس المجيء لا زيد ، بل زيد يكون من قيود المدلول -.

وهذا - أعني كون المدلول والموضوع له هو الإرادة - ينافي دعوى وضع اللفظ للمعنى ، كما هو محور الكلام كما انه مما لا يلتزم به القائل ، فانه يلتزم بان

ص: 61

اللفظ موضوع إلى المعنى ، غاية الأمر المعنى الّذي تعلقت به الإرادة دون غيره ، فالموضوع له بالتزامه هو الحصة الخاصة من المعنى ، وقد عرفت بان إرادة المعنى المزبور من التعهد تستلزم كون المعنى من قيود الموضوع له لا نفسه ، وان الموضوع له هو الحصة الخاصة - وهو الإرادة المعلقة بالمعنى ، لا الحصة الخاصة من المعنى - وهي المعنى المتعلق للإرادة -.

وثانيا : أنه من المتقرر امتناع وضع اللفظ للموجودات الخارجية بما هي كذلك ، بل لا بد من تعلقه بالمفهوم ، لأن المقصود منه تحقق انتقال المعنى الموضوع له بالانتقال إلى اللفظ ، والمعنى القابل للانتقال هو المفهوم دون الموجود ، إذ لا يقبل الموجود وجودا آخر ذهنيا كان أو خارجيا ، والانتقال عبارة عن الوجود الذهني. وعليه فلا يمكن دعوى كون الموضوع له هو إرادة المتكلم التفهيم ، لأنها من الأمور الخارجية الواقعية لا من المفاهيم ، فلا تقبل الوجود الذهني وهو الانتقال. فلاحظ.

النحو الثالث : ان يراد به التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه ، فيكون متعلق التعهد هو نفس التفهيم لا ذكر اللفظ ، فلا يرد عليه ما ورد علي سابقه ، إذ العلاقة مفروضة بين اللفظ ونفس المعنى لا بينه وبين إرادة تفهيمه كما لا يخفى.

ولعله لأجل التفصي عن ما ورد على سابقه غيّر القائل - هو السيد الخوئي ( دام ظله ) (1) - التعبير الأول السابق ، وعبّر بهذا التعبير أو بما يشاكله كالتعهد بإبراز المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه.

ولكنه مع هذا لا يسلم عن المحذور.

بيان ذلك : انه انما يصح في فرض لا ينحصر فيه المفهم للمعنى باللفظ

ص: 62


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 45 - الطبعة الأولى.

الخاصّ ، بان كان هناك دال آخر عليه من لفظ أو غيره ، فيكون لهذا التعهد معنى معقول ، كما يقع التعهد باستعمال خصوص هذه الآلة في الضرب دون غيرها. أما مع انحصاره فيه بحيث لم يكن للمعنى مفهم أصلا غير هذا اللفظ الّذي يحتمل مفهميته بالتعهد ، كان هذا التعهد غير معقول ، وذلك لأنه يشترط في صحة التعهد معقولية متعلقه في ظرفه بحيث يصح ان يتعلق به البناء والتعهد ، ومع عدم ذلك لا يصح التعهد ، وما نحن فيه يرجع إلى هذا القبيل ، لأن المتعهد به اما ان يرجع إلى ذكر اللفظ ، وقد عرفت ما فيه. واما ان يرجع إلى مفهمية اللفظ وهي غير اختيارية. واما ان يرجع إلى نفس التفهيم - مطلقا - وهو لا معنى له ، إذ لا معنى لأن يقال : التعهد عند إرادة التفهيم بالتفهيم كما هو واضح ، فينحصر ان يراد التعهد بالتفهيم باللفظ الخاصّ.

ولا يخفى انه مع انحصار المفهم به لا مجال لهذا التعهد ، فان المفهمية - يعني مفهمية اللفظ - وان نشأت بواسطته ، إلاّ انه حيث كان المفهم منحصرا به كان التعهد بالتفهيم به عند إرادة التفهيم بلا وجه ولا محصل ، إذ لا مجال للتفهيم بغيره تعهد أو لم يتعهد ، فالتفهيم به قهري لا محيص عنه فلا معنى للتعهد به.

وبعبارة أخرى : يكون التعهد بذلك مما يلزم من وجوده عدمه ، لأنه بحدوثه كان اللفظ مفهما للمعنى ، وتحصل العلاقة بينه وبين المعنى ، ولما كان المفهم منحصرا باللفظ كان التعهد بقاء لغوا ، فيرتفع التعهد قبيل الاستعمال ، فيلزم من وجوده عدمه وهو محال.

هذا مضافا إلى ما يرد على هذا النحو من محذور الدور ، وتقريبه : ان التعهد يتوقف على مقدورية متعلقه وهو التفهيم ، إذ مع عدم مقدورية التفهيم يستحيل التعهد ، والقدرة على التفهيم بهذا اللفظ غير حاصلة قبل التعهد ، إذ المفروض ان قابلية اللفظ للدلالة على المعنى تكون بالوضع وهو التعهد على هذا القول ، فالقدرة على تفهيم المعنى باللفظ متوقفة على التعهد ، وقد عرفت

ص: 63

انها مما يتوقف عليها التعهد فيلزم الدور.

وقد أجيب : بأنه يكفي في صحة التعهد القدرة على التفهيم في ظرف الحاجة والعمل وهو ظرف الاستعمال ، ولا يلزم حصولها في ظرف التعهد نفسه ، وهي حاصلة في ظرف الاستعمال ، إذ العلاقة بين اللفظ والمعنى تحصل بالتعهد قهرا ويكون اللفظ قابلا للدلالة على المعنى بواسطته فيحصل الشرط في ظرفه.

ولكن هذا الجواب انما يتم لو كان أخذ القدرة على التفهيم في ظرف العمل شرطا لصحة التعهد من باب رفع اللغوية ، إذ مع عدم القدرة يلغو التعهد.

واما لو كان الملاك ليس ذلك ، بل شيئا يرجع إلى نفس التعهد ، بمعنى ان قوام التعهد بذلك ، فتكون القدرة على التفهيم في ظرف الاستعمال شرطا مقوما للتعهد من قبيل الشرط المتأخر فلا يصح الجواب ، إذ القدرة وان كانت متأخرة زمانا عن التعهد إلاّ انها بمقتضى شرطيتها المتأخرة من اجزاء علة حصول التعهد ، فيستحيل ان تكون ناشئة عن التعهد لاستلزامه الدور.

وتحقيق هذا المعنى ليس محله هاهنا ، بل محله مبحث أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وانما ذكرناه هاهنا إشارة إلى تصور الخدشة في الجواب.

وعلى كل ، فلا نستطيع ان نقول بان ما ذكر من محذور الدور دليل على بطلان النحو المذكور للتعهد ، إذ لم يتضح لدينا أخذ القدرة من أي النحوين وبأي الملاكين ، كما انه لم يتضح لنا بذلك بطلان الدور ، فالفرض هو الإشارة إلى تصور محذور آخر في النحو المذكور ، فتدبر.

والّذي ينتج بطلان الالتزام بالتعهد بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة. ويجمعها كون متعلق التعهد جانب اللفظ من ذكره أو التفهيم به في فرض تصور المعنى أو قصد تفهيمه. يبقى هاهنا احتمالات ثلاثة للتعهد ، وذلك بعكس فرض التعهد وموضوع ثبوته في الأنحاء الثلاثة بجعله متعلقا له ومعروضا له ، وعكس متعلقه بجعله فرض ثبوته ، فيكون المراد بالتعهد هو التعهد بتصور

ص: 64

المعنى عند ذكر اللفظ ، أو التعهد بقصد تفهيمه عند ذكره ، أو التعهد بقصد تفهيم المعنى عند تفهيمه باللفظ.

وسخافة المحتمل الأخير وركاكته لا تحتاج إلى بيان.

وأما الاحتمال الأول ، فيبطله ان بقاء التصور غالبا لا يكون من الأمور الاختيارية التي تقبل ان يتعلق بها التعهد ، ومعه يلزم ان يقيد التعهد المزبور بما إذا لم يكن قد سبق تصور المعنى على ذكر اللفظ واستمر إليه ، إذ لا معنى للتعهد به مع تحققه بغير اختياره ، بل تصور المعنى حدوثا قد لا يكون اختياريا فيما لم يكن لتصوره مبادئ ومعدات كي يكون تصوره اختياريا تهيئيا ، فلا معنى لأن يتعهد المتكلم بتصور المعنى عند ذكر اللفظ. هذا مضافا إلى ان المتكلم مع التفاته إلى التعهد لا بد وان يسبق تصوره المعنى قبل التكلم ومع عدم التفاته لا يحصل له تصور المعنى حتى بعد ذكر اللفظ. فهذا الاحتمال مما لا محصل له.

وأما الاحتمال الثاني ، فيدفعه ما أوردناه على الاحتمال الثاني من تلك المجموعة ، وهو كون التعهد عبارة عن البناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، من استلزامه كون طرف الملازمة والعلقة والدلالة هو إرادة التفهيم لا نفس المعنى ، وهو لا يلتزم به القائل مع انه خلاف الفرض ، كما انه غير صحيح في باب الوضع ، لأن الموضوع له لا بد وان يكون من المفاهيم القابلة للتصور والانتقال لا من الأمور الخارجية الموجودة لأنها لا تقبل الانتقال.

كما يرد عليه وعلى سابقه ، من احتمال انه تعهد تصور المعنى عند ذكر اللفظ ، بل وعلى الكل أن ما يترتب على الملازمة الوضعيّة والعلاقة بين اللفظ والمعنى هو تحقق انتقال المعنى عند ذكر اللفظ من دون اعتبار تحقق العلم بثبوت المعنى ، بل قد يكون مما يستحيل ثبوته ، فالفائدة المترقبة من عملية الوضع ليس إلا تصور المعنى والانتقال إليه عند ذكر اللفظ ، والتعهد بالمعنى المذكور يترتب عليه العلم بطرف الملازمة ، وذلك لأن الملازمة ان قررت بين فعلين وثبتت بنحو

ص: 65

الجزم بينهما كان العلم بحصول أحدهما موجبا للعلم بحصول الآخر.

وحيث أن طرفي الملازمة في التعهد هو الفعلين ، وهما ذكر اللفظ وإرادة التفهيم أو تصور المعنى ، كان ذكر اللفظ موجبا لحصول العلم بالإرادة والتصور - والانتقال إليهما وان حصل إلاّ أنه باعتبار كونه من مقدمات العلم -.

وعليه ، فلا يمكن الالتزام بكون العملية الوضعيّة هي التعهد ، لأن أثر العملية الوضعيّة المترقب ترتبه بلحاظها يختلف عن أثر التعهد وما يترتب عليه. فلاحظ.

وبهذا البرهان الجلي يتضح بطلان القول ، بان حقيقة الوضع هي التعهد والقرار.

ويؤيد ذلك بعض الموارد العرفية.

فان تحقق الوضع من شخص أخرس لا يستطيع الكتابة ولا يأمل البقاء بنحو يتمكن به من الاستعمال مما لا ينكر عرفا ، لو كان مما يعتنى بوضعه كما لو كان قد وضع اسما لولده. مع أنه لا تعهد لديه بذكر اللفظ والتفهيم به عند قصد التفهيم.

كما انه قد يضع الوالد لولده اسما مباركا للتفاؤل وهو لا يقصد بذلك استعماله في مقام التفهيم ، بل يضع لفظا آخر لذلك. أو يضع اسما قبيحا لردع العين الحسودة وإطالة البقاء ولا يرضى بان يتأذى بهذا الاسم أصلا ، وقد يعاقب على استعماله لو كان من شأنه ذلك.

وبالجملة : قد يضع الوالد لولده اسما لا لغرض استعماله فيه ، فيعد وضعا لدى العرف مع عدم التعهد. فتدبر جيدا وتفهم.

ونتيجة بطلان ما ذكر من هذه الوجوه لحقيقة الوضع ، يتعين الالتزام بان حقيقة الوضع هي جعل العلقة واعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى ، فانه معنى معقول لا محذور في الالتزام به ثبوتا ولا إثباتا.

ص: 66

وتوضيحه : أن عدم الانفكاك بين تصور شيئين والتلازم بين وجوديهما الذهنيين ، بحيث إذا انتقل إلى أحدهما ينتقل الآخر ، انما ينشأ من ارتباط خاص بين نفس الشيئين وعلاقة بينهما تسبب التلازم بينهما في الوجود الذهني أو الخارجي ، فمنشأ التلازم في الوجود الذهني هو وجود الرابطة بين الشيئين ، وعليه فكما تكون الرابطة والعلاقة ثابتة في نفس الأمر والواقع ، كسائر الملازمات المعهودة مثل الملازمة بين الحرارة والنار ، كذلك يمكن ان يكون الارتباط متحققا في عالم الاعتبار والفرض العقلائي ، فتنشأ الملازمة على أثر تحقق الربط في عالم الاعتبار.

وبعبارة أخصر وأوضح ، لما كان منشأ الملازمة هو نفس الارتباط بين الشيئين لم يفرق في تحققها بتحققه واقعا أو اعتبارا ، فحقيقة الوضع اعتبار الارتباط والعلقة بين اللفظ والمعنى ، فينشأ قهرا بهذا الاعتبار تلازم واقعي بين تصور اللفظ وتصور المعنى لمن يلتفت إلى وجود الربط الاعتباري.

وهذا المعنى لا يرد عليه أي محذور ، كما أنه يتناسب مع الأمر الحقيقي الّذي يكون منشأ التلازم في الوجود الذهني - أعني الربط -.

وقد مرّ استفادة هذا المعنى لحقيقة الوضع - من كلام المحقق العراقي - ، وهذا يؤيد الالتزام به خصوصا بملاحظة ان الاعتبار خفيف المئونة سهل التحقق لا يحتاج إلى كلفة.

نعم يبقى سؤال وهو : أن الاعتبار انما يكون بلحاظ الآثار الاعتبارية العقلائية ، وليس في مورد الوضع ما يكون أثرا عقلائيا اعتباريا لاعتبار الربط. والجواب : انه يكفي في رفع لغوية هذا الاعتبار ترتب الأثر التكويني للربط المرغوب وهو الانتقال عند الانتقال والملازمة الواقعية الناشئة به ، بل ترتبه هو الملحوظ في هذا الاعتبار دون غيره فلا لغو.

والّذي يتحصل بأيدينا : ان الوضع عبارة عن جعل الربط والملازمة

ص: 67

والعلقة بين اللفظ والمعنى ، وينشأ من هذا الاعتبار مصداق حقيقي للملازمة كما هو واضح.

ومن هنا ظهر : ان الاختصاص والارتباط الحقيقي والواقعي من آثار ونتائج الوضع لا نفس الوضع ، كما يظهر من صاحب الكفاية ، حيث قال : « الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بينهما ، ناش من تخصيصه به تارة ، وكثرة استعماله فيه أخرى » (1).

نعم لو كان المراد من الاختصاص الاختصاص الاعتباري الّذي يكون متعلق الاعتبار ، أمكن أن يصحح جعله معنى الوضع ، بحمل كلامه على إرادة الوضع بمعنى اسم المصدر ، لا الوضع بمعنى المصدر ، فانه غير الاختصاص اعتبارا.

إلاّ ان ظاهر دعواه نشوء الاختصاص تارة من كثرة الاستعمال ينافي حمل الاختصاص على المعنى الاعتباري ، إذ لا اعتبار في الاستعمال أصلا بل الاختصاص الناشئ منه ، ليس إلاّ الاختصاص الواقعي الحقيقي فتدبر والأمر سهل.

* * *

ص: 68


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /9 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

« اللفظ والاستعمال »

هذا البحث لم يعنون في الأبحاث بعنوان مستقل ، وانما يشار إليه في ضمن الأبحاث الأخرى المتعلقة بالاستعمال.

والمقصود منه بيان حقيقة استعمال اللفظ في المعنى. والأقوال فيها متضاربة - فمنهم من يرى انه إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى باللفظ (1). ومنهم من يرى انه جعل اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات (2) - والمتعارف على الألسن في تحرير النزاع المذكور ، هو ان الاستعمال هل هو من قبيل جعل اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات أو لا؟ وظاهر ان تحرير النزاع على هذا النحو لا يخلو عن شائبة المنع ، لافتراق وضع سائر العلامات عن وضع اللفظ والدلالة الوضعيّة فيهما من جهتين :

الأولى : أن الدلالة الوضعيّة الناشئة بالاستعمال دلالة تصورية ، إذ لا يترتب على ذكر اللفظ سوى تصور المعنى لا غير ، بخلاف دلالة العلامات ، فانها دلالة تصديقية لأن الانتقال منها إلى مدلولها انتقال تصديقي كما هو ظاهر.

الثانية : ان دلالتها ليست بالاستعمال ، فان واضع العلامة لم يقصد حال الوضع التفهيم والكشف عن المدلول بها ، وانما وضعها لينتقل بملاحظة وجودها إلى ذي العلامة ، فالانتقال المتأخر عن الوضع ليس من توابع استعمال ما بل من توابع نفس وجود العلامة والعلم بالوضع لهذه الجهة.

وبالجملة : فتحرير الكلام بهذا النحو غير وجيه ، بل لا بد من تحريره بنحو يكون جميع أطراف احتمالاته من نحو الاستعمال وقبيله.

ص: 69


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /36. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 208 - الطبعة الأولى.

وتحقيق المطلب : ان استعمال شيء للإراءة والكشف عن شيء آخر ..

تارة : يكون بنحو يكون المستعمل فانيا في المستعمل فيه ، بحيث لا يلتفت إليه أصلا مع الالتفات إلى المستعمل فيه ويكون في حال الاستعمال مغفولا عنه ، وذلك كالمرآة بالنسبة إلى الوجه المرتسم بها ، فانه مع استعمالها للكشف عنه يكون الملتفت إليه خصوص الوجه ، وأما نفس المرآة فهي مغفول عنها ولا يلتفت إليها أصلا ، فلا يلتفت في لونها وخصوصيتها في هذا الحال ، فلو التفت إليها كان المستعمل فيه - أعني الوجه - مغفولا عنه وغير ملتفت إليه.

وأخرى : يكون بنحو يكون المستعمل ملتفتا إليه مستقلا مع الالتفات إلى المستعمل فيه ، وذلك كالاستعمالات الكنائية التي يكون المستعمل فيها معنى ويراد منه لازمه أو ملزومه ، فان اللازم والملزوم في هذا الاستعمال ملحوظان مستقلا وملتفت إليهما معا ، ولذا يصح الحكم على كل منهما بحكم في آن واحد وتتعلق بهما الإرادة والقصد في حين واحد.

إذا عرفت هذا ، فهل سنخ استعمال اللفظ في المعنى كاستعمال المرآة في الوجه ، فيكون اللفظ حال الاستعمال فانيا في المعنى ولا يلتفت إليه أصلا؟ أو انه كاستعمال الملزوم وإرادة اللازم ، فيكون كل منهما متعلقا للحاظ مستقل والتفات كامل في نفسه؟ أو لا هذا ولا ذاك ، بل سنخ ثالث؟.

الحق هو الأخير.

أما انه ليس من قبيل استعمال المرآة ، فلأنه من البديهي انه يمكن الالتفات إلى اللفظ وخصوصياته حال الاستعمال ، ولذلك يختار الخطيب الألفاظ الرشيقة والعبارات الشيقة في مقام أداء المعاني ، كما انه قد يجري على طبق القواعد العربية المرسومة في باب الاستعمال التي يتوقف الجري عليها على نحو التفات إلى اللفظ ، كقواعد النحو والصرف والبلاغة.

وأما انه ليس من قبيل الاستعمالات الكنائية ، فلأنه من الظاهر أن اللفظ

ص: 70

في حال الاستعمال لا يكون ملتفتا إليه بالاستقلال وملحوظا في نفسه ، لظهور عدم إمكان الحكم عليه بما انه لفظ في ذلك الحال ، ولو كان ملحوظا استقلالا لصح الحكم عليه بلا إشكال.

وبذلك يعلم أن اللفظ في حال الاستعمال يكون ملحوظا ، لكن باللحاظ الطريقي الآلي لا باللحاظ الاستقلالي النفسيّ ، فالاستعمال على هذا ليس إفناء اللفظ في المعنى وإلقاء المعنى باللفظ ، ولا ذكر اللفظ مستقلا فينتقل منه إلى المعنى كالكنايات ، بل هو إيجاد اللفظ في الخارج بداعي حصول الانتقال إلى المعنى ، فهو منظور طريقا وعبرة للمعنى لا مستقلا ولا مغفولا عنه ، فليكن جميع هذا نصب عينيك لتنتفع به في مبحث جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

* * *

الجهة الثانية : في أقسام الوضع.

* * *

ص: 71

الوضع التعييني والتعيني

اشتهر بين الاعلام تقسيم الوضع إلى قسمين تعييني وتعيني. وعرف الأول بأنه : تخصيص اللفظ بالمعنى من قبل واضع معين. وعرف الثاني : بأنه الارتباط الخاصّ الحاصل بين اللفظ والمعنى الناشئ من كثرة الاستعمال.

ولكن الّذي يختلج في النّفس ان الوضع التعيني لا أساس له ، فانه لا يتصور له معنى معقول ، إذ لا وجه لأن يختص اللفظ بالدلالة على المعنى بكثرة الاستعمال ، مع ان الدلالة في هذه الاستعمالات الكثيرة لا ينفرد بها اللفظ ، بل يشترك معه القرينة. ولو كان لمثل هذا مثال ملموس وواقع ثابت لأمكن ان نقول بأن ملاكه شيء معقول لا تصل إليه أذهاننا إذ إنكار الواقع مكابرة ظاهرة ، إلاّ انه لم يتضح لدينا وجود لفظ كذلك ، يعني استعمل في معنى مع القرينة كثيرا بحيث صار دالا على المعنى بلا قرينة. فلا نستطيع الجزم بمعقولية الوضع التعيني بسهولة.

ثم انه قد ورد في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) ، ان التعهد ان كان ابتدائيا فالوضع تعييني ، وان كان منشؤه كثرة الاستعمال فالوضع تعيني (1).

ولم يعلم الوجه في الكلام الأخير ، لأن كثرة الاستعمال كما لا يخفى من الأمور التشكيكية الصادقة على عدد وأقل منه وأكثر. فان بلغت الكثرة بحد يتحقق به ارتباط بين اللفظ والمعنى وعلاقة بحيث إذا أطلق اللفظ ينتقل المعنى بواسطته إلى الذهن فلا ملاك للتعهد ، لأن الغرض به حاصل بدونه وهو قابلية اللفظ للتفهيم. وان لم تصل إلى ذلك الحد فلم يثبت مقدار ما يكون للتعهد ، كما

ص: 72


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 49 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

انه لم يعلم الوجه في كون الكثرة المزبورة منشئا للتعهد وجهة سببيتها له.

وعلى كل حال فالأمر سهل جدا.

تقسيم الوضع بلحاظ الملحوظ حاله

لا يخفى ان الوضع على جميع المباني فيه لا يخرج عن كونه حكما وعملية ترتبط بطرفين أحدهما اللفظ والآخر المعنى. وهذا يقتضي ان عملية الوضع تتوقف على ملاحظة كل من الطرفين والالتفات إليهما ، إذ الحكم والحمل لا يتحقق في عالم النّفس إلاّ بتحقق ما يحمل ويحكم عليه فيها. ويختلف الوضع عموما وخصوصا باختلاف المعنى الملحوظ حال الوضع فتتعدد اقسامه.

وهي في مرحلة التصور أربعة :

الأول : ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لذلك المعنى العام.

الثاني : ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ لذلك المعنى الخاصّ.

الثالث : ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لمصاديقه وافراده الجزئية.

الرابع : ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ للعام المنطبق عليه.

ويعبّر عن القسم الأول بالوضع العام والموضوع له عام. وعن الثاني بالوضع الخاصّ والموضوع له خاص. وعن الثالث بالوضع العام والموضوع له خاص. وعن الرابع بالوضع الخاصّ والموضوع له عام. هذا في مرحلة التصور.

اما في مرحلة الثبوت والإمكان ، فالقسمان الأولان مما لا إشكال في إمكان ثبوتهما إذ لا يتصور فيهما أي محذور ، فيمكن ان يلحظ الواضع معنى عاما أو خاصا ويضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الملحوظ العام أو الخاصّ بأي معنى من معاني الوضع ، فيعتبر الارتباط بينهما أو ينزل اللفظ منزلة المعنى أو يجعله على المعنى أو يتعهد بتفهيم المعنى به.

ص: 73

وأما القسم الثالث : فقد يشكل في إمكانه بأنه حيث يعتبر لحاظ المعنى الموضوع له في الوضع كما عرفت ، فاما ان يكون الخاصّ الّذي يقصد وضع اللفظ بإزائه ملحوظا مع لحاظ العام أو غير ملحوظ أصلا. فعلى الثاني يمتنع الوضع له. وعلى الأول يلزم ان يكون الوضع خاصا للحاظ الخاصّ نفسه وهو خلف الفرض.

إلاّ انه يدفع : بان لا يعتبر في الوضع أو أي حكم الالتفات تفصيلا إلى المحكوم عليه ، بل يمكن الحكم عليه بواسطة عنوان عام مشير إليه بلا التفات إلى نفس المعنون بالمرة ، اما للجهل بجميع خصوصياته الموجبة لجزئيته ، أو لعدم إمكان الالتفات إليه ، كما لو كان الحكم على مصاديق العام وكانت بحد لا يمكن الالتفات إليها بخصوصياتها جميعا.

وعليه ، فيمكن الوضع للافراد بلا التفات إليها تفصيلا ، بل بواسطة العنوان العام المشير إليها ، فيلحظ طريقا إلى افراده ويوضع لها اللفظ بتوسيطه بلا ان يتعلق بها بخصوصياتها اللحاظ. ببيان : ان العام وجه للافراد وتصوره تصور لها بوجه ، وذلك كاف في صحة الوضع لها بلا لحاظها بخصوصياتها.

وبهذا التقريب بيّن إمكان القسم الثالث.

لكن الحق انه لا يدفع الإشكال هنا ، لأن الموضوع له الخاصّ ليس هو الفرد بوجوده الخارجي ولا بوجوده الذهني ، لأن المقصود من الوضع هو التفهيم وانتقال المعنى الموضوع له عند ذكر اللفظ وخطوره في ذهن السامع ووجوده فيه ، والوجود الخارجي يمتنع ان يكون معروضا للحاظ ، والوجود الذهني ، بمعنى انه يوجد هنا في الذهن لقيام البرهان على ان المقابل لا يقبل المقابل ، ومثله الوجود الذهني يمتنع ان يعرض عليه اللحاظ وان يوجد في الذهن ثانيا بوصف وجوده لقيام الدليل على ان المماثل لا يقبل المماثل ، وعليه فما يفرض وضع اللفظ له لا بد ان يكون هو المفاهيم الجزئية بلا وصف وجودها في الخارج أو في الذهن ، فانها

ص: 74

تقبل الوجود وعروض اللحاظ عليها.

ولا يخفى ان العام لو سلم كونه وجها إجماليا لافراده ، فهو وجه لها بوجودها الخارجي أو الذهني ( وبعبارة أخرى : هو وجه لمصاديقه الخارجية والذهنية ) ، لأنه يتحد معها نحو اتحاد ، ولذا يصح حمله عليها بملاك الاتحاد في الوجود ، وليس هو وجها لافراده في مرحلة مفهوميتها ومعرّاة عن وجودها ، لأن المفاهيم في مرحلة مفهوميتها متباينة ، ولذلك لا يصح حمل المفهوم الكلي على المفهوم الجزئي لا بالحمل الأولي لتغيرهما ذاتا - وملاك الحمل الأولي الاتحاد في المفهوم - ، ولا بالحمل الشائع لكون الملاك فيه الاتحاد في الوجود ، والمفروض كون المفهوم ملحوظا معرّى عن الوجود وان الحمل بين المفهومين ، وإذا تبين عدم ثبوت الاتحاد بين مفهوم العام ومفهوم الفرد وتحقق المباينة بينهما ، امتنع ان يكون تصور العام تصورا لافراده بوجه كي يصح الوضع للافراد بتوسيط تصور العام ، إذ المباين لا يصلح لأن يكون وجها للمباين كي يكون تصوره تصورا له بوجه.

والجواب ان يقال : ان تحقق الوضع لا يتوقف على لحاظ الموضوع له حتى إجمالا ، بل يمكن الوضع لمعنى مع عدم لحاظه بالمرة أصلا ، وذلك بواسطة الإشارة إليه بأدوات الإشارة كأسماء الإشارة والموصولات وبعض الضمائر.

وعليه ، فلو ثبت عدم إمكان لحاظ الافراد وتصورها ، وعدم كفاية تصور العام في لحاظها وتصورها ولو إجمالا ، لمباينته لما يراد الوضع له وهو المفاهيم الجزئية ، أمكن الوضع لها بلا لحاظها أصلا ، بل بتوسيط الإشارة إليها ، ولا تمتنع الإشارة إلى غير الملحوظ والمتصور أصلا فيما لو لم يمكن تصوره ولحاظه كالأفراد ، لعدم تناهيها عرفا ، فيقال : « لفظ الإنسان موضوع لما هو من افراد الحيوان الناطق » فقد أشير إلى الافراد بالموصول - أعني : « ما » - ووضع اللفظ بواسطة الإشارة ومعونتها بلا لحاظها أصلا.

والحاصل : ان الوضع بحكم كونه حكما على الموضوع له لا يستدعي

ص: 75

سوى تعيين الموضوع له وتشخيصه ، والتعيين كما يكون بواسطة إحضار نفس المعنى والحكم عليه مباشرة كذلك يكون بواسطة الإشارة إليه بمشير ما بلا حضوره بنفسه في الذهن كما لو لم يمكن حضوره.

والوضع إلى الافراد من هذا القبيل ، فانه يمكن وضع اللفظ لها بلا توسيط لحاظها ، لعدم إمكانه أحيانا ، ولا توسيط العام المتصور ، لعدم صلاحيته للإراءة والكشف ، بل بواسطة الإشارة الذهنية إليها ، بمعنى ان نشير إلى الافراد المندرجة تحت العام المتصور ونضع اللفظ بإزائها فيكون الوضع عاما باعتبار كون الملحوظ حال الوضع عاما وهو المفهوم العام دون غيره إذ لم تتصور الافراد - كما هو المفروض - والموضوع له خاصا ، لأن الوضع كان بإزاء المفاهيم الجزئية المندرجة تحت العام.

وقد صوّر المحقق العراقي قدس سره الإشكال في الوضع العام والموضوع له الخاصّ بنحو آخر ، تقريره : ان العام باعتبار انتزاعه عما به الاشتراك بين الافراد ، لا يصلح لأن يكون وجها لافراده بخصوصياتها ، ولا يكون تصوره تصورا للخاص بوجه ، لتقوم الافراد بالخصوصيات المفروض إغفالها وتجريد الافراد عنها في انتزاع المفهوم العام ، فهو لا يحكي إلاّ عن القدر المشترك والجامع بينها لا أكثر (1).

وقربه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بنحو ثالث يشابه ما ذكرناه ، وبيانه - كما جاء في تقريرات درسه (2) - : ان المفهوم في مرحلة مفهوميته لا يحكي إلاّ عن نفسه ، فيستحيل ان يحكي مفهوم - كليا كان أو جزئيا - عن مفهوم آخر - كليا كان أو جزئيا - ، فكما لا يعقل ان يحكي المفهوم الخاصّ بما هو خاص عن مفهوم آخر خاص أو عام ، فكذلك لا يعقل ان يحكي المفهوم العام بما هو عن مفهوم

ص: 76


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 39 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 50 - الطبعة الأولى.

خاص أو عام آخر ، بداهة ان لحاظ كل مفهوم وتصوره عين تصور شخصه وإراءته لا إراءة شيء آخر به ، فكيف يكون معرفة لغيره بوجه.

وقد أجاب العراقي عما ذكره من الإشكال : بأنه تام في بعض المفاهيم العامة دون بعض ، فان المفاهيم - على ما ذكره قدس سره (1) - ، منها ما يكون منتزعا عن خصوصية مشتركة بين الافراد ذاتية كانت ، كمفاهيم الجواهر والاعراض كالإنسان والبياض ، أو انتزاعية كبعض المفاهيم الانتزاعية كمفهوم الفوق والتحت ونحوهما. ومنها ما يكون منتزعا عن الافراد والخصوصيات المفردة كمفهوم الفرد ، والمصداق ، والشخص.

فالنحو الأول لا يصلح للحكاية عن افراده ولو إجمالا ، ولا يكون تصورا لها بوجه أصلا ، بل لا يكون حاكيا الا عن القدر الجامع بينها.

والنحو الثاني بخلافه ، فانه يصلح للحكاية الإجمالية عن الافراد والخصوصيات لأنها منشأ انتزاعه ومقوماته. فصحة الوضع العام والموضوع له الخاصّ تتصور في ما إذا كان المفهوم الملحوظ حال الوضع من النحو الثاني دون الأول ، لأن الثاني هو الصالح للحكاية عن الافراد اللازمة في عملية الوضع دون الأول.

وعليه ، فالالتزام بإمكان هذا النحو من الوضع هو المتعين بلحاظ وجود مثل النحو الثاني من المفاهيم.

وبعين مضمون هذا الجواب أجاب السيد الخوئي عن الإشكال الّذي قربه ، فقد جاء في تقريرات درسه بعد تقرير الإشكال : « ان المفهوم في الجملة بما هو سواء كان عاما أو خاصا وان كان لا يحكي في مقام اللحاظ الا عن نفسه ، إلاّ ان تصور بعض المفاهيم الكلية يوجب تصور افراده ومصاديقه. وتفصيل ذلك ... واما العناوين الكلية التي تنتزع من الافراد والخصوصيات الخارجية

ص: 77


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 37 - 39 - الطبعة الأولى.

كمفهوم الشخص والفرد والمصداق ، فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الافراد والمصاديق بوجه وعلى نحو الإجمال ، وتصورها في نفسها تصور لها بوجه وعنوان. وبتعبير آخر : ان مرآتيتها للافراد والأشخاص ذاتية لها فتصورها لا محالة تصور لها إجمالا بلا إعمال عناية في البين. فإذا تصورنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم الإنسان - مثلا - فقد تصورنا جميع افراده بوجه ، ومن ثم جاز الحكم عليها في القضية الحقيقية ، فلو لم يحك المفهوم عن افراده لاستحال الحكم عليها مطلقا مع ان الاستحالة واضحة البطلان » (1). والناظر في هذا الكلام لا يرى اختلافا بينه وبين ما أفاده المحقق العراقي الا في التعبير ، فجواباهما يرجعان إلى مطلب واحد ومفاد متحد.

ولكنه قاصر عن رفع المحذور المقرر ، وإثبات معقولية الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، ما لم ينضم إليه ما ذكرناه من الاستعانة في الوضع بالإشارة الذهنية إلى واقع الافراد والمصاديق.

وذلك : فان هذه المفاهيم المنتزعة عن الخصوصيات المنطبقة عليها - بتعبير - ، والكاشفة عنها كشفا ذاتيا - بتعبير آخر - ، مفاهيم عامة وضع بإزائها بعض الألفاظ الدالة عليها كلفظ الفرد والشخص ونحوهما.

ومن الواضح ، ان وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المفاهيم من الوضع العام والموضوع له العام ، لعموم الملحوظ والموضوع له.

ففيما نحن فيه ، لو لاحظ الواضع أحد هذه المفاهيم العامة ، ووضع اللفظ بإزاء الافراد بلا توسيط الإشارة الذهنية إليها بل اكتفي بلحاظ المفهوم وحده فقط ، فقال مثلا : « وضعت اللفظ الكذائي لفرد الإنسان » كان الموضوع له عاما لا خاصا ، إذ الوضع دائما يكون بإزاء الكلي والمفهوم العام لا نفس الافراد ، ويكون حال الوضع هاهنا حال وضع الألفاظ الخاصة بإزائها في كونه من الوضع

ص: 78


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 50 - الطبعة الأولى.

العام والموضوع له العام ، إذ لا معين للوضع للافراد كي يصرف الوضع عن المفهوم إليها سرى الإشارة الذهنية ، والمفروض انتفاؤها ، ومجرد صلاحية المفهوم للانطباق والكشف عن افراده لا تكفي في صرف الوضع للافراد ما لم يوجد صارف بعين الافراد موضوعا له. وإلا لزم ان يكون وضع الألفاظ الخاصة بها - كلفظ الفرد - من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، لعدم انفكاك هذه الجهة عن هذه المفاهيم ، مع انه لا يلتزم بذلك أحد.

وعليه ، فلا بد في صرف الوضع للافراد وكونه بإزائها من الاستعانة بالإشارة إلى المفاهيم الجزئية ، إذ بدونها لا وجه لمعرفة كون الوضع لها ، بل الوضع يكون للمفهوم العام لو اكتفي بلحاظه في مقام الوضع ، إذ كل ما يتصور مما هو حاك عن الافراد يكون كليا والوضع بإزائه يستلزم عموم الموضوع له كما لا يخفى ، فيعود الإشكال والمحذور. والحاصل : ان تعين كون الافراد هي الموضوع له لا يكون بمجرد لحاظ الكلي وتصوره فوضع اللفظ بإزائه ولو بما انه كاشف عن الافراد يكون من الوضع العام والموضوع له العام ، فلا بد في تعيين كون الموضوع له الافراد من معين وهو الإشارة إليها بما يصلح للإشارة. وبذلك اتضح الاحتياج إلى توسيط الإشارة الذهنية في إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ. ومن هنا ظهر أيضا ما في كلام المحقق الخوئي ، من إمكان الحكم على الافراد في القضية الحقيقية باعتبار حكاية المفهوم الكلي عنها ، ولو لا الحكاية لاستحال الحكم عليها. فان الحكم على الافراد لا يتم إلاّ بتوسيط الإشارة الذهنية ، وهي امر ارتكازي للحاكم عند إرادة جعله الحكم على الافراد ، ولو لا الإشارة لما صح الحكم على الافراد بتوسيط المفهوم العام ، بل يكون الحكم على المفهوم بنفسه.

ونتيجة ما ذكرناه : ان الالتزام بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، من باب انّا نملك الإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية المندرجة تحت ما نتصوره من المفاهيم العامة.

ص: 79

ومما ينبغي الالتفات إليه : ان الإشارة الذهنية لا بد من ارتباطها بالمفهوم العام المتصور ، وذلك بتوسيط مفهوم آخر يكون رابطا بينهما. فمثلا ، إذا تصورنا مفهوم الإنسان وأردنا الوضع لأفراده الجزئية نأتي بما يشير إليها ونربطه بمفهوم الإنسان بواسطة مفهوم آخر فنقول : « ما هو فرد للإنسان » أو « ما ينطبق عليه الإنسان » ونحوهما.

والسر فيه واضح : فان الإتيان بالإشارة بلا ربطها بالمفهوم العام المتصور وهو « الإنسان » - مثلا - يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان في عدم الأثر والمناسبة ، ولا يصح الوضع بذلك أصلا لعدم تعين الموضوع له وانه افراد مفهوم معين فلا تتحقق به نتيجة الوضع وغرضه ، وهو حصول الانتقال إلى الموضوع له عند ذكر اللفظ للجهل به. مضافا إلى عدم كونه من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، لعدم ارتباط المفهوم العام المتصور بالموضوع له.

وبالجملة : فضرورة ربط الإشارة بالمفهوم العام المتصور بواسطة رابط ما امر لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فإنه من مقتضيات طبيعة الوضع وغرضه.

واما القسم الرابع : - وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العام - فالحق امتناعه وعدم إمكانه.

وذلك : لما عرفت في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، من ان إمكانه كان بواسطة الاستعانة بالإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية ، ولا طريق لإمكانه غير هذا الطريق.

وهذا الطريق لا يتأتى في هذا القسم ، وذلك لأنه لو تصورنا مفهوما جزئيا كمفهوم « زيد » وأردنا الوضع لكلية المنطبق عليه بلا تصوره فلا بد لنا من الإشارة إليه ، وقد عرفت ضرورة ربط الإشارة بالمعنى المتصور ، وكل مفهوم نفرضه رابطا للإشارة بالمفهوم الجزئي المتصور يكون كليا وذلك كمفهوم « كلي » أو « منطبق » ، فنقول : « ما هو كلي زيد أو ما هو منطبق على زيد » ، ومن الواضح

ص: 80

كون هذه المفاهيم كلية. وعليه ، فلا يكون الوضع من الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، لأن المتصور حال الوضع كان معنى عاما والموضوع له أيضا كان عاما.

والحاصل : ان الملحوظ حال الوضع لا يكون خصوص المفهوم الجزئي ، بل ينضم إليه لحاظ مفهوم عام يتحقق به الربط ، وبذلك يكون الوضع عاما لا خاصا.

هذا ، ولا يخفى ان الالتزام بالامتناع في هذا القسم يبتني على تصحيح القسم الثالث بالإشارة الذهنية ، إذ لا يتأتى تصحيح هذا القسم بها كما عرفت.

واما لو كان تصحيح القسم الثالث من جهة ما قرروه من ان تصور العام تصور لافراده بوجه فيكتفي في الوضع لها بتصوره فقط - أمكن الالتزام بإمكان هذا القسم بنحو البيان المذكور في إفادة إمكان القسم الثالث ، وذلك لأن الخاصّ عبارة عن الطبيعي مع الخصوصيات ، فتصور الخاصّ تصور للطبيعي في ضمنه كما ان تصور مفهوم الدار تصور لأجزائه ضمنا من الغرفة والسطح وغيرهما. وعليه ، فيمكن وضع اللفظ للطبيعي المتصور في ضمن تصور الفرد ، كما أمكن الوضع للفرد المتصور بتصور الطبيعي.

وبالجملة : فبنحو البيان المذكور في تقريب إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ يقرب إمكان الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

وقد عرفت عدم قابلية التقريب المذكور للنهوض لإثبات إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، وان الوجه فيه ما ذكرناه ، وقد تحقق عدم تأتيه في الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

وبذلك : تثبت محالية هذا القسم من الوضع وامتناعه.

وقد ذكر : لبيان محاليته وامتناعه وجوه :

الوجه الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره : من انه لما كان تصور العام بنفسه ممكنا لم يحتج الوضع له الا إلى ملاحظته ، بخلاف الوضع

ص: 81

للافراد غير المتناهية فان لحاظ غير المتناهي غير معقول ، فلا بد من لحاظها بجامع يجمع شتاتها ويشمل متفرقاتها وهو الكلي المنطبق عليها ، فان لحاظها بالوجه لحاظها بوجه (1).

ولا يخفى ان للإشكال في ما أفاده قدس سره مجالا ، بيان ذلك : انه ان التزم بكفاية اللحاظ الإجمالي للافراد بلحاظ العام في الوضع لها بحيث يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا ، فالالتزام بكفاية اللحاظ الإجمالي للعام في ضمن الخاصّ في الوضع له بحيث يكون الوضع خاصا والموضوع له عاما متعين ولا محيص عنه ، لأن مبنى الأول على كفاية التصور الإجمالي للموضوع له في الوضع له وعدم تعين التصور التفصيليّ ، وهو يقتضي كفايته في النحو الثاني. وإمكان لحاظ العام تفصيلا لا يقتضي تعين لحاظه بعد فرض كفاية التصور الإجمالي.

والحاصل : لا وضوح للفرق بين النحوين بعد اتحادهما ملاكا.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره ببيان : ان الخاصّ بما هو خاص لا يكون وجها للعام بنحو يكون تصوره تصورا للعام ولو بنحو الإجمال ، وذلك : لأن الخصوصية المقومة للخاص تناقض العموم وتنافيه ، إذ العموم لا يتحصل في معنى إلاّ بإلغاء الخصوصية ، ومعه كيف يمكن ان يكون الشيء مرآة ووجها لنقيضه (2).

وما ذكره قدس سره لا يخلو عن غموض لوجوه :

الأول : ان إشكال المناقضة جارية في الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، إذ كما يستحيل ان يكون الخاصّ وجها للعام لأنه نقيضه والنقيض لا

ص: 82


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 15 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 39 - الطبعة الأولى.

يكون وجها لنقيضه ، كذلك يستحيل ان يكون العام وجها للخاص للمناقضة فانها من الطرفين ، فإيراد هذا المحذور في خصوص هذا القسم من الوضع بلا وجه لسريانه في القسمين ، فكيف لا يلتزم بمحالية الوضع العام والموضوع له الخاصّ بهذا الملاك؟!.

الثاني : ان دعوى المناقضة ممنوعة ، لأن لفظ العام لا يوضع للطبيعة بصفة العموم الملازم لإلغاء الخصوصية المقومة للخاص فيلزم التناقض ، بل يوضع لذات الطبيعة وصرفها بلا تقييدها بأي قيد. وعليه فلا يكون الخاصّ مناقضا للعام ، بل يكون متضمنا للعام لأخذه - أي العام - لا بشرط ، فلا ينافيه طرو الخصوصية عليه ، ويكون تصوره - أي الخاصّ - تصورا ضمنيا للعام ، لأنه أحد اجزائه.

الثالث : ان المناقضة حيث كانت بملاك تقوم العموم بإلغاء الخصوصية التي بها يكون الخاصّ خاصا ويتقوم الخاصّ ، لا تكون مطردة في جميع أنحاء العمومات ، لأن من العمومات ما يكون منتزعا عن الخصوصيات - كما عرفت - ، فيستحيل تقومها بإلغاء الخصوصية المخصصة والمفردة. فلا تناقض بين مثل هذا العام وبين الافراد.

وعليه ، فإذا كان المانع من مرآتية الخاصّ للعام هو المناقضة ، لم يجز المانع في مثل هذا القسم من العمومات فلا يستحيل ان يكون الفرد وجها للعام المزبور ، وبذلك يوضع له اللفظ بواسطة لحاظ فرده ، فيوضع لفظ « الفرد » لمفهوم الفرد بواسطة لحاظ الفرد الخارجي الّذي هو مصداق لمفهوم الفرد.

الثالث : ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من ان مفهوم الخاصّ مهما كان لا يحكي بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر ، فان تصور المفهوم بما هو لا يكون إلاّ تصورا لنفسه فيستحيل ان يكون تصورا لغيره بوجه ، بخلاف مفهوم العام كمفهوم الفرد والشخص وغيرهما فانه وجه للمصاديق ، ومن

ص: 83

هنا التزم بإمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، واما الخاصّ فلما لم يكن كذلك فلا يمكن الوضع الخاصّ والموضوع له العام (1).

ولا يخفاك ان ما ذكره لا يختلف في المضمون عما نصّ عليه في الكفاية ، وان اختلف التعبير ، فقد ذكر صاحب الكفاية قدس سره ان : « العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ افراده ومصاديقه بما هو كذلك فانه من وجوهها ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه. بخلاف الخاصّ فانه بما هو خاص لا يكون وجها للعام ولا لسائر الافراد فلا تكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلا ولو بوجه » (2).

وقد عرفت مما سبق الخدشة فيما ذكراه ، فان نفي مرآتية الخاصّ للعام بلا برهان ولا دليل ، وقد تقدم ان التصور الضمني لو التزم بكفايته في الوضع للافراد فالالتزام بكفايته في الوضع للعام متعين ، وقد عرفت ان تصور الخاصّ تصور ضمني للعام. فتدبر جيدا.

وقد التزم المحقق الرشتي قدس سره ، والمحقق الحائري اليزدي رحمه اللّه بإمكان الوضع الخاصّ والموضوع له العام.

واستدل الأول على رأيه بما حاصله : ان الخاصّ إذا وضع لفظ له ، فتارة يوضع اللفظ بحذائه لنفسه ولأنه الموجود المعين. وأخرى يوضع بإزائه باعتبار اشتماله على خصوصية فيه ، فيسري الوضع إلى كل ما اشتمل على تلك الخصوصية ، بلحاظ ان الوضع قد لوحظ فيه تلك الخصوصية العامة السارية في الافراد الخاصة ، وضرب لذلك مثالا من أسماء الأدوية ، فان الاسم قد يوضع بإزاء دواء معين لكن باعتبار تأثيره الخاصّ وفائدته المخصوصة ، وبذلك يتعدى الاسم إلى كل ما كان له هذا الأثر من الأدوية وان اختلف عن الموضوع له في اجزائه

ص: 84


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 51 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /10- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وخصوصياته. كما مثل له بالاحكام الشرعية المنصوصة العلة ، فان الحكم إذا رتب على شيء وعلل بعلة سارية نظير قولهم : « الخمر حرام لأنه مسكر » يسري شرعا إلى كل مسكر ولو لم يكن خمرا ، ولا يكون هناك فرق بين هذا وبين قوله : « كل مسكر حرام » الا كيفية البيان. والوضع كذلك ، فان الوضع التوقيفي كالحكم التوقيفي ، قد يكون ثابتا لموضوع لأنه ذلك الموضوع ، وقد يكون ثابتا له باعتبار مناط موجود فيه ، بل هو في النتيجة إثبات للحكم بإزاء ذلك الملاك والمناط (1).

وفيه : ان كلا من الوضع والحكم من الأمور الاختيارية للواضع والحاكم. وعليه ، فتمتنع سراية الوضع وتعديه إلى المناط والملاك مع تعيين اللفظ ووضعه بإزاء فرد خاص وبالأحرى تمتنع سرايته إلى فرد آخر وان شاركه في الأثر. نعم لو كان الوضع لا لخصوص الفرد المعين ، بل لكل ما اشترك معه في الفائدة والأثر المعين بحيث يكون الجامع هو التأثير في الأثر الخاصّ ، وكان الفرد الخاصّ واسطة لتصور الجامع ، سرى إلى جميع الافراد ، إلاّ انه لا يكون من الوضع الخاصّ والموضوع له العام ، بل يكون الوضع عاما للحاظ العام حال الوضع ووضع اللفظ بإزائه.

ومثل الوضع الحكم الشرعي ، فان سراية الحكم في جميع موارد وجود العلة انما هو لأجل فهم العرف من التعليل بالإسكار - مثلا - ، ان الحكم في الحقيقة معلق على كلي المسكر لا خصوص الخمر ، وانما بين هذا الحكم في لسان الدليل بالنحو الخاصّ - أعني : بترتيبه على فرد معين وهو الخمر - مع بيان جهة الحكم التي يتضح بها ان الحكم على هذا الفرد لا خصوصية فيه ، بل من باب انه أحد مصاديق كلي المسكر المنطبق عليه وعلى غيره.

وبالجملة : ان الوضع والحكم بيد الواضع والحاكم وباختياره ، فان اعتبر

ص: 85


1- الرشتي المحقق ميرزا حبيب اللّه. البدائر/ 40 - الطبعة الأولى.

العلقة بين اللفظ وخصوص هذا المعنى ، استحال تعديه إلى غيره وكان الموضوع له كالوضع خاصا. وان اعتبرها بين اللفظ والعام المنطبق على هذا الفرد ، كان الوضع كالموضوع له عاما لكون الملحوظ عاما. وهكذا الحال في ترتيب الحكم على شيء فلاحظ وتدبر.

واستدل الثاني بما تقريبه : بأنا قد نرى شبحا من بعيد من دون ان نعلم بنوعه ولا بجنسه ولا بأي عنوان ينطبق عليه ، بل لا ينطبق عليه في علمنا فعلا سوى عنوان « الشبح » فإذا وضع اللفظ بإزاء العنوان الواقعي المنطبق على هذا الشبح الّذي لم نتصوره أصلا إلاّ بعنوان ما ينطبق على هذا الشبح ، كان من الوضع الخاصّ ، إذ الملحوظ حال الوضع هذا الموجود الخاصّ وهو الشبح والموضوع له عام لأنه الكلي المنطبق على الشبح (1).

وهذا حاصل ما أفاده رحمه اللّه . ولكنه لا يفي بالمقصود ، لأن الوضع للعام عند تصور الخاصّ يتوقف على الإشارة الذهنية إلى العام ليتعين الوضع بإزائه ، وقد عرفت احتياج الإشارة إلى رابطة يربطها بالمتصور والملحوظ حال الوضع ، فلا بد من رابط يربطها - فيما نحن فيه - بالخاص ، ولا يخفى ان الرابط لا يكون إلاّ مفهوما عاما ك- « ما ينطبق على هذا الشبح أو ما هو كليه ونحوهما » ، والمفهوم الرابط الّذي أتى به قدس سره في كلامه عام أيضا وهو « ما هو متحد مع هذا الشخص » ، وإذا كان الرابط مفهوما عاما كان الوضع عاما لكونه ملحوظا حال الوضع وهو من عناوين الكلي الموضوع له اللفظ. فتدبر.

واما مرحلة الوقوع والتحقق في الخارج : فقد ثبت بلا كلام وقوع الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، ومثل للأول بأسماء الأجناس ، وللثاني بالأعلام. ووقع الكلام في وقوع الوضع العام والموضوع

ص: 86


1- الحائري المحقق الشيخ عبد الكريم. درر الفوائد1/ 5 - الطبعة الأولى.

له الخاصّ - واما الوضع الخاصّ والموضوع له العام فلا معنى للبحث في وقوعه بعد ثبوت امتناعه واستحالته - ، وقد ادعى ان وضع الحروف من الوضع العام والموضوع له الخاصّ.

ولما كان تحقيق ذلك يتوقف على معرفة معاني الحروف وما هو الموضوع له فيها ، لا بد من نقل الكلام إلى تلك المرحلة - كما فعل الاعلام 5 -.

المعنى الحرفي

وقد اختلف فيها إلى مذاهب ثلاثة :

الأول : ان الموضوع له في الحروف عين الموضوع له في الأسماء ، وان الكل عام.

الثاني : ان الحروف لم توضع إلى أي معنى ، وان حالها حال علامات الإعراب.

الثالث : ان معاني الحروف تختلف ذاتا وحقيقة عن المعاني الاسمية.

أما المذهب الأول : فقد تبناه المحقق الخراسانيّ قدس سره - ونسب إلى المحقق الرضي قدس سره - فقال : « والتحقيق حسبما يؤدي إليه النّظر الدّقيق ان حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء » (1) ، وقد نفى اشتمال معاني الحروف على خصوصية توجب جزئية الموضوع له ، سواء كانت هي الوجود الخارجي أو الوجود الذهني المعبر عنه باللحاظ. اما الأول فلوضوح انه كثيرا ما يستعمل الحرف في معنى كلي كما إذ وقع في حيز الإنشاء والحكم ، نظير « سر من البصرة إلى الكوفة » ، فانه من الواضح تحقق الامتثال في الابتداء بأي نقطة من نقاط البصرة والانتهاء إلى أي نقطة من نقاط الكوفة ، كوضوح تحققه

ص: 87


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -1. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

في السير بأي نحو كان مع عدم القرينة على التعيين. وهذا ظاهر في عموم الموضوع له الحرف ، وإلاّ لكان تحقق الامتثال متوقفا على ابتداء خاص وهو ما قصده الأمر ، ولا قائل به. واما الثاني فقد نفي أخذه في الموضوع له بوجوه : - وينبغي ان يعلم بان اللحاظ المتوهم أخذه هو اللحاظ الآلي كما نصّ عليه قدس سره -.

أحدها : ان الاستعمال يستدعي تصور المستعمل فيه ، فلو كان اللحاظ الآلي مقوما للمعنى لزم تعلق اللحاظ بالملحوظ وهو باطل ، ضرورة أن الموجود لا يقبل الوجود ثانيا.

ثانيها : ان اللحاظ لو كان مقوما للمعنى لزم عدم صدقه على الخارجيات ، إلاّ بالتجريد ، لأن المقيد بالوجود الذهني لا وجود له الا في الذهن وبدون التجريد يمتنع الامتثال الخارجي ، وهذا - أعني التجريد - يستلزم ان يكون استعمال الحروف بلحاظ الخارج - إخباريا كان أو إنشائيا - استعمالا مجازيا وهو خلاف الضرورة.

ثالثها : ان اللحاظ الآلي في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء. فكما ان الأخير لا يوجب جزئية الأسماء فكذلك الأول ، فان ادعى عدم أخذ الاستقلالي في معنى الاسم ، يقال : فليكن معنى الحرف كذلك مجردا عن اللحاظ الآلي ، إذ لم يتضح وجه التفريق بين المعنيين.

وبعد ما أفاد هذا أورد على نفسه : بان لازم اتحاد الحرف والاسم في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه في كونه عاما ، بحيث لا فرق ذاتيا بين لفظ « من » ولفظ « الابتداء » ، صحة استعمال أحدهما مكان الآخر ، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان ، وهو يقتضي بطلان الملزوم وثبوت الفرق الجوهري بينهما.

وأجاب عن هذا الإيراد بما نصه : « الفرق بينهما انما هو في اختصاص كل منهما بوضع ، حيث انه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ، والحرف

ص: 88

ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره كما مرت الإشارة إليه غير مرة ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضوع الآخر ، وان اتفقا فيما له الوضع. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن ان يكون من خصوصياته ومقوماته » (1). ولم يتضح المقصود جليا من عبارته هذه ، وبيان الفرق المفرق بين الاسم والحرف في الوضع فوقع موضوع التفاسير والترديد بين احتمالات. وهي ثلاثة :

الأول : ما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني قدس سره من : إرجاع التقييد باللحاظ الآلي والاستقلالي إلى اشتراط الواضع ذلك في الاستعمال ، فشرط الواضع ان لا يستعمل لفظ الابتداء الا مع لحاظه استقلالا وان لا يستعمل لفظ : « من » في الابتداء الا مع لحاظه آلة (2).

ومع تفسير كلام صاحب الكفاية (رحمه اللّه) بهذا التفسير يرد عليه :

أولا : ان الشرط المأخوذ في الحكم ، ومثله المأخوذ في الوضع ، اما ان يرجع إلى المتعلق والموضوع له بحيث يكون من قيودهما أولا.

فعلى الأول : يلزم تقييد متعلق الحكم به ، وتقييد الموضوع له فيما نحن فيه بحيث يكون مقوما له ، وهذا رجوع عما فرّ منه فانه هو الّذي كان بصدد نفيه وفي مقام الإيراد عليه.

وعلى الثاني : يرجع الشرط إلى تعدد المطلوب ، وكان متعلق الحكم مطلقا غير مقيد بالشرط ، بل يتعلق حكم آخر بالمقيد ، فيكون هناك حكمان ، أحدهما تعلق بذات الشيء ، والآخر تعلق به مقيدا. ولا يخفى ان الإتيان بالفعل بدون القيد - بعد فرض تعدد المطلوب - يكون امتثالا للحكم الأول. ومنه يظهر الحال

ص: 89


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 15 - الطبعة الأولى.

في الوضع ، فان الشرط ان لم يرجع إلى الموضوع له كان المعنى الموضوع له في الحرف والاسم مطلق المعنى بلا قيد ولا شرط. وانما ثبت الاشتراط بالاستعمال الآلي في الحرف ، والاستقلالي في الاسم بنحو الاستقلال بلا دخل له في الموضوع له ، وذلك يقتضي صحة استعمال أحدهما موضع الآخر ، إذ الشرط المزبور لم يحدد ما يقتضيه وضع كل منهما بنفسه بعد ان كان خارجا عن دائرة الموضوع له والاعتبار الوضعي ، بل هو مستقل له اقتضاء مستقل عن الاقتضاء الوضعي.

وعليه ، فيرجع المحذور كما هو بلا اندفاع.

وثانيا : لو سلم ان هذا الشرط وان كان مأخوذا بنحو تعدد المطلوب إلاّ انه لازم الاتباع لجهة ما ، ككون الواضع هو اللّه ، وان ذلك - أعني الاشتراط - يرجع إلى إلزامه تعالى بالاستعمال بهذه الكيفية ، لو سلم ذلك فهو انما يقتضي في صورة المخالفة وعدم الالتزام بالشرط المزبور مخالفة حكم شرعي وعصيان تكليف إلهي ، لا انه يقتضي عدم صحة الاستعمال ان كان الموضوع له هو المعنى المطلق ، فان الشرط يرجع إلى الإلزام منه تعالى - كما عرفت - فمخالفته مخالفة إلزام لا أكثر.

الثاني : إرجاع القيد باللحاظ الآلي أو الاستقلالي إلى العلقة الوضعيّة. وتقريب ذلك : ان العلقة الوضعيّة المصححة للاستعمال الناشئة عن الاعتبار والوضع ، قد تكون ثابتة في مطلق الأحوال بين اللفظ والمعنى ، فيصح استعمال اللفظ في المعنى مطلقا وفي كل حال. وقد تكون ثابتة في حال معين فلا يصح استعمال اللفظ في المعنى الا في ذلك الحال دون غيره من الأحوال. فالفرق بين الأسماء والحروف ، ان الأسماء وضعت للمعاني ولكن قيدت العلقة الوضعيّة - بمعنى قيد حصولها - بين الاسم والمعنى في حال اللحاظ الاستقلالي ، فلا تحصل الا في هذا الحال ، فمع اللحاظ الآلي لا علقة بين الاسم والمعنى فلا يصح الاستعمال ، والحروف وضعت لمعانيها ولكن قيد حصول العلقة بينهما في حال

ص: 90

اللحاظ الآلي ، فلا تحصل الا في هذا الحال ، فمع اللحاظ الاستقلالي لا علقة بين الحروف والمعنى فلا يصح الاستعمال. فالموضوع له في كل من الحروف والأسماء واحد إلاّ ان العلقة بينه وبين الحرف في حال ، وبينه وبين الاسم في حال آخر.

والعبارة بهذا التفسير لا تخلو عن خدشة أيضا ، وذلك لأن ما ذكر يقتضي ان يكون حدوث العلقة الوضعيّة وحصولها بين اللفظ والمعنى متوقفا على الاستعمال ، لوضوح كون المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي اللحاظ في حال الاستعمال ، فيكون حدوث العلقة الوضعيّة بين لفظ الاسم ومعناه عند إرادة استعماله في المعنى ولحاظ المعنى مستقلا. ويكون حدوثها بين لفظ الحرف والمعنى عند إرادة استعماله في المعنى ولحاظه آلة ، ولازم ذلك انه لا وضع - علقة وضعية - بين اللفظ والمعنى قبل الاستعمال ، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان.

الثالث : ربط اللحاظ الآلي والاستقلالي بالموضوع له لكن لا بنحو التقييد وبيانه : ان يكون الموضوع له لفظ الحرف ولفظ الاسم واحد لا يختلف بحسب الذات ، ولكن يختلف الموضوع له لفظ الحرف عن الموضوع له لفظ الاسم ، في ان الموضوع له الحرف هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ الآلي به ، والموضوع له الاسم هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ الاستقلالي به ، فالموضوع له في كل منهما هو الذات ونفس الماهية بلا دخل للتخصص الخاصّ فيه وان كان طرف العلقة هو المتخصص لكن بذاته. فاللحاظ الآلي والاستقلالي خارج عن الموضوع له ولكنه لازم له لا ينفك عنه ، ونظيره ثابت في مثل حمل « نوع » على « الإنسان » ، فان الموضوع والمحمول عليه انما هو الماهية بنفسها بلا دخل للحاظ فيه مع ان اللحاظ لا ينفك عنه ، إذ حمل النوع على الإنسان أو غيره موطنه الذهن ، إذ لا يصح حمل النوع على الإنسان الخارجي ، ومعه لا ينفك المحمول عليه عن اللحاظ ، وظاهر ان ما يحمل عليه النوع هو نفس الماهية بلا تقييدها باللحاظ ، إذ الماهية المقيدة باللحاظ جزئي

ص: 91

ذهني لا نوع ، فكيف يصح حمل نوع عليها مقيدة باللحاظ؟!.

إذا ظهر ان الموضوع له في كل من الاسم والحرف واحد ذاتا ، وانما يختلف من حيث اللحاظ بالنحو الخاصّ الّذي صححناه ، يظهر عدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر ، إذ العلقة الوضعيّة إذا كانت بين الحرف والمعنى الملحوظ باللحاظ الآلي فلا علقة بينه وبين الملحوظ استقلالا ، فلا يصح الاستعمال. وهكذا الكلام في الاسم.

وهذا التفسير لكلام صاحب الكفاية أوجه من أخويه ، وان كان ارتباطه بالعبارة أبعد ، ولكنه غير صحيح في نفسه كأخويه ، بيان ذلك : ان حال الوضع بالنسبة إلى اللحاظ الآلي والاستقلالي يختلف عن حال حمل مثل نوع على الإنسان بالنسبة إلى اللحاظ ، فان المتحقق في الذهن في حال حمل النوع هو واقع اللحاظ لا مفهومه ، بخلاف المتحقق في حال الوضع فانه مفهوم اللحاظ الآلي أو الاستقلالي ، ولذلك يتعلق بهما واقع اللحاظ.

ثم ان هناك موردين يلازم فيهما شيء شيئا آخر ولا ينفك عنه ولا يكون دخيلا فيما رتب على ذلك الشيء الملزوم من أثر وما تعلق به من حكم.

أحدهما : ما تقدم من حمل مثل « نوع » على « الإنسان » المعبر عنه في الاصطلاح ب- « حمل المعقولات الثانوية » فان هذا الحمل بحكم كون موطنه الذهن وان الاتصاف المصحح للحمل وملاكه في الذهن لا الخارج ، كان المحمول عليه هو الحصة الملحوظة كما عرفت خروج اللحاظ عن دائرة المحمول عليه ، وإلاّ لكان جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا.

ثانيهما : الماهيات الجزئية الخارجية ، فان كل ماهية خارجية مباينة لماهية خارجية أخرى ، فالحصة الموجودة بوجود عمر وغير الحصة الموجودة بوجود بكر ، وتحقق جزئيتها انما يكون بالوجود ، فإذا رتب أثر أو علق حكم على الماهية الجزئية الخاصة كان الحكم مترتبا عليها بلا دخل للوجود اللازم لها - إذ بدونه لا

ص: 92

تخصص لها - في ترتبه مع عدم تعديه إلى غيرها من الحصص ، فإذا وضع لفظ زيد للحصة الخاصة كان الموضوع له هو ذات الحصة بلا تقيد بالوجود الملازم لها غير منفك عنها ، إذ قد عرفت ما في تقيد الموضوع له بالوجود. ولا يتعدى الوضع عن هذه الحصة إلى غيرها من الحصص.

ولا يخفى ان ما نحن فيه لا يشابه أحد الموردين.

أما عدم كونه من قبيل الماهيات الجزئية فلان الالتزام به ملازم للالتزام بخصوصية الموضوع له ، وان الموضوع له في الحرف هو الحصص والجزئيات ، وقد عرفت انه لا يلتزم به وينكر عليه.

واما عدم كونه من قبيل حمل المعقولات الثانوية ، فقد عرفت ان هناك فرقا موضوعيا ينتج عن ان اللحاظ المعتبر في الحمل انما هو واقع اللحاظ فلا يتصور فيه التقييد والإطلاق ، بخلاف اللحاظ الآلي والاستقلالي فيما نحن فيه ، فان المراد به مفهوم اللحاظ لا واقعه فكما يتصور الواضع حال الوضع مفهوم الموضوع له ، كذلك يتصور مفهوم اللحاظ الآلي أو الاستقلالي لو أراد جعل الارتباط بينهما ، وحينئذ يقال : انه مع ملاحظة كل من المفهومين - مفهوم الموضوع له ومفهوم اللحاظ - ، وبعد فرض إمكان انفكاكه عن الآخر ، فاما ان يقيد المعنى باللحاظ ، واما ان يضع اللفظ للمعنى مطلقا أو يهمل.

والثالث ، ممتنع لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. والثاني ، يلزم منه الترادف وصحة استعمال كل منهما موضع الآخر وهو ما بصدد التفصي عنه في كلامه. والأول ، ما نفاه وشدد النكير عليه فالالتزام به رجوع عما فرّ منه.

ثم انه قد أورد على صاحب الكفاية رحمه اللّه : بأنه إذا كان الموضوع له في كل من الحرف والاسم واحدا وانما الاختلاف من حيث اللحاظ ، فلازم ذلك حدوث علاقة بين معنى الاسم والحرف وثبوتها بنحو يصح استعمال كل منهما في معنى الآخر مجازا ، بل العلاقة الثابتة أقوى العلاقات ، إذ علقة الاتحاد الذاتي

ص: 93

والماهوي بين المعنيين لا تفوقها العلقة الناشئة عن مناسبة ما بين معنيين يختلفان حقيقة وذاتا ، فإذا صححت هذه الاستعمال المجازي فتصحيح تلك العلاقة بين معنى الاسم والحرف للاستعمال المجازي لكل منهما في معنى الآخر أولى ، مع ان الوجدان قاض باستهجان استعمال الاسم موضع الحرف أو الحرف موضع الاسم ولو مجازا ، وعدم صحته.

ولكن هذا الإيراد لا يخلو عن مناقشة ، فان العلاقة المصححة للاستعمال المجازي إنما تكون إثباتا ونفيا بنظر العرف لا بالنظر الدقي العقلي ، لأن الاستعمالات عرفية فالحكم في تصحيحها بمصحح هو العرف. ومعنى الاسم وان كان في الحقيقة والدقة يتحد مع معنى الحرف إلاّ انه حيث كان عرفا وبالنظر العرفي مباينا لمعنى الحرف لم يصح استعمال أحدهما موضع الآخر مجازا ، وكان ذلك غلطا ومستهجنا لعدم العلاقة المصححة لتباينهما بنظره.

واما المذهب الثاني : فقد عرفت انه يتلخص في ان الحروف لم توضع إلى أي معنى ، بل هي علامات على حالات خاصة تعرض على مدخولاتها ، فهي على هذا كحركات الإعراب غير الموضوعة لأي معنى ، وانما كانت علامات لبعض حالات الاسم والفعل.

وقد نفي هذا المذهب بمنع ما ذكر في المقيس - أعني الحروف - وفي المقيس عليه - أعني حركات الإعراب -. أما منعه في الحروف ، فلأن هناك معان خارجة عن مدلول الأسماء وتفهم عند انضمام الحرف إلى الاسم ، وبعبارة أخرى : انه بضم الحرف إلى الاسم يفهم معنى وخصوصية ما خارجة عن مدلول الاسم ولا تفهم بذكر الاسم وحده ، فيتعين ان يكون الدال عليها هو الحرف ، إذ ليس في الكلام غيره مما يمكن القول بكونه دالا على المعنى.

واما منعه في حركات الإعراب ، فلنفس الوجه ، فانه يستفاد من حركات الإعراب معان وخصوصيات خارجة عن أصل مدلول الاسم. ولذلك يتغير

ص: 94

المعنى بتغيرها وتبدلها وذلك ظاهر جدا.

واما المذهب الثالث ففيه أقوال :

القول الأول : ما اختاره المحقق النائيني (1) رحمه اللّه ، وبيان ما أفاده قدس سره : انه كما ان للعرض الخارجي في مقام قيامه رابط يربط بموضوعه ونسبة ما بينه وبين موضوعه ، كذلك المفاهيم في مرحلة التصور والوجود الذهني لا بد في قيام بعضها ببعض ذهنا من تحقق الربط بينها ، ولا يخفى ان الرابط بين الموجودات الخارجية والمفاهيم خارج عن حقيقة الموجود الخارجي والمفهوم ، فالربط بين زيد والقيام في الخارج ليست حقيقته من سنخ حقيقة زيد والقيام ، فليس له ماهية وتقرر يعرض عليه الوجود كزيد والقيام ، وإلاّ لاحتاج في وجوده إلى رابط يربطه بغيره لعدم صلاحيته للربط حينئذ بل حقيقته لا تخرج عن حد الوجود ، ومن سنخ الوجود. فالنسبة والربط بين زيد والقيام من خصوصيات وجوديهما. وهكذا الربط بين مفهومي زيد والقيام في الذهن فانه ليس من سنخ المفاهيم التي يتعلق بها التصور واللحاظ ، وإلاّ لاحتاج إلى رابط يربطه بغيره ، إذ يكون حينئذ كغيره من المفاهيم فلا يصلح للربط ، وانما هو من سنخ اللحاظ والتصور ومن خصوصيات لحاظ المفهومين.

وبالجملة : كما ان النسبة الخارجية - أعني النسبة بين الموجودين خارجا - لا تخرج عن حد الوجود وليس لها ماهية يعرض عليها الوجود ، كذلك النسبة الذهنية - أعني النسبة بين المفهومين ذهنا - لا تخرج عن حد اللحاظ وليس لها مفهوم يتعلق به اللحاظ والتصور ، فصح حينئذ ان يعبر عن النسبة الذهنية بالنسبة الكلامية بلحاظ انها النسبة بين المفهومين المدلولين للكلام وانه لا واقع لها إلاّ الكلام ، حيث انه لا تقرر لها في نفسها ولا وجود لها قبل وجود المفهومين.

ص: 95


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 16 - الطبعة الأولى.

فالذي وضع له الحرف هو النسبة الكلامية ، أعني النسبة بين المفهومين في الذهن والربط الحاصل بينهما ، وبذلك يختلف المعنى الحرفي جوهرا وحقيقة عن المعنى الاسمي ، فان المعنى الاسمي عبارة عن مفهوم له تقرر في وعائه الخاصّ يتعلق به اللحاظ ويعرض عليه التصور ، بخلاف المعنى الحر في فانه من سنخ اللحاظ والتصور لا مفهوم يتعلق به اللحاظ.

وبعبارة أخرى : الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي كالفرق بين الربط الخارجي والموجودات الخارجية. فكما انه لا ماهية للربط الخارجي يعرض عليها الوجود ، بل هو من سنخ الوجود ، كذلك لا مفهوم للنسبة الذهنية والربط الذهني يتعلق به التصور ، بل هو من سنخ التصور.

وبهذا يعلم ان المعنى الحرفي له أركان ثلاثة يختلف بها عن المعنى الاسمي :

الركن الأول : ان المعاني الحرفية إيجادية بخلاف المعاني الاسمية فانها إخطارية.

والوجه فيه : ان المعنى الحرفي كما عرفت هو الربط الذهني بين المفهومين ، وقد عرفت ان الربط الذهني ليس شيئا غير الوجود الذهني ومن أنواعه. وعليه ، فهو غير قابل للانتقال والخطور في الذهن ، بل هو يتحقق في الذهن ويوجد ، بخلاف المعنى الاسمي فان له مفهوما يتعلق به اللحاظ والتصور وله تقرر في وعائه المناسب له. وعليه فهو قابل للخطور في الذهن وتعلق التصور به.

وبهذا البيان يتضح ان سنخ دلالة الحروف على المعاني ليس سنخ دلالة سائر الألفاظ على معانيها ، وبعبارة أخرى : ليس سنخ الدلالة الوضعيّة وهي الدلالة التصورية ، لعدم قابلية المعنى الحرفي للتصور والانتقال ، بل نفس المعنى الحرفي يتحقق بذكر الحرف ويوجد في ذهن السامع ، فإذا قيل : « زيد في الدار »

ص: 96

تحقق اللحاظ الخاصّ في الذهن عند السامع.

وعليه ، فكون المعنى الحرفي إيجاديا يصح ان يكون بلحاظ انه من سنخ الوجود غير القابل للخطور والتصور ، وان يكون بلحاظ انه بذكر الحرف يوجد المعنى ويحدث في ذهن السامع ، لا انه - أي الحرف - يوجب تصور معنى ومفهوم ما والانتقال إليه كغيره من الألفاظ. فهي إيجادية بالنسبة إلى المتكلم بالمعنى الأول وبالنسبة إلى السامع بالمعنى الثاني.

ودلالة الحرف على المعنى في ذهن المتكلم لا تكون من باب دلالة المفهوم على مصداقه والعنوان على معنونه ، بل من باب حكاية الفرد عن الفرد المماثل الآخر ، وهكذا دلالته على النسبة الخارجية والربط الخارجي.

الركن الثاني : ان المعاني الحرفية لا واقع لها بما هي معان حرفية في غير التراكيب الكلامية ، بمعنى انه لا مفهوم لها متقرر في وعائه يتعلق به الوجود الذهني ، بخلاف المعاني الاسمية فانها مفاهيم لها تقرر في عالم المفهومية ، وقد اتضح ذلك ببيان إيجادية الحروف ، فان ذلك لازم كونها إيجادية ومن سنخ الوجود ، فانه لا واقع لها حينئذ غير واقع الوجود ، وليست المعاني الاسمية كذلك ، بل واقعها غير واقع الوجود ، ولذا لا تنعدم بانعدام التصور واللحاظ.

الركن الثالث : ان المعنى الحرفي مغفول عنه وغير ملتفت إليه بخلاف المعنى الاسمي.

ووجهه : ان المعنى الحرفي بعد ان كان من سنخ اللحاظ والتصور وكيفية من كيفياته ولم يكن من المفاهيم المتقررة كان غير قابل لتعلق اللحاظ الاستقلالي به والالتفات إليه ، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلا ومغفول عنه والالتفات إليه ، لأن اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلا ومغفول عنه والالتفات لنفس الملحوظ ، فما يكون من سنخ اللحاظ ومن كيفياته كالنسبة والربط لم يكن قابلا للالتفات كما هو ظاهر جدا.

ص: 97

وقد ذكر المحقق النائيني للمعنى الحرفي ركنا رابعا (1) لا يتعلق لنا بذكره غرض ، ولذلك أرجأناه إلى محله في مبحث الخبر والإنشاء. فانتظر.

وقد ناقش السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في الأركان الثلاثة. فناقش في الركن الثاني ، أعني انها لا واقع لها الا في التراكيب الكلامية.

وقد حمل السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) كلام المحقق النائيني رحمه اللّه على ان الحرف موضوع لإيجاد الربط بين الكلمات التي تتألف منها الجملة ، وان الربط لا يحصل بدون الحرف ويكون الحرف سببا لحدوثه ، ولذلك كان معنى الحرف لا واقع له الا في ضمن التراكيب الكلامية ، لأنه الربط بين اجزاء الكلام. فاستشكل عليه : بان هذا مما لا إشكال فيه وان الألفاظ لا تكون مرتبطة بعضها ببعض الا بواسطة الحرف ، إلاّ ان ذلك باعتبار دلالة الحرف على معنى بذلك المعنى يكون الحرف موجدا للربط ، ونحن في مقام تشخيص ذلك المعنى والكشف عن حقيقته ، فالربط بين الكلمات الّذي هو إيجادي ولا واقع له إلاّ في ضمن التراكيب الكلامية أمر مسبب عن معنى الحرف لا انه هو معنى الحرف.

ثم ذكر بعد ذلك أن المعنى الحرفي سنخ مفهوم ، إلاّ انه غير مستقل يخطر في الذهن بتبع غيره ، وهذا وان لم يوجب كونه إخطاريا - بلحاظ ان الإخطاري ما كان يخطر في الذهن استقلالا وبنفسها - إلاّ انه ليس إيجاديا لكونه ذا تقرر في وعائه قبل ذكر الحرف فليس الحرف موجدا له فلا وجه لفرض كونه إيجاديا باعتبار انه لو لم يكن إيجاديا لكان إخطاريا لتصور الواسطة وان لا يكون المعنى إخطاريا ولا إيجاديا. كما انه يظهر ان ما ذكره من ان المعنى الحرفي لا واقع له في غير التراكيب الكلامية غير سديدة.

هذا ما ذكره السيد الخوئي في مقام مناقشته للركنين الأولين - كما يستفاد

ص: 98


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 21 - الطبعة الأولى.

من تقريرات الفياض - (1).

ولكن المناقشة فيه واضحة بعد ما عرفت من توجيه كلام المحقق النائيني ، فان المحقق النائيني لم يذهب إلى ان معنى الحرف هو الربط بين الكلمات - كما تخيله السيد الخوئي - كي يرد عليه ما ذكر ، بل ذهب إلى ان معنى الحرف هو النسبة والربط بين المفهومين ولما كان هذا من سنخ الوجود كان المعنى الحرفي إيجاديا لا يقبل الخطور أصلا ، كما انه لا يكون له واقع في غير التراكيب الكلامية ، بمعنى انه لا تقرر له في وعاء ما يتعلق به التصور ، بل هو موجود بوجود المفهومين ، وبهذا الاعتبار صح التعبير بأنه لا واقع له في غير التراكيب الكلامية ، بلحاظ المحكي بالكلام وهو المفهوم ، لا بلحاظ نفس الكلام كما توهم ، ولعل هذا التعبير وما يماثله كالتعبير بالنسبة الكلامية هو الّذي أوهم السيد الخوئي بما تقدم منه. ولكن مراده قدس سره غير ما ذكر والتعبير المزبور اصطلاحي يمكن ان يكون بلحاظ المحكي بالكلام من المفاهيم ، إذ واقع النسبة والربط في وجود المفاهيم لأنه كيفية وجودها ، لا بلحاظ نفس الكلام واللفظ.

وبالجملة : لا وجه لما ذكره بعد ملاحظة ما بيناه من مراد المحقق النائيني.

ثم إنه ( حفظه اللّه ) ناقش في الركن الثالث - أعني كون المعنى الحرفي مغفولا عنه - بأنه خلاف الوجدان لأن المعاني الحرفية كثيرا ما يكون اللحاظ الاستقلالي والقصد الأولي متعلقين بإفادتها ويكون ذكر الاسم مقدمة لإفادة تلك الخصوصية والتحصص. فتقول في جواب من سألك عن كيفية ركوب زيد مع العلم بأصل تحققه : انه ركب على الدّابّة أو مع الأمير ونحو ذلك.

ولكن الإشكال فيما ذكره بعد تقرير لزوم الآلية للمعنى الحرفي بما تقدم

ص: 99


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 68 - الطبعة الأولى.

لا يحتاج إلى بيان.

واما الاستشهاد بالمثال المذكور فلا وجه له ، لأنه مع العلم بأصل الركوب يعلم جزما بتحقق نسبة ما بينه وبين شيء آخر من زمان أو مكان أو وسيلة أو صاحب ونحو ذلك ، فالسؤال في الحقيقة عن طرف النسبة الآخر المجهول لا عن النسبة كي يكون الجواب ناظرا إلى بيانها المقتضي لتعلق اللحاظ الاستقلالي ، فلا يصلح المثال للاستشهاد على ما ادعاه.

نعم هناك مثال آخر اقرب للاستشهاد مما ذكره ، وهو ما إذا رأينا شخصا في طريق بين البصرة والكوفة ولم نعلم انه آت من البصرة أم ذاهب إليها؟ فنسأله : « أمن البصرة أم إليها » فان السؤال هاهنا يتعين ان يكون عن النسبة بين السير والبصرة وانها النسبة الابتدائية أو الانتهائية لا عن أحد الطرفين للعلم بهما والمجهول هو النسبة كما هو ظاهر. ولكن هذا المثال قابل للمناقشة كسابقه لوجهين :

الأول : ما هو المقرر في علم العربية من تعلق الجار بعامل مقدر ، فالسؤال عنه لا عن النسبة.

الثاني : إنه بعد ان عرفت ان النسبة من المعاني الآلية المغفول عنها حال الاستعمال - والمعنى الحرفي انما كان كذلك باعتبار انه النسبة والربط - سواء كان الحرف موضوعا لها أو لم يكن - وهو أمر لا كلام فيه - ، امتنع أن يتعلق بها الالتفات واللحاظ الاستقلالي ، فلا بد من حمل ما ظاهره تعلق الالتفات بالنسبة - كالمثال لو سلم ذلك - على غير ظاهره مما يتلاءم مع ما يقتضيه حال النسبة والربط.

وبالجملة : فالإيراد المذكور على الالتزام بآلية النسبة والغفلة عنها الّذي هو أمر لازم لواقع النسبة ولا ينكره أحد حتى من لا يقول بوضع الحرف لها ، ولا يكون إيرادا على الالتزام بوضع الحرف للنسبة ، لأن السؤال في المثال

ص: 100

عن نفس النسبة الحاصلة بين الطرفين بلا لحاظ انها معنى الحرف أو غيره.

وعليه ، فإذا ثبت بالبرهان القطعي عدم قابلية النسبة للالتفات ، فلا بد من توجيه المثال بما لا يتنافى مع مقتضى البرهان. فتدبر.

ثم انه لا ينافي ما ذكرناه من آلية المعنى الحرفي - النسبة - والغفلة عنها تعلق القصد والغرض بها نفسها حال الاستعمال ، إذ تعلق الغرض بما يكون آلة وطريقا لا يكاد ينكر كما يتعلق بالنظارة أو المرآة فيما لو قصد معرفة جنسها وكيفية كشفها.

وجه عدم المنافاة : ان تعلق الغرض بما لا يقبل اللحاظ الاستقلالي لا يقتضي تعلق اللحاظ الاستقلالي به كي يتنافى مع فرضه ليس كذلك ، بل يمكن تعلق الغرض به مع عدم انفكاكه عن الآلية وعدم الالتفات الاستقلالي ، وذلك نظير « النظارة » فان الغرض بوضعها على العينين للرؤية وان لم يتعلق بنفس الرؤية وانما تعلق بها لمعرفة جودتها ورداءتها في مقام الرؤية ، إلاّ أنها في مقام الاستعمال لا تكون ملحوظة استقلالا ، بل الملحوظ بالاستقلال انما هو المرئي وهي مغفول عنها حال الرؤية والاستعمال وان تعلق بها الغرض ، إذ الجودة والرداءة تعرف بالتجربة بالرؤية والاستعمال.

وبالجملة : إذا كان المعنى آليا وغير ملتفت إليه حال الاستعمال ، فتعلق الغرض به حال الاستعمال لا ينافي آليته وعدم لحاظه بالاستقلال ، بل الغرض يتعلق به بهذا النحو - أي بنحو استعماله وهو الاستعمال باللحاظ الآلي لا الاستقلالي - ، وبعبارة أخرى : الغرض أمر يترتب على الاستعمال بواقعه وبنحوه ، فلا يقتضي تغيير نحو الاستعمال ، إذ لا يتنافى حينئذ مع طور الاستعمال كيف ما كان. فالغرض من استعمال النظارة يترتب عليه وهو لا يكون إلاّ باللحاظ الآلي ولا يتنافى ذلك مع تعلق الغرض به.

وقد ناقش المحقق العراقي اختيار المحقق النائيني إيجادية المعنى الحرفي

ص: 101

بوجوه أربعة :

الأوّل : ان المعاني التي تتصورها النّفس اما ان تكون مرتبطة بعضها ببعض أو غير مرتبطة ، فما تصورته النّفس فلا يعقل احداث الربط بين اجزائه لأنه تحصيل للحاصل. وما تصورته غير مرتبط لم يعقل احداث الربط فيه لأن الموجود لا ينقلب عما هو عليه. نعم يمكن ان ينفي ويحدث في اثره وجود آخر بخصوصية أخرى. وعليه فلو أراد المتكلم إفادة السامع مفاد : « زيد في الدار » ، فحين تلفظه ب- « زيد » يتصور السامع مفهومه مستقلا لعدم علمه بعد بالربط وبمفاد الجملة. فإذا تلفظ في اثره ب- « في الدار » فلا يخلو مدعي إيجادية الحرف من ان يلتزم بأحد أمرين : اما احداث الربط في الموجود غير المرتبط وقد عرفت امتناعه. أو احداث موجود آخر مرتبط غير المتصور الأول وهو خلاف الوجدان.

الثاني : ان الهيئات الدالة على معنى لا بد وان يكون مدلولها معنى حرفيا ، وعلى فرض كون المعنى الحرفي إيجاديا يلزم ان يكون معنى الهيئة متقدما في حال كونه متأخرا وبالعكس وهو خلف. وبيان ذلك : ان الهيئة التي تطرأ على المادة متأخرة بالطبع عن المادة التي مدلولها معنى اسمي ، وبما انها دالة عليه تكون متأخرة عنه تأخر الدال عن المدلول. وعليه فتكون الهيئة متأخرة عن المعنى الاسمي برتبتين لتأخرها عن المادة المتأخرة عن المعنى الاسمي. وبما ان الهيئة توجد معناها في المعنى الاسمي كان معناها متأخرا عنها تأخر المعلول عن علته. وعليه فالمعنى الحرفي متأخر عن المعنى الاسمي بثلاث رتب ، وبما انه مقوم لموضوعه وهو المعنى الاسمي لأنه من خصوصيات وجوده لزم كونه في رتبته فهو في نفس الوقت متأخر ومتقدم.

الثالث : انه لو التزم بإيجادية المعنى الحرفي لزم ان يكون معنى الحرف في حيز الطلب وصقعه لا في حيز المطلوب وصقعه ، لأنه يوجد باللفظ كالطلب

ص: 102

فيكون متحققا حال تحقق الطلب وظاهر تأخر الطلب عن المطلوب رتبة لعروضه عليه ، فعليه يلزم ان يكون المعنى الحرفي متقدما ومتأخرا في حال واحد ، لأنه بملاحظة كونه موجودا مع الطلب كان في رتبة الطلب ومتأخرا عن المطلوب ، وبملاحظة كونه من قيود المطلوب كان متقدما على الطلب وفي رتبة المطلوب وهو خلف.

الرابع : ان كل لفظ سواء كان ذا مدلول افرادي ك- : « زيد » ، أو ذا مدلول تركيبي ككل كلام يدل على معنى مركب تام ك- : « زيد قائم » أو ناقص ك- : « غلام زيد ». لا بد ان يكون له مدلول بالذات وهو المفهوم الّذي يحضر في الذهن عند سماع اللفظ ، ومدلول بالعرض وهو ما يكون المفهوم فانيا فيه مما هو خارج عن الذهن. وهذه الدلالة والمدلول هما المقصودان بالوضع والاستعمال وتأليف الكلام والمحاورة به دون الأول ، ولو التزم بإيجادية معنى الحرف لزم ان ينحصر مدلول الكلام بالعرض في المعاني الإفرادية التي لا يحصل بها شيء من الإفادة والاستفادة.

وذلك : لأن كل كلام لا بد ان يشتمل على نسبة ما وهي التي يحصل بها الربط بين مفرداته. فاما مفرداته فهي بما انها معان اسمية إخطارية يكون لها مدلول بالذات وهو مفهومها ومدلول بالعرض وهو ما يفنى فيه ذلك المفهوم مما هو خارج عن الذهن وهو المعنى الأفرادي. واما النسبة التي تربط تلك المفردات فهي بما انها من المعاني الحرفية الإيجادية حسب الفرض لا يكون لها إلاّ مدلول بالذات وهو الوجود الرابط بين المعاني الاسمية. وعليه لا يكون لشيء من الكلام دلالة يصح السكوت عليها ويحصل بها التفاهم أصلا وهو خلاف الضرورة والوجدان.

هذه هي الوجوه الأربعة ، وقد ذكرناها بنفس عبارة تقريرات بحثه

ص: 103

بتصرف قليل (1) ، إلاّ ان كلا منها لا يخلو عن خدش :

اما الأوّل : فلان الربط كما عرفت من خصوصيات نفس اللحاظ والتصور. وعليه فبذكر لفظ « زيد » يتحقق تصوره ولحاظه بلا أي تقيد ، وبعد ذكر « في الدار » تضاف إلى ذلك اللحاظ والوجود الذهني خصوصية ، وذلك لا يستلزم أحد المحذورين المذكورين لأنه ليس بإحداث موجود مرتبط جديد كما لا يخفى ولا إيجادا للربط في الموجود غير المرتبط ، لأن الربط من خصوصيات الوجود لا الموجود كما عرفت ، وانما هو إضافة خصوصية إلى الوجود ، فهو نظير حدوث الأوصاف على الوجود الخارجي فانها ليست إحداثا لموجود غير الأول كما انها ليست إحداثا لربط في غير المرتبط فلاحظ.

وأما الثاني : فلان المعنى الحرفي ليس مقوما لموضوعه كي يدعى انه في رتبته ، بل هو من خصوصيات وجود المعنى الاسمي الذهني وطوارئه. وعليه فلا بد من فرض وجود معنى اسمي يتعلق به اللحاظ الخاصّ فهو متأخر رتبة عن المعنى الاسمي لا محالة ، فلا يلزم تقدمه أو تأخره على نفسه بثلاث رتب.

وأما الثالث : فلأن تقدم المطلوب على الطلب انما هو في ذهن الآمر المتكلم ، وقد عرفت ان الحروف ليست بموجودة لمعانيها ومحدثة لها في ذهنه ، وانما هي موجدة لها في ذهن السامع وليس المطلوب في ذهنه متقدما رتبة على الطلب. فلا يلزم تقدم المعنى الحرفي على نفسه ولا تأخره كما ادعى ، لأنه وان كان في صقع الطلب بالنسبة إلى السامع إلاّ انه لا تقدم للمطلوب على الطلب في ذهنه ، وأما بالنسبة إلى المتكلم فهو ليس في صقع الطلب لأنه متحقق قبل التلفظ.

وأما الرابع : فلما عرفت من اختلاف دلالة الحروف عن دلالة الأسماء ،

ص: 104


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 43 - 45 - الطبعة الأولى.

فان الأسماء توجب خطور معانيها في الذهن وتحكي عن الخارج حكاية الكلي عن فرده ومصداقه وما ينطبق عليه. بخلاف الحروف ، فان دلالتها على النسبة الخارجية بواسطة النسبة الذهنية من باب دلالة الفرد عن الفرد المماثل له ، فللحرف مدلول بالعرض إلاّ انه بهذه الكيفية من الدلالة لا بكيفية دلالة الأسماء.

والمتحصل : عدم نهوض أي إيراد من هذه الإيرادات.

القول الثاني : ما اختاره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، ومحصله : ان المعنى الحرفي والاسمي متفاوتان ومختلفان بحسب ذاتيهما وحقيقتهما ، والفرق بينهما كالفرق بين الوجود في نفسه والوجود لا في نفسه ، أعني الوجود الرابط في قبال الوجود المحمولي.

وبيان ذلك : ان الفلاسفة - كما قيل - قسموا الوجود إلى أقسام أربعة :

الأول : الوجود في نفسه ولنفسه وبنفسه وهو وجود الواجب تعالى شأنه ، فانه موجود قائم بذاته وليس معلولا لغيره.

الثاني : الوجود في نفسه ولنفسه ولكن بغيره وهو وجود الجوهر ، فانه قائم بذاته ولكنه معلول لغيره.

الثالث : الوجود في نفسه ولكن لغيره وهو وجود العرض ، فانه غير قائم بذاته بل متقوم بموضوع في الخارج ، فلا يعقل وجود عرض بدون موضوع متحقق في الخارج. ويعبر عن هذا القسم في الاصطلاح بالوجود الرابطي.

الرابع : الوجود لا في نفسه وهو المعبر عنه بالوجود الرابط في قبال الوجود الرابطي ، وهو وجود النسبة والربط ، فان حقيقة النسبة لا توجد في الخارج إلاّ بتبع وجود المنتسبين بلا استقلال لها أصلا. فهي بذاتها متقومة بالطرفين لا في وجودها. بخلاف العرض فانه بذاته غير متقوم بموضوعه ، وانما ذلك - أعني التقوم بموضوع - من لوازم وجوده وضرورياته.

وقد استدل بتحقق الوجود الرابط خارجا ، بأنا قد نتيقن بوجود الجوهر

ص: 105

كزيد والعرض كالقيام ، ولكن نشك في ثبوت العرض المقطوع وجوده للموضوع المقطوع وجوده أيضا. ومن البديهي لزوم تغاير متعلق الشك واليقين لأنهما ضدان فاتحاد متعلقهما يستلزم اجتماع الضدين في واحد وهو محال.

وعليه ، ففرض تعلق الشك في ارتباط العرض بالمعروض مع اليقين بوجودهما يكشف عن كون متعلق الشك وهو الربط والنسبة ذا وجود غير وجود الطرفين ، وبذلك يثبت تحقق القسم الرابع من الوجود خارجا.

والّذي التزم به المحقق الأصفهاني قدس سره : هو ان المعنى الحرفي كالوجود الرابط في كونه معنى متقوما بالطرفين لا وجود ولا تحقق له الا في ضمن طرفين وليس له وجود منحاز عن وجوديهما. إلاّ ان نقطة الاختلاف بينهما هو ان المعنى الحرفي موطنه الذهن والوجود الرابط موطنه الخارج.

بل يصح ان يقال : ان المعنى الحرفي قسم من الوجود الرابط وهو الوجود الرابط في الذهن القائم بمفهومين الّذي يعبر عنه في طي كلماته بالنسبة والربط بين المفاهيم ، دون الوجود الرابط في الخارج المعبر عنه بالنسبة الخارجية ، والّذي يشهد على ان اختياره كون المعنى الحرفي الربط الذهني ما ذكره في كتابه « الأصول على النهج الحديث » من ان الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي كالفرق بين الوجود الرابط والمحمولي. وما ذكره في نهاية الدراية من توهين تنظيرهما بالجوهر والعرض لأن العرض موجود في نفسه لغيره ، وكون الصحيح تنظيرهما بالوجود المحمولي والوجود الرابط لا الرابطي ، كما انه كان يصرح بذلك في مجلس درسه (1).

وأورد عليه المحقق الخوئي ( حفظه اللّه ) بوجهين :

ص: 106


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث /24- 22 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي - نهاية الدراية 1 - 16 - 19 - الطبعة الأولى.

الأول : انه لو سلمنا تحقق وجود للرابط والنسبة خارجا غير وجود الجوهر والعرض ، فلا نسلم وضع الحروف والأدوات لها ، لما تقدم امتناع الوضع للموجودات الذهنية والخارجية وتعين وضع الألفاظ لذوات المفاهيم والماهيات ، لأن المقصود من الوضع هو التفهيم ، والتفهيم بحصول صورة المعنى في الذهن باستعمال اللفظ ، والموجود الخارجي لا يقبل الإحضار في الذهن لأنه خلف كونه خارجيا ، والموجود الذهني غير قابل للإحضار ثانيا لأن الموجود الذهني لا يقبل وجود ذهنيا آخر.

وعليه ، فيمتنع الوضع للموجود خارجيا كان أو ذهنيا للغويته وعدم ترتب أثر الوضع عليه.

الثاني : انه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا إمكان الوضع للموجود بما هو موجود ، فلا نسلم وضع الحرف للنسبة ، لاستعماله بلا مسامحة في موارد يمتنع فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد « هل » البسيطة. فلا فرق بين قولنا : « الوجود للإنسان ممكن » و « لله تعالى ضروري » و « لشريك الباري مستحيل » ، فان كلمة « اللام » مستعملة في جميع هذه الأمثلة على نسق واحد بلا عناية في أحدها ، مع انه يستحيل فرض استعمالها في النسبة في بعضها حتى بمفاد كان التامة ، لعدم تحقق أي نسبة بين الواجب وصفاته ، لأن النسبة انما تتحقق بين ماهية ووجودها نظير « زيد موجود » ، فلاحظ (1).

ولكن الحق عدم ورود كلا الوجهين :

أما الأول : فلان امتناع وضع اللفظ للموجود مما أسسه المحقق الأصفهاني والتزم به وقربه بما تكرر من : « ان المقابل لا يقبل المقابل والمماثل لا يقبل المماثل ». إلا ان ذلك يختص بالأسماء دون الحروف ، فانه التزم بكون

ص: 107


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 76 - الطبعة الأولى.

الموضوع له فيها هو الوجود الذهني ، والإيراد المزبور يدفع بما أشرنا إليه من أن دلالة الحروف وحكايتها تختلف عن دلالة الأسماء ، فانها من قبيل دلالة المماثل على المماثل ، فلا يرد فيه المحذور.

واما الثاني : فلأنه يبتني على أخذ الموضوع له هو الوجود الخارجي ، وقد عرفت خلافه وان الموضوع له هو الربط الذهني فلا يرد عليه الإشكال ، لأن عروض النسبة بين الذات المقدسة والوجود انما يستحيل في الخارج ، وأما في الذهن وعروضها بين المفاهيم المتصورة عنهما ، فلا امتناع فيه. والربط الذهني قوامه بالمفاهيم لا بالوجودات الخارجية.

ثم انه ( حفظه اللّه ) استشكل في أصل تحقق قسم رابع في الخارج يعبر عنه بالوجود الرابط وحكم : بان الصحيح عدم وجود للربط والنسبة خارجا قبال وجود الجوهر والعرض - وعليه فينهدم أساس هذا الاختيار ، أعني اختيار وضع الحرف للنسبة - ، والوجه في ذلك عدم وجود الدليل عليه سوى ما ذكر من البرهان وهو غير تام ، وذلك : لأن صفتي اليقين والشك وان كانتا متضادتين فلا يكاد يمكن ان تتعلقا بشيء في آن واحد من جهة واحدة. إلاّ ان تحققهما في الذهن لا يكشف عن تعدد متعلقهما في الخارج ، فان الطبيعي عين فرده ومتحد معه خارجا ، ومع ذلك يمكن ان يكون أحدهما متعلقا لصفة اليقين والآخر متعلقا لصفة الشك ، كما إذا علم إجمالا بوجود إنسان في الدار ولكن شك في انه زيد أو عمرو ، فلا يكشف تضادهما عن تعدد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي ، فانهما موجودان بوجود واحد حقيقة ، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى الطبيعي متعلق اليقين. ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك. أو إذا أثبتنا ان للعالم مبدأ ولكن شككنا في انه واجب أو ممكن ، على القول بعدم استحالة التسلسل فرضا. أو أثبتنا انه واجب ولكن شككنا في انه مريد أولا ، إلى غير ذلك. مع ان صفاته تعالى عين ذاته خارجا وعينا كما ان وجوبه كذلك.

ص: 108

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض للجوهر والشك متعلق بثبوت حصة خاصة منه له ، فليس هنا وجودان أحدهما متعلق لليقين والآخر للشك ، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن فيه من جهة أخرى. وتلخص ان تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلا تعدد متعلقهما في أفق النّفس ، واما في الخارج عنه فقد يكون متعددا وقد يكون واحدا. انتهى كلامه كما جاء في تقريرات بحثه للفياض (1).

القول الثالث : - وهو ما اختاره المحقق العراقي - وقد أطال قدس سره في بيان دعواه ، وحاصل اختياره : - بعد ان قرر التغاير الذاتي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وأنكر على الرّأي القائل باتحادهما في الذات والحقيقة ، وان التغاير بينهما في مرحلة الاستعمال من جهة اللحاظ الاستقلالي واللحاظ الآلي - ان الحروف موضوعة للاعراض النسبية ، وهي الاعراض المتقومة في وجودها إلى طرفين - كالأبوة والبنوة - ، فلفظ « في » - مثلا - موضوعة للظرفية المتقومة بالظرف والمظروف ، و « من » موضوعة للابتداء المتقوم بالمبتدإ والمبتدأ منه.

وأفاد : بان الموضوع إلى نفس الربط والنسبة هو الهيئة التركيبية دون الحروف ، فانها موضوعة إلى المعنى النسبي المعبر عنه في الاصطلاح بالوجود الرابطي.

وبذلك يندفع ما قد يرد من : ان المعاني الإفرادية تحتاج في إفادة المعنى التركيبي الجملي إلى رابط يربط بعضها ببعض ، فإذا كان معنى الحرف نفس العرض النسبي احتاج الكلام إلى رابط يربط بعض اجزائه ببعض ، لعدم صلاحيته للربط إذا كان معناه نفس العرض ، فما الّذي يكون الرابط إذن ان

ص: 109


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 75 - الطبعة الأولى.

لم يكن الحرف؟ ، فانه بما أفاده يتبين ان ما يؤدي وظيفة الربط هو الهيئة التركيبية وقد قرّب قدس سره هذه الدعوى - كما في تقريرات بحثه - بما نصه : « والسيرة العقلائية حسب الاستقراء تدل على ان العقلاء لم يهملوا معنى من المعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة ، من حيث جعل الطريق لها والكاشف عنها وهو الكلام. ولا يخفى ان المعاني الحرفية من أهم المعاني التي يحتاج الإنسان إلى الدلالة عليها في مقام الإفادة والاستفادة. وأيضا حسب الاستقراء والفحص عما يدل من الألفاظ الموضوعة على المعاني المذكورة ، قد وجدنا الأسماء تدل على الجواهر وجملة من الاعراض ، ووجدانا الحروف تدل على جملة الاعراض الإضافية النسبية ، ووجدنا الهيئات سواء كانت من هيئات المركبات أم من هيئات المشتقات تدل على ربط العرض بموضوعه ، مثلا لفظ « في » يدل على العرض الأيني العارض على زيد في مثل قولنا : « زيد في الدار » وهيئة مثل « عالم » و « أبيض » و « مضرب » تدل على ربط العرض بموضوع ما وكذلك بقية الحروف تدل على إضافة خاصة وربط مخصوص بين المفاهيم الاسمية » (1).

والّذي يتحصل من مجموع كلامه ، ان الهيئات موضوعة للربط والنسبة بين العرض ومحله. والحروف موضوعة للاعراض الإضافية النسبية.

وبذلك يتفق مع المحققين النائيني والأصفهاني في جهة - وهي جهة وضع الهيئات - ويختلف معهما في أخرى - وهي جهة وضع الحروف - وذلك واضح.

والّذي يرد عليه أولا : ان المعنى الحرفي إذا كان هو العرض النسبي فهو لا يفترق عن المعنى الاسمي أيضا ، إذ يكون المعنى الموضوع له لفظ « في » ولفظ « الظرفية » واحد وهو العرض النسبي ، وهو يناهض الوجدان الحاكم بثبوت

ص: 110


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 49 - الطبعة الأولى.

الفرق بين معنى اللفظين ، فان العرف يرى فرقا شاسعا بين معنييهما عند إلقاء الكلام إليه ، ويرى ان الاعراض التسع بجملتها النسبية من الوجودات المستقلة في ذاتها وانها من المعاني الاسمية.

وثانيا : انه لا يظهر هناك فرق ذاتي بين الاسم والحرف في المعني ، فان لفظ الابتداء لم يوضع لسوى الابتداء الّذي يكون من الاعراض النسبية والموضوع له الحرف. فما قرره للحرف من معنى لا يخلو عن مناقضة لما أفاده في صدر كلامه من وجود الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والحرفي.

وعلى أي حال ، فما أفاده قدس سره في معنى الحرف وتقريبه دون مقامه العلمي الرفيع وفكره السامي الدّقيق.

وقد أورد عليه السيد الخوئي بثبوت استعمال الحرف في موارد يستحيل تحقق العرض النسبي فيه كالواجب تعالى ، كقوله تعالى شأنه : ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (1) ، ومثل : « اللّه عالم بكذا » فان اتصاف الذات المقدسة بالعرض النسبي مما لا إشكال في امتناعه ، فلو بنى على وضع الحرف للعرض النسبي يدور الحال في مثل هذه الاستعمالات بين الالتزام بعدم صحة الاستعمال والالتزام بمجازيته وكونه استعمالا مسامحيا ، وكلاهما خلاف الضرورة العرفية ، فان العرف لا يرى في هذا الاستعمال اية مسامحة وتجوز ، ويرى ان استعمال الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ أيّة عناية ولا رعاية علاقة ومناسبة مما يكشف عن كون الموضوع له الحروف معنى آخر غير ما ذكره ، وإلاّ لاختلف الاستعمال حقيقة وتجوزا باختلاف موارده كما لا يخفى (2).

إلاّ ان الإنصاف أن هذا الإيراد لا يوجب الانصراف عن الالتزام بهذا

ص: 111


1- سورة طه ، الآية : 56.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 79 - الطبعة الأولى.

القول لأنه يرد على غيره ، وهو ما التزم به نفس المورد - أعني السيد الخوئي - كما سيتضح فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى ، ولا يختص به. كما انه لا يختص بهذه الناحية ، بل هو ثابت من ناحية أخرى وهي نفس النسبة والربط فانه مما يمتنع في حق الواجب لتقومها باثنين ، ولا اثنينية بين الصفة والذات المقدسة. فلا بد من إيجاد الحل له ، وبذلك يندفع الإيراد ولا يبقى لذكره مجال. مضافا إلى ان ما يطلق في أكثر الموارد المذكورة هو الهيئة التي ترد في الصفات دون الحروف ، فانها قلّ ما تتعلق بطرفين أحدهما الذات الواجبة ، ولا يلتزم قدس سره بوضع الهيئة للعرض النسبي إذ يرى اختصاص ذلك بالحروف فلا يتجه الإيراد المزبور

القول الرابع : - وهو اختيار السيد الخوئي ( دام ظله ) - وقد قرره بقلمه في تعليقته على تقريراته لبحث أستاذه النائيني قدس سره ، فقال : « والتحقيق ان يقال : ان الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها ، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية ، بل التضييق انما هو في عالم المفهومية وفي نفس المعاني ، كان له وجود في الخارج أو لم يكن ، فمفاهيمها في حد ذاتها متعلقات بغيرها ومتدليات بها قبال مفاهيم الأسماء التي هي مستقلات في أنفسها ، توضيح ذلك : ان كل مفهوم اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته ، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيات المنوعة أو المنصفة أو المشخصة. أو بالقياس إلى حالات شخص واحد ، ومن الضروري ان غرض المتكلم كما يتعلق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلق بإفادة حصة خاصة منه ، كما في قولك : « الصلاة في المسجد حكمها كذا ». وحيث ان حصص المعنى الواحد فضلا عن المعاني الكثيرة غير متناهية ، فلا بد للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصص المعنى وتقيده ، وليس ذلك إلاّ الحروف والهيئات الدالة على النسب الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة الإضافة أو التوصيف ، فكلمة : « في » في قولنا : « الصلاة في المسجد » لا تدل الا

ص: 112

على ان المراد من الصلاة ليس هي الطبيعة السارية إلى كل فرد بل خصوص حصة منها ، سواء كانت تلك الحصة موجودة في الخارج أم معدومة ، ممكنة كانت أم ممتنعة ، ومن هنا يكون استعمال الحروف في الممكن والواجب والممتنع على نسق واحد وبلا عناية في شيء منها. فتقول : « ثبوت القيام لزيد ممكن » و « ثبوت العلم لله تعالى ضروري » و « ثبوت الجهل له تعالى مستحيل » فكلمة « اللام » في جميع ذلك يوجب تخصص مدخوله فيحكم عليه بالإمكان مرة وبالضرورة أخرى والاستحالة ثالثة. فما يستعمل في الحرف ليس إلاّ تضييق المعنى الاسمي من دون لحاظ نسبة خارجية حتى في الموارد الممكنة ، فضلا عما يستحيل فيه تحقق نسبته كما في الممتنعات وفي أوصاف الواجب تعالى ونحوهما » (1).

وقد ذكر الفياض في تقريرات بحثه : ان السبب في اختيار هذا القول أمور أربعة :

الأول : بطلان سائر الأقوال.

الثاني : ان المعنى المشار إليه يشترك فيه جميع الموارد الاستعمال الحرف من الواجب والممكن والممتنع. على نسق واحد ، وليس في المعاني ما يكون كذلك.

الثالث : انه نتيجة ما سلكناه في حقيقة الوضع من انه التعهد ، ضرورة ان المتكلم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.

الرابع : موافقة ذلك للوجدان والارتكاز العرفي ، فان الناس يستعملونها لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها ، وعن إمكان تحقق النسبة بينها أو عدم إمكانها ، ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك يكذبها صريح الوجدان والبداهة. فهذا يكشف كشفا

ص: 113


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 18 - الطبعة الأولى.

قطعيا عن ان الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره (1).

ولا بد من التكلم فيما ذكره من جهات :

الأولى : في انه هل يمكن تصحيح كلامه بغير إرجاعه إلى ما أفاده المحققان النائيني والأصفهاني ، بحيث يكون المراد به أمرا معقولا غير ذاك ، أو انه لا يصح إلاّ بفرض كون المراد به ذاك المعنى دون غيره.

الثانية : في بيان صحة ما رتب عليه من الأثر.

الثالثة : في بيان صحة الدليل الّذي تمسك به وعدمها.

أما الجهة الأولى : فالحق انه لا يتصور لكلامه معنى معقول غير ما أفاده المحقق النائيني ، بيان ذلك : بعد العلم بان ما ورد في تقرير الفياض من التعبير بالوضع للحصة الخاصة غير مراد قطعا ، لأن الحصة لا تخرج بالتحصص عن المفهومية الاسمية ، وانما المراد الوضع للتضييق والتحصيص ونحوهما مما هو خارج عن ذات الحصة كما هو صريح كلامه في تعليقته - ان التضييق من الأفعال التسبيبية التوليدية التي تتحقق بأسبابها بلا توسيط الإرادة والاختيار في تحققها ، بل الإرادة انما تتعلق بنفس السبب نظير نسبة الإحراق إلى الإلقاء ، وهو - أعني التضييق - مسبب عن الربط والنسبة بين المفهومين بلا اختيار. فالتضييق على هذا مسبب ، والخصوصية والربط سبب ، ولا يمكن حصول التضييق بدون حصول الربط والنسبة بين المفهوم ومفهوم آخر ، فما لم تحصل النسبة بين زيد والدار لا يتضيق مفهوم زيد.

وعليه ، فمراد السيد الخوئي من وضع الألفاظ الحرفية لتضييق المعاني والمفاهيم الاسمية ، ان كان هو وضعها للمسبب - أعني نفس التضييق - دون السبب فهو غير معقول ، لأن الحرف اما ان يوضع لمفهوم التضييق أو لمصداقه

ص: 114


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 84 - الطبعة الأولى.

وواقعه.

ويبطل الأول - أعني الوضع لمفهوم التضييق - وضوح التباين بين ما يفهم من الحرف ومفهوم التضييق بنظر العرف ، مع استلزام الوضع له الترادف بين اللفظين في المعنى ، مضافا إلى ان مفهوم التضييق من المفاهيم الاسمية التي يتعلق بها اللحاظ أصالة واستقلالا.

ويبطل الثاني - أعني الوضع للمصداق - وجوه :

الأول : ما أشرنا إليه من امتناع الوضع بإزاء الوجود ، لكون الغرض منه تحقق انتقال المعنى عند إلقاء اللفظ ، والوجود خارجيا كان أو ذهنيا لا يقبل الانتقال ويأبى الوجود الذهني من باب ان المقابل لا يقبل المقابل أو ان المماثل لا يقبل المماثل. فيمتنع الوضع بإزاء مصداق التضييق الّذي هو فعل خارجي.

الثاني : أن الوضع كذلك لا يتلاءم مع الحكمة الداعية إلى الوضع - أعني وضع الحرف - ، إذ الغرض منه هو التمكن من تفهيم الحصة الخاصة من المفهوم الاسمي العام ، ولا يخفى ان الغرض لا يتعلق إلاّ بتفهيم ذات الحصة بلا دخل لعنوان تحصصها وتضيقها إذ لا يترتب الأثر على ذلك ، وعليه فمقتضى الحكمة وضع الحرف لنفس الخصوصية الموجبة للتضييق كي يحصل تفهيم الحصة الخاصة من مجموع الكلام وبضميمة الاسم إلى الحرف ، لا الوضع لنفس التضييق والتحصيص فإنه خارج عن دائرة الغرض والداعي.

الثالث : انه لو كان الموضوع له الحرف نفس المصداق لزم تحقق الترادف بين لفظ الحرف وبين الألفاظ الاسمية الدالة على مصداق التضييق ، فيكون لفظ : « في » مرادفا للفظ : « مصداق التضييق » وحصة منه. والوجدان قاض بعدم الترادف وكون المفهوم من أحدهما يختلف عن المفهوم من الآخر (1).

ص: 115


1- هذا الإيراد لا يختص بهذا القول ، بل يجري بناء على ما التزم به النائيني أيضا ، فان لازم الالتزام بان الحرف موضوع لواقع النسبة تحقق الترادف بين الحرف وما يدل على واقع النسبة من لفظ : « واقع النسبة » ونحوه ، ولا إشكال في فساده. والحل : هو ان كل لفظ يشار به إلى واقع النسبة ونفس المعنى الخارجي موضوع لمفهوم كلي كمفهوم واقع النسبة أو مصداقها ونحوه ، وهكذا الحال في مصداق التضييق ، ولم يوضع للفرد الخاصّ من النسبة ، وانما الموضوع له هو لفظ الحرف فقط ، فلا يلزم الترادف حينئذ بين لفظ الحرف ولفظ المصداق ونحوه ، مما لم يوضع إلى واقع المصداق وخارجه ، بل إلى مفهومه المنطبق على كثيرين ، فلا يتفق معناه مع معنى الحرف ، فإن الأول مفهوم اسمي فلاحظ.

الرابع : ان المعنى الاسمي والمفهوم العام لا يخرج عن الاسمية بالتحصص والوجود ، وإلاّ لزم ان يكون جميع المصاديق من المعاني الحرفية ، فوضع الحرف لمصداق التضييق والتحصيص لا يوجب كون المصداق من المعاني الحرفية بعد ان كان مفهومه من المعاني الاسمية. وما هو المائز بينه وبين المعنى الاسمي؟ ومجرد الوضع له لا يكون سببا لكونه معنى حرفيا ومائزا بينه وبين المعنى الاسمي كما لا يخفى.

والحاصل ، ان فرض وضعها للمسبب وهو التضييق مفهوما ومصداقا لا يعرف له وجه وجيه أصلا.

وان أراد وضعها للسبب ، أعني نفس الربط والنسبة - كما قد يظهر من بعض عبارة التقريرات - فهو عبارة أخرى عما قرره أستاذه النائيني ، ولا يكون الاختلاف بينهما الا بالتعبير والبيان.

واما الجهة الثانية : فالتحقيق ان ما رتبه على دعواه من صحة عموم استعمالات الحروف حتى في الموارد غير القابلة للنسبة والربط كصفات الباري ، بدعوى : ان الحرف على هذا موضوع للتضييق وهو يتعلق بالمفاهيم لا بالوجودات كي يتوقف - كالنسبة - على تعدد الوجود الممتنع في ذات الواجب وصفاته. غير تام ، اما مع الالتزام بان الموضوع له هو نفس السبب وهو الربط فواضح جدا ، واما مع الالتزام بان الموضوع له هو المسبب وهو التضييق ،

ص: 116

فلوضوح ان المقصود من وضع الحروف للتضييق ليس وضعها لكلي التضييق ومفهومه العام الشامل لجميع الافراد ، بحيث تكون جميع الحروف مترادفة ، بل الموضوع له كل حرف تضييق من جهة خاصة للمفهوم فالموضوع له لفظ : « في » تضييق المفاهيم الاسمية من جهة الظرفية ، والموضوع له لفظ : « من » تضييقها من جهة خاصة أخرى وهي الابتداء ، وهكذا. وظاهر أن التضييق الخاصّ يتوقف على ثبوت خصوصية وارتباط بين المفهومين الاسميين بحيث ينشأ منه التضييق الخاصّ فيصح استعمال الحرف فيه ، فلا يحصل تضييق مفهوم زيد بكونه في الدار ، إلاّ بتحقق الارتباط والنسبة الخاصة بينه وبين الدار. فيعبر عن ذلك التضييق بالحرف. وعليه فاستعمال الحرف في صفات اللّه تعالى يتوقف على ثبوت النسبة والارتباط بين الصفة والذات كي تتحقق التضييق المعبر عنه بالحرف. فيرجع الإشكال كما هو ، ولا بد من حلّه بحل عام يرتفع به الإشكال في جميع الأقوال. وبعبارة أخرى : ان قولنا : « الوجود لله واجب » يحتاج إلى ثبوت نسبة بين الوجود والذات المقدسة تصحح فرض التضييق في الوجود ونسبته إلى اللّه ، كما يحتاج قولنا : « الوجود لزيد ممكن » إلى ذلك. وهذا واضح لا خفاء فيه ولا غبار عليه.

ثم انه بناء على ان يكون الموضوع له في الحروف هو التضييق يكون معنى الحرف من المعاني الإيجادية ، وهو الأمر الّذي فرّ منه مكررا مدعيا - في مقام إيراده على المحقق النائيني في دعواه تعين الإيجادية لعدم الإخطارية - ثبوت الواسطة بين المعاني الإخطارية المستقلة وبين المعاني الإيجادية وهي المعاني الإخطارية غير المستقلة التي عبر عنها بغير الإخطارية أيضا لعدم استقلالها. فانتفاء كون معنى الحروف إخطارية مستقلة لا يعين كونها إيجادية ، بل يمكن ان تكون إخطارية غير مستقلة ، بل هو المتعين وليس معناها إيجاديا.

وبالجملة : فقد التزم بان المعاني الحرفية من المفاهيم غير المستقلة وان

ص: 117

الفرق بينها وبين المعاني الاسمية بالاستقلال وعدمه.

والوجه في لزوم كونها إيجادية على البناء المزبور : ان المفروض عدم وضعها لمفهوم التضييق لعدم معقوليته ، كما عرفت فهي موضوعة اما لواقع التضييق أو لسببه وهو واضع النسبة والربط.

فعلى الثاني : فإيجادية المعنى الحرفي واضحة فقد تقدم بيانها.

واما على الأول : فحيث انه لا إشكال في تحقق النسبة عند ذكر الحرف ، وقد عرفت ان النسبة سبب لحدوث التضييق فبوجودها يحدث واقع التضييق ويوجد فتحققه في ذهن السامع انما يكون بتبع تحقق النسبة والربط ، وقد عرفت إيجادية النسبة والربط وانها تحصل في ذهن السامع بنفس اللفظ فكذلك التضييق يكون إيجاديا يحصل في ذهن السامع بواسطة اللفظ باعتبار تبعية وجوده لوجود النسبة وهي معنى إيجادي كما عرفت.

كما انه لا واقع له الا في ضمن المفاهيم لأنه مسبب عن الربط والنسبة والقائم بالمفاهيم والّذي لا حقيقة له الا في ضمنها لأنه من كيفيات وجودها.

كما انه بناء على الالتزام بما ذكر يكون المعنى الحرفي من المعاني الآلية لا الاستقلالية.

وذلك : فان وضع الحرف للتضييق باعتبار كون المقصود تفهيم الحصة الخاصة من المفهوم دون المفهوم على سعته ، ظاهر في ان نفس التضييق ملحوظ آلة لتفهيم الحصة ، وإلاّ فلا يتعلق غرض مستقل به بخصوصه ، بل الغرض واللحاظ الاستقلالي متعلق بتفهيم الحصة وإفادة التضييق طريق إلى ذلك.

ولا يجدي تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الحرفي في بعض الأحيان ، لأنه وان كان ممكنا لأن الآلية ليست من لوازم التضييق التي لا تنفك عنه كما كانت من لوازم الربط والنسبة ، إلاّ انه إذا ثبت كون الأغلب بحسب مقتضى الاستعمال كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة وطريقا لا مستقلا لم ينفع لحاظه

ص: 118

الاستقلالي في بعض الأحيان في ترتب الثمرة عليه ، وهي ما سيأتي من إمكان الإطلاق في معناه ، إذ ما يأتي من الحروف يحمل علي الفرد الغالب. وهو الملحوظ آلة فلا يصح التمسك بإطلاقه.

وبالجملة : فنتيجة هذا القول عين نتيجة الالتزام بان الموضوع له هو النسبة وان الآلية من لوازم الموضوع له التي لا تنفك عنه من عدم التمسك بالإطلاق في غير مورد العلم بتعلق اللحاظ استقلالا كما هو الأمر الغالب في الحروف حيث لا يعلم تعلق اللحاظ الاستقلالي بمعناها. فتدبر جيدا.

واما الجهة الثالثة : فقد اتضح وهن ما اعتمد عليه.

أما الأول : فهو مضافا إلى وهنه في نفسه ، إذ بطلان الوجوه الأخرى لا يعني صحة هذا الوجه وتعينه ، ممنوع إذ قد عرفت تصحيح ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني والنائيني وتوجيه كلامهما بنحو لا يرد عليه أي إيراد مما ذكره السيد الخوئي أو غيره ، وقد عرفت توجه بعض ما أورده عليهما على كلامه نفسه.

وأما الثاني : فقد عرفت ان اختياره لا يصحح استعمال الحرف في جميع الموارد ، وان الإشكال الّذي وجهه على المحقق العراقي والأصفهاني من عدم صحة استعمال الحرف في صفات الباري يتوجه على مختاره أيضا.

وأما الثالث : فصدوره منه عجيب ، إذ البحث عن حقيقة المعنى الحرفي ومعرفة الموضوع له الحرف وانه التضييق أو غيره ، انما يأتي في المرتبة المتأخرة عن بيان أصل الوضع وحقيقته بحيث يكون فرض وضعه لهذا المعنى على جميع التقادير لحقيقة الوضع ، فالالتزام بمعنى خاص للوضع لا يقتضي وضع اللفظ إلى معنى معين بحيث يكون نتيجة تعيين حقيقة الوضع هو الوضع المذكور ، فالوضع للتضييق على تقدير تماميته يصلح على جميع تقادير معنى الوضع ولا يتعين ان يكون نتيجة الالتزام بمعنى معين ، وإذا لم يصح في التضييق لا يصلح

ص: 119

على جميع التقادير ، ولا يقتضي كون معنى الوضع هو التعهد الوضع للتضييق ، إذ الإشكال والكلام في معقولية تعلق التعهد بذكر الحرف عند إرادة التضييق كالإشكال في معقولية اعتبار العلقة بينهما أو جعل الحرف على المعنى المذكور.

وبالجملة : الإشكال يتأتى على جميع تقادير الوضع حتى على تقدير التعهد ، ويحتاج الدعوى إلى دليل ولا يكتفي في صحتها باختيار كون الوضع هو التعهد ، إذ الإشكال في صحة خصوص التعهد المذكور.

وأما الرابع : فهو دعوى مجازفة ، إذ بعد ان عرفت ما يرد من الإشكال على المبنى المزبور ، فكيف يكون ارتكازيا؟!.

والّذي ننتهي إليه أخيرا هو الالتزام بما التزم به المحققان النائيني والأصفهاني من انه موضوع للربط والنسبة بين المفهومين الّذي هو من سنخ الوجود ، فانه مضافا إلى معقوليته في نفسه وعدم الوصول إلى أي إشكال فيه امر ارتكازي وجداني لا يحتاج إلى إقامة برهان ، وذلك فان المعنى المزبور يتبادر إلى الذهن عند إلقاء الجملة ، والدال عليه منحصر بالحرف لعدم وجود ما يصلح للدلالة عليه من اجزاء الجملة غيره ، إذ الاسم يدل على نفس المفهوم المرتبط بالآخر لا على الارتباط.

« كيفية الوضع للحروف »

اشارة

ثم انه يتضح بذلك ان الموضوع له في الحروف خاص لا عام - كما ادعاه صاحب الكفاية (1) - لأن الموضوع له إذا كان عاما لم يكن معنى حرفيا بل كان معنى اسميا ، إذ كل ما يفرض كونه عاما يكون من المفاهيم - إذ الوجود لا

ص: 120


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /11- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يقبل العموم والسعة - ، وقد عرفت ان المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بل من سنخ الوجود وان المفاهيم معان اسمية. وبتقريب آخر : ان تصور كون الموضوع له عاما انما يكون بلحاظ الوضع للجامع بين الوجودات الخاصة ، وهو - أي الجامع - غير متحقق ولا يتصور فيما نحن فيه إلاّ بإلغاء خصوصية الطرفين ليكون الجامع كلي الوجود ، إذ مع ملاحظة الطرفين يكون كل وجود مباينا للوجود الآخر لأنه فرد آخر وكل فرد بخصوصيته مغاير للفرد الآخر. ولا يمكن تجريده عن الطرفين والوضع للكلي ، لتقوم المعنى بهما كما عرفت.

وبالجملة : ان لوحظ الطرفان انعدم الجامع ، وان لم يلحظ لم يكن الجامع من المعاني الحرفية فلا وجه لوضع الحرف له ، لأن المعنى الحرفي متقوم بالطرفين كما عرفت.

ثمرة المبحث :

وقد قررت بأنه مع الالتزام بعموم الموضوع له في الحروف يتصور الإطلاق والتقييد في معانيها ويظهر ذلك في موردين : أحدهما : الواجب المشروط ودوران الأمر في القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة. والآخر : في مفهوم الشرط والاستدلال على ثبوته بإطلاق أداة الشرط - كما يقرر في محله -. وهذا بخلاف ما لو التزم بخصوص الموضوع له فانه لا يكون قابلا للإطلاق والتقييد ، فيعلم بعدم رجوع القيد إلى الهيئة ، كما لا يمكن التمسك في إثبات المفهوم بإطلاق الأداة لعدم ثبوت الإطلاق فيها. وقرّرت بنحو آخر : وهو انه مع الالتزام بآلية المعنى الحرفي لم يصح الإطلاق فيه لاقتضاء الإطلاق والتقييد اللحاظ الاستقلالي لأنه حكم على الطبيعة وهو يقتضي لحاظ المحكوم عليه بالاستقلال.

وقد نوقش في التقرير الأول : بان خصوصية الموضوع له لا تنفي صحة

ص: 121

التقييد ، إذ العموم والإطلاق الأفرادي هو الّذي لا يتصور في الخاصّ دون الإطلاق الأحوالي فيمكن التقييد والإطلاق فيه بلحاظ الأحوال.

وفي التقرير الثاني : بأنه كثيرا ما يكون المعنى الحرفي ملحوظا بالاستقلال وأثرا للحكم بنفسه. وعليه فلا تظهر الثمرة بلحاظ الجهتين.

والتحقيق : انه مع الالتزام بان معاني الحروف إيجادية ومن سنخ الوجود يمتنع تصور الإطلاق والتقييد فيها ، لا من جهة خصوصية الموضوع له أو آليته ، بل من جهة ان الإطلاق من شأن المفاهيم ، لأن الإطلاق عبارة عن السعة في الصدق ، والتقييد التضييق في الصدق وهذا شأن المفاهيم - كلية كانت أو جزئية - دون الوجود غير القابل للصدق على شيء بالمرة ، بل ليس هو إلاّ نفسه. مضافا إلى انه يكون آليا ولا يتصور ان يكون استقلاليا في حال من الأحوال كما عرفت تحقيقه ، فالثمرة موجودة كما لا يخفى.

هذا كله بالنسبة إلى الحروف الداخلة على المفردات.

وأما الحروف الداخلية على الجمل كحروف التمني والترجي والاستفهام وغيرها فقد اتفق الجميع - تقريبا - على ان معانيها إنشائية إيجادية ، وقال بذلك من لا يلتزم بإيجادية معنى الحرف ووجه ذلك بان الجملة تكون بدخولها إنشائية.

وعليه ، فلا بد في تحقيق الحال فيها من معرفة مدلول الجملة الإنشائية وأختها الخبرية ، فنقول :

* * *

ص: 122

الإنشاء والإخبار

ذكر صاحب الكفاية رحمه اللّه ان الفرق بين الجملة الإنشائية والجملة الخبرية كالفرق بين الاسم والحرف في كونه خارجا عن دائرة الموضوع له ، فان كلا منهما موضوع للنسبة إلاّ انها ان قصد بها الاخبار كانت خبرية وان قصد بها إيجاد النسبة كانت إنشائية من دون أن يكون قصد الاخبار وقصد الإيجاد دخيلا في الموضوع له (1).

والّذي يظهر انه رحمه اللّه أخذ الموضوع له في الجملة الخبرية والإنشائية ونفس الاخبار والإنشاء مفروغا عنه ، وجهة الإشكال هو الفارق بينهما وان الإنشاء والاخبار دخيلان في معنى الجملة الخبرية والإنشائية أو لا؟ فأناط اللثام عن ذلك بما عرفت.

ولأجل تحقيق الحال ينبغي الكلام في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق معنى الاخبار والإنشاء.

والمقام الثاني : في تحقيق معنى الجملة الخبرية والإنشائية.

اما المقام الأول ، فتحقيق الكلام فيه : أن الاحتمالات المذكورة في معنى الإنشاء أربعة :

ص: 123


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : انه إيجاد المعنى باللفظ في نفس الأمر.

الثاني : انه إيجاد المعنى باللفظ بالعرض ، فلا يخرج عن حقيقة الاستعمال ، بل هو الاستعمال - كما يتضح فيما بعد -.

الثالث : انه إيجاد المعنى باللفظ في وعائه المناسب له.

الرابع : انه إبراز الصفات النفسانيّة باللفظ.

أما القول الأول : فهو مختار صاحب الكفاية وقد أسهب في بيانه في الفوائد ، وبيانه بتصرف : ان الإنشاء إيجاد المعنى في نفس الأمر لا الحكاية عن ثبوته وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج ، بخلاف الخبر فانه الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه ، والمراد من وجوده في نفس الأمر هو ما لا يكون بمجرد فرض فارض ، لا انه ما يكون بحذائه شيء في الخارج. فملكية المشتري للمبيع لم يكن لها أي ثبوت قبل إنشاء التمليك وانما ثبوتها لا يعدو الفرض كفرض إنسانية الجماد أو جمادية الإنسان ، ولكن بعد إنشائها حصل لها نحو ثبوت وخرجت عن مجرد الفرض وان لم يكن لها ما بإزاء في الخارج.

وبعبارة أخرى : ان المعنى بالإنشاء يوجد بوجود إنشائي ويحصل له نحو تقرر في عالم الإنشاء ، وهذا الوجود الإنشائي من سنخ الاعتباريات ، وإذا كان الإنشاء هو إيجاد المعنى باللفظ بنحو وجود فعبر عنه بالوجود الإنشائي لم يختص الإنشاء بالمعاني الاعتبارية كالملكية ونحوها ، بل يعم المعاني الحقيقية الواقعية كالتمني والاستفهام فيمكن إنشاء الصفات النفسانيّة الواقعية كما يمكن إنشاء الأمور الاعتبارية ، إذ لم يعتبر في حقيقة الإنشاء إيجاد نفس المعنى في عالمه كي يتوقف في إمكان إنشاء مثل التمني من الأمور الواقعية لتبعية وجودها للأسباب التكوينية دون الإنشاء ، بل الإنشاء يتحقق ولو لم يكن للصفة الحقيقية وجود في الخارج أصلا ويترتب عليه آثاره لو كانت. كما انه لا يعتبر في الوجود الإنشائي ترتب أثر شرعي أو عرفي عليه ، ولذلك لو أنشأ المعنى الواحد بلفظ

ص: 124

واحد مكررا لا يخرج كل منها عن الإنشاء ، وان لم يترتب على الأول أثر غير التأكيد في المورد القابل للتأكيد ، بل يوجد المعنى بكل إنشاء بوجود إنشائي مستقل غير الآخر ، ولا يكون من قبيل إيجاد الموجود كي ينفي كونه إنشاء كما تخيله الشهيد رحمه اللّه في القواعد (1) ونفي كون العقد المكرر إنشاء لعدم حصول الإيجاد به. ونظيره صدوره ممن لا يترتب على قوله أثر شرعا وعرفا كالمجنون إذا تأتى منه القصد ، فانه لا يخرج عن الإنشاء وان كان لغوا.

وبالجملة : فالإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي اعتباري غير إيجاده في عالمه المناسب له من اعتبار وواقع ولذلك كان خفيف المئونة ولا يتوقف على ترتب أثر عقلائي عليه ، كما انه يصلح لأن يسري في الصفات الحقيقية الواقعية ، ولا تتوقف صحته على ثبوت تلك الصفات في نفس الأمر والواقع في عالمها الخارجي (2).

ثم انه رحمه اللّه ذكر في فائدة أخرى ان الفرق بين الإنشاء والاخبار من جهتين :

إحداهما : ان مفاد الإنشاء مفاد كان التامة لا مفاد كان الناقصة كما هو مفاد الخبر.

ثانيتهما : ان مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد ان لم يكن ومفاد الخبر يحكى به بعد ان كان أو يكون.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره (3). والّذي يتحصل منه انه يريد بالإنشاء إيجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي من قبيل الاعتباريات. فليكن على ذكر منك.

ص: 125


1- الشهيد الأول محمد بن مكي. القواعد والفوائد1/ 112 - قاعدة 86 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /285- المطبوعة ضمن الحاشية.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /289- المطبوعة ضمن الحاشية.

وأما القول الثاني : فهو الّذي اختاره المحقق الأصفهاني ، وادعى انه مراد صاحب الكفاية بتقرير إليك نصه : « ان المراد من ثبوت المعنى باللفظ ، اما ان يراد ثبوته بعين ثبوت اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض ، واما ان يراد ثبوته منفصلا عن اللفظ بآلية اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى كل منهما بالذات ، لا مجال للثاني إذ الوجود المنسوب للماهيات بالذات منحصر في العيني والذهني وسائر أنحاء الوجود من اللفظي والكتبي وجود بالذات للفظ والكتابة. وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى. ومن الواضح أن آلية وجود اللفظ وعليته لوجود المعنى بالذات لا بد من أن يكون في أحد الموطنين من الذهن والعين ، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزع عنه. والواقع خلافه إذ لا يوجد باللفظ موجود آخر يكون مطابقا للمعنى أو مطابقا لمنشإ انتزاعه ، ونسبة الوجود بالذات إلى نفس المعنى مع عدم وجود مطابقه أو مطابق منشئه غير معقول. ووجوده في الذهن بتصوره لا بعلية اللفظ لوجوده الذهني والانتقال من سماع الألفاظ إلى المعاني لمكان الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى مع ان ذلك ثابت في كل لفظ ومعنى ولا يختص بالإنشاء ، فالمعقول من وجود المعنى باللفظ هو الوجه الأول ، وهو ان ينسب وجود واحد إلى اللفظ والمعنى بالذات في الأول وبالعرض في الثاني ، وهو المراد من قولهم : ان الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر وانما قيدوه بنفس الأمر مع ان وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضا بالعرض ، تنبيها على ان اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنى تنزيلا في جميع النشئات ، فكأن المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود. والمراد بنفس الأمر حد ذات الشيء من باب وضع الظاهر موضع المضمر.

فان قلت : هذا المطلب جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون

ص: 126

اختصاص بالإنشائيات.

قلت : الفرق ان المتكلم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللفظ المنزل منزلتها ، وقد يتعلق غرضها بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللفظ المنزل منزلتها ، مثلا مفاد : « بعت » اخبارا وإنشاء واحد وهي النسبة المتعلقة بالملكية وهيئة « بعت » وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجادية القائمة بالمتكلم والمتعلقة بالملكية ، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجا بوجودها التنزيلي الجعلي اللفظي فليس وراء قصد الإيجاد بالعرض وبالذات أمر آخر وهو الإنشاء. وقد يقصد زيادة على ثبوت المعنى تنزيلا الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضا وهو الاخبار ، وكذلك في صيغة افعل وأشباهها فانه يقصد بقوله « اضرب » ثبوت البعث الملحوظ نسبة بين المتكلم والمخاطب والمادة فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي فيترتب عليه إذا كان من أهله وفي محله ما يترتب على البعث الحقيقي الخارجي مثلا. وهذا الفرق بلحاظ المقابلة بين المعاني الخبرية والإنشائية ، فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها ، فانها كالإنشائيات من حيث عدم النّظر فيها الا إلى ثبوتها خارجا ثبوتا لفظيا ، غاية الأمر انها لا يصح السكوت عليها بخلاف المعاني الإنشائية المقابلة للمعاني الخبرية. وهذا أحسن ما يتصور في شرح حقيقة الإنشاء. وعليه يحمل ما أفاده أستاذنا العلامة لا على انه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدمة فانه غير متصور. ومما ذكرنا في تحقيق حقيقة الإنشاء تعلم ان تقابل الإنشاء والاخبار ليس تقابل مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة ، نظرا إلى ان الإنشاء إثبات المعنى في نفس الأمر والاخبار ثبوت شيء لشيء تقديرا وحكاية. وذلك لأن طبع الإنشاء كما عرفت لا يزيد على وجود المعنى تنزيلا بوجوده اللفظي وهو قدر جامع بين جميع موارد الاستعمال ، فان القائل بعت اخبارا أيضا يوجد معنى اللفظ بوجوده العرضي اللفظي والحكاية غير متقومة بالمستعمل فيه ، بل خارجة

ص: 127

عنه فهي من شئون الاستعمال ، بل الفرق انهما متقابلان بتقابل العدم والملكة تارة بتقابل السلب والإيجاب أخرى ، فمثل : « بعت » وأشباهه من الجمل المشتركة بين الإنشاء والاخبار يتقابلان بتقابل العدم والملكة ، لأن المعنى الّذي يوجد بوجوده التنزيلي اللفظي قابل لأن يحكى به عن ثبوت في موطنه ، فعدم الحكاية والتمحّض فيما يقتضيه طبع الاستعمال عدم ملكة ، ومثل « افعل » وأشباهه المختصة بالإنشاء عرفا يتقابلان تقابل الإيجاب والسلب ، إذ المفروض ان البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها نظير البعث الخارجي ، غير البعث الملحوظ بعنوان المادية في سائر الاستعمالات كما سمعت منا في أوائل التعليقة ، فمضمون صيغة « اضرب » مثلا غير قابل لأن يحكى به عن ثبوت شيء في موطنه بل متمحض في الإنشائية ، وعدم الحكاية حينئذ من باب السلب المقابل للإيجاب ». هذا نصّ ما أفاده قدس سره في تعليقته على الكفاية وهو واضح لا يحتاج إلى توضيح (1). والكلام فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في صحة نسبة الوجه المذكور إلى صاحب الكفاية ، والتحقيق عدم الصحة لأنه خلاف ما هو الصريح لكلام صاحب الكفاية ، من ان المراد من نحو الوجود هو الوجود الاعتباري بحيث يكون الإنشاء من سنخ الاعتبار ، فنسبة إرادة الوجود بالعرض الساري في الجمل الخبرية والإنشائية إلى صاحب الكفاية لا وجه لها ، خصوصا بملاحظة ما يصرح به من ان هذا النحو من الوجود لا يتحقق بالجملة الخبرية.

وأما ما ذكره من الوجه في حمل كلام صاحب الكفاية على ذلك فهو لا يفي بذلك ، إذ لم يدع صاحب الكفاية ان المعنى يوجد بالذات بالإنشاء بوجود حقيقي مقولي كي يرد عليه ان الوجود بالذات ينحصر في الحقيقي والذهني.

ص: 128


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 113 - الطبعة الأولى.

والحقيقي لا يكون إلاّ إذا كان له ما بإزاء في الخارج أو له منشأ انتزاع له ما بإزاء وهو غير متحقق فيما نحن فيه. والذهني علته التصور لا اللفظ وهو سار في جميع الاستعمالات دون خصوص الاستعمال الإنشائي.

بل قد عرفت انه يريد من نحو الوجود الحاصل للمعنى بالإنشاء نحو وجود اعتباري ، فلا يرد عليه ما ذكر إذ الاعتبار خفيف المئونة ، وتحقق الوجود الاعتباري مما لا ينكره قدس سره ، كما انه يظهر بأنه لا وجه لحمل « نفس الأمر » على إرادة حد ذات الشيء وان اللفظ وجود للمعنى في جميع النشئات ، خصوصا بملاحظة تعرض صاحب الكفاية في كلامه إلى بيان المراد منه وانه إخراج الشيء عن مجرد الفرض. فتدبر.

الجهة الثانية : في تحقيق صحة هذا الوجه في نفسه وان لم يكن مرادا لصاحب الكفاية. والحق انه غير وجيه لوجهين :

الأول : انه لو كان الإنشاء هو إيجاد المعنى باللفظ بلحاظ ان وجود اللفظ وجود للمعنى بالعرض ، بقيد ان لا يكون الغرض الحكاية عن الخارج أو الذهن ، بل الغرض كان في نفس هذا الوجود العرضي للمعنى ، لزم ان تكون الجملة الخبرية غير المستعملة بقصد الحكاية ، بل بداعي استمرار ارتكاز مدلولها في ذهن المخاطب بتكرارها بلا ان يقصد بها الحكاية ، إذ ليس الداعي الا عدم شرود هذا المعنى من ذهن المخاطب ، لزم ان تكون مثل هذه الجملة إنشاء على هذا القول ، مع انها لا تعد في العرف من الجمل الإنشائية كما لا يخفى.

الثاني : ان كون الإنشاء هو إيجاد المعنى عرضا بوجود اللفظ يبتني إمكانه الثبوتي على ثبوت كون الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنى ، فيكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وبذلك يكون وجوده وجودا للمعنى بالعرض ، إذ المنزل نحو وجود للمنزل عليه بالعرض والمسامحة ، فيمكن تصور ان يكون الإنشاء هو هذا النحو من إيجاد المعنى. ولكنك عرفت عدم ثبوت هذا المعنى

ص: 129

للوضع والمناقشة فيه وعدم ارتضائه حتى من المحقق الأصفهاني نفسه ، وكون الوضع هو اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى أو اعتبار اللفظ على المعنى أو غيرهما. ولا يخفى ان اللفظ لا يكون على هذا وجودا بالعرض للمعنى ، إذ طرف العلقة الوضعيّة لا يكون وجودا بالعرض لطرفها الآخر - نظير طرفي السلسلة المشدودين بها فان أحدهما لا يكون وجودا للآخر بالعرض ، والوضع كذلك فانه عبارة عن ربط اللفظ والمعنى برابط وجعل كل منهما طرفا للارتباط - ، وإلاّ لكان المعنى وجودا بالعرض للفظ ، ولا يلتزم به أحد.

وبالجملة : فأساس هذا المعنى للإنشاء وهو كون اللفظ وجودا للمعنى بالعرض غير ثابت فلا : تتجه دعوى ان الإنشاء هو هذا النحو من إيجاد المعنى وأما ما ذكره صاحب الكفاية : فالالتزام به يتوقف على نفي المحذور فيه ثبوتا وإثباتا.

اما المحذور الثبوتي : فلم يتعرض أحد إلى بيان محذور ثبوتي فيه ، ولعله لأجل عدم اهتمامهم فيما ذكره رحمه اللّه أو صرفه إلى معنى غير ما ذكرناه. نعم يمكن استفادة دعوى المحذور الثبوتي في الجهة الثانية في البحث ممن يدعي ان الجمل الإنشائية لها من المعنى ما لا يتلاءم مع تفسير الإنشاء بما فسره به صاحب الكفاية ، فتنقيح وجهة النّظر فيه نوكلها إلى الجهة الثانية.

وأما المحذور الإثباتي : فمعرفة وجوده وعدمه تتوقف على ذكر القولين الآخرين ومعرفة أيها التام ، فان في بطلان الأقوال الأخرى ومعقولية قول الآخوند مؤيدا له وترجيحا للالتزام به كما لا يخفى.

وأما القول الثالث : فهو المشهور في تفسير الإنشاء ، ومحصله كما أشرنا إليه : هو أن الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ في عالم الاعتبار العقلائي ، بمعنى ان المعنى الاعتباري في نفسه يوجد له فرد حقيقي بواسطة اللفظ ، فيكون إلقاء اللفظ سببا للتحقق اعتبار العقلاء للمعنى. فالإنشاء هو التسبيب

ص: 130

باللفظ إلى الاعتبار العقلائي للمعنى. فيتفق مع قول صاحب الكفاية في انه إيجاد للمعنى بنحو وجود وفي عالم آخر غير عالم اللفظ أو الخارج أو الذهن. لكنه يختلف عنه في ان وجوده على اختيار صاحب الكفاية نحو وجود إنشائي من سنخ الاعتباريات بحيث يختلف عن سائر الاعتباريات ، فالملكية بإنشائها ب- : « ملكت » توجد - على اختيار صاحب الكفاية - بوجود إنشائي اعتباري غير وجودها الاعتباري في نفسها وفي وعائها المفروض لها. واما على هذا القول فهي توجد بوجودها الاعتباري الثابت لها في حد ذاتها ، وتتحقق في وعائها المقرر لها وهو عالم الاعتبار العقلائي.

والثمرة الفقهية المترتبة على كلا القولين تظهر فيما يحرر من بطلان الصيغة مع التعليق ، وانه يعتبر في صحة العقد أو نفوذه تنجيزه ، ويستثنى من ذلك ما إذا كان التعليق قهريا فانه لا يضر التعليق عليه وعدمه ، بل لا ثمرة فيه بعد ان كان قهريا وذلك كالتعليق على رضا المالك في بيع الفضولي ، فان الأثر بحسب اعتبار العقلاء انما يترتب مع رضا المالك فالإنشاء لا ينفذ الا على تقدير الرضا.

وجه ظهور الثمرة في هذا المبحث : انه إذا التزم بان معنى الإنشاء ما هو المشهور من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في عالم الاعتبار العقلائي ، يتصور حينئذ قهرية تعليق هذا على أمر ما ، كما لو كان الاعتبار العقلائي متوقفا على شيء - نظير المثال السابق - ، واما لو التزم بان معناه ما اختاره صاحب الكفاية من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائي ، فلا يتصور فيه قهرية التعليق على شيء لأنه مرتبط بنفس المنشئ - بمعنى ان هذا الوجود الإنشائي وان كان عقلائيا إلاّ انه بقصد الإنشاء فارتباطه بالمنشئ - لا بالعقلاء كي يتوقف عندهم في بعض الصور على شيء ما ، لأن ما يقصد إيجاده ليس هو المعنى في وعائه الاعتباري العقلائي ، بل المقصود إيجاده هو المعنى

ص: 131

بوجود إنشائي غير وجوده في وعائه المقرر له من اعتبار أو غيره ، وذلك لا يتوقف على شيء من رضا المالك ونحوه كما لا يخفى.

وبالجملة : فلو التزم بما هو المشهور أمكن تحقق مصداق لصورة التعليق القهري ، بخلاف ما لو التزم بمختار صاحب الكفاية ، فيلتزم ببطلان العقد مع التعليق - على القول بالبطلان مع التعليق - مطلقا بلا استثناء. فلاحظ ثم انه قد يستشكل في الالتزام بما هو المشهور من جهتين :

الأولى : انه يلزم اختصاص الإنشاء بما كان وعاؤه الاعتبار كالعقود والإيقاعات ، لمعقولية التسبيب لإيجادها واعتبارها من العقلاء. ولا يشمل ما كان من الأمور الحقيقية الواقعية التكوينية التي لها ما بإزاء في الخارج ، كبعض الصفات النفسانيّة مثل التمني والترجي والطلب والاستفهام ، لأن وجودها في وعائها تابع لتحقق أسبابها التكوينية سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق ، إذ ليست هي من الاعتباريات التي تدور مدار الاعتبار وجودا وعدما ، فلا معنى للتسبيب لإيجادها باللفظ كما لا يخفى. مع ان عدها من الإنشائيات وكون صيغها من الجمل الإنشائية مما لا ينكر ويخفى.

الثانية : ان معرفة تحقق الاعتبار العقلائي تكون بترتيب الآثار من العقلاء عليه ومعاملته معاملة الثابت حقيقة لو تصور له ثبوت حقيقي. ومع عدم ترتب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار ، لأنه يلغو مع عدم ترتيب الأثر.

وعليه ، فيلزم عدم تحقق الإنشاء في المورد الّذي يعلم بعدم ترتيب الأثر ، لعدم تحقق قصد التسبيب من المنشئ مع علمه بعدم تحقق المسبب ، والمفروض تقوم الإنشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائي. وذلك يستلزم خروج موارد متعددة عن الإنشاء مع عدها عرفا إنشاء بلا كلام.

منها : الإنشاء المكرر والصيغ المتكررة ، لوجود المعنى في عالم الاعتبار بأول إنشاء ، فلا يوجد بالإنشاء الثاني والثالث ، إذ لا يوجد المعنى في عالم

ص: 132

الاعتبار العقلائي مرة ثانية مع فرض ثبوته للغوية الاعتبار ثانيا.

ومنها : بيع الغاصب ، فانه يعلم بعدم ترتيب الأثر على إنشائه.

ومنها : بيع الفضولي مع علمه بعدم لحوق الإجازة ، فان العقلاء لا يعتبرون الملكية بأثر إنشائه.

ومنها : بيع غير المقدور تسليمه عادة.

ومنها : المعاملة الغررية.

وغير هذه الموارد مما لا يترتب الأثر العقلائي على الإنشاء مع صدقه عرفا ، ولذلك يقال : لا يصح إنشاء الغاصب أو المجنون أو الصبي وهكذا.

ولا يخفى ان هاتين الجهتين لا تردان على مختار صاحب الكفاية ، إذ الإنشاء على مختاره إيجاد المعنى باللفظ بوجود إنشائي لا في وعائه المقرر له من اعتبار أو غيره ، فيمكن تحقق هذا الإيجاد وقصده بلا توقف على تحققه في عالم الاعتبار العقلائي كي ينتفي في مورد لا يتحقق فيه الاعتبار من العقلاء. ولغويته مع عدم الأثر العقلائي ولا تنفي صحة تحقيقه. كما انه يمكن ان يطرأ على الصفات الحقيقية ، إذ يمكن ان توجد بوجود إنشائي غير وجودها الحقيقي وفي وعائها المقرر لها ، فلا يقال : ان تحقق هذه الصفات في وعائها تابع للأسباب التكوينية ولا يرتبط باللفظ والاعتبار ، إذ ليس المقصود بإنشائها تحققها في وعائها بل تحققها بتحقق إنشائي اعتباري في غير وعائها. وقد أشرنا إلى ذلك في بيان كلامه ، وقد تعرض هو إلى الإنشاء المكرر باعتبار. فراجع (1).

وقد تفصى (2) عن الإشكال من الجهة الأولى - أعني اختصاصه بالاعتباريات - بان معنى الإنشاء ليس هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد إيجاده

ص: 133


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /287- المطبوعة ضمن الحاشية.
2- المتفصي هو المدقق الشيخ هادي الطهراني ( قده ).

في عالم الاعتبار ، بل استعماله لا بقصد الحكاية ، سواء قصد به الإيجاد أو لم يقصد ، فالمأخوذ في معنى الإنشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الإيجاد.

واما الإشكال من الجهة الثانية - أعني لزوم خروج بعض الإنشائيات عن الإنشاء - فقد أجيب عنه في مورد الصيغ المكررة بالالتزام فيما لا يقبل التأكيد والشدة والضعف كالملكية ، بلغوية الإنشاء الآخر وانه لا يعد إنشاء. وفيما يقبل الشدة والضعف كالطلب ونحوه ، بان الإنشاء الآخر تأكيد للأول بحيث يكون كل منهما دالا على مرتبة ما من الإرادة والطلب فيتأكد ولا يكون لغوا (1).

وأما بيع الغاصب فقد أجيب عن الإشكال به بما ذكره الشيخ في بعض كلماته في المكاسب : من ان الغاصب وان علم بعدم ترتب الأثر العقلائي على تمليكه لعدم كونه مالك المال ، إلاّ انه حيث يكون في مقام الإنشاء يدعي لنفسه الملكية ويبنى على انه هو المالك ومن له حق التصرف من باب الحقيقة الادعائية. وعليه فيترتب عليه ما يترتب على المالك من إمكان قصد الإيجاد ولو لم يتحقق الإيجاد حقيقة. وهذا الجواب لا يتأتى في بيع الفضولي لأنه لا يدعي لنفسه الملكية كالغاصب ، فيبقى الإشكال من جهته على حاله ، كما يبقى الإشكال في الموارد الأخرى.

والتحقيق انه يمكن دفع الإشكال في سائر الموارد ، بان يقال : انه ليس المراد من الإنشاء هو استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في عالمه على ان يكون إيجاد المعنى بمنزلة الداعي - ويراد من القصد معنى الداعوية - ، كي يقال باقتضاء ذلك ترتب الإيجاد على الإنشاء مباشرة وفعلا كما هو شأن كل داع ، فانه سابق بوجوده التصوري متأخر بوجوده العيني الخارجي ومترتب فعلا على

ص: 134


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /287- المطبوعة ضمن الحاشية.

الفعل. فيقع الإشكال حينئذ في بعض الموارد الإنشائية لتخلف الإيجاد عن الإنشاء ، بل المراد به استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى في وعائه المقرر له. والمقصود به ان يكون المنشئ بإنشائه في هذا المقام وبهذا الصدد - لا أن يكون غرضه ذلك - فينشئ ما يقتضي الإيجاد لو انضم إليه سائر ما له دخل في تحقق المعنى ، فان كان ذلك ثابتا حال الإيجاد أو لم يكن هناك ما يتوقف ترتب الأثر على انضمامه تحقق المعنى فعلا ، وإلا روعي في تحققه ثبوت ما له دخل فيه ، فالإنشاء ليس دائما علة تامة لترتب الأثر وللإيجاد كي يرد الإشكال المذكور ، بل قد يكون جزء العلة للإيجاد فيترتب عليه الأثر مع انضمام سائر ما له دخل في التأثير ، ويوجد المعنى المنشأ في وعائه بعد انضمامها ، فالتعبير بالقصد في تفسير الإنشاء بلحاظ تأثيره ودخالته في ترتب الأثر اما بنفسه أو مع غيره وإطلاق القصد في مثله متعارف لا بلحاظ انه علة تامة لتحققه كي يشكل عند تخلف الأثر في صدق الإنشاء ، ولو عبّر بأنه استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى كان أوضح. واندفاع الإشكال - على هذا التوجيه لكلام المشهور - في موارد الجهة الثانية واضح.

أما في الإنشاء المتكرر فلان المنشئ العاقل انما ينشئ ثانيا بقصد تحقق المعنى في عالم الاعتبار لو لم يكن الإنشاء الأول كافيا في تحققه لاحتمال تحقق الخلل فيه. ولا يفرق في ذلك بين ما يقبل الشدة والضعف فيؤكد وما لا يقبل كما لا يخفى.

وأما في بيع الغاصب والفضولي ، فلأنهما ينشئان ما يقتضي الإيجاد لو انضم إليه رضا المالك فيتحقق منهما القصد بالمعنى الّذي ذكرناه ويكونان في مقام الإيجاد. وهكذا الحال في سائر موارد الإشكال.

نعم لا يندفع بهذا التوجيه الإشكال من الجهة الأولى ، فان الإنشاء يختص بما كان المعنى المنشأ من المعاني الجعلية الاعتبارية لا الواقعية التكوينية

ص: 135

كالتمني وغيره ، إذ لا معنى لجعلها واعتبارها ، بل وجودها يتبع أسبابها التكوينية اعتبرها معتبر أولا. والتوجيه المزبور لم ينظر فيه إلى هذه الجهة من الإشكال ، بل النّظر فيه متركز على الجهة الأخرى.

وعلى أي فلا ضير في خروج الصيغ الدالة على التمني وغيره مما يشاكله عن الإنشاء وليس هو بمحذور فسيأتي تحقيق الحال فيها.

وإذا تبين عدم ورود أي إشكال في الوجه المشهور للإنشاء دار الأمر بينه وبين مختار صاحب الكفاية.

والّذي يقرب الالتزام به ويبعد مختار صاحب الكفاية : انه لا دليل لما ذكره صاحب الكفاية إثباتا ، بل هو وجه ثبوتي صرف لا شاهد له في مقام الإثبات ، بل ظاهر المرتكز من ان المنشئ ينشئ نفس المعنى قاصدا إيجاده في وعائه المناسب له بحيث يرى نفسه بمنزلة موجد السبب للأمر التكويني ، لا انه ينشئه لإيجاده في عالم غير عالمه ثم يترتب عليه وجوده في عالمه الخاصّ.

ظاهر ذلك إثبات الرّأي المشهور ونفي رأي صاحب الكفاية ، وبذلك يترجح التفسير الثالث على التفسير الثاني (1).

ص: 136


1- لا يخفى انه قد وقع الاتفاق على ان للإنشاء نحو ثبوت قبل تحقق شرائط فعليته ، فللحكم ثبوت قبل تحقق شرط الفعلية ، وهو المعبر عنه بالحكم الكلي في قبال عدمه ، وللملكية نحو وجود بمجرد الإنشاء قبل فعليتها واعتبارها من العقلاء أو الشارع ، وهذا أمر وجداني يعترف به كل أحد على الاختلاف في المراد في الإنشاء. وهذا ما نعبّر عنه بالوجود الإنشائي وبملاحظة هذه الجهة يمكن ان ننفي سائر الأقوال في الإنشاء. اما القول الأول : فمقتضاه انعدام الإنشاء بتصرم اللفظ ، لأن ما به وجود المعنى هو اللفظ والمفروض تصرمه ، الّذي ينافي ما قلناه من وجود المنشأ بنحو مستمر. واما قول المشهور : فلان ثبوته يتوقف على تحقق الاعتبار العقلائي أو الشرعي في وعائه المناسب له. وهذا قد يتوقف على شرائط خاصة ، فإذا لم تتوفر لم يتحقق الاعتبار للمنشإ وهو خلاف للوجدان ، لصدور البيع والتمليك عند عقد الفضولي مع الجزم بعدم تحقق الإجازة فضلا عن عدم تحققها فعلا. واما القول الرابع : فان مقتضاه انه لو رفع المنشئ يده عن اعتباره يرتفع المنشأ ، مع ان إجازة المالك تتعلق ببيع الفضولي وعدمه ولو مع رفع الفضولي يده عما أنشأه ، فلو لم يكن الوجود الإنشائي غير الاعتبار الشخصي لم يكن معنى صحيح لتعلق الإجازة بالبيع الفضولي إلا وجود لشيء حال الإجازة على بعض الأقوال.

وأما القول الرابع : - فهو الّذي التزم به السيد الخوئي ( دام ظله ) - وهو كون الإنشاء إبراز ما في النّفس من الصفات من اعتبار أو غيره بواسطة اللفظ (1).

وقد قرب مدعاه بنفي ما ذهب إليه المشهور ، بدعوى ان الاعتبار الشخصي بيد المعتبر نفسه فلا يناط باللفظ ، والاعتبار العقلائي يتوقف على استعمال اللفظ في المعنى فلا بد من تشخيص المعنى. هذا مع ان من الأمور الإنشائية ما لا يقبل الاعتبار كالتمني والترجي ونحوهما من الصفات الحقيقة.

ولا يخفى ان توقف الاعتبار العقلائي على استعمال اللفظ في معنى لا يلازم فرض الإنشاء كما ذكره ، إذ يمكن ان يفرض ان معنى الهيئة هو قصد الإيجاد كما التزم في الهيئة الخبرية بان معناها قصد الحكاية ، فإذا استعملت الهيئة الإنشائية في قصد الإيجاد ترتب عليه الاعتبار العقلائي ، فلا يلزم فرض الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ. فتدبر.

وقد خلط في مقام تعريفه بين المقام الثاني - أعني معنى الجملة - والمقام الأول ، حيث ادعى ان الصيغ الإنشائية وضعت لإبراز الصفات الموجودة في النّفس وان الأثر انما يترتب عليها مع إبرازها لا عليها فقط ولو لم تبرز. والّذي يستفاد من كلامه ان الشخص يتحقق منه الاعتبار - مثلا - ثم يبرزه بالصيغة. فالإنشاء عنده هو نفس الاعتبار أو ان الاعتبار مقوم للإنشاء.

ولذلك يرد عليه :

ص: 137


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 93 - الطبعة الأولى.

أولا : ان الاعتبار الشخصي وان التزم به بعض الأكابر ، إلا انه لا أساس له ولا وجه بعد إمكان التوصل إلى الاعتبار العقلائي باللفظ مباشرة كما هو مقتضى الرّأي الثالث المشهور ، إذ لم يثبت فيه أي محذور ، فالاعتبار الشخصي بعد هذا يكون لغوا محضا وليس بذي أثر. نعم لو فرض امتناع الاحتمال الثالث وثبوت المحذور فيه أمكن دعوى صحة الاعتبار الشخصي من باب انه يكون موضوع الاعتبار العقلائي ، لكن عرفت انه لا محذور فيه.

وثانيا : ان معنى الاعتبار هو بناء المعتبر على ما اعتبره ، فيقال عند اعتبار العقلاء الملكية لزيد انهم بنوا على انه مالك وانهم يرونه مالكا. ونحو ذلك من التعبيرات المرادفة ، وعليه فاعتبار الشخص زيدا مالكا - عند إرادة بيعه شيئا - معناه انه بنى على انه مالك وبعد ذلك يبرز هذا الاعتبار باللفظ.

وهذا المعنى يخالف الوجدان والضرورة ، فان الشخص قبل التلفظ بالصيغة لا يبني على ان زيدا مالك ولا يرتب آثار الملكية عليه في نفسه ولا ينظر إليه نظر المالك بل هو يقصد تمليكه بالصيغة بحيث يبني على مالكيته بعد ذكرها لا قبله كما لا يخفى.

وثالثا : ان من المعاني الإنشائية ما لا يقبل الجعل والاعتبار أصلا كالإنفاذ ، فان نفوذ المعاملة معناه تأثيرها وترتب الأثر المرغوب عليها ، والتأثير غير قابل للاعتبار لما قرر في منع جعل السببية ونحوها من الأمور الانتزاعية ، من انها ان جعلت بنفسها بلا جعل المسبب كان ذلك منافيا للسببية ، لأن معناها تحقق المسبب عند وجود السبب ، وان جعل المسبب استغني عن جعلها بجعله لتحققها قهرا لانتزاعها عن وجود المسبب عند وجود السبب. والنفوذ مثل السببية من الأمور الانتزاعية ، بل هو في معناها لأنه عبارة عن تأثير العقد في المسبب ، فاعتباره ممتنع ، بل المجعول انما يكون هو الأثر وينتزع من جعله التأثير والنفوذ. ولا يخفى ان إجازة المعاملة الفضولية قد تكون بلفظ : « أنفذت » ، وهو - أعني

ص: 138

الإنفاذ - لا يقبل الاعتبار كما عرفت ، فيلزم أن لا تكون إنشاء على هذا التفسير مع ان كون الإجازة من الإنشائيات مما لا يخفى.

واما لو كانت بلفظ القبول مثل : « قبلت » فالإيراد لا يتأتى ، إذ قد يدعى بان الاعتبار تعلق بنفس المسبب ، والمنشأ هو نفسه لا التأثير والسببية. بدعوى : ان القبول عرفا في معنى الإقرار الإقرار بالتمليك الحاصل وجعل طرفه نفسه لا المنشئ الفضولي ، فيكون إنشاء التمليك مباشرة.

وبالجملة : من مجموع ما ذكرنا ومما سيأتي من الإشكال على معنى الصيغة الإنشائية يحصل الجزم بعدم صحة هذا الاختيار. هذا مع انه ( حفظه اللّه ) لم يتعرض لنفي ما ذكره صاحب الكفاية وإبطاله ، وانما تعرض لنفي المذهب المشهور خاصة ، وهذا على خلاف أسلوب التحقيق.

فالمتعين في معنى الإنشاء من بين الآراء هو الرّأي الثالث المشهور بين الاعلام لارتكازه في الأذهان.

هذا كله في الإنشاء. واما الاخبار فلا خلاف في معناه ، وانه هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد الحكاية عن ثبوته في موطنه ووعائه من ذهن أو خارج.

وأما المقام الثاني : فتحقيق الكلام فيه : انه قد نسب إلى المشهور دعوى كون الموضوع له الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج ، فمدلولها ثبوت النسبة في الخارج أو لا ثبوتها. فالثبوت معنى الجملة الإيجابية وعدم الثبوت معنى الجملة السلبية.

وأورد السيد الخوئي على ذلك بوجهين :

الأول : ان مقتضى كون مدلول الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها حصول العلم بثبوتها أو عدمه بمجرد إطلاق الجملة ، مع ان الوجدان قاض بعدم ذلك ، وانه لو لا القرائن الخارجية أو الاطمئنان الشخصي بصدق المخبر لا يحصل العلم من الجملة لو خليت ونفسها ، بل لا يحصل الظن.

ص: 139

والتفصي عنه بان وضع الجملة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها لا يقتضي سوى تصوره وانتقال الذهن إليه عند إطلاق الجملة كالوضع للمفردات ، إذ العلم الّذي يقتضيه الوضع انما هو العلم التصوري لا التصديقي. وحصول تصور ثبوت النسبة أو لا ثبوتها عند إطلاق الجملة لا يكاد ينكر من أحد.

مندفع : بما تقرر من ان دلالة الجملة على معناها تختلف عن دلالة الألفاظ المفردة ، فان دلالة الألفاظ المفردة تصورية ، ودلالة الجملة تصديقية ، والتصديق يعتبر فيه العلم والإذعان ، فمقتضى وضع الجملة لثبوت النسبة - بضميمة كون دلالتها على معناها تصديقية - حصول العلم التصديقي بثبوت النسبة في الخارج عند إطلاق الجملة ، وقد عرفت عدم حصوله.

الثاني : ان الوضع كما عرفت تحقيقه عبارة : عن التعهد بشيء عند ذكر اللفظ ، ولا يخفى ان التعهد لا بد ان يتعلق بأمر اختياري يمكن فعله للمتعهد ، وعليه فيمتنع الوضع لثبوت النسبة ، لأن مقتضاه تعهد الواضع ثبوت النسبة في الخارج عند ذكر الجملة ، وثبوت النسبة ليس من الأمور الاختيارية فلا يصح تعلق التعهد به.

ولأجل ورود هذين الإشكالين عدل عن اختيار المشهور إلى اختيار كون الموضوع له الجملة الخبرية قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والحكاية عنها ، وهو امر اختياري يمكن تعلق التعهد به ، كما ان الدلالة تكون تصديقية ، إذ بإطلاق الكلام وإلقائه يعلم بان المتكلم يقصد الحكاية والاخبار.

فيمكن الالتزام بهذا الرّأي بلا ورود المحذورين السابقين ، واختيار كون الموضوع له الجملة الإنشائية إبراز الصفات النفسيّة من طلب أو تمن أو اعتبار شيء ، فالصيغ الخبرية والإنشائية تتفقان في كون الموضوع له هو إبراز شيء ، وان لهما دلالة تصديقية إلا انهما يختلفان ، في ان موضوع الإبراز في الخبرية امر يحتمل فيه التحقق وعدمه ويحتمل فيه الصدق والكذب ، والمنظور في ما يقال من ان

ص: 140

الجملة الخبرية تحتمل الصدق والكذب هو هذا المعنى ، وإلاّ فنفس مدلول الجملة غير قابل للصدق والكذب. بخلافه في الإنشائية فانه لا يحتمل فيه ذلك.

ويتلخص الفرق بين هذا الالتزام وبين الالتزام الآخر في امرين :

الأول : ان الموضوع له على هذا الالتزام هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة. واما الموضوع له على الالتزام الآخر فهو نفس النسبة أو ثبوتها المحكي عنه.

الثاني : ان قصد الحكاية على الالتزام الآخر يكون بمنزلة داعي الداعي للاستعمال ، إذ الداعي الأول للاستعمال هو تفهيم النسبة وإيجاد صورة النسبة في الذهن ، وهذا التفهيم والإبراز ، تارة يكون بداعي الحكاية عنه ، وأخرى يكون بداعي الاستهزاء - مثلا - فداعي الحكاية يكون داعيا إلى التفهيم الّذي هو داع للاستعمال.

واما على هذا الالتزام فهو الداعي الأولي للاستعمال والتكلم ، إذ يوضع الكلام لأمر آخر غيره ، فلاحظ (1).

والكلام مع السيد الخوئي يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في تمامية ما ساقه سببا للعدول من تعريف المشهور للجملة الخبرية واختيارهم في الموضوع له الجملة وعدم تماميته ، والحق انه غير تام.

أما الوجه الأول : فلأن المراد من كون دلالة الجملة الخبرية تصديقية ليس انها بإلقائها توجب الإذعان بالنسبة ، بل ان مدلولها أمر لو تعلق به العلم كان تصديقيا ، بخلاف مدلول المفردات فانه لا يتعلق به الإذعان أصلا.

ويشهد لما ذكرناه : انهم لا يلتزمون بان دلالة الجملة الإنشائية تصديقية ، حتى من يلتزم بما التزم به السيد الخوئي من وضع الصيغ الإنشائية للطلب ونحوه.

ص: 141


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 85 - الطبعة الأولى.

فانه لو كان المراد من الدلالة التصديقية ما ذكره من حصول العلم بمدلولها بإلقائها لم يصح الالتزام به إلاّ بالالتزام بالوضع لتفهيم النسبة لا نفس النسبة ، والالتزام بذلك يقتضي الالتزام بتصديقية الدلالة في الجملة الخبرية والإنشائية ، وقد عرفت انهم لا يلتزمون بذلك في الجملة الإنشائية ، فيكشف عن كون المراد من الدلالة التصديقية معنى غير ما ذكر ، وهو ما بيناه.

وأما الوجه الثاني : فلأنه - مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في أصل المبنى. وتقريبه بنحو آخر أوجه منه وان لم يسلم عن الإشكال أيضا ، وهو جعل متعلق التعهد ذكر اللفظ لا المعنى فراجع - منقوض بالوضع للمفردات ، فان الذوات والطبائع التي توضع بإزائها الألفاظ غير اختيارية للواضع المتعهد ، فيمتنع الوضع له بمقتضى كون الوضع هو تعهد المعنى عند ذكر اللفظ ، لاستلزامه تعلق التعهد بأمر غير اختياري وهو ممتنع.

وبتعبير آخر : ان متعلق التعهد ان كان لا بد ان يكون نفس الموضوع له فلا بد ان يكون اختياريا ، انتقض ذلك بالوضع للمفردات من الذوات والطبائع ونحوهما. وان لم يلزم ان يكون هو الموضوع له ، بل متعلقه قصد تفهيم المعنى ، وذلك يصحح كون المعنى هو الموضوع له كما هو المفروض ، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه - أعني الجملة الخبرية - ، فيكون المتعهد به قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والموضوع له نفس ثبوت النسبة ، كما كان المتعهد به في لفظ : « زيد » لذاته قصد تفهيم الذات والموضوع له نفس الذات ، فلاحظ جيدا.

الجهة الثانية : في صحة ما اختاره معنى للجملة الخبرية والإنشائية وعدم صحته.

والحق عدم تماميته أيضا.

أما عدم صحة ما اختاره للجملة الخبرية من معنى ، وهو كونه قصد الحكاية عن ثبوت النسبة وانها موضوعة لإبراز هذا القصد دالة عليه وعلى كون

ص: 142

المتكلم في مقام الاخبار. فلوجهين :

الأول : تخلفه في بعض الصيغ الخبرية غير المستعملة في قصد الحكاية عن مدلولها ، كجملة : « أن زيدا قائم » في قول القائل : « سمعت أن زيدا قائم » ، فان مجموع الجملة اخبار عن السماع بقيام زيد إلاّ ان جملة : « ان زيدا قائم » غير مقصود بها الحكاية عن ثبوت النسبة بين : « زيد » و: « قائم » ، بل هي دالة على ثبوت النسبة فقط ، وهي بهذا اللحاظ كانت متعلقا للسماع ، وبهذا الاعتبار صح الاخبار عن السماع بها. لأن متعلق السماع هو النسبة والمقصود الحكاية عن السماع بها ، فلو لم تكن دالة على النسبة لم يتم الكلام ، إذ ليس ما يدل على النسبة غيرها ، وكقوله « أخبرني بكر بان عمرا قائم » ، وهو يعلم بكونه زيدا ، فانه ليس بصدد الاخبار عن قيام عمرو ، مع ان جملة « ان عمرا قائم » مستعملة في معناها قطعا.

وكالاستعمالات الكنائية ، فان المقصود الحكاية عن اللازم دون الملزوم مع دلالة الجملة على الملزوم فلو لم تدل على الملزوم وهو ثبوت النسبة الملزومة لنسبة أخرى المقصود الحكاية عنها لما صحت الكناية.

والحاصل : ان من الجمل الخبرية ما لا يستعمل في قصد الحكاية ، بل لا يدل إلاّ على النسبة ، فمقتضى الالتزام المذكور عدم كونها من الجمل الخبرية مع انها كذلك بلا كلام وتوقف.

يضاف إلى ذلك ، أولا : ان نتيجة الوضع لمعنى هو حكاية اللفظ عنه وتفهيمه به وإبرازه به ودلالته عليه ، فلو كان الموضوع له الجملة الخبرية هو قصد الاخبار كان مدلولها ذلك بحيث يكون المحكي بها هو قصد الحكاية ، وذلك مخالف لما عليه الوجدان والعرف ، فان العرف يرى ان مدلول الجملة الخبرية هو ثبوت النسبة لا قصد الاخبار عنها ، فيرى ان المتكلم حكى عن ثبوت النسبة لا انه حكى قصد الحكاية عن ثبوت النسبة ، بل هذا المدعى يمكن ان يستفاد

ص: 143

من كلامه هو ، حيث صرح بان المتكلم يقصد الحكاية عن ثبوت النسبة بالجملة.

وثانيا : ان الدليل الّذي ساقه لاختيار هذا الوجه هو دعوى انه يستفاد عند إطلاق الجملة الخبرية كون المتكلم في مقام الاخبار وانه يقصد الحكاية. ونظير هذا موجود في استعمال الألفاظ المفردة ، فان المتكلم إذا أطلق اللفظ المفرد يفهم انه في مقام تفهيم معناه وإبرازه ، فلما لم يلتزم في المفردات بأنها موضوعة لقصد تفهيم المعنى كما التزم بذلك في الجملة الخبرية؟ ، وانما التزم بأنها موضوعة لذات المعنى لكن مقيدة بتعلق الإرادة والقصد.

ولو أراد ان يلتزم بان الموضوع له في المفردات هو قصد التفهيم والإبراز كما لا تأباه بعض عبارات بعض تقريراته (1) ، للزم ان يلتزم ان الدلالة في باب المفردات تصديقية أيضا كما في باب الجمل ، لوحدة الملاك وهذا مما لا يلتزم به.

فيكشف ذلك عن ان ما استند إليه في إثبات مدعاه غير مجد وانه لازم أعم للوضع فلا يكشف عن الوضع.

وثالثا : ان النسبة المقصود تفهيمها معنى من المعاني التي تحتاج إلى وضع شيء لها ، فإذا كانت الجملة موضوعة لقصد تفهيمها فما هو الموضوع لها؟.

الثاني : ان المتصور في قصد الحكاية الموضوع له الصيغة أمور ثلاثة : أحدها : التصميم والعزم على الاخبار. ثانيها : كون المتكلم بصدد الاخبار وفي مقام الحكاية. ثالثها : كونه قاصدا الحكاية والاخبار بهذه الجملة بحيث يكون الاخبار والحكاية داعيا لذكر الجملة. ومراد القائل هو الثالث دون الأولين ، لأنه يذهب إلى انه بالقصد المذكور يكون الكلام خبرا وفردا من افراد الاخبار ، مع انه قد لا يترتب مباشرة على أصل العزم أو كونه في مقام الاخبار استعمال الصيغة الخبرية بل يستعمل الصيغة الإنشائية ولا يكون اخبارا بلا كلام. فالمتعين هو

ص: 144


1- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 59 - الطبعة الأولى.

الثالث ، فانه المساوق لاستعمال الجملة الخبرية وبه تكون الجملة من افراد الاخبار ، ومصداقا للخبر. ولا يخفى ان الداعي ما يكون بوجوده الذهني سابقا وبوجوده الخارجي لاحقا مترتبا على الشيء بلا فصل. فإذا كانت الحكاية المأخوذة في معنى الجملة الخبرية من قبيل الداعي فلا بد من فرض كون الحكاية عن ثبوت الجملة للنسبة امرا يترتب على الجملة في نفسه كي يكون داعيا إلى الاستعمال ، ويكون الاستعمال بلحاظه ، وهذا انما يتلاءم مع الوضع لنفس ثبوت النسبة لا لقصد الحكاية ، إذ بعد فرض كون القصد هاهنا بمعنى الداعي فلا بد ان يفرض مدلول الجملة أمرا غير القصد يكون مدعاة للاستعمال وموضوعا للقصد.

وقد يقال : إذا كان الموضوع له هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة كان ثبوت النسبة قيد الموضوع له ، فصح ان يكون داعيا ولو بلحاظ دلالة الكلام عليه بالالتزام وبتبع دلالته على المقيد به وهو نفس القصد.

لكنه غير وجيه : لأن ما أخذ قيد الموضوع له هو ثبوت النسبة بنحو الإطلاق وبلا تقييده بنسبة خاصة. والداعي الباعث للاستعمال هو تفهيم النسبة الخبرية الخاصة ، لوضوح تفاوت أنحاء النسب وتفاوت الجمل في الدلالة عليها ، فنحو النسبة المدلول عليها بجملة : « قام زيد » غير نحو النسبة المدلول عليها بجملة : « زيد قائم » أو « ان زيدا قائم ». فالمدلول عليه بالالتزام هو كلي النسبة وهو لا يصلح للداعوية ، فلا يمكن فرض كون الداعي الحكاية عن النسبة الخبرية الخاصة إلاّ بفرض قابلية الكلام بنفسه لتفهيمه في مرحلة سابقة على الداعوية ، وهو يقتضي الوضع لثبوت النسبة.

ومن هنا تتضح تمامية الإيراد على الوجه المزبور - أعني الوجه في وضع الجملة الخبرية - بأنه نرى بالوجدان بأنه عند إطلاق جملة : « زيد قائم » نفهم معنى آخر غير نفس المعاني الإفرادية وهو ثبوت النسبة بينهما. والدال منحصر

ص: 145

بالهيئة التركيبية وذلك يقتضي وضعها لذلك.

إذ الجواب عنه : بان الدلالة على ذلك انما كان بواسطة الدلالة على قصد تفهيم النسبة ، إذ تصور ثبوت النسبة يكون مع ذلك قهريا للعلم بقصد تفهيمه. فلا دلالة لانسباق ثبوت النسبة على الوضع له لأنه يتلاءم مع الوضع لقصد الحكاية عن ثبوتها.

لا يتجه بعد ما عرفت من ان القيد المأخوذ والمدلول عليه بالالتزام - لو تم الوجه المزبور - هو كلي النسبة ، والمتبادر عند إطلاق الجملة ثبوت النسبة الخاصة والتبادر علامة الوضع ، إذ لا مقتضى سواه في المقام.

نعم ، الإيراد عليه : بان المراد بالإبراز ان كان مفهومه ، فيلزم الترادف بين الهيئة وبين لفظ الإبراز وهو باطل كما لا يخفى ، وان كان مصداقه ، فهو مما لا يلتزم به القائل لأنه لا يرى صحة الوضع للموجود الخارجي لعدم قابليته للانتقال الذهني الّذي هو غاية الوضع ، لأن الانتقال يتعلق بالمفاهيم لا بالمصداق.

غير وجيه : لأن الإبراز الوارد في التعبير غالبا لم يؤخذ في الموضوع له ، بل الموضوع له هو القصد ، والإبراز بمنزلة الداعي للوضع ، فاللام في قوله : « وضع لإبراز ... » لام التعليل لا لام الإضافة والملك. ومثله الحال في الإبراز في الجمل الإنشائية ، إذ قد توهم بعض عباراته انه هو الموضوع له بمعنى كونه طرفا للعلقة الوضعيّة ، ولكن مراده انه الموضوع لأجله ، إذ لا معنى لكون الإبراز طرفا للعلقة الوضعيّة ، مع انه لا يوجد إلاّ بالاستعمال. فالاستعمال موجد للإبراز لا كاشف عنه فتدبر.

ولكن يرد عليه نظيره بالنسبة إلى قصد الحكاية الّذي فرضه موضوعا له ، فيقال ان المراد ان كان هو مفهوم قصد الحكاية لزم صحة الترادف بين الهيئة وقصد الحكاية وهو باطل جزما ، لعدم صحة وضع أحدهما موضع الآخر. وان كان هو واقع قصد الحكاية فهو خلاف ما التزم به القائل من لزوم كون الوضع

ص: 146

للمفاهيم.

واما عدم صحة ما اختاره للجملة الإنشائية من معنى - الّذي يتلخص في ان الجملة الإنشائية موضوعة بقصد إبراز الصفات النفسانيّة الحاصلة في النّفس من تمن وترجّ واستفهام واعتبار ، فهي موضوعة لواقع هذه الصفات لا لمفهومها ، بمعنى ان الواضع تعهد بأنه متى ما كان في نفسه إحدى هذه الصفات ذكر الهيئة الخاصة بها ، ولذلك يكون الإتيان بالجملة الإنشائية موجبا للعلم بحصول هذه الصفة في نفس المتكلم فيرتب عليه آثارها ، وليس موجبا للتصور والخطور ، فانه من شأن المفاهيم لا الوجودات - فلوجهين :

الأول : ان ذلك انما يتم في غير ما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة النفسانيّة الموضوع لها الهيئة نظير : « ملكت » ، فان الهيئة تدل على الاعتبار القائم بالنفس ، والمادة تدل على الملكية ، وهي غير مفهوم الصفة النفسانيّة ، أعني الاعتبار كما لا يخفى ، فالمجموع من الهيئة والمادة يدل على اعتبار الملكية.

وأما فيما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة النفسانيّة مثل : « اعتبرت » ان قصد بها الإنشاء أو : « أتمنى » المقصود بها إنشاء التمني ، فلا يتم ما ذكر ، لأن معنى الكلام - بمقتضى ما ذكر بملاحظة المجموع من الهيئة والمادة - اعتبار الاعتبار وتمني التمني ولا ريب في فساده ولا يلتزم به القائل مع انه لازم قوله.

وهكذا لا يتم ما ذكر فيما كان المنشأ لفظا غير المقصود اعتباره مثل « بعت » ، فان المقصود اعتبار الملكية ، والصيغة بمادتها وهيئتها انما تدل على اعتبار البيع ولا معنى له ، إذ البيع من الأفعال التكوينية الخارجية لا من الاعتباريات ، لأنه يدل على إيجاد التمليك ويشير إلى صدور التمليك عن البائع ، وهو امر تكويني ليس باعتباري ، وبعبارة أخرى : التمليك بلحاظ جهة الصدور ليس اعتباريا كالملكية كما لا يخفى.

ص: 147

الثاني : ان لازم هذا الاختيار ان لا يكون للجملة الإنشائية مدلول تام جملي في عالم المفهومية والتصور ، بل لا يكون هناك الا مفهوم المادة الأفرادي. بيان ذلك : ان الصيغة إذا كانت موضوعة لواقع الصفة النفسانيّة ، وهي - مثلا - الاعتبار القائم بالنفس ، كان وجود الصيغة كاشفا عن ذلك الواقع وموجبا للعلم به بلا خطوره في الذهن ، لفرض كونه موجودا وهو لا يقبل التحقق في الذهن. وعليه فليس في الجملة الإنشائية ما يتعلق به التصور والانتقال سوى مفهوم المادة وهو ما تعلق به الاعتبار. مثلا قول الآمر « صل » يكشف بهيئته عن اعتبار الصلاة في عهدة المكلف ويوجب العلم به ، والمادة توجب الانتقال إلى مفهوم الصلاة وتصوره.

وإذا لم يكن للجملة الإنشائية مفهوم جملي تام ، بل ليس لها إلاّ مفهوم افرادي ، خرج بابها عن باب استعمال الألفاظ الموجب لخطور المعنى في الذهن والانتقال إليه ، إذ يكون حال الهيئة حال الكاشف التكويني عن الصفة ، فلو فرض وجود الكاشف تكوينا عن الصفة غير الهيئة اللفظية وأتى به مع لفظ : « صلاة » لم يكن ذلك من باب الاستعمال أصلا ، بل المستعمل ليس إلاّ لفظ الصلاة في مفهومه. ومثله لو فرض وجود الكاشف الجعلي غير اللفظ بان يتعهد الشخص بأنه متى ما اعتبر شيئا رفع يده وذكر اسم ذلك الشيء ، فان رفع اليد وذكر اسم ذلك الشيء لا يكون من باب الاستعمال في الصفة النفسانيّة ، بل هو أجنبي عنه بالمرة ، فالحال كذلك في الجملة الإنشائية فانها تكون - على هذا القول - خارجة عن باب الاستعمال وأن المستعمل فيه ليس إلاّ مفهوم المادة كالصلاة ونحوها. فلاحظ جيدا وتدبر.

فالتحقيق : ان الموضوع له الجملة والهيئة التركيبية خبرية كانت أو إنشائية هو نفس النسبة بين الموضوع والمحمول التي يصح التعبير عنها في الجمل الاسمية بلفظ الاتحاد ، فيقال في « زيد قائم » : « زيد وقائم متحدان » ، وهذه النسبة

ص: 148

يعرض عليها الثبوت وعدم الثبوت ، والإيجاب والسلب ، والاخبار والإنشاء ، بمعنى انه ان قصد بالجملة الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع المقرر لها كانت الجملة خبرية ، وان قصد بها إيجاد معناها وهو النسبة في وعائه المناسب له كانت الجملة إنشائية ، ومدلول الجملة والمستعمل فيه في كلا الحالين واحد وهو النسبة. فالمستعمل فيه : « أنت حر » أو « زوجتي طالق » اخبارا وإنشاء واحد وهو النسبة لا يختلف في حال الاخبار عنه في حال الإنشاء.

فالاخبار والإنشاء خارجان عن الموضوع له والمستعمل فيه في الجملة الخبرية والإنشائية ، بل هما من أطوار الاستعمال وأنحائه. ولعل مراد المشهور ما ذكرناه من الوضع لنفس النسبة التي يعرض عليها الثبوت وعدمه (1) - لا الوضع لثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، لوضوح ان أداة السلب في الجملة الخبرية انما ترد على نفس النسبة القائمة بين الموضوع والمحمول ، لا ان الهيئة المركبة من المجموع من الموضوع والمحمول وأداة السلب موضوعة للاثبوت النسبة ، إذ وجود النسبة بين الموضوع والمحمول في الجملة السلبية مما لا يكاد ينكر - من دون أخذ الاخبار والإنشاء في الموضوع له والمستعمل فيه. ويشهد لذلك انهم لا يفرقون بين الجملة الخبرية والإنشائية الا في كون المتكلم في مقام الاخبار وعدمه.

ومن هنا يظهر المراد مما قرر من ان الخبر ما كان لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه دون الإنشاء ، فان الجملة الخبرية إذا كانت هي الجملة المستعملة في

ص: 149


1- لم يبت - سيدنا الأستاذ ( مد ظله ) - في الدورة اللاحقة بهذا الأمر ، وان أوكل تحقيقه إلى مجال آخر ، وانما كان همّه نفي ما ذهب إليه السيد الخوئي من معنى الجملة الخبرية. والّذي يبدو لي هو اعتبار الثبوت في مدلول الجملة الإيجابية ، لأن المفهوم من الجملة وقوع النسبة وثبوتها لا مجرد النسبة ، والدال منحصر بالهيئة ، إذ لا دال آخر في البين يدل على الثبوت. ولعله مما يدل على ذلك ان النسبة بين المحمول والموضوع ليست أمرا تصديقيا. نعم ثبوتها أمر تصديقي يقبل التصديق. واما السلبية ، فهي أيضا مستعملة في ثبوت النسبة ، وحرف السلب يتوجه إلى مدلول الهيئة ، فهو ينفي الثبوت ، ولا محذور في ذلك. ( منه عفي عنه ).

النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها في الواقع ، فلا بد ان يكون الملحوظ هو الواقع ، فاما ان تكون النسبة في الواقع مطابقة للنسبة الكلامية أولا تكون ، بخلاف الإنشاء ، إذ ليس المقصود منه الحكاية عن الواقع كي يكون الواقع منظورا فيه وتلحظ المطابقة له وعدمها.

ولا يخفى ان هذا الرّأي في الجملة الخبرية والإنشائية هو الأمر الارتكازي لمعناها والمتبادر من الجملة كما يشهد له ملاحظة الاستعمالات العرفية بلا كلام ، كما انه سالم عن جميع المحاذير السابقة وشامل لجميع موارد الاستعمال بلا استثناء.

نعم ، تبقى هناك موارد لا تدخل في الاخبار ولا الإنشاء ، وهي ما أشرنا إليه مما لا يكون المبدأ من الأمور الاعتبارية ، بل كان من الأمور التكوينية ولم يكن القصد هو الحكاية عن تحققه كالتمني والترجي ، فان الجملة في هذه الموارد لا تكون خبرية ، إذ ليس المستعمل فيه هو النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها. ولا إنشائية ، إذ لم تستعمل النسبة بقصد إيجادها المعنى في عالمها ، إذ هي لا تقبل الإيجاد والاعتبار ، بل وجوده يدور مدار تحقق أسبابه التكوينية ، مع ان المقرر انه لا واسطة بين الإنشاء والخبر في الجمل ، بل يمكن ان يقرب هذا الكلام إيرادا على ما اخترناه أو اختاره المشهور في معنى الإنشاء ، وذلك ببيان : انه من المسلم ان موارد التمني والترجي من الإنشائيات ، ومن الواضح انها أمور حقيقة توجد بأسبابها التكوينية ولا توجد باللفظ والاستعمال ، وبضميمة ان الإنشاء في جميع موارده بمعنى واحد يكشف عن بطلان المختار وصحة الالتزام به ، بأنه عبارة عن إبراز الصفة النفسانيّة غير قصد الحكاية.

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بد من التكلم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في تصحيح الارتباط الحاصل بين معنى الحرف ومعنى الجملة المدخولة للحرف. إذ لا إشكال في وجود الربط بين معنى « ليت » ومعنى

ص: 150

الجملة التي تدخل عليها ، والمفروض ان معنى الجملة - وهو النسبة - معنى حرفي آلي لا يقبل التقييد والإطلاق ، فلا يصح ربطه بشيء ، فلا بد من الكلام في تصحيح هذا الارتباط الحاصل.

الجهة الثانية : في بيان معنى نفس الحرف.

الجهة الثالثة : في تصحيح صدق الإنشاء بالمعنى المختار أو المشهور على الجملة.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط ، فان أساس البحث هناك في هذا الشأن وتصحيح رجوع القيد إلى الهيئة ، لأنه - أي الواجب المشروط - نتيجته ارتباط أداة الشرط بالهيئة ، وقد صحح ذلك بجهات ، كالالتزام بعموم الموضوع له كما التزم به صاحب الكفاية (1) ، والالتزام بعدم آلية المعنى الحرفي وإمكان استقلاله في اللحاظ كما ذهب إليه السيد الخوئي (2) ، والالتزام برجوع القيد إلى المادة المنتسبة لا نفس النسبة كما اختاره المحقق النائيني (3) ، وليس الكلام في ذلك محله هاهنا ، بل يتضح الحال في مبحث الواجب المشروط فانتظر.

وأما الجهة الثانية : فالتحقيق ان يقال : ان الموضوع له الحرف هو النسبة بين التمني والمتمنى - بالفتح - ( الأمنية ) لأن تعلق التمني بشيء لازمه تحقق نسبة بين التمني وما تعلق به ، فاللفظ موضوع إلى هذه النسبة ، وهو أمر مرتكز عرفا كما انه الأقرب إلى معنى الحرف لتوفر جهات المعنى الحرفي فيه من الآلية والإيجادية ونحوهما. خصوصا بعد وضوح بطلان ما التزم به المحقق صاحب

ص: 151


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /97- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 321 - الطبعة الأولى. بحرالعلوم علاء الدين. مصابيح الاصول 308/1-الطبعة الأولی.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.

الكفاية من وضعها إلى مفهوم التمني كلفظ : « التمني ». وما التزم به السيد الخوئي من وضعها إلى نفس الصفة النفسانيّة أو إبرازها. فلاحظ.

وأما الجهة الثالثة : فقد عرفت انه لا إشكال في إمكان كونها من الإنشائيات بناء علي ما التزم به صاحب الكفاية من معنى الإنشاء ، لقابلية كل شيء اعتباريا كان أو تكوينيا لوجود إنشائي.

وهكذا الحال بناء على ما التزم به بعض ، من كون الإنشاء استعمال اللفظ لا بقصد الحكاية وان لم يكن بقصد الإيجاد ، لوضوح عدم تأتي قصد الحكاية في جمل التمني والترجي.

وانما الإشكال في ذلك بناء على المذهب المشهور ، لأن التمني من الأمور الواقعية التابع وجودها لأسبابها التكوينية ، سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق ، ولا يكون للاستعمال دخل في وجودها أصلا كي يقصد به إيجادها في عالمها.

وعليه ، فصدق الإنشاء عليها يتوقف على تصور وجود اعتباري لها غير وجودها الحقيقي التكويني ، ويمكن تقريب ثبوت مثل هذا الوجود لها بأمور : - وهي لو تمت لدلت أيضا على صحة الالتزام بالوجود الإنشائي في هذه الموارد -.

الأول : ما يلاحظ في الاستعمالات والمحاورات العرفية العقلائية التي هي الحكم في مثل هذه الأمور من عدم صدق التمني الا بعد الكلام وصدور الجملة ، فيقال للشخص انه تمنى بعد صدور الجملة ، فانه ظاهر في ان للتمني معنى عندهم يتحقق بالجملة ، وليس هو إلاّ الوجود الاعتباري ، ولذا لا يقال انه للتفهيم إذا لم يصدر منه ما يدل على الاستفهام النفسيّ.

الثاني : ان الفعل المشتق من التمني يسند عرفا إلى الفاعل ، بنحو نسبة صدورية المرادف في الفارسية ل- : « تمني كرده يا مى كند » ، مع انه إذا كان الملحوظ في المعنى الاشتقاقي هو الصفة النفسانيّة لم يصح اسناد الفعل إلى الفاعل بإسناد صدوري ، لأن نسبة الصفة النفسانيّة نسبة حلولية المرادف في الفارسية

ص: 152

ل- : « تمني شده » لا صدورية ، كغيرها من الصفات النفسانيّة مثل العلم. فلا بد ان يكون الملحوظ في الإسناد المزبور معنى للتمني يتناسب مع الإسناد الصدوري وهو الوجود الاعتباري.

الثالث : انه لا إشكال في انه يطلق لفظ التمني على نفس الكلام الصادر. وهذا لا يصح إلاّ بملاحظة ان التمني يوجد بوجود اعتباري عقلائي باللفظ ، فيصدق لفظه على الجملة من باب صدق لفظ المسبب على السبب وهو متعارف.

ولا يمكن توجيهه : بان صدقه بملاحظة انكشاف الصفة النفسانيّة باللفظ ، فيصدق على الجملة من باب صدق لفظ المنكشف على الكاشف.

لأن مثل هذا الاستعمال غير متعارف ، ولا إشكال في عدم صحة صدق اللفظ الموضوع لمعنى على لفظ آخر كاشف عن ذلك المعنى.

والمتحصل : انه من ملاحظة مجموع ما ذكرنا يحصل الجزم بان للتمني وجودا آخر غير وجوده الحقيقي يتحقق باللفظ ، فيصدق الإنشاء بالمعنى المشهور على جملة التمني بهذا الاعتبار. فتدبر جيدا.

هذا بالنسبة إلى حروف التمني والترجي.

وأما حروف النداء ، مثل : « يا ». فالتحقيق فيه : ان النداء ان كان معناه هو التصويت بقصد جلب توجه المخاطب المراد في الفارسية ل- « صدا كردن » ، كان حرف النداء بمجرد حصوله محققا للنداء باعتبار انه صوت في هذا المقام - أعني في مقام جلب توجه المخاطب - بلا ان تصل النوبة إلى تعيين وضعه إلى معنى ، بل لا أثر لذلك. وان كان معناه جلب توجه المخاطب فقط أمكن البحث في الموضوع له لفظ النداء بحيث يفهم منه ان المتكلم في مقام جلب التوجه. والتحقيق ان يقال : انه موضوع كسائر الحروف للنسبة الحاصلة بين جلب التوجه والمنادى والربط القائم بهما ، فانه لا إشكال في حصول نسبة وربط بينهما حين يكون المتكلم في مقام جلب التوجه وقاصدا تحقيق هذا الأمر.

ص: 153

وأما الاستفهام : فكونه من المعاني الإنشائية الحاصلة بالاستعمال مما لا إشكال فيه ، لوضوح عدم صدقه قبل الكلام الاستفهامي ، فانه لا يقال للشخص انه استفهم الا بعد الكلام وإنشائه المعنى. وأما حروف الاستفهام ، فهي موضوعة للنسبة الحاصلة بين المتكلم وبين المعنى المقصود فهمه فانها تحصل بمجرد كونه في مقام طلب الفهم.

ولا يخفى أن المخاطب عند إلقاء الكلام المشتمل على حرف النداء أو الاستفهام أو التمني ونحوها لا يوجد في ذهنه نسبة مماثلة للنسبة الحاصلة في ذهن المتكلم كسائر الحروف ، لفرض تقوم النسبة المزبورة بالمتكلم لأنه أحد طرفيها دون النسب بين المفاهيم التي هي مدلول الحروف الأخرى ، كما انه لا تحصل في ذهنه نفس تلك النسبة لامتناع تعلق اللحاظ بنفس الموجود بما هو موجود ، وانما تحصل في ذهنه صورة تلك النسبة فيرتب عليه الأثر لو كان له أثر.

ومن جميع ما ذكرنا يتحصل ان الحروف بأسرها موضوعة لأنحاء النسب والربط ، وبذلك كانت معانيها متقومة بالآلية والإيجادية كما تقدم تفصيله.

يبقى الكلام في الأسماء الملحقة بالحروف ، كأسماء الإشارة وضميري المخاطب والغائب ، وتعيين الموضوع له فيها وبيان عمومه أو خصوصه.

وقد التزم المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه بان الموضوع له فيها عام كالحروف لا خاص ، بدعوى : ان الموضوع له فيها انما هو المعنى الكلي الّذي تتعلق به الإشارة والتخاطب ، وتشخصه الحاصل عند الإشارة انما ينشأ من طور الاستعمال ، ونفس الإشارة أو التخاطب لاستدعاء كل منهما الشخص ليس مأخوذا في الموضوع له. فالموضوع له لفظ : « هذا » انما هو المفرد المذكر ، والمستعمل فيه هو ذلك أيضا ، وهو وإن تشخص بالاستعمال ، إلاّ انه لأجل كونه من شئون الاستعمال حيث كان بالإشارة وهي لا تكون الا إلى الشخص ، لا المستعمل فيه.

ص: 154

وبالجملة : أسماء الإشارة موضوعة لمعاني يشار إليها بها من دون أخذ الإشارة والتشخص الخارجي في الموضوع له ، كما لم يؤخذ اللحاظ في معنى الحرف والاسم (1).

ويرد على ما ذكره - بحسب النّظر الأولي - وجهان :

الأول : ان الإشارة الخارجية إنما تتعلق بالفرد دون الطبيعة والكلي بما هو كلي ، وعليه فيمتنع ان تكون أسماء الإشارة موضوعة ليشار بها إلى معانيها مع الالتزام بان معانيها كلية.

ولا مجال لتوهم إمكان إرادة الفرد من اللفظ وان كان موضوعا للكلي - فيمكن دعوى تعلق الإشارة بمعنى اسم الإشارة بهذا الاعتبار لأن الفرد يكون على هذا معنى اسم الإشارة في مرحلة الاستعمال - كسائر الألفاظ الموضوعة للطبائع ، فانه يمكن إرادة الفرد منها كقولك : « أكلت الخبز » و « دخلت السوق » ، إذ الأكل والدخول انما يتعلقان بفرد الخبز والسوق لا بالطبيعة.

لأن ذلك - أعني دعوى إرادة الفرد من اللفظ - خلاف المدعى أيضا ، إذ المدعى ان المستعمل فيه عام كالموضوع له.

مضافا إلى انه ممنوع في نفسه ، فان اللفظ الموضوع للطبيعة لا يستعمل في الفرد في أي مورد كان لاستلزامه شيوع المجاز في المحاورات ، لكثرة إرادة الفرد من اللفظ مع انه غير الموضوع له ، فالالتزام باستعمال اللفظ فيه التزام بالمجاز في جميع هذه الموارد وهو خلاف الوجدان ، لذلك التزم القوم في مثل هذه الموارد بان المستعمل فيه ليس هو الفرد ، بل هو الكلي لكن بلحاظ انطباقه على هذا الفرد وبتطبيقه على الشخص المعين ، فذكر اللفظ الموضوع للمعنى الكلي وإرادة الفرد يكون من باب الإطلاق لا من باب الاستعمال في الفرد ، فلا يكون

ص: 155


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الاستعمال مجازيا ، لأنه فيما وضع له وهو الكلي.

وبالجملة : ففيما نحن فيه الإشارة الحسية لا تتعلق بالكلي لعدم قابليته لها ، بل كل ما يشار إليه فهو فرد لتقومه بالوجود ، ففرض كون المعاني - وضعا واستعمالا - كلية ينافي فرض تعلق الإشارة بها ، لأن ما تتعلق به الإشارة هو الفرد وهو ليس بمعنى اسم الإشارة لا وضعا ولا استعمالا كما عرفت تحقيقه.

الثاني : ما قد يستشعر من كلام المحقق الأصفهاني ، وهو : انه لا إشكال في عدم إرادة الإشارة الناشئة من قبل وضع اللفظ لمعنى والمساوقة لبيان المعنى باللفظ - كما يقال المعنى المشار إليه ، أو أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ، فان المراد المعنى المبين وبيان المعنى - ، لأنه أمر عام وثابت في جميع الألفاظ الموضوعة ولا يختص بأسماء الإشارة ، وانما المراد معنى آخر لا تحقق له في غير لفظ ولا تقتضيه طبيعة الوضع ، وهو - كما يظهر من ذيل كلامه وتعبيره باستلزام الإشارة التشخص الخارجي - الإشارة الحسية لأنها هي الموجبة للتشخص الخارجي. ولا يخفى ان هذه الإشارة الحسية ليست من آثار اللفظ وخصوصياته التكوينية ، وإلاّ كان كل لفظ كذلك. بل لا تتحقق باللفظ إلاّ بالجعل والاعتبار. وعليه فلا بد من تحقق الإشارة الحسية بلفظ اسم الإشارة من اعتبار الإشارة وأخذها في الموضوع له ، إذ لا يمكن تحققها بدونه (1). وللمحقق الأصفهاني في المقام كلام لا يخلو عن غموض أخذه المقرر الفياض وصاغه بعبارة أخرى (2). إلاّ انه لم يؤد المطلب بتمامه ولعله لم يصل إلى فهم مراده ، ولما لم يكن في التعرض إلى تفصيل ذلك أثر فيما نحن فيه ، فالإعراض عنه أولى وأجدر ، وفي الإشارة إلى ذلك كفاية.

ثم ان المحقق الأصفهاني بعد ان استشكل في كلام صاحب الكفاية ، قال :

ص: 156


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 21 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 90 - الطبعة الأولى.

« بل التحقيق ان أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلق الإشارة به خارجا أو ذهنا بنحو من الأنحاء ، فقولك هذا لا يصدق على زيد مثلا إلاّ إذا صار مشارا إليه باليد أو بالعين مثلا ، فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ هذا هو الفرق بين العنوان والحقيقة ، نظير الفرق بين لفظ الربط والنسبة ، ولفظ من وفي وغيرهما ، وحينئذ فعموم الموضوع له لا وجه له أصلا ، بل الوضع حينئذ عام والموضوع له خاص كما عرفت في الحروف » (1). وتابعة على هذا الاختيار السيد الخوئي ، إلاّ انه خص الموضوع له بما تعلقت به الإشارة الخارجية كما هو صريح تقريرات الفياض (2).

والّذي يرد على هذا الاختيار وجهان :

أولهما : وهو جدلي ، انه يستلزم الوضع إلى الموجود بما انه موجود ، وذلك لأن الإشارة لا تتعلق الا بالموجود ، فإذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة إليه كان معنى اسم الإشارة هو الموجود لا المفهوم ، والوضع للموجود - وان لم يتضح لدينا امتناعه إلاّ انه - مما يلتزم بامتناعه كلا المحققين.

وثانيهما : انه إذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة الخارجية - كما يلتزم به السيد الخوئي - امتنع استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور الذهنية ، لامتناع تحقق الإشارة الخارجية إليها ، مع ان استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور الذهنية مما لا يحصى بلا تجوز ولا مسامحة ، فيقال : « هذا الكلي كذا وذاك كذا » و: « المعنى الّذي في ذهنك لا أقصده » وغير ذلك من الأمثلة. هذا مع انه قد يستعمل لفظ الإشارة في المعنى الخارجي بلا انضمام إشارة خارجية إليه ، كما لو لم يكن المتكلم قاصدا اطلاع غير المخاطب على ارتباط الحكم

ص: 157


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 21 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 91 - الطبعة الأولى.

بالمشار إليه ، فيأتي بلفظ الإشارة بلا ان يضم إليه الإشارة الخارجية ، فيقول : « هذا عالم أو جاهل ». ولا يخفى انه لا يرى في هذا الاستعمال تجوز ومسامحة ، مع ان لازم مختاره ان يكون مثل هذا الاستعمال مسامحيا.

والتحقيق ان يقال : اما في اسم الإشارة. فالموضوع له لفظ الإشارة هو نفس الإشارة الذهنية ، وبيان ذلك بعد ذكر أمرين :

الأول : في بيان معنى الإشارة الذهنية ، والمراد بها هو توجه النّفس نحو المعنى الحاضر بنحو توجه يختلف عن أصل التصور واللحاظ ، فانه قد يكون هناك معاني كثيرة متصورة ، إلاّ انه قد يتوجه إلى بعضها بسنخ توجه ويحكم عليه بحكمه ، ولا نستطيع التعبير عن حقيقة هذا التوجه باللفظ ، إلاّ انه يمكن تقريبه بتشبيهه بالإشارة الخارجية إلى المعنى الخارجي ، فان نحو الإشارة الذهنية كالإشارة الخارجية بالعين مثلا في اشتمالها على خصوصية تختلف بها عن أصل التوجه والتصور ، كاشتمال الإشارة بالعين على خصوصية تختلف عن أصل النّظر.

الثانية : ان كلا من الإشارة الذهنية والخارجية فعل من الأفعال ، إلاّ انه يختلف عن سائر الأفعال بان الالتفات والتوجه لا يتعلق به بنفسه ، بل يتعلق بما جعل طريقا إليه وآلة لتعيينه - أعني المعنى المشار إليه - ، فالالتفات المتعلق بالإشارة بما هي إشارة طريقي وآلي لا استقلالي ، وانما التوجه الاستقلالي يتعلق بنفس المعنى ، بخلاف سائر الأفعال كالقيام والأكل والشرب ونحوها ، فانه يتعلق بها اللحاظ الاستقلالي لا الآلي.

إذا تبين ذلك فنقول : ان اسم الإشارة موضوع لنفس الإشارة الذهنية ، فيكون ذكر اللفظ كاشفا عنها وموجبا للعلم بها ، فينتقل منها إلى المشار إليه - كما ينتقل الذهن إلى المشار إليه بالإشارة الخارجية بمجرد رؤيا الإشارة الخارجية - ، وهذا المعنى - أعني الإشارة الذهنية - من المعاني الآلية كما تقدم ، وبذلك شابه اسم الإشارة الحروف. وهذا المعنى لاسم الإشارة معنى معقول وارتكازي تصوره

ص: 158

مساوق للتصديق به فانه قريب إلى الأذهان ، فلا يحتاج إلى إقامة برهان.

وأما ما قيل في تقريب دعوى السيد الخوئي : من ان مقارنة استعمال اسم الإشارة للإشارة باليد أو العين أمر ارتكازي في الاستعمالات ولا ينفك عن الاستعمال فيكشف ذلك ان كون الموضوع له هو المعنى حال مقارنته للإشارة الخارجية.

فهو لا يكشف عن المدعى ولا يدل عليه بعد ما عرفت ، وذلك لأنه من المتعارف في الاستعمالات اقتران اللفظ بما يرادف معناه من الأفعال الخارجية لو كان له مرادف ، فان رفع الرّأس إلى أعلى في استعمال كلمة : « فوق » وتشبيه المتكلم حركات من ينقل عنه بعض الأفعال من جلوس وأكل وشرب ، أمر لا يكاد يخفى ، وعليه فإذا كان اسم الإشارة موضوعا للإشارة الذهنية ولم يكن في الخارجيات ما يصلح للتعبير عنها غير الإشارة الخارجية لكونها من سنخ واحد كان من الطبيعي انضمام الإشارة الخارجية للفظ الإشارة مثل : « هذا ».

وبالجملة : فالاستعانة باليد والعين وغيرهما من أعضاء الجسم في تأكيد الكشف عن المعاني عند استعمال اللفظ الموضوع إلى المعنى امر متعارف ، ولا يكون دليلا على الوضع للمعنى بقيد المقارنة للفعل الخارجي. فلاحظ.

* * *

ص: 159

استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له

هذا البحث لا أثر له في المجال العملي أصلا ، وقد أطال القوم فيه ، ولكنه تطويل بلا طائل ، لذلك رأينا الاقتصار على بيان مطلب الكفاية لا أكثر. فنقول :

ان موضوع النزاع ، هو ان صحة استعمال اللفظ فيما يناسب المعنى الموضوع له هل هي أمر يرجع إلى الطبع والذوق أم انه أمر يرجع فيه إلى الواضع؟ فان رخص فيه الواضع صح وإلاّ لم يصح ، سواء كان سليما وغير مستهجن لدى الطبع والذوق أو كان لم يكن كذلك. وأما على الأول فالامر على العكس ، فان صحة الاستعمال تدور مدار جريانه على طبق الذوق والطبع ، فان حسنه الطبع صح وان لم يرخص الواضع ، وان استهجنه الطبع لم يصح وان رخص الواضع وأجاز. وهو الّذي اختاره صاحب الكفاية موكلا تعيينه إلى الوجدان ، وانه يرى ان صحة الاستعمال كذلك أمر يرتبط بالطبع ولا دخل للواضع فيه أصلا ، وان الوجدان قد يحسن استعمال كذلك لم تثبت فيه إجازة الواضع - كما يمثل له باستعمال لفظ « حاتم » في الكريم مع انه يعلم بان أب حاتم أو غيره ممن وضع لفظ حاتم لذاته لم يتصور استعمال هذا اللفظ في غير ولده فضلا عن تحقق الإجازة منه ، بل لعل المرتكز في وضع الاعلام الوضع لنفسه دون غيره من الذوات بحيث يمنع ارتكاز استعماله في غير ذات ، مع ان صحة هذا الاستعمال لا يختلف فيها اثنان -. وقد يقبح استعمال كذلك وان ثبتت فيه إجازة الواضع ، كما يمثل له - وان نوقش في المثال - باستعمال لفظ : « العذرة » في الأكل بلحاظ علاقة الأول ، فان هذه العلاقة ثابتة لغة في الاستعمالات المجازية ، مع وضوح عدم صحة مثل هذا الاستعمال في المثال المزبور. وليس ذلك إلاّ من جهة

ص: 160

ارتباط صحته بالطبع لا بالوضع (1).

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه

هذا المبحث كسابقه في عدم الأثر والجدوى العملية ، ولهذه الجهة رأينا وجاهة الاقتصار على مجرد الإشارة إلى أصل البحث ببيان عبارة الكفاية ، والكلام فيه في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه ، كما يقال « زيد لفظ » ويقصد به نفس الزاء والياء والدال الصادر من اللافظ فعلا.

واستشكل في صحته صاحب الفصول رحمه اللّه بتقريب : ان القضية الذهنية مركبة من اجزاء ثلاثة موضوع ومحمول ونسبة كالقضية الخارجية واللفظية.

وعليه ، فان التزم بوجود الدال في القضية اللفظية أعني « زيد لفظ » وهو الموجب لانتقال صورة المدلول في الذهن ، لزم اتحاد الدال والمدلول ، إذ المدلول ليس إلا نفس موضوع القضية اللفظية وهو لفظ « زيد » ، والمفروض انه هو الدال ، فيكون الدال عين المدلول وهو ممتنع لامتناع اتحاد الحاكي والمحكي ، لأن الدلالة والحكاية من سنخ العلية واتحاد العلة والمعلول ممتنع. وان التزم بعدم الدلالة والحكاية عن ذات الموضوع باللفظ لزم تركب القضية الذهنية من جزءين النسبة والمحمول ، لعدم الحكاية عن الموضوع كي ينتقل إلى الذهن ، وتركبها من جزءين ممتنع لأن النسبة متقومة بطرفين فلا توجد بطرف واحد (2).

وأجاب صاحب الكفاية عن هذا الاستشكال : بأنه لنا ان نختار كلا الشقين ولا يلزم أي محذور. فنلتزم بوجود الدلالة ولا يلزم محذور اتحاد الدال

ص: 161


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /13- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /22- الطبعة الأولى.

والمدلول ، لكفاية التغاير الاعتباري بين الدال والمدلول وان اتحدا ذاتا ، وهو موجود فيما نحن فيه ، إذ في اللفظ جهتان : جهة كونه صادرا من اللافظ. وجهة كونه مقصودا له ، فهو بالجهة الأولى دال وبالجهة الثانية مدلول.

كما انه يمكن ان نلتزم بعدم الدلالة ولا يلزم محذور تركب القضية من جزءين ، لأن انتقال الذهن إلى ذات الموضوع لا يتوقف على ثبوت الحاكي عنه ، بل يتحقق بإحضار نفس الموضوع خارجا ، والحكم عليه وما نحن فيه يمكن ان يكون من هذا القبيل ، فان ذات الموضوع نفس لفظ « زيد » وقد أحضر بنفسه ، فتتحقق صورته في الذهن بواسطة ذلك. ثم يحكم عليه بواسطة اللفظ الحاكي عن معناه الّذي يكون به الحكم.

إلاّ ان هذا النحو يخرج عن كونه من استعمال اللفظ في المعنى ، لأنه إحضار لنفس المعنى (1) المقام الثاني : في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه. والأول : كقولك : « ضرب فعل ماض » قاصدا نوع هذا اللفظ ، والثاني كقولك : « ضرب » في : « ضرب زيد فعل ماض » قاصدا كل ضرب تأتي في هذا المثال لا خصوص ضرب في المثال المزبور - والمراد بالصنف هو النوع متخصصا بخصوصية عرضية كما اتضح بالمثال -.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى : انه يمكن ان يلتزم ان مثل هذا الإطلاق من باب الاستعمال والحكاية ، بان يستعمل اللفظ ويراد به نوعه بحيث يجعل حاكيا عنه ودالا عليه دلالة اللفظ على المعنى ، وان يلتزم انه من باب إحضار نفس الموضوع - كإطلاق اللفظ وإرادة شخصه - بان يكون [ يجعل ] الموضوع نفس اللفظ ويحكم عليه ، لكن لا بما هو ، بل بما انه فرد لنوعه فيسري الحكم إلى

ص: 162


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /14- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

سائر الافراد ، لأنه في الحقيقة حكم على النوع. وبتقريب آخر : انه يحكم على نفس النوع الموجود في ضمن فرده بلحاظ ان وجود الفرد وجود للكلي.

هذا ثبوتا ، واما إثباتا فالأنسب بملاحظة موارد الإطلاق هو ان يكون من باب الاستعمال ، بل هناك موارد لا يمكن إلاّ ان تكون من هذا الباب كالمثال المزبور - أعني ( ضرب فعل ماض ) - لأن ضرب في نفس المثال ليس فعلا ماضيا بل هي مبتدأ ، فيمتنع الحكم عليها بأنها فعل ماض ، بل لا بد ان يلحظ فيها الحكاية (1).

المقام الثالث : في إطلاق اللفظ وإرادة مثله ، مثل : « ضرب » في : « ضرب زيد » : « فعل ماض » وقصد بها ضرب في خصوص المثال.

وهذا يتعين ان يكون من باب استعمال ، لأن المفروض فيه هو الحكم على الفرد المماثل ، وكل فرد يغاير الآخر ، فيمتنع ان يكون وجودا له ، فلا بد ان يقصد الحكاية به عن المماثل (2).

ثم ان صحة الإطلاق في هذه المقامات الثلاثة هل ترتبط بالاستحسان والطبع أو ترتبط بترخيص الواضع وإجازته؟ ذهب صاحب الكفاية إلى الأول ، واستشهد على ذلك بأنه قد يطلق اللفظ المهمل على نوعه أو غيره فيقال : « ديز مهمل » أو : « لفظ » ، فلو ارتبط صحة الاستعمال بالوضع لزم ان يكون مثل : « ديز » من المهملات موضوعا وهو خلف فرض كونه مهملا.

هذا بيان مطلب الكفاية في كلا الأمرين (3) ، وقد أطيل الكلام حوله ونوقش في بعض خصوصياته ، وقد تقدم ان الإطالة فيه بلا طائل فالاكتفاء بما ذكرناه متعين.

ص: 163


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /14- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /15- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /13- 16 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإرادة والموضوع له

الكلام يمكن ان يقع في جهات :

الجهة الأولى : في أن الموضوع له هل هو ذات المعنى أو انه المعنى المتعلق للإرادة. وبتعبير آخر : - كما ورد في الكفاية - ان اللفظ موضوع للمعنى بما هو أو بما هو مراد؟ (1).

الجهة الثانية : في ان الوضع هل يقتضي دلالة اللفظ والكلام على تحقق الإرادة أو لا؟.

الجهة الثالثة : في ان العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى هل هي مقيدة بصورة تعلق الإرادة بالمعنى أو لا؟ ، وبتعبير آخر ان الدلالة هل تتبع الإرادة أو لا؟.

والفرق بين الجهة الأولى والأخريين هو انه لو بنى على كون الألفاظ موضوعة للمعنى بما هي مرادة لم يكن اللفظ كاشفا عن ثبوت الإرادة في الخارج ، بل لا يقتضي سوى حصول صورة المعنى المتعلق للإرادة في الذهن ، كما لو وضع اللفظ إلى نفس واقع الإرادة مستقلا ، فان استعماله لا يدل على ثبوت نفس المعنى خارجا ، لأن شأن الوضع ليس إلاّ وساطته في حصول صورة المعنى في الذهن دون دلالة الكلام على تحققه خارجا ، إذ لا تتوقف صحة الاستعمال على تحقق المعنى في الخارج.

وهذه غير نتيجة البحث في الجهتين الأخريين ، فان نتيجتهما على أحد القولين - أعني القول بدلالته على تحقق الإرادة والقول بالتبعية - هو ثبوت

ص: 164


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /16- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإرادة عند الكلام اما من جهة كشفه عنها أو تبعية دلالته لتحققها.

وبعبارة أخرى : ان البحث في كلتا الجهتين ممكن على كلا القولين في الجهة الأولي ، لأن الالتزام بكون اللفظ موضوع للمعنى بذاته أو بما أنه مراد لا يتنافى مع الالتزام بان الكلام لا يدل على تحقق الإرادة ، أو أن العلقة الوضعيّة انما تكون في صورة ثبوت الإرادة وانه مع عدمها لا علقة وضعية ، فالالتزام بكلا القولين في الجهة الأولى لا ينفي تحقق الكلام في الجهتين الأخريين.

وأما الفرق بين الجهة الثانية والثالثة. فواضح ، لأن مقتضى الالتزام بتبعية الدلالة للإرادة هو توقف الدلالة على ثبوت الإرادة وإحرازها بغير طريق اللفظ ، وهذا بخلاف مقتضى الجهة الثانية فان الالتزام بدلالة اللفظ على الإرادة يقتضي صلاحية اللفظ للكشف عنها وان طريق إحرازها يكون هو اللفظ ، فالجهتان يختلفان أثرا ونتيجة.

وإذ تبين الفرق بين هذه الجهات وصلاحية كل منها للبحث في عرض الأخرى ، فلا بد من تحقيق منهما على حدة.

وقد اقتصر صاحب الكفاية في كلامه على الجهة الأولى ، وقد وقع الخلط في بعض الكلمات بين الجهات ، والمهم تحقيق كل مبحث بنفسه. فنقول :

اما الجهة الأولى من جهات البحث : فقد التزم صاحب الكفاية بكون اللفظ موضوعا للمعنى بما هو لا بما هو مراد ، لاستلزام الأخير بعض المحاذير :

منها : ان الإرادة من شئون الاستعمال كاللحاظ ، فيمتنع أخذها في الموضوع له جزءا أو قيدا كامتناع أخذ اللحاظ فيه كذلك كما بين.

ومنها : لزوم التصرف في ألفاظ أطراف القضية من موضوع ومحمول ، لأنه من الظاهر ان حمل الوصف على ذات ما انما يلحظ فيه حمل الوصف الخارجي على الذات الخارجية ، فالمراد من « زيد قائم » حمل الذات المتلبسة بالقيام في الخارج على ذات زيد الخارجية ، وإذا كان الموضوع له لفظ « زيد » و « قائم » هو

ص: 165

المعنى المتعلق للإرادة كان المعنى امرا ذهنيا لتقيده بما هو ذهني وهو الإرادة ، فلا بد من الالتزام بتجريده عن الخصوصية عند الحمل وهو يستلزم المجازية بل لغوية أخذ الخصوصية في الموضوع له.

ومنها : لزوم كون الموضوع له مطلقا خاصا ، لأن الإرادة المدعى أخذها في الموضوع له انما هي واقع الإرادة لا مفهومها ، فيلزم ان يكون المعنى جزئيا ، لتقيده بواقع الإرادة وهو خلاف الوجدان والتسالم على ثبوت الموضوع له العام.

ثم انه بعد ذلك تعرض لما حكي عن كلام العلمين - الشيخ الرئيس والخواجة نصير الدين - من ان الدلالة تتبع الإرادة ، وانه لا ينافي ما التزم به من عدم الوضع للمعاني بما هي مرادة ، لأنه ناظر إلى الدلالة التصديقية وهي دلالة الكلام على إرادة المتكلم تفهيم المعنى وقصده له. لا الدلالة التصورية وهي مجرد خطور المعنى في الذهن التي هي محل الكلام. وتبعية الدلالة التصديقية للإرادة لا يكاد ينكر ، بل هو مما لا شبهة فيه كتبعية مقام الإثبات عن مقام الثبوت والكاشف عن المنكشف ، لأن كشف الكلام عن تحقق الإرادة متفرع على أصل تحققها وثبوتها كما لا يخفى (1).

هذا محصل كلام الكفاية بتوضيح.

ولا يخفى عليك ان الّذي يظهر منه انه لم يتصور لفرض تبعية الدلالة للإرادة وجه سوى أخذ الإرادة في الموضوع له.

ولذا حاول ان يوجه كلام العلمين وبحمله على غير الدلالة الوضعيّة لوضوح بطلان أخذها في الموضوع بنحو لا يمكن اسناد ذلك إلى مثلهما من العلماء.

ولكن سيجيء في تحقيق الجهة الثالثة بيان إمكان فرض الدلالة الوضعيّة

ص: 166


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /16- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تابعة للإرادة من دون أخذها في الموضوع له.

ثم انه قد يورد على ما ذكره قدس سره من الوجه الأول : ان دخل أخذ الإرادة في الموضوع له لا ينحصر بأخذها جزءا أو قيدا كي يرد عليه ما ذكر ، بل يمكن تقريبه بنحو ما قرب دخل اللحاظ الآلي والاستقلالي في معنى الاسم والحرف من كون الموضوع له هو الحصة الخاصة ونحوه ، فلا وجه لنفيه حينئذ بما ذكر.

ومن هنا يندفع الوجه الثاني من وجوه الإشكال لترتبه على قيدية الإرادة للمعنى ، وقد عرفت عدمها وإمكان دعوى دخل الإرادة مع الالتزام بان الموضوع له هو ذات المعنى.

نعم يبقى الإشكال الثالث ، إلاّ انه ليس بمحذور ولا ضير في الالتزام به.

وعليه ، فإذا ثبت إمكان دخل الإرادة في الموضوع له ثبوتا تصل المرحلة في الكلام إلى مقام الإثبات ، وانه هل هناك ما يقتضي دخلها أو لا؟ قيل : نعم ، باعتبار ان الحكمة الداعية إلى الوضع انما هي حصول التفهيم والتفهم بواسطة اللفظ. وإذا كان المنظور في الوضع ذلك كان مقتضاه حصر الوضع في الحصة الخاصة من المعنى وهي المعنى الّذي تعلقت به إرادة التفهيم دون مطلق المعنى لعدم تحقق ملاك الوضع فيه.

هذا ما أورد به على صاحب الكفاية وهو بمقدار كونه إلزاما لصاحب الكفاية ، وجيه ، إلاّ انه حيث عرفت في الكلام حول عبارة صاحب الكفاية في المعنى الحرفي عدم تصور وجه معقول لدخل اللحاظ في الموضوع له بلا ان يكون قيدا أو جزءا للموضوع له كان دخل الإرادة في المعنى بلا ان يكون جزءا أو قيدا له كذلك.

وعليه ، فيرد ما ذكره صاحب الكفاية من المحاذير الثبوتية ، ومعه لا تصل النوبة إلى الكلام في مرحلة الإثبات لامتناع دخله ثبوتا.

ص: 167

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية متين في موضوع بحثه ، وهو أخذ الإرادة في الموضوع له. وبذلك يكون اختيارنا هو كون اللفظ موضوعا لذات المعنى وبما هو هو.

واما ما وجه به صاحب الكفاية كلام العلمين من حمله على ان الدلالة التصديقية تتبع الإرادة ، فبظني انه واضح الإشكال بلا حاجة إلى إثبات خلافه من تصريحاتهم وتكلف المشقة في نقل كلامهم. وذلك لأن تفرع الدلالة التصديقية عن الإرادة أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان كما لا يحتاج تفرع الكاشف عن المنكشف ، إليه فيبعد تصديهم بهذا الكلام إلى بيان مثل هذا الأمر البديهي ، وعلى كل فالامر سهل.

واما الجهة الثانية من جهات البحث ، فتحقيقها : أنه لا وجه لدعوى كون مقتضى الوضع هو تحقق الإرادة التفهيمية حال الاستعمال الا ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : من ان ذلك مقتضى الالتزام بان الوضع هو التعهد ، فانه إذا كان الوضع هو التعهد بذكر اللفظ عند قصد التفهيم وتحقق إرادته كان ذكر اللفظ بمقتضى الالتزام النفسيّ والعهد الّذي أخذه الواضع على نفسه كاشفا لا محالة عن تحقق الإرادة. وإلاّ كان مخالفا لعهده وهو خلاف الأصل العقلائي (1).

ولا يخفى انه يرد عليه :

أولا : ان أصل المبنى - أعني كون حقيقة الوضع هو التعهد بذكر اللفظ عند قصد التفهيم ، أو بتعبير آخر : وهو التعهد بقصد التفهيم عند ذكر اللفظ - فاسد كما عرفت.

وثانيا : لو سلم أصل المبنى لم يثبت المدعى ، لأن التعهد المذكور انما يثبت كون قصد التفهيم سببا لذكر اللفظ ، وهذا لا ينافي ان يكون لذكر اللفظ سبب

ص: 168


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 104 - الطبعة الأولى.

آخر غير قصد التفهيم ، فلا يكون ذكره مع تعدد السبب كاشفا عن خصوص أحدها وهو التفهيم. وبتعبير آخر : ان التعهد المزبور محصله : انه متى ما قصد التفهيم ذكر اللفظ ، لا انه لا يذكر اللفظ الا عند قصد التفهيم ، ولا يخفى انه إذا ذكر اللفظ ولم يكن قاصدا للتفهيم لا يعد انه خالف تعهده ، وانما يخالف تعهده فيما لو قصد التفهيم ولم يذكر اللفظ. فلا بدّ من ثبوت المدعى بذلك من الالتزام بكون قصد التفهيم علة منحصرة لذكر اللفظ ، ولكنه لا أثر لذلك في كلام القائل. ولو التزم به تنزلا فيرد عليه :

ثالثا : ان انحصار السبب لذكر اللفظ بقصد التفهيم امر يخالف الوجدان ، لوضوح انه كثيرا ما يذكر اللفظ مع عدم قصد التفهيم كموارد الحفظ والتذكر ، أو موارد التلقين ونحوها.

وعليه ، فالمتعين هو الالتزام بعدم اقتضاء الوضع لثبوت حقيقة الإرادة عند ذكر اللفظ.

وأما الجهة الثالثة : - وهي الظاهرة من كلمات القوم ، والأوفق بصيغة البحث - فالكلام فيها من جهتين الثبوت والإثبات. اما ثبوتا فالالتزام بالتبعية معقول - كما تقدم في المعنى الحرفي لتوجيه كلام الكفاية - فيلتزم بان العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى مقيدة بإرادة التفهيم ، فلا يكون الوضع والاختصاص فعليا الا عند الإرادة ، وبدونها يكون إنشائيا وهو مما لا محذور فيه. واما إثباتا فغاية ما يقرب به الالتزام المذكور ، بأنه يتناسب مع حكمة الوضع الداعية إليه ، لأن الحكمة فيه التوسعة في طريق إبراز المقاصد والتفهيم ، وهو يقتضي تقييد الاختصاص الوضعي بصورة الإرادة التفهيمية. وقربه السيد الخوئي أيضا بأنه ضرورة حتمية لمبناه في الوضع ، وانه عبارة عن التعهد ، لأن التعهد بذكر اللفظ انما هو عند إرادة التفهيم. واما إشكال تحقق الدلالة ولو كان اللفظ صادرا من غير ذي شعور ، فقد أجيب عنه : بان ذلك ناش من الأنس الحاصل في الذهن لا

ص: 169

من الوضع.

ولا يخفى عليك ان مقتضى الالتزام بذلك هو تبعية الدلالة للإرادة بحيث لا تتحقق الدلالة الا بعد إحراز الدلالة ، ولا يكون اللفظ بمقتضى الوضع دالا على الإرادة ، ولكن جاء في تقريرات الفياض دعوى ان التزامه المزبور يستلزم كون اللفظ دالا بمقتضى الوضع على الإرادة وكاشفا عنها (1). ونحن لا نعرف أي وجه للملازمة أصلا ، بل مقتضى الوجه المزبور كما عرفت هو توقف دلالة اللفظ وحدوث العلقة الوضعيّة على تحقق الإرادة وإحرازها ، لأن إحراز المشروط يتوقف على إحراز شرطه.

ثم ان المحقق العراقي قدس سره بعد ان صوّر أخذ الإرادة في الموضوع له بأنحاء : منها : أن تكون مأخوذة في الموضوع له بنحو التقييد ، على ان يكون التقيد داخلا والقيد خارجا. أورد على هذا النحو : بأنه يستلزم أن يكون اللفظ موضوعا للمركب من المعنى الاسمي وهو ذات المعنى والمعنى الحرفي وهو التقيد. وهو امر ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبع (2).

وقد ذكر المقرر الفياض هذا المطلب وأورد عليه :

أولا : بان الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي اختلاف بالذات لا باللحاظ الاستقلالي والآلي ، فالمعنى الاسمي اسمي وان لوحظ آليا ، والمعنى الحرفي حرفي وان لوحظ مستقلا. وعليه فالإرادة معنى اسمي وان لوحظت آليا ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي حتى يلزم وضع اللفظ للمركب من معنى اسمي وحرفي.

إلاّ ان يكون مراده من المعنى الحرفي نفس التقيد بالإرادة لا نفس

ص: 170


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 104 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 92 - الطبعة الأولى.

الإرادة فانه معنى حرفي. ولكنه مدفوع. أولا : بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركبة أو المقيدة ، فان معانيها متضمنة للمعنى الحرفي لا محالة ، إذ كل جزء مقيد بجزء آخر والتقيد معنى حرفي. وثانيا : انه لا مانع من وضع لفظ لمعنى مركب من معنى اسمي وحرفي إذ دعت الحاجة إليه ، والاستقراء على تقدير تماميته لا يدل على استحالة الوضع المزبور.

وثانيا : انه لا أساس لهذا الإيراد ، فانه مبتن على أخذ الإرادة في الموضوع له ، واما إذا لم تؤخذ فيه أبدا ، بل كانت مأخوذة في العلقة الوضعيّة فلا مجال للإيراد (1).

وأنت خبير : بان ما ذكره أولا لا وجه له ، بعد أن كان مفروض كلامه هو دخل التقيد لا نفس الإرادة ، فحمل كلامه على ذلك - أعني على دخل الإرادة - والإيراد عليه ثم إبداء احتمال إرادة دخل التقيد تصحيحا لكلامه لم يعرف له معنى محصل أصلا.

وأما ما ذكره من النقض بالوضع للمعاني المركبة ، فتماميته تبتني على دخل ارتباط الاجزاء بعضها ببعض في الموضوع له. واما بناء على كون اللفظ موضوعا لذوات الاجزاء بلا لحاظ ارتباط بعضها بالبعض والارتباط في بعض المركبات مأخوذ في موضوع الأمر لا في الموضوع له اللفظ ، فلا يتم ما ذكره. وتحقيق أحد الوجهين قد يتضح في ضمن بعض المباحث اللاحقة ، كمبحث الوضع للصحيح أو للأعم ، ومبحث مقدمة الواجب ، وشمولها - أي المقدمة - للاجزاء فانه يبتني على كون المركب هل هو ذوات الاجزاء بالأسر أو انه الاجزاء بوصف الاجتماع ، فانتظر. ثم ان العراقي قدس سره لم يدع استحالة ما ذكر من الوضع للمعنى المركب من معنى اسمي وحرفي بالاستقراء ، بل ان دعواه ترجع إلى استكشاف

ص: 171


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 107 - الطبعة الأولى.

عدم الوضع لمثل ذلك بمعرفة مذاق الواضع بالتتبع ، فلا وجه لدعوى ان الاستقراء لا يستلزم المحالية لأنها نفي ما لم يدع. واما الإيراد الأخير وهو كون الإرادة مأخوذة في العلقة الوضعيّة لا الموضوع له ، فهو لا يعد إشكالا ونفيا لما ذكره العراقي ، لأن ما ذكره العراقي مرتب على خصوص فرض أخذ الإرادة في الموضوع له بهذا النحو ، وليس مرتبا على فرض دخل الإرادة في الموضوع له بجميع أنحائها كي ينفي بأنه تام على بعض التقادير دون بعض. فتدبر جيدا.

وضع المركبات

موضوع البحث هو تحقق وضع المركب من المادة والهيئة ، وبعبارة أخرى : تحقق الوضع للجملة التركيبية بهيئتها ومادتها. والّذي لا إشكال فيه هو تحقق الوضع للمواد ، فان المفردات موضوعة لمعانيها كلية أو جزئية ، وكذلك تحقق الوضع للهيئات - أعني هيئة الجملة - فانها موضوعة للنسبة كما عرفت.

وعليه ، فإذا ثبت الوضع لمجموع اجزاء الجملة من موضوع ومحمول ونسبة بوضع كل المادة والهيئة ، كان وضع المركب من الهيئة والمادة - مع غض النّظر عن أصل ثبوت المحذور فيه وعدمه - عديم الفائدة ولغوا محضا بلا كلام ، وهو لا يتحقق لأن الوضع من الأعمال العقلائية الملحوظ فيها ترتب الأثر وتحقق الفائدة. فلاحظ. ولا يحتاج المبحث إلى أكثر من هذا البيان لأنه بغير طائل وانما كان المقصود الإشارة إليه بهذا المقدار من الكلام.

* * *

ص: 172

علامات الحقيقة

هذا المبحث كبعض سوابقه عديم الأثر في مجال العمل ، وذلك لأن المدار في معرفة المراد من الكلام على ظهور الكلام في المعنى سواء كان حقيقيا أو مجازيا ، فان الظاهر حجة بلا كلام ، أما مجرد كون المعنى حقيقيّا فلا يجدي في الحكم بكونه مرادا من اللفظ ما لم يكن للفظ فيه ظهور.

نعم تظهر الفائدة بناء على الالتزام بأصالة الحقيقة تعبدا ، فانه يلتزم بكون المراد هو المعنى الحقيقي ولو لم يكن اللفظ ظاهرا فيه ، فتعيين المعنى الحقيقي بإحدى العلامات يكون ذا أثر على هذا البناء. لكن التحقيق عدم البناء على أصالة الحقيقة تعبدا ، وكون المدار في تعيين المراد ظهور الكلام ، وهو لا يرتبط بتعيين الحقيقة ، لأن ما يكون الكلام ظاهرا فيه يكون متبعا وان لم يكن معنى حقيقيا ، وما لا يكون ظاهرا فيه لا يبنى على إرادته وان كان معنى حقيقيا قد وضع اللفظ له.

وبهذا اللحاظ كان البحث اللازم في علامات الحقيقة بحثا سطحيا لا أكثر.

وعليه ، فنقول : قد ذكر للحقيقة والوضع علامات.

منها : التبادر ، وهو انسباق المعنى من اللفظ حال إطلاقه بلا قرينة ، فانه

ص: 173

دليل الوضع لذلك المعنى. لأن انسباق المعنى منه لا يخلو سببه ، اما ان يكون علاقة ذاتية بين اللفظ والمعنى وهي منتفية كما تقدم. أو يكون قرينة صارفة ، وهو خلاف المفروض لأن الفرض عدم القرينة ، فيتعين ان يكون السبب هو الوضع والعلاقة الجعلية ، إذ لا يتصور سبب آخر لذلك ، وذلك هو المطلوب ، ويكون التبادر على هذا علامة للوضع بطريق الإن وكاشفا عنه كشف المعلول عن علته.

ويرد على كون التبادر علامة للوضع بان ذلك يستلزم الدور ، لأن التبادر لا يحصل بدون العلم بالوضع كما هو ظاهر ، فإذا كان العلم بالوضع موقوفا على التبادر كما هو فرض علامية التبادر ، لزم الدور.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بان التبادر المفروض كونه علامة ، اما ان يراد به التبادر لدى نفس الشخص المستعلم ، واما ان يراد به التبادر لدى العالم وأهل اللغة فيكون علامة له على الوضع.

فعلى الأول : فالتبادر وان توقف على العلم بالوضع إلاّ انه العلم الارتكازي الإجمالي ، وهو حصول صورة الشيء في النّفس ارتكازا من دون التفات إليها - فان كثيرا من الصور تكون مخزونة في النّفس بلا التفات إليها وانما يلتفت إليها بموجبات - والعلم الّذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيليّ بالوضع والالتفات إليه. وعليه فالتغاير بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر بالإجمال والتفصيل وهو كاف في رفع غائلة الدور.

وعلى الثاني : فالتغاير واضح ، لأن الموقوف عليه التبادر هو العلم الحاصل لدى أهل اللغة ، والعلم الموقوف على التبادر والحاصل به هو علم المستعلم ، وتغايرهما لا يحتاج إلى تنبيه وبيان (1).

ثم ان السيد الخوئي أضاف إلى ذلك أمرين :

ص: 174


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /18- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : أن التبادر انما يكون كاشفا عن الوضع وعلامة له في ظرفه. يعني : انه يكشف عن الوضع في زمان التبادر أما قبله فلا يكشف عن الوضع. وعليه فتبادر المعنى فعلا من اللفظ المستعمل من قبل الشارع لا يجدي في إثبات انه هو المعنى الموضوع له سابقا وفي حال الاستعمال كي يؤخذ به ويلتزم بان الشارع اراده ، فلا بد من ضم أصل عقلائي للتبادر ينفع في المقصود وهو الاستصحاب القهقرى ، فيبنى به على ثبوت الوضع من ذلك الزمان ، وهذا الاستصحاب وان كان على خلاف الاستصحابات الثابتة من الشارع لأن ملاكها اليقين السابق والشك اللاحق ، على العكس في هذا الاستصحاب لأن الشك سابق واليقين لا حق وبهذا الاعتبار سمي بالقهقرى ، فلا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب ، لكنه ثابت ببناء العقلاء عليه في باب الوضع والظهور ، ولولاه لما قام لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص أساس ، إذ ظهورها في معنى في زماننا لا يكون دليلا على الحكم ما لم يثبت ظهورها فيه في زمان الاستعمال ، ولا مثبت لذلك سوى هذا الاستصحاب ، فعلى ثبوته تدور رحى الاستنباط.

الثاني : - وهو ما أشار إليه في الكفاية - ان التبادر كما عرفت علامة للوضع إذا كان مستندا إلى حاق اللفظ بلا انضمام قرينة إليه ، فلو شك في استناده إلى قرينة أو إلى حاق اللفظ لم يكن علامة للوضع إذ لم يعلم انه مستند إلى حاق اللفظ المقوم لكونه علامة.

والتمسك بأصالة الحقيقة ، وان الأصل ان يكون الاستعمال حقيقيا.

غير صحيح ، لأن المرجع في هذا الأصل اما ان يكون هو الشارع أو بناء العقلاء ، فان كان المرجع هو الشارع لم يصح إجراؤه ، إذ لا يثبت كون المتبادر مستندا إلى حاق اللفظ وبلا قرينة إلاّ بالملازمة كما لا يخفى ، فيكون من الأصول المثبتة وهي غير معتبرة شرعا. وان كان بناء العقلاء ، فهم انما يتمسكون بأصالة الحقيقة في مورد يشك فيه في أصل المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي الناشئ

ص: 175

من احتمال نصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي ، اما مع العلم بالمراد والشك في انه معنى حقيقي أو مجازي للشك في نصب قرينة فلا يتمسكون بأصالة الحقيقة ، ولذلك اشتهر ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

وبالجملة : للشك في نصب قرينة موردان : أحدهما ما يشك فيه في أصل المراد ، فانه ينشأ من الشك في القرينة. والآخر : ما يشك في نحو المراد وانه حقيقة أو مجاز للشك في نصب قرينة. وأصالة الحقيقة تجري في الأول دون الثاني الّذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه ، فأصالة الحقيقة انما تجري لإثبات إرادة المعنى الحقيقي ، ولا تجري لإثبات حقيقة المعنى المراد (1).

منها : عدم صحة السلب وصحته ، أو صحة الحمل وعدم صحته : فان الأول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.

ولا بد قبل تقريب ذلك من بيان المراد من صحة الحمل أو السلب ، إذ قد يتوهم عدم المعنى له ، إذ الغرض معرفة وضع لفظ لمعنى فما هو شأن المحمول والموضوع؟ والحقيقة ان المراد منه هو حمل المعنى المشكوك وضع اللفظ له على اللفظ بما له من معنى ارتكازي أو بالعكس ، بان يحمل اللفظ بما له من المعنى على المعنى المشكوك وضعه له ، فان صح الحمل كان دليلا على الحقيقة وإلاّ كان قرينة على عدم وضع اللفظ له. فالمأخوذ محمولا أو موضوعا هو اللفظ بما له من معنى ، لا اللفظ بما انه لفظ كي يقال بأنه لا معنى للحمل. وإذا تبين ذلك : فتقريب كون صحة الحمل علامة للحقيقة هو ان الحمل على نحوين :

الأول : حمل أولي ذاتي ، وملاكه الاتحاد بين الموضوع والمحمول مفهوما.

والثاني : حمل شائع صناعي ، وملاكه الاتحاد بينهما وجودا.

وعليه ، فإذا شك في لفظ كلفظ « إنسان » في انه موضوع لمعنى ك :

ص: 176


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 114 - الطبعة الأولى.

« الحيوان الناطق » أولا ، فإذا حمل الإنسان بما له من المعنى على الحيوان الناطق أو بالعكس فقيل : « الإنسان حيوان ناطق ، أو الحيوان الناطق إنسان » بالحمل الأولي الذاتي وصح الحمل كان مقتضاه اتحاد معنى الإنسان الارتكازي مع الحيوان الناطق وانه عينه ، فيستكشف بذلك وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق. فدلالة الحمل الأولي الذاتي على الوضع لأنه بملاك الاتحاد المفهومي ، فصحته تعني اتحاد معنى اللفظ الارتكازي مع نفس المعنى الّذي يشك في وضع اللفظ له ، وذلك دليل الوضع له كما لا يخفى.

وأما الحمل الشائع الصناعي ، فدلالته على الوضع من جهة ان ملاكه الاتحاد في الوجود ، فإذا علم ان هذا الفرد وجود لمعنى معين ، فإذا حمل عليه اللفظ بما له من المعنى على الفرد بما انه وجود لذلك المعنى المعين فصحته تعني ان الفرد بما انه وجود للمعنى المعين وجود للمعنى المرتكز للفظ ، وذلك معناه اتحاد المعنيين الكاشف عن وضع اللفظ للمعنى المعين وإلاّ لما كان الفرد بما انه وجود لأحدهما وجودا للآخر. وذلك نظير حمل الإنسان لما له من المعنى على زيد بما انه وجود للحيوان الناطق ، فان صحته كاشفة عن وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق بالتقريب الّذي ذكرناه. وبذلك يظهر اختصاص دلالة الحمل الشائع على الوضع بما إذا كان الحمل بين الكلي وفرده ، أما إذا كان بين كليين متساويين أو بينهما عموم وجه فصحة حمل أحدهما على الآخر لا تكشف عن الوضع ، وذلك لأن أساس الكشف يبتني على ان الموضوع لوحظ فيه كونه وجودا للمعنى الّذي يشك في وضع اللفظ له ، وأخذ موضوعا بهذا القيد ، ولا يبتني على مجرد دلالة الحمل على الاتحاد في الوجود ، إذ قد يكون فرد واحد فردا لكليين متغايرين من جهتين لكنه بما هو فرد لأحدهما ليس فردا للآخر.

وعليه ، ففي صورة حمل أحد المتساويين على الآخر أو أحد العامين من وجه على الآخر ، لم يفرض الا بيان اتحاد الموضوع والمحمول وجودا لا غير - لا

ص: 177

أن الموضوع بما انه كذلك وجود للمحمول بما هو محمول ، وإلاّ لم يصح الحمل كما لا يخفى -. وقد عرفت انه لا يكفي في الكشف عن الوضع. وقد تعرض بعضهم لتفصيل الكلام في صور الحمل والاتحاد ، لكننا أهملناه لعدم الأثر بالتطويل.

ثم ان إشكال الدور المتقدم بيانه في التبادر يأتي هاهنا أيضا ، لأن صحة الحمل تبتني على العلم بمعنى اللفظ وإلاّ فلا يعلم صحة الحمل من عدمها ، فكون العلم بالوضع موقوفا على صحة الحمل يستلزم الدور. والإجابة عنه كما تقدم اما بالفرق بالإجمال والتفصيل بين العلم الموقوف عليه صحة الحمل والعلم الموقوف على صحة الحمل. أو بالفرق بالعالم والمستعلم. فلا نعيد.

ثم ان المحقق الأصفهاني بعد ان أشار إلى حمل اللفظ بما له من المعنى الارتكازي بلا قرينة ، ذكر ان التحقيق يقضي جعل نفس الحمل والسلب علامة للحقيقة والمجاز فيما كان النّظر إلى صحة الحمل وعدمها عند العرف ، لا جعل صحة الحمل وصحة السلب علامة للحقيقة والمجاز ، لأن العلم بصحة الحمل يحتاج إلى سبب آخر من تنصيص أهل اللسان أو التبادر أو نحوهما ، فيخرج عن كونه علامة ابتدائية مستقلة ، بخلاف نفس الحمل والسلب فانه بنفسه علامة الاتحاد والمغايرة من دون توقف على امر آخر (1).

كما ان السيد الخوئي أنكر دلالة صحة الحمل بنوعية الأولي والصناعي على الحقيقة والوضع. ببيان : ان الحمل الأولي لا يكشف إلا عن اتحاد الموضوع والمحمول ذاتا ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال ، وانه حقيقي أو مجازي ، فقولنا : « الحيوان الناطق إنسان » لا يدل إلاّ على اتحاد معنييهما حقيقة ، أما ان استعمال لفظ الإنسان فيما أريد به حقيقي أو مجازي فذلك أجنبي عن مفاد

ص: 178


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 28 - الطبعة الأولى.

الحمل ، فلا يدل على الوضع ، إذ قد يكون المعنى المراد باللفظ مجازيا. وهكذا الحال في الحمل الشائع ، فانه لا يكشف إلاّ عن اتحاد الموضوع والمحمول وجودا بلا نظر إلى حال استعمال المحمول في ما أريد به وانه حقيقي أو مجازي ، وظاهر ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز. وبعبارة أخرى : - كما قال - ان صحة الحمل وعدم صحته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول ، فمع اتحاد المفهومين ذاتا يصح الحمل وإلاّ فلا ، واما الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال. وبين الأمرين مسافة بعيدة (1).

وأنت خبير بضعف هذا الكلام ، فان المفروض ان المحمول هو اللفظ بما له من معنى ارتكازي وبلا قرينة ، ولا يخفى أن ذلك معناه فرض حمل اللفظ بمعناه الموضوع له المرتكز في النّفس ، لا الأعم من الحقيقي والمجازي ، كما أشار إلى ذلك المحقق الأصفهاني ، وبعد هذا الفرض في أصل الكلام في صحة الحمل لا وجه لما ذكره وقرره فانه عجيب جدا كما لا يخفى فلاحظ.

منها : الاطراد ، وبيانه : هو ان يستعمل لفظ في شيء أو يطلق عليه بلحاظ معنى ، فإذا اطرد استعمال ذلك اللفظ بلحاظ هذا المعنى بحيث صح استعماله مطلقا ومطردا بلحاظه كان ذلك علامة ودليلا على كون اللفظ موضوعا لذلك المعنى.

لكنه يشكل : بان الاطراد حاصل بالنسبة للمعاني المجازية ، فان اللفظ يستعمل في المعنى المجازي بلحاظ العلاقة المصححة ، ويطرد في جميع موارد وجود العلاقة بلحاظها ، نظير استعمال أسد في زيد بلحاظ الشجاعة ، فانه يصح استعمال لفظ أسد في غير زيد من افراد الإنسان أو غيره بلحاظ الشجاعة. فجعل الاطراد علامة الحقيقة ينتقض بالمجاز.

ص: 179


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 117 - الطبعة الأولى.

وقد يدفع النقض - كما احتمله صاحب الكفاية (1) - بان الملحوظ في الاستعمال المجازي نوع العلاقة ، وبملاحظتها لا يطرد الاستعمال ، فالملحوظ في استعمال أسد في زيد علاقة المشابهة لا خصوص المشابهة بالشجاعة. وظاهر انه لا يصح استعمال لفظ أسد في كل ما شابهه بلحاظ المشابهة ، إذ لا يصح استعماله في الجبان الأبخر ولا الجبان ذي العينين وهكذا.

لكنه فاسد ببطلان أساسه : فان الملحوظ والمصحح للاستعمال المجازي هو العلاقة الخاصة لا نوعها ، كالمشابهة في الشجاعة في استعمال أسد في زيد. لا كلي المشابهة - وإلاّ لكان مطردا - ، وظاهر ان الاستعمال بلحاظ خصوص المشابهة مطرد.

ومن هنا - أي من الانتقاض بالاستعمال المجازي - زاد بعضهم قيد ، على وجه الحقيقة أو بدون تأويل - بلحاظ الخلاف في حقيقة المجاز ، وانه مجاز في الكلمة أو في الادعاء - ، فيكون الاطراد علامة الحقيقة إذا كان على وجه الحقيقة أو بلا تأويل ، فلا ينتقض بالاستعمال المجازي لأنه مطرد لكنه لا على وجه الحقيقة.

واستشكل فيه صاحب الكفاية باستلزامه الدور : لأن معرفة الحقيقة والوضع تتوقف على حصول الاطراد على وجه الحقيقة ومعرفة ذلك تتوقف على معرفة الحقيقة. فيلزم الدور (2).

والتفصّي عن إشكال الدور في التبادر بالإجمال والتفصيل بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر لا يتأتى فيما نحن فيه ، لأنه بعد أن أخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل والعلامة على الحقيقة والوضع ، فلا بد من حصولها تفصيلا ، وحصول الالتفات إليها يعلم بحصول الدليل والعلامة بها إلى مدلولها ،

ص: 180


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /20- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /20- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والعلم الارتكازي الإجمالي لا يجدي في التوصل إلى المطلوب ، إذ لا يعلم به ثبوت العلامة والدليل فلاحظ جيدا. وللاعلام في المقام بعض التحقيقات أعرضنا عن ذكرها لأنه يستلزم التطويل بلا طائل ، واكتفينا بهذا المقدار لمجرد الإشارة إلى المطلب.

أحوال اللفظ

ذكر صاحب الكفاية قدس سره : انه قد ذكر للفظ أحوال خمسة : المجاز ، والنقل ، والاشتراك ، والتخصيص ، والإضمار ، والمراد من كل منها واضح لا يحتاج إلى بيان والكلام فيها في مقامين :

الأول : فيما إذا دار أمر اللفظ بينها ، كما إذا دار بين ان يكون مستعملا في هذا المعنى بنحو المجاز أو الاشتراك ، أو دار بين ان الأمر بين المجاز والنقل ، وهكذا ...

وقد ذكر لترجيح بعضها على بعض مرجحات إلاّ انها لا تغني ولا تسمن من جوع ، لعدم الدليل على الترجيح بها تعبدا ، كما انها لا توجب الجزم بالترجيح ، نعم إذا أوجب المرجح ظهور اللفظ في أحد النحوين كان ذلك النحو متعينا تحكيما لأصالة الظهور.

الثاني : فيما إذا دار امر اللفظ بين أحد هذه الأحوال وبين المعنى الحقيقي كدورانه بين الحقيقة والمجاز وانه مستعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي (1).

وقد التزم صاحب الكفاية بحمل اللفظ على المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة. وهذا في الجملة واضح ، وانما الإشكال والالتباس في فرضه دوران الأمر بين المعنى الحقيقي وبين سائر الأحوال ، لأنه ظاهر في دوران الأمر بين الحقيقة

ص: 181


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /20- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والمجاز ، أما دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والاشتراك والنقل فلا يتصور له معنى ، لأن المعنى المشترك حقيقي ، وهكذا المعنى المنقول فانه معنى حقيقي لأنه موضوع له اللفظ ، ومثله الحال في دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والتخصيص ، لأن التخصيص لا يوجب المجازية على بعض الآراء فلا يعد قسيما ومقابلا للمعنى الحقيقي. نعم على بعض الآراء يكون موجبا للمجازية فيصح عده قسيما للمعنى الحقيقي.

وتوجيه مراده : بأنه لا يريد من المعنى الحقيقي المعنى المقابل للمجاز ، بل يريد به المعنى الأصلي والّذي جعل اللفظ بإزائه أولا ، ففي مورد تعدد الحقيقة كمورد النقل والاشتراك والتخصيص يراد دوران الأمر بين المعنى الحقيقي الأولي والمعنى الحقيقي الثانوي وهو المعنى المنقول إليه اللفظ أو الموضوع له اللفظ ثانيا أو المعنى الخاصّ. وان كان يجدي في ردع الإشكال في العبارة ، لكنه يورد عليه :

بأنه لم يثبت حمل الكلام على المعنى الحقيقي الأولي في صورة دوران الأمر بينه وبين الاشتراك - وان ثبت تقديم العموم على الخصوص في مورد الشك بأصالة الظهور ، والتزم بتقديم المعنى الحقيقي الأولي في مورد احتمال النقل بأصالة عدم النقل - ، لعدم جريان أصالة الظهور في المقام ، لأن اللفظ لا يكون ظاهرا في أحدهما إلاّ بقرينة على تقدير الاشتراك ، فاحتماله مانع من تمامية الظهور ، كما انه لا أصل عقلائيا ينفي الاشتراك نظير الأصل النافي للنقل - لو سلم بجريانه -.

وعليه ، فالحكم بالصيرورة إلى المعنى الحقيقي مطلقا لو دار الأمر بينه وبين غيره من أحوال اللفظ لا يخلو من جزاف.

* * *

ص: 182

الحقيقة الشّرعيّة

اشارة

ص: 183

ص: 184

الحقيقة الشرعية

هذا المبحث كسوابقه غير ذي ثمرة عملية كما سيتضح فيما بعد ، لذلك كان الاكتفاء بذكر مطلب الكفاية وما يتعلق به هو المتعين كغيره من المباحث المتقدمة التي لا ثمرة فيها.

وموضوع البحث : هو انه لا إشكال في وجود معان شرعية مستحدثة قد استعمل الشارع فيها ألفاظا كانت موضوعة لغة إلى معان معينة ، فهل نقل الشارع تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية ووضعها للمعاني الشرعية فتثبت الحقيقة الشرعية ، أو لم ينقلها بل كان يستعمل الألفاظ في المعاني الشرعية بنحو المجاز وبالقرينة فلا تثبت الحقيقة الشرعية؟ وذلك كلفظ « الصلاة » فانه موضوع لغة إلى الدعاء - كما يقال - وقد استعملت في لسان الشارع في الواجب الخاصّ والفعل المعهود المشتمل على اجزاء وشرائط.

فهل وضع الشارع - ناقلا - لفظ الصلاة إلى هذا الواجب المعين ، أو انه لم يضع اللفظ للفعل الخاصّ بل استعمله فيه مجازا وبالقرينة؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية ان في المسألة أقوالا ، ثم شرع بيان الحق في المسألة ، إلاّ انه قبل بيانه تعرض إلى بيان شيء دخيل في التحقيق ، وهو : ان الوضع التعييني يتصور حصوله بنحوين :

ص: 185

الأول : أن ينشأ بالقول ، ثم بعد تحققه بذلك يستعمل اللفظ في المعنى فينشأ بصورة « وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى » شأنه شأن غيره من الإنشائيات والاعتباريات ، لأنه كما عرفت امر اعتباري.

الثاني : ان ينشأ بالاستعمال ، بان يستعمل اللفظ في المعنى رأسا ، ويقصد بهذا الفعل - أعني الاستعمال - تحقق الوضع له وإنشائه بلا ان يسبق الاستعمال تصريح بالوضع أصلا. وتقريب ذلك : ان استعمال اللفظ في معنى وقصد دلالته عليه بنفسه لمكان من لوازم الوضع ، إذ بدونه لا يكون اللفظ دالا على المعنى بنفسه ، كان الاستعمال دالا بالدلالة الالتزامية على الوضع وموجبا لحضوره في ذهن المخاطب بالالتزام ، وعليه فيقصد إيجاد الوضع وتحققه خارجا بهذه الدلالة الالتزامية ، وينشأ الوضع بهذه الواسطة ، إذ لا يعتبر في المنشأ ان يكون مدلولا عليه مطابقة كالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني.

ثم انه لا بد من نصب قرينة في هذا الاستعمال ، إلاّ انها على تحقق الوضع بهذا الاستعمال لا على دلالة اللفظ على المعنى واستعماله فيه ، وبذلك اختلفت هذه القرينة عن قرينة المجاز.

والإشكال في هذا الاستعمال بأنه ليس استعمالا حقيقيا ، لأنه ليس فيما وضع له لفرض تحقق الوضع به ، ولا مجازيا لعدم كونه فيما يناسب الموضوع له ، إذ قد لا يكون اللفظ موضوعا إلى معنى آخر أو كان ولكن لا مناسبة بينه وبين المستعمل فيه.

غير وجيه ، بعد ما عرفت من إمكان ان لا يكون الاستعمال حقيقيا ولا مجازيا ، كاستعمال اللفظ في مثله ونحوه. ثم انه ادعى بعد ذلك : ان دعوى الوضع التعييني بهذا النحو غير مجازفة للتبادر ، وقد عرفت انه علامة الحقيقة. وانما لم يلتزم بالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني مع صلاحية الدليل لإثباته وهو التبادر بل هو لا يكشف عن النحو الثاني ، وانما يكشف عن أصل الوضع لا

ص: 186

كيفيته ، لوجود المانع الثبوتي عنه ، وذلك لأن النحو الأول لما كان فعلا صريحا مستقلا من الشارع وبادرة ملفتة منه. كان تحققه مستلزما لظهوره عندنا بالنقل ، إذ قد نقل إلينا من افعال النبي صلی اللّه علیه و آله ما هو أقل من الوضع أهمية. وحيث انه لم ينقل ذلك نجزم بعدم كون الوضع بهذا النحو ، ومن هنا تظهر الثمرة في تعرض صاحب الكفاية إلى بيان هذا القسم من الوضع - أعني الوضع بالاستعمال - ، فانه لو لم يثبت لم تثبت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني ، للجزم بعدم تحققه إنشاء بالقول ، إذ لو كان لبان.

وعليه ، فالوضع التعييني بالنحو الثاني ثابت بأمرين منضمين : أحدهما : التبادر المثبت لأصل الوضع ، والآخر : العلم بعدم ثبوت الوضع التعييني بالنحو الأول بعدم نقله النافي للنحو الأول والمعين للنحو الثاني. ثم انه أيد دعواه الوضع بأنه لو لم يلتزم بالوضع كانت الاستعمالات الواردة في لسان الشارع مجازية وهو ممتنع في بعض الاستعمالات ، لشرط العلاقة المصححة بين المعنى الحقيقي اللغوي والمعنى الشرعي المستعمل فيه اللفظ ، وقد لا تكون ، كما في الصلاة فانها لغة موضوعة للدعاء ولا علاقة بينه وبين المعنى الشرعي.

وما قد يدعى من وجود علاقة الجزء والكل ، إذ الدعاء من اجزاء الصلاة شرعا.

لا يفيد في صحة الاستعمال ، لأن جواز استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل انما يثبت في فرض كون الجزء أساسيا وذا أهمية في تحقيق الكل ، وليس الدعاء كذلك ، لأنه ليس من أركان الصلاة. ولو تنزل عن دعوى الوضع التعييني ، فدعوى حصول الوضع التعييني باستعمال الشارع هذه الألفاظ في معانيها الشرعية ليست دعوى جزاف ، لكثرة استعماله.

ثم انه حيث كان المراد بالحقيقة الشرعية وضع الألفاظ لهذه المعاني في شرعنا ، كان ثبوت الحقيقة الشرعية يتوقف على عدم ثبوت هذه المعاني قبل

ص: 187

شرعنا وكونها مستحدثة من قبله.

ولكن الّذي يظهر من بعض الآيات ثبوتها في الشرائع السابقة ، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ ) (1) ، وقوله تعالى حكاية عن عيسى ويحيى : ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) (2) ، وقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (3). وعليه ، فتكون هذه الألفاظ حقائق لغوية لا شرعية.

والتخلص من ذلك باختلاف نحو العبادات السابقة عن نحوها في شريعتنا لا يجدي. لأن الاختلاف في المصداق - كاختلاف الصلاة عندنا بحسب اختلاف الحالات - ، فانه لا يدل على اختلاف المعنى بل المعنى واحد. غاية الأمر ان المصداق في شرعنا يختلف عن المصداق في الشرائع السابقة كاختلاف المصاديق في شرعنا (4).

هذا بيان ما ذكره صاحب الكفاية في المقام وتوضيحه. واتضح بذلك ان أساس ثبوت الوضع التعييني والحقيقة الشرعية به ركنان :

الأول : إثبات نحو آخر للوضع التعييني وهو الإنشاء بالاستعمال.

والثاني : عدم ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة.

وقد أورد على الركن الأول - أعني إمكان تحقق الوضع التعييني بالاستعمال - من جهتين :

الجهة الأولى : ان ذلك يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شيء واحد. وقد قرب ذلك بوجهين :

الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه : من ان الوضع جعل

ص: 188


1- سورة الحج ، الآية : 27.
2- سورة مريم ، الآية : 31.
3- سورة البقرة ، الآية : 183.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -/21- 22 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اللفظ بحيث يحكى عن المعنى ، فالحكاية والدلالة مقصودة في الوضع وملحوظة بنحو الاستقلال ، لأن الحكاية المأخوذة فيه ليست الحكاية الفعلية التي تحصل مغفولا عنها ، بل الحكاية الشأنية. بخلافها في الاستعمال فانها ملحوظة ومقصودة على الوجه الآلي دون الاستقلالي ، لأن النّظر الاستقلالي فيه متعلق بالمعنى. واما ما به الحكاية وهو اللفظ ونفس الحكاية ، فهما متعلقان للحاظ الآلي.

وعليه ، فإذا أريد إنشاء الوضع بنفس الاستعمال لزم اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في شيء واحد ، وهو الدلالة ، في حين واحد (1).

ويندفع : أولا : بان حيثية الدلالة لم تؤخذ في معنى الوضع أصلا ، بل الوضع كما تقدم ليس إلاّ مجرد اعتبار العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى ، أو اعتبار اللفظ على المعنى ، أو اعتباره المعنى ، وليس للدلالة أي دخل في عملية الوضع ولم يؤخذ النّظر إليها من شرائطه كما لا يخفى.

وثانيا : لو سلم أخذ الدلالة في الوضع وتعلق النّظر والقصد الاستقلالي بها ، فلا يخفى ان متعلق اللحاظ والقصد فيه هو طبيعي الدلالة ومفهومها لا مصداقها إذ لا تلحظ الدلالة الفعلية ، إذ متعلق الوضع هو طبيعي اللفظ للمعنى. وظاهر ان الدلالة الملحوظة حينئذ هو مفهومها لا مصداقها لعدم قابلية طبيعي اللفظ بما هو طبيعي للدلالة فعلا.

كما انه من الظاهر كون الدلالة الملحوظة حال الاستعمال هي الدلالة الفعلية ، فمتعلق اللحاظ فيه هو مصداق الدلالة.

وعليه ، فلا يستلزم إنشاء الوضع بالاستعمال تعلق اللحاظين بشيء واحد ، بل اللحاظ الاستقلالي يتعلق بمفهوم الدلالة ، والآلي بمصداقها ، وهما متغايران.

ص: 189


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث -/32- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. الاصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية31/1- الطبعة الاولی.

وهذا هو الصحيح في الجواب ، لا ما ذكره المرحوم الأصفهاني من ان إنشاء الوضع حيث كان بالمدلول الالتزامي للاستعمال لأنه لازم الوضع ، كانت الحكاية متعلقة للحاظ الآلي في مقام يختلف عن مقام تعلق اللحاظ الاستقلالي ، فانها ملحوظة استقلالا فمرحلة التسبيب إليها بإنشاء لازمها ، وملحوظة آليا في مرحلة نفس الاستعمال وهو لازمها (1).

وذلك : لأن تعدد مرحلة تعلق اللحاظ واختلاف مقامه لا يجدي في رفع غائلة المحذور وهو اجتماع اللحاظين في شيء واحد في زمان واحد ، إذ اختلاف المرحلة لا يوجب اختلاف الزمان.

الثاني : ما ذكره المحقق العراقي رحمه اللّه : من ان الوضع لما كان جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى أو نظير ذلك ، كان اللفظ في حال الوضع متعلقا للحاظ الاستقلالي لأنه طرف الحكم والاعتبار ، وحيث ان الاستعمال جعل اللفظ حاكيا عن المعنى وفانيا فيه كان اللفظ في حال الاستعمال ملحوظا آلة نظير المرآة. إذ النّظر الاستقلالي يتعلق بالمحكي دون الحاكي. وعليه فإنشاء الوضع بالاستعمال يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في اللفظ في زمان واحد. وهو محال.

ويندفع بما قرره المحقق العراقي : من ان متعلق اللحاظ الاستقلالي في حال الوضع هو طبيعي اللفظ ، لأن الوضع جعل العلقة بين طبيعي اللفظ لا مصداقه الخاصّ. ومتعلق اللحاظ الآلي في حال الاستعمال هو مصداق اللفظ ، إذ به تكون الحكاية. وعليه فلا يلزم في إنشاء الوضع بالاستعمال اجتماع لحاظين في شيء واحد ، لاختلاف متعلق كل منهما عن متعلق الآخر (2).

وهذا هو الوجه في الاندفاع لا ما ذكره السيد الخوئي من تأخر الاستعمال

ص: 190


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية /31- الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 33 - الطبعة الأولى.

رتبة عن الوضع (1).

لأن التأخر الرتبي لا يستلزم عدم اجتماع اللحاظين في شيء واحد في زمان واحد. كما انه لا يرفع المحذور بنفسه ، فان فرض تأخر أحد الضدين عن الآخر رتبة لا يسوغ اجتماعهما في شيء واحد في آن واحد. فلاحظ وتأمل.

الجهة الثانية : انه لما كان أساس صحة إنشاء الوضع بالاستعمال هو كون الاستعمال ودلالة اللفظ بنفسه على المعنى من لوازم الوضع ، فيكون الاستعمال دالا بالالتزام على الوضع وينشأ الوضع بهذه الواسطة ، لما كان أساسه ذلك كان مبتنيا على الالتزام بان قرينة المجاز جزء الدال على المعنى المجازي. إذ اللفظ لا يدل بنفسه على المعنى المجازي ، فتكون الدلالة بنفسها من لوازم الوضع.

ولكنه غير ثابت ، بل التحقيق على ان القرينة تكون على إرادة المعنى المجازي من اللفظ ، فيكون اللفظ بنفسه دالا على المعنى ، والقرينة تدل على دلالته عليه وإرادة المعنى منه ، فنفس « الأسد » في قولنا « هذا الأسد » مشيرا إلى زيد مستعمل في زيد ودال على زيد ، والإشارة ليست دخيلة في الدال بل هي تعيّن الدلالة ، والدال هو اللفظ.

وعليه ، فدلالة اللفظ بنفسه ليست من لوازم الوضع ، بل هي امر مشترك بين صورتي الوضع وعدمه. فلا يكون الاستعمال موجبا لخطور الوضع في الذهن لأنه لازم أعم. فليس إنشاء الوضع بالاستعمال من سبيل.

وأنت خبير بوهن هذا الإشكال ، فان المراد من كون دلالة اللفظ بنفسه من لوازم الوضع ، هو دلالته على المعنى بلا معونة واسطة ، كما في المجاز فانه بمعونة القرينة ، وليس المراد دلالة اللفظ ذاته ومستقلا الّذي هو امر مشترك بين الحقيقة والمجاز ، كي يرد ما ذكر.

وبالجملة : تارة يراد من « دلالة اللفظ بنفسه » دلالته على المعنى بلا

ص: 191


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 128 - الطبعة الأولى.

واسطة في البين ، بإرجاع « بنفسه » إلى الدلالة لا اللفظ.

وأخرى : يراد دلالته بذاته ومستقلا على المعنى بلا اشتراك لغيره معه ، بإرجاع القيد إلى اللفظ الدال ، والمعنى الأول من خصائص الوضع ولوازمه ، إذ دلالة اللفظ على المعنى المجازي بمعونة القرينة ، والمعنى الثاني مشترك بين الوضع وغيره فهو لازم أعم للوضع. والمراد في تقريب إنشاء الوضع بالاستعمال هو الأول ، فان الغرض بالاستعمال المقصود إنشاء الوضع به ، جعل اللفظ دالا بنفسه وبلا قرينة على المعنى ، وهو من لوازم الوضع ، والإيراد المزبور يبتني على الخلط بين المعنيين واشتباه المراد منهما وتخيل انه الثاني. فلاحظ.

وأورد على الركن الثاني - بما هو منسوب إلى ولده (1) - : من ان ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يكفي في ثبوت كون هذه الألفاظ فيها حقائق لغوية ، إذ ثبوت المعاني سابقا لا يستلزم وضع هذه الألفاظ المخصوصة لها ، ونقل القرآن ليس بدليل على تحقق وضعها لها ، إذ يمكن ان يكون نقلا بالترجمة وبذكر المرادف لما كان موضوعا سابقا لهذه المعاني من الألفاظ ، كما هو شأنه في نقل المحاورات الكلامية باللغة العربية ، إذ يعلم بان التفاهم لم يكن سابقا باللغة العربية (2).

والإيراد على هذا : بان الظاهر ان النبي صلی اللّه علیه و آله حين كان يلقي هذه الألفاظ بالآيات ، كان العرب يفهمون منها معانيها الشرعية ، ولم يكونوا يرونها غريبة عن أذهانهم ، ولو لم تكن معلومة الوضع لديهم ، لم يكادوا يفهمون معانيها منها ولرأوها غريبة عن أذهانهم.

مندفع : بأنه من جهة ان النبي صلی اللّه علیه و آله كان قد أعلمهم قبل

ص: 192


1- ولد صاحب الكفاية.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول1/ 33 ( في الهامش ) - الطبعة المحشاة بحاشية المشكيني (رحمه اللّه).

نقل الآيات بهذه المعاني بأسمائها الشرعية وبحكمها في الشريعة ، ثم كان يذكر الآية استشهادا وبيانا لحكمه. وهذا لا يدل على كون هذه الألفاظ موضوعة لهذه المعاني سابقا ، فتأمل.

والمتحصل : هو ان دعوى الوضع التعييني بالاستعمال غير بعيدة ، ولو تنزل عنه فدعوى الوضع التعيني لا تخلو من وجاهة.

لكن الإنصاف انه لا طريق لدينا لإحراز الوضع التعيني الاستعمالي ، بحيث يحرز به انه قصد الوضع في أول استعمال ، إذ لا طريق لإحراز التبادر في الاستعمال الأول.

ثم انه قد ذكر لهذا المبحث ثمرة : وهي انه مع الشك في إرادة المعنى الشرعي أو غيره من اللفظ الوارد في كلام الشارع بلا قرينة تعين أحد المعنيين. يحمل اللفظ على المعنى الشرعي بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وعلى المعنى اللغوي بناء على عدم ثبوتها لأصالة الحقيقة.

لكن الظاهر انه لا مورد لهذه الثمرة - كما أفاد ذلك المحقق النائيني - (1) ، فان جميع الاستعمالات الواردة في كلام الشارع ممّا يعلم بمراد الشارع فيها ، وليس هناك مورد يشك فيه في مراده كي تصل النوبة إلى ما ذكر. وبعبارة أخرى : ان الكبرى وان كانت ثابتة إلاّ ان تحقق الصغرى غير ثابت ، لعدم الشك في مورد ما وظاهر ان ذلك ينفي كون الكبرى ثمرة عملية.

وعليه ، فمبحث الحقيقة الشرعية مبحث علمي صرف ليس بذي ثمرة وأثر عملي.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر امرا آخر : وهو ان الثمرة المزبورة انما تتم في مورد العلم بتاريخ الوضع وتأخر الاستعمال عنه. واما مع الجهل بتاريخهما ، فلا أثر. إذ غاية ما يمكن ان يذكر في إثبات تأخر الاستعمال وجهان :

ص: 193


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 33 - الطبعة الأولى.

أحدهما : أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع. وهو مردود لوجهين :

أولهما : معارضته بأصالة تأخر الوضع.

وثانيهما : انه من الأصول المثبتة ، لأن مرجع هذا الأصل إلى استصحاب عدم الاستعمال إلى حين الوضع ، ولا يخفى ملازمة ذلك لتأخر الاستعمال عن الوضع وثبوته بعده ، فثبوت تأخر الاستعمال بهذا الأصل يبتني على ثبوت الأصل المثبت. وتحقيق ذلك في أوائل التنبيه الحادي عشر من تنبيهات الاستصحاب في الكفاية فراجع (1).

الوجه الثاني : أصالة عدم النقل ، بمعنى انه يستصحب عدم النقل إلى ما قبل الاستعمال ، فانه أصل عقلائي ، وهو المسمى بالاستصحاب القهقرى ، ويثبت به تأخر الاستعمال عن الوضع وكون الوضع قبله ، وان كان ذلك بالملازمة لحجية الأصول العقلائية في لوازم مفادها.

ولكنه مردود : بان الثابت بناء العقلاء على عدم النقل مع الشك في أصل النقل ، اما مع العلم به والشك في تقدمه وتأخره فلم يثبت بناء العقلاء على استصحاب عدم النقل إلى زمان ما ، فلا دليل على حجية أصالة عدم النقل فيما نحن فيه (2).

ومنه يعلم انه لا بد من ان يكون المراد من التبادر المستدل به على ثبوت الوضع التعييني ، هو التبادر في زمان الشارع لا في زماننا ، إذ التبادر في زماننا لا يثبت الوضع من الشارع الا بأصالة عدم النقل ، وقد عرفت عدم ثبوتها في مورد العلم بأصل النقل والشك في زمانه.

* * *

ص: 194


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /22- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الصّحيح والأعمّ

اشارة

ص: 195

ص: 196

الصحيح والأعم

موضوع البحث والكلام : هو ان الألفاظ هل هي موضوعة للصحيح من معانيها أو للأعم من الصحيح والفاسد؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية أمورا قبل الخوض في أصل المطلب ، رأى ضرورة الاطلاع عليها وتحقيقها قبل تحقيق المقصود لدخله في تحقيقه.

الأمر الأول : في تصوير النزاع. ولا يخفى ان تصويره على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح ، إذ يقال : ان الشارع هل وضع اللفظ لخصوص الصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد؟ ولكن تصويره على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية صار محل الخلاف ، إذ لا وضع كي يقال بان الموضوع له هو الصحيح أو الأعم - ولا يخفى انه لو لم يمكن تصويره على القول بعدم ثبوتها واختصاص النزاع بالقول بثبوتها ، لا يكون هذا المبحث مبحثا مستقلا في مقابل المبحث السابق - أعني مبحث الحقيقة الشرعية - ، بل يكون من فروعه ومترتبا عليه ، لأنه نتيجة أحد القولين في تلك المسألة ، إذ لا يجري الكلام في هذه المسألة على كلا تقديري تلك المسألة -. والّذي ذهب إليه صاحب الكفاية عدم إمكان تصوير النزاع بنحو يوجب استقلال هذا المبحث عن سابقه ، وبصورة تتناسب مع علمية المبحث والنزاع ، إذ ادعى ان تصويره في غاية الإشكال.

وقد صوره بعض بما بيانه - كما في الكفاية - : ان النزاع يكون في ان

ص: 197

الأصل في الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيح أو الأعم بمعنى ان أيهما اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ابتداء ولوحظت المناسبة بينهما أولا ، ثم استعمل اللفظ في الآخر بتبعه ومناسبته ، فينزل كلام الشارع عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي فقط وعدم قرينة أخرى معينة للآخر ، بلا احتياج لقرينة معينة له بخصوصه.

وقد استشكل صاحب الكفاية هذا التصوير : بأنه ليس تصويرا للبحث العملي الّذي يتصور لكلا شقيه وجه للثبوت ، وذلك لأن إثبات كلا الشقين على هذا التصوير ، أعني كون الأصل في الاستعمال هو الاستعمال في الصحيح أو كونه الاستعمال في الأعم ، يتوقف على أمرين لا سبيل علمي لإثبات كل منهما. وهما :

أولا : ثبوت اعتبار العلاقة أولا بين المعنى اللغوي وأحد المعنيين الصحيح والأعم بعينه.

وثانيا : تنزيل كلام الشارع على ما لوحظت العلاقة ابتداء بينه وبين المعنى اللغوي - لو ثبت ذلك - بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم القرينة المعينة للمعنى الآخر ، بلا حاجة إلى قرينة خاصة معينة كغيره.

فانه لا يخفى انه ليس لدينا من الطرق المتعارفة في باب الظهورات وغيرها ما يثبت أحد هذين الأمرين ، فكيف يكون النزاع المتوقف عليهما نزاعا علميا يقصد فيه تحقيق أحد طرفيه؟! (1).

ويمكن النّظر فيما أفاده قدس سره : بان التقريب المزبور بأسلوبه العلمي الصناعي قد يبدو مشكل الإثبات. ولكنا نغض النّظر عن ذلك ، ونقول : ان طريق إثبات أولوية أحد المعنيين هو الظهور الثابت لأحدهما ولو كان مجازيا ، فانه لا إشكال في ظهور الكلام في أحد المعنيين ، وبضميمة عدم القول بالوضع الشرعي نعلم ان المعنى الظاهر مجازي ، فإذا ثبت الظهور ولو كان مجازيا حمل اللفظ عليه كما قد يقال بمثله في المجاز الراجح أو المشهور. فتدبر.

ص: 198


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /23- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لتصوير النزاع لا يتوقف الا على إثبات الأمر الأول ، ولا يعنينا التعرض إليه بشيء بعد ان اعترف مقرره بتوقفه على ما لا طريق لإثباته عادة (1).

وللمحقق النائيني وجه في رفع الإشكال في التصوير المذكور للنزاع ، وحاصله : ان طريق إثبات لحاظ العلاقة ابتداء بين أحد المعنيين بعينه والمعنى اللغوي ممكن ، وذلك لأنه ان لم تثبت الحقيقة الشرعية فثبوت الحقيقة لدى المتشرعة لا ينكر ، لتبادر هذه المعاني من الألفاظ عندنا. ولا يخفى ان الحقيقة الشرعية انما حصلت بكثرة الاستعمال من زمان الشارع إلى زمان المتشرعة ، وعليه فيلحظ ما هو المتبادر عندنا نحن المتشرعة من الصحيح أو الأعم ، فينزل كلام الشارع عليه ويبنى على ان الأصل استعماله فيه ، لأن التبادر والوضع التعيني عندنا انما حصل بتبع استعمال الشارع والمتشرعة بتبعه ، فيكشف عن الأصل في استعمالات الشارع وان كانت مجازا (2).

وهذا الوجه ضعيف للغاية لوجوه :

الأول : انه لا وجه لاستكشاف الأصل في استعمالات الشارع بما هو المتبادر عندنا ، لأن التبادر انما نشأ من كثرة الاستعمال الناشئ من كثرة الحاجة إلى تفهيم المعنى ، ولا يبعد ان يكون الشارع قد استعملها في الصحيح مثلا ، إلاّ ان الاستعمال من قبل المتشرعة كان في الأعم بكثرة لكثرة الحاجة إلى تفهيمه ، فيتحقق الوضع التعيني لدى المتشرعة في الأعم دون الصحيح ، فالمتبادر منه معنى معين لا يكون كاشفا عن ان ذلك المعنى هو الأصل في استعمالات الشارع ، لإمكان ان يكون الأصل غيره ، لكن تبدل ذلك عند المتشرعة للحاجة الكثيرة لتفهيم غيره.

الثاني : ان الوجه المذكور على تقدير تسليمه في إثبات نحو استعمال

ص: 199


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 34 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 34 - الطبعة الأولى.

الشارع ، فهو لا يثبت كون الأصل فيه ذلك الاستعمال ، وان العلاقة لوحظت ابتداء بين المعنى المعين والمعنى اللغوي ، إذ يمكن ان تكون العلاقة لوحظت أولا بين غيره والمعنى اللغوي ، لكن كثر الاستعمال من الشارع في هذا المعنى لكثرة الحاجة إليه.

الثالث : انه على تقدير تسليم كشفه عن المعنى الّذي لوحظت العلاقة فيه ابتداء ، فهو لا يجدي ما لم يقم الدليل على ثبوت كون المعنى الّذي لوحظت العلاقة فيه ابتداء ، هو الأصل في الاستعمال ، وان الكلام يحمل عليه بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم القرينة المعينة للآخر. وقد عرفت انه لا طريق عادة إلى إثبات ذلك.

وبالجملة : فمن مجموع ما ذكرناه يتضح ضعف ما ذكره قدس سره .

وبذلك تكون النتيجة هي ما انتهى إليه صاحب الكفاية من عدم تحقق النزاع المزبور على القول بعدم الحقيقة الشرعية ، وكون هذه المسألة من متفرعات مسألة الحقيقة الشرعية.

والعجب من السيد الخوئي انه يبني على جريان النزاع بالوجه المذكور في الكفاية ، بلا تعرض لدفع ما استشكله صاحب الكفاية وكلام أستاذه النائيني (1) ، مع ان القواعد تقتضي بضرورة التعرض إلى مثل ذلك نفيا أو إثباتا كما لا يخفى.

ثم انه لو بنى على تصوير النزاع وجريانه على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية بما ذكر في الكفاية ، يتضح جريانه على الرّأي المنسوب إلى الباقلاني القائل بان الألفاظ دائما مستعملة في معانيها اللغوية وإفادة إرادة الاجزاء والشرائط بقرينة خاصة ، كما أشار إليه في الكفاية فراجعه (2).

ص: 200


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 134 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /23- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر الثاني : في معنى الصحة وتحديد موضوع النزاع والبحث.

اتفق الكل على ان معنى الصحة هو التمامية ، إلاّ انه وقع الكلام في جهات :

الأولى : انه هل للتمامية واقع مستقل غير ما ذكر من الآثار كموافقة الأمر وإسقاط القضاء والإعادة ، أو انها أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر؟. وبعبارة أخرى : ان موافقة الأمر ونحوها من الآثار هل هي من لوازم التمامية وآثارها ، أم انها من مقومات معناها؟. ذهب صاحب الكفاية إلى ان هذه الآثار لوازم التمامية ومن آثارها ، وان تفسير الصحة في كلام الفقهاء بإسقاط الإعادة والقضاء ، وفي كلام المتكلمين بموافقة الأمر ، تفسير لها بلوازمها وآثارها التي هي محط النّظر ، وان ذلك لا يكون دليلا على ان للصحة معنى غير التمامية (1). وظاهر كلامه في مبحث دلالة النهي على الفساد ، ان اتصاف العمل بالتمامية انما هو بلحاظ ترتب الأثر (2).

وذهب المحقق الأصفهاني إلى الثاني ، فادعى ان مثل موافقة الأمر وإسقاط الإعادة من مقومات التمامية حيث انه لا واقع للتمامية الا التمامية من حيث موافقة الأمر أو إسقاط الإعادة والقضاء أو ترتب الأثر المرغوب ، فالتمامية متقومة بهذه الحيثية المضافة إلى الأثر ، ولا يخفى انه يمتنع ان يكون الأثر حينئذ من لوازم التمامية ، لأن ما يكون من مقومات الشيء لا يكون من لوازمه وآثاره ، لأن نسبة اللازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر نسبة المعلول إلى العلة ، وهو خلف فرض كونه مقوما للشيء.

ثم انه تعرض في حاشية له على المقام لبيان الفرق بين لازم الماهية ولازم

ص: 201


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /182- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الوجود ، ولما لم يكن ذا علاقة ماسة بما نحن فيه أهملنا ذكره (1).

وقد ذهب السيد الخوئي إلى ان للتمامية واقعا مع قطع النّظر عن هذه الآثار (2) ، وهي التمامية بمعنى جامعية الاجزاء والشرائط فانها بهذا المعنى لا تتقوم بشيء من الآثار ، بل لها وجود في ذاتها. واما موافقة الأمر وإسقاط الإعادة والقضاء وغيرهما من الآثار ، فهي من لوازم التمامية بهذا المعنى وآثارها. وادعى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني ناشئ من الخلط بين تمامية الشيء في نفسه المراد بها جامعيته للاجزاء والشرائط. وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء فانه لا واقع لهذه التمامية مع قطع النّظر عن هذه الآثار واللوازم ، بل كونه تاما في مقام الامتثال والاجزاء لا يعنى به الا كونه مسقطا للإعادة والقضاء وموافقا للأمر. أو من الخلط بين واقع التمامية وعنوانها ، فان عنوان التمامية عنوان انتزاعي ينتزع عن الشيء بلحاظ اثره ، فحيثية ترتب الآثار متممات حقيقة هذا العنوان. ولكنه خارج عن محل الكلام ، فان كلمة « الصلاة » مثلا لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورة ، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه وهو الاجزاء والشرائط ، ومن الظاهر ان

ص: 202


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 35 - الطبعة الأولى.
2- أشرنا في التحقيق الوارد في ذيل الكلام : انه استجماع الاجزاء والشرائط ، لا واقع له الا ملاحظة جهة واحدة ، بالإضافة إليها يقال انه تام أو ناقص ، وإلا فلا وجه لأن يقال عن الركعة الواحدة انها مركب ناقص ، وإذا لم تكن جهة الوحدة هي الأثر ، أو موافقة الأمر كما هو الفرض ، فلا بد ان تكون هي التسمية ، بان يلاحظ تسمية مجموعة من الاجزاء والشرائط باسم الصلاة مثلا. ولا يمكن ان يراد ذلك في المقام ، إذ لا معنى ، لأن البحث عما هو الموضوع له وما هو المسمى باسم الصلاة ، ولا معنى لأن يقال ان الموضوع له لفظ الصلاة هو التام بلحاظ اسم الصلاة ، بل لا مجال للنزاع حينئذ. وبتقرير آخر : نقول ان الجزئية تنتزع عن ملاحظة الجزء مع غيره أمرا واحدا. فإذا كانت جهة الوحدة هي التسمية باسم واحد ، كان الجزء جزء المسمى ، ولا معنى للكلام في الوضع حينئذ. هذا مع ان النقصان والتمامية في الاجزاء لا يستلزم مطلقا صدق الفساد والصحة ، فليس الجسم الناقص فاسدا ، إذ الفساد يصدق بلحاظ عدم ترتب الأثر ، فالفساد أخص من النقصان. والكلام هاهنا في الصحة في مقابل الفساد لا مقابل النقصان.

حيثية ترتب الآثار ليست من متممات حقيقة تمامية هذه الاجزاء والشرائط. هذا بيان ما ذكره السيد الخوئي إيرادا على أستاذه الأصفهاني بعبارة تقريرات الفياض تقريبا (1).

والتحقيق في المقام : ان الجزئية والشرطية ليس لهما واقع ، وانما هما ينتزعان عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الأمور المتكثرة واحدا بالإضافة إليه والتي ينتزع لها عنوان المركب ، كالأثر التكويني أو إسقاط القضاء أو الأمر. فالركوع مثلا بنفسه وبلحاظه ، ذاته لا يعد جزءا ، بل هو فعل تام مستقل ، وانما يعد جزءا بلحاظ دخله في حصول المأمور به ومتعلق الأمر ، فهو جزء المأمور به ، فجهة تعلق الأمر الواحد بالأمور المتكثرة دفعة واحدة ملحوظة في انتزاع الجزئية ولولاها لما كان جزءا ، أو بلحاظ دخله في حصول الأثر كالنهي عن الفحشاء فهو جزء المؤثر ، أو بلحاظ دخله في ترتب سقوط القضاء ، فهو جزء ما يترتب عليه إسقاط القضاء والمؤثر فيه. وهكذا لو وضع لفظ « زيد » مثلا للذات وامر خارج عن حقيقتها ، فان عد ذلك الأمر جزءا انما يكون بلحاظ مقام التسمية ودخله في المسمى بلفظ « زيد ». وإذا ثبت ان الجزئية والشرطية تنتزع عن الشيء بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الوحدة بالإضافة إليه ، لم يكن للتمامية من حيث استجماع الاجزاء والشرائط تحقق في عرض التمامية بلحاظ ترتب الأثر وموافقة الأمر وإسقاط القضاء ونحو ذلك ، لأن انتزاع الاجزاء والشرائط انما يكون بلحاظ أحد هذه الأمور ، فتكون التمامية من حيثية اجتماع الاجزاء والشرائط في طول التمامية بلحاظ أحد هذه الأمور ، فلا وجه لجعلها في عرضها والبحث عن إرادة أيها ، كما وقع في كلام المحققين الأصفهاني والخوئي.

وبعد ذلك نقول : ان التمامية أمر إضافي يختلف باختلاف الجهة الملحوظة في الشيء ، فلا يكون الشيء تاما وناقصا في نفسه وبلا لحاظ أي جهة خارجية

ص: 203


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 135 - الطبعة الأولى.

أصلا ، من ترتب أثر أو حصول شيء منطبق على المركب كالمأمور به والمسمى ونحو ذلك. فلا يقال للصلاة ذات الركعة انها ناقصة بلحاظ ذاتها وبلا لحاظ أي شيء ، إذ هي وجود مستقل ، غاية الأمر انه غير وجود الصلاة ذات الركعتين ، وانما يقال لها انها ناقصة بلحاظ عدم حصول الأثر المترقب منها ، لعدم اجتماع جميع ما له الدخل في حصوله. أو بلحاظ عدم حصول المأمور به ومتعلق الأمر المترتب على الركعتين مثلا وهكذا.

وعليه ، فالتمامية لا يتصف بها الشيء في نفسه أصلا ، بل اتصاف الشيء بها وبالنقصان انما هو بلحاظ جهة خارجية عن الشيء يترقب حصولها من الشيء ، أو تكون ملحوظة في مقام لحاظ الوحدة والتركيب.

وأما الصحة ، فهي نحو من أنحاء التمامية ، لا التمامية بقول مطلق ، وهو التمامية من حيث ترتب الأثر المترقب لا من حيثية أخرى ، لوضوح عدم صدق الفاسد على ناقص بعض الأجزاء بلحاظ شيء أجنبي عن ترتب الأثر المترقب مع حصول الأثر ، بل يصدق عليه الصحيح بلحاظ تاميته من حيث ترتب الأثر المترقب ، وان صدق عليه النقصان من حيثية أخرى وهي حيثية الحكم أو غيرها.

وبهذا البيان يظهر ما في كلام السيد الخوئي من الضعف وعدم الوضوح. إذ اتضح تقوم التمامية بالحيثيّات المزبورة وكونها من مقومات معناها. كما يظهر ما في إطلاق الكل بان الصحة هي التمامية ، فانك عرفت ان الصحة ليست هي التمامية بقول مطلق بل التمامية من حيث ترتب الأثر المرغوب والمترقب.

والمحصل : ان هناك جهة إشكال في كلام الأصفهاني والخوئي وهي فرض التمامية من حيث استجماع الاجزاء والشرائط في عرض التمامية من الحيثيات الأخرى ، وجهة مختصة في كلام السيد الخوئي ، وهي فرض التمامية للشيء في نفسه بلا لحاظ أنّه جهة خارجية ، وجهة عامة في كلام الكل ، وهي فرض الصحة بمعنى التمامية بقول مطلق فلاحظ.

ص: 204

ويقع الكلام بعد ذلك في الجهة الثانية : وموضوع البحث فيها تشخيص الملحوظ من افراد التمامية في معنى الصحة المأخوذة في موضوع البحث في المسألة ، وانه هل التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو التمامية من حيث إسقاط الإعادة والقضاء ، أو التمامية من حيث ترتب الأثر التكويني ، وهو النهي عن الفحشاء - مثلا -؟.

والتحقيق : عدم إمكان إرادة الصحة بمعنى التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث إسقاط الإعادة والقضاء ، وعدم كونها من إحدى هاتين الحيثيتين محلا للبحث.

وذلك لأن الشيء لا يتصف بموافقة الأمر أو إسقاط القضاء الا بعد تعلق الأمر. فلا يمكن الالتزام بان اللفظ موضوع للشيء الصحيح من حيثية موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ، لأن المفروض أخذ المسمى في موضوع الأمر ، ويمتنع أخذ الشيء بما انه موافق للأمر في موضوع الأمر فانه خلف كما لا يخفى ، فلا بد ان يفرض المسمى مما يمكن أخذه في حيز الأمر ومما يمكن فرضه في مرتبة متقدمة عليه ، وهو غير الصحيح من إحدى الحيثيتين المزبورتين.

وعليه ، فيتعين ان يكون موضوع الكلام ومحل البحث هو الصحيح بمعنى التمام من حيث ترتب الأثر ، وانّ الموضوع له هو الصحيح بهذا المعنى أو الأعم ، إذ لا محذور فيه سوى ما يتوهم من انه يلزم أخذ ما هو خارج عن الذات فيها ، وذلك لأن الصحيح بهذا المعنى انما ينتزع عن الشيء بلحاظ ترتب الأثر عليه ، فالأثر خارج عن ذات الشيء لأنه بمنزلة المعلول لها ، وظاهر خروج المعلول عن العلة.

وعليه ، فأخذه في المسمى ولو بلحاظ تقيده ودخل التقيد به وان كان نفس القيد خارجا يلزم أخذه في الذات ، وهو خلف فرض خروجه عن ذات المؤثر.

وهو مندفع : بان خروج الأثر عن حقيقة المؤثر وتأخره رتبة عن وجود

ص: 205

المؤثر ، لا يمنع من إمكان دخله في المسمى واعتباره في التسمية ، بان يوضع اللفظ للفعل القائم به الأثر والمترتب عليه ، إذ لا يلزم من ذلك فرض دخله في حقيقة المؤثر كي يكون خلفا.

وبعبارة أخرى : ان الخروج عن الذات والتأخر الرتبي عن المؤثر ، انما هو في مقام الوجود والتحقق ، وهو أجنبي عن مقام التسمية. فلا يمتنع ان يوضع للأثر والمؤثر لفظ واحد مع الاحتفاظ بما لكل منهما من مرتبة ووجود. لأن الدخل في المسمى لا يوجب الدخل في الذات. كما هو شأن كل لفظ موضوع لمركب ، فان كل جزء دخيل في المسمى لكنه ليس دخيلا في حقيقة الجزء الآخر كما لا يخفى. فلاحظ.

وبالجملة : الصحيح هو ملاحظة التمامية بالإضافة إلى الأثر.

ولا يخفى انه تارة يفرض كون الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر بالفعل. وبعبارة أخرى : ما هو المؤثر ، وفي مثله لا يمكن فرض الأثر من لوازم الصحة ، بل من مقوماتها نظير المبدأ الملحوظ في إطلاق المشتق على الذات. وأخرى يكون بمعنى الحصة الملازمة لترتب الأثر ، يعني بلوغ المركب حدا يترتب عليه الأثر ، كما هو الحال في العلة التامة فان بلوغ العلة التامة بمعنى بلوغ العلة حدا يترتب عليه المعلول ، وفي مثله يصح ان يقال : ان المعلول من لوازم العلة وآثارها ، في الوقت الّذي يكون الاتصاف بالتمامية بلحاظ المعلول.

وبالجملة : تارة يراد بالصحيح ما هو المؤثر ، وأخرى يراد به وصوله إلى حد يترتب عليه الأثر. ففي الأول يكون الأثر مقوما لصدق الصحة بخلافه في الثاني فان الأثر من لوازم الصحة ، لأن الصحة منتزعة عن ذات المؤثر لا عن ترتب الأثر عليه فعلا. وبذلك ويمكن الجمع بين ما أفاده في الكفاية هنا من ان إسقاط القضاء ونحوه من لوازم التمامية ، وبين ما ذكره في مبحث دلالة النهي على الفساد من كون التمامية بلحاظ الأثر. إذ عرفت إمكان الجمع ، فلا وجه لإيراد الأصفهاني عليه هنا ، بان الأثر إذا كان ملحوظا في الصحة كان مقوما لها لا أثرا

ص: 206

لها ، كالمبدإ في قولنا « قائم » (1). ومن الغريب انه يذكر ما ذكرناه من معنى الصحة الآخر في ذيل مطلبه ، مع انه يمكن حمل كلام الكفاية عليه.

وإذا تعين كون موضوع البحث هو الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر ، فعليك ان تعرف ان المراد بها الصحة الشأنية لا الفعلية ، بمعنى ان اللفظ - على القول بوضعه للصحيح - يكون موضوعا لما يترتب عليه الأثر لو وجد ، الّذي هو معنى الصحّة الشأنية ، لا انه موضوع لما ترتب عليه الأثر فعلا ، لأنه - يعنى ترتب الأثر - يتوقف على الوجود ، وظاهر ان اللفظ لا يوضع للفرد الموجود بل لنفس الطبيعة المأخوذة في متعلق الأمر.

وبعد هذا يقع البحث في الجهة الثالثة من جهات الكلام ، وموضوع الكلام فيها : تعيين كون المبحوث عنه - بعد فرض كون حقيقة الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر - هل هو الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر من جميع الجهات وبقول مطلق أو لا؟. بيان ذلك : انه يعتبر في ترتب الأثر على العبادة أمور : تحقق الاجزاء والشرائط ، وعدم النهي ، وعدم المزاحم ، وقصد القربة. فالكلام يقع في ان الموضوع له هل هو التام من حيث ترتب الأثر من جميع هذه الجهات وبقول مطلق ، فلا يحتاج في ترتبه عليه فعلا سوى وجوده خارجا.

أو انه التام من حيث ترتب الأثر من بعض هذه الجهات ، فيكون الموضوع له هو ما يترتب عليه الأثر لو انضم إليه سائر الجهات والوجود؟ ثم يقع الكلام في انه خصوص التام من حيث ترتب الأثر من جهة الاجزاء فقط. أو الاجزاء والشرائط ، أو الاجزاء والشرائط وعدم النهي والمزاحم؟.

والمنسوب إلى الشيخ هو تخصيص النزاع بالاجزاء ، وان الكلام في وضع اللفظ لواجدها بالخصوص أو للأعم ، وخروج الشرط عن محل النزاع ، لأن الشرط في رتبة متأخرة عن الاجزاء ، باعتبار كون الاجزاء بمنزلة المقتضي

ص: 207


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 35 - الطبعة الأولى.

للتأثير ، والشرط متأخر عن المقتضي بحسب الرتبة ، لأنه ما به تكون فعلية التأثير ، والفعلية انما تفرض في صورة وجود ما يقتضي التأثير كي يصير الشرط فعلي التأثير. وعليه فأخذ الشرط في المسمى مع الاجزاء يلزم فرض كونهما في رتبة واحدة ، وهو خلف (1).

وأجيب عنه : بان الاختلاف الرتبي بين المقتضي والشرط انما هو في مقام التأثير في المعلول ، وهو أجنبي عن مقام التسمية كما لا يخفى ، فلا يلزم من أخذهما معا في المسمى واعتبار اللفظ لهما نفي اختلافهما في الرتبة في مقام التأثير ، بل هما على ما عليه في ذلك المقام ، فان ذلك نظير وجود العلة والمعلول في مكان واحد أو الحكم عليهما معا بحكم واحد ، فانه لا يتنافى مع تأخر المعلول عن العلة رتبة وهذا واضح جدا (2).

وعليه ، فلا مانع من دخول الشرائط في محل النزاع.

وأما عدم النهي وعدم المزاحم ، فقد ذهب المحقق النائيني إلى خروجهما عن مورد البحث ، لعدم إمكان أخذهما في المسمى جزما ، فلا مجال للكلام ، ببيان :

انهما فرع المسمى لفرض تعلق النهي به ووجود المزاحم له فينتفي أمره ، فلا بد من فرضه في رتبة سابقة على تعلق النهي وعدمه ووجود المزاحم وعدمه ، فيمتنع أخذ عدم النهي عنه في المسمى وكذلك عدم المزاحم له (3).

والتحقيق : أما في عدم النهي فلا يتجه ما ذكره ، إذ تعلق النهي لا يلزم ان يكون بما هو المسمى بما هو كذلك. وبعبارة أخرى : لا يلزم ان يكون هو الاجزاء والشرائط بما انها صلاة مثلا ، بل يمكن ان يتعلق بذوات الاجزاء والشرائط بلا لحاظ تسميتها بلفظ ما ، فليس عدم النهي في نفسه في رتبة متأخرة عن المسمى ، إذ لا ملزم لفرض متعلقه المسمى كي يكون متفرعا عليه. نعم هو متفرع

ص: 208


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /7- الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 138 - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 35 - الطبعة الأولى.

على ذوات الاجزاء والشرائط ، لكنه لم يفرض بعد كونها هي المسمى فانه محل كلامنا ، فتدبر.

وأما بالنسبة إلى عدم المزاحم ، فان أريد من المزاحم هو المزاحم لنفس الشيء بلحاظ انه متعلق لأمر أقوى داعوية فيزاحم نفس العمل الآخر ، فلا يتجه ما ذكره أيضا ، إذ لا يتوقف فرض المزاحم على تحقق التسمية كي يكون عدمه فرع المسمى ، إذ المزاحمة تتعلق بنفس العمل ، وهو ذوات الاجزاء والشرائط بلا توقف على كونها مسماة بلفظ ما أصلا. فلا مانع من أخذ عدم المزاحم في المسمى. وان أريد به المزاحم لأمر الشيء ، فالإزالة مزاحمة لأمر الصلاة لا نفس الصلاة. كان ما ذكره وجيها ، لأن المزاحمة على هذا المعنى متفرعة على تحقق الأمر ، لأنه موضوع المزاحمة ، والمفروض - كما أشرنا إليه - ان الأمر يتعلق بالمسمى. فتكون المزاحمة متأخرة عن التسمية ، فيمتنع ان يؤخذ عدم المزاحم في التسمية لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة سابقة عليه. إلاّ انه بعد تصور المعنى الأول للمزاحمة ، لنا ان نلتزم به وبلازمه من كون أخذ عدم المزاحم في المسمى موضوع الكلام. ولعله هو الّذي يظهر من كلامه هاهنا ، حيث فرع المزاحمة على المسمى رأسا ورتب عليها انتفاء الأمر ، فانه ظاهر في كون طرف المزاحمة هو الفعل المسمى لا أمره. فلاحظ.

وأما قصد القربة ، فقد نفي المحقق النائيني دخوله في محل النزاع أيضا ، بتقريب : انه متأخر عن المسمى برتبتين ، لأنه متأخر عن الأمر وهو واضح ، وهو - أي الأمر - متأخر عن المسمى لتعلقه به ، فلا يعقل ان يؤخذ في المسمى فانه خلف (1).

وأنت خبير بان هذا البيان لا يجدي في نفي إمكان أخذ قصد القربة في المسمى ، لأن ما هو متأخر عن المسمى برتبتين هو واقع قصد القربة ، لأنه هو المتفرع عن الأمر والمتأخر عنه. والّذي يراد أخذه في المسمى هو مفهوم قصد

ص: 209


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 35 - الطبعة الأولى.

القربة ، وهو لا يتفرع على الأمر كي يتأخر عن المسمى.

وعلى هذا ، فلا مانع من أخذ قصد التقرب في المسمى من هذه الجهة ، وانما الإشكال من جهة أخرى ، وهي عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، فانه ينافي أخذه في المسمى ، لأن المفروض كون الأمر متعلقا بالمسمى ، وان تعيين المسمى لأجل تشخيص متعلق الأمر. فيمتنع ان يكون المسمى هو الفعل بجميع جهاته حتى قصد القربة ، لامتناع ان يكون الفعل بقيد قصد القربة متعلقا للأمر.

لكن هذا يختص بالرأي القائل بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر الأول ، أما من لا يلتزم بذلك ويرى إمكانه فلا إشكال لديه في إمكان أخذ قصد القربة في المسمى. فتدبر جيدا.

تنبيه : بعد ان عرفت أن الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر المترقب لا مطلقا ، تعرف ان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف الأنظار والحالات ، إذ قد يختلف النّظر في الأثر فيكون الأثر المترقب بنظر شيئا خاصا ويكون غيره بنظر آخر ، فترتب أحدهما دون الآخر موجب لاتصافه بالصحّة بالإضافة إلى أحد النظرين ، وبالفساد بالإضافة إلى النّظر الآخر ، كما أنه قد يختلف ترتب الأثر المترقب بحسب الحالات ، فيترتب على الشيء في حالة دون أخرى ، فيكون صحيحا بالإضافة إلى حالة وفاسدا بالإضافة إلى الأخرى.

وهذا هو مراد صاحب الكفاية رحمه اللّه .

وهل يترتب على كونهما إضافيين أو غير إضافيين ثمرة عملية ، أو لا يترتب فيكون كلاما علميّا محضا؟. هذا ما لم نتوصل إليه بعد ، ولم نعرف مدى النتيجة العملية التي تلمس بتحقيق أحد النحوين.

الأمر الثالث : في تصوير القدر الجامع بين الافراد الصحيحة ، وبين الافراد الصحيحة والفاسدة. وقبل الخوض في أصل المطلب يجدر بناء التعرض لحل ما قد يظهر من التهافت في عبارة الكفاية ، حيث حكم صاحبها قدس سره في هذا المطلب بلابديّة تصوير الجامع على كلا القولين ، في الوقت الّذي لا

ص: 210

يجزم بكون الموضوع له في ألفاظ العبادات عاما ، بل يلتزم به من باب الاستظهار واستبعاد كونه خاصا لبعض الجهات المبعدة ، كما يلاحظ في المطلب الّذي يعقب هذا ، والّذي موضوعه تعيين عموم الموضوع له أو خصوصه (1) ، مع كون لزوم تصوير الجامع ولا بديته فيما نحن فيه مترتب على الجزم بان الموضوع له عام.

وقد حاول المحقق النائيني توجيه كلام الكفاية - وان لم يصرح بذلك في التقريرات - : بان ضرورة تصوير جامع للافراد الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة لا تترتب على الالتزام بعموم الموضوع له ، بل لا بد من تصوير الجامع ولو التزم بان الموضوع له خاص.

أما على الالتزام بعموم الموضوع له ، فضرورة تصوير الجامع لا تحتاج إلى بيان ، فانه لتعيين الموضوع له ، إذ الموضوع له يكون هو الجامع على الالتزام المزبور.

وأما على الالتزام بان الموضوع له هو الخاصّ وانه هو الافراد الخاصة الجزئية ، فلأن الوضع لها يستدعي لحاظها وتصورها بأجمعها ، ولا يمكن ذلك لعدم تناهيها أو حصرها ، وعليه فلا بد من فرض جامع لها مشير إليها يكون واسطة في الوضع للافراد ، ويكون الحكم الوضعي على الافراد بواسطة ذلك الجامع (2).

وأنت خبير بان هذا لا يصلح رافعا وحلا لما يظهر في عبارة الكفاية من التهافت وان كان في نفسه تاما - ، لأن الظاهر من عبارة الكفاية ان الكلام في تعيين الجامع الّذي حكم بلا بدية تصويره ، انما هو لأجل تعيين الموضوع له ومن جهة فرض وضع اللفظ له ، كما هو ظاهر جدا من إيراد صاحب الكفاية على كون الجامع للأعم هو معظم الاجزاء ، بأنه يستلزم ان يكون الشيء الواحد داخلا في المسمى تارة وخارجا عنه أخرى ، فانه صريح في ان الكلام في تعيين المسمى كما انه في تعيين الجامع ، وان فرض الجامع فرض المسمى ، لا ان البحث في مقامين كما

ص: 211


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- 27 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 35 - الطبعة الأولى.

هو ظاهر المحقق النائيني.

وعليه ، فالحكم بضرورة تعيين الجامع وتصويره المساوق للمسمى لا بد وان يلائم مع عدم جزمه بعموم الموضوع له ، بغير هذا البيان ، فانه غير مفيد في رفع الإشكال في العبارة.

والّذي أراه حلا للمشكلة : ان صاحب الكفاية أخذ الموضوع له أمرا مفروغا عنه على القول بالوضع للصحيح أو للأعم. فحكم بضرورة ولا بدية تصوير الجامع مترتبا على ذلك ، وقد علق اللابدية على كلا القولين ، والمفروض انه لا قائل بالوضع للخاص والافراد.

وبعبارة أخرى : حكم باللابدية معلقا ومرتبا على كلا الادعاءين والقولين ، وليس من أحد من المختلفين من يلتزم بخصوص الموضوع له ، فالحكم باللابدية أشبه بالحكم الشرطي والبنائي ، لا الجزمي الفعلي ، وعليه فلا تهافت. فلاحظ.

وبعد هذا فيقع الكلام في المهم في المقام.

وقد ذهب المحقق النائيني إلى إمكان الالتزام بما لا تصل النوبة معه إلى تصوير الجامع على كلا القولين وحصول النزاع في الوضع لأيهما ، وهو الالتزام بوضع لفظ العبادة كالصلاة للمرتبة العليا من مراتبها بالخصوص ، وهي المرتبة الواجدة لتمام الاجزاء والشرائط. وكون الاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي أو الأعم منها من باب الادعاء والتنزيل.

فالموضوع له على كلا القولين هو المرتبة العليا ، وأما باقي المراتب الصحيحة أو الأعم فيستعمل اللفظ فيها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد ، كما في بعض الاستعمالات. أو من باب اكتفاء الشارع به والمشاركة في الأثر كما في مثل صلاة الغرقى ، إذ لا يصحّ استعمال اللفظ فيها من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد ، لفقدان جل الاجزاء والشرائط لو لم يكن كلها. نعم استعمال لفظ الصلاة في فاسد صلاة الغرقى من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد المنزل منزلة التام الاجزاء والشرائط من باب الاكتفاء في مقام الامتثال ، فبعد البناء على كون

ص: 212

الصحيح فردا للطبيعة من جهة الاجزاء يصح تنزيل الفاقد منزلته أيضا ، ولا يكون من سبك مجاز في مجاز كما لا يخفى. نعم هذا الكلام لا يجري بالنسبة إلى القصر والإتمام ، لأنهما بالقياس إلى المرتبة العليا في عرض واحد ، إذ ليس الأمر بأحدهما تنزلا وفي فرض عدم التمكن من الآخر ، بل كل منهما تام الاجزاء والشرائط ، ولكن الأمر فيهما سهل فانه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط. وعلى ما ذكره قدس سره يبطل نزاع الأعمي والصحيحي رأسا ، لأن ثمرة النزاع كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى صحة التمسك بالإطلاق عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته على القول بالأعم لو تمت مقدمات الحكمة ، لصدق المسمى على الفاقد ، وعدم صحته على القول بالصحيح لإجمال الخطاب وعدم صدق المسمى على الفاقد. وهذا الكلام لا يتأتى على ما ذكره قدس سره ، لأنه بعد الالتزام بان الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا وكون إطلاقها على غيرها من المراتب من باب المسامحة والتنزيل لا الحقيقة ، يكون اللفظ مستعملا في المرتبة العليا دائما ، والقائل بالأعم انما يلتزم باستعماله في غير الصحيح هاهنا والتنزيل ، فصحة التمسك بالإطلاق على القول بالأعم بالادعاء انما تثبت في صورة إحراز ثبوت الادعاء والتنزيل وملاحظتهما ، إذ اللفظ مستعمل في المرتبة العليا وإرادة غيرها تكون بواسطة تنزيلها منزلة المرتبة العليا ، ولا طريق لدينا إلى إحراز تحقق التنزيل وإرادة الأعم بهذه الواسطة. وعليه فلا يمكن التمسك بالإطلاق في نفى اعتبار جزئية شيء أو شرطيته ، لأن اللفظ المطلق مستعمل في المرتبة العليا ولم يثبت إرادة الأعم ادعاء كي يتمسك بإطلاقه فيكون مجملا ، لفرض دخل الجزء أو الشرط لو كان دخيلا في المأمور به واقعا في المرتبة العليا كما لا يخفى.

ثم انه قدس سره استشهد على ما أفاده بالوجدان العرفي وقرّبه ونفى البعد عنه ، بأنه أمر عرفي ليس في مقام فهم المفاهيم امر أوضح منه. فاختياره هذا المذهب ليس لإمكانه ثبوتا ، بل لقيام الوجدان عليه إثباتا. ولعله لأجل كون الطريقة العرفية في الوضع للماهيات المخترعة جارية على الوضع لأقصى ما

ص: 213

يتصوره المخترع من المراتب والجامع للاجزاء والشرائط بكاملها ، ثم يستعمل اللفظ في غيرها من المراتب مسامحة وادعاء.

هذا تقرير ما أفاده قدس سره نقلناه بأغلب عباراته مع بعض التوضيح (1).

والّذي يؤاخذ به هذا المسلك ، ويرد عليه بوضوح : ان افراد المرتبة العليا كثيرة وليست متعينة ومنحصرة في خصوص القصر والإتمام ، كما نبه عليه قدس سره ، فان صلاة الصبح ، والظهر ، والمغرب ، والصلاة اليومية ، وصلاة الآيات ، وصلاة العيدين ، كلها في عرض واحد بالقياس إلى المرتبة العليا ، فان الأمر بكل منها في عرض الأمر بالأخرى وليس تنزيلي كصلاة الغريق بالنسبة إلى صلاة غيره.

وعليه ، فلا بد لنا من فرض جامع لهذه الافراد يكون اللفظ موضوعا بإزائه ، ولا يكون ما أفاده قدس سره موجبا للتخلص من مرحلة تصوير الجامع وكون وصول النوبة إلى تصويره بعد التنزل عنه. ومن العجيب منه انه قدس سره غفل عن ذلك وانتبه إلى ورود الاستشكال في خصوص القصر والإتمام وحلّه بان تصوير الجامع بينهما سهل وممكن كما تقدم.

وعلى كل فالالتزام بما أفاده قدس سره لا يغني عن لزوم تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة. فيقع الكلام حينئذ في مقامين :

المقام الأول : في ثبوت الجامع للافراد الصحيحة ، وقد ذكر في تصويره وجوه :

الوجه الأول : ما جزم به صاحب الكفاية من وجود جامع حقيقي مقولي بسيط للافراد الصحيحة ، إلاّ انه ليس لدينا طريق إلى تعيينه بالاسم ومعرفة حقيقته ، وانما الثابت هو وجود جامع بسيط مقولي متحد مع الافراد وجودا

ص: 214


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 36 - الطبعة الأولى.

وخارجا. والدليل على ذلك ، هو ما نراه من ترتيب بعض الآثار على العبادة كترتيب النهي عن الفحشاء على الصلاة ، والّذي يقتضيه قانون السنخية الثابت في باب العلية هو كون المعلول والأثر الواحد لا يصدر إلاّ عن علة واحدة ومؤثر واحد ، واستحالة صدور الواحد عن متعدد بما هو متعدد يعني دخل الخصوصيات المفردة في التأثير. وعليه فمقتضى وحدة الأثر المترتب على الصلاة مثلا وقانون السنخية ، هو ان يكون المؤثر في الأثر الخاصّ هو جهة جامعة بين الافراد ، بحيث يستند تأثير الفرد إلى وجودها فقط بلا دخل خصوصيته فيه ، إذ يلزم بذلك صدور الواحد عن متعدد وقد عرفت امتناعه. وعليه فلا بد من فرض جامع يكون هو المؤثر والموضوع له ، إذ لا يمكن فرض المؤثر كل فرد بخصوصه. ثم ان عدم معرفة حقيقة هذا الجامع وحده لا يضير فيما نحن فيه ، إذ يمكن التوصل إلى الوضع له بواسطة بعض العناوين المشيرة إليه بلحاظ آثاره ، كعنوان الناهي عن الفحشاء في الصلاة.

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره - و - بعد ان ذكر هذا المطلب ، تعرض إلى ذكر إيراد الشيخ الأنصاري قدس سره على تصوير الجامع للافراد الصحيحة والرد عليه.

أما الإيراد ، فبيانه : ان الجامع المفروض اما ان يكون مركبا أو بسيطا.

فعلى الأول : لا يتصور ان يكون جامعا للافراد الصحيحة ، إذ كما يفرض جامعا يختلف صحة وفسادا بحسب الحالات ، ولا يكون صحيحا مطلقا وفي جميع الحالات. فيمتنع كونه جامعا للافراد الصحيحة.

وعلى الثاني : اما ان يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له.

ويرد على الالتزام بالأول وجوه :

أحدها : لزوم الخلف ، بأخذ ما لا يتأتى إلاّ من قبل الطلب في متعلق الطلب ، لأن عنوان المطلوب انما يتحقق وينتزع عن الشيء بعد تعلق الطلب

ص: 215

به ، إذ قبله لا يكون الشيء مطلوبا ، والمفروض كون الجامع هو المأخوذ في متعلق الأمر ، لأنه المسمى ، فيلزم أخذ المطلوب في متعلق الطلب ، وهو خلف لأنه فرض المتأخر في رتبة سابقة عليه.

ثانيها : استلزامه حصول الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ المطلوب ، وهو ممنوع إذ لا ترادف عرفا بينهما ، كما هو ظاهر.

ثالثها : استلزامه عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته وجريان الاشتغال. وذلك لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل لا في المأمور به ، لأن المأمور به أمر بسيط معلوم لا إجمال فيه ، فلا يكون الشك في جزئية شيء شكا في المأمور به ، إذ ذلك خلف كونه بسيطا غير ذي اجزاء ، فيرجع الشك إلى المحصل والمحقق للامتثال ، ومقتضاه جريان قاعدة الاشتغال ولزوم الاحتياط ، وذلك يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة ممن يلتزم بالوضع للصحيح غالبا ، وهذا الأخير يرد على الالتزام بالثاني ، لأنه يرتبط ببساطة الجامع بلا خصوصية كونه عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له (1).

وأما الرد : - فهو بعد اختيار كونه بسيطا وانه ملزوم المطلوب لا عنوانه - ان جريان قاعدة الاحتياط فيما كان المأمور به أمرا بسيطا ، انما يكون في المورد الّذي يكون وجود ذلك الأمر البسيط منحازا عن وجود الاجزاء والشرائط ومسببا عنها ، بحيث يكون الشك فيها شكا في المحصل والفراغ حقيقة ، كما قد يقال في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء أو الغسل. واما في المورد الّذي يكون وجوده بوجود الاجزاء والشرائط وليس له وجود مستقل منحاز عن وجودها ، كان الأصل الجاري عند الشك هو البراءة لا الاشتغال ، لأن الشك في الحقيقة شك

ص: 216


1- - حمل السيد الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الكفاية - في الدورة المتأخرة - على إرادة الجامع الحقيقي ، وانه ردّ الشيخ ، بان الجامع لا ينحصر فيما فرضت ، من المركب ، والبسيط العنواني ، بل يمكن فرض الجامع الحقيقي المدلول عليه بالآثار وهو المتحد مع الخارج.

في المأمور به ، لأن المأمور به في الحقيقة والنتيجة هو الاجزاء والشرائط والأمر متعلق بها حقيقة ، لأنه يتعلق به بلحاظ وجوده ، والمفروض ان وجوده وجود الاجزاء والشرائط. فالشك في جزئية شيء شك في المأمور به ، ويكون الشك المذكور موجبا للإجمال في نفس المأمور به لا في محققه ، وهو مورد أصالة البراءة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن نسبة الجامع البسيط إلى الاجزاء والشرائط نسبة الكلي إلى الفرد ، وعليه فوجوده بوجودها وليس له وجود منحاز عن وجودها ، فالشك في جزئية شيء شك في المأمور به ، لأنه يشك في دخالة هذا الشيء في وجود المأمور به ، فيشك في تعلق الأمر به والمرجع في مثل الحال إلى البراءة.

وعليه ، فلا يلزم من الالتزام ببساطة الجامع ، الالتزام بجريان قاعدة الاشتغال عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته ، دون البراءة المنافي لما عليه المشهور من القول بالبراءة مع القول بالصحيح.

هذا بيان ما قرره صاحب الكفاية رحمه اللّه في تصوير الجامع وما يتعلق به من الإشكال والرد ، والّذي يتلخص : انه يلتزم بوجود جامع بسيط حقيقي متحد مع الافراد خارجا ، ولا طريق إلى معرفته بحدوده وانما يشار إليه بعنوان مشير منتزع عن مقام ترتب الأثر ، كعنوان الناهي عن الفحشاء ، والدليل على ذلك وحدة الأثر المترتب على الافراد (1).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني بوجوه :

الأول : انه لا يتصور وجود جامع ذاتي مقولي لافراد الصلاة ، وذلك لأن الصلاة مؤلفة من عدة مقولات متباينة كمقولة الكيف ومقولة الوضع ومقولة الفعل ونحوها. وليست اجزاء الصلاة من مقولة واحدة ، وعليه فلا يمكن فرض جامع مقولي لمرتبة واحدة من مراتب الصلاة فضلا عن فرض الجامع لجميع مراتب الصلاة المتنوعة ، ووجهه : ما تقرر في محله ، من ان المقولات أجناس عالية

ص: 217


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- 25 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فلا جنس لها وفرض الجامع فيما نحن فيه مساوق لفرض جنس أعلى من المقولات يكون جامعا بينها ، وهو خلاف المقرر الثابت. ويمتنع ان يكون المركب نفسه مقولة برأسها لاعتبار الوحدة والبساطة في المقولات.

الثاني : أن فرض الجامع البسيط المقولي المتحد مع الافراد خارجا ، يلزم منه فرض اتحاد البسيط مع المركب ، وكون المركب وجودا للبسيط وهو ممتنع ، ولو فرض وحدة المقولة في جميع الاجزاء. وذلك لأن المفروض ان وجود الجامع بوجود الافراد الخارجية ، والفرد الخارجي مؤلف ومركب من اجزاء ، فيلزم ان يكون البسيط متحدا مع المركب وموجودا بوجوده ، وهو ممتنع ، لأنه خلف كونه بسيطا. ولأن معنى البسيط ما لا جزء له ، فاتحاده مع الاجزاء يلزم ان يكون ذا جزء ، وذلك أشبه باجتماع المتناقضين ان لم يكن بعينه ، ونتيجة كل من هذين الوجهين عدم معقولية الجامع البسيط المقولي. ولو تنزل عن ذلك والتزم بمعقوليته ، فيرد الوجه ...

الثالث : الّذي يرجع إلى المطالبة بالوجه الإثباتي والدليل على ثبوت مثل هذا الجامع إذ معقوليته لا تعني تحققه وثبوته. والإشكال فيما ذكره لإثباته من وحدة الأثر المترتب على الافراد الكاشف عن وحدة المؤثر وانه جهة جامعة حقيقية بين الافراد. بان ما يكشف عن وحدة المؤثر حقيقة انما هو وحدة الأثر ذاتا وحقيقة إما شخصا أو نوعا ، واما وحدة الأثر بالعنوان وتعدده حقيقة فلا يكشف الا عن وحدة المؤثر بالعنوان لا وحدته بالحقيقة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الأثر المترتب وهو النهي عن الفحشاء ليس أثرا واحدا بالحقيقة والذات ، بل هو أثر واحد عنوانا ، لاختلاف أنحاء الفحشاء المنفية بالصلاة من كون بعضها من الصفات كالرياء والشرك النفسيّ ونحوهما ، وبعضها من الأفعال كالغصب ونحوه ، وتغاير أنحاء الفحشاء يوجب تغاير نحو النهي عنها ونفيها وحقيقته ، فحقيقة النهي عن الغصب تختلف عن حقيقة النهي عن الرياء والشرك ومغايرة لها ، وانما يجمعهما عنوان واحد وهو عنوان النهي عن الفحشاء ،

ص: 218

كما ان كل مرتبة من مراتب الصلاة تؤثر في النهي عن مرتبة من مراتب الفحشاء وتختلف عن المرتبة التي تؤثر فيها مرتبة أخرى من الصلاة.

وعلى الجملة : فالنهي عن الفحشاء أثر واحد عنوانا لا حقيقة ، لاختلاف أنحائه حقيقة باختلاف مراتب أنحاء المنكر والفحشاء ، وعليه فلا يكشف عن وحدة المؤثر حقيقة ، بل عنوانا وهو عنوان الناهي عن الفحشاء.

الرابع : ان كل ما يفرض جامعا للصحيح يمكن فرضه جامعا للأعم ، وذلك لأن الجامع المفروض يفرض اتحاده مع ذات الاجزاء والشرائط ، بلا لحاظ جهة إضافتها إلى الفاعل وصدورها من المكلف ، لأن هذه الجهة اعتبارية ، ولا يعقل دخل الاعتبارية في فرض الجامع المقولي ، إذ يمتنع تأثير الأمر الاعتباري في أمر حقيقي واقعي ، وإذا فرض ان الملحوظ ذات الاجزاء والشرائط ، فهي في نفسها قابلة للصحة والفساد بلحاظ اختلاف حالها ، إذ لم تقيد بصدورها من الفاعل المكلف بها كي تلازم الصحة ، فالجامع المفروض لها المتحد معها قابل لأن يكون جامعا للأعم في الوقت الّذي يكون جامعا للصحيح (1).

وقد أضاف المحقق النائيني إيرادا خامسا ، يتلخص : في ان الغرض انما هو تصوير جامع للافراد الصحيحة يدركه العرف ويتوصل إليه لفرض كونه هو المسمى والمأمور به ولا بد من ان يفرض المسمى والمأمور به امرا عرفيا وجدانيا يتوصل إليه الذهن العرفي ، لا ان يكون طريق إثباته قاعدة فلسفية لا يعرفها العامة ولا تدركها أذهان العرف لأول وهلة ، فلا يجدي تصوير الجامع بالطريق المزبور ، بل لا بد من تصويره بنحو عرفي قريب إلى الذهن (2).

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكر ، عدم وجاهة ما ذكره صاحب الكفاية وعدم تماميته.

وقد ذكر السيد الخوئي هذه الإيرادات بترتيب آخر لا يخلو عن إشكال

ص: 219


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 38 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 37 - الطبعة الأولى.

من الناحية العلمية ، لأنه قدم الإيراد الثالث على الأولين ، ثم ذكر الأولين بنحو التنزل عن الإيراد الأول (1) ، ولا يخفى انه بعد تسليم عدم ورود الثالث ، وان الواحد بالعنوان كاشف عن وحدة المؤثر بالحقيقة ، لا وجه للإيراد بعد ذلك بما هو مقتضى الأولين من عدم معقولية الجامع ، لحصول التصادم بين الأمرين والعلم بعدم تمامية أحدهما ، وهذا بخلاف النحو الّذي ذكرناه وذكره المحقق الأصفهاني في ترتيب ذكر الإيرادات. فتدبر ، والأمر سهل.

الوجه الثاني - من وجوه تصوير الجامع - أن يفرض للافراد الصحيحة جامع عنواني لا حقيقي مقولي كعنوان الناهي عن الفحشاء ويكون اللفظ موضوعا بإزائه ، ولا يرد عليه المحاذير السابقة الواردة على الجامع المقولي.

إلاّ ان تصويره بذلك يشكل من وجوه :

الأول : لزوم الترادف بين لفظ الصلاة وعنوان الناهي عن الفحشاء ، وهو غير متحقق عرفا.

الثاني : لزوم كون استعمال اللفظ في الذات المعنونة بالعنوان مسامحيا ومجازيا لأنه موضوع للعنوان لا المعنون ، فاستعماله في المعنون يكون استعمالا له في غير ما وضع له. مع ان العرف لا يرى أي مسامحة وعناية في استعمال اللفظ في المعنون.

الثالث : لزوم إجراء قاعدة الاشتغال عند الشك في جزئية شيء للمأمور به ، لأن المأمور به انما هو العنوان الانتزاعي ، وهو يتحصل ويتحقق بالاجزاء والشرائط جمعا ، فيكون الشك في جزئية شيء مستلزما للشك في في تحققه وحصوله عند عدم الإتيان به ، فيكون المورد من موارد الاحتياط لقاعدة الاشتغال لا من موارد البراءة. وبعبارة أخرى : لما كان العنوان الانتزاعي انما ينتزع عن مجموع الاجزاء والشرائط ولا يحصل بحصول أول جزء ويكون

ص: 220


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 144 - الطبعة الأولى.

تدريجي الحصول فمع الشك في جزئية شيء يشك في تحقق منشأ انتزاعه ، فيشك في حصول العنوان المأمور به والمطلوب تحصيله وإيجاده - إذ المطلوب تحصيل العنوان - ، فيكون المورد من موارد قاعدة الاشتغال لا البراءة ، ولا يلتزم به المشهور القائلون بالوضع للصحيح.

ولعل نظر الشيخ الأعظم قدس سره في إيراده على كون الجامع بسيطا ، باستلزامه عدم جريان البراءة إلى ذلك ، أعني فرض الجامع البسيط جامعا عنوانيا لا حقيقيا مقوليا ، وكأنّ الجامع المقولي معلوم الاستحالة لديه ، وانما البحث في الجامع العنواني كما قد يشعر به فرض أحد طرفي الترديد في الجامع هو العنوان المطلوب. ولا يندفع هذا الإشكال بجواب المحقق صاحب الكفاية ، لأن المأمور به هو نفس الجامع البسيط ، وهو غير متحد مع الاجزاء والشرائط حقيقة وذاتا كالجامع الحقيقي ، كي يكون الأمر به امرا بالاجزاء والشرائط ، باعتبار انه ليس شيئا غير الاجزاء والشرائط ، بل هو أمر منتزع عنها باعتبار تلبسها بعرض خاص فهو غيرها.

الوجه الثالث : ما قرره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، من انه يمكن فرض جامع مبهم من جميع الجهات الا بعض الجهات المعرفة كجهة النهي عن الفحشاء ونحوها ، ولا يكون هذا جامعا مقوليا ولا عنوانيا ، بل هو جامع مركب من جملة أجزاء.

وتوضيح مراده : ان المفاهيم والعناوين المنتزعة عن الخارجيات ...

منها : ما يكون متعينا ومبينا بجميع جهاته كمفهوم الإنسان ونحوه.

ومنها : ما يكون مرددا بين فردين أو افراد ، بمعنى انه مفهوم ينطبق عليها بنحو البدلية بلحاظ ذاته ، وهو المعبر عنه بالمفهوم المردد ، كمفهوم أحدها واحدهما أو هذا أو ذاك. وهذا - أعني المفهوم المردد - لا وجود له في الخارج كما حقق في محله ، بل ليس الموجود الا كل فرد بنفسه وبذاته لا هو أو غيره ، وهناك قسم ثالث ، وهو المفاهيم المبهمة غير المتعينة والمحددة وغير المرددة بحسب

ص: 221

حقيقتها ، القابلة للانطباق على كل فرد محتمل ، فهي من حيث الصدق تتلاءم مع الترديد ، وهي ثابتة في الخارج وتكون نسبتها إلى الافراد نسبة الطبيعي إلى فرده ، ومن هنا لم تكن من المفاهيم المرددة ، إذ لا وجود لهذه في الخارج كما عرفت ، كما لم تكن من المفاهيم المبينة المعينة لإبهامها ، ويمكن الاستشهاد لوجود هذا النوع من المفاهيم بما ينتزع عن رؤيا الشبح من بعيد من صورة إجمالية مبهمة غير معينة قابلة للانطباق على كل فرد يحتمل ان يكون هو الشبح فان هذه الصورة ليست من المفاهيم المعينة كما لا يخفى ، كما انها ليست بالمفهوم المردد لثبوتها وجدانا وانطباقها على الخارج ضرورة وبلا كلام. فهي صورة مبهمة إجمالية. ثم انه لا يخفى أن دائرة الصدق تختلف سعة وضيقا باختلاف سعة الإبهام وضيقه ، فكلما زاد الإبهام وقلت جهات التعيين كانت دائرة الصدق أوسع وأشمل ، وكلما قل الإبهام بكثرة القيود المعينة كانت دائرة صدق المفهوم المبهم أضيق.

فالمدعى في باب العبادات : ان اللفظ موضوع إلى جامع محصله ، انه سنخ عمل مبهم من جميع الجهات الا من جهة كونه ناهيا عن الفحشاء ونحوه ، فيصدق اللفظ بذلك على جميع مراتب العمل القليل منها والكثير من حيث الاجزاء والشرائط. فانه مضافا إلى الالتجاء إلى الالتزام به من القائل بالوضع للصحيح - بعد عدم معقولية الجامع الحقيقي وعدم الوضع للجامع العنواني بما عرفت - ، هو المتبادر عرفا من لفظ الصلاة مثلا ، فانه إذا وقعت الصلاة في متعلق الأمر يتبادر منها عرفا تعلق الأمر بسنخ عمل مبهم قابل للانطباق على مراتب الصلاة وأنحائها.

كما انه ليس عديم النظير في العرفيات ، بل له في العرف نظير ، كلفظ الخمر. فان الخمر فيه جهات كجهة اللون ، وجهة المادة كاتخاذه من التمر أو العنب ، وجهة الرائحة وغيرها من الجهات التي يختلف افراد الخمر فيها. والمتبادر من لفظ الخمر عند إطلاقه هو سنخ مائع مسكر لا أكثر ، بحيث يكون من الجهات الخاصة مبهما ، فلذلك يقبل الانطباق على كل نحو من أنحاء الخمر وأصنافه.

ص: 222

وبالجملة : فيمكن الالتزام بثبوت جامع للافراد الصحيحة لا يكون جامعا حقيقيا ولا عنوانيا ، وهو ان يلتزم بأنه سنخ عمل مبهم يعرّفه جهة نهيه عن الفحشاء ، وبذلك يقتصر في صدقه على خصوص الافراد الصحيحة ويكون جامعا لها بخصوصها دون الأعم كما ان نظيره لفظ الدار والكلمة فتدبر.

هذا توضيح ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس سره فيما يهم المقام وهو بظاهره لا إشكال فيه ولا محذور في الالتزام به (1).

وأما ما جاء في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من الإيراد عليه :

أولا : من إنكار الإبهام في الماهيات الاعتبارية ، وان للصلاة حقيقة متعينة لدى مخترعها ، بل لا يعقل دخول الإبهام في تجوهر ذات الشيء فان الشيء في مرتبة ذاته متعين ، وانما الإبهام يكون بلحاظ الطواري الخارجية ، وعليه فالعمل المبهم لا يمكن ان يكون جامعا ذاتيا ، لعدم معقوليته ، ولا عنوانيا لما عرفت من نفيه.

وثانيا : من ان المقصود في تصوير الجامع تعيين المسمى المأخوذ في متعلق الأمر ، وظاهر عدم كون الجامع المزبور متعلقا للأمر ، وانما متعلق الأمر هو نفس الاجزاء المتقيدة ببعض القيود. ومن هنا كان المتبادر عرفا كمية من الاجزاء والشرائط المأخوذة في متعلق الأمر ، لا العمل المبهم الا من حيث كونه مطلوبا كما يدعيه المحقق الأصفهاني.

وثالثا : بان المقصود بالنهي عن الفحشاء المأخوذ في هذا الجامع ، ان كان هو النهي الفعلي توقف ذلك على قصد القربة في المسمى لدخالته في فعلية النهي عن الفحشاء ، ولا يلتزم بدخوله القائل لامتناع أخذه في متعلق الأمر. وان كان النهي الاقتضائي كان ذلك أعم من الصحيح والفاسد ، لأن العمل الفاسد بالنسبة إلى شخص فيه اقتضاء النهي عن الفحشاء ، بحيث لو صدر من أهله

ص: 223


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 39 - الطبعة الأولى.

كان مؤثرا فعلا (1).

ما جاء في التقريرات مما عرفت لا يرجع إلى محصل.

أما الأول : فقد عرفت وجود نحو ثالث من المفاهيم ليس من المفاهيم المقولية ولا العنوانية ، وهو مفهوم مركب ، ولا مجال لإنكاره بل نفس السيد الخوئي يلتزم بنظيره في الجامع الأعمي. وعليه فلا دوران بين الجامع الحقيقي والمقولي وبين الجامع العنواني ، بل هناك شق ثالث وهو الجامع المبهم ، وهو ينطبق على الافراد انطباق الكلي على الفرد ، نظير الصورة الناشئة من الشبح ، إذ ليست هي بصورة عنوانية ولا مقولية لعدم تميز الشبح كي يخترع له صورة كذلك.

واما الثاني : فقد اتضح الإشكال فيه إذ بعد فرض انطباق هذا الجامع على الافراد انطباق الكلي على الفرد ، واتحاده معها خارجا ، كان متعلق الأمر في الحقيقة هو الاجزاء والشرائط أما ما ذكره من كون المتبادر كمية من الاجزاء والشرائط لا العمل المبهم ، فهو عجيب إذ ما الفرق بين العمل المبهم وكمية من الاجزاء والشرائط ، كي ينكر تبادر الذهن إلى الأول ويثبت تبادره إلى الثاني؟!.

واما الثالث : فلان المأخوذ هو النهي اقتضاء لا فعلا ، لكن بنحو خاص ، وهو ما أشرنا إليه من ان الصحيح ما ترتب عليه الأثر لو انضم إليه قصد القربة ونحوه من الشرائط التي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر ، وعليه فينحصر هذا الجامع بخصوص افراد الصحيح ، لأن الفاسد لا يترتب عليه الأثر ولو انضم إليه قصد القربة وغيره ، فلاحظ ما تقدم يتضح لك الحال واما ما ذكره في ضمن كلامه من إشكال لزوم الترادف بين الصلاة والعمل المبهم. فيدفعه : ان المقصود بالعمل المبهم ليس هو مفهومه ، بل هذا العنوان أخذ مشيرا إلى امر واقعي مبهم ، وهو عدة اجزاء فصاعدا القابل للانطباق على الكثير والقليل.

وبالجملة : فلا نعرف فيما أفاده المحقق الأصفهاني وجها للإشكال ، فالمتعين الالتزام به.

ص: 224


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 154 - الطبعة الأولى.

ومن الغريب ان المحقق النائيني يلتزم به في الجامع الأعمي ، ويدعي بنفس الوقت استحالة تصوير الجامع على القول بالصحيح ، مع انه يمكن تأتي نفس تصوير الأعمي على الصحيح بزيادة قيد يخص العمل المبهم بالصحيح (1).

ثم ان المحقق العراقي صور الجامع بتصوير آخر ، إلاّ انه صرح بأنه انما يلتزم به مع بعده عرفا ، باعتبار الضرورة وانحصار التصوير الصحيح به - لأجل انه لم يرتض تصويره بما ذكره المحقق الأصفهاني - وبما انه قد عرفت تصوير الجامع بنحو صحيح خال عن الإشكال وقريب عرفا ، فلا حاجة إذا للتعرض إلى ما ذكره المحقق العراقي بعد تصريحه نفسه بأنه كان من جهة الالتجاء. فتدبر (2).

المقام الثاني : في ثبوت الجامع للأعم من الصحيح والفاسد ، وقد صور بوجوه ذكرها في الكفاية :

الوجه الأول : ما ينسب إلى المحقق القمي ، من كونه خصوص الأركان ، واما باقي الاجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به لا في المسمى ، بل المسمى خصوص الأركان (3).

وناقشه في الكفاية بوجهين :

الأول : عدم اطراده وانعكاسه ، إذ لازمه عدم صدق الصلاة على فاقد ركن مع استجماعه لسائر الاجزاء والشرائط لعدم الموضوع له وهو مجموع الأركان ، وصدق الصلاة على فاقد جميع الاجزاء والشرائط سوى الأركان ، مع ان صدق الصلاة في الأول وعدم صدقه في الثاني مما لا ينكر عرفا.

الثاني : لزوم مجازية استعمال اللفظ في مجموع الاجزاء والشرائط ، لأن

ص: 225


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 43 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 80 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- المحقق القمي ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول1/ 44 - الطبعة الأولى.

اللفظ موضوع إلى خصوص الأركان فاستعماله في المجموع وإطلاقه على الواجد لجميع الاجزاء والشرائط استعمال للفظ الموضوع للجزء في الكل وهو مجاز (1).

وناقشه المحقق النائيني رحمه اللّه بما حاصله : ان الدعوى المذكورة تنحل إلى دعويين : إحداهما : الوضع للأركان. الثانية : عدم دخول سائر الاجزاء والشرائط في الموضوع له.

اما الدعوى الأولى فيردها : كون المراد بالأركان جميع مراتبها بحسب اختلاف الموارد من القادر والعاجز والغريق ونحوهم ، فلا بد على هذا من تصوير جامع للأركان بجميع مراتبها ليكون هو الموضوع له ، فيرجع الإشكال.

واما الدعوى الثانية فيردها : انه اما ان يلتزم بخروج سائر الاجزاء والشرائط مطلقا ودائما ، واما ان يلتزم بخروجها عند عدمها.

فالأوّل : ينافي الوضع للأعم وكون المسمى ما يصدق على الصحيح والفاسد ، إذ لازمه عدم صدق اللفظ على الصحيح.

والثاني : يلزمه ان يكون شيء واحد داخلا في الماهية عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه. وهو محال (2).

ومن مجموع ما ذكر يظهر وهن هذا الوجه لتصوير الجامع.

الوجه الثاني : ما ينسب إلى المشهور من كون الجامع والموضوع له هو معظم الاجزاء.

وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين :

الأول : ما أورده ثانيا على الوجه الأول ، من لزوم المجازية في استعمال اللفظ في الكل.

الثاني : - ما ذكرناه توضيحا لعبارة الكفاية ، إذ لم يتعرض للشق الأول ،

ص: 226


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /25- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 41 - الطبعة الأولى.

ولعله للمفروغيّة عن عدم الوضع له ولا ادعاء الوضع له ، وانما المنظور واقع المعظم. فلاحظ. - ان الموضوع له اما ان يكون مفهوم معظم الاجزاء أو واقعه. فان قيل انه المفهوم ، فيرده انه يستلزم الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ معظم الاجزاء ، وبطلانه واضح. وان قيل انه واقع المعظم وحقيقته ، فيرده ان معظم الاجزاء لا تعين له بكمية معينة من الاجزاء ، بل يختلف باختلاف الحالات والافراد ، وعليه فيلزم التبادل في الماهية والمسمى وان يكون شيء واحد داخلا فيه تارة وخارجا أخرى. بل يلزم التردد في تعيين الداخل والخارج عند اجتماع جميع الاجزاء والشرائط ، إذ لا معين لدخول أحدها دون الآخر ، فكل جزء يصلح ان يكون دخيلا في المعظم (1).

وبعين هذا الإيراد أورد المحقق النائيني على الوجه المذكور ، لكنه صحح كون الجامع هو المعظم بنحو آخر سنشير إليه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى (2).

الوجه الثالث : ان يلتزم بكون وضع ألفاظ العبادات كوضع الاعلام الشخصية كزيد ، فكما لا يضر في التسمية في باب الاعلام تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر والصحة والمرض والنوم واليقظة وغيرها ونقص بعض الاجزاء وزيادته ، بل يكون الاسم صادقا بنحو واحد في جميع هذه الأحوال ، كذلك الحال في ألفاظ العبادات فلا يضر في صدق الاسم اختلاف الحال وزيادة الاجزاء ونقصها.

وناقش فيه صاحب الكفاية بثبوت الفرق بين المقامين ، وان الموضوع له في باب الاعلام أمر معين محفوظ في جميع الحالات ، دون باب العبادات ، بيان ذلك : ان الموضوع له العلم هو الشخص ، ولا يخفى ان التشخيص يكون بالوجود الخاصّ ، فما دام الوجود باقيا كان الشخص باقيا وان تغيرت عوارض

ص: 227


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /26- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 42 - الطبعة الأولى.

الوجود من زيادة ونقصان وغيرهما من الحالات ، فالموضوع له وهو الشخص أمر ثابت محفوظ في جميع هذه الحالات ، صدق الاسم لصدق المسمى دائما ، وليس الأمر كذلك في ما نحن فيه ، لاختلاف المركبات بحسب الحالات فلا بد من ان يفرض ما يجمع الشتات كي يوضع اللفظ بإزائه ، وهو ما نحن بصدده الآن (1).

لكن الّذي يؤاخذ به صاحب الكفاية ، هو ان وضع العلم اما ان يكون بإزاء الوجود أو بإزاء الشخص - أعني العنوان المنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالوجود - فان كان الموضوع له هو الشخص ، فاما ان يكون مفهوم الشخص أو واقعه ومصداقه.

فالأوّل : ممنوع ، إذ لازمه الترادف بين لفظ « زيد » مثلا ومفهوم الشخص وفساده ظاهر.

والثاني ، يرده : أن الشخص اما ان تلحظ فيه عوارضه الخارجية بحيث كانت دخيلة في الموضوع له أو لا تلحظ ، بل كانت خارجة عنه.

فعلى الثاني : يلزم ان يكون صدق اللفظ على الشخص بخصوصيته مجازا لعدم وضع اللفظ له.

وعلى الأول : يسأل عن مقدار العوارض الملحوظة ونحوها ، وهل هي بعض معين كي يلزم عدم الصدق مع انتفائها أو غير معين ، بل الكل ، فما هو الجامع؟.

وان كان الموضوع له هو الوجود ، فلا بد من عدم إرادة الوجود المطلق غير اللّه تعالى شيء ، لأن الوجود المطلق هو اللّه تعالى ، بل المراد وجود شيء معين ، فيقع السؤال عن ذلك المضاف إليه الوجود ما هو؟ فهل هو المبهم الخاصّ ، فيلزم عدم الصدق مع نقصه أو تغير حاله ، أو الأعم ، فما هو؟ وما هو الجامع؟.

ص: 228


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /26- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبالجملة : لا يظهر لما ذكره صاحب الكفاية محصل.

واما ما قيل : من ان الموضوع له العلم هو النّفس المتعلقة بالبدن ، وتشخص البدن ووحدته محفوظ بوحدة النّفس وتشخصها ، إذ المعتبر مع النّفس مطلق البدن ، بتقريب فلسفي ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية لا داعي إلى ذكره (1).

فهو لو تحقق في محله وبلحاظ القواعد الفلسفية لا يمكننا الالتزام به ، لأن ذلك المعنى مما لم تدركه افهام بعض الاعلام - كما يقول الأصفهاني - فكيف يلتفت إليه أقل العوام ذهنا ، لأن وضع الاعلام يصدر من العوام والجهلة. فلا بد ان يلتزم بكون الوضع فيها لمعنى مبهم الا من جهة امتيازه عن سائر المعاني ، وهي التشخص الخاصّ ، كما قرره المحقق الأصفهاني في الجامع الصحيحي.

الوجه الرابع : ان الموضوع له ابتداء هو الصحيح التام الواجد لجميع الاجزاء والشرائط ، إلاّ ان العرف يتسامحون - كما هو شأنهم - فيطلقون اللفظ على الفاقد تنزيلا له منزلة الواجد ، بل يمكن ان يدعى صيرورة اللفظ حقيقة فيه بالاستعمال دفعة أو دفعات للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في الأثر ، نظير أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لمركبات خاصة بحدود معينة ، فانه يصح إطلاقها على فاقد بعض الاجزاء مسامحة أو حقيقة للمشابهة أو المشاركة.

وقد ناقش صاحب الكفاية بمثل ما أوردنا به على اختيار المحقق النائيني في التزامه بالوضع للمرتبة العليا ، وحاصله : وجود الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فان الصحيح التام في أسماء المعاجين معلوم الحد والمقدار ، فيمكن الوضع بإزائه واستعمال اللفظ في الفاقد منه بلحاظه. وليس الصحيح في العبادات معلوم

ص: 229


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 48 - الطبعة الأولى.

الحد لاختلاف مراتب الصحة وافراد كل مرتبة بحسب اختلاف الحالات ، فلا بد من فرض جامع بينهما يوضع بإزائه اللفظ (1).

الوجه الخامس : ان يكون حالها حال أسماء المقادير والأوزان ، فانها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة ، اما بوضع الواضع أو بكثرة الاستعمال في الأعم.

والمناقشة فيه واضحة ، إذ الصحيح الّذي يحاول فرض لحاظ الزيادة والنقصان بالإضافة إليه يختلف في باب العبادات كما عرفت دون باب المقادير والأوزان.

وعلى كل ، فنفس التقريب والإيراد عليه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

والّذي تلخص عدم تمامية الوجوه المذكورة لتصوير الجامع بين افراد الأعم.

وقد حاول السيد الخوئي ( دام ظله ) ان يصحح أخذ الأركان جامعا وان تكون هي الموضوع له ، فقد جاء في تقريرات الفياض بعد ذكر كلام المحقق القمي والمحقق النائيني وصاحب الكفاية ، ما نصه : « والصحيح هو ما أفاده المحقق القمي رحمه اللّه ، ولا يرد عليه شيء من هذه الإيرادات أما الإيراد الأول - يريد به الإيراد من المحقق النائيني باستلزامه أخذ الاجزاء الأخرى في الموضوع له عند وجودها ، وعدم أخذها عند عدمها ، باستلزامه لدخول شيء في الماهية تارة وخروجه عنها أخرى - ، فلان فيه خلطا بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية ، فان المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة وصورة ، ولكل واحد من الجزءين جهة افتقار بالإضافة إلى الآخر ، لا يعقل فيها تبديل الاجزاء بغيرها ، ولا الاختلاف فيها كما وكيفا ، ... فما ذكره قدس سره

ص: 230


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /27- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تام في المركبات الحقيقة ولا مناص عنه ، واما المركبات الاعتبارية التي تتركب من امرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزءين جهة اتحاد حقيقة ولا افتقار ولا ارتباط ، بل ان كل واحد منهما موجود مستقل على حياله ومباين للآخر في التحصل والفعلية ، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية لاستحالة التركب الحقيقي بين امرين أو أمور متحصلة بالفعل ، فلا يتم فيها ما أفاده قدس سره ، ولا مانع من كون شيء واحد داخلا فيها عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه.

وقد مثلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ ال « دار » ، فانه موضوع لمعنى مركب ، وهو ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة ، وهي أجزاؤها الرئيسية ، ومقومة لصدق عنوانها ، فحينئذ ان كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو من اجزائها وداخلة في مسمى لفظها وإلاّ فلا.

وبالجملة : فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ الدار معنى مركبا من اجزاء معينة خاصة ، وهي الحيطان والساحة والغرفة ، فهي أركانها ولم يلحظ فيها موادا معينة وشكلا خاصا من الإشكال الهندسية ، واما بالإضافة إلى الزائد عنها فهي مأخوذة لا بشرط ، بمعنى ان الزائد على تقدير وجوده داخل في المسمى ، وعلى تقدير عدمه خارج عنه ، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد ...

وبتعبير آخر : ان المركبات الاعتبارية على نحوين : أحدهما : ما لوحظ فيه كثرة معينة من جانب القلة والكثرة ، وله حد خاص من الطرفين كالأعداد ، فان الخمسة - مثلا - مركبة من أعداد معينة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص بطل الصدق لا محالة. وثانيهما : ما لوحظ فيه اجزاء معينة من جانب القلة فقط وله حد خاص من هذا الطرف ، واما من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد أخذ لا بشرط ، وذلك مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك ، فان فيها ما أخذ مقوما للمركب ، وما أخذ المركب بالإضافة إليه لا بشرط ، ومن الظاهر ان اعتبار

ص: 231

اللابشرطية في المعنى كما يمكن ان يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن ان يكون باعتبار دخول الزائد في المركب ، كما انه لا مانع من ان يكون المقوم للأمر الاعتباري أحد أمور على سبيل البدل. وقد مثلنا لذلك في الدورة السالفة بلفظ الحلوى ، فانه موضوع للمركب المطبوخ من سكر وغيره ، سواء كان ذلك الغير دقيق أرز أو حنطة أو غير ذلك.

ولما كانت ال « صلاة » من الأمور الاعتبارية فانك عرفت انها مركبة من مقولات متعددة ، كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوها ، وقد برهن في محله ان المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة ، لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين ، بل لا يمكن بين افراد مقولة واحدة فما ظنك بالمقولات ، فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعدا. والوجه في ذلك : هو ان معنى كل مركب اعتباري لا بد ان يعرف من قبل مخترعه سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره ، وعليه فقد استفدنا من النصوص الكثيرة ان حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها وجودا وعدما ، عبارة عن التكبير والركوع والسجود والطهارة من الحدث ، على ما سنتكلم به عن قريب إن شاء اللّه تعالى. واما بقية الاجزاء والشرائط ، فهي عند وجودها داخلة في المسمى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضر بصدقة ، وهذا معنى كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى الزائد. وقد عرفت انه لا مانع من الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية ، وكم له من نظير. وان شئت فقل : ان المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقا بيد معتبرها ، فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أمور بشرط لا كما في الاعداد. وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد كما هو الحال في كثير من تلك المركبات ، فالصلاة من هذا القبيل فانها موضوعة للأركان فصاعدا ، ومما يدل على ذلك هو ان إطلاقها على جميع مراتبها المختلفة كما وكيفا على نسق واحد بلا لحاظ عناية

ص: 232

في شيء منها ، فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا لم يصح إطلاقها على الواجد لتمام الاجزاء والشرائط بلا عناية ، مع انا نرى وجدانا عدم الفرق بين إطلاقها على الواجد وإطلاقها على الفاقد. وقد تلخص من ذلك : ان دخول شيء واحد في ماهية مركبة مرة وخروجه عنها مرة أخرى ، انما يكون مستحيلا في الماهيات الحقيقية دون المركبات الاعتبارية. وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن الإيراد الثاني أيضا يريد به الإيراد على القائل - وهو المحقق النائيني - بالحاجة إلى جامع الأركان بخصوصها - ، فان لفظ ال « صلاة » موضوع لمعنى وسيع جامع لجميع مراتب الأركان على اختلافها كما وكيفا ، وله عرض عريض فباعتباره يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد ، كصدق كلمة « الدار » على جميع افرادها المختلفة زيادة ونقيصة كما وكيفا ، إذا لا نحتاج إلى تصوير جامع بين الأركان ليعود الإشكال. وبتعبير واضح : ان الأركان وان كانت تختلف باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الأستاذ - قدس سره - إلاّ انه لا يضر بما ذكرناه من أنّ لفظ الصلاة موضوع بإزاء الأركان بعرضها العريض ، ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة ، فانه موضوع لها كذلك على سبيل البدل ، وقد عرفت انه لا مانع من ان يكون مقوم المركب الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل ... فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر المركبات الاعتبارية » (1).

والكلام معه في نقطتين :

إحداهما : ما التزم به من جواز فرض بعض الاجزاء دخيلا في المسمى حال وجوده وغير دخيل حال عدمه. فانه عجيب. وذلك لأنه يقتضي ان الوضع انما يتحقق لسائر الاجزاء ، وأن العلقة بينها وبين اللفظ انما تحدث بعد وجودها ،

ص: 233


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 159 - 162 - الطبعة الأولى.

لأنها انما تكون جزء المسمى والموضوع له بعد وجودها ، ولا يلتزم بذلك - أعني كون حدوث العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى حال وجوده خارجا - أحد حتى القائل المزبور ، لأن العلقة بين اللفظ وطبيعي المعنى ، سواء وجد أم لم يوجد ، بل سواء أمكن وجوده أم لم يمكن. ولا يفترق الحال في ذلك بين المركبات الاعتبارية وغيرها. هذا مع انه خلاف ما صرح به في بعض الموارد من عدم الوضع للموجود بما هو موجود ، بل للمفهوم والطبيعي.

ثانيتهما : ما التزم به من عدم لزوم فرض جامع بين الأركان ، لجواز كون مقوم الأمر الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل. فانه بظاهره غريب جدا ، لأن الفرد على البدل مفهوما غير مراد لهذا القائل جزما ، إذ لا ترادف بين معنى اللفظ ومفهوم أحدهما على البدل ، والفرد على البدل مصداقا لا وجود له ولا تقرر حتى يكون مقوما [ للمسمى ] للمركب وموضوعا له اللفظ. فيمتنع ان يكون المسمى هو أحدها على البدل ، إذ لا وجود له ، فلا ينطبق على الافراد الخارجية المفروض صدق اللفظ عليها.

نعم لو كان المقصود - ما لا يظهر منه - ان المسمى معنى جامع بين سائر الأركان وسائر الاجزاء ، بحيث يصدق على الافراد المتبادلة بنحو البدل ، لا انه أحد هذه الافراد على البدل ، كان وجيها لكنه يرجع إلى ما التزم به المحقق الأصفهاني من كون الجامع معنى مبهم قابل للصدق على القليل والكثير ، ووافقه عليه المحقق النائيني فيرد عليه :

أولا : أنه لا يصلح إيرادا على المحقق النائيني لتوافقهما في المدعى.

وثانيا : إنّ عليه ان يلتزم بمثله في الافراد الصحيحة ، لأنه نفاه بدعوى انحصار الجامع في الجامع المقولي والعنواني. والأول غير معقول. والثاني لم يوضع له اللفظ جزما ، فيرد عليه مثله هاهنا ، فإذا فرض انه تصور هاهنا نحو ثالث للجامع ، وهو الجامع المبهم ألزم به في الصحيح ، ومما ذكرنا يظهر : ان ما أورده من

ص: 234

الأمثلة كلفظ الدار والكلام والحلوى وانها موضوعة لمعنى معين أخذ لا بشرط بمعنى دخول غيره في المسمى لو وجد غير وجيه ، لأن الكلام في هذه الموارد ونظائرها عين الكلام في الصلاة ، ولا نلتزم بان الموضوع له فيها معنى معين أخذ لا بشرط بالمعنى الّذي يذكره لهذا الاصطلاح ، بل الموضوع له فيها معنى مبهم من جميع الجهات الا بعضها قابل للانطباق على الكثير والقليل.

واما ما ساقه دليلا على كون الموضوع له الأركان من النص الدال على ان الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود ، بضميمة ما دل على تقوم الصلاة بالتكبير ، فهو مما لا يمكن الالتزام به لوجوه :

الأول : ان تصدي الإمام علیه السلام لبيان الموضوع له لفظ الصلاة بعد مدة طويلة من ظهور الإسلام ، وإيجاب الصلاة على المسلمين ، وخلوّ سائر النصوص عن ذلك ، مما لا نتصور له أثرا عمليا ، فلو نسلم ظهوره في ذلك فلا بد من صرفه إلى جهة أخرى.

الثاني : ان ظهور كلام المعصوم علیه السلام في كون بصدد التشريع ، ينافي حمله على بيان الموضوع له لفظ الصلاة ، إذ لا يترتب على هذه الثلاثة بمجموعها أي حكم شرعي.

الثالث : منافاة هذا النص للنصوص الظاهرة في مغايرة الطهارة للصلاة ، كالنصوص الدالة على انه إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور ، فانه لا يصح هذا العطف لو كان الطهور جزءا للصلاة ، فانه نظير ان يقال : يجب الركوع ، والصلاة.

الرابع : انه لو كان مفاد النصّ : ان الصلاة عبارة عن الطهور والركوع والسّجود حقيقة ، كان ذلك منافيا - لا محالة - لدخالة التكبير فيها. فإذا وجد ما يدل على دخالة التكبير فيها كان ذلك مصادما لظهور النص في التثليث مباشرة ، فانه - حينئذ - لا تكون الصلاة ثلاثة أثلاث ، بل أربعة أرباع

ص: 235

.. فيعلم منه : عدم إرادة المعنى المذكور من النصّ ، وأنّه لا بد من حمله على بيان أهمية الأمور الثلاثة في الصّلاة ، وكونها العمدة من اجزائه ، فكأنّها هي هي. فتدبر.

وبعد هذا كله يتضح انه لا يمكن تصوير الجامع بنحو يكون معقولا وخاليا عن المحذور ثبوتا وإثباتا ، الا ما التزم به المحقق الأصفهاني ووافقه عليه المحقق النائيني ، من كونه سنخ عمل مبهم الا من بعض الجهات ، وهو قابل للانطباق على الكثير والقليل ، وتكون نسبته إلى الافراد نسبة الكلي إلى افراده والطبيعي إلى مصاديقه ، وقد مر توضيحه في المقام الأول فلا نعيد.

الأمر الرابع : في بيان الثمرة العملية لهذا النزاع. وقد ذكر له ثمرات عديدة.

منها : إمكان التمسك بالإطلاق على القول بالأعم ، وعدم إمكانه على القول بالصحيح. بيان ذلك : ان شرط التمسك بإطلاق اللفظ في مورد الشك هو إحراز صدق اللفظ بمعناه على المورد المشكوك فيه ، بحيث يكون الشك في أخذ خصوصية زائدة على أصل المعنى في موضوع الحكم المانع من ثبوت الحكم للفرد المشكوك فيه ، فيتمسك بإطلاق اللفظ في نفي الخصوصية ، ويثبت الحكم لمورد الشك ، نظير ما لو ورد : « أكرم العالم » وشك في ثبوت الحكم للعالم النحوي للشك في أخذ العالم الفقيه في موضوعه ، جاز التمسك بإطلاق « العالم » لنفي أخذ الخصوصية ، فيثبت الحكم للنحوي المحرز كونه عالما.

أما مع عدم إحراز صدق اللفظ بمعناه على الفرد المشكوك فلا وجه للتمسك بالإطلاق في إثبات الحكم له ، إذ ليس الشك في خصوصية زائدة كي تنفي بالإطلاق ، بل الخصوصية المشكوك فيها على تقدير دخلها ، فهي مقومة لمعنى المطلق وثبوته في الفرد المشكوك فيه ، فلو تمسك بالإطلاق وأثبت ان المراد هو المعنى المطلق غير المقيد ، لم يثبت بذلك ثبوت الحكم للفرد المشكوك فيه ، إذ لا يعلم انه من أفراد المطلق أصلا.

ص: 236

وبعد هذا نقول : انه لما لم يكن صدق العنوان المطلق على الفرد المشكوك فيه ، مع الشك في اعتبار جزء أو شرط محرزا على القول بالوضع للصحيح ، لأن كل ما يفرض دخله في المأمور به فهو دخيل في المسمى ، فالشك في اعتبار جزء مساوق للشك في تحقق المسمى بدونه ، إذ على تقدير اعتباره واقعا يكون دخيلا في المسمى. فلا يجدي التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار جزء أو شرط في المأمور به ، إذ نفي اعتباره لا يجدي في ثبوت الحكم للمشكوك فيه للشك في صدق عنوان المطلق عليه ، فشرط التمسك بالإطلاق غير محرز على القول الصحيحي ، وهو إحراز صدق المطلق على المشكوك فيه ، فليمكن التمسك به. وهذا بخلاف القول بالوضع للأعم ، إذ صدق اللفظ على المشكوك فيه مع التمسك في اعتبار جزء محرز ، إذ المفروض انه يصدق على الأعم من الصحيح والفاسد فعلى تقدير دخالة الجزء المشكوك فيه واقعا في المأمور به كان العنوان صادقا على فاقده بلا كلام. فالتمسك بالإطلاق في نفي الخصوصية الزائدة المشكوك فيها يجدي في إثبات الحكم للمشكوك فيه ، لأنه من أفراد المطلق على كل حال ، كانت الخصوصية ثابتة واقعا أو لم تكن. نعم ينبغي ان يكون الجزء المشكوك فيه مما لا يكون مقوما للموضوع له حتى على القول بالأعم - كما لو كان المشكوك فيه على تقدير دخالته ركنا للصلاة ، فانه دخيل في المسمى على القول بالوضع للأركان - ، وإلا تساوى القولان الأعمي والصحيحي في عدم إمكان التمسك بالإطلاق.

ثم ان ما ذكرناه لا يعني فعلية التمسك بالإطلاق عند الشك على القول الأعمي ، بل هو لا يقتضي إلاّ قابلية المورد للتمسك بالإطلاق ، فإذا تمت مقدمات التمسك به من كون المتكلم في مقام البيان وعدم البيان ، صح التمسك به فعلا.

وعليه ، فلا وجه للإيراد على هذه الثمرة ونفيها ، بأنه لا يتمسك بالإطلاق ، سواء قلنا بالأعم أم بالصحيح ، لعدم وجود مورد من موارد استعمال اللفظ يكون المولى فيه في مقام البيان ، فلا يصح التمسك بالإطلاق حتى على القول بالأعم

ص: 237

لاشتراط كون المتكلم في مقام البيان في صحة التمسك بالإطلاق.

أو بما يقرره المحقق العراقي : بان النصوص الواردة بين ما ليس في مقام البيان وما هو في مقام بيان الاجزاء والشرائط ببيانها بخصوصياتها. فالأوّل لا يصح التمسك بإطلاقه حتى على القول بالأعم ، والثاني يصح التمسك بإطلاقه حتى على القول بالصحيح ، لأنه إذا علم ان المولى في مقام بيان ما هو دخيل في المأمور به فسكوته عن المشكوك فيه دليل على عدم إرادته ، إذ إرادته وعدم بيانه خلف فرض كونه في مقام بيان جميع ما له الدخل (1).

وجه عدم توجه الإيراد : ما أشرنا إليه من ان المفروض في الثمرة إمكان التمسك بالإطلاق ، لا فعليته ، فعدم فعلية التمسك لعدم تمامية بعض مقدمات الحكمة لا ينفي إمكان التمسك وقابلية المورد في نفسه - لا فعلا - للتمسك بالإطلاق فيه. واما ما ذكره المحقق العراقي من إمكان التمسك بالإطلاق على الصحيح في مورد بيان الاجزاء والشرائط ، فهو لا ينفي ما ذكرناه ، إذ الثمرة هي عدم إمكان التمسك بالإطلاق اللفظي على الصحيح ، وما يتمسك به في نفى دخالة المشكوك في المورد المفروض هو الإطلاق المقامي وهو غير المنفي.

نعم الإيراد المزبور صالح لنفي عملية الثمرة وكونها علمية محضة ، لا نفى أصل الثمرة فلاحظ.

ثم ان هناك وجها آخر ذكر لنفي الثمرة المزبورة ، بيانه :

ان اللفظ وان كان ينطبق على الصحيح والفاسد على القول بالوضع للأعم ، إلاّ ان المأمور به خصوص الصحيح ، ومعه لا يصح التمسك بالإطلاق على هذا القول عند الشك ، وذلك : لأن تقييد المراد الجدي كتقييد المراد الاستعمالي ، وظهور اللفظ مانع من التمسك بالمطلق مع الشك في دخوله في المقيد

ص: 238


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 96 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أو غيره ، فكما انه إذا قيد المراد الاستعمالي بالصحيح وقيل : « ائت بالصلاة الصحيحة » وشك في دخالة جزء في المأمور به يمتنع التمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز كون الفاقد صحيحا ، لأن الجزء على تقدير اعتباره دخيل في الصحة كما لا يخفى ، فلا يحرز صدق المطلق على المشكوك فيه ، كذلك إذا قيد المراد الجدي دون المراد الاستعمالي ، بان كان اللفظ مطلقا ، لكن قيد المراد الحقيقي منه بخصوص الصحيح ، وعلم انه لا يراد منه غير الصحيح. فمع الشك في اعتبار جزء لا يصح التمسك بالإطلاق ، لأنه انما يتمسك به في المورد الّذي يحرز كون المراد الجدي على طبقه ، والمفروض انه لا يعلم كون المراد الجدي على طبق المطلق الا في خصوص الصحيح ، فلا بد من إحراز كون الفرد المشكوك فيه صحيحا كي يتمسك بإطلاق اللفظ فيه ، والفرض انه لا يحرز صدق الصحيح على الفاقد للجزء المشكوك اعتباره ، فلا يصح التمسك بالإطلاق.

وعليه ، فنحن نعلم بحكم العقل ان المأمور به ليس إلاّ الفرد الصحيح وان كان اللفظ في لسان الدليل أعم من الصحيح والفاسد ، إذ الشارع لا يأمر بالفاسد ، فلا يسعنا - مع هذا - التمسك بإطلاق اللفظ عند الشك في اعتبار جزء أو شرط بالتقريب الّذي ذكرناه.

وبكلمة واحدة : يكون التمسك بالإطلاق في مورد الشك بعد إحراز تقييده بالصحيح من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية وهو ممنوع.

وقد اختلف كلمات الاعلام في الإجابة عن هذا الإيراد وقد قيل في رده وجوه :

الأول : انه لا مانع من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية ، إذا كان المقيد لبيا لا لفظيا.

وهو غير وجيه ، إذ التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية في المقيد اللبي لا يلتزم به الا بعض قليل من الاعلام ، والمفروض ان المشهور يتمسكون

ص: 239

بالإطلاق في مورد الشك ، وهو ينافي التزام الأكثر بعدم جواز التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية. فلا بد من جواب آخر.

الثاني : - وهو ما جاء في تقريرات بحث العراقي - ان الصحة على الصحيح قيد من قيود المعنى المأمور به ، فهي دخيلة في قوام المعنى ، ولهذا لا يصح التمسك بالإطلاق. واما على الأعم فهي غير دخيلة في قوام المعنى المأمور به ، وانما تعلق الأمر بشيء مشروط بأمور أخرى ، فإذا أتى المكلف بالمأمور به على وجهه المعين له شرعا ينتزع العقل من المأتي به انه صحيح لمطابقته للمأمور به ، فالصحة على الصحيح متقدمة رتبة على الأمر ، وعلى الأعم متأخرة رتبة على الأمر ، وفي مثله يصح التمسك بالإطلاق لتقدم موضوعه.

وأورد عليه في التقريرات : بان الصحة على الصحيح لم تؤخذ قيدا للموضوع له أو للمستعمل فيه ، لا على نحو دخول القيد والتقييد ولا على نحو دخول التقييد فقط ، بل الموضوع له أو المستعمل فيه هي الحصة المقارنة للصحة ، والمأمور به على الأعم أيضا تلك الحصة ، لاستحالة الأمر بالفاسد واستحالة الإهمال في متعلق إرادة الطالب. فلا فرق في متعلق الأمر بين القول بالصحيح والقول بالأعم إلاّ بالوضع لخصوص الحصة المقارنة للصحة على الأول ، وعدم الوضع لخصوصها على الثاني ، وفي مثل هذا الفرق لا أثر له في جواز التمسك بالإطلاق وعدمه (1).

الثالث : ما ذكره الشيخ في الرسائل ، وسيأتي بيانه.

والتحقيق ان يقال : - بعد فرض كون المراد بالصحّة ترتب الأثر كما تقدم دون غيرها من المعاني - ان ما ذكر من مانعية تقييد المراد الجدي عن التمسك بالمطلق في مورد الشك مسلم. كمانعية تقييد المراد الاستعمالي ، ولا كلام فيه لما

ص: 240


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 130 - الطبعة الأولى.

تقدم من تقريبه.

إلاّ انه يمكن الالتزام في ما نحن فيه بما يتفق مع التقييد في النتيجة بلا تقييد المراد الجدي أصلا ، وعليه فلا يجري فيه الحكم.

بيان ذلك : ان للصلاة فردين : أحدهما يترتب عليه الأثر. والآخر لا يترتب عليه الأثر ، وكل منهما عبارة عن كمية خاصة من الاجزاء والشرائط ، وقد علمنا بان الأمر انما تعلق بالكمية الخاصة التي يترتب عليها الأثر ، ولكن بلا ان يكون ترتب الأثر ملحوظا في مقام تعلق الأمر ومأخوذا في المأمور به ، وذلك لأن ترتب الأثر على الكمية المعينة في نفس المولى أمر تكويني قهري ، فلا يكون المورد قابلا للإطلاق والتقييد ، إذ الإطلاق والتقييد انما يكونان في المورد الّذي يمكن فيه أخذ القيد وعدم أخذه ، فيقال : ان المراد الجدي اما ان يكون مطلقا أو مقيدا لامتناع الإهمال من حيث القيد. اما المورد الّذي لا يقبل التقييد لقهرية حصول القيد فلا يجري فيه ما ذكر ، إذ عدم الإطلاق والتقييد لا يستلزم الإهمال لثبوت القيد لا محالة بلا توقف على لحاظه وأخذه.

وعليه ، فالمأمور به ليس إلاّ الكمية الخاصة الملازمة لترتب الأثر ، بحيث تكون جهة ترتب الأثر جهة معرفة للمأمور به لا دخيلة فيه. والمراد الجدي انما هو مقدار معين في نفس المولى من الأجزاء والشرائط ، فإذا تردد المراد الجدي بين الأقل والأكثر وانه الاجزاء التسعة أو العشرة ، وكان هناك ظهور يعين لنا مقداره كان التمسك به متعينا ، كما فيما نحن فيه. لأن لفظ الصلاة على الأعم يصدق على الأقل والأكثر فهو ظاهر فيهما ، فإذا تردد المراد الجدي من هذا الظاهر - إذ الفرض حصول العلم بكون المراد الجدي منه كمية معينة من الاجزاء والشرائط والتردد في مقدارها وانه الأقل أو الأكثر - أمكن التمسك بظهوره الإطلاقي في تعيين المراد الجدي وانه الأقل دون الأكثر لعدم القرينة عليه ، كما هو شأن كل ظاهر حيث انه تحقق بناء العقلاء على كشف المراد الجدي بظاهر

ص: 241

الكلام ، ولا يأتي هذا الكلام على القول بالصحيح ، لأن اللفظ موضوع لتلك الحصة المعينة واقعا المرددة عندنا ، فهو ظاهر في تلك الحصة ولم يعلم انها الأقل كي يتمسك بظهوره فيه في تعيين المراد الجدي ، بل يكون مجملا من جهة الأقل والأكثر. بخلاف القول بالأعم ، إذ اللفظ ظاهر في الأقل ، فيعين انه المراد الجدي بالظهور.

وبالجملة : ليس ما نحن فيه - على ما ذكرناه - من باب التمسك بالعامّ بعد إحراز المراد الجدي منه في الشبهة المصداقية كي يمنع ذلك ، بل من باب التمسك بظهور المطلق في الإطلاق في إحراز المراد الجدي وهو لا محذور فيه ، ويفترق الحال فيه بين القول بالصحيح والأعم كما عرفت.

ويمكن ان يقرب الجواب بنحو آخر وهو : انه لا إشكال في ان الأمر لم يتعلق بذات الصلاة وماهيتها المطلقة من كل قيد وشرط ، بل تعلق بها مقيدة ببعض الاجزاء والشرائط ، وقد علمنا بحكم العقل عدم تعلق الأمر إلا بما يترتب عليه الأثر. ونحتمل ان يكون ما يترتب عليه الأثر هو خصوص الكمية المعلومة فعلا دون الأكثر منها ولا نعلم بأنها الكمية الأكثر ودخل بعض الاجزاء في ترتب الأثر.

وعليه ، فلا يعلم بان المراد الجدي ، وهو خصوص الأجزاء والشرائط المعلومة ، مقيد أصلا ، لاحتمال أنه هو الّذي يترتب عليه الأثر بلا دخل لشيء آخر فيه.

وعليه ، فلا مانع من التمسك بإطلاق اللفظ في نفي القيد الزائد وكون المقدار المعلوم هو المأمور به لعدم البيان - نظير ما لو قال : « أكرم جيراني » وعلمت بأنه لا يريد إكرام أعدائه ، ولكن لم اعلم بوجود عدو له من جيرانه ، بل يحتمل ان يكون الجميع غير أعداء له ، فبذلك لا أعلم بتقييد المراد الجدي من العام وهو : ( الجيران ). وعليه فيمكن التمسك بإطلاقه في إثبات وجوب إكرام من

ص: 242

يحتمل عداؤه من جيرانه -. ولا يتأتى ذلك على القول بالصحيح ، إذ المفروض ان اللفظ موضوع للحصة الملازمة لترتب الأثر ، فمع احتمال عدم كون هذه الحصة المعلوم تعلق الأمر بها مما يترتب عليها الأثر بخصوصها ، بل تتوقف على تحقق الجزء المشكوك لا يمكن التمسك بإطلاق اللفظ لعدم إحراز صدقه على المشكوك.

وبهذا البيان يرتفع الإشكال الّذي لا أعلم من تصدى لحلّه بنحو يرتفع به الإيراد من الاعلام.

ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ الأنصاري في جوابه عن الإشكال حيث قال : « ودفعه يظهر مما ذكرناه : من ان الصلاة لم تقيد بمفهوم الصحيحة وهو الجامع لجميع الأجزاء والشرائط ، وانما قيدت بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره ، فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للأمور التي دل الدليل على تقييد الصلاة بها ، لا ان مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق وبقي مفهوم الصحيحة ، فكلما شك في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوع إلى الاحتياط لإحراز مفهوم الصحيحة ... » (1). إذ لا يظهر له وجه وجيه غير ما ذكرناه فلاحظ وتدبر.

هذا ، ولكن الإنصاف ان الوجهين المذكورين لا يخلوان عن بحث ، فالعمدة في الجواب ان يقال : ان الحكم العقلي بعدم تعلق الأمر الا بالصحيح بمعنى واجد الملاك والمصلحة لا ينافي دليل تعلق الأمر بالعمل كي يكون مقيدا له ببعض حصصه ، إذ التقييد فرع المنافاة بين الدليلين بنحو لا يمكن اجتماعهما. وذلك لأن دليل الأمر بالعمل يدل بالملازمة على ثبوت الملاك في الفعل ، فيكون بجميع افراده صحيحا واجدا للملاك. وبذلك تكون نسبة دليل الأمر إلى الحكم

ص: 243


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /281- الطبعة الحجرية.

العقلي نسبة الوارد إلى المورود وموجبا لارتفاع موضوعه.

وبالجملة ، لا يكون الحكم العقلي المزبور موجبا لإخراج بعض افراد دليل الأمر ، إذ لا يقتضي ذلك أصلا ، فتدبر تعرف.

الرابع : ما ذكره المحقق الخوئي من : ان هذا الإيراد يبتني على أخذ الصحة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجا ، وهي غير مأخوذة قطعا ، بل لا يعقل أخذها - لما تقدم منه - ، وانما المأخوذ في المأمور به الصحة الاقتضائية التي هي الصحة بمعنى تمامية الاجزاء والشرائط ، وعليه فيفترق الحال بين القول بالصحيح والقول بالأعم ، إذ لا يحرز صدق اللفظ على الفاقد الجزء المشكوك اعتباره بناء على الصحيح فيمتنع التمسك بالإطلاق.

بخلافه على القول بالأعم ، إذ صدقه على الفاقد محرز فيكون الشك في أمر زائد لا في أصل تحقق المعنى كما هو على القول بالصحيح -. وعليه فلا مانع من التمسك بالإطلاق في إثبات كون المأمور به هو الطبيعي الجامع بين الفاقد والواجد (1).

وأنت خبير بان هذا تقرير لأصل الثمرة وليس جوابا على الإيراد الموجه عليها وحلا للإشكال فيها. فان المستشكل يعلم بصدق الصلاة على الفاقد بناء على الأعم ، إلا انه لا يرى صحة الأخذ بظهور الكلام الإطلاقي لتقييد المراد الجدي بالصحيح ، فلا يكون ما ذكر جوابا ، بل هو تقرير لموضوع الإشكال.

واما ما ذكره المحقق النائيني في دفع الإشكال من : ان المأمور به أو قيده البسيط على الصحيح مشكوك الصدق على الفاقد كما عرفت ، فلا يمكن معه التمسك بالإطلاق ، بخلافه على الأعم فان المأمور به على هذا ليس إلا نفس الاجزاء والشرائط ، والصحة ليست إلا منتزعة عن كون الشيء موافقا للمأمور

ص: 244


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 181 - الطبعة الأولى.

به ، فالصحة متأخرة عن تعلق الأمر ويستحيل أخذها في المأمور به (1).

ففيه : انه لا يخلو عن غرابة ، لأن الصحة لا تختلف حقيقتها على القول بالصحيح أو بالأعم ، فكيف يفرض تعلق الأمر بالعمل بوصف الصحة على القول بالصحيح واستحالة ذلك على القول بالأعم لتأخر وصف الصحة عن الأمر رتبة؟ فلاحظ.

فالذي ينبغي ان يقال في الجواب ما عرفت.

وبذلك يظهر : ان الإيراد على الثمرة ينحصر بالوجه الأول ، وهو انها ثمرة غير عملية بل علمية محضة ، وهو لا يكفي في تحرير المسألة الأصولية فان المقصود بها مقام الاستنباط والعمل.

وقد تصدى السيد الخوئي لدفع هذا الإيراد بإثبات كون الثمرة عملية بإنكار دعوى عدم وجود المطلق في الكتاب والسنة الوارد مورد البيان ، وأنّ دعوى ذلك رجم بالغيب ، إذ قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (2) ، وارد مورد البيان ، فيكون موردا للثمرة المزبورة ، إذ المفهوم من كلمة الصيام عرفا كفّ النّفس عن الأكل والشرب وهو المعنى اللغوي ، وهو بهذا المعنى ثابت في الشرائع السابقة ، وهو وان اختلف بكيفيته باختلاف الشرائع ، لكن الاختلاف يرجع إلى الخارج عن ماهية الصيام ، بل قد يعتبر فيه كما في الشرع الإسلامي الكف عن بعض القيود الأخر ، كالجماع والارتماس وغيرهما. فإذا شك في اعتبار شيء قيدا أمكن التمسك بالإطلاق في نفيه كما يتمسك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (3) مع الشك في اعتبار شيء في المعاملة البيعية. ومثل قوله تعالى ما في السنة من الروايات الموردة مورد البيان

ص: 245


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 46 - الطبعة الأولى.
2- سورة البقرة : الآية : 183.
3- سورة البقرة : الآية : 275.

كقوله علیه السلام في التشهد : « يتشهد » (1) فان مقتضى إطلاقه نفى الخصوصيات الزائدة على أصل الشهادة مع الشك في اعتبارها (2).

ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به ..

اما الآية الشريفة : فلا نسلم ورودها مورد البيان ، بل هي واردة لبيان أصل الوجوب وبيان اشتراك المكلفين به فعلا مع غيرهم ممن سبقهم ، وانه ليس تكليفا مختصا بهم تخفيفا لوطأة التكليف على نفوسهم ، فوزانه وزان قوله تعالى :

( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (3) وقوله : ( وَآتُوا الزَّكاةَ ) (4) ونحوهما. والاستشهاد بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) في غير محله ، إذ لم نلتزم في محله بأنه في مقام البيان كما هو ظاهر ، إذ هو في مقام التفرقة بين البيع والرّبا في الحكم وان الأول حلال والثاني حرام ردا على من ادعى عدم الفرق والتسوية بينهما في الحكم. فلاحظ الآية تعرف.

مضافا إلى انه لا يمكن الاستشهاد بآية : « كتب عليكم الصيام .. » في إثبات الثمرة العملية ، حتى لو كانت واردة في مقام البيان. إذ التمسك بإطلاقها ممكن على القول بالصحيح. وذلك لأن الصوم - على القول بالصحيح - لا بد ان يلحظ فيه جميع ما له دخل فيه من اجزاء وشرائط. ولما كنا نسلم بان الواجب في شريعتنا يختلف عما كان هو الواجب في الشرائع السابقة ولو قيدا ، وقد قرر في الآية ثبوته علينا كثبوته في السابق ، فيعلم ان المراد من الصيام في الآية غير الصوم الصحيح ، إذ لا يتلاءم مع القول بالاختلاف.

وعليه ، فيمكن التمسك بالإطلاق فيها ولو قيل بالصحيح ، لعدم إرادته

ص: 246


1- وسائل الشيعة 4 - باب : 13 من أبواب التشهد ، حديث : 1 و 2 و 3 و 4.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 178 - الطبعة الأولى.
3- سورة المزمل : الآية : 20.
4- سورة المزمل : الآية : 20.

من اللفظ المانع من الثمرة. فالثمرة لا تظهر في المقام فلا يصلح نقضا على إنكار وجود المورد للثمرة.

واما الرواية : فلا تصلح شاهدا على ما يقول ، إلا بناء على شمول النزاع المزبور لاجزاء العبادة وعدم اختصاصه بنفس العبادة. وهو فاسد ، إذ لا ملزم له بل يمكن الالتزام بالوضع اللغوي لها من دون تغيير ، كما هو ظاهر في مثل التشهد ، فان إطلاق لفظ التشهد على ذكر الشهادتين انما كان بالوضع اللغوي لا الشرعي كما لا يخفى.

منها : جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته على القول الأعمي دون القول الصحيحي ، بل لا بد من الاحتياط.

بيان ذلك : انه إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر بان علم إجمالا بكون المأمور به اما الاجزاء الخمسة أو الستة ، فهل يكون المورد من موارد البراءة أو الاحتياط؟.

قيل : بجريان الاحتياط للعلم الإجمالي المنجز الموجب للاحتياط بقاعدة الاشتغال التي تقتضي لزوم اليقين بالامتثال ، وهو لا يحصل إلاّ بالاحتياط بالإتيان بالأكثر.

وقيل : بالبراءة بدعوى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل - وهو الخمسة - وشك بدوي في وجوب الزائد فيكون مورد البراءة. ثم ان دعوى الانحلال تارة تكون في حكم العقل. وأخرى في حكم الشرع. وليس محلّ تحقيقه هنا.

وانما المهم ان نقول : ان الثمرة المدعاة مترتبة على القول بالانحلال ، بمعنى : انه بعد تسليم الانحلال وعدم العلم الإجمالي المنجز الموجب للاحتياط ، يدور الأمر في الالتزام بالبراءة والاشتغال ، مدار القول بالوضع للصحيح والأعم ، فان قلنا بالوضع للصحيح كان المتعين هو قاعدة الاشتغال. وان قلنا بالوضع

ص: 247

للأعم كان المتعين هو قاعدة البراءة.

وذلك ببيان : ان مرجع الشك في الزائد على القول بالصحيح إلى الشك في محقق المأمور به ومحصله ، لأن المأمور به ليس هو نفس الاجزاء والشرائط ، بل امر يتحقق بها ويحصل ، والشك في المحقق والمحصل مورد الاشتغال للعلم بالتكليف والشك في الفراغ. ومرجع الشك على القول بالأعم إلى الشك في المأمور به ، لأن المأمور به عين الاجزاء والشرائط فيرجع الشك في الجزء الزائد إلى الشك في تعلق الأمر به وهو مورد البراءة.

وبتقرير أوضح : ان العنوان المأخوذ في متعلق الأمر ..

تارة : تكون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة الكلي إلى الفرد ويكون وجوده بوجودها ، بحيث يكون وجودها وجوده بلا انحياز له عنها أصلا في الخارج لاتحادهما حقيقة ، ولذلك يصدق على الاجزاء والشرائط ويحمل عليها.

وأخرى : تكون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة المسبب إلى السبب ، فلا يكون وجودها وجوده ، بل لكل منهما وجود مستقل عن الآخر لكن أحدهما المعين يحقق الآخر فلا يصلح لأن يكون عنوانا للاجزاء والشرائط ، كما لا يصلح ان يكون المعلول عنوانا للعلة ، وذلك نظير ما يقال في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء ، فانها عنوان بسيط يتحقق بالوضوء ولا يقال للوضوء طهارة ولا للطهارة وضوء.

فالشك في جزء زائد على الأول يرجع إلى الشك في المأمور به ، لأن المأمور به حقيقة هو الاجزاء والشرائط ، فيكون مورد البراءة لكون الشك شكا في التكليف.

واما على الثاني ، فالشك يرجع إلى المحقق والمحصل ، إذ المأمور به امر معلوم متقرر في نفسه والاجزاء والشرائط سبب وعلة لوجوده ، فالشك فيها شك في محقق المأمور به وهو مورد الاشتغال والاحتياط ، إذ بترك المشكوك يشك في

ص: 248

الفراغ الّذي يحكم العقل بلزوم إحرازه.

وهناك نحو ثالث من العناوين يشابه النحو الأول في كون نسبته إلى الاجزاء والشرائط نسبة العنوان إلى المعنون والطبيعي إلى مصداقه ، ويختلف عن النحو الثاني في هذه الجهة ، لكنه يشابهه ويختلف عن النحو الأول في عدم اتحاده حقيقة مع الاجزاء والشرائط ، وعدم اتحاده ذاتا معها ، بل هي من محققاته وسبب لوجوده ، فهو عنوان بسيط مسبب عنها ، نظير عنوان الوفاء بالنذر فانه ينطبق على واقع الوفاء ، وهو أداء المال لزيد المنذور ، انطباق الكلي على فرده ، لكنه غير متحد مع أداء المال لزيد ذاتا وحقيقة ، بل بالأداء يتحقق عنوان الوفاء ويحصل. ومثله : عنوان الناهي عن الفحشاء في الصلاة فانه غير الاجزاء والشرائط حقيقة وذاتا. وهكذا عنوان الدار لو قلنا بأنه موضوع لما يسكن ، فان ما يسكن عنوان ينطبق على الغرف والساحة والحيطان لكنه يختلف عنها في ذاته وحقيقته.

وهذا النحو :

تارة : لا يكون تشكيكيا ، بمعنى انه لا ينطبق على القليل والكثير ولا يتحقق بهما ، بل انما يتحقق بمجموع الأجزاء والشرائط ، كعنوان الناهي عن الفحشاء ، فانه لا يتحقق إلا بتحقق جميع الاجزاء والشرائط.

وأخرى : يكون تشكيكيا يتحقق بالأقل والأكثر وينطبق عليهما بنحو واحد ، كالدار فان عنوان ما يسكن يتحقق بغرفة وساحة وحيطان فقط ، ويتحقق بغرف وساحات وسرداب وغيرها من الاجزاء ، وينطبق على الثاني كما ينطبق على الأول.

فعلى الأول : لو شك في دخل جزء أو شرط في المأمور به يكون الشك في المحقق ، إذ يشك في تحقق العنوان البسيط بالخمسة أو بخصوص الستة ، فيكون المورد من موارد الاشتغال.

وعلى الثاني : يكون الشك في المأمور به لتحقق العنوان بالأقل ، فيكون

ص: 249

الشك في الزائد شكا في التكليف الزائد وهو مورد البراءة.

فالشك على الأول مورد الاشتغال. وعلى الثاني مورد البراءة.

وفي حكم هذا العنوان : ما إذا تعلق الأمر بنفس الأجزاء والشرائط ولكن مقيدة بالأمر البسيط ، ولم يتعلق بنفس العنوان المنتزع بان تعلق الأمر بالحصة المتقيدة بتحقق الأمر البسيط ، كما لو تعلق الأمر بالاجزاء والشرائط التي تنهى عن الفحشاء ويترتب عليها النهي عن الفحشاء. فانه مع الشك في اعتبار جزء أو شرط يشك مع عدم إتيانه في حصول التقيّد بالأمر البسيط للشك في تحققه نفسه. وبعبارة أخرى : المأمور به هو المقيد ، وبدون الإتيان بالمشكوك لا يحرز تحقق المقيد بما هو كذلك ، فيكون من الشك في المحصل ، وهو مورد قاعدة الاشتغال.

نعم إذا كان الأمر البسيط المأخوذ قيدا من الأمور التشكيكية الحاصلة ببعض الاجزاء والشرائط ، لم يكن الشك في المورد شكا في المحصل لإحراز تحقق المقيد وانما الشك في تعلق الأمر بجزء أو شرط زائد فالأصل البراءة لأنه شك في التكليف.

بعد وضوح هذا الأمر نقول : انه لو التزم بان الجامع على القول بالصحيح جامع بسيط حقيقي ذاتي مقولي كما التزم به صاحب الكفاية رحمه اللّه (1) ، كان مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر من موارد أصالة البراءة لا الاشتغال ، لاتحاد المأمور به - وهو الجامع - مع الاجزاء والشرائط ذاتا ووجودا ، فهي في الحقيقة المأمور به ، فيكون الشك في الأكثر شكا في التكليف.

وهكذا لو التزم بأنه جامع مركب يعرّفه النهي عن الفحشاء لا مقيد به وهو الجامع المبهم ، لأنه متحد مع الافراد وجودا وحقيقة ومنطبق عليها انطباق

ص: 250


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /25- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الكلي على الفرد كما عرفت ، فيكون الشك فيها شكا في المأمور به.

واما لو التزم بأنه جامع بسيط عرضي عنواني منتزع عن الذات بلحاظ ترتب أثر خاص عليها كعنوان الناهي عن الفحشاء ، فالشك في اعتبار جزء شك في تحقق العنوان البسيط بدونه ، إذ هو ليس تشكيكيا ، بل ينطبق على المجموع ويحصل به ، فيكون المورد من موارد الاشتغال بلا كلام ، إذ المأمور به امر معلوم والشك في حصوله.

ومثله لو التزمنا بان المأمور به في باب الصلاة والجامع هو الاجزاء والشرائط مقيدة بحصول النهي عن الفحشاء كما عرفت.

وبالجملة : بناء على كون الجامع الصحيحي جامعا بسيطا مقوليا أو مركبا مبهما يعرفه النهي عن الفحشاء ، يكون الشك في الأقل والأكثر من موارد البراءة. وبناء على كونه جامعا بسيطا عنوانيا أو مركبا مقيدا بالنهي عن الفحشاء يكون مورد الشك في الأقل والأكثر من موارد الاشتغال.

والمحقق النائيني قدس سره لما لم يتصور جامعا يوضع له اللفظ ويتعلق به الأمر على القول الصحيحي ، إلا بأحد النحوين الأخيرين - أعني الجامع البسيط العنواني ، والمركب المقيد بالنهي عن الفحشاء - جعل مما يترتب على القول بالصحيح هو الالتزام بعدم جريان البراءة عند الشك في الجزئية أو الشرطية وجريان قاعدة الاشتغال.

ولما كان الجامع المفروض للأعم - بأي نحو كان - مما يتحد مع الاجزاء حقيقة كان مما يترتب على القول بالأعم هو الالتزام بالبراءة عند الشك في الجزئية أو الشرطية ، لأن الشك في نفس المأمور به.

فجعل رحمه اللّه ثمرة النزاع هو جريان البراءة على الأعمي ، والاشتغال على الصحيحي (1).

ص: 251


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 45 - الطبعة الأولى.

ولا يرد على المحقق النائيني في فرضه هذه الثمرة شيئا ، إذ لا إشكال فيها بناء على ما التزم به من عدم إمكان فرض جامع للصحيح يتعلق به الأمر إلاّ بأحد ذينك النحوين ، وعدم جريان البراءة مع الالتزام بأحدهما لا ينكر.

لكن الإيراد على أصل المبنى لا البناء إذ عرفت إمكان تصوير جامع مركب بنحو مبهم يعرّفه النهي عن الفحشاء ولا يكون قيدا له.

وعليه ، تجري البراءة عند الشك في الجزئية.

والمتحصل : ان الثمرة المذكورة مما قرّرها المرحوم النائيني رحمه اللّه لالتزامه بما يستلزمها ، ما قد عرفته ، وهي بمقدار كونها ثمرة مبنائية لا إشكال فيها ، إلاّ ان الإشكال في المبنى كما عرفت.

ومن هنا يظهر انه لا وجه لما جاء في تقريرات الفياض من إنكار فرض الثمرة على المحقق النائيني قدس سره بدعوى : ان الجامع الصحيحي اما ان يفرض من الماهيات المتأصلة المركبة أو البسيطة أو من الماهيات الاعتبارية ، والبراءة تجري عند الشك في الجزئية أو الشرطية على جميع التقادير. اما على تقدير كونه جامعا حقيقيا بسيطا ، فلأنه متحد مع افراده خارجا ، فالامر به أمر بها ، فالشك فيها شك في المأمور به كما سبق تقريبه. واما على تقدير كونه جامعا مركبا ، فلأنه عين الاجزاء والشرائط ، فالاجزاء والشرائط تكون بنفسها متعلقة للأمر. فيرجع الشك في اعتبار جزء زائد إلى الشك في التكليف. واما على تقدير كونه جامعا انتزاعيا عنوانيا ، فلان الأمر الانتزاعي ليس له ما بإزاء في الخارج فلا يصح تعلق الأمر به ، وانما الأمر متعلق في الحقيقة بمنشإ انتزاعه وهو نفس الاجزاء والشرائط ، فيكون الشك في الجزئية شكا في المأمور به والتكليف (1).

فان ما ذكر غير وجيه لوجهين :

ص: 252


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 171 - الطبعة الأولى.

الأول : ان الجامع المركب لا يمكن جعله هو نفس الاجزاء والشرائط بذاتها ، إذ كل مقدار يفرض يمكن وقوعه صحيحا وفاسدا ، بل لا بد من تقييدها بجهة بسيطة كالنهي عن الفحشاء.

ومعه لا مجال لجريان البراءة عند الشك في الجزئية لرجوعه إلى الشك في المحصل ، وقد صرح المحقق النائيني بما ذكرناه ، فإغفاله عجيب.

الثاني : ان الأمر الانتزاعي وان لم يكن له وجود في الخارج وكان الموجود منشأ انتزاعه ، إلا انه من الواضح ان منشأ انتزاع عنوان ( الناهي عن الفحشاء ) ليس نفس الاجزاء والشرائط بلحاظها ذاتها ، بل بلحاظ ترتب النهي عن الفحشاء عليها ، إذ العناوين الانتزاعية انما تنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بوصف أو جهة تصحح انتزاع العنوان عنها ، فعنوان العالم والقائم انما ينتزع عقلا عن الذات بلحاظ اتصافها بوصف العلم أو القيام ، لا بلحاظها نفسها ، وإلاّ لصح انتزاع العنوان المذكور من جميع الذوات حتى ممن لم يتلبس بالعلم أو القيام وبطلانه واضح.

وعليه ، فالمأمور به - لو سلم انه لا يكون نفس العنوان بل المعنون - هو الاجزاء والشرائط مقيدة بالنهي عن الفحشاء التي هي جهة الانتزاع ، ومعه يكون مورد الشك في الجزئية من موارد الاشتغال لرجوعه إلى الشك في المحصل كما عرفت. هذا مع ان ترتب الحكم على العناوين الانتزاعية كثير بحيث لا يلتزم بإناطته بمنشإ الانتزاع ، ولذا لا يلتزمون بإجراء الأصل الجاري في منشأ الانتزاع في ترتب الحكم المعلق في لسان الدليل ، على العنوان الانتزاعي كعنوان الفوت في القضاء ، وعنوان الوفاء في النذر ، ونحو ذلك.

نعم ، على تقدير كون الجامع حقيقيا بسيطا يكون المورد من موارد البراءة ، لكن المحقق النائيني لا يلتزم بأصل التقدير كما عرفت.

والخلاصة : انه عرفت فعلا ان لهذا المبحث ثمرتين :

ص: 253

إحداهما : إمكان التمسك بالإطلاق وعدمه.

والأخرى : جريان البراءة وعدمه.

وكلتاهما ثمرتان مهمتان تصححان تحرير مثل هذا البحث وتنقيح أحد قوليه.

اما الثانية : فواضح لما عرفت من ترتبها على بعض تقادير الصحيحي ، ويكفي في ثمرة البحث ترتبها ولو على بعض التقادير. وهي ثمرة عملية كما لا يخفى.

واما الأولى : فهي وان تقدم الإشكال فيها من جهة عدم كونها عملية لعدم المورد لها ، إلاّ ان التحقيق ان ذلك لا ينفي كونها ثمرة مهمة ، وذلك فان الفقيه لا يستغني عن تنقيح هذا المبحث للوصول إلى نتيجته المزبورة ، إذ قد يرى بعض المطلقات واردة في مقام البيان كما ادعي في آية : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ) ، وعدم العثور فعلا على مثل ذلك لا ينفي ما ذكرنا ، إذ قد يتبدل نظر الفقيه فيرى ان هذا المطلق في مقام البيان بعد ان لم يكن يرى ذلك. أو قد يختلف الفقهاء في نظرهم فيرى أحدهم بخلاف ما يرى الآخر في هذا الموضوع. وعليه فيتوقف استنباطه من معرفة جواز التمسك بالإطلاق وعدم جوازه ، وهو يتوقف على تحقيق أحد قولي المسألة ، فتدبر.

نعم الإيراد على الثمرة بأنها ليست ثمرة للمسألة الأصولية ، لأن ثمرتها لا بد ان تكون استنباط حكم فرعي كلي - على رأي - أو رفع التحير الحاصل للمكلف في الحكم بلا واسطة - على المختار - كما أشرنا إلى ذلك في تحقيق ضابط المسألة الأصولية ، وهذه المسألة ليست كذلك ، إذ لا يترتب عليها الاستنباط مباشرة ، بل لا تقع في طريق الاستنباط ، لأن مسألة جواز التمسك بالإطلاق وعدمه مسألة أصولية بنفسها ، كما انه لا يرتفع بها التحير إلا بواسطة المسألة الأصولية أعني جواز التمسك بالإطلاق وعدمه.

ص: 254

وبالجملة : ما يترتب على المسألة ليس مسألة فقهية بل مسألة أصولية وهو ليس بثمرة للمسألة الأصولية ، والكلام بنفسه يجري بالنسبة إلى ترتب جريان البراءة وعدمه ، لأنه من المسائل الأصولية التي يتوصل فيها إلى حكم شرعي أو إلى رفع الحيرة في مقام العمل.

والإيراد بذلك له وجه - كما عرفت تقريبه ، وقد ذكرنا ذلك في مبحث ضابط المسألة الأصولية فراجع -. إلاّ انه لا يعنى نفي الثمرة وكون البحث أشبه بالعلمي منه بالعملي ، بل غاية ما ينفي أصولية المسألة وكونها من المبادي ، وهو غير نفي ثمرة المسألة من حيث العمل ، فلاحظ.

ومنها : مسألة النذر ، كما لو نذر شخص بان يعطي درهما لمن صلى ، فانه بناء على الصحيح لا يحصل الوفاء بالنذر الا بإعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة. وبناء على الأعم يحصل الوفاء بالنذر بإعطاء الدرهم لمن صلى مطلقا ولو صلاة فاسدة.

وأورد على هذه الثمرة بوجهين :

الأول : ان الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر دون ما تلفظ به ، فان قصد من الصلاة خصوص الصلاة الصحيحة لم يحصل الوفاء الا بإعطاء الدرهم لمن صلى صلاة صحيحة ولو قلنا بالأعم. وان قصد الأعم من الصلاة الصحيحة والفاسدة يحصل الوفاء بإعطاء الدرهم لمطلق المصلي ولو كانت صلاته فاسدة وان قلنا بالصحيح. فلا يبتني تحديد موضوع وجوب الوفاء وانه الضيق أو الواسع على البحث المتقدم بل على معرفة قصد الناذر.

الثاني : انه لو سلم ابتناء معرفة موضوع وجوب الوفاء على البحث المذكور ، إلاّ انه لا يتناسب مع المسألة الأصولية ، لأن ذلك أجنبي عن الاستنباط المأخوذ في ثمرة المسألة الأصولية ، إذ هو يرتبط بتنقيح موضوع الحكم وتطبيقه على موارده ، وذلك ليس من شأن المسألة الأصولية بل أي مسألة علمية ولو كانت

ص: 255

من المبادئ.

ولكن التحقيق يقضي بعدم ورود كلا الوجهين :

اما الأول : فلأنه وان كان موضوع وجوب الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر سعة وضيقا ، إلاّ أنه إنما يجدي في نفي الثمرة فيما لو تعلق قصده بمعنى معين حاضر في ذهنه من الصحيح أو الأعم - كما فرض في الإيراد - ، اما إذا قصد إعطاء الدرهم لمن جاء بمسمى الصلاة عرفا ولمن جاء بما يصدق عليه اسم الصلاة في العرف ، كانت سعة موضوع الحكم وضيقه دائرة مدار تحقيق ان الموضوع له عرفا لفظ الصلاة هل هو الأعم أو خصوص الصحيح؟. فتترتب الثمرة المذكورة بلا إشكال. ونظيره في باب المعاملات ما يقال في ما لو باع مالك النصف المشاع النصف بلا تعيين انه المشاع أو المفرز - إذ تختلف النتيجة على الحالين - ، من انه لا عبرة بلفظ إنشائه ، بل العبرة بقصده وترتيب الأثر عليه ، فان كان قاصدا بيع النصف المشاع أخذ به ، وان كان قاصدا بيع النصف المفرز كان المبيع نصفه المشاع لأنه يملك نصفه بنحو الإشاعة ، ويجاب عنه في محله : بأنّ مورد التردد ما لو لم يقصد نصفا معينا من المشاع أو المفرز وانما قصد بيع ما يدل عليه لفظ النصف وما هو ظاهر فيه عرفا ، فيقع التردد في ان الظاهر عرفا بحسب حاله هل هو بيع النصف المشاع أو المفرز؟.

واما الثاني : فلأنه وان اشتهر في العبارات وعلى الألسن حتى بلغ المسلمات التي لا يشكك فيها أحد ، إلاّ ان الّذي يقرب إلى الذهن عدم تماميته وانه لا يخلو عن مغالطة ، وذلك لأنّ مرجع الشك في ان موضوع الحكم هل هو الأعم أو خصوص الصحيح إلى الشك في التعيين والتخيير ، فتعيين أحد الطرفين في المسألة التزام بأحد شقي الشك من التعيين والتخيير ، وهو يرجع إلى الاستنباط. بيان ذلك : انه إذا ورد دليل يدل على وجوب التيمم على الصعيد ، وتردد الموضوع له لفظ الصعيد بين ان يكون خصوص التراب أو الأعم منه ومن

ص: 256

الجص ، فان مرجع التردد المذكور إلى التردد في انه هل يتعين على المكلف التيمم بالتراب أو يتخير فيه بين التراب والجص. فإذا كان هناك مبحث يعين المراد من الصعيد وانه خصوص التراب ، فانه يترتب على معرفة تعيين كون الملحوظ في موضوع الحكم هو خصوص التراب. أو أنه الأعم من التراب والجص فيترتب عليه الحكم بالتخيير وانّ التيمم يكون بالتراب أو الجص.

وبعبارة أخرى : ان التردد في معنى الصعيد يرجع إلى التردد في ان الملحوظ في موضوع الحكم هو خصوص التراب أو التراب والجص مخيرا. فتعيين معنى الصعيد يترتب عليه استفادة تعلق الحكم بخصوص التراب أو بأحدهما مخيرا. وما نحن فيه كذلك ، فان التردد في معنى الصلاة يرجع إلى التردد في التعيين والتخيير في الحكم ، بوجوب الوفاء ، فتعيين معنى الصلاة يستفاد منه أحد النحوين في الحكم ، إما تعيين الوفاء بإعطاء الدرهم لمن صلى صحيحا أو التخيير فيه بإعطاء مطلق المصلي ولو فاسدا. وهذا حكم شرعي وليس هو مجرد تطبيق للحكم على موضوعه كي يكون أجنبيا عن الاستنباط.

وبعبارة واضحة : يكون حال المسألة بالنسبة إلى النذر وتعيين أحد الطرفين من التعيين والتخيير حال مسألة الأصل الجاري في مورد الشك في التعيين والتخيير وتعيين أحدهما ، فكما ان مسألة تعيين الأصل في مورد الشك بين التعيين والتخيير من المسائل الأصولية بلحاظ ما يترتب عليها من الأثر كذلك مسألة الصحيح والأعم ، إذ حال الالتزام بالصحيح أو الأعم حال الأصل العملي أو الدليل الاجتهادي القائم على التعيين أو التخيير.

نعم ، يكون الإشكال في أصولية المسألة من جهة أخرى ، وهي انها مختصة بباب النذر ونحوه ولا تعم أبواب الفقه ، نظير قاعدة الطهارة ، إذ قد تقدم اشتراط سريان نتيجة المسألة في جميع أبواب الفقه في أصولية المسألة.

هذا كله مضافا إلى إمكان دعوى عدم الحاجة إلى ترتب ثمرة المسألة

ص: 257

الأصولية على مسألة الصحيح والأعم ، إذ لم يلتزم بنحو متسالم عليه بأصوليتها ، بل يمكن دعوى كونها من المبادئ ، ولذلك تذكر في مباحث المقدمة والتعرض إليها بخصوصها باعتبار عدم البحث فيها في غير مكان.

وعليه ، فيكفي في صحة البحث فيها ترتب أثر فقهي عليها ولو كان في مورد خاص ، إذ ذلك يرفع لغويتها ، وهو ثابت في مسألة النذر ولو كان من باب التطبيق بلا كلام.

منها : فيما ورد من النهي عن الصلاة وبحذائه امرأة تصلي ، فانه بناء على الصحيح يختص المنع عن الصلاة بصلاة المرأة الصحيحة ، فإذا كانت صلاتها فاسدة لا تمنع من صحة صلاة الرّجل. واما بناء على الأعم فيكون المانع من صحة صلاة الرّجل الأعم من الصلاة الصحيحة التي تؤديها المرأة أو الفاسدة.

وقد أورد على هذه الثمرة : بعدم كونها ثمرة للمسألة الأصولية لأنها ترجع إلى تطبيق الحكم الثابت على موضوعه بتنقيح موضوعه وتعيينه ، وذلك أجنبي عن مقام الاستنباط.

وقد اتضح الجواب عن هذا الإيراد بما تقدم :

أولا : من انه يكفي مجرد الترتب الأثر الفقهي على المسألة ولو لم يكن بأثر المسألة الأصولية ، لعدم الالتزام بأصولية المسألة.

وثانيا : بان الأثر المترتب أثر المسألة الأصولية ، لأنه يعين أحد طرفي الشك من التعيين والتخيير ، فلاحظ.

وبعد كل هذا يقع الكلام في تعيين الموضوع له وأنه الصحيح أو الأعم منه ومن الفاسد ، وإقامة البرهان على ذلك.

ولا يخفى ان من يلتزم بثبوت الجامع بين خصوص الأفراد الصحيحة وعدم إمكانه بين الأعم كالمحقق صاحب الكفاية (1). أو بثبوته بين افراد

ص: 258


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /24- 25 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأعم دون خصوص الأفراد الصحيحة كالمحقق النائيني (1). - بعد التنزل عن دعواه في الموضوع له السابقة - ، في راحة عن الاستدلال لكلا الطرفين بل حدهما ، إذ عدم إمكان تصور الجامع على الطرف الآخر كاف في نفيه وتعيين الوضع للطرف الّذي أمكن تصوير الجامع بين افراده وهو الصحيح على رأي صاحب الكفاية والأعم على رأي المحقق النائيني ، بلا حاجة لإقامة الدليل على الوضع له ، لأن عدم إمكان تصور الجامع يلزم عدم إمكان الوضع له ثبوتا. فلا تصل النوبة إلى مرحلة الإثبات ، فالذي يحتاج إلى إقامة الدليل على الوضع لأحدهما اما الصحيح أو الأعم من يلتزم بإمكان تصوير الجامع على كلا القولين كالمحقق الأصفهاني (2) ، الّذي تابعناه على رأيه ، لإمكان كل منهما إثباتا ، فتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل معين.

وقد ذكر صاحب الكفاية أدلة الطرفين وإليك بيانها مع توضيح ما يحتاج إلى توضيح :

ص: 259


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 40 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 40 - الطبعة الأولى.

أدلة القول بالصحيح

الأول : تبادر الصحيح من اللفظ وهو علامة الحقيقة.

الثاني : صحة سلب اللفظ عن الفاسد بالحمل الشائع الصناعي بنحو الدقة ، مما يكشف عن عدم كونه من افراد الموضوع له الكاشف عن عدم الوضع للأعم والوضع لخصوص الصحيح ، وإلاّ لما صح سلبه.

الثالث : الروايات الظاهرة في تحقق الوضع للصحيح ، وهي على طائفتين :

إحداهما : ما مفادها إثبات بعض الآثار للمسميات ، وهي لا تترتب على غير الصحيحة ، مثل ما ورد من : « ان الصلاة عمود الدين » ، أو : « انها تنهى عن الفحشاء والمنكر » ، ونحوهما (1).

والأخرى : ما مفادها نفي الطبيعة والماهية بمجرّد انتفاء جزء أو شرط نظير : « لا صلاة إلا بطهور » و: « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » (2) ، ولو كان الموضوع له لفظ الصلاة هو الأعم لم يلزم انتفاء الطبيعة بانتفاء أحد اجزائها وشرائطها ، إذ لا يلزم بانتفائه إلا انتفاء الصحة وهو لا يلازم انتفاء الطبيعة بعد ان كانت تنطبق على الفاسدة.

ودعوى : إرادة نفي الصحة أو الصلاة الصحيحة في هذه الطائفة والصلاة الصحيحة من الطائفة الأولى باعتبار شيوع مثل هذا الاستعمال في نفي الكمال لا الحقيقة أو الصحة ، نظير ما ورد من انه : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (3).

ص: 260


1- الكافي 3 / 99 باب النفساء الحديث 4.
2- غوالي اللئالي 1 / 196 الحديث 2.
3- تهذيب الأحكام 3 / 261 - باب 25 فضل المساجد والصلاة فيها ، الحديث 55.

ممنوعة ، بعدم الوجه في التقدير المذكور بلا قيام قرينة خاصة ، بل يمكن دعوى ان المراد من نفي الصلاة في الموارد التي يعلم بإرادة نفي الكمال هو نفى حقيقة الصلاة لكن بنحو الادعاء ، لكي يكون آكد في الدلالة على المبالغة التي تقصد بالحديث كما لا يخفى.

الرابع : دعوى ان طريقة الواضعين في الوضع للمركبات هو الوضع للمركبات التامة بلحاظ الحكمة الداعية إليه وهي غلبة الحاجة إلى تفهيمه ، دون الناقص فانه وان دعت الحاجة إلى تفهيمه أحيانا إلاّ انه ليس غالبا ، فيمكن الاستعمال فيه بنحو المجاز أو الادعاء ، والشارع لم يتخط هذه الطريقة العقلائية ، فيثبت الوضع للصحيح.

إلا ان هذه الدعوى عهدتها على مدعيها ، وقد ناقش فيها صاحب الكفاية ، بدعوى كونها قابلة للمنع (1). ولعل الوجه فيه ما قيل : من أنه على تقدير تسليم مجاراة الشارع مسيرة العقلاء وعدم تخطيه طريقتهم ، إلا ان أساس تحقق الوضع للتام - في هذه الدعوى - هو كونه قضية الحكمة الناشئة من كثرة الحاجة إلى تفهيمه وقلة الحاجة إلى تفهيم الفاسد ، وهذا غير مسلم في المركبات الشرعية لكثرة الحاجة إلى تفهيم الفرد الفاسد منها ، فالوضع للأعم لا ينافي الحكمة الداعية إلى الوضع ، فتدبر.

وعليه ، فالوجوه التي يظهر اعتماد صاحب الكفاية عليها في إثبات الوضع للصحيح هي الثلاثة الأول (2).

اما الوجه الأول والثاني : فهما وجهان يرجعان إلى تحكيم الوجدان ، لذلك كانت المناقشة فيهما سهلة لإمكان إنكار التبادر وصحة السلب ودعوى العكس وان المتبادر هو الأعم ، كما حدث فعلا ، فقد جاء في استدلال الأعمي على دعواه

ص: 261


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /30- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /29- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ادعاء التبادر وعدم صحة السلب.

وعليه ، فالالتزام بأحد الطرفين مما لا يمكن الجزم به وفرضه ، بل أمر يوكل إلى ما يلمسه وجدان كل فرد من أهل العرف.

واما الوجه الثالث : فهو وجه أشبه بالبرهاني ، والاستدلال بالطائفة الثانية واضح التقريب ، ولكنه قابل للخدشة بأنه من المعلوم ان الصلاة الصحيحة يتحقق بدون فاتحة الكتاب في بعض الحالات ، فلا يمكن ان يراد نفى الحقيقة بانتفاء فاتحة الكتاب حتى على القول بالصحيح ، إذ الجامع يشمل الفاقدة والواجدة فكيف يقيد بالواجدة؟. فلا بد ان يكون النفي راجعا إلى غير الحقيقة من الكمال أو غيره. فتدبر.

وانما الإشكال في تقريب الاستدلال بالطائفة الأولى من الأخبار. فقد قرب : بأنه حيث يعلم بان المراد من : « الصلاة » في الحديث خصوص الصلاة الصحيحة ، لأن الأثر انما يترتب عليها ، وعليه فيدور الأمر بين الوضع لخصوص الصحيح فيكون الاستعمال حقيقيا والوضع للأعم فيكون مجازيا لعدم إرادة الأعم. وبما ان ظاهر الاستعمال كونه حقيقيا - كما هو مقتضى أصالة الحقيقة - يستكشف من استعمال اللفظ في الرواية في خصوص الصحيح الوضع لخصوصه.

وللإشكال في هذا التقريب مجال واسع ، فان أصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي. اما في مورد يعلم بالمراد إلا انه يشك في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز فلم يثبت جريان أصالة الحقيقة فيه ، وما نحن فيه من قبيل الثاني للعلم بان المراد هو الصلاة الصحيحة وانما الشك في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز للشك في الوضع لخصوص الصحيح أو الأعم فلا تجري فيه أصالة الحقيقة ، بل هو مورد لما اشتهر من قولهم : « الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ».

مضافا إلى ان الأمر لا يدور بين الحقيقة والمجاز ، لأن إرادة الصحيح مع

ص: 262

الوضع للأعم لا تستلزم المجاز ، إذ هي من باب التطبيق كما هو شأن كل لفظ موضوع للكلي ويراد به فرده ، لا من باب الاستعمال فلا مجاز في البين كي ينفى بأصالة الحقيقة.

وقد أشير إلى التقريب المذكور والإشكال فيه أولا في حاشية منسوبة إلى صاحب الكفاية رحمه اللّه على المقام (1). لكنه يبعد منه ذلك لوضوح الإشكال في التقريب المذكور ، فيبعد ان يلتزم به وهو مما لا يخفى على مثل صاحب الكفاية.

فالأولى - بل المتعين - ان يقال في تقريبه : إن الأثر رتب على الصلاة بما لها من معنى مرتكز في الأذهان ، وحيث انه يعلم ان هذا الأثر الّذي رتب على الصلاة انما يترتب على الصحيح منها يكون ذلك كاشفا عن كون معنى الصلاة هو الصحيح. وبعبارة أخرى : انه حين أطلق لفظ : « الصلاة » كان لها معنى إجمالي في الذهن غير متميز من حيث كونه خصوص الصحيح أو الأعم ، وقد رتب الأثر وحمل العنوان المنتزع عن مقام ترتب الأثر على اللفظ بما له من المعنى الإجمالي ، ونحن نعلم بان الأثر انما يترتب على الصحيح دون الأعم ، فقد علمنا بان ذلك المعنى الارتكازي هو الصحيح دون الأعم ، ولم يحدث بذلك أي تغيير في المنتقل له من لفظ الصلاة قبل الحكم والحمل ، بل المنتقل إليه واحد في كلا الحالين - قبل الحكم وبعده - ، فيعلم بالوضع للصحيح فيكون الحمل المزبور نظير التبادر الموجب للعلم التفصيليّ بان المعنى الارتكازي الإجمالي هو الصحيح.

وهذا وجه متين - في نفسه - ، وهو لا يرجع إلى التبادر ونحوه كما لا يخفى على من تأمل فيه واستوضحه.

ومن مجموع ما ذكرنا يتضح ان عمدة أدلة القول بالوضع للصحيح هو الوجه الثالث.

ص: 263


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 30 هامش رقم (1) طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أدلة القول بالأعم

الأول : التبادر ، واستشكل فيه صاحب الكفاية بما تقدم من دعوى تبادر الصحيح ، مضافا إلى امتناع دعواه هاهنا بعد امتناع تصوير الجامع الأعمي ، إذ ليس هناك ما يتبادر إليه مما يجمع بين الصحيح والفاسد.

الثاني : عدم صحة السلب عن الفاسد ، ومنعه صاحب الكفاية لما تقدم من صحة السلب.

الثالث : صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيح والفاسد ، فيقال : « الصلاة اما صحيحة أو فاسدة ».

وقد منعه صاحب الكفاية بما نصه : « وفيه : انه انما يشهد على انها للأعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح وقد عرفتها ، فلا بد ان يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ولو بالعناية » (1).

وقد حملت عبارته قدس سره على ان نظره في تقريب الاستدلال إلى انه حيث استعمل اللفظ في الأعم كما يدل عليه التقسيم ، فيدور الأمر بين كونه حقيقيا - فيثبت الوضع للأعم لأنه لازمه - أو مجازيا ، فلا يثبت الوضع للأعم ، وأصالة الحقيقة تعين الأول فيثبت الوضع للأعم.

فيشكل فيه بما ذكره من : ان أصالة الحقيقة انما تجري مع عدم وجود الدليل على خلافها لأن موضوعها الشك وهو يرتفع بالدليل. وقد عرفت قيام الدليل على الوضع للصحيح من التبادر ونحوه الموجب للعلم بمجازية الاستعمال ، فلا مجال لإجراء أصالة الحقيقة.

ص: 264


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /30- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن يبعد ان يكون نظره ذلك ، لما عرفت من وضوح وهن جريان أصالة الحقيقة في إثبات كون الاستعمال حقيقيا ، فيبعد ان يستدل بهذا الطريق أحد ، وذلك مما لا يخفى عليه قدس سره . مضافا إلى انه أهمل الإشكال فيه بما هو واضح ، وما تكرر منه مرارا من ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز وان أصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد لا مع العلم به والشك في كيفيته ، مع أنه أولى بالذكر.

والّذي يخطر في البال في تقريب الدليل هو : ان من المعلوم كون التقسيم بلحاظ ما للصلاة من معنى ، ولا يخفى انّه لا يرى في استعمال لفظ الصلاة في المثال المزبور أي تجوز وعناية ، فهو دليل على انّ معنى الصلاة هو الأعم وقد وضع له اللفظ ، وإلاّ لكان استعمال اللفظ فيه عنائيا وهو خلاف الفرض. ولا يخفى ان هذا أجنبي عن التمسك بأصالة الحقيقة ، كما انه لا يعرف لعبارة الكفاية وجه يتلاءم - في مقام الإشكال - مع هذا التقريب فتدبر.

الرابع : استعمال الصلاة وغيرها في الأخبار في الأعم ، فقد جاء في الخبر : « بني الإسلام على خمس : الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه. فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة » (1). ومركز الاستشهاد موردان :

الأول : قوله علیه السلام : « بالأربع » ، فانه ناظر إلى الأربع المذكورة في صدر الحديث ، ولا يخفى انه بقرينة ترك الولاية يعلم ان المراد ليس الصحيح ، إذ لا صحة بدون الولاية ، فكان يلزم ان يقال لم يأخذ الناس بشيء منها ، بل المراد منها الأعم.

ص: 265


1- الكافي 2 / 18 باب : دعائم الإسلام ، حديث : 3.

الثاني : قوله علیه السلام : « فلو ان أحدا صام نهاره » ، فان المفروض ان الصيام هاهنا بدون ولاية وهو غير صحيح ، فيكشف عن إرادة الأعم من اللفظ لا خصوص الصحيح.

وجاء في الخبر أيضا : « دعي الصلاة أيام أقرائك » (1) ، فان النهي قد تعلق بالصلاة ، وليس المراد بها الصحيحة ، إذ الحائض لا تقدر عليها وأخذ القدرة في متعلق النهي - كسائر أنواع التكليف - ضروري ، فلا بد ان يكون المراد هو الأعم.

وجهة الاستدلال بالاستعمال في الأعم في الروايتين ليس ما قد يتوهم من ظهوره في كونه بنحو الحقيقة ، كي يستشكل فيه رأسا بان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

بل هي : انه مما لا ينكر ان اللفظ قد استعمل في الأعم بلا عناية ومسامحة في البين ، إذ لا يرى بهذا الاستعمال أي تجوز وعناية ، بل مما تقتضيه طبيعة اللفظ.

وقد استشكل صاحب الكفاية في الرواية الأولى بإنكار المقدمة الأولى - أعني الاستعمال في الأعم - بدعوى : ان المراد بها خصوص الصحيح ، وذلك بقرينة كونها مما بني عليها الإسلام ، وظاهر أن الإسلام انما بني على الصحيح دون الأعم.

واما قوله علیه السلام : « فأخذ الناس بالأربع » ، فلا يتنافى مع ذلك ، إذ يمكن ان يراد به الأخذ بحسب اعتقادهم لا الأخذ حقيقة ، فيكون المستعمل فيه هو الصحيح. وهكذا قوله « فلو ان أحدا صام نهاره » ، فان المراد به يمكن ان يكون أنه صام بحسب اعتقاده لا حقيقة ، فيكون الاستعمال في الصحيح ، ويمكن ان يكون الاستعمال في الأعم ولكن يكون مجازيا بعلاقة المشابهة والمشاكلة في

ص: 266


1- تهذيب الأحكام 1 / 384 باب 19 الحيض والاستحاضة والنفاس.

الصورة.

واما الرواية الثانية ، فقد استشكل في الاستدلال بها أيضا بإنكار كون الاستعمال في الأعم ، بدعوى : ان النهي هاهنا إرشاد إلى عدم قدرة الحائض على الصلاة الصحيحة لحدث الحيض. وعليه فالمستعمل فيه هو خصوص الصحيح ، وليس مولويا كي يأتي فيه ما ذكر ، وإلاّ للزم منه ما لا يلتزم به أحد ، وهو حرمة الإتيان بصورة الصلاة وما يصدق عليه لفظ الصلاة بلا قصد القربة ذاتا ، لتعلق النهي بالأعم (1).

الخامس : ان هناك امرين وقع التسالم عليهما :

أحدهما : انعقاد النذر وشبهه - العهد واليمين - إذا تعلق بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، كالصلاة في الحمام.

والآخر : حصول الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان الّذي تعلق النذر بترك الصلاة فيه كالحمّام. وذلك يدل على ان متعلق النذر ليس هو الصلاة الصحيحة بل الأعم ، وذلك لأنه لو كان المنذور تركه هو الصلاة الصحيحة لزم ..

أولا : عدم حصول الحنث أصلا لفساد الصلاة المأتي بها لتعلق الحرمة بها بعد النذر ، فلا يكون المأتي به هو المنذور تركه فلا يحصل الحنث.

وثانيا : المحال ، وذلك لأن انعقاد النذر يستلزم عدم تحقق الصلاة الصحيحة للنهي عن الصلاة ، وذلك يعني عدم القدرة على الصلاة الصحيحة ، وهو يستلزم عدم انعقاد النذر لاشتراط القدرة على متعلقه في انعقاده. وعليه ، فيكون انعقاد النذر مستلزما لعدم انعقاده ، واستلزام وجود الشيء لعدمه محال.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : أولا : بان غاية ما يثبته هذا الوجه هو امتناع تعلق النذر بالصحيح ، وهو أجنبي من نفي الوضع له ، فانه يمتنع ذلك ولو

ص: 267


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /31- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

قلنا بالوضع للأعم. فهذا الوجه لا يثبت الوضع للأعم كما لا يخفى ، لأنه أجنبي عن مقام التسمية.

وثانيا : بإنكار امتناع تعلقه بالصحيح ، فان متعلق النذر - على تقدير كونه هو الصحيح - هو الصحيح لو لا تعلق النذر وهو الجامع لجميع ما يعتبر من اجزاء وشرائط في مرحلة سابقة على النذر ، فلا ينفيه تعلق النهي به من قبل النذر.

وعليه ، فيحصل الحنث بالإتيان بما هو جامع لجميع الاجزاء والشرائط سوى عدم النهي من قبل النذر. كما انه لا يلزم من وجوده عدمه ، لأن الفساد الناشئ من قبل النذر لم يؤخذ عدمه في متعلق النذر كي لا يكون مقدورا بعد النذر فيلزم ذلك.

ومما يدل على ان المتعلق هو الصحيح بهذا المعنى لا الفاسد ولا الأعم : ان الناذر لا يقصد نذر ترك العمل الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط ولذا لو صلى بدون طهارة لم يكن حنثا لنذره (1).

لكن الّذي ينبغي ان يقال : هو إنكار صحة تعلق النذر بترك الصلاة في الحمام ومثله. وذلك لأن الصلاة في الحمام وان تعنونت بعنوان مرجوح وهو الكون في الحمام ، إلا انه لا يستلزم مرجوحيتها بنفسها ، بل انما يستلزم تقليل جهة رجحانها وكون غيرها من افراد الصلاة أرجح منها - كما هو معنى الكراهة في العبادة - فان مرجوحية الصلاة لا تتحقق الا باستلزامها لجهة مبغوضة شرعا. وبعبارة أخرى : استلزامها لجهة محرمة بحيث يرتفع الأمر بها. وليس الكون في الحمام كذلك ، وإلاّ لما تحقق الأمر بها لعدم ملاكه. وعليه ، فإذا اعتبر ان يكون متعلق النذر راجحا كما هو المفروض امتنع تعلق النذر بمثل ترك الصلاة في الحمام ، لأن تركها ليس براجح بعد ان كان فعلها راجحا. فلا وجه للالتزام بصحة تعلق النذر وحصول الحنث كي يفرض ذلك دليلا على الوضع للأعم.

ص: 268


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /32- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

نعم ، إذا فرض كون متعلق النذر عنوانا ملازما لترك الصلاة في الحمام - وهو الإتيان بالصلاة في غير الحمام - فانه امر راجح في نفسه صح النذر لتحقق شرطه ، إلاّ انه لا يستلزم حصول الحنث بالصلاة في الحمام وفسادها ، بل يحصل التزاحم بين الأمر النذري بخصوص الصلاة التي تعلق النذر بها والأمر بالصلاة في الحمام المحرز بالإطلاق ، فتبتني صحة الصلاة فيه وفسادها على ما يتقرر في باب المزاحمة من صحة المزاحم المهم وعدم صحته ، والمتأخرون على صحته وعدم تعلق النهي به ، فيكون الإتيان بالصلاة الصحيحة بعد النذر مقدورا.

وهكذا لو فرض كون متعلقه هو الكون في الحمام الملازم للصلاة. وبتعبير آخر : الحصة الخاصة من الكون في الحمام ، فانه لا مانع من صحة النذر لمرجوحية متعلقه ، إلاّ انه لا يستلزم النهي عن العبادة وعدم صحتها لعدم تعلق النذر بتركها ، بل تقع صحيحة ولو بملاك الأمر ، لو التزم بعدم الأمر للنهي عن الملازم وامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.

ومحصل ما ذكرناه : ان النذر ان فرض متعلقه ترك نفس العبادة - كما هو ظاهر كلامهم حيث يلتزمون بحرمة العبادة وحصول الحنث بها بنفسها - ، فصحته ممنوعة لعدم رجحان متعلقه لبقاء العبادة على رجحانها وان قلّت مرتبته. وان فرض متعلقه ترك الكون الملازم للعبادة فهو وان صح لرجحان متعلقه لكنه لا يستلزم فساد العبادة بل تكون صحيحة. وان فرض متعلقه الإتيان بالعبادة في غير الحمام الملازم لتركها في الحمام ، فهو وان صح أيضا لكن لا يستلزم بطلان العبادة ، بل تكون صحيحة على التحقيق.

وعليه ، فما ذكر من الوجه لا يظهر له محصل.

ومن مجموع ما ذكرناه يتضح : ان عمدة أدلة القول بالأعم هو الثالث - أعني صحة التقسيم -. كما ان عمدة أدلة القول بالصحيح هو الثالث أيضا ، أعني الروايات المثبتة للآثار. اما دعوى التبادر وصحة السلب فقد عرفت انها

ص: 269

دعاو ليست برهانية يسهل إنكارها ودعوى خلافها ، كما ثبت ذلك بدعوى تبادر الأعم وعدم صحة السلب عن الفاسد.

وقد عرفت تقريب الوجه الثالث من أدلة القولين بنحو متشابه ومن جهة واحدة. فقد قربت دلالة الروايات : بان الأثر أثبت الصلاة بما لها من المعنى المرتكز في الأذهان ، وهو لازم خاص للصحيح. وقربت صحة التقسيم بان التقسيم للصلاة بما لها من المعنى. وعليه فهما دليلان وجيهان أحدهما ينفى الآخر ، ولا مجال لنا لنفي أحدهما وتعيين الآخر فانه بلا وجه ظاهر.

لكن الّذي نستطيع ان نقوله فاصلا في المقام هو : ان أسامي العبادات عند العرف لا تفترق عن سائر أسامي المركبات وكون حالها حال غيرها ، ونحن نرى بالوجدان القاطع بان اللفظ لا يختص في المركبات العرفية بالصحيح فقط ، بل يصدق عليه وعلى الفاسد ، فيقال : بيض صحيح وفاسد ، ودار عامرة وخربة - صحيحة وفاسدة - ونحو ذلك. ولا أرى أن هذا مما يقبل الإنكار ، وحال أسامي العبادات حال أسامي المركبات الأخرى عند العرف بمعنى ان العرف لا يرى لها نحوا آخر من الصدق والوضع ، ولا يراها تفترق في الانطباق على الصحيح والفاسد عن غيرها. وهذا يثبت الوضع للأعم ، وهو غاية ما يقال في إثباته.

ويبقى في المقام شيء وهو : انه بعد ثبوت الوضع للأعم لا بد من تعيين المقدار الّذي يتقوم به معنى الصلاة ويتحقق به الصدق لوضوح وجود بعض الموارد من الفاسد لا يصدق عليه اللفظ أصلا كالإتيان بالتكبير والقراءة فقط ، فهناك مقدار يتقوم به الصدق ومعنى الصلاة ، وهو يدور في كلمات الاعلام بين ان يكون معظم الاجزاء ، وان يكون اجزاء معينة خاصة. والتزم السيد الخوئي بالثاني وان المقدار الّذي يتقوم به معنى الصلاة على الأعم هو التكبير والركوع والسجود والتسليم والطهارة.

والوجه فيه ما ذكره : من ان المرجع في تعيين قوام المسمى هو نفس

ص: 270

المخترع للعمل المركب ، وعليه فالمرجع في تعيين قوام مسمى الصلاة هو الشارع ، وقد ورد في النصوص ما يدل على ان الصلاة أولها التكبير وآخرها التسليم (1). وان ثلثها ركوع وثلثها سجود وثلثها الطهارة (2). وذلك ظاهر في ان قوام الصلاة بهذه الخمسة. هذا مجمل ما ذكره (3).

ولكنه غير ظاهر ، ولا يمكن الالتزام به ، وذلك فان ما ذكره تمهيدا لمدعاه من كون المرجع في تعيين المسمى هو المخترع ، يمكن منعه بان المرجع انما هو الواضع سواء كان هو المخترع أو غيره ، إذ لا ملازمة بين الاختراع والوضع فقد يختلف الواضع عن المخترع.

وهذا الأمر ليس بذي أهمية ، وانما المهم ما ذكره دليلا على الدعوى من ورود النص الدال على تقوم الصلاة بهذه الخمسة ، وهو واضح المنع ، فانه من الظاهر كون الشارع ليس في مقام بيان قوام المسمى ، بل في مقام بيان قوام المأمور به. وذلك : فان الظاهر من النص ابتداء وان كان ما ذكره من أن قوام الصلاة بهذه الخمسة ، إلاّ انه بملاحظة مقام الشارع وما يتناسب معه بما انه شارع المقتضي لعدم كونه في مقام بيان المسمى ، فانه لا يرتبط به بما انه شارع ، بل كونه في مقام بيان المأمور به وأهمية هذه الاجزاء فيه وفي دخلها في الأثر المترتب عليه ، فانه هو الّذي يتناسب معه بما انه شارع ، بملاحظة هذا الأمر يكون النص ظاهرا في ان هذه الخمسة قوام المأمور به لا المسمى ولا يبقى الظهور الابتدائي للكلام.

ويؤيد هذا المطلب ، بل يدل عليه : انه لم تكن لبيان المسمى وتحديده حاجة في تلك العصور - أعني عصور الأئمة علیهم السلام - اما لأجل وضوح

ص: 271


1- وسائل الشيعة 1 / 366 باب وجوب الوضوء للصلاة حديث : 4.
2- وسائل الشيعة 1 / 366 باب وجوب الوضوء للصلاة حديث : 8.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 162 - الطبعة الأولى.

المسمى في ذلك العرف لقربهم من زمان الشارع واطلاعهم على كيفية استعماله ، أو لعدم ترتب أثر عملي على معرفته بالنسبة إليهم من تمسك بإطلاق ونحوه ، لقربهم من الأئمة وإمكان استفسارهم عن كل شيء يشك فيه عندهم ، فلا يعقل مع هذا ان يكون الإمام علیه السلام في مقام بيان المسمى للسائل.

وبالجملة : لا يظهر لما ذكره السيد الخوئي وجه وجيه ، فالمتعين الالتزام بان المقوم للمسمى هو معظم الاجزاء بلا تعيين جزء خاص دون غيره ، وأما تحديد المعظم فذلك أمر مرجعه العرف وتعيينه بنظره.

ومن هذه الجهة فقط يكون الجامع المبهم المفروض لافراد الأعم مبينا ، فهو عمل مبهم من جميع الجهات إلا من جهة كونه يشتمل على معظم الاجزاء ، وبذلك لا ينطبق على الجزء الواحد أو الجزءين ونحوهما في القلة ، فلاحظ وتدبر واللّه ولي التوفيق ، هذا تمام الكلام في العبادات.

ويقع الكلام بعد ذلك في المعاملات.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان ألفاظ المعاملات إن قلنا بأنها موضوعة للمسببات فلا يقع النزاع أصلا في الوضع للصحيح أو للأعم ، لعدم اتصاف المسببات بالصحّة والفساد ، بل إنما تتصف بالوجود والعدم. وان قلنا بأنها موضوعة للأسباب ، فللنزاع مجال لقابلية السبب للصحة والفساد.

ثم التزم بالوضع للعقد المؤثر - يعني الصحيح - المؤثر لأثر ما شرعا أو عرفا. ثم تعرض إلى دفع ما قد يتوهم من : انه من المتسالم عليه ان الشارع ليس له اختراع خاص في باب المعاملات ، بل المعاملات عرفية عقلائية أمضاها الشارع. ومن الواضح ان العقد الصحيح المؤثر قد يختلف لدى الشارع عنه في العرف ، فعقد الصبيّ مؤثر عرفا ، ولكنه غير مؤثر شرعا. وعليه فان التزم بالوضع للأعم من الصحيح والفاسد فلا إشكال ، وان التزم بالوضع لخصوص الصحيح فيلزمه ان يختلف الموضوع له شرعا عن الموضوع له عرفا ، وهذا خلاف

ص: 272

ما تقرر أولا من ان الشارع في باب المعاملات جرى مجرى العرف وليس له استقلال في الوضع والجعل.

وبيان ما ذكره من الدفع : هو ان اختلاف الشرع والعرف في صحة العقد لا يرجع إلى الاختلاف في أصل الموضوع له ومفهومه ، بل يرجع إلى الاختلاف في مصداق الصحيح وتخطئة الشرع العرف في اعتباره الفرد مصداقا للصحيح لمعرفته بدقائق الأمور واطلاعه الأوسع على خصوصيات الأشياء ، فمفهوم الصحيح لدى كل من الشرع والعرف واحد وهو العقد المؤثر ، لكن اختلافهما في المصداق وان أيّ العقود هو المؤثر ، فالعرف باعتبار عدم معرفته بدقائق الأمور يبني على تأثير عقد ، ولكن الشرع بما انه مطلع على الدقائق يرى عدم قابلية العقد للتأثير فيخطئ العرف في ذلك. نظير ما يفرض ان اللفظ المخصوص موضوع للدواء المسهل ، فيرى بعض الأطباء ان التركيب الخاصّ مسهل ، ولكن طبيبا آخر أوسع علما يرى عدم تأثيره في الإسهال لبعض الخصوصيات التي اطلع عليها فيه دون الطبيب الأول ، فان ذلك لا يعدو أن يكون اختلافا في المصداق ومن باب تخطئة الثاني للأول دون ان يكون اختلافا في المفهوم بل هما متفقان على وحدة المفهوم.

هذا مجمل ما ذكره في الكفاية (1) ، وقد أوضحنا الجهة الأخيرة في كلامه.

ولا بد في تحقيق الحال من الكلام في كل جهة من جهات كلامه وبيان ما لا بد ان يذكر فيها.

اما ما ذكر قدس سره من : عدم جريان النزاع لو التزم بوضع الألفاظ للمسببات وجريانه لو التزم بوضعها للأسباب. فتوضيحه يتوقف على بيان المراد من السبب والمسبب ، وبيان ذلك : ان في كل معاملة يحصل أمران :

ص: 273


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /32- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أحدهما : القول أو الفعل المقصود به إيجاد المعنى في وعائه المناسب له ، كالإيجاب والقبول أو إشارة الأخرس.

ثانيهما : المعنى المقصود إيجاده كالملكية الحاصلة بعقد البيع أو التمليك - إذ لا فرق بينهما ذاتا ، بل الاختلاف اعتباري كالاختلاف بين الإيجاد والوجود -.

ويصطلح على الأول - أعني ما يستعمل لغرض إيجاد المعنى به في عالم الاعتبار - سبب ، لأنه يتسبب به إلى حصول المعنى وبدونه لا يحصل. كما يصطلح على الثاني مسبب ، لأنه يحصل بالعقد وينشأ من حصوله ، فهو مسبب عن العقد لترتبه عليه كما يترتب المسبب على السبب.

وإذا عرفت المراد من المسبب وانه الملكية أو التمليك ونحوهما ، يتضح الوجه في عدم جريان النزاع لو قيل بالوضع للمسبب ، وذلك لأن جريان النزاع انما يجري في المورد القابل للاتصاف بالصحّة والفساد بان يكون له وجودان أحدهما يترتب عليه الأثر والآخر لا يترتب عليه الأثر ، إذ يقال حينئذ بان اللفظ موضوع لخصوص ما يترتب عليه الأثر أو للأعم منه ومن غيره. اما ما لا يقبل الاتصاف بهما لعدم تعدد نحو وجوده ، بل ليس له إلا نحو وجود واحد فلا مجال للنزاع فيه في الوضع للصحيح أو للأعم ، إذ هو لا يقبل الصحة والفساد بل الوجود والعدم ، وما نحن فيه كذلك ، لأن الملكية لا تتصف بالصحّة والفساد ، إذ ليس لها نحو وجود ، بل هي ان وجدت ترتبت عليها الآثار العقلائية وإلاّ فهي معدومة ، فأمرها دائر بين الوجود والعدم ، لا بين الصحة والفساد.

وهذا هو الوجه العرفي الواضح لبيان عدم جريان النزاع لو قيل بوضع اللفظ للمسبب ، فلا حاجة إلى تكلف الدقة في بيانه ، كما نهجه المحقق الأصفهاني ، وان كان ما ذكره متينا في نفسه ، فراجع حاشيته على الكفاية (1).

ص: 274


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 57 - الطبعة الأولى.

واما الأسباب ، فحيث انها تقبل الاتصاف بالصحّة والفساد ، لأن لها وجودين أحدهما يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر ممن له أهلية الإنشاء شرعا. والآخر لا يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر من غير من له أهلية الإنشاء شرعا كالصبي ، فان العقد في كليهما واحد وهو له شأن التسبيب لإيجاد المعنى ، إلاّ انه فعلي التسبيب في صورة ويترتب عليه الأثر ، وليس بفعليّ التسبيب ولا يترتب عليه الأثر في صورة أخرى ، وبذلك يقال : هذا العقد صحيح وذاك فاسد.

كان للنزاع فيه مجال ، إذ يمكن ان يقال : بان اللفظ موضوع لخصوص العقد المؤثر أو للأعم منه ومن غير المؤثر كما لا يخفى. لكن قد يقال : إن إمكان جريان النزاع ثبوتا لا يصحح فعلية جريانه وتحققه إثباتا ، إذ ذلك يتوقف على فرض ترتب ثمرة عملية على النزاع ، وإلاّ لما تحقق ، لصيرورته لغوا ، والثمرة العملية منتفية - برأي صاحب الكفاية (1) - في المعاملات ، لأنه يرى إمكان التمسك بالإطلاق حتى على الصحيح ، فلا ثمرة. ففرض النزاع بمجرد القول بالوضع للأسباب ليس بوجيه بعد ان بنى على عدم الثمرة ، لأن القول بالوضع للأسباب انما يوجب قابلية المورد للنزاع ، اما فعلية النزاع فيه فهي تتوقف على ترتب ثمرة عملية عليه.

ويدفع : بان ما ذكر انما يتجه لو كان التمسك بالإطلاق في المعاملات على الصحيح من الأمور البديهية المسلمة التي لا تقبل المناقشة والخلاف ، اما لو كان من الأمور النظرية المبتنية على بعض المقدمات التي يمكن ان يقع فيها الخلاف والمناقشة - كما هو الحال فيما نحن فيه ، إذ لم يؤخذ إمكان التمسك بالإطلاق بنحو مسلم لا جدال فيه ولا مراء ، بل كان موضع المناقشة والفرد والبدل - ، فلا يتجه ما

ص: 275


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ذكر ، إذ يمكن فرض ترتب الثمرة على النزاع ولو عند بعض ، فلا بد من تعيين أحد طرفي الخلاف كي تترتب عليه الثمرة.

وبالجملة : من لا يرى جواز التمسك بالإطلاق على الصحيح يلزمه تنقيح هذه المسألة واختيار أحد طرفيها ليتوصل إلى النتيجة ، وذلك كاف في تحرير النزاع كما لا يخفى.

ثم انه هل يتصور الوضع للأسباب أو المسببات بالمعنى الّذي ذكرناه لهما ، أولا يتصور ذلك ثبوتا؟. التحقيق عدم إمكان الالتزام به.

اما السبب : فقد عرفت انه اللفظ المستعمل بقصد إيجاد المعنى في وعائه ، أو انه استعمال اللفظ بهذا القصد. ولا يخفى ان كلا من اللفظ والاستعمال ليس من المعاني الإنشائية ، بل من الأمور الواقعية التي لا تقبل الإنشاء.

وعليه : فدعوى ان البيع - مثلا - موضوع للفظ المستعمل في إيجاد المعنى في عالم الاعتبار أو للاستعمال وإنشاء المعنى باللفظ ، يردّها استعمال لفظ البيع في الإنشاء ، فيقال : « بعت » ، وذلك لا يتفق مع وضع المادة لما ذكر ، إذ قد عرفت ان معناها غير إنشائي فلا معنى لإنشائه. مضافا إلى ان معنى : « بعت » يكون بذلك : استعملت اللفظ في المعنى بقصد إيجاده ، أو نفس اللفظ المستعمل في معناه بقصد إيجاده اعتبارا ، وهو مما لا محصل له ظاهرا.

واما المسبب : فقد عرفت انه الأثر المترتب على الإنشاء الحاصل باعتبار العقلاء ، كالملكية المترتبة على البيع. ولا يخفى ان ذلك من فعل الشارع أو العقلاء ، وليس من فعل الشخص ، فوضع اللفظ له ينافيه اسناد اللفظ بما له المعنى للشخص ، فيقال : ان الشخص قد باع ، إذ لازمه ان يقال : الشارع باع ، أو العقلاء باعوا ، لأن البيع بهذا المعنى من فعلهم لا من فعل الشخص. كما انه بذلك يمتنع توجه النهي عنه إلى المكلف ، كما يفرض ذلك ، بل تفرض دلالة النهي عن المسبب على صحة المعاملة - كما هو رأي صاحب الكفاية تبعا لأبي

ص: 276

حنيفة (1) - ، إذ ليس من أفعاله ، فلا معنى لنهيه عنه.

وبالجملة : فلا يتصور وجه معقول يتضح به جواز الوضع للسبب أو المسبب بالمعنى المشهور لهما.

وعلى كل ، وللتخلص عن الإشكال الّذي ذكرناه ينبغي ان يقال : ان الإنشاء كما عرفت عبارة عن استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى ، وقد عرفت ان صاحب الكفاية يختلف عن المشهور في ان المعنى يوجد بوجود إنشائي من قبيل الاعتباريات يكون موضوعا لوجوده في عالم الاعتبار العقلائي - لو كان من المعاني الاعتبارية كالملكية - ، بخلاف المشهور فانهم يذهبون إلى ان المعنى يوجد بالإنشاء في وعائه المناسب له وهو الاعتبار العقلائي ، ولذلك يشكل عدّ صيغ التمني ونحوها من الإنشائيات كما عرفت. فالملكية بقول الموجب : « بعت » توجد - على رأي صاحب الكفاية - بوجود إنشائي غير وجودها في وعائها المقرر لها ، ثم يترتب على ذلك الاعتبار العقلائي. وتوجد - على الرّأي المشهور - في عالم الاعتبار وهو الوعاء المناسب لها. وعلى ذلك : فالإشكال ينحل على رأي صاحب الكفاية في الإنشاء بوضوح وسهولة ، إذ يمكن دعوى ان الموضوع له هو الشيء بوجوده الإنشائي ، فانه قابل للإنشاء ويستند إلى نفس الشخص فلا محذور فيه ، كما ان هذا الوجود الإنشائي بلحاظ ترتبه على الإيجاب والقبول يسمى بالمسبب ، وبلحاظ انه موضوع للاعتبار العقلائي ويترتب عليه الاعتبار من قبل العقلاء يسمى بالسبب ، فهو بلحاظ مسبب وبلحاظ آخر سبب.

وعليه ، فلا يبقى فرق بين دعوى الوضع للمسبب والوضع للسبب في الحقيقة ، وانما الفرق في الملحوظ حال الوضع ، فمن لاحظ جهة ترتبه على العقد ادعى الوضع للمسبب لأن الموضوع له بهذا اللحاظ مسبب ، ومن لاحظ جهة

ص: 277


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /189- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ترتب الاعتبار العقلائي عليه ادعى الوضع للسبب لأنه بهذا اللحاظ سبب.

وبما ان هذا الوجود قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، إذ قد يترتب عليه الاعتبار العقلائي فيكون صحيحا وقد لا يترتب فيكون فاسدا ، كان للنزاع مجال على كلا القولين ، القول بالوضع للسبب والقول بالوضع للمسبب ، بالمعنى المشار إليه.

ويمكن ان يقال : انه ان أريد من المسبب هو الوجود العقلائي للأثر أمكن ان يتصف بالصحّة والفساد أيضا ، إذ الأثر الشرعي ان ترتب عليه كان صحيحا وان لم يترتب عليه كان فاسدا ، فالنزاع في الوضع للصحيح أو للأعم كما يجري بناء على إرادة الوجود الإنشائي ، كذلك يجري بناء على إرادة الوجود العقلائي.

واما ما تقدم من الإشكال : بان الوجود العقلائي ليس من فعل الشخص والحال ان لفظ المعاملة يسند إلى الشخص نفسه ، فيقال : « باع زيد داره ».

فيمكن دفعه : أولا : بالنقض بإسناد الأحكام الشرعية الصرفة إلى المكلف ، كالطهارة والنجاسة والحل والحرمة ، فيقال : طهّر الثوب ونجسه وحلل الذبيحة وحرّم الأكل على نفسه ، بل وقع التكليف لحرمة تنجيس المسجد.

وثانيا : بالحل ، بأنه بعد جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية على الموضوع المقدر الوجود تكون فعلية الحكم منوطة بوجود موضوعه ، فمن يوجد الموضوع يصح إسناد الحكم إليه ، نظير من رمى رصاصة فدفع شخص شخصا وجعله في طريق الرصاصة فأصابته ، فان القتل كما يسند إلى الرّامي يسند إلى الدافع أيضا.

هذا ولكن لا ينفع ذلك في فرض اتصاف المسبب بالصحّة والفساد.

واما على الرّأي المشهور ، فقد يشكل حل الإشكال ، باعتبار عدم تحقق وجود للمنشإ غير وجوده في وعائه ، كي يدعى الوضع له.

إلاّ انه من المسلم انه ينتزع من إنشاء المنشئ وجود إنشائي للمنشإ غير

ص: 278

وجوده الاعتباري ، بل هو الّذي يكون موضوعا للاعتبار ، فان من المسلم انه يتحقق بقول البائع : « بعت أو ملكت » تمليك إنشائي غير التمليك الاعتباري ، وهو يسند إلى نفس الشخص ، فيقال : ملكه إنشاء ونحوه.

وعليه ، فيمكن ان يدعى كون اللفظ موضوعا بإزائه ، وهو - أيضا - بلحاظ ترتبه على الإنشاء مسبب وبلحاظ ترتب الاعتبار عليه سبب ، وإلى اختلاف اللحاظ يرجع الاختلاف في الوضع للسبب والمسبب لا إلى اختلاف واقع الموضوع له وحقيقته ، ولا يرد على الالتزام بذلك أي محذور مما تقدم ، فانه قابل للإنشاء ومن فعل الشخص نفسه ، ولذلك يسند إليه ، فيمكن الوضع له.

وبالجملة : الموضوع له هو المعنى الإنشائي ، فلفظ البيع موضوع للتمليك الإنشائي لا للعقد ولا للتمليك الاعتباري ، وهو قابل للاتصاف بالصحّة والفساد ، إذ قد لا يترتب عليه الأثر العقلائي ، فللنزاع مجال حينئذ على كلا القولين أيضا.

وبما ذكرنا ينحل الإشكال ويتجه الالتزام بالوضع للسبب وللمسبب بالمعنى الّذي ذكرناه أخيرا لهما ، ولا نعرف وجها آخر لحل الإشكال ولا طريقا يلتزم به بلا ورود محذور.

هذا بناء على تفسير الإنشاء بما عرفت. واما بناء على تفسيره بالاعتبار الشخصي القائم بالنفس وإبرازه باللفظ ، وانه متقوم بهذين الأمرين : الاعتبار النفسانيّ ، والمبرز. وانه ليس هناك شيء آخر وراء هذين الأمرين ، فلا يبقى موضوع للإشكال وحلّه ، إذ لا سبب ولا مسبب في البين ، إذ ليس هناك إلاّ ما عرفت من الاعتبار النفسانيّ واللفظ المبرز ، فليس أحدهما سببا للآخر ، إذ وظيفة اللفظ ليس إلاّ الإبراز والكشف ، والاعتبار حاصل بأسبابه التكوينية لأنه فعل الشخص ولا يترتب على اللفظ ، فلا يكون مسببا عنه ولا اللفظ سببا له ، فلا مجال بعد هذا لدعوى كون الموضوع له هو السبب أو المسبب.

ص: 279

وللمحقق النائيني قدس سره كلام حول سببية العقد للأثر لا يخلو عن ارتباك كما سيتضح ، فانه جرى أولا مجرى المشهور من دعوى كون العقد سببا والأثر مسببا. ثم ادعى ان التحقيق خلاف ذلك ، وان نسبة العقد إلى المعاملة والأثر نسبة الآلة إلى ذي الآلة لا نسبة السبب التوليدي إلى المسبب ، ولذلك فهما موجودان بوجود واحد ، وليس هناك موجودان خارجيان هما السببية والمسببية. وعليه بنى كون إمضاء - المعاملة - المسببات على الرّأي المشهور إمضاء للأسباب - للعقد -.

ثم ذكر بعد ذلك ان الفرق بين العقد والمعاملة كالفرق بين المصدر واسم المصدر ، وان العقد بمنزلة المصدر والمعاملة بمنزلة اسم المصدر.

والّذي يظهر منه هو إطلاق السبب على نفس العقد. غاية الأمر أن الاختلاف في كونه سببا أو آلة.

وقد قرب قدس سره كون نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذيها لا السبب إلى المسبب ، بان المسبب التوليدي ما كان يترتب على سببه بمجرد وجوده بلا توسط أي إرادة له ، بل ترتبه قهري ، ولذلك لم يكن بنفسه متعلقا للإرادة بل الإرادة تتعلق به بتبع تعلقها بالسبب ، وذلك نظير الإحراق بالنسبة إلى الإلقاء ، فانه يترتب قهرا على الإلقاء أريد أم لم يرد ، بخلاف ذي الآلة فانه اختياري بنفسه وبالمباشرة فلا يترتب على تحقق الآلة قهرا ، بل تتعلق به الإرادة بنفسه ، نظير الكتابة بالنسبة إلى القلم والقطع بالنسبة إلى السكين ، فان آلة الكتابة القلم وآلة القطع السكين وهما - أعني الكتابة والقطع - من الأمور الاختيارية بنفسها والتي تتعلق بها الإرادة مباشرة ، فلا تترتب على وجود القلم والسكين قهرا - كما لا يخفى -. ومن ذلك العقود والإيقاعات ، فان البيع والأثر من الأمور الاختيارية ، التي يتعلق بها الاختيار بنفسها ولا تتحقق بمجرد تحقق العقد ما لم تتعلق به الإرادة كما لا يخفى. فلا تكون النسبة بينهما نسبة السبب

ص: 280

التوليدي إلى المسبب (1).

ولا بد لنا ان نعرف أولا : مدى ما ذكره من كون النسبة بين العقد والمعاملة نسبة الآلة إلى ذيها. وثانيا : مدى ما رتّبه على ذلك من نفي تعدد الوجود ، وانه ليس لدينا موجودان متغايران. وثالثا : مدى صحة ما قرره من كون الفرق بينهما كالفرق بين المصدر واسم المصدر.

اما الأول : فهو غير متجه ، لأن الفرق بين الآلة والسبب بحسب الفهم العرفي في ان السبب فعل اختياري للشخص والآلة ليست من افعال الشخص ، بل هي من الأمور التكوينية التابعة في وجودها لأسبابها التكوينية ، فآلة القطع هي السكين وهي ليست من الأفعال ، وسببه تحريك السكين وهو من الأفعال ، فالعرف يرى ان الآلة هي السكين والسبب هو التحريك دون العكس. وعليه ، فكون العقد من قبيل الآلة إذا لوحظ بألفاظه من دون لحاظ الاستعمال والإنشاء ، وليس الأمر كذلك ، فان جهة الإنشاء واستعمال اللفظ هي الدخيلة في التأثير ومقومة للعقد ، وليس العقد عبارة عن ذات الألفاظ بنفسها. وعليه فبمقتضى ما ذكرنا يكون العقد من الأسباب لأنه من الأفعال الاختيارية.

واما الثاني : فهو غريب جدا ، فان كون العقد آلة لا يعني انه ليس بموجود آخر غير الأثر ، إذ لا ملازمة بين الآلية واتحاد الوجود ، إذ وجود السكين غير وجود القطع ، ووجود القلم غير وجود الكتابة ، وتغاير وجود نفس الإنشاء والعقد مع وجود الملكية أمر لا يكاد يخفى ، وكون العقد آلة لا يغير هذا الواقع عما هو عليه ، فان الأثر أمر اعتباري والآلة امر تكويني ، فكيف يكون وجودهما واحدا؟!. هذا ان أراد اتحاد وجوديهما كما قد يظهر من ذيل عبارته. وان أراد اتحاد إيجاديهما مع تعدد الوجود. ففيه : ان تغاير الإيجاد والوجود اعتباري ، وإلاّ فهما

ص: 281


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 49 - الطبعة الأولى.

متحدان واقعا فكيف يتحد الإيجاد ويتعدد الوجود؟.

واما الثالث : فهو مما لا محصل له ان كان المراد به ما هو ظاهره. والمصرح به في غير هذا المكان - في النهي عن المعاملة - من كون الفرق بين العقد والأثر فرقا اعتباريا غير حقيقي ، كالفرق بين المعنى المصدري والمعنى الاسمي المصدري ، نظير الإيجاد والوجود ، فان حقيقتهما واحدة والفرق بينهما اعتباري ، فان الإيجاد ينتزع من إضافة الشيء إلى الفاعل والوجود ينتزع من إضافته إلى المورد القابل. ووجه بطلانه : هو استلزامه لأن يكون الشيء مؤثرا في نفسه ، وهو ممتنع ، إذ الشيء لا يكون علة لنفسه ، وذلك لأن ذلك لازم اتحاد العقد المؤثر والأثر في الوجود وعدم تغايرهما في جهة حقيقية ، ولو تنزلنا عن محذور وحدة الوجود - كما هو الفرض - فهو غير متجه أيضا. وان أريد ان العقد مرتبط بالجهة المصدرية لا انه هو الجهة المصدرية ، بتقريب : ان هناك ملكية وتمليك ، فالملكية بمعنى اسم المصدر والتمليك بمعنى المصدر والعقد المسمى بالسبب أو الآلة يترتب عليه التمليك ، فهو مرتبط بالجهة المصدرية. وعليه فإمضاء الملكية إمضاء للتمليك لعدم الفرق بينهما الا اعتبارا ، وإمضاء التمليك إمضاء للعقد لأنه ناشئ منه ومترتب عليه - انه أريد ذلك كما هو المناسب لمقام المحقق النائيني العلمي - ، فهو معقول ، إلاّ انه ممنوع : بان ما يترتب على العقد هو الملكية ، والتمليك ينتزع عن ترتبها على العقد الصادر من المنشئ كما لا يخفى. ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجه الارتباك في كلامه قدس سره بلا خفاء.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من : كون الموضوع له اللفظ هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعا وعرفا (1). فالكلام يقع أولا : في معرفة المراد من كلامه. وثانيا في تمامية دعوى الوضع للصحيح وعدم تماميتها.

ص: 282


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتحقيق المقام الأول : ان الظاهر من العبارة ان الموضوع له اللفظ هو العقد المؤثر عند العرف والشرع ، بحيث يكون قوله : « عرفا وشرعا » قيدا للمؤثر. فيكون التأثير لدى الشرع والعرف معا مقوما للموضوع له.

ولا يمكن الالتزام بهذا الظاهر لوجهين :

الأول : ان المفروض انه ليس للشارع اختراع خاص في باب المعاملات ، بل لم يكن منه سوى إمضاء المعاملات العرفية أو الردع عنها ، وهذا يعني ان هذه المعاملات كانت ثابتة قبل زمان الشارع ، وعليه فلا معنى لأن يوضع اللفظ لها في تلك الأزمنة ويكون الموضوع له هو المؤثر عند الشرع والعرف ، إذ لا شارع في زمان الوضع ولا يعترف به كي يكون التأثير عنده مقوما للموضوع له.

الثاني : ان الغرض من تعيين الموضوع له في ألفاظ المعاملات هو تنزيل استعمالات الشارع عليه ، وهذه النتيجة لا تحصل على هذا البيان للموضوع له ، إذ استعمالات الشارع لألفاظ المعاملات بين ما تكون في مقام الإمضاء ، نظير قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ، وما تكون في مقام الرّدع والإلغاء نظير ما ورد : « نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر » (2). ولا يخفى ان البيع إذا كان معناه العقد المؤثر شرعا وعرفا لم يقبل الإمضاء ولا الإلغاء ، إذ لا معنى لإمضاء الشارع ما هو مؤثر عند الشارع للغويته ، كما لا وجه لإلغاء الشارع ما هو مؤثر عنده ، لأنه تهافت واضح وتناقض ظاهر.

وإذا تبين ان هذا الظاهر لا يمكن الالتزام به ، فلا بد من توجيه الكلام بنحو لا يرد عليه شيء في نفسه ولو احتاج ذلك إلى تكلف وتقدير ، ويمكن ان توجه العبارة بان المراد كون الموضوع له هو المؤثر عرفا. والشارع تابع العرف على ذلك ، فالتأثير شرعا لم يلحظ قيدا للموضوع له ، ولكن هذا التوجيه بعيد

ص: 283


1- سورة البقرة : الآية : 275.
2- وسائل الشيعة 12 / 330 باب : 40 من أبواب آداب التجارة ، حديث : 3.

جدا عن ظاهر العبارة كما لا يخفى. مضافا إلى انه لا يتلاءم مع ما ذكره بعد ذلك من رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى التخطئة ، إذ لا موضوع للتخطئة على هذا التوجيه لفرض تبعية الشارع للعرف وعدم استقلاله في شيء ما.

فالمتعين ان يحمل مراد صاحب الكفاية على ان الموضوع له اللفظ عند الشرع والعرف هو العقد المؤثر بنحو الاقتضاء لا بنحو الفعلية ، ويراد من اقتضاء التأثير هو كون العقد تام الجهات بنحو لو التفت إليه العاقل الحكيم رتب عليه الأثر بلا توقف ، وذلك هو العقد الصحيح. فقوله : « عرفا وشرعا » لا يرجع إلى تقييد التأثير ، بل إلى تقييد الموضوع له ، بمعنى ان الموضوع له عند الشرع والعرف هو العقد المؤثر. والوجه في حمل التأثير على التأثير الاقتضائي لا الفعلي هو ظهور ذلك من عمل العقلاء ، فان العقلاء حين يمضون المعاملة ويرتبون الأثر عليها ، يرون بحسب ارتكازياتهم أنهم يمضون البيع - مثلا - وهذا يقتضي ان البيع موضوع لما له التأثير اقتضاء ، إذ لو كان موضوعا لما هو مؤثر فعلا كان صدق البيع مترتبا على تحقق الإمضاء منهم واعتبار الأثر بأثر العقد ، وهو يتنافى مع ما يرونه من ورود الإمضاء على البيع وترتبه عليه وان موضوعه هو البيع وهذا المعنى لعبارة الكفاية ليس ببعيد عن الظاهر ، وهو خال عن المحذور السابق فكما لا يخفى. وبذلك يتضح جدا رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى التخطئة ، وذلك لأن مرجع اختلاف الشارع مع العرف إلى ان الشارع يرى عدم اقتضاء العقد للتأثير بدون الشرط الّذي يعتبره لاطلاعه على دقائق الأمور وتأثيراتها التكوينية. بخلاف العرف فان اطلاعه محدود جدا ، فيرى ان للعقد اقتضاء التأثير بدون الشرط ، فالشارع باعتباره شرطا يخطئ العرف في نظره الراجع إلى تأثير العقد بدون ذلك الشرط. ولا يرجع الاختلاف إلى الاختلاف في الموضوع له فانه عندهما واحد وهو العقد المؤثر بنحو الاقتضاء في أثر ما ، بل يرجع إلى الاختلاف في تعيين مصداق المؤثر بنحو

ص: 284

الاقتضاء. ولا يختلف الحال فيما ذكرنا فيما إذا كان الأثر من الأمور الواقعية أو كان من الأمور الاعتبارية ، لأن الاختلاف في تحقق الاقتضاء للتأثير وعدمه وهو أمر واقعي تختلف فيه الأنظار ويقبل التخطئة والتصويب لأن النّظر طريق إليه. وهو أجنبي عن نفس الأثر وتحققه كي يقال - كما أفاد المحقق الأصفهاني - بان الاختلاف انما يكون من باب التخطئة لو كانت الملكية مثلا من الأمور التكوينية الواقعية دون ما إذا كانت - كما هو الحق - من الأمور الاعتبارية ، وذلك : لأن الأمور الواقعية لها تقرر في الواقع وفي حد ذاتها ويكون النّظر طريقا إليها وكاشفا ، وبذلك تتصور التخطئة والتصويب ، إذ قد يرى جماعة أو شخص تحقق هذا الأمر في مورد ما ويرى آخرون أو آخر عدم تحققه بلحاظ اطلاعه على بعض الخصوصيات. وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية فانه لا وجود لها إلاّ بالاعتبار والجعل ، فالنظر له موضوعية بالنسبة إليها وليس طريقا إليها ، إذ لا تقرر لها كي يكشف عنها. وعليه ، فلا تتصور فيها التخطئة والتصويب ، إذ لا واقع لاعتبار كل معتبر إلا نفسه ، فالملكية الموجودة باعتبار العرف موجودة عند كل أحد ولا مجال لإنكارها لأنها حصلت بالاعتبار الّذي هو فعل العرف ، نعم هي لا وجود لها في اعتبار الشارع في بعض الأحيان وذلك لا يعني التخطئة ونفى الوجود والتحقق إذ تحققها في اعتبار العرف امر لا ينكره الشارع المفروض ان واقع الأمر الاعتباري واقع الاعتبار ونفسه.

وملخص الفرق : ان للأمور الواقعية واقعا محفوظا في نفسه تختلف فيه الأنظار ، وليس للأمور الاعتبارية واقع وتقرر ، بل واقعها لا يعدو الاعتبار وواقعه ، فلا تختلف فيه الأنظار. ولأجل ذلك قيل : ان الأمر الواقعي تختلف فيه الأنظار والأمر الاعتباري يختلف باختلاف الأنظار.

وقد حمل المحقق الأصفهاني - بعد ذلك - كلام المحقق صاحب الكفاية على التخطئة في مقام آخر ، وهو مقام اقتضاء السبب للتأثير. ببيان : ان الأثر وان

ص: 285

كان من الأمور الاعتبارية إلاّ ان كون هذا السبب مقتضيا للاعتبار أمر تابع لما يراه العقلاء من مصالح ومفاسد ومقتضيات قائمة بالسبب ، وليس امرا جزافا ، وإلاّ لكان على حد المعلول بلا علة.

وعليه ، فالعقول متفاوتة في إدراك المصالح والمفاسد ، ولا ريب ان نظر العرف يقصر عن إدراك خصوصيات الأمور ودقائقها ، فقد يرى بحسب نظره القاصر صلاحية الشيء للتأثير ولكونه سببا للاعتبار ، ولكن يرى الشارع بحسب نظره الواسع الدّقيق عدم صلاحية ذلك الشيء للسببية وخطأ العرف في نظره فيخطّئه فيه ، فالتخطئة والتصويب في هذه المرحلة دون غيرها ، ويكون المراد من عبارة الكفاية هو تخطئة الشارع العرف في الوجه الباعث على جعل الشيء سببا لا في نفس السبب ولا المسبب (1).

ولكن عرفت ان عبارة الكفاية - بناء على ما حملناها عليه من المعنى - لا تحتاج إلى هذا التكلف ، بل التخطئة والتصويب في تشخيص مصداق الموضوع له وهو العقد المؤثر ، ولو كان الأثر من الأمور الاعتبارية.

واما المقام الثاني : فظاهر صاحب الكفاية كون الموضوع له هو الصحيح بالمعنى الّذي ذكرناه ، وهو العقد الحاوي لجميع جهات التأثير ، بحيث يترتب عليه الأثر من قبل العقلاء بمجرد الالتفات إليه.

ولكن الإنصاف عدم تمامية هذه الدعوى ، فان المرتكز في الأذهان من اللفظ هو المعنى الأعم من الصحيح والفاسد ، فان إطلاق لفظ البيع على بيع الغاصب الّذي لا يرى العرف نفوذه لا يختلف عرفا عن إطلاقه على بيع المالك في كون إطلاق كل منهما حقيقيا لا مسامحة فيه ، وهذا أمر لا يقبل الإنكار بحسب الظاهر ، ولا نعرف الوجه الّذي به نفي صاحب الكفاية استبعاد الوضع للصحيح.

ص: 286


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 59 - الطبعة الأولى.

والّذي تلخص من مجموع ما ذكرنا امران :

الأول : ان الموضوع له اللفظ ليس هو العقد ولا الأثر ، بل التمليك الإنشائي ونحوه من الآثار بوجودها الإنشائيّ ، ويعبر عنه بالسبب وبالمسبب باعتبار لحاظين. وعليه ، لا بد ان تحمل دعوى صاحب الكفاية الوضع للسبب وان كان ظاهرها الوضع للعقد ، إذ قد عرفت انه لا معنى لكون الموضوع له هو العقد.

الثاني : ان الموضوع له أعم من الصحيح والفاسد ، وليس هو خصوص الصحيح.

هذا كله بالنسبة إلى تعيين الموضوع له.

ويقع الكلام بعده في ثمرة النزاع وإمكان التمسك بالإطلاق في ألفاظ المعاملات وعدمه. وبيان الحال : انه قد يدعى عدم إمكان التمسك بإطلاق دليل إمضاء المعاملة لو شك في إمضاء فرد خاص ، بناء على الوضع للصحيح.

وذلك : لأن اللفظ موضوع إلى ما هو المؤثر واقعا أو ما له اقتضاء التأثير بنحو خاص من الاقتضاء - وهو الّذي بيناه - ، فالمراد به حينئذ العقد المؤثر في الملكية الواقعية أو المقتضي للتأثير. فإذا شك في فرد أنه ممضى أو لا يشك - جزما - في أنه مؤثر واقعا أو في أنه مقتضي التأثير أولا. ومعه لا مجال للتمسك بإطلاق اللفظ في إثبات الإمضاء له لعدم إحراز صدق المطلق عليه ، فلا مجال للتمسك بقوله تعالى : « أحل اللّه البيع » في حلية بيع الغرر. إذ الشك في حلية بيع الغرر يرجع إلى الشك في انه مؤثر في الملكية الواقعية أو انه مقتضي للتأثير فيها بنحو يترتب عليه الأثر بمجرد الالتفات إليه ، فلا يحرز مع هذا صدق البيع عليه كي يتمسك بإطلاقه ، إذ الفرض ان لفظ البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا أو ما هو مقتضي للتأثير ، ولا يحرز انطباق إحدى الحقيقتين على بيع الغرر.

وقد تصدى المحقق صاحب الحاشية لتصحيح التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح ، ودفع هذه الدعوى. وتقريب كلامه : ان المدلول المطابقي

ص: 287

للدليل المتكفل إمضاء العقد وان كان هو إمضاء العقد المؤثر واقعا وهو غير محرز الصدق على الفرد المشكوك إمضاؤه ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في إثبات الحكم له ، إلاّ انه حيث لا طريق لدينا من الخارج لتعيين مصداق موضوع الإمضاء وتشخيصه بنحو جزمي فيعين ان هذا العقد مؤثر واقعا في الملكية بنحو يوجب العلم والجزم. كان مقتضى عدم تعرض الشارع في الدليل إلى بيان مصاديق الموضوع والعقد المؤثر وتحديدها بنظر العرف وبحسب الظهور العرفي ، هو الاعتماد على العرف في تشخيص المصداق ، وان ما هو بنظر العرف مؤثر واقعا فهو بنظر الشارع مؤثر. وعليه ، فإذا شك في فرد انه ممضى أولا ، فإذا كان بنظر العرف مؤثرا واقعا شمله الدليل لكونه من افراد الموضوع نعم إذا كان الشك في اعتبار شيء عرفا لم يمكن التمسك بالإطلاق لعدم إحراز كونه - أي الفاقد - من المؤثر واقعا عند العرف أيضا ، فلا يحرز انطباق المطلق عليه وهو مانع عن التمسك بالإطلاق.

وبالجملة : دليل الإمضاء يتكفل بيان أمرين : أحدهما : إمضاء العقد. والآخر : ان ما هو المؤثر واقعا عند العرف مؤثر عند الشارع. والأول يتكفله المدلول المطابقي للكلام. والثاني يتكفله المدلول الالتزامي الاقتضائي. وبذلك يصح التمسك بدليل الإمضاء مع الشك في اعتبار شيء في عقد شرعا لإحراز التأثير واقعا عند العرف فينطبق عليه المطلق. دون الشك في اعتبار شيء عرفا في العقد ، لعدم إحراز كون العقد بدونه مؤثرا واقعا.

وبهذا البيان يصحح التمسك بدليل الإمضاء لو كان الموضوع له اللفظ هو العقد المقتضي للتأثير ، فانه بمثل التقريب المذكور يحمل كلام الشارع على إرادة العقد المقتضي للتأثير عرفا ، وان ما هو كذلك عند العرف كذلك عند الشرع ، فيصح التمسك بدليل الإمضاء مع الشك لإحراز انه مقتض للتأثير

ص: 288

عرفا ، فلاحظ (1).

هذا هو الّذي نعلمه في توضيح كلام المحقق صاحب الحاشية ، وهو الّذي أشار إليه صاحب الكفاية (2). وبذلك يندفع الإشكال ويتضح ان التمسك بدليل الإمضاء ممكن على القول بالصحيح.

ولم يتعرض المحقق النائيني إلى بيان المطلب بشكل مفصل ، بل لم يزد على أكثر من ان الدليل إذا كان في مقام إمضاء الأسباب العرفية ولم يزد شيئا على ما هو سبب عند العرف ، فلا مناص من التمسك بإطلاق كلامه في دفع ما يتوهم دخله (3).

واما المحقق الأصفهاني فقد تصدى لتوضيح كلام صاحب الحاشية بغير ما بيناه. ومحصله : ان البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا ، ونظر العرف والشرع طريق إليه ، فإذا كان المولى في مقام البيان وحكم بنفوذ كل ما هو مؤثر واقعا في الملكية بلا تقييده بمصداق خاص وسبب معين ، يكون هذا الإطلاق حجة على ان ما هو المملك في نظر العرف مملك في نظر الشارع ويكون المتبع في تعيين المصداق هو العرف ، ولا مجال لأن يقال : بان المتبع من نظر العرف هو نظره في المفاهيم دون المصاديق ، وذلك لقيام الحجة الشرعية على جواز اتباعه في تعيين المصداق ، والأخذ بنظره فيها ، وتلك الحجة هي الإطلاق وعدم التقييد ، وقد ارتضى قدس سره هذا التقريب لو لا المناقشة في أساسه من كون الملكية من الأمور الواقعية ، لبنائه على كونها أمرا اعتباريا (4).

وأنت خبير بان هذا التوجيه غير تام ، إذ ليس على المتكلم ان يبين واقع

ص: 289


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين /109- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 48 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 59 - الطبعة الأولى.

المصاديق وتعيين محققات المفهوم المأخوذ موضوعا لحكم من الأحكام ، بل الّذي عليه ان يبين ما هو الموضوع للحكم وقد بينه بأنه المؤثر في الملكية واقعا ، اما مصاديق هذا الموضوع وبيان افراد المؤثر فذلك ليس من وظائفه كي يكون عدم تقييده اللفظ بمصداق معين دليلا على إرادة المصاديق العرفية ، فالطبيب إذا أمر المريض بأكل الحامض ولم يبين مصاديقه لا يعد ذلك دليلا على تحكيم نظر معين في المصاديق. وإلاّ لكان خلف فرض كونه في مقام البيان.

نعم سكوت المولى عن بيان ما هو المصداق مع عدم الطريق إلى تعيينه غير نظر العرف ظاهر عرفا في تحكيم نظر العرف ، كما ذكرنا ، ولكنه أجنبي عن التمسك بإطلاق الكلام في إثبات ذلك كما قرره المحقق الأصفهاني قدس سره ، فانه غير وجيه كما عرفت ، إذ عدم تقييده بمصداق مخصوص كاشف عن إمضاء جميع افراد المؤثر واقعا لا إرادة المؤثر بنظر العرف كما لا يخفى.

هذا كله بناء على كون ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب.

اما بناء على كونها موضوعة للمسببات ، فهل يمكن التمسك بإطلاق الدليل في إثبات صحة المعاملة مع الشك في إمضاء السبب ، كما إذا شك في صحة العقد بالفارسية ونحوه. أولا يمكن ، بل دليل الإمضاء يتكفل إمضاء المسبب دون السبب؟.

وتقريب الإشكال في التمسك بالإطلاق ونفي تكفل دليل إمضاء المسبب إمضاء السبب : ان الدليل انما يتكفل إمضاء المسبب ، وتكفله إمضاء السبب يتوقف على ان يكون نظره إلى ذلك ، إلاّ ان العرف في مثل ذلك لا يرى نظر الدليل إلى ذلك ، بل لا يرى سوى نظره إلى إمضاء المسبب بلا لحاظ أسبابه. وعليه ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق في إثبات إمضاء السبب المشكوك لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، ويشهد لما ذكرنا ملاحظة الموارد العرفية ، فان الشخص إذا أمر أحد عبيده بقتل شخص وعلم من حاله انه يكره استعمال

ص: 290

السكين في القتل ، فانه لا يرى ان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال السكين ، ولو كان الدليل المتكفل لإثبات حكم على المسبب ناظرا إلى جهة السبب لكان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال السكين بنظر العرف. وليس كذلك ، وما ذلك إلاّ لأن العرف لا يرى ان الدليل ناظر إلى جهة السبب وإمضائه.

بهذا الوجه لا بد ان يقرب الإشكال على التمسك بالإطلاق وحاصله : ان العرف لا يرى ان الدليل المتكفل لحكم على المسبب من إمضاء ونحوه ناظر إلى إثبات ذلك الحكم أو لازمه للسبب.

وقد بيّن المحقق النائيني الإشكال بنحو آخر وهو : ان الدليل إذا كان متكفلا لإمضاء المسببات مع قطع النّظر عن الأسباب التي يتوسل بها إليها ، فلا يدل على إمضاء الأسباب العرفية مع وجود القدر المتيقن (1).

ولا يخفى ان هذا ليس تقريبا للإشكال بحسب القواعد ، وأنه أشبه بالقضية المأخوذ موضوعها بشرط المحمول ، إذ فرض فيه عدم النّظر إلى الأسباب في الدليل وأنه مفروغ عنه. وعليه ، فلا يتمسك بالإطلاق. وليس هناك من يدعي - بعد هذا الفرض - إمكان التمسك بالإطلاق حتى يكون هذا تقريبا للإشكال. ثم يدفع بما قرره : من أن نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذي الآلة لا نسبة السبب إلى المسبب ، فليس هناك موجودان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر ، بل موجود واحد. غاية الأمر انه يتنوع بتنوع آلته ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم يقيده بنوع دون آخر يستكشف عمومه لجميع الأنواع.

وأنت خبير بان هذا لا يدفع الإشكال بالنحو الّذي ذكره ، فانه إذا ثبت

ص: 291


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 48 - الطبعة الأولى.

ان الدليل ناظر إلى المسبب لا إلى جهة السبب أو الآلة - كما يسمّيه ( قده ) - لم يصح التمسك بإطلاق دليل إمضاء المسبب والمعاملة في نفي الشك من جهة العقد والآلة ، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة ، سواء كان العقد والمعاملة من قبيل السبب والمسبب أو الآلة وذي الآلة ، إذ وحدة وجودهما لا تصحح التمسك بالإطلاق بعد ان فرض عدم النّظر إلى جهة العقد في الدليل وان النّظر متمحض بجهة المعاملة ، فما قرره من ان العقد والمعاملة موجودان بوجود واحد وليسا موجودين بوجودين لا يجدي في تصحيح التمسك بالإطلاق بعد تقرير الإشكال بما عرفته من نفي نظر الدليل إلى جهة العقد والسبب ، إذ كونه آلة أو سببا لا يغير واقعه وعدم النّظر إليه.

هذا مع ان في ما أفاده مواقع للنظر ، منها : ان ما ذكره تحقيقا لدفع الإشكال عن الشهيد الّذي التزم بان الموضوع له العقود هو الصحيح. مدفوع بما تقدم : من ان إشكال التمسك بالإطلاق يتوجه على بناء الأصحاب على الرجوع إلى مطلقات المعاملات.

ولا يخفى عليك انه يبتني على الوضع للأسباب لا المسببات ، فان الوضع للمسببات مناف للاتصاف بالصحّة باعترافه قدس سره ، فلا ربط لهذا الكلام بدفع الإشكال عن الشهيد.

وما يقال : من انه قدس سره في مقام تحقيق أصل المطلب ، وليس بناظر إلى خصوص دفع الإشكال عن الشهيد.

فهو خلاف ظاهر العبارة. وعليك بالملاحظة تعرف.

وقد حاول السيد الخوئي تصحيح التمسك بالإطلاق بوجه آخر بعد إبطاله لما ذكره المحقق النائيني في وجه التصحيح.

ومحصله : ان ما ذكر انما يصح لو كان المسبب واحدا له أسباب عديدة ، فان إمضاءه لا يقتضي إمضاء أسبابه ، بل لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن

ص: 292

ونفي تأثير المشكوك بأصالة عدم ترتب الأثر. نعم لو لم يكن قدر متيقن أمكن القول باستلزامه إمضاء المسبب إمضاء أسبابه جميعها ، لأن الحكم بإمضاء بعضها دون آخر ترجيح بلا مرجح ، والحكم بعدم إمضائها كلها يستلزم اللغوية. واما بناء على التحقيق من تعدد المسبب بتعدد السبب ، بمعنى ان لكل سبب مسبب على حدّه فإنشاء زيد سبب لملكية غير الملكية الحاصلة بإنشاء عمرو وهكذا ، ولا يختلف ذلك باختلاف مباني الإنشاء فلا يتم ذلك - أعني عدم كون إمضاء المسببات إمضاء الأسباب - ، وذلك لأن كل مسبب لا ينفك عن سببه ، فالدليل المتكفل لإمضاء المسبب بقول مطلق يستلزم إمضاء المسبب مطلقا ، إذ لا ينفك إمضاء المسبب عن إمضاء سببه حينئذ ، وإلاّ لكان إمضاء المسبب لغوا (1).

ولا يخفى ما في هذا الوجه ، فانه لا يصلح ردا للإشكال الذي ذكرناه ، فانه بعد ثبوت ان الدليل المتكفل لإمضاء المسبب لا يكون ناظرا عرفا إلى جهة السبب ويكون مجملا من هذه الجهة ، فلا يجدي تعدد المسبب في إثبات إمضاء السبب المشكوك ، لعدم العلم بإمضاء المسبب الناشئ من السبب المشكوك للشك فيه من جهة السبب ، والمفروض إجمال الكلام من هذه الجهة فلا إطلاق للكلام كي يتمسك به.

ومن هنا يظهر انه لا يجدي في إثبات إمضاء السبب كونه من قبيل المبرز والكاشف عن الاعتبار النفسانيّ لا السبب والمسبب - كما هو مذهب السيد الخوئي في باب الإنشاء - ، وانه ليس لدينا سبب ومسبب ، بل كاشف ومنكشف ، إذ إمضاء الاعتبار النفسانيّ لا يستلزم إمضاء كاشفه - بعد فرض دخله في تحقق الأثر - ، إذا ثبت عدم نظر الدليل عرفا إلى جهة العقد وسمي كاشفا أو سببا أو آلة ، لإجمال الدليل من جهة العقد. نعم لو ادعي - كما ثبت ذلك - كون الموضوع

ص: 293


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 188 - الطبعة الأولى.

له اللفظ هو المركب من العقد والاعتبار النفسانيّ ، فيكون دليل الإمضاء متكفلا لإمضاء الأسباب - أعني العقود - ، لأنه يتكفل إمضاء المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والنكاح ، والمفروض صدق العناوين على المركب فيتمسك بإطلاقها في إثبات إمضاء كل عقد شك في سببيته. لو ادعى ذلك فله وجه ، لكن عرفت ما في أصل المبنى من الوهن.

وللمحقق العراقي كلام مرتبك جدا لا يجدي ذكره وبيان ما فيه فلتلاحظ تقريرات بحثه للآملي (1).

وعليه ، فالذي ينبغي ان يقال في حل الإشكال : ان المراد بالمسبب - كما تقدم - هو التمليك الإنشائي الحاصل بالعقد والّذي يترتب عليه التمليك الاعتباري العقلائي ، ولا يخفى ان نسبة هذا التمليك إلى العقد نسبة العنوان إلى المعنون ، إذ يقال للعقد انه تمليك إنشائي ، نظير نسبة التعظيم إلى الفعل الصادر من المعظم ، فان التعظيم أمر اعتباري لكنه ينطبق على الفعل ويتعنون به الفعل ، ولذلك يسند الفعل والتعظيم إلى الشخص لا العقلاء.

وعليه ، فالذي نقوله : ان أخذ المسبب موضوعا وورود الحكم عليه بهذه الكيفية كورود حكم الإمضاء عليه يختلف عن سائر الأحكام المأخوذ فيها المسبب متعلقا للحكم في كون العرف يرى نظر الدليل المتكفل للأول ناظرا إلى ناحية السبب وجهته دون الدليل المتكفل للثاني. وبعبارة أخرى : ان الحكم إذا رتب على المسبب بلحاظ تحققه في الخارج بحيث أخذ موضوعا يرى العرف ان الدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية سببه ، فإذا قال أحب التعظيم ، يرى العرف ثبوت الحكم لأسباب التعظيم. بخلاف ما إذا رتب الحكم على المسبب بلحاظ إيجاده في الخارج بان أخذ متعلقا فان العرف لا يرى نظر الدليل إلى ناحية

ص: 294


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 140 - الطبعة الأولى.

أسبابه كما لو قال : « عظم زيدا » فانه لا يدل إلاّ على طلب التعظيم ولا نظر له الا إلى جهة التعظيم دون أسبابه ، والمسبب فيما نحن فيه أخذ موضوعا للإمضاء ، فالدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية السبب بنظر العرف.

وجملة المدعى : ان الدليل المتكفل للإمضاء ونحوه يختلف عن غيره بنظر العرف ، فان العرف يرى أنه ناظر إلى جهة الأسباب ، ومعه يمكن التمسك بالإطلاق لكون المتكلم في مقام البيان.

فالجواب يرجع إلى إنكار أساس الإشكال من كون الدليل غير ناظر إلى جهة الأسباب.

ونتيجة ما ذكرناه : انه يمكن التمسك بإطلاق لفظ المعاملة سواء قلنا بوضعه للسبب أو للمسبب ، فلا ثمرة في البحث عن تعيين الموضوع له منهما.

يبقى في المقام أمر تعرض إليه صاحب الكفاية ، ومحصله : ان الشيء الّذي يتعلق به الأمر الدخيل في المأمور به ..

تارة : يكون مقوما للمأمور به ونفس الماهية بنحو الجزئية أو الشرطية كالسورة والطهارة.

وأخرى : يكون مقوما للفرد والتشخص بنحو الجزئية أو الشرطية أيضا ، كالصلاة في المسجد والصلاة جماعة والقنوت في الصلاة.

وثالثة : لا يكون مقوما لأحدهما ، وانما تكون نسبة المأمور به إليه نسبة الظرف إلى المظروف ، بمعنى ان المأمور به أخذ ظرفا له لا أكثر ، كالتصدق في الصلاة فيما لو نذره ، فان التصدق خارج عن حقيقة الصلاة ماهية وفردا (1).

ولا بد من معرفة صحة التقسيم إلى هذه الأقسام الخمسة ومعرفة المقصود من هذا التقسيم.

ص: 295


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /33- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فنقول : ان جزء التشخص والفرد أو شرطه لا يعلم له محصل الا في بعض الموارد المذكورة له ، وذلك لأن ما يتقوم به الفرد مع قطع النّظر عن ماهيته عبارة عن لوازم وجوده غير المنفكة عنه كالمكان والزمان ، اما ما ينفك عنه فلا يعد مقوما للفرد ، بل من عوارضه. ولأجل ذلك لا يتصور ان يكون شيئا مأخوذا مقوما للفرد إلا مثل كون الصلاة في المسجد باعتبار تقوم الفرد بمكان ما ومنه المسجد ، لأن من لوازم وجود الصلاة وقوعها في مكان ما من الأمكنة. أما مثل الصلاة جماعة أو القنوت في الصلاة فلا يعقل ان يكون مقوما للفرد ، لأنه ليس من لوازم وجوده بل يمكن ان ينفك عن الصلاة فلا تقع جماعة ولا يؤتى بالقنوت في الصلاة. مضافا إلى ان وجوده لو كان لم يكن من باب اللزوم والقهر وعدم إمكان تجرد الوجود عنه ، بل من جهة اعتباره شرعا والأمر به من قبل الشارع ، ومثل هذا لا يعد من لوازم الوجود كي يكون من مقومات الفردية والتشخص.

وإلى هذا الإشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، وأجاب عنه بما لا يعد الألفاظ من دون ان يكون له معنى محصل ظاهر فلاحظه (1).

ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكان تصور مثل القنوت مقوما للفرد والتشخص ، فالذي يظهر لنا بعد التأمل ان نظر صاحب الكفاية إلى الجزء المستحب دون الجزء الواجب ، وذلك لأن الأمر يتعلق بالمركب من الاجزاء ، فالجزء الواجب المدعى كونه جزء الفرد لا الطبيعة اما ان يكون متعلقا لوجوب آخر غير الوجوب المتعلق بالاجزاء الأخرى فيكون من القسم الخامس - أعني الواجب في واجب وليس جزء للفرد - ، واما ان يكون متعلقا لنفس الوجوب المتعلق بالاجزاء الأخرى فلا يعقل ان يختلف عنها ، لأن الوجوب يتعلق بها جميعا

ص: 296


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 61 - الطبعة الأولى.

بنحو واحد وعلى شكل متحد ، فيمتنع ان يفرض كون أحدها جزء الفرد والأخرى اجزاء الطبيعة والمأمور به. مضافا إلى انه لا يختلف عن سائر الاجزاء في الأثر وان عد جزء الفرد لاتحاد الوجوب المتعلق بها. وعليه فلا بد ان يفرض الجزء المأخوذ مقوما للفرد جزء مستحبا كي يرتفع الإشكال - كما سيتضح -. وعليه فتبنى صحة ذلك على تصور الجزء المستحب للواجب وإمكانه ثبوتا. وقد قيل بامتناعه في الواجب ذي الاجزاء الارتباطية ، نظرا إلى ان مرجع الارتباطية إلى ارتباط الاجزاء بعضها مع بعض في مقام الامتثال ، الّذي يعني : ان امتثال كل جزء انما يحصل بالإتيان بالاجزاء الأخرى بحيث انه مع عدم الإتيان بأحدها لا يحصل امتثال المجموع ، فالارتباطية ترجع إلى تقيد امتثال كل منها بالإتيان بالآخر.

وعليه ، فامتثال الاجزاء الواجبة اما ان يكون متوقفا على الإتيان بالجزء المستحب ، بمعنى انها مرتبطة به في مقام الامتثال. واما ان لا يكون كذلك ، بل يتحقق الامتثال بدون الإتيان به.

فعلى الأول ، يلزم ان يكون الجزء واجبا ولازما لا مستحبا لتوقف الامتثال عليه وهو خلف الفرض.

وعلى الثاني ، يلزم ان لا يكون جزءا للواجب.

وعليه ، فالجزء المستحب للواجب غير معقول ثبوتا.

فما يعبّر عنه بالجزء المستحب للصلاة كالقنوت اما ان يحمل على كونه مستحبا في واجب ، فيكون من القسم الخامس كالواجب في الواجب ، بمعنى ان ظرفه الواجب لا انه جزء الواجب. واما ان يحمل - كما صرح به - على تعلق امر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على هذه الخصوصية غير الأمر الوجوبيّ المتعلق بنفس الطبيعة. نظير ما يقال في توجيه الكراهة في بعض العبادات ، من ان الأمر التنزيهي لم يتعلق بنفس العبادة كي يتنافى مع رجحانها

ص: 297

والأمر بها وعباديتها ، بل هو متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ ، فالامر التنزيهي متعلق بتطبيق الصلاة على الصلاة في الحمام لا بنفس الصلاة في الحمام ، ومثله ما نحن فيه ، فان الأمر الاستحبابي متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على الخصوصية كالصلاة مع القنوت أو جماعة. فهناك أمران : أحدهما :

متعلق بذات الطبيعة وهو الوجوبيّ. والآخر : متعلق بتطبيقها على فرد خاص وهو الاستحبابي.

لكن التحقيق يقضي بإمكان تصور الجزء المستحب للواجب ومعقوليته ثبوتا. بيان ذلك : ان الخصوصية الزائدة على أصل الطبيعة المتعلقة للإرادة والأمر ..

تارة : تكون ذات مصلحة مستقلة بلا ارتباط لمصلحة الطبيعة بها ، بحيث يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى تحقق مصلحة الطبيعة بحدّها على حدّ سواء وبلا تفاوت ، فمصلحة الطبيعة تتحقق بتمام حدّها جيء بالخصوصية أو لم يؤت بها. ونظير ذلك ما إذا تعلق الأمر والإرادة بالصلاة ثم تعلقت الإرادة بالتصدق حال الصلاة باعتبار النذر ، فان التصدق لا يزيد من مصلحة الصلاة ولا يوجب تفاوتها عما لو لم يتحقق في أثنائها ، لاستقلال مصلحته عن مصلحة الصلاة ، ومثله ما لو تعلقت الإرادة والأمر بإعداد وليمة لزيد وكان الآمر يرغب في نفسه لبس القباء الأبيض ، فان لبس المأمور به القباء الأبيض وعدمه في الوليمة لا يوجب تفاوت نفس الوليمة في المصلحة ، بل لكل منهما مصلحة وأمر يترتب عليه الثواب ونحوه ، والأمر بهذا النحو يكون من المطلوب في مطلوب كالمستحب أو الواجب في واجب ، ويكون لكل من الأمرين امتثال على حدة.

وأخرى : لا تكون لها مصلحة مستقلة ، بل مصلحته ضمنية مرتبطة بمصلحة الطبيعة ، بحيث تتفاوت مصلحة الطبيعة بوجودها وعدمها ، كما لو تعلقت الإرادة بإعداد الغذاء وكانت خصوصية كونه من الرّز مرغوبا فيها ، فان وجود خصوصية الرّز في الغذاء يوجب تفاوت مصلحة الغذاء عما لو لم تكن

ص: 298

موجودة بل كان من الحنطة.

ومثل هذه الخصوصية لا يمكن ان تكون متعلقة للأمر الاستحبابي بنفسها لعدم استقلالها في المصلحة ، والأمر تابع لملاكه من المصالح ، فإذا لم يكن فيها مصلحة مستقلة امتنع تعلق امر مستقل بها لعدم ملاكه. وعليه ففي هذه الصورة لا يمكن ان يلتزم يكون الخصوصية من قبيل المطلوب في المطلوب ، فيدور الأمر ثبوتا بين ان يتعلق الأمر الاستحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على الخصوصية ، أو يتعلق الأمر الاستحبابي بنفس الطبيعة مشتملة على الخصوصية ، فيكون هناك أمران أمر وجوبي بذات الطبيعة وأمر استحبابي بالطبيعة بقيد الخصوصية ، ولما امتنع اجتماع أمرين في شيء واحد لأنه من اجتماع الضدين ، يتداخل هذا الأمران وينقدح عنهما امر وجوبي مؤكد بالطبيعة مع الخصوصية.

فالامر يدور بين هذين الاحتمالين : تعلق أمر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ. وتعلق أمر وجوبي مؤكد بالطبيعة المشتملة على الخصوصية. ولا محذور في هذا الأخير ، بل هو الثابت في التكوينيات ، فان من يرغب في الغذاء ويرغب في ان يكون من الرز يجد في نفسه إرادة مؤكدة تتعلق بالغذاء من الرّز ، وإرادة غير مؤكدة تتعلق بأصل الغذاء ، ومن هاتين الإرادتين ينقدح الأمر ، فيكون هناك امر بنفس الطبيعة وأمر آكد بالغذاء من الرّز.

وبعد هذا ، ففيما نحن فيه حيث يظهر من الأدلة انّ مثل القنوت ونحوه من اجزاء الصلاة ، فيكون مقتضى ذلك ارتباط مصلحة القنوت بمصلحة الصلاة بحيث تتفاوت مصلحة الصلاة بوجود القنوت وعدمه. وعليه ، فلا يمكن تعلق امر مستقل به حيث يكون من قبيل المطلوب في مطلوب ، لعدم وجود ملاك الأمر المستقل فيه ، بل يدور الأمر بين أن يكون الأمر الاستحبابي متعلقا بتطبيق الطبيعة على الفرد أو يكون متعلقا بالطبيعة مع الخصوصية ويتداخل مع الأمر الوجوبيّ المتعلق بالطبيعة الشامل لمورد الخصوصية فينقدح عنهما أمر وجوبي آكد

ص: 299

بالطبيعة بقيد الخصوصية ، إلاّ انه حيث كانت المصلحة الموجبة للتأكد غير ملزمة - كما دل على ذلك الدليل - جاز ترك الخصوصية اختيارا لتعلق الأمر بنفس الطبيعة - إذ لو كانت ملزمة امتنع تعلق الأمر بنفس الطبيعة ، ولو كانت ذات مصلحة ملزمة نظير مصلحة الجهر ، فان الإلزام بالجهر مع الاكتفاء بالصلاة الإخفاتية حال النسيان والغفلة كاشف عن ان الصلاة الإخفاتية ذات مصلحة ملزمة ، إلا ان الجهرية ذات مصلحة ملزمة آكد بحيث يلزم بها المكلف مع الالتفات ويرتفع الأمر بكلي الطبيعة ويتعين الأمر بالطبيعة بخصوصية الجهر ، وان اكتفى بالإخفاتية مع الغفلة لعدم إمكان تدارك مصلحة الجهر وان كانت ملزمة كما هو مقتضى دليل الاكتفاء - ، فيمتثل نفس الأمر بالطبيعة دون الأمر الآكد المتعلق بها مشتملة على الخصوصية. ومن هنا صح تسمية القنوت بالجزء المستحب ، فانه وان كان متعلقا للأمر الوجوبيّ الآكد كسائر الاجزاء ، إلاّ انه حيث علم بالدليل جواز تركه وعدم العقاب على عدم إتيانه بحيث لا تترتب عليه آثار الواجب كان مستحبا أو بمنزلة المستحب ، لأن المكلف وان ترك هذا الفرد إلاّ انه جاء بفرد آخر بديل له ومتعلق للأمر بالطبيعة ، والمصلحة التي يشتمل عليها هذا الفرد الموجبة لتأكد الوجوب غير ملزمة فلا مانع من تركه. وبعبارة أخرى : المكلف لم يخالف في الحقيقة إلا جهة التأكد لا أصل الأمر ، وهي غير ملزمة فلا مانع من مخالفتها.

وعلى كل ، فالامر ثبوتا يدور بين هذين الاحتمالين ، إذ كل منهما معقول ثبوتا ، إلاّ ان الثاني أولى إثباتا من الأول ، وذلك لأن الأمر يتبع الملاك والمصلحة وهو يتعلق بما فيه الملاك ، ومقتضى ذلك ان يتعلق الأمر الاستحبابي بالطبيعة المشتملة على الخصوصية فانها تحوي المصلحة والملاك ، لا تعلقه بتطبيق الطبيعة على الفرد ، فان نفس التطبيق لا يشتمل على المصلحة وان أوصل إليها وأنهى إلى حصولها.

ص: 300

وعليه ، فتصور الجزء المستحب للواجب ممكن ، إذ عرفت ان الأمر الوجوبيّ المؤكد يتعلق بالطبيعة بقيد الخصوصية ، وتكون الخصوصية متعلقة للأمر الوجوبيّ ضمنا ، لكنها في نفس الوقت يجوز تركها ومن هنا يسمى الجزء مستحبا وان كان متعلقا للأمر الوجوبيّ ، بلحاظ عدم ترتب آثار الوجوب عليه.

وعلى هذا فلا بد من ان يكون الإتيان بالقنوت بداعي الأمر الصلاتي لا امره ، إذ لا امر يتعلق به كما لا يخفى.

ثم انه تظهر الثمرة في الالتزام بالجزء المستحب في موارد :

منها : عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في صحة الصلاة وهو في التسليم - لو قيل باستحبابه - بناء على الالتزام بأنه جزء مستحب للصلاة ، لعدم تحقق الفراغ من الصلاة المقوّم للقاعدة بخلاف ما لو التزم بأنه مستحب في واجب أو كون المستحب تطبيق الطبيعة على الفرد الخاصّ فان القاعدة تجري لتحقق الفراغ عن الصلاة بانتهاء التشهد لعدم تقوم الصلاة بالتسليم وكونه من اجزائها.

ومنها : جريان قاعدة التجاوز فيما لو شك في السورة وهو في القنوت بناء على الالتزام بأنه جزء مستحب فيما لو التزم في صحة جريان القاعدة ان يكون كل من المشكوك والمدخول فيه مرتبطا بالآخر في المحل المجعول له ، بمعنى ان يكون الغير الداخل فيه مرتبا على المشكوك وان يكون المشكوك مأخوذا سابقا على الغير - ولأجل ذلك بني على عدم جريان القاعدة فيما لو شك في التسليم أو الصلاة وهو في التعقيب ، لأن التعقيب وان كان محله متأخرا عن الصلاة شرعا إلاّ انه لم يؤخذ في الصلاة سبقها على التعقيب إذ لا إشكال في صحتها بدون التعقيب - بخلاف ما لو لم يلتزم بكونه جزء مستحبا ، بل كونه مستحبا في واجب أو كالمستحب في الواجب ، وذلك لأنه مع كونه من اجزاء الصلاة يكون كل منهما مرتبطا بالآخر ويؤخذ السابق سابقا على القنوت ومقيدا بترتب القنوت عليه ،

ص: 301

فيتحقق ملاك القاعدة. واما إذا كان مستحبا في واجب أو نحوه لم يكن مثل السورة مأخوذا سابقا على القنوت لعدم لزوم الإتيان به وعدم كونه من اجزاء الصلاة كي يفرض الترتب بينها.

ومنها : ما لو جاء بالقنوت فاسدا ، أو لم يأت به بالمرة فانه بناء على عدم كونه جزء مستحبا بل مستحبا في واجب أو نحوه لا يوجب فساد القنوت فساد الصلاة بالمرة ، لأنه لا يرتبط بأمر الصلاة ، بل هو امتثل أمر الصلاة بالإتيان بسائر الاجزاء وخالف امر القنوت وهو مستقل عن امر الصلاة كما هو المفروض.

واما بناء على كونه جزء مستحبا فقد يقال بكون فساده موجبا لفساد الصلاة لأنه جزؤها ، والمركب ينتفي بانتفاء أحد اجزائه ، إلاّ انه ينبغي التفصيل بين ما لو كان قصده الإتيان بالمأمور به بالأمر الصلاتي المؤكد بنحو التقييد ، وما لو كان قصده الإتيان بالمأمور به بالأمر الصلاتي لكنه اعتقد أنّ القنوت دخيل فجاء به فاسدا من باب الخطاء في التطبيق.

فعلى الأول ، تبطل الصلاة ، لأن المقصود امتثاله ، وهو الأمر المؤكد ، لم يمتثل ، وغيره لم يقصد امتثاله ، فلا يكون المأتي به امتثالا له.

وعلى الثاني ، لا تبطل لأنه جاء بما يوافق الأمر الصلاتي المقصود موافقته ، وترك القنوت أو فساده لا يضير فيه وان اعتقد لزوم الإتيان به ودخله في الصلاة.

وعلى كل ، فالثمرة موجودة في هذا المورد ولو في بعض صور الفرض.

وهناك موارد كثيرة للثمرة ، تظهر بملاحظة باب الخلل في الصلاة ، ولا حاجة لذكرها بعد بيان الموارد الثلاثة لها.

ولعل نظر صاحب الكفاية في عقد هذا الأمر إلى بيان الجزء المستحب وإمكانه فلاحظ. اما دخول أي الأقسام في المسمى وعدمه فذلك معلوم مما تقدم في بيان معنى الصحة وتحديدها ، فلا نعيد فلاحظ ، وتأمل واللّه ولي التوفيق والتسديد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 302

الاشتراك

هذا المبحث عديم الجدوى والأثر ، وانما تعرض إليه الأعلام تمهيدا للمبحث التالي وهو : « استعمال اللفظ في أكثر من معنى » وان لم يبتن عليه ، ولأجل هذا كان الاعراض عن تحقيق الأقوال فيه أولى ، وان كان إمكانه ، بل وقوعه من الأمور البديهية تقريبا ، وما قيل في امتناعه أو وجوبه يعلم وهنه مما جاء في رده في الكفاية (1) وغيرها. ولكن السيد الخوئي جزم باستحالته بناء على ما ذهب إليه في معنى الوضع من انه تعهد تفهيم المعنى عند ذكر اللفظ ببيان مفصل مذكور في تقريراته (2). ولا يهمنا التعرض إليه بعد ان تقدم منّا بيان فساد أصل المبنى ووهن كون الوضع عبارة عن التعهد بجميع محتملاته ، وبالخصوص المحتمل الّذي يبني عليه هنا ، فلاحظ وراجع.

ص: 303


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /35- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 202 - الطبعة الأولى.

ص: 304

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

هذا المبحث من المباحث المهمة التي تعرض لتحقيقها الاعلام ، وله آثار فقهية عملية تعرف في محلها من أبواب الفقه ، فمن الموارد التي يظهر فيها أثر هذا البحث ما إذا جاء امر واحد بالأذان والإقامة معا ، فان مقتضى ظاهر الأمر كونه وجوبيا وكون الطلب المدلول له إلزاميا. ثم جاء دليل منفصل يدل على عدم وجوب الأذان وكونه مستحبا وليس بواجب. فمقتضى الجمع العرفي تقديم الدليل المنفصل وحمل الأمر المتعلق بالأذان على الأمر الاستحبابي لا الوجوبيّ فيتصرف في ظاهره. فإذا بني على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، أمكن البناء على ظهور الأمر في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة لعدم الموجب لرفع اليد عنه ، والبناء على إرادة الاستحباب منه بالنسبة إلى الأذان للقرينة ، إذ لا يمتنع إرادة الوجوب والاستحباب من الأمر في استعمال واحد. واما إذا بني على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى كان الدليل المنفصل موجبا للتصرف في ظهور الأمر وحمله على الاستحباب أو على الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب بالنسبة إلى الإقامة والأذان كليهما ، إذ إبقاؤه على ظهوره في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة وحمله على الاستحباب بالنسبة إلى الأذان يلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممتنع كما هو الفرض ، فلا بد ان يحمل على معنى واحد

ص: 305

بالنسبة إلى كليهما يتفق مع الدليل المنفصل وهو الاستحباب أو الجامع ، ويعلم إرادة الفرد الاستحبابي بالقرينة المنفصلة الموجودة.

هذا أحد الموارد التي يظهر فيها أثر هذا المبحث. وغيره كثير يشار إليه في محله.

ثم انه لا بد من معرفة محور الكلام وموضوع النزاع الّذي يدور في كلمات الاعلام بين النفي والإثبات أو التفصيل. لأنّ تصور استعمال اللفظ في أكثر من معنى بنحو واضح الإمكان وبنحو واضح الاستحالة بحيث لا يكون الإمكان والامتناع بتقديريه امر يحتاج إلى بيان ومورد الخلاف ، فانه ...

ان أريد باستعمال اللفظ في أكثر من معنى استعماله في معان متعددة مستقلة غير مرتبطة إلاّ انه بكشف واحد ، نظير العام الاستغراقي الّذي يراد به كل فرد فرد بلا ارتباط له بغيره من الافراد ويجعل اللفظ العام كاشفا عن الجميع - ان أريد من الاستعمال في أكثر من معنى ذلك - ، فهو واضح الإمكان ، لبداهة صحة استعمال العام وإرادة افراده بنحو الاستغراق والشمول ولا يرى في ذلك أي محذور مما قد يتصور ، ولا يتوقف في صحته أحد.

وان أريد منه استعماله في كل معنى على حدة ومستقلا بحيث لا يلحظ مع معنى آخر ولا يستعمل اللفظ في غيره ، فهذا واضح الاستحالة إذ الاستعمال في المتعدد خلف فرض التزام ان لا يكون معه آخر ولا يلحظ غيره بلحاظ آخر.

إذن فما هو موضوع الكلام؟ وما الّذي يتصور في استعمال اللفظ في أكثر من معنى مما يقبل الخلاف والنزاع؟.

موضوع النزاع هو ما أشار إليه صاحب الكفاية : من انه استعمال اللفظ في كل معنى بنحو الاستقلال ، وبان يكون اللفظ كاشفا عن كل منهما مستقلا ، فيكون بمنزلة ان يستعمل فيهما مرتين وعلى حدة ، بحيث يكون هناك كشفان ، ويكون هذا الاستعمال بمنزلة استعمالين لاشتماله على خصوصياتهما.

ص: 306

هذا هو محل النزاع ، فقد اختلف في إمكانه وامتناعه. وظاهر صاحب الكفاية هو ابتناء الإمكان والامتناع على حقيقة الاستعمال (1) ، فان كان الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى كان الاستعمال في أكثر من معنى ممكنا ، إذ لا يمتنع ان يكون الشيء الواحد علامة وكاشفا عن أمرين مع كونه ملحوظا بلحاظ واحد ، كما هو شأن العلامة ، فانه من الظاهر إمكان نصب العلم لغرض بيان جهتين كرأس الفرسخ وأرض بني فلان. وان كان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى بجعله مرآة ووجها له بحيث يكون كأنه هو الملقى رأسا كان الاستعمال في المتعدد ممتنعا ، وذلك لأن الاستعمال إذا كان كذلك استدعى ان يلحظ اللفظ آلة وطريقا إلى المعنى لفنائه فيه فناء الوجه في ذي الوجه. وعليه فاستعماله في معنيين يستلزم إفناءه مرتين ، وهو يقتضي ان يلحظ بلحاظين آليين وهو ممتنع لاستحالة اجتماع المثلين في شيء واحد في آن واحد - كما تحقق في محله - ، ولامتناع ان يعرض الوجود على الموجود بما هو كذلك ، فيمتنع ان يتعلق اللحاظ بما هو ملحوظ ، إذ الموجود لا يوجد ثانيا بوجود آخر ، كما لا يخفى ، ولا يتأتى هذا الكلام بناء على كون الاستعمال جعل اللفظ علامة ، إذ لا يستلزم لحاظ اللفظ آلة ، بل يمكن تعلق اللحاظ الاستقلالي به ويقصد به تفهيم معنيين كما هو واضح.

إلاّ انه قد ذكر لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بناء على كونه جعل اللفظ علامة ، محذور.

وتقريبه - كما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني (2) - : ان جعل اللفظ علامة للمعنى معناه انه سبب لحصول العلم والانتقال إلى المعنى ، فهو سبب

ص: 307


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /36- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 63 - الطبعة الأولى.

للاعلام والتفهيم الّذي معناه إيجاد العلم والفهم. وعليه ، فيمتنع ان يكون اللفظ محققا لإعلامين وتفهيمين لامتناع ان يكون الوجود الواحد إيجادين لاتحاد الوجود والإيجاد حقيقة وتغايرهما اعتبارا.

ولكنه يشكل أولا : بان اتحاد الوجود والإيجاد ذاتا وحقيقة لا يرتبط بما نحن فيه أصلا ، إذ الوحدة بلحاظ ما يضاف إليه الوجود والإيجاد معا ، وهو مختلف فيما نحن فيه فان الوجود الواحد هو وجود اللفظ خارجا ، والإيجاد المتعدد هو إيجاد المعنى وإحضاره في الذهن ، وأي شخص يدعي ضرورة وحدة الوجود الخارجي مع الإيجاد الذهني كي يستحيل تعدد أحدهما وحدانية الآخر.

ولو تنزل ولوحظ اللفظ بوجوده الذهني في ذهن المخاطب بحيث يكون كل منهما موطنه الذهن وهو ذهن المخاطب ..

فيشكل ثانيا : بان الوجود الواحد وجود للفظ ، وهو انما يقتضي وحدانية إيجاده لا إيجاد المعنى ، إذ وجود اللفظ في الذهن يباين ويغاير وجود المعنى فيه ، ومقتضى وحدة الوجود والإيجاد في الذات مغايرة إيجاد اللفظ لإيجاد المعنى حقيقة لتغاير وجوديهما كذلك ، فلا محذور في وحدة وجود اللفظ وإيجاده مع تعدد وجود المعنى وإيجاده. فلاحظ وتدبر.

وقد أورد (1) على دعوى امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى بالنقض بموردين :

المورد الأول : العموم الاستغراقي ، ويتصور النقض به بوجهين :

أحدهما : ان كل فرد من افراد العام ملحوظ مستقلا وعلى انفراده ، فكما صحّ تعلق الحكم الواحد بكل فرد على انفراده كذلك يصحّ استعمال اللفظ الواحد في كل معنى على انفراده عند لحاظ المعاني كل على حدة.

ص: 308


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 64 - الطبعة الأولى.

وفيه : ان نحو تعلق الحكم يختلف عن الاستعمال ، فان اللفظ في حال الاستعمال يكون فانيا في المستعمل فيه ، وليس كذلك الحكم ، فانه لا يفنى في موضوعه ، بل لا يتوقف إلاّ على تصور موضوعه بأيّ نحو كان ، فلا محذور في الحكم على المتعدد.

ثانيهما : ان افراد العام قد لا تكون متناهية ، فلا يمكن لحاظ كل منها بنحو الاستقلال والحكم عليها ، بل يحكم عليها بتوسط عنوان يكون كاشفا عنها ، ويكون لحاظه لحاظا لها. فعليه فكما يمكن ان يكون المفهوم الواحد فانيا في افراده المتعددة كذلك يمكن ان يكون اللفظ الواحد فانيا في المعاني المتعددة. أو يقرّب : بان لحاظ العنوان إذا كان لحاظا لمطابقاته بوجه ، وكان اللازم لحاظ الافراد مستقلا في مقام الحكم ، لزم تعلق لحاظات استقلالية بالعنوان متعددة بعدد افراده الواقعية ، فكما يصح ذلك فليصح تعدد اللحاظ في اللفظ.

وفيه : ان ألفاظ العموم غير فانية وحاكية عن كل فرد فرد مستقلا ، أما ما كان من قبيل : « كل عالم ، والعلماء » فواضح ، ضرورة عدم انطباق عنوان العلماء على كل فرد من افراد العالم ، وهكذا كل عالم بل هو عنوان لجميع الافراد ، فليس هذا العنوان الا فانيا في الجميع بفناء واحد. وأما ما كان من قبيل المطلق الشمولي كالعالم ، فلأنه بمادته وهيئته موضوع للذات المتلبسة بالمبدإ ، فهو موضوع للطبيعة المهملة ، فلا يمكن ان يكون عنوانا لكل فرد وفانيا فيه لعدم انطباقه على الخصوصيات بعد ان كان موضوعا للطبيعة ، فاستفادة العموم منه بدليل آخر وقرينة خارجية.

وبالجملة : فليس من العمومات ما يكون عنوانا لكل فرد بانفراده كي يكون فانيا فيه فيتعدد فناء العنوان ويصح النقض به على ما نحن فيه.

المورد الثاني من موردي النقض : الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فانه كما يمكن وضع اللفظ إلى كل واحد من الافراد بخصوصه بتوسط عنوان

ص: 309

عام ، فليكن كذلك باب الاستعمال ، فيستعمل اللفظ في كل واحد من المعاني بتوسط عنوان عام.

ويدفع هذا النقض : بالفرق بين باب الاستعمال وباب الوضع ، بان اللفظ يكون في باب الاستعمال فانيا في المعنى وليس كذلك في باب الوضع ، فانّه ملحوظ بالاستقلال. واما نفس الوضع فهو كالحكم لا يحتاج إلاّ إلى لحاظ الموضوع له ، فلاحظ.

ثم انه قد ذكر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى وجه آخر غير ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية. وبيانه بالإجمال : ان لازم استعمال اللفظ في أكثر من معنى اجتماع لحاظين للمعنيين في آن واحد وهو ممتنع (1).

ويندفع هذا الوجه بما حقق من قابلية النّفس لحصول صورتين لمعنيين في آن واحد ، ويستشهد على ذلك بشواهد :

منها : ان الشخص قد يفعل فعلين في آن واحد ، كأن يقرأ ويكتب مع ان الفعل امر اختياري يتوقف على اللحاظ والتصور ، فانه من مبادئ الإرادة.

ومنها : الحكم على الموضوع بالمحمول ، فانه يتوقف على لحاظ كل من المحمول والموضوع كي يتّجه حكمه به عليه وحمله على الموضوع.

وبالجملة : فاندفاع هذا الوجه واضح.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، توضيحه : إن الاستعمال عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ بوجود تنزيلي ، بمعنى ان يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، وبما ان الإيجاد متحد مع الوجود حقيقة وذاتا وان اختلف بحسب الاعتبار امتنع استعمال اللفظ في معنيين ، إذ يستحيل ان يكون الوجود الواحد إيجادا لكل من المعنيين بنحو يكون إيجادين

ص: 310


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 64 - الطبعة الأولى.

للمعنيين ، نعم الوجود الواحد يكون إيجادا لكلا المعنيين ممكن ، لكن ان يكون إيجادين ممتنع ، لأنه إذا كان إيجادا لهذا المعنى فقد امتنع ان يكون في نفس الوقت إيجادا آخر للمعنى الآخر.

هذا توضيح ما ذكره ، وقد اختلف تعبيراته. فعبر في الحاشية : بان الاستعمال إيجاد المعنى تنزيلا (1). وعبر في الأصول على النهج الحديث : بأنه إيجاد للمعنى بالعرض (2). وعلى كل فغرضه ما ذكرناه من امتناع ان يكون الوجود الواحد إيجادا لهذا المعنى وإيجادا لذلك المعنى.

وقد أورد عليه :

أوّلا : بان الوجود الواحد لا يمكن ان يكون إيجادا لمعنيين انما هو في الوجود الحقيقي العيني لا التنزيلي ، لأنّ التنزيل ترجع سعته وضيقه إلى المنزل ، فيمكن ان ينزل اللفظ منزلة المعنيين.

وثانيا : بان الشيء الواحد يمكن ان يكون وجودا بالعرض لمعان متعددة إذ يمكن ان يتعنون الشيء بعناوين متعددة بلا كلام (3).

ويردّ الأول : بان المدعى امتناع كون اللفظ الواحد إيجادين لمعنيين ولو تنزيلا لا إيجادا لهما. فإمكان تنزيل اللفظ منزلة المعنيين لا يعني إمكان كون اللفظ إيجادين لمعنيين.

ويردّ الثاني : بان تعدد العناوين المنطبقة على شيء واحد انّما هو لتعدد الجهات التي يشتمل عليها الشيء ، فينتزع عن كل جهة عنوان خاص ، وإلاّ فيمتنع انتزاع عناوين متعددة عن جهة واحدة في الشيء كما لا يخفى.

ص: 311


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 64 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث /42- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 148 - الطبعة الأولى.

والمتحصل : ان ما ذكره المحقق الأصفهاني وجيه في نفسه ، إلاّ أنّ الإشكال في أصل مبناه ، وهو كون الاستعمال إيجاد المعنى تنزيلا باللفظ ، فانه وان وقع في كلام الفلاسفة ، إلاّ انه لا يعلم له وجه ظاهر ولم يذكر دليل عليه ، بل هو يقع في الكلمات بنحو إرسال المسلمات ، فهو قابل للإنكار لأنه دعوى بلا دليل ، بل قد مر عليك ما يوهنه من عدم تصور معنى معقول لتنزيل اللفظ منزلة المعنى فراجع (1).

والّذي ننتهي إليه انّ امتناع الاستعمال في أكثر من معنى وإمكانه يبتني على تفسير الاستعمال وحقيقته ، وكونها إفناء اللفظ في المعنى أو جعله علامة عليه ، فيمتنع على الأول ويمكن على الثاني كما تقدم.

وقد بنى السيد الخوئي كون حقيقة الاستعمال أحد هذين المعنيين على ما يختار في حقيقة الوضع ، فان اختير انها تنزيل اللفظ منزلة المعنى كان الاستعمال إفناء للفظ في المعنى وإيجادا للمعنى باللفظ ، فيمتنع ان يكون الاستعمال في أكثر من معنى كما عليه صاحب الكفاية. وان اختير - كما هو الحق لديه - ان حقيقة الوضع هي التعهد والقرار كان الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى ، لأن الاستعمال ليس إلاّ فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لإبراز ما قصد المتكلم تفهيمه ، فلا مانع من ان يكون علامة لإرادة المعنيين المستقلين. كما ان تفسير الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له أو بجعل اللفظ على المعنى اعتبارا لا يستدعي فناء اللفظ في المعنى في مقام الاستعمال.

والّذي ينتهي إليه أخيرا هو جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأنه يختار كون حقيقة الوضع هي التعهد الّذي لازمه كون الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى المقتضي لإمكان الاستعمال في أكثر من معنى (2).

ص: 312


1- راجع 1 / 58 من هذا الكتاب.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 207 - الطبعة الأولى.

هذا محصل كلامه. ولكنه غير سديد ، وذلك لأن حقيقة الاستعمال وكونها إفناء اللفظ في المعنى أو جعل اللفظ علامة للمعنى لا ترتبط بحقيقة الوضع ولا تبتني عليها أصلا ولم يظهر وجه الملازمة بينهما ، بل يمكن دعوى ان الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى ولو ادعى ان الوضع هو التعهد ، إذ ما يحصل بالوضع أيا كانت حقيقته هو العلاقة بين اللفظ والمعنى والارتباط بينهما ، فيكون اللفظ قابلا للكشف عن المعنى ، فيتكلم حينئذ ان الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة للمعنى أو جعله مرآتا له؟ ، سواء كان الوضع هو التعهد أو غيره ، وما يستدل به على أحد الطرفين في باب الاستعمال جار على جميع تقادير الوضع ، وما ادعي من الملازمة لا يعلم له وجه.

ويشهد لذلك : بعض الموارد العرفية ، فمثلا لو تعهد شخص بأنه متى ما أراد ان يقرأ فهو يضع النظارة على عينيه ويستعملها ، أو متى ما أراد ان يرى وجهه يستعمل المرآة ، فانه إذا استعمل النظارة أو المرآة جريا على طبق تعهده لا يشك أحد أن كلا من النظارة والمرآة يكون فانيا في المقصود الأصلي وملحوظا طريقا وآلة إليه ، مع ان الاستعمال كان جريا على طبق التعهد والالتزام النفسيّ لا شيء آخر. فان ذلك دليل على ان التعهد لا يلازم تعلق النّظر الاستقلالي بالمستعمل ولا يتنافى مع تعلق النّظر الآلي به.

كما يدل على ما ذكرناه : ان عنوان النزاع أعم من الوضع ، لأنه يتعدى إلى الاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي أو المعنيين المجازيين ، مع انه لا وضع هاهنا كي يبتنى جواز الاستعمال وعدمه على تحقيق حقيقته. ومقتضى ما ذكر عدم جريان النزاع في ذلك المورد مع ان جريانه وتأتي كلا القولين في الاستعمال أمر لا شبهة فيه ولا تتوقف عنده ، فتدبر.

ونتيجة ما ذكرناه : انّ البناء على إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى وامتناعه يبتني على تحقيق انّ الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة للمعنى أو

ص: 313

جعله فانيا فيه؟ ، فيجوز الاستعمال في أكثر من معنى على الأول لعدم المحذور فيه كما قدمنا ، ويمتنع على الثاني لمحذور اجتماع اللحاظين في آن واحد. وبما ان صاحب الكفاية اختار الثاني بنى على الامتناع عقلا. كما انه قد تقدم منّا في أوائل مبحث الوضع ان الاستعمال جعل اللفظ طريقا وفانيا في المعنى ، فالمتعين الالتزام بامتناع الاستعمال في أكثر من معنى عقلا ولا يفرق في ذلك بين المفرد وغيره والمعنى الحقيقي والمجازي لسريان المحذور في جميع صور الاستعمال بلا فرق.

ثم انه لو تنزلنا وقلنا بإمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى بمقتضى الحكم العقلي ، فما هو حكم ذلك بحسب القواعد الأدبية وبمقتضى أصل الوضع؟. الحق هو الجواز ، إذ لا مانع من ذلك ، إلاّ ما قيل من انّ اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء لقيد الوحدة ، فلا يكون الاستعمال فيما وضع له اللفظ ولكنه موهون جدا ، إذ فيه :

أولا : ان الموضوع له ذات المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة فيه. ويدل على ذلك مراجعة الوجدان ، وتبادر أهل العرف في عملية الوضع ، فان الإنسان حال الوضع لا يلحظ سوى ذات المعنى ويضع له اللفظ.

وثانيا : انه لو سلم كون الموضوع له هو المعنى بقيد الوحدة ، فلا يستلزم منع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ يكون حينئذ استعمالا مجازيا للمحافظة على ذات الموضوع له ولا مانع منه. فتأمل. وهناك إيرادات تذكر على هذا الإشكال لا حاجة إلى التعرض إليها لوضوح وهن الإشكال.

واما البحث في تحقيق مقتضى الظهور العرفي للكلام بعد تسليم الجواز ، وان الظاهر من الكلام عند عدم القرينة جميع المعاني الموضوع لها اللفظ أو أحدها غير المعين فيكون الكلام مجملا؟ كما تعرض إليه السيد الخوئي ( حفظه

ص: 314

اللّه ) (1) ، فهو غير متين بناء على الالتزام واقعا بالامتناع ، إذ البحث التنزيلي لا يجدي في تحقيق المطلب ، لأن الحكم على العرف ، باستظهاره وعدم استظهاره لا بد وان يلحظ فيه استعمالات العرف ونظرهم في ترتيب الآثار عليها ، فمع الالتزام بامتناع الاستعمال وانه لا يصدر من أحد لا يمكن الحكم بان الظاهر عند الاستعمال - لو قيل بالجواز - كذا ، إذ هو رجم بالغيب ولا أساس له في الخارج. نعم من يقول بالجواز وصدور الاستعمال خارجا - كالسيد الخوئي - اتجه له البحث عن هذه الجهة. فتدبر.

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره أشار إلى تفصيل صاحب المعالم رحمه اللّه في المقام وناقشه.

اما تفصيل المعالم : فهو القول بالجواز بنحو المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في التثنية والجمع. وعلله في المعالم : بان اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء للقيد المذكور ، فيكون استعمالا في غير ما وضع له ، ويكون مجازيا بعلاقة الجزء والكل ، إذ اللفظ الموضوع للكل استعمل في الجزء. ولا يجيء هذا البيان في غير المفرد لأن التثنية والجمع في قوة تكرار اللفظ فيكون لهما حكم التكرار ، فكما يصح إرادة معنى معين من لفظ : « عين » وإرادة غيره من لفظ : « عين » آخر ، يصح إرادة المعنيين معا من لفظ : « عينين » بلا تجوّز لأنهما في قوة قولك : « عين وعين » (2).

واما المناقشة : فبان اللفظ لم يوضع الا إلى نفس المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة ، وإلاّ لامتنع استعمال اللفظ في الأكثر ، إذ الأكثر يباين المعنى الموضوع له مباينة الشيء بشرط لا والشيء بشرط شيء ، إذ الموضوع له هو المعنى بشرط

ص: 315


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 209 - الطبعة الأولى.
2- العاملي جمال الدين ، معالم الدين / 32 - الطبعة الأولى.

ان لا يكون معه غيره والمستعمل فيه هو الشيء بشرط ان يكون معه غيره ، فلا علاقة بينهما كما ادّعي كي يصحح الاستعمال المجازي ، بل بينهما المباينة المانعة من الاستعمال.

هذا بالنسبة إلى المفرد ، واما بالنسبة إلى التثنية والجمع ، فالمناقشة فيهما بوجهين :

أحدهما : ان التثنية والجمع وان كانا بمنزلة تكرار اللفظ ، إلاّ ان الظاهر ان المراد من كل لفظ فرد من افراد معناه ، فيراد من المثنى فردان من طبيعة واحدة لا معنيان.

والإيراد على ذلك بتثنية الاعلام ، فانّ المراد من المثنى معنيان ، إذ الموضوع له كل لفظ مباين للآخر ، وليس الموضوع له هو الطبيعة كي يقبل الافراد ، بل الموضوع له هو الفرد ، فلا معنى لأن يراد به فردان بل معنيان.

مدفوع : بالتزام التأويل بورود التثنية على المسمّى ، فيكون المعنى من :

« زيدين » فردين من مسمى زيد مثلا ، والمسمى طبيعة يتصور لها افراد.

ثانيهما : انه لو قلنا بعدم التأويل ، وان الموضوع له المثنى هو المتعدد أعم من ان يكون فردين من معنى واحد أو معنيين ، بحيث يكون استعماله وإرادة معنيين استعمالا حقيقيا ، لو قلنا بذلك ، لم يكن إرادة معنيين من المثنى من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لأنه هو معنى اللفظ فيكون المستعمل فيه اللفظ معنى واحد ، كما لو أريد فردان من معنى واحد. نعم يكون استعمال اللفظ وإرادة فردين من معنى وفردين من آخر من استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ولكنه لا دليل على جوازه حقيقة ، إذ حديث التكرار لا يجدي حينئذ لإلغاء قيد الوحدة فيه ، لأن الموضوع له هو المتعدد من معنيين أو فردين بقيد الوحدة. فتدبر.

هذا ملخص ما ذكره صاحب الكفاية وهو وجيه ، كما لا يخفى (1).

ص: 316


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /37- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لكن السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) نهج في مناقشته لصاحب المعالم نهجا آخر ، فقد جاء في مناقشته ما محصله : ان في التثنية والجمع وضعين : أحدهما للمادة. والآخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون. اما الهيئة فهي موضوعة للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها. واما المادة فهي موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات حتى الخصوصية اللابشرطية ، فإذا أريد من العين مثلا معنى واحد وهو الذهب ، فلا يعقل ان يراد من المثنى أكثر من طبيعة واحدة ، إذ المراد بالمادة معنى واحد وطبيعة واحدة والمراد بالهيئة المتعدد من مدخولها ، فمقتضى ذلك إرادة فردين من مدخولها لأن مدخولها طبيعة واحدة ، فالتعدد فيها يكون بإرادة فردين منها ولا دليل آخر يدل على إرادة طبيعتين كما لا يخفى (1).

ولكنه وان كان تاما في نفسه واقعا أو تنزلا ، إلاّ انه لا يتجه ان يكون نقاشا مع صاحب المعالم ، فانه انما يصلح ذلك لو كان ما ذكره من تعدد الوضع في التثنية والجمع وجهة الوضع أمرا مسلما لدى صاحب المعالم فيؤاخذ به ويلزم بمقتضاه. ولكنه لم يثبت بناء صاحب المعالم عليه ، فقد يرى ان التثنية ليس لها إلاّ وضع واحد والموضوع له هو المتعدد ، ولعله هو المستظهر من كلامه ، فالمتعين هو المناقشة بما ذكره صاحب الكفاية فلاحظ.

ثم ان المحقق العراقي قدس سره قد حرر النزاع في التثنية والجمع بنحوين : الأول : الامتناع في المفرد والجواز في المثنى والجمع. الثاني : الجواز بنحو المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في المثنى والجمع (2).

ولا يخفى ان تحرير النزاع بالنحو الثاني له وجه. واما تحريره بالنحو الأول فلا يتناسب مع البحث العلمي - وان كان ذلك من جملة أقوال المسألة - ،

ص: 317


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 211 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 152 - الطبعة الأولى.

وذلك لأنه بعد اختيار الامتناع بالمحذور العقلي الّذي ذكرناه لا تتجه دعوى الجواز في التثنية والجمع ، لسراية المحذور في جميع الصور كما تقدم. وعلى كل فالامر سهل جدا.

تذييل : ورد في الحديث : « ان للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا » (1). فقد يتوهم منافاة ذلك لما قرر من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ ظاهره ان المعاني المقصودة من الألفاظ القرآنية بهذا العدد ، وهو لا يجتمع مع الالتزام بمحالية إرادة المعاني المتعددة من اللفظ الواحد ، لأنه يدل على وقوعه فضلا عن جوازه.

وقد دفع صاحب الكفاية رحمه اللّه هذا الوهم بعدم دلالة الحديث عن كون قصد هذه المعاني من باب قصد المعنى من اللفظ ، بل يحتمل فيه أحد وجهين :

الأول : ان يراد منه إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى الواحد ، لا انها مرادة من اللفظ.

الثاني : ان يكون المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان كانت تلك اللوازم المتعددة خفيّة بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها (2).

وقد رجّح السيد الخوئي - كما جاء في تقريرات بحثه - الاحتمال الثاني ونفي الأول بوجهين :

الأول : ان إرادة المعاني في أنفسها لا توجب عظمة القرآن وعلو منزلته ، إذ يمكن ذلك في غير الاستعمالات القرآنية من الاستعمالات العرفية ، بل يمكن ذلك في مورد الكلام بالألفاظ المهملة ، إذ يمكن ان ترد على الذهن في حال

ص: 318


1- الكافي 2 / 599 باب فضل القرآن. حديث : 2.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /38- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التكلم معان كثيرة.

الثاني : انه يلزم ان لا تكون هذه المعاني بطونا للقرآن ، إذ هي بذلك تكون أجنبية عنه.

وهذان الأمران يخالفان مقتضى الروايات الواردة في مقام بيان عظمة القرآن بذلك ، وان هذه المعاني معاني القرآن وبطونه لا انها أجنبية عنه. ثم ذكر بعض الروايات الناطقة بذلك ، وبعد ذلك رجح الثاني وادعى ظهور الروايات الكثيرة فيه (1).

ونحن ان لاحظنا أصل المطلب من وجود البطون للقرآن وأغمضنا النّظر عن ما يكشف المطلب من نصوص ، فان التحقيق في نحو دلالتها يحتاج إلى بحث مفصل طويل ، نرى ان الكفّة الراجحة في جانب الاحتمال الأول لا الثاني ، إذ لا عظمة للقرآن بوجود لوازم لمعناه المقصود خفية عن أذهان الناس لا تصل إليها عقولهم وإدراكاتهم ، فانه لا يتصف بذلك بالعظمة وشرف المنزلة كما لا يخفى. اما كون الجمل القرآنية قابلة في نفسها للتطبيق على معان متعددة مرادة في نفسها ودالة في حد ذاتها على عدد كبير من المعاني وان أريد منها معنى واحد لا الجميع ، بحيث يمكن للفكر الدّقيق الثاقب ان يصل إلى بعض تلك المعاني بالتأمل والتعمق في آيات الكتاب ، فهو من عظمة القرآن والتركيب الكلامي لجمله ، إذ قلّ من الجمل العرفية ما يمكن تطبيقه على متعدد من المعاني ، فإيراد تركيب قابل للتطبيق على عدد كبير من المعاني وفرض ورود تلك المعاني في نفس المتكلم والتفاته إليها وتحرّيه في إيراد ما يمكن تطبيقه عليها من التراكيب الكلامية دليل على عظمة ذلك المتكلم وسعة أفق تفكيره في الاطلاع على دقائق الألفاظ ومعانيها.

ص: 319


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 213 - الطبعة الأولى.

وقد يضرب تقريبا لذلك بعض الأمثلة العرفية ، ولا أظنني بعد هذا البيان بحاجة إلى ذكرها فتدبر.

تتمة : يحسن بنا ان يكون ختام البحث في هذه المسألة تحقيق ما جاء في بعض كلمات الفقهاء من عدم جواز قصد معاني آيات الكتاب الّذي تقرأ في الصلاة ، لأن ذلك محل الابتلاء ولعلاقته بالمسألة.

وقد وجّه امتناع ذلك : بان المطلوب في الصلاة هو القراءة ، وهي - أعني القراءة - استعمال اللفظ في اللفظ ، فإذا قصد بالآية المعنى الّتي استعملت فيه كان ذلك من استعمال اللفظ في المعنى ، وهو يوجب عدم تحقق القراءة لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فإذا استعمل في المعنى امتنع استعماله في اللفظ فلا تتحقق القراءة ، مع انه قد ورد في الروايات استحباب ذلك والحث عليه وان كمال الصلاة بقصد المعنى والالتفات إليه (1).

وقد أجيب عن هذا الوجه بوجوه :

الأول : ان قصد المعنى من اللفظ لا يكون في عرض القراءة ، بل في طولها ، بمعنى انه يقصد الحكاية عن اللفظ باللفظ ويقصد في نفس الوقت الحكاية عن المعنى باللفظ المحكي لا الحاكي فلا محذور فيه ، إذ لم يستعمل اللفظ في معنيين بل كل لفظ مستعمل في معنى (2).

وهذا الوجه واه جدا. وقد قيل في إبطاله وجوه متعددة. والوجه الواضح في الإشكال فيه : هو انه يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شيء واحد. بيان ذلك : ان اللفظ المحكي باللفظ بما انه محكي ومستعمل فيه يكون ملحوظا بالاستقلال ، وبما انه حاك عن المعنى وفان فيه يكون ملحوظا آلة ،

ص: 320


1- وسائل الشيعة 4 / 826 باب : 3 من أبواب قراءة القرآن. حديث : 6 و 7.
2- ذهب إليه السيد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى 6 / 288 - 289.

فيجتمع فيه اللحاظان في آن واحد. وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها لإبطاله ، لا نطيل البحث بذكره ، بعد وضوح بطلان الوجه (1).

الثاني : ان يحمل ما ورد من الروايات في هذا المقام على الحث على قصد المعنى مقارنا للقراءة لا قصده بها ، فتطلب الهداية مقارنا لقراءة : ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (2) ، لا انها تطلب بها (3).

وهذا الوجه وان كان يتخلص به عن المحذور المذكور ، إلاّ انه في الحقيقة التزام به والتخلص بتأويل ، كما لا يخفى.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية ، وإليك نصّ عبارته : « ويمكن ان يجاب أيضا : بان القراءة ليست الحكاية عن الألفاظ بالألفاظ واستعمالها فيها ، بل ذكر ما يماثل كلام الغير من حيث انه يماثله في قبال ذكره من تلقاء نفسه ، وهذا المعنى غير مشروط بعدم إنشاء المعنى به حتى يلزم الجمع بين اللحاظ الاستقلالي والآلي فيما يماثل كلام الغير من حيث انه يماثله بقصد المعنى ، فان من مدح محبوبه بقصيدة بعض الشعراء ، فقد قرأ قصيدته ومدح محبوبه بها ، نعم لو لم يلتفت إلى ذلك ومدحه بها أنشأ من تلقاء نفسه لم يصدق القراءة وان كان مماثلا لما أنشأه الغير. فتدبر جيدا » (4).

والتحقيق في المقام ان يقال : ان القراءة إيجاد طبيعي المقرو بفرده مع قصد ذلك.

بيان ذلك : ان الشعر عبارة عن تصوير المواد اللفظية بصورة خاصة ، فانه هو عمل الشاعر. اما نفس المواد فهي موجودة في نفسها ولا يوجدها الشاعر ، والصورة التي يحدثها الشاعر للمواد اللفظية عارضة على طبيعي الألفاظ في

ص: 321


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 68 - الطبعة الأولى.
2- سورة الحمد : الآية : 6.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 68 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 68 - الطبعة الأولى.

ذهنه ، ثم بعد ان ينظمها بالنظم الخاصّ في ذهنه يلقيها خارجا بتلك الصورة ، فالموجود خارجا فرد من افراد الشعر لا نفس الشعر ، وانما الشعر موجود في الذهن فانه الصورة الخاصة والكيفية المعينة لطبيعي الألفاظ. وعليه ، فإذا جاء المتكلم بتلك الألفاظ بصورتها الخاصة ، فقد أوجد الشعر بوجود فرد من افراده ، فيقال : انه قرأ الشعر بهذا الاعتبار. نعم شرطه ان يقصد إيجاد الشعر بفرده ، فإذا لم يقصد ذلك بل قصد إلقاء هذا الكلام على أنّه منه لم يعدّ عرفا قارئا للشعر ، بل يعدّ سارقا لشعر غيره.

والقرآن كالشعر ، فانه الألفاظ المعينة المصورة بصورة خاصة ، وتلك الصورة واردة على طبيعي اللفظ أو متحققة في نفس الوحي أو النبي صلی اللّه علیه و آله ، وما يلقيه خارجا من الكلام القرآني يعد فردا من افراد القرآن ، ولذلك يقال : انه قرآن لوجوده به ، فقراءة القرآن عبارة عن إيجاد طبيعي القرآن بفرده بهذا اللحاظ ، فيقال للقارئ انه قرأ القرآن لأنه قرأ ما يعبر عنه بالقرآن لكونه وجودا له لأنه فرده. وعليه ، فليست القراءة من استعمال اللفظ في اللفظ وحكايته عنه فلا يمتنع قصد المعنى معها.

واما ما ذكره المحقق الأصفهاني ، فهو انما يتجه لو أريد من القرآن أو الشعر نفس الكلام الملقى خارجا فيكون الفرد الآخر من المماثل له ، ومعه لا نسلم صدق القراءة على إيجاد المماثل بعنوان انه مماثل فقط ، إذ إيجاد المماثل لا يعد عرفا إيجاد المماثلة كي يقال انه قرأ الشعر أو القرآن ، بل يقال انه أوجد ما يماثل شعر فلان أو ما يماثل القرآن. نعم انّما يكون إيجادا له ويعد عرفا كذلك لو قصد الحكاية عنه والكشف بالمماثل ، ولكنه بذلك يعود المحذور.

وبالجملة : فما ذكره المحقق الأصفهاني لا يمكننا التسليم به بسهولة ، إذ قراءة الشعر انما تكون بأحد نحوين : اما إيجاد اللفظ بقصد الحكاية عن الشعر ، فيقال انه قرأ الشعر. واما إيجاد فرد للشعر ، فيقال عن الموجد انه شعر فلان وعلى

ص: 322

قراءته انها قراءة شعره ، وهو ما حققناه وهو لا يتجه إلاّ بفرض الشعر ونحوه كليا يوجد بهذه الافراد. اما صدق قراءة الشعر بدون أحد هذين النحوين ، بل بإيجاد فرد مماثل بعنوان المماثلة فهو ممنوع ، بل لا يصدق سوى إيجاد فرد مماثل للشعر وقراءته لا انه الشعر.

ونتيجة ما ذكرناه : انه لا مانع من قصد المعنى مع صدق القراءة في الصلاة ولا وجه للإشكال فيه.

ص: 323

ص: 324

المشتقّ

اشارة

ص: 325

ص: 326

المشتق

لا إشكال في ان المشتق ك- : « العالم » حقيقة في المتلبس فعلا ومجاز في من يتلبس في المستقبل. وانما الإشكال في انه في المتلبس في الماضي بنحو الحقيقة أو المجاز ، والنزاع انما يقع في ان مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ هو خصوص المتلبس ، أو الأعم منه وممن انقضى عنه التلبس ، لا في مرحلة الصدق والحمل مع غض النّظر عن الجزم بمفهومه واسعا أو ضيقا بان يكون في ان صدق المشتق على المنقضي هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز؟. إذ لا مجال للنزاع في ذلك بعد معرفة مفهومه والموضوع له ، فان المفهوم ان كان واسعا ، بمعنى انه كان الأعم من المنقضي والمتلبس كان صدقه على المنقضي عنه التلبس حقيقة بلا إشكال.

وان كان ضيقا كان صدقه عليه مجازا بلا ريب.

ولكن المحقق الشيخ هادي الطهراني حاول ان يجعل النزاع في هذه المرحلة جاريا لا في مرحلة المفهوم. بتقريب : ان وجه النزاع في الحمل مع عدم الاختلاف في المفهوم هو ان الّذي يقول بعدم صحة الإطلاق على المنقضي عنه التلبس يرى ان سنخ الحمل في المشتقات كسنخه في الجوامد ، فلا يصح إطلاق لفظ المشتق على من زال عنه التلبس بالمبدإ - كما لا يصح إطلاق لفظ الماء على ما زالت عنه صورة المائية - باعتبار أن المشتق عنوان انتزاعي ، فصدقه تابع لمنشأ

ص: 327

انتزاعه فبعد الانقضاء يرتفع منشأ الانتزاع فلا يتجه صدق المشتق. ومن يقول بصحة الإطلاق يرى وجود الفرق بين حمل الجوامد وحمل المشتقات ، فان الأول حمل هو هو فلا يصح لأن يقال للهواء انه ماء. والثاني حمل ذي هو وحمل انتساب فيكفي فيه مجرد حصول الانتساب ولو في آن ما فيصح إطلاق المشتق على المنقضي بهذا اللحاظ. بهذا التقريب وجّه جريان النزاع في مرحلة الصدق مع غض النّظر عن المفهوم وحقيقته (1).

وقد تحامل عليه المحقق الأصفهاني بما لم يعهد منه بالنسبة إلى علم من الاعلام كالمحقق الطهراني.

وحاصل الإشكال في كلامه : انه خلط بين حمل مبدأ الاشتقاق وبين حمل نفس المشتق ، فان حمل الأول حمل ذو هو ، إذ لا يصح حمل البياض على الجسم حمل مواطاة وحمل هو هو ، بل يحمل عليه بواسطة ذي ، فيقال : الجسم ذو بياض. بخلاف نفس المشتق فان حمله حمل هو هو المعبر عنه بحمل المواطاة ، إذ يمكن إثبات المشتق للذات وانه هو الذات فيقال : الجسم أبيض ، ولا يحتاج في حمله إلى واسطة فلا يقال الجسم ذو أبيض ، فليس حمل المشتق حملا ذا هو بل حملا هو هو ، فيكون كحمل الجوامد ، فلاحظ جيدا (2).

وإذا اتضح موضوع النزاع وجهته وانه في سعة مفهوم المشتق وضيقه فلا بد من بيان أمور :

الأمر الأول : في بيان المراد من المشتق المأخوذ في موضوع المسألة.

والّذي يراد به كل وصف يحمل على الذات ويجري عليها بملاحظة اتصافها بمبدإ ما ، سواء كان مشتقا في الاصطلاح وهو ما كان له وضع لمادته

ص: 328


1- الطهراني المحقق الشيخ هادي. محجة الأصول /- الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية1/ 69 - الطبعة الأولى.

ووضع لهيئته كالعالم والقائم ونحوهما. أو كان جامدا بحسب الاصطلاح وهو ما كان له وضع واحد بمادته وهيئته كالزوج والحرّ وغيرهما. اما ما لا يجري على الذات من الأوصاف وغيرها فلا يدخل في محل النزاع وان كان مشتقا بحسب الاصطلاح كالمصدر والفعل بأقسامه ، إذ لا يصح حملها على الذات فلا يتجه النزاع في صدقها على المنقضي عنه التلبس أو عموم مفهومها للمتلبس كما هو واضح.

وبذلك يتبين كون النسبة بين المشتق في مورد النزاع والمشتق بحسب الاصطلاح هي العموم من وجه ، إذ يفترق الأول عن الثاني في الجوامد بحسب الاصطلاح ، ويفترق الثاني عن الأول في بعض المشتقات الاصطلاحية كالمصدر.

والوجه في تعميم النزاع في المشتق فيما نحن فيه لكل ما يجري على الذات بملاحظة اتصافها بمبدإ ما ولو كان جامدا هو عموم الملاك لجميع الأقسام ، مضافا إلى ما جاء في كلمات الأصحاب مما يظهر منه تعميم النزاع ، كما ورد في الإيضاح لفخر المحققين (1) ، والمسالك للشهيد (2) من ابتناء حرمة الزوجة الكبيرة الثانية للصغيرة على مسألة المشتق فيما لو كان له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرة ، فانه تحرم عليه بذلك الكبيرة والصغيرة ، لصيرورة الكبيرة بالإرضاع أم الزوجة والصغيرة بنت الزوجة ، ثم أرضعت الثانية الصغيرة ، فان حرمتها تبتني على ان يكون المشتق حقيقة في المنقضي ، إذ يصدق على الكبيرة الثانية أنها أم زوجته فعلا ، ومع عدم كونه حقيقة في المنقضي لا تحرم الكبيرة لعدم صدق أم الزوجة عليها فعلا.

ونحن لسنا في مقام تحقيق صحة ترتيب هذه الثمرة بلحاظ المقام وعدمها

ص: 329


1- إيضاح الفوائد 3 / 52 ، أحكام الرضاع.
2- مسالك 1 / 379 ، كتاب النكاح.

إذ لا يهمنا ذلك وهو موكول إلى بحث الرضاع بل كان المهم بيان جريان النزاع في الجوامد وسريانه إليها ، إذ عنوان الزوج والزوجة منها كما هو واضح.

نعم لا بد من بيان شيء ، وهو ما ذكره المحقق الأصفهاني (1) من ابتناء حرمة الكبيرة الأولى على مسألة المشتق وعدم اختصاص حرمة الثانية بذلك. ببيان : ان التي تحرم هي أم الزوجة وبنتها ، وأمومة المرضعة وبنية المرتضعة متضايفتان ، فانه لا يعقل صدق إحداهما بدون صدق الأخرى ، كما ان بنتية المرتضعة للزوجة وزوجيتها متضادتان شرعا ولا يمكن اجتماعهما. وعليه ففي مرتبة حصول أمومة المرضعة تحصل بنتية المرتضعة للتضايف ، وفي تلك المرتبة تزول الزوجية لتضادها. وعليه ، فالمرضعة لا تكون أم الزوجة فعلا لزوال الزوجية في مرتبة حصول الأمومة ، فتبتني الحرمة على تحقيق ان المشتق حقيقة في المنقضي عنه التلبس فيصدق على الكبيرة انها أم الزوجة ، وإلاّ فلا يصدق عليها هذا العنوان فلا تحرم بذلك فتدبر (2).

ص: 330


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 70 - الطبعة الأولى.
2- وتحقيق مسألة الرضاع بالنسبة إلى المرضعة الأولى : انه .. ان كان المقصود من بنت الزوجة وأم الزوجة هي بنت الزوجة فعلا وأمها فعلا ، كان كل من الدليلين رافعا لموضوع الآخر ، لأن تحريم بنت الزوجة يرفع صدق أم الزوجة على المرضعة ، وتحريم أم الزوجة يرفع صدق بنت الزوجة على المرتضعة ، فيكون المورد من موارد التوارد والتحاكم ، وفي مثله يسقط الدليلان عن الاعتبار. وان كان المقصود من بنت الزوجة بنت من كانت زوجة ، كان دليل تحريم البنت رافعا لموضوع تحريم الأم ولا عكس. فيعمل بأحدهما دون الآخر. كما انه لو بني على ان المشتق حقيقة في الأعم لم يكن كل من الدليلين رافعا لموضوع الآخر ، فيعملان معا وتحرمان معا. هذا تحقيق المسألة. واما ما سلكه المحقق الأصفهانيّ ، فهو أشبه بالمصادرة ونفس الدعوى ، إذ كان عليه ان يبين السر في تحريم بنت الزوجة دون أمها ، وقد أخذ تحريم بنت الزوجة مفروغا عنه. مضافا إلى انه عبر بوحدة الرتبة بين البنتية وعدم الزوجية ، مع ان عدم الزوجية حكم لبنت الزوجة ، فهو متأخر عنه.

ثم انه لا يدخل في موضوع النزاع ما كان من الجوامد منتزعا عن نفس الذات كالإنسان والحجر والشجر ، فانها تنتزع عن مرحلة تحصل الأجناس بفصولها وهي مرحلة الذات والتقرّر. والوجه في عدم شمول النزاع لها هو : انه بانعدام منشأ انتزاعها لا تبقى الذات كي يقع الكلام في صدق المشتق عليها أو كون المشتق حقيقة فيها أولا؟ إذ مع عدم بقاء الذات في صورة زوال التلبس يكون النزاع عديم الأثر والثمرة ، بل لا معنى له إذا كان في الصدق لا في المفهوم.

وبذلك يتضح ان موضوع النزاع ما كان من الأوصاف جاريا على الذات ولم يكن منتزعا عن نفس الذات بحيث يكون ارتفاع منشأ الانتزاع مساوقا لارتفاع الذات ، لأن النزاع في كون المشتق حقيقة في الذات المنقضي عنها التلبس أو في صدقه عليها ، ولازم ذلك فرض بقاء الذات بعد زوال التلبس في موضوع الكلام. فلاحظ.

ومن هذه الجهة قد يشكل وقوع النزاع في أسماء الزمان باعتبار ان الزمان ينقضي ويتصرم ولا استقرار له. وعليه فلا يتصور فيه وجود ذات انقضى عنها التلبس كي يقال ان اسم الزمان حقيقة فيها أولا ، فالذات غير محفوظة في كلتا الحالتين.

وقد أجاب عنه في الكفاية بوجهين :

الأول : - حلّي - وهو ان النزاع في مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ وانه هو خصوص المتلبس أو الأعم ، وذلك لا يرتبط بتحقق مصداقي العام خارجا وعدم تحققه ، إذ البحث في المفهوم لا ينظر فيه إلى المصاديق فلا يكون عدم تحقق المصداق وانحصاره في فرد موجبا لنفي صحة النزاع في المفهوم من جهة سعته وضيقه.

الثاني : النقض بلفظ الواجب ، فانه موضوع للمفهوم العام مع انحصاره

ص: 331

في ذات الباري جل اسمه ، وبوقوع النزاع في الموضوع له لفظ : ( اللّهِ ) وانه هل هو مفهوم واجب الوجود أو انه علم للذات المقدسة؟ ، مع انحصاره خارجا بالذات المقدسة (1).

والتحقيق ان يقال : ان صيغة : « مفعل » ، كمقتل ومضرب ومرمى ونحوها ، اما ان يلتزم بأنه موضوع بوضعين أحدهما للزمان والآخر للمكان. أو يلتزم بوضعها لمعنى واحد جامع بين الزمان والمكان ، وهو وعاء المبدأ وظرفه سواء كان زمانا أو مكانا. فمقتل موضوع لوعاء القتل سواء كان زمانا أو مكانا لا انه موضوع بوضع مستقل لزمان القتل وبوضع آخر لمكان القتل.

فعلى الأول : لا يتجه النزاع في اسم الزمان للغويته وعدم ترتب الأثر عليه ، لعدم مصداق مورد الأثر ، وهو الذات المنقضي عنها التلبس.

وعلى الثاني : يتجه النزاع ، إذ يكفي في صحته ترتب الثمرة بالنسبة إلى بعض المصاديق التي ينطبق عليها العنوان وهو المكان وان لم تكن هناك ثمرة بالنسبة إلى الزمان ، إذ الوضع واحد فيبحث عن سعة دائرة الموضوع له وضيقه لترتب الثمرة على ذلك ولو في بعض الموارد والمصاديق. فانه كاف في تصحيح وقوع النزاع.

ومن هنا يظهر الفرق بين اسم الزمان والوصف الجامد المنتزع عن الذات. إذ الوصف الجامد موضوع لخصوص الذات لفرض كونه جامدا فلا يتجه البحث عن خصوصية الموضوع له فيه بعد ان لم يكن للذات بقاء مع زوال المبدأ ومنشأ الانتزاع. بخلاف اسم الزمان على المبنى الثاني ، فانه لم يوضع لخصوص الزمان كي يكون البحث فيه لغوا كما هو مقتضى المبنى الثاني ، بل وضع للأعم من الزمان والمكان فيمكن وقوع البحث عنه ولو بلحاظ ترتب الثمرة في المكان.

ص: 332


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبالجملة : البحث في النتيجة لا يكون عن الموضوع له اسم الزمان ، بل عن الموضوع له صيغة : « مفعل » التي تعم الزمان والمكان والأثر يترتب عليه بالنسبة إلى المكان.

ومما ذكرنا يظهر : ما فيما قرره المحقق النائيني من خروج الأوصاف المشتقة المنتزعة عن مقام الذات كالممكن والواجب ، إذ زوال المبدأ وهو الإمكان يساوق زوال نفس الذات ، إذ لا يعقل بقاء الذات وزوال صفة الإمكان عنها بعد ان كانت ثابتة لها. وعليه ، فلا يتصور وجود الذات التي يزول عنها المبدأ كي يقال ان المشتق حقيقة فيها أولا؟ أو انه يصدق عليها حقيقة أولا؟ (1).

فانه قد اتضح وهن ذلك مما بيناه ، إذ البحث لا يقع في وضع كل فرد من افراد المشتق كالممكن والعالم والقائم وهكذا كي يلحظ ترتب الأثر ومعقولية النزاع في كل فرد ، إذ الهيئة موضوعة بالوضع النوعيّ كهيئة : « فاعل » لاسم الفاعل ونحوها ، ولم توضع في كل فرد فرد. فالمبحوث عنه وضع كل هيئة والنزاع واقع فيها ، ويكفي ترتب الأثر في بعض المصاديق وان لم يترتب في البعض الآخر.

وبالجملة : المطلوب ترتب الأثر على النزاع في الموضوع له ولو بلحاظ بعض الافراد ، فالبحث لا يقع في ان لفظ الممكن موضوع لخصوص المتلبس أو للأعم كي يقال انه عديم الأثر ، بل يقع في ان اسم الفاعل من المشتقات موضوع لخصوص المتلبس أو للأعم ، فيعم عنوان الممكن وغيره من العناوين. ويترتب عليه الأثر المرغوب في بعض مصاديقه ، فتدبر (2).

ص: 333


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 53 - الطبعة الأولى.
2- بالنسبة إلى اسم الزمان : تحرير الإشكال كما في الكفاية غير وجيه. والعمدة في الإشكال هو : عدم تصور الجامع بين حالتي الحدوث والبقاء في الزمان ، إذ بعد فرض التصرم والانعدام فيه لا يمكن تصور البقاء له. وبهذا الإشكال لا يرتبط جواب الكفاية. ويمكن حل هذا الإشكال بما نسب إلى الشيخ هادي الطهراني من : تصور البقاء للزمان بملاحظة _ الاجزاء شيئا واحدا مستمرا بحيث يصدق الحدوث بحلول أول جزء. كالنهار والشهر والسنة وغير ذلك. وعلى هذا الأساس يبتني استصحاب الزمان وغيره من الأمور التدريجية. إذن فيتصور انقضاء التلبس مع بقاء الذات. وبهذا الجواب يندفع إشكال اللغوية ، إذ يتصور للزمان بقاء فيبحث عن صدق المشتق عليه. نعم على ما جرى عليه القوم يرد إشكال اللغوية ولا حلّ له إلا ما في المتن من ان اسم الزمان لم يوضع للزمان خاصة ، بل للأعم من الزمان والمكان فراجع. ثم ان ما أفاده المحقق النائيني في حل الإشكال ، وان كان مجملا وقد أورد عليه في التعليقة _ راجع أجود التقريرات 56/1 - ، لكن يمكن إرجاعه إلى ما أفاده الطهراني ، وان مراده بالكلي والشخص هو ملاحظة الزمان بكل آن آن منه ، أو ملاحظة امرا واحدا مستمرا يحصل بأول جزء منه ، بحيث تكون نسبته إلى كل جزء نسبة الكلي إلى جزئياته لا نسبة المركب إلى اجزائه.

الأمر الثاني : في بيان خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن موضوع النزاع.

وذلك لما قد عرفت من ان المراد بالمشتق المأخوذ موضوعا للكلام هو الوصف الجاري على الذات والّذي يصح حمله عليها ، دون ما لا يصح ، ولما كان المصدر - المجرد والمزيد - لا يدل إلا على نفس الحدث والمبدأ مع نسبة الحدث إلى ذات ما - وهو الفرق بينه وبين اسم المصدر ، فانه لا يدل إلاّ على نفس الحدث بلا جهة انتسابه كالغسل والغسل ومثل : « زدن » و « كتك » في الفارسية ، فان الأولى تدل على الحدث مع النسبة كالضرب ، دون الثانية فانها اسم لنفس الحدث بلا دخول النسبة في معناه - لم يصح حمله على الذات وجريه عليها لتغاير وجود الذات والمبدأ ، كما انهما متغايران مفهوما ، فلا يصح ان يقال : « زيد ضرب أو أكل » كما لا يخفى.

واما الأفعال ، فهي كالمصادر لا تجري على الذات ، لأنها لا تدل الا على نسبة المبدأ إلى الذات وقيامه بها ، ومعه لا يصح حملها على الذات وجريها عليها للتغاير بين وجود الذات والنسبة وعدم الاتحاد بينهما بوجه ما ، فلا يصح ان يقال : « زيد ضرب » من باب الحمل بمفاد ان زيد هو ضرب وضرب هو زيد ، وان صح

ص: 334

ذلك من باب الإسناد والنسبة ، بمعنى نسبة الضرب إلى زيد ، فلاحظ.

وحيث تعرضنا إلى الفعل في كلامنا ، فلا بأس في تحقيق الكلام في معناه ومعرفة مقدار صحة ما اشتهر من دلالته على الزمان ، فقد بحث في ذلك الأعلام في هذا المقام وليس له مقام آخر. فنكون بذلك قد عرفنا معنى الحرف والفعل ويبقى الاسم الّذي هو محل البحث فسيأتي تحقيق معناه ، فان مسألة المشتق معقودة لذلك.

فنقول : انه قد اشتهر في ألسنة النحاة وغيرهم دلالة الفعل على الزمان ، بل أخذت الدلالة على الزمان في مفهومه كما لا يخفى ذلك على من لاحظ تعريفاتهم للفعل.

وقد استشكل في ذلك - كما جاء في الكفاية - ومنعت دلالة الفعل على الزمان بتقريب : ان مفهوم الزمان مفهوم اسمي فيمتنع ان يكون مدلولا للهيئة فانها من الحروف ، ويلزم ان يكون لها معنيان حرفي وهو النسبة واسمي وهو الزمان وهو واضح المنع.

وأجيب عن ذلك : بأنه لم يؤخذ في مفهوم الفعل مفهوم الزمان ، وانما مدلوله هو الحصة الخاصة من الحدث ، وهي الملازمة للزمان مع النسبة ، فالمدلول ليس هو مطلق الحدث بل الحدث المقيد بالزمان الخاصّ.

وقد قرب صاحب الكفاية عدم دلالة الفعل بأقسامه على الزمان ببيان : ان فعل الأمر لا يدل إلا على طلب الفعل أو تركه من دون دلالة له على الزمان الحال أو المستقبل ، إذ مادته تدل على الفعل والهيئة تدل على إنشاء الطلب ، فليس فيه ما يوجب الدلالة على الزمان ، نعم الإنشاء يكون في الحال ولكنه أجنبي عن الدلالة على الحال ، إذ هو من باب انه فعل صادر من زماني فيقع قهرا في الزمان كسائر الأفعال ، مثل الاخبار بالماضي.

واما فعل الماضي والمضارع ، فلا يمكن الالتزام بدلالته على الزمان ، إذ

ص: 335

قد يسند إلى ما لا يقع في الزمان كنفس الزمان ، فيقال مضى الزمان ، فيقال مضى الزمان ، ويأتي ، وكالمجردات عن الزمان كالذات المقدسة ، فيقال : علم اللّه سبحانه ، فلو دل الفعل على الزمان لم يصح اسناده إلى مثل الزمان والمجردات إلا بالتصرف فيه بتجريده عن الخصوصية ، في حين انه لا يرى العرف في الاستعمال المذكور والإسناد أي تصرف ومسامحة.

وقد أيد صاحب الكفاية ما ذكره من نفي دلالة الفعل على الزمان : بأنه لا معنى لما يقال من ان المضارع للحال والاستقبال إذا أريد منه انه يدل على زمان يعمها ، إذ لا جامع بينهما. كما أيده بأنه قد يكون زمان الفعل الماضي مستقبلا وزمان المضارع ماضيا ، وانما يكون الأول ماضيا والثاني مستقبلا بالإضافة كما لو قيل : « يجيء زيد بعد أسبوع وقد ضرب قبله بيوم » ، و: « جاء زيد قبل سنة وهو يضرب بعده بيوم ». فلاحظ (1).

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية من نفي دلالة الفعل على الزمان مما لا إشكال فيه. فيتساءل حينئذ : بأنه إذا لم يكن الفعل دالا على الزمان وانما كان دالا على خصوص نسبة المبدأ إلى الذات ، فما هي جهة الفرق المحسوس بين الفعل الماضي والمضارع ، إذ من الواضح وجود الفرق بينهما وعدم صحة استعمال أحدهما مكان الآخر؟. وقد أجيب عن ذلك : بان لكل من الفعل الماضي والمضارع خصوصية بحسب معناه تختلف عنها في الآخر تلازم هذه الخصوصية الزمان الماضي في الفعل الماضي والحال أو الاستقبال في المضارع في ما يقبل الزمان من الفواعل كالزمانيات. وتلك الخصوصية هي جهة الفرق بين الفعلين (2).

وقد وقع الكلام في الكشف عن هذه الخصوصية وبيان حقيقتها.

فقيل : انها تحقق الفعل في الماضي وترقبه في المضارع ، وتحقق الفعل من

ص: 336


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الفاعل الزماني لا بد ان يكون في الزمان الماضي كما ان ترقبه منه يلازم صدوره منه فعلا أو بعد حين في الزمان المستقبل.

ولكنه يشكل ذلك : بان الفعل المضارع قد يستعمل في مورد لا يشتمل فيه على هذه الخصوصية بلا مسامحة ولا عناية ، مثل قول القائل : « إني أترقب أن يعلم زيد ، أو يأكل ، أو يسافر » ، فانه لا معنى لاشتمال الفعل في مثل المثال على خصوصية الترقب ، إذ يكون المعنى معه « إني أترقب ترقب علم زيد » وهو غير مقصود بلا كلام.

وقيل : ان الخصوصية ليست هي التحقق في الماضي والترقب في المضارع كي يرد هذا الإشكال ، بل هي النسبة التحققية في الماضي والنسبة الترقبية في المضارع ، بمعنى ان مدلول المضارع هو النسبة القابلة لورود الترقب عليها والتي من شأنها تعلق الترقب بها ، كما ان مدلول الماضي هو النسبة التحققية شأنا لا فعلا.

وأنت خبير : بان هذا ليس تفريقا وبيانا لجهة الفرق بل هو عين المدعى ، إذ المطلوب بيان الجهة الواقعية التي بها كانت النسبة المدلولة للفعل الماضي هي غير النسبة المدلولة للفعل المضارع والكشف عن حقيقة الخصوصية المفرقة ، وما ذكر لا يفي بذلك ، إذ هو لا يعدو كونه بيانا لأن مدلول الماضي والمضارع هو النسبة ولكنها مختلفة فيهما بخصوصية ما بلا بيان لتلك الخصوصية ، وظاهر ان هذا هو عين التساءل السابق الّذي صرنا في مقام الإجابة عنه. فلاحظ جيدا.

فالتحقيق ان يقال : ان الخصوصية التي يدل عليها الفعل الماضي الملازمة للزمان في الزمانيات هي السبق ، فهو يدل على سبق تحقق النسبة ، والخصوصية التي يدل عليها الفعل المضارع هي اللحوق ، فهو يدل على لحوق تحقق النسبة.

وتوضيح ذلك : ان السبق واللحوق لا يتقومان بالزمان كما قد يتوهم

ص: 337

بلحاظ ان السبق ينتزع عن وجود الشيء قبل آخر وفي زمان سابق على زمان الآخر ، بل هما أمران انتزاعيان ينتزعان عن وجود الشيء في فرض عدم الآخر ، وذلك يلازم الزمان الماضي والمستقبل في الفاعل الزماني الّذي يحتاج في فعله إلى الزمان ولا يمكن ان يقع في غير الزمان ، فالشيئان إذا لوحظ أحدهما بالإضافة إلى الآخر ، فتارة : يكون أحدهما موجودا في فرض وجود الآخر ، وأخرى : لا يكون أحدهما موجودا في فرض وجود الآخر ، فعلى الأول ينتزع عنوان التقارن ، وعلى الثاني ينتزع عنوان السبق واللحوق ، فالشيء الموجود فعلا يكون سابقا والّذي يوجد بعد ان لم يكن في فرض وجود الآخر يكون لاحقا ، فالسبق واللحوق عنوانان انتزاعيان ولا يتقومان بالزمان ، بمعنى انهما يصدقان في المورد غير القابل للزمان كالزمان نفسه ، فيقال الزمان السابق واللاحق ، نعم هما يلازمان الزمان في الزماني الّذي يحتاج في وجوده إلى الزمان ، وعليه فالفعل كالقيام - مثلا - حيث انه قابل لأن يوجد في فرض عدم الآخر فيكون سابقا كما انه يوجد بعد ان وجد غيره فيكون لاحقا فيمكن ان يراد تفهيم الحصة الخاصة السابقة أو المقارنة للسبق ، كما انه يمكن ان يراد تفهيم الحصة المقارنة للحوق ، فوضع الماضي للأولى والمضارع للثانية ، فيكون دالا على الزمان بالالتزام فيما كان الفاعل زمانيا لملازمة السبق واللحوق للزمان في الزمانيات ، تأمل تعرف (1).

ص: 338


1- الكلام في الفعل ودلالته على الزمان : ما أفاده في الكفاية. وما أفاده الأصفهانيّ من كونه مقيدا بالسبق واللحوق كما أشرنا إليه في المتن - والفرق بين دعوى صاحب الكفاية ودعوى الأصفهاني أو المشهور هو : ان مرجع دعوى الكفاية إلى اختلاف مدلول الماضي عن المضارع سنخا وحقيقتا ، كالاختلاف في مدلول : « من وإلى ». فمدلول الماضي أمر بسيط يختلف سنخا عن المضارر. ونصطلح عليه بالتحقق والترقب اما مرجع دعوى المشهور أو الأصفهاني فهي إلى ان الاختلاف في القيد ، وإلا فذات المقيد واحدة وهي النسبة الصدورية ، أو التلبس لكنه مقيد بالسابق في الماضي وباللحوق في المضارع. فيكون السبق أو الزمان مدلولا ضمنيا للفعل. بخلافه على الأول ، فانه مدلول التزامي. والصحيح هو ما أفاده في الكفاية لوجهين : الأول : ان أخذ التقيد بالسبق أو بالزمان في مدلول الفعل يستدعي لحاظ الطرفين تفصيلا ، سواء قلنا ان المعنى الحرفي عبارة عن الربط أو تضييق المفاهيم الاسمية ، ومن الواضح ان عند استعمال الفعل لا يلحظ السبق أو الزمان تفصيلا ، والمفروض أخذ أحدهما طرفا للتقيد والنسبة. الثاني : ان اختلاف نسبة المضارع والماضي إذا كانت بالتقيد ، كان مقتضى ذلك جواز استعمال أحدهما موضع الآخر مجازا كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية ، مع بداهة غلطية قولنا : « يجيء زيد أمس » أو : « جاء زيد غدا » : فيكشف ذلك عن اختلاف مفهوميهما سنخا وحقيقة وهو ما التزمنا به. واما ما ذكره في الكفاية مؤيدا من ان المشهور كون المضارع للحال والاستقبال مع امتناع الاشتراك اللفظي والمعنوي ، فيلازم كون المدلول خصوصية تلازم الزمانين. توضيحه : ان الفعل إنما يقع في واقع الزمان لا عنوانه. وعليه ، فقد يقال : بان الجامع بينهما موجود وهو غير الماضي أو نحوه ولا يخفى ان عنوان غير الماضي معرف إلى واقع الزمان وإلا فهو ليس ظرفا ، وليس هناك زمان واقعي يكون جامعا بينهما. وإنما ذكره مؤيدا لا دليلا ، ولأجل احتمال عدم إرادة الحال الدقي ، بل قيل انه غير متصور ، بل المراد بالحال هو الحال العرفي وهو مستقبل دقة ، فلا يكون للفعل إلا زمان الاستقبال فيندفع الإشكال.

الأمر الثالث : قد عرفت ان النزاع في وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ أو الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ ، ودلالة الهيئة على خصوص المتلبس أو عليه وعلى المنقضي عنه التلبس.

فقد يتوهم اختصاص النزاع بما إذا كان المبدأ فعليا كالضرب والأكل ، دون ما كان حرفة أو ملكة ، كالصياغة والشعر ، لوضوح صدق الصائغ على من له حرفة الصياغة ولو لم يكن متلبسا بالصياغة فعلا ، فلا نزاع في ذلك.

ولكنه توهم فاسد فان اختلاف المبادئ لا يوجب اختصاص النزاع بمورد دون آخر ، بل هو يتأتى في الجميع ، لكن الفرق في التلبس وعدمه ، فان المبدأ إذا كان فعليا كان التلبس به بمباشرته فعلا ويصدق الانقضاء عند عدم مباشرته ، واما إذا كان حرفة فالتلبس به يصدق ما دام محترفا ولو لم يباشر الفعل ، إذ لا يعتبر فيه المباشرة ، ولا يصدق الانقضاء إلاّ إذا انقطع عن الاحتراف. فالنزاع يقع حينئذ في صدق المشتق على من انقضى عنه المبدأ بمعنى انقطع عن الاحتراف.

ص: 339

وبالجملة : فالنزاع جار في الجميع ، وانما الاختلاف في فعلية التلبس والانقضاء ، فانها تختلف بحسب اختلافها كما عرفت.

الأمر الرابع : في بيان المراد بالحال المأخوذ في عنوان المسألة.

وهذا الأمر عديم الأثر والجدوى بالمرّة ، إذ لم تحرر المسألة كما حررها صاحب الكفاية كي نحتاج إلى شرح المراد ، إذ تحرير المسألة بان مفهوم المشتق هل هو خصوص المتلبس بالمبدإ فعلا أو الأعم منه وممن انقضى عنه التلبس؟ لا يحتاج معه إلى تحرير هذا الأمر بل وجوده كعدمه.

ولكنه حيث كانت عبارة الكفاية لا تخلو عن غموض وصارت محط النقاش تعرضنا لشرح مراده فقط وتوضيح عبارة الكفاية لا غير.

وتوضيح ذلك : ان المراد بالحال ليس حال النطق ، بمعنى انه لا يعتبر في صدق المشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدإ حال النطق ، إذ من المسلم ان قول القائل : « كان زيد ضاربا أمس ، أو سيكون ضاربا غدا » حقيقة إذا كان قد تلبس بالضرب أمس أو يتلبس به في الغد ، مع انه لا تلبس في حال النطق والتكلم.

وانما المراد بالحال حال التلبس وليس المقصود زمان التلبس كما استظهر - من عبارة الكفاية - المحقق النائيني قدس سره ، فأورد عليه : بأنه يلزم أخذ مفهوم الزمان في مفهوم الاسم ، وهو مما قام الإجماع على خلافه (1).

بل المقصود هو اتحاد الجري والإسناد والتلبس بحيث يكون الإسناد والجري في فرض فعلية التلبس ، فالمراد بالحال فعلية التلبس ، فيعتبر اتحادها مع الجري والإسناد.

وقد أيّد ما ذكره بالاتفاق الحاصل من أهل العربية القائم على عدم دلالة الاسم على الزمان ومنه المشتق ، فلو أريد من الحال حال النطق كان دالا على

ص: 340


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 57 - الطبعة الأولى.

الزمان كما لا يخفى.

واما اشتراط العمل في اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال ، فهو لا يتنافى مع الاتفاق المزبور ، إذ المراد انه بمعنى الحال أو الاستقبال بواسطة القرينة ، ويدل عليه اتفاقهم على مجازية اسم الفاعل في الاستقبال.

وقد يستشكل فيما ذكره المحقق الخراسانيّ لوجهين :

الأول : الاتفاق القائم على مجازية مثل : « زيد ضارب غدا » ، فانه لو كان المراد بالحال فعلية التلبس واعتبار اتحادها مع الجري لم يكن ذلك مجازا كما تقدم نظيره.

الثاني : ان الظاهر من الحال عند إطلاقه وعدم تحديده بشيء هو زمان الحال المساوق لحال النطق ، كما انه - أي زمان الحال - الظاهر من المشتق لانصرافه من الإطلاق ، أو لمقدمات الحكمة. وعليه فلا بد ان يراد بالحال في عنوان النزاع حال النطق وزمان الحال.

ويدفع الأول : بان مجازية مثل المثال المزبور انما هو لأجل انفكاك الجري عن فعلية التلبس ، إذ الظاهر من الإطلاق وقضيته كون الجري في الحال ، والقيد المذكور وهو : « غدا » بيان لزمان التلبس ، فالجري في الحال والتلبس في الاستقبال وهو مجاز.

وبالجملة : الظاهر من المثال إسناد الضرب الحاصل في الغد إلى زيد في الحال وذلك مجاز بلا كلام.

ويدفع الثاني : بان المقام مقام تعيين الموضوع له المشتق وبيانه ، وانه هل خصوص المتلبس في حال النطق أو مع فعلية التلبس ، أو الأعم منه ومما انقضى عنه ، فلا يثبت بحديث الانسباق والقرينة العامة ، فانه وان سلم لكنه لا يجدي فيما نحن بصدده من تعيين الموضوع بالعنوان المأخوذ في مورد الكلام وانه ما هو؟.

ص: 341

وبالجملة : ثبوت الانسباق لا يرتبط بعالم الموضوع له وتعيينه ، وان المقصود في العنوان ما هو؟ بل هو أجنبي عنه فلاحظ وتدبر (1).

الأمر الخامس : في تأسيس الأصل في المورد ، بمعنى انه مع التردد وعدم قيام الدليل على أحد الاحتمالين فهل هناك من الأصول ما يعين أحدهما أو تكون نتيجته توافق أحدهما؟.

والكلام تارة : في قيام الأصل في المسألة الأصولية ، أعني في مقام الوضع والموضوع له. وأخرى : في الأصل في المسألة الفرعية ، أعني في مقام ثبوت الحكم للمشتق مع عدم تعيين الموضوع له.

اما الأصل في المسألة الأصولية ، فهو غير ثابت ، إذ لا أصل لدينا. يعين ان الموضوع له خصوص المتلبس أو الأعم منه.

وما يدعى من جريان أصالة عدم ملاحظة الخصوصية فيثبت بها الوضع للأعم ، يدفع :

ص: 342


1- ذكر الأعلام : ان المراد بالحال في موضوع النزاع هو حال التلبس أو فعلية التلبس لا حال النطق ، واستشهدوا على ذلك بالمثالين. ولا يخفى ان المثالين لا يرتبطان بما نحن فيه بالمرة ، إذ البحث فيما نحن فيه اما عن حمل المشتق على المنقضي أو المتلبر. أو إطلاقه عليه. والمثالان أجنبيان ، إذ لم يطلق : « ضارب » على الذات ولم يحمل عليها فعلا ، وانما يدل على كونه كذا أمس أو غدا لا انه كذا ، فكأنه يقول : « ان زيدا مصداق للضارب أمس » وهذا لا حمل فيه بالمرة ، وكذا الحال في مثل : « زيد ضارب أمس » فان أمس بيان لوقت انطباق ضارب عليه ولا حمل بالفعل أصلا ، ومثله قد يتأتى في الجوامد التي لا نزاع في وضعها للأعم أو المتلبر. بل هي مختصة بالمتلبس قطعا ، فيقال : « سيكون هذا تمرا غدا وكان هذا رطبا أمس » .. والشاهد الّذي ينبغي ان يكون للمقام هو مطلق العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام ك- : « العالم يجوز تقليده ». و: « العادل يصح الائتمام به » وهكذا ، فانه لا إشكال في عدم إرادة خصوص المتلبس حال الكلام مع انه لا تجوز في الاستعمال أصلا. واما ما ذكره في الكفاية تحت عنوان : « لا يقال ... فانه يقال » .. فهو لا يخلو عن إجمال سؤالا وجوابا ، فان ارتباط السؤال بما تقدم لا يخلو عن إجمال. كما ان تسليم صاحب الكفاية بظهور المشتق في الحال غير واضح ، والمتيقن هو ظهور المشتق في الحال ، بمعنى فعلية التلبس عند فعلية الحكم في قبال التعليق لا الحال في قبال الاستقبال. فتدبر.

أولا : بأنها معارضة بأصالة عدم ملاحظة العموم ، إذ الوضع للأخص كما يقتضي ملاحظة الخصوصية فتنفى بالأصل ، كذلك الوضع للأعم يستدعي لحاظ العموم للزوم ملاحظة الموضوع له ولا يكتفي في لحاظه بعدم لحاظ الخاصّ ، لأنّ الخاصّ والعام متباينان بحسب المفهوم ، إذ لكل منهما حدّه الوجوديّ المميز له عن غيره ، فعدم لحاظ أحدهما لا يكون لحاظا للآخر ، فتنفى ملاحظة العموم بالأصل أيضا.

وثانيا : ان الأصل المذكور ان كان المقصود منه الأصل العقلائي ، فلا دليل عليه إذ لم يثبت بناء العقلاء على نفي ملاحظة الخصوصية مع الشك بها. وان كان المقصود منه الاستصحاب فيستصحب عدم ملاحظة الخصوصية من باب أصالة عدم الحادث ، فيمنع : بأنه يعتبر في المستصحب ان يكون ذا أثر شرعي ان لم يكن هو حكم شرعي ، كما هو الحال فيما نحن فيه ، وليس لعدم ملاحظة الخصوصية أثر شرعي إلا بواسطة أو وسائط ، لكنه لا ينفع في جريان الاستصحاب إلا بناء على الأصل المثبت.

واما ما يدعى من ترجيح الاشتراك المعنوي اللازم للوضع للأعم على الحقيقة والمجاز اللازم للوضع للأخص ، عند الدوران بينهما ، من جهة غلبة الاشتراك المعنوي ، فيدفع :

أولا : بمنع الصغرى ، إذ لم تثبت الغلبة.

وثانيا : بمنع الكبرى ، إذ لا دليل على الترجيح بالغلبة لو سلم ثبوتها.

واما الأصل في المسألة الفرعية ، فقد ذكر صاحب الكفاية بأنه يختلف باختلاف الموارد ، فقد تكون نتيجته في بعض الموارد تلائم الوضع للأخص كما لو ورد : « أكرم كل عالم » وكان زيد قد انقضى عنه العلم قبل الإيجاب فانه حيث يشك في صدق العالم عليه فعلا للشك في الوضع يشك في ثبوت الحكم له أيضا ، فأصالة البراءة عن وجوب إكرامه تنفي ثبوت الحكم له. وقد تكون نتيجته تلائم

ص: 343

الوضع للأعم كالمثال المزبور وكان زيد متلبسا بالعلم حال الإيجاب لكنه انقضى عند بعد ورود الوجوب ، فانه حينئذ يشك في بقاء الحكم له للشك في عالميته فيستصحب وجوب إكرامه (1).

هذا ما أفاده قدس سره في المقام ، وقد صار محل الإشكال بحكمه بجريان استصحاب الوجوب وتحقيق المقام ، لأن الاستصحاب ذو جهتين : جهة الحكم وجهة الموضوع. فيقع الكلام في إمكان جريانه في الحكم وجريانه في الموضوع ، اما من يقول بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية فهو في راحة من عدم جريان استصحاب الحكم هنا ، فالكلام في جريان استصحاب الحكم هاهنا وعدمه مبني على جريان الاستصحاب في نفسه في الشبهات الحكمية ومنشأ التوقف في جريانه هو الشك في بقاء الموضوع. فالكلام يقع في جهتين :

الأولى : جريان الاستصحاب في الموضوع ، بمعنى يستصحب كونه عالما بعد ان كان كذلك للشك فيه.

وقد استشكل فيه هنا ، بل في كل استصحاب للموضوع ، ومنشأ الشك فيه من جهة الشبهة المفهومية كاستصحاب النهار لتردده بين سقوط القرص وذهاب الحمرة بان المستصحب اما ان يكون ذات الموضوع ، أو الموضوع بوصف كونه موضوعا للحكم. فان كان ذات الموضوع وبقائه في العالم ، فهو لا يثبت موضوعية الموجود إلاّ بنحو الأصل المثبت. وان كان الموضوع بما هو موضوع ، فهو كاستصحاب الحكم ، لأن الموضوعية انما تنتزع عن مقام ثبوت الحكم لموضوعه ، فهي عارضة على الذات فلا يمكن استصحابها للشك في بقاء معروضها ، ويعتبر في الاستصحاب بقاء المعروض لتقوم صدق النقض والإبقاء ببقائه ، إذ مع عدم بقائه لا يكون عدم الحكم بثبوت عارضه في فرض الشك نقضا لليقين بالشك

ص: 344


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /45- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كما ان الحكم بثبوته لا يعد إبقاء ، بل إسراء للحكم الثابت لموضوع إلى موضوع آخر. وعليه فإذا اعتبر بقاء المعروض في الاستصحاب فمع الشك في بقائه لا يجري الأصل للشك في صدق النقض والإبقاء ، فتكون الشبهة مصداقية لا يتمسك فيها بعموم دليل الاستصحاب.

والإنصاف : أن هذا الإشكال لا يمنع من جريان الاستصحاب فيما نحن فيه ، لأنه وان سلم في نفسه ، إلا ان الأمر لا يدور بين الاحتمالين المذكورين بل هناك شق ثالث ، وهو جريان استصحاب انطباق المفهوم على الموجود الخارجي. بل هو الّذي يقصد استصحابه ، فان المقصود استصحاب عالمية هذا الشخص ، فانها كانت ثابتة له قبل الانقضاء ، فمع الشك فيها بعد الانقضاء تستصحب.

وبعبارة أوضح : يستصحب كون هذا الشخص عالما واتصافه بالعالمية لليقين السابق والشك اللاحق ، ولا محذور فيه مما ذكر أصلا كما لا يخفى ، فيثبت له الحكم لتمامية الموضوع تعبدا.

نعم ، هذا غير تام من جهة أخرى ، وهي ان خصوصية التلبس لو كانت مأخوذة في الموضوع له كانت مقومة للصدق والانطباق ودخيلة في موضوعه ، بحيث إذا انتفت ينتفي الانطباق والاتصاف لانتفاء موضوعه ، فمع الشك في دخالة هذه الخصوصية في الموضوع له لفظ المشتق ، يحصل الشك عند انتفائها في بقاء معروض الانطباق ، فلا يصح استصحاب الانطباق لعدم العلم ببقاء موضوعه ، فلا يحرز انه إبقاء للحالة السابقة ، بل يمكن ان يكون إسراء للمستصحب من موضوع إلى آخر.

الثانية : جريان الاستصحاب في الحكم ، وقد استشكل فيه من جهة الشك في بقاء موضوعه وهو العالم في المثال المذكور ، فلا يحرز كون إثبات الحكم في صورة الشك إبقاء وعدمه نقضا كي يكون مشمولا لعموم الأدلة ، بل يكون المورد من موارد الشبهة المصداقية كما أشرنا إليه.

ص: 345

والإنصاف : ان الحكم بعدم جريانه على إطلاقه ممنوع ، بل يختلف باختلاف موارده ، فالمورد الّذي يرى العرف تقوم الموضوع ومعروض الحكم بالعنوان بحيث يكون العنوان في نظره من الجهات التقييدية ، نظير جواز تقليد المجتهد ، يمتنع إجراء الاستصحاب للشك في بقاء معروض الحكم ، واما المورد الّذي يرى العرف ان الحكم ثابت للذات وان معروض الحكم هو نفس الذات وان العنوان جهة تعليلية للحكم نظير وجوب إكرام العالم ، فان الإكرام يعرض على نفس الذات ، لم يمتنع إجراء الاستصحاب لإحراز بقاء الموضوع ، إذ ليس المراد بالموضوع الا معروض الحكم لا كل ما كان دخيلا في ثبوت الحكم.

وقد أوضحنا الكلام في الجهتين في الأمر الأول من خاتمة الاستصحاب في الدورة السابقة فلاحظ.

ولعل نظر المحقق صاحب الكفاية في إجراء استصحاب الحكم مع التزامه باعتبار بقاء الموضوع في باب الاستصحاب إلى النحو الثاني ، فتدبر (1).

وبعد هذا كله شرع صاحب الكفاية في تحقيق الحق في المسألة وبيان ان الموضوع له هل هو خصوص المتلبس - كما ذهب إليه الأشاعرة ومتأخرو الأصحاب - ، أو الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ - كما ذهب إليه المعتزلة ومتقدموا الأصحاب -؟. وقد أشار قدس سره إلى تفرع الأقوال وتكثرها

ص: 346


1- في نفي أصالة عدم ملاحظة الخصوصية يقال : ان جريان الأصل يتوقف على .. أولا : على كون الحكم المردد موضوعه انحلاليا بلحاظ قيد المشكوك ، كالوجوب المتعلق بالمركب ، اما إذا لم يكن انحلاليا كإمضاء المعاملة المرددة بين كونها مطلق البيع أو البيع الخاصّ ، فان إمضاء البيع الخاصّ لا ينحل إلى إمضاء ذات البيع وإمضاء الخصوصية كي يكون هناك قدر متيقن. وثانيا : على كون التردد. بالإطلاق والتقييد كالتردد بين العالم والعالم العادل. اما إذا كان التردد بالتباين نظير زيد والإنسان ، لأن زيد ليس عبارة عن كلي وإضافة ، فلا يجري الأصل أيضا لعدم القدر المتيقن. والوضع للمتلبس من هذا القبيل ، فانه ليس مما يقبل الانحلال أولا فهو كالإمضاء ، والأعم والمتلبس متباينان مفهوما وليست النسبة هي الأقل والأكثر فلاحظ.

أخيرا الناشئ من توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه ، أو بتفاوت أحواله من كونه محكوما عليه أو محكوما به ونحوهما ، وقد اتضح فساد هذا التوهم ونظيره مما تقدم كما لا يخفى.

والّذي اختاره قدس سره هو الوضع لخصوص المتلبس مستدلا على ذلك بالتبادر وصحة السلب عن المنقضي ، وصدق نقيض الصفة عليه حال الانقضاء أو ضدها (1).

ووافقه المحقق النائيني قدس سره في هذا الاختيار ، لكنه نهج في استدلاله على المدعى نهجا برهانيا لا عرفيا وجدانيا.

ومحصل ما جاء في تقريرات بحثه للسيد الخوئي ( دام ظله ) : ان النزاع في الوضع لخصوص المتلبس أو للأعم منه ومن المنقضي عنه المبدأ يبتني على القول بالبساطة أو التركيب ..

فلازم القول بان مفهوم المشتق مفهوم مركب الوضع للأعم ، إذ معنى المشتق يكون ذات المنتسب لها المبدأ ، فالركن الركين حينئذ يكون هو الذات وانتساب المبدأ إليها وان أخذ في مفهوم المشتق لكنه بنحو الجهة التعليلية ، لصدق المشتق على الذات ولم يؤخذ في النسبة التقييدية زمان دون زمان ، فيكفي في صدق المشتق تحقق التلبس والانتساب في الجملة مع بقاء الذات ، فيكون صادقا على المنقضي بحسب ذات المعنى في نفسه.

كما ان لازم القول ببساطة مفهوم المشتق الوضع للأخص ، إذ مرجع القول بالبساطة إلى القول بان مفهوم المشتق هو نفس المبدأ ، وهو الركن الركين فيه ، فمعنى قائم هو القيام ، غاية الأمر انه ملحوظ بنحو يصحّ حمله على الذات وجريه عليها دون نفس المصدر. وعليه فمفهوم المشتق بتقوم بالمبدإ ، فمع انعدامه

ص: 347


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /45- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لا يصدق المشتق لعدم معناه. فيكون المشتق أشبه بالجوامد من هذه الجهة.

ثم انه بعد ان أوضح الفرق بين المشتق والجوامد من جهة أخرى ، وبعد ان ذكر الاستدلال بالتبادر وصحة السلب ذكر : ان القول بالوضع لخصوص المتلبس بالمبدإ متعين حتى مع الالتزام بالتركيب ، وان المسألة لا تبتني بقوليها على القول بالبساطة والتركيب ، بتقريب : ان من يقول بالتركب يدعى تركبه من الذات والمبدأ ولكن لا على الإطلاق ، بل الذات متضمنة لمعنى حرفي ، وهو نسبة المبدأ إلى الذات. وعليه ، فوضع المشتق للأعم يتوقف على أخذ الزمان في مفهوم المشتق ، فانه هو الجامع بين المتلبس والمنقضي ولا جامع غيره ، ومن المقرر والواضح ان مفاهيم المشتقات عارية عن الزمان فلا يكون هناك ما يجمع بين الفردين فلا يصح الوضع للأعم لعدم الجامع ، فيدور الأمر حينئذ بين وضعه لخصوص المنقضي ، أو له بوضع آخر على سبيل الاشتراك ، أو للمتلبس فقط ، والأولان لا يقول بهما أحد ، بل هما خلاف الالتزام بالوضع للأعم ، فيتعين الثالث ، وهو المطلوب (1).

وقد استشكل السيد الخوئي فيما ذكره قدس سره أخيرا من عدم الجامع بدعوى : إمكان تصور الجامع بين المنقضي والمتلبس بأحد وجهين :

الأول : ان يقال ان الجامع هو اتصاف الذات بالمبدإ في الجملة أعم من ان يكون فعليا أو قد انقضى في مقابل الذات التي لم تتصف بالمبدإ أصلا.

الثاني : ان يقال بوجود الجامع الانتزاعي لو أنكر وجود الجامع الحقيقي ، وهو عنوان أحدهما. وهو كاف في مقام الوضع فلا يتوقف على الجامع الحقيقي لأن المطلوب تصور الموضوع له بنحو ما وهو يحصل بالجامع العنواني (2).

ص: 348


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 74 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 250 - الطبعة الأولى.

والتحقيق : تمامية ما أفاده المحقق النائيني من عدم إمكان تصور الجامع سوى الزمان.

بيان ذلك : انه قد عرفت فيما تقدم ان المعاني الحرفية من سنخ الوجود لا المفاهيم. وعليه فكل منها يغاير الآخر لتغاير الوجودين ، فلا يتصور الجامع بين سنخين من النسبة والربط. نعم الجامع بين افراد سنخ واحد من الربط ممكن كالجامع بين النسب الظرفية ، وهو ( النسبة الظرفية ) وغيرها ، ومن الظاهر ان نسبة المبدأ إلى الذات في حال التلبس تختلف عنها في حال الانقضاء ، فان الربط بين المبدأ والذات في حال التلبس ربط حقيقي واقعي ، وفي حال الانقضاء ربط مسامحي ادعائي ، إذ لا ارتباط حقيقة بينهما عند انعدام المبدأ لانعدام أحد طرفي النسبة. وعليه ، فسنخ نسبة المبدأ إلى الذات حال التلبس يختلف عن سنخ نسبته إليها في حال الانقضاء ، فالوضع للأعم مع أخذ النسبة في مفهوم المشتق يتوقف على تصور جامع بين هاتين النسبتين يشار به إليهما ويوضع اللفظ إليها بواسطته ، وقد عرفت ان الجامع بين سنخين من النسبة مفقود لتغاير أنحاء النسب وتباينها. ولعل نظر المحقق النائيني إلى هذا المعنى.

وعليه ، فيختص المشتق بالوضع لخصوص المتلبس كما لا يخفى. ومن هنا يظهر عدم وصول النوبة إلى الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس بالتبادر وصحة السلب ونحوهما ، فلاحظ جيدا وتدبر (1).

ص: 349


1- في بيان الحق لمسألة المشتق : ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى استحالة الوضع للأعم على البساطة وعلى التركيب ، لعدم تصور الجامع. ويمكن المناقشة بذلك بدوا .. اما على البساطة ، فلأنه إنما يتم كلامه لو كان معنى المشتق هو المبدأ لا بشرط ، لعدم تصور الجامع حينئذ ، اما إذا كان معناه واجدية الذات للصفة فيمكن تصور الجامع كما لا يخفى. واما على التركيب ، فيرد عليه : أولا : النقض بقضايا الأحكام المثبتة للحكم على الموضوع بوجوده الحدوثي واستمرار الحكم بعد عدم الموضوع ، كالتغير في نجاسة الماء. وثانيا : بالحل ، فانه لا نحتاج إلى تصور الجامع في الموضوع ، بل الملحوظ وجود موضوع المطلق وتلبس الذات بالمبدإ مطلقا ولو انقضى عنها بعد ذلك ، ونقول في الوضع كذلك لأنه من سنخ الحكم على المعنى فلاحظ. وعليه ، فلا بد من إيقاع الكلام في مرحلة الإثبات ، وقد ذكر في الكفاية وجودها لإثبات الوضع للمتلبس خاصة. وتعرض في ضمن استدلالاته للاستدلال بصحة السلب. وأورد عليه في ذيل كلامه وأجاب عنه. وفي الجواب نظر ، يرجع إلى تسليمه الإشكال لو رجع القيد إلى المسلوب ، فان التسليم ممنوع ، فان رجوعه لا يضر ، لأن السلب إذا انصب على الموصوف ، فان كانت الصفة لازمة كان مقتضاه نفي الطبيعة ، كما لو أخذ بياض زيد فقيل انه ليس إنسان أبيض ، فان معناه نفي الإنسانية عنه. وما نحن فيه كذلك ، لأن الفرض تحقق المبدأ ، فقولنا : « ليس زيد بضارب الآن » مع تحقق الوصف فيه يكشف عن عدم اسناد الطبيعة بقول مطلق إليه فلاحظ. ثم ان ظاهر الكفاية اختيار صحة السلب مقيدا ، وتسليم عدم سداد صحة السلب المطلق. وهو قابل للخدشة أيضا ، إذ يصح ان يقال : « زيد ليس بضارب » مع الانقضاء. ودعوى : انه لا يصح ان يقال : « زيد ضارب أمس ». تندفع : بما عرفت من عدم تكفل هذه الجملة للحمل أصلا ، بل تتكفل صلاحية الحمل أمس ، فلا تتكفل الحمل الفعلي ، إذ الحمل هو الاتحاد في الوجود ، وضارب أمس معدوم ، فكيف يتحد مع زيد الفعلي. وعليه ، فيصح السلب المطلق وعدم الحمل المطلق الآن بالنسبة إلى زيد ، فيقال : « زيد ليس بضارب » ولا إشكال فيه. وكيف كان ، فقد تحصل من جميع ما تقدم : إمكان الوضع للمتلبس وإمكان الوضع للأعم ، ولكن الدليل إثباتا يساعد على الأول. هذا والإنصاف تمامية ما أفاده المحقق النائيني مع عدم تصور الوضع للأعم. واما ما ذكرناه سابقا _ في المتن _ من قياس الوضع بجعل الحكم على الموضوع بملاحظة حدوثه خاصة. ففيه : ان باب الوضع يختلف عن باب الحكم ، لأن الحكم يتعلق بالموضوع بنحو القضية الحقيقية ويصير فعليا بفعلية موضوعه ، والملحوظ في الموضوع هو وجود العنوان الخارجي لا نفس المفهوم بما هو. بخلاف الوضع فانه يرتبط بالمفهوم ولا نظر له إلى الخارج ، ولذا تتحقق العلقة الوضعيّة بالفعل ولو لم يكن للمفهوم وجود أصلا ، فالموضوع له هو المفهوم. ومن الواضح ان التلبس والانقضاء من عوارض الوجود لا من عوارض المفهوم ، فالموضوع له هو الطبيعي وهو لا يتصف بالتلبس والانقضاء ، وما يتصف بالتلبس والانقضاء لا يوضع له اللفظ. وعليه ، فإذا فرض ملاحظة مفهوم الذات المتلبسة ووضع اللفظ لها فلا تنطبق مع غير المتلبسة ، والوضع للذات الأعم لا مجال له ، لأن نفس مفهوم الذات لم يوضع لها الذات ، بل مع ملاحظة ارتباطها من مبدأ ، ولا جامع بين التلبس والانقضاء كي يوضع للمفهوم الجامع. ولا بأس بالإشارة إلى وجوه تصور الجامع وملاحظتها ، فقد ادعي وجود الجامع بوجوده : الأول : دعوى انه هو الذات المتصفة بنحو الموجبة الجزئية في قبال عدم الاتصاف بالمرة وهي تصدق على المنقضي والمتلبس بالفعل .. وفيه : ان مفهوم الاتصاف لم يلحظ في الموضوع له جزما ، وانما يراد به واقعه ، وهو النسبة ، ولا جمع بين النسبتين كما لا يخفى ، لأن النسبة معنى حرفي ولا يتصور الجامع في الخارج لتباين النسب. الثاني : الالتزام بالجامع العنواني نظير ما يلتزم به في الوجوب التخييري كعنوان أحدهما .. وفيه : انه يلزم وضع الهيئة لهذا العنوان ومقتضاه الترادف وهو باطل جزما مع انه معنى اسمي والهيئة من الحروف. ثم ان أريد أحدهما المعين في الواقع فهذا غير جامع. وان أريد على سبيل البدل فيلزم تعدد الموضوع له وهو خلف. مع انه لا وجود خارجا لو أريد واحد منهما لا كليهما. فتأمل. الثالث : ان يكون الجامع من وجدت فيه الصفة. وفيه : انه يلزم عدم صحة : « زيد ضارب الآن » لعدم صدق الماضي في حقه ، مع استلزامه لبعض المحاذير الأخرى التي أشار إليها المحقق الأصفهاني فراجع. واما جواب الكفاية عن استدلال للأعم بالآية الكريمة. فهو قابل للمناقشة ، بان يمكن للخصم ان يدعي ان استدلال الإمام عليه السلام كان بسبب الظهور الأوّلي للكلام وبضميمة ظهور الكلام في فعلية الموضوع عند فعلية حكمه. نعم يثبت ان عنوان الظالم كان ينطبق على الخلفاء. واما دعوى كون المورد ليس من تلك الموارد ، فهذا خلاف الظاهر الأولي في كل قضية. ولا بد ان يكون احتجاجه بملاحظة ذلك والاسهل على الخصم إنكاره. فالحق في الجواب : ان سؤال إبراهيم عليه السلام لا يمكن ان يكون لمن هو متلبس بالظلم فعلا ومن ينطبق عليه عنوان الظالم فعلا ، فلا بد ان يكون للأعم من المتلبس سابقا ولمن لم يتلبس أصلا. فالجواب هو التفصيل فالمراد بالآية هو خصوص المتلبس سابقا فلاحظ. ثم انه لا عبرة لبعض الأجوبة المذكورة عن الاستدلال بالآية لوضوح الإشكال فيها. واما الاستدلال على الوضع للمتلبس أو نفي الثمرة في الخلاف بعدم الإشكال في نفي الحكم بانقضاء المتلبس ، كما في موارد الحيض. فهو ضعيف ، لأن فعلية الحكم تدور مدار فعلية الموضوع ، فإذا كان الموضوع هو الأعم كان فعليا. وأحكام الحيض انما لا تثبت ، للأدلة القطعية على ان المانع حدث الحيض لا عنوان الحائض. فلاحظ.

ص: 350

ص: 351

ص: 352

« تنبيهات المسألة »

التنبيه الأول : في بيان بساطة مفهوم المشتق أو تركيبه.

ولا بد قبل الخوض في المطلب من بيان المراد بالبساطة والتركيب وتعيين محل الكلام فيهما.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى تحديد المتنازع فيه ، فذكر : ان المبحوث عنه هو البساطة في عالم التصور واللحاظ لا الواقع وبحسب التعمل العقلي. وبيان ذلك : ان الشيء قد يكون بسيطا في عالم اللحاظ بمعنى انه لا يتحقق في الذهن عند التعبير عنه إلا صورة واحدة لا أكثر ، ولكنه في الواقع والحقيقة قد يكون كذلك كالبياض ، فانه في ذاته بسيط ، كما انه صورة ولحاظا كذلك. وقد يكون مركبا بالتركيب الحقيقي كالإنسان ، فانه حقيقة ذو جزءين الحيوان والناطق ، ولكنه واحد صورة ولحاظا ، أو بالتركيب الاعتباري كالدار ، فانه بحسب الاعتبار ذو اجزاء ، إذ هو اصطلاح عرفي على مجموعة أمور كالساحة والغرفة والسطح ، ولكن صورته الذهنية واحدة. فالكلام في ان المشتق بسيط في عالم التصور أو مركب؟ ، بمعنى انه حين إطلاق اللفظ هل تأتي في الذهن صورة لشيء واحد أو أشياء؟ وليس الكلام في واقع المشتق وحقيقته (1).

ص: 353


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /54- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن ما ذكره قدس سره غير تام كما قيل (1).

والوجه فيه : انه لا كلام في بساطة المشتق بحسب التصور واللحاظ ، إذ الموضوع له إذا كان معنى واحدا لحاظا وان كان مركبا حقيقة أو اعتبارا ، كان المتصور عند إطلاق اللفظ ذلك المعنى الواحد والموجود في الذهن صورته لا صورتان فشأن المشتق لا يقل عن شأن المركبات الاعتبارية في جهة كونها بسيطة إدراكا ، فلا إشكال في بساطته من حيث الإدراك ولا كلام في هذه الجهة ، انما الكلام في بساطة وتركيب ذاته وحقيقته ، وهي محط الكلام بين الاعلام ، كما تشعر به عباراتهم في المقام ، فلاحظها.

وإذا اتضح لك موضوع الكلام ، فقد وقع الكلام في بساطة المشتق وتركيبه ، وقد ذهب صاحب الكفاية إلى بساطته وفاقا للسيد الشريف ، وتعرض إلى ذكر استدلاله على البساطة ونفي التركيب : بان مقتضى التركيب ان يكون معنى المشتق ذاتا لها المبدأ ، فحينئذ يقال : بان الذات المأخوذة اما مفهوم الذات أو مصداقها الخاصّ ، فعلى الأول : يلزم دخول العرض العام في الفصل في مثل : « الإنسان ناطق ». وعلى الثاني : يلزم انقلاب مادة الإمكان الخاصّ في القضايا إلى الضرورة ، إذ يكون الموضوع جزء المحمول وحمل الشيء على نفسه ضروري ، لأن المعنى يكون في مثل : « الإنسان ضاحك » و « الإنسان إنسان له الضحك » (2).

وأجاب في الفصول عن كلا شقي الإشكال :

اما عن الأول : فبان الناطق انما كان فصلا في عرف المنطقيين ولم يثبت انه كذلك لغة ووضعا.

ص: 354


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 91 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /51- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

واما عن الثاني : فبان المحمول ليس هو الموضوع على إطلاقه كي يكون الحمل ضروريا ، بل المحمول هو الموضوع المقيد بالضحك ، وحيث ان ثبوت القيد غير ضروري فلا يكون حمل المقيد ضروريا (1).

واستشكل صاحب الكفاية في الجواب الأول : بأنه من الواضح ان المنطقيين جعلوا الناطق فصلا بما له من المعنى لغة وعرفا بلا نقله من معنى آخر.

واستشكل في الجواب الثاني : بان المحمول وان كان مقيدا ، إلاّ انه لا يخلو الأمر من أحد حالين ، اما ان يكون المحمول هو ذات المفيد بلا دخل للقيد والتقييد أصلا ، بل لوحظ التقييد مرآتا وعنوانا للذات. واما ان يكون المحمول هو المقيد ، بما انه مقيد ، بحيث يكون جهة التقيد والقيد دخيلة في المحمول وليست معرفة فقط. فعلى الأول يكون الحمل ضروريا لحمل الشيء على نفسه. وعلى الثاني تنحلّ القضية إلى قضيتين ، أحدهما : « الإنسان إنسان ». والأخرى : « الإنسان له النطق ». والقضية الأولى ضرورية ، وجهة الانحلال : ما تقرر من ان الوصف قبل العلم به خبر في الحقيقة ، فقولنا : « زيد شاعر ماهر » يشتمل على خبرين حقيقة الاخبار بالشعر وبالمهارة فيه ، وان لم تؤخذ المهارة بنحو الخبر بل بنحو الوصف ، فالقيد وان أخذ وصفا لكنه في الحقيقة اخبار ، فينحل المحمول إلى خبرين (2). وللانحلال تقريب آخر ليس محل ذكره هاهنا.

ثم ان صاحب الفصول نفسه تنظر في الجواب الثاني : بان المحمول وان كان مقيدا ، لكن الذات المقيدة به اما ان تكون مقيدة به واقعا أو لا. فعلى الأول يصدق الإيجاب بالضرورة. وعلى الثاني يصدق السلب بالضرورة. فالانقلاب لازم لا محالة.

ص: 355


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /61- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /52- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتنظر فيما ذكره صاحب الكفاية : بأن الانقلاب المدعى لا يثبت بما ذكر ، إذ المناط في الجهات ومواد القضايا انما هو ملاحظة نسبة المحمول إلى الموضوع بحسب ذاته بلا لحاظ الواقع وثبوتها له واقعا وعدم ثبوتها له ، بل لحاظ ثبوت النسبة واقعا للموضوع يوجب صدق الضرورة في جميع القضايا ، لأن القضية بشرط المحمول تكون ضرورية لا محالة. وما ذكره صاحب الفصول انما هو من باب الضرورة بشرط المحمول ، وهو أجنبي عن موضوع الكلام ، كما عرفت (1).

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره قد استشكل الشق الأول من استدلال المحقق الشريف - أعني لزوم دخول العرض العام في الفصل - : بان الناطق ونحوه مما يعد فصلا ليس فصلا في الحقيقة ، فان معرفة الفصل الحقيقي تكاد تخفي على كل أحد ، كما قرر ذلك ، ولا يعرفها سوى علام الغيوب ، وانما هو ونظائره من الآثار واللوازم الخاصة للفصل الحقيقي فتعرف بها الذات. وعليه ، فأخذ مفهوم الذات أو الشيء في مفهومه لا يستلزم سوى دخول العرض العام في الخاصة ولا محذور فيه ، إذ لا يلزم منه دخول العرضي في الذاتي (2). ولم يناقش قدس سره في الشق الثاني من الدليل ، ولكن المناقشة في الشق الأول كافية في إبطال الدليل ، إذ يمكن اختياره دون الشق الثاني.

ولكنه رحمه اللّه ذكر بعد كل هذا دليلا آخر على البساطة ونفى التركيب ، وهو : عدم تكرار الموصوف في مثل : « زيد كاتب » فان : « كاتب » لو كان مركبا من الذات والنسبة والمبدأ لزم تعدد الموصوف مع أنه واحد ضرورة (3).

والّذي يتحصل : ان الدليل على نفي التركيب بأخذ الذات في مفهوم المشتق عند صاحب الكفاية انما هو عدم تعدد الموصوف وتكراره.

ص: 356


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /53- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /52- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /54- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن هناك قولا آخر في التركيب لا يرجع إلى أخذ الذات في مفهوم المشتق ، بل إلى أخذ خصوص النسبة ، فمفهوم المشتق مركب من النسبة والمبدأ.

وقد أورد على هذا : بوجود موارد يصدق فيها المشتق بلا لحاظ النسبة فيها ، فانه يقال للبياض : انه أبيض ، قبل ملاحظة انه من الاعراض المتقومة بالغير أو المتقومة بذاتها ، بل بملاحظته ذاته. ومن هنا ادعي : أن مفهوم المشتق بسيط وان مفهومه نفس المبدأ ، فمفهوم قائم عين القيام وأبيض عين البياض ، إلا انهما يختلفان اعتبارا ولحاظا ، فقد لوحظ المبدأ في المصدر بما انه موجود مغاير للذات ومباين لها ، ولذلك لم يحمل عليها ، ولوحظ في المشتق بما انه من أحوال الذات وأطوارها وعوارضها ، فصار له مع الذات نحو اتحاد فصح حمله عليها.

وبالجملة : لا فرق بين قائم والقيام ونحوها إلا بالاعتبار ، فانهما بحسب المعنى متحدان ، واختلافهما اعتباري وهو الّذي أوجب صحة حمل أحدهما على الذات دون الآخر ، فان المصدر ملحوظ بشرط لا والمشتق ملحوظ لا بشرط الحمل.

وأورد عليه صاحب الفصول : بان ذات المعنى إذا كانت مغايرة للذات وجودا ومفهوما ومباينة لها لم يفد لحاظها من عوارض الذات وأوصافه وأطواره في تصحيح حمله عليها بالحمل الشائع ، إذ هذا اللحاظ لا يرفع المغايرة الذاتيّة بين الوجودين ولا يوجب وحدتهما في الوجود ، وهذا يدل على ان للمشتق سنخ معنى غير المبدأ متحد مع الذات في نفسه دون المصدر ، كما لا يخفى (1).

وقد حمل صاحب الكفاية كلام أهل المعقول ودعواهم بان المشتق مأخوذ لا بشرط والمصدر مأخوذ بشرط لا ، على تغاير مفهوميهما سنخا ، وان مفهوم

ص: 357


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /62- الطبعة الأولى.

المشتق سنخ مفهوم لا يأبى الحمل على الذات ولا بشرط من حيث الحمل دون مفهوم المصدر ، فان مفهومه بنحو يأبى الحمل على الذات وبشرط لا (1).

ولكن استشكل المحقق الأصفهاني رحمه اللّه : بان من يلاحظ كلام أهل المعقول يجده صريحا في دعوى وحدة مفهوم المشتق ومبدئه ، وان الاختلاف بينهما باللابشرطية وبالشرطلائية ، اعتباري لا غير (2).

وعليه ، فلا يتصور لدعوى البساطة بهذا المعنى وجه قريب.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني رحمه اللّه إلى بساطة مفهوم المشتق بمعنى آخر وتصوير غير هذا التصوير (3). ومحصل دعواه : ان الموضوع له المشتق سنخ معنى مبهم. التنبيه الثاني : في ملاك الحمل.

وهو الاتحاد من جهة والتغاير من جهة ، وذلك لأن مقتضى الحمل هو الهوهوية بين شيئين وبيان ان المحمول هو الموضوع ، فمع التغاير من جميع الجهات لا يصح فرض كون المحمول هو الموضوع ، كما انه مع الاتحاد من جميع الجهات يمتنع الحمل لتقومه بفرض شيئين يكون أحدهما هو الآخر ، ومع الاتحاد عن جميع الجهات لا تعدد أصلا فلا محمول وموضوع. ثم ان الاتحاد المفروض في ملاك الحمل ان كان هو الاتحاد مفهوما وحقيقة سمّي الحمل بالأولي الذاتي ، وان كان هو الاتحاد في الوجود مع التغاير في المفهوم سمّي بالحمل الشائع الصناعي ، - كما أشرنا إليه فيما سبق -.

هذا تمام الكلام في ملاك الحمل.

وقد أشار المحقق صاحب الكفاية إلى ما جاء في الفصول من : لزوم

ص: 358


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /55- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية/1 95 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية/1 92 - الطبعة الأولى.

ملاحظة التركيب بين المتغايرين بملاحظتهما شيئا واحدا وحمل أحدهما على الآخر (1).

وأورد عليه :

أولا : بان هذه الملاحظة توجب عدم صحة الحمل لاستلزامها مغايرة المحمول للموضوع في الكلية والجزئية ، إذ الكل والجزء متغايران ، فإذا لوحظ المجموع امرا واحدا كان كلا ، فحمل أحدهما عليه حمل الجزء على الكل وهو ممتنع للمغايرة بينهما.

وثانيا : انه من الواضح انه لا يلحظ في الموضوع والمحمول الا ذاتهما ومعناهما بلا لحاظ شيء آخر معه في جميع القضايا وموارد الحمل (2).

وقد استشكل كلام المحقق الخراسانيّ من جهتين :

الأولى : لفظية ، وهي تعبيره ب- : « لا يعتبر » ، لأن صاحب الفصول لم يفرض اعتبار ذلك في ملاك الحمل ، بل صحح به حمل أحد المتغايرين وجودا على الآخر ، فكان الأصح التعبير ب- : « لا يكفى ».

الثانية : فيما أورده أولا ، فان صاحب الفصول لم يفرض حمل أحدهما على المجموع كي يدعى تغاير الكل مع الجزء ، بل فرض حمل أحدهما على الآخر ، وان هذا اللحاظ يوجب بينهما نوع اتحاد ، كما لو قال : « زيد وعمرو واحد » ، فان حمل أحدهما على الآخر بهذا اللحاظ يؤدي معنى زيد وعمر وواحد كما لا يخفى.

فالأولى - كما قيل - الإيراد عليه : بان صحة الحمل تابعة لتحقق ملاكه وهو الاتحاد ، وطبيعي أن الحمل بذلك تابع لظرف ملاكه ، فإذا كان الاتحاد خارجيا صح الحمل في الخارج ، وإذا كانت الوحدة لحاظية لا خارجية كان ظرف الحمل

ص: 359


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /62- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /56- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وان هذا ذاك في اللحاظ والذهن لا الخارج ، إذ لا وحدة بينهما خارجا كي يقال ان هذا ذاك خارجا. فملاحظة المجموع واحدا لا تصحح الحمل في الخارج مع المغايرة ، وانما تصحح الحمل في ظرف الوحدة المفروضة وهو الذهن واللحاظ ولا فائدة فيه. فتدبر.

وعلى كل فلا يحتاج المقام إلى زيادة تحقيق لعدم ترتب الأثر عليه. التنبيه الثالث : في حمل صفات الباري كالعالم والقادر وصدقها على ذاته المقدسة.

فقد يستشكل صحته من جهتين :

الجهة الأولى : ان الحمل لا بد فيه من تغاير المحمول والموضوع. والمفروض ان صفاته جل اسمه عين ذاته فلا تغاير بينهما.

الجهة الثانية : ان المشتق يعتبر في صدقه تلبس الذات بالمبدإ وانتسابه إليها ، لاشتماله على النسبة بناء على التركيب كما هو واضح ، وعلى جهتها بناء على البساطة ، إذ عليه يلحظ كون المبدأ بنحو من أطوار الذات وصفاتها ، وهذا يتقوم بفرض النسبة في صدقه وان كانت خارجة عن ذاته.

وبالجملة : فالمشتق انما يصدق في مورد تتحقق فيه النسبة بين المبدأ والذات ، وظاهران النسبة تقتضي التغاير والاثنينية كما لا يخفى ، فلا تحقق لها بين صفات الباري وذاته ، لكون المفروض انها عين ذاته ، ولا تغاير بينهما خارجا.

ولأجل ذلك التزم في الفصول بالتجوز أو النقل في صفات اللّه جل شأنه. لكون استعمالها في معناها غير ممكن (1).

وقد تصدى صاحب الكفاية قدس سره لدفع الإشكال من جهتيه وعقد لكل منهما تنبيها على حدة ..

ص: 360


1- الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /61- الطبعة الأولى.

فدفع الجهة الأولى من الإشكال : بان صفات الباري عزّ وجل وان كانت متحدة مع ذاته خارجا ووجودا إلا ان المبدأ يغايرها مفهوما ، فان مفهوم العلم يغاير مفهوم الذات المقدسة ، وهذا التغاير المفهومي يصحح الحمل بلا إشكال ولا ريب ، كيف؟ وقد عرفت ان من أقسام الحمل ما كان التغاير فيه بين المفهومين والاتحاد بين الوجودين وهو الحمل الشائع ، فلا يعتبر التغاير بين الوجودين في صحة الحمل كما لا يخفى (1).

والإنصاف ان الأمر كما ذكره ، بل لا يحتاج إلى ذلك أصلا ، فان حلّ هذه الجهة أهون من ان يعقد لها تنبيه مستقل وتكون مورد الاهتمام بهذا النحو ، ولم تكن كفاية المغايرة المفهومية بين المبدأ والذات محل الإشكال بحسب الظاهر.

وعلى كل فيكفي في صحة الحمل مغايرة نفس المحمول مع الموضوع - كما أشار إلى ذلك المحقق الأصفهاني (2) - ولا يحتاج إلى إثبات مغايرة مبدئه ، فان المعتبر هو وجود المغايرة بين المحمول والموضوع لا غير ، ومن الواضح ان مفهوم المشتق يختلف عن مفهوم الذات حتى فيما كان مبدؤه متحدا مع الذات مفهوما ، نظير : « السواد أسود والوجود موجود ».

وعليه ، ففي مثل صفات البارئ وان كان المبدأ متحدا مع الذات وجودا إلا ان المحمول هو الصفة لا المبدأ ، والصفة مغايرة للذات ، ومغايرتها تكفي في صحة الحمل.

وبالجملة : فاندفاع هذه الجهة من الإشكال في غاية الوضوح ، فلا تحتاج إلى مزيد بحث وتفصيل كلام.

واما الجهة الثانية : فقد دفعها المحقق صاحب الكفاية - بعد التزامه

ص: 361


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /56- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 99 - الطبعة الأولى.

باعتبار التلبس وقيام المبدأ بالذات في صدق المشتق ، ودفع توهم من توهم عدم اعتباره لأجل صدقه في موارد لا يقوم المبدأ فيها بالذات ، كالضارب والمؤلم فان الضرب والألم يقومان بالمضروب والمؤلم ، مع ان صدق الضارب والمؤلم على من صدر منه الضرب والألم حقيقي لا إشكال فيه - : بان أنحاء القيام والتلبس تختلف باختلاف أنحاء المبادي وأطوارها ، فتارة : يكون القيام صدوريا. وأخرى : حلوليا. وثالثة : بنحو الوقوع عليه. ورابعة : بنحو الوقوع فيه. وخامسة : يكون بنحو الانتزاع. وسادسة : يكون بنحو الاتحاد خارجا. فالقيام على أنحاء ، ومنه القيام بنحو الاتحاد خارجا كما في صفات الباري تعالى ، فان العلم قائم بذاته ، لكن قيامه بنحو العينية والاتحاد. وعدم اطلاع العرف على مثل هذا النحو من التلبس وكونه بعيدا عن الأذهان العادية لا يضر صدقها عليه ، مع وجود مفهوم صالح للصدق عليه حقيقة ولو بعد الدقة والتأمل العقلي ، فان العرف مرجع في تشخيص المفاهيم دون المصاديق وما ينطبق عليه المفهوم (1).

وأنت خبير بان ما ذكر صاحب الكفاية من صدق التلبس في صفات اللّه عزّ اسمه وتحقق القيام وانه نحو قيام لا يدرك إلا بالدقة ، امر لا يعدو هذه الألفاظ ومعانيها ، وإلاّ فهو غير قابل للتصور والتسليم بعد ان عرفت ان التلبس يستتبع النسبة بين الذات والمبدأ ويتقوم بها ، والنسبة تتوقف على وجود اثنينية وتغاير بين المنتسب والمنتسب إليه ولا اثنينية بين صفات اللّه وذاته فلا تتصور النسبة والتلبس بينهما ، ففرض وجود التلبس والقيام بنحو خاص وهو القيام بنحو الاتحاد أمر لا يسهل التسليم به ولا يعرف كنهه. وما ذكره قدس سره أشبه بالفرار عن الإشكال والانحراف به إلى عالم آخر وجهة ثانية. فتأمل.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه) لدفع الإيراد المزبور : بعنوان توضيح

ص: 362


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /57- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عبارة الكفاية : بان من مصححات صدق المشتق عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع ، كما في صدق الأسود على السواد والموجود على الوجود ، ببيان : ان اتصاف الجسم بالأسود بواسطة أمر خارج عن ذاته يوجب أولوية اتصاف السواد به ، لأن وجدان الشيء لنفسه ضروري ، ومن هذا الباب صدق صفات الكمال والجمال والجلال على ذات الباري عزّ اسمه ، فان مبادئها عين ذاته ، وهو نحو من القيام ، بل هو أعلى مراتب القيام (1).

والإنصاف انه لا يخلو عن شيء من التوقف ، فانه ان كان المراد كما قد يظهر انه لا يعتبر في صحة الحمل وصدق المشتق التلبس والنسبة ، بل يكفى واجدية الذات للمبدإ ، فما ذكره من ضرورة واجدية الشيء لنفسه لا يكاد يتعقل ، فان الظاهر من الواجدية عرفا كونها إضافة خاصة تتقوم بالواجد والموجود ، وظاهران الإضافة بطبعها تقتضي الاثنينية ، فلا معنى لأن يقال ان الشيء واجد لنفسه ، بل - إذ هو عين نفسه - فواجديته لنفسه لا محصل لها. وعليه ، فالتخلص عن الإيراد بما ذكر لا يتحقق ، إذ ما ذكر يقتضي الاثنينية أيضا.

وقد تصدى السيد الخوئي ( دام ظله ) لتصحيح اعتبار الواجدية في صحة الحمل وعدم اعتبار التلبس بتقريب : ان التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه غير معتبر بلا إشكال ، ضرورة صحة صدق المشتقات الاعتبارية مع عدم كونها من الاعراض وليست بقائمة بالذات قيام العرض بمعروضه ، فلا بد أن يكون المصحح للصدق واجدية الذات للمبدإ كي تشتمل المبادئ الاعتبارية ، بل جاء في تقريراته : ان المراد من التلبس هو ذلك ، ثم ذكر أن واجدية الذات لنفسه ضرورية (2).

ص: 363


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 100 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 292 - الطبعة الأولى.

ولا يخفى ان ما ذكره انما يتم لو دار الأمر بين التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه والواجدية بحيث لم يكن هناك واسطة ، إذ نفي أحدهما يعين الآخر قهرا ، ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ يمكن ان يؤخذ في تصحيح الحمل وجود النسبة والربط بين المبدأ والذات فيعم المبادئ الاعتبارية ولا يرجع إلى الواجدية ، فنفي أخذ التلبس بذاك المعنى لا يعين الواجدية كما لا يخفى. بل يمكن اعتبار التلبس ولكن بمعنى قيام المبدأ بالذات لا قيام العرض بمعروضه ، فيعم أيضا الأوصاف الاعتبارية.

ثم ان ما ذكر في كلام العلمين من تصحيح الحمل بواجدية الذات للمبدإ بنحو واجدية الشيء لنفسه وكونه من الحمل اتحاد الواجدية يمكن ان يورد عليه :

أولا : ان مقتضاه صحة حمل المشتق على ما يدل على المبدأ في جميع الموارد ، مع انه لا يصح ان يقال : « القيام قائم ، والعلم عالم ، والضرب ضارب » ونحو ذلك.

وثانيا : ان المدار في تشخيص مفاهيم الألفاظ على الفهم العرفي ، والعرف يفهم من المشتق الواجدية المتقومة باثنين ، والحاصلة بين أمرين ، ولا يفهم منه ما يعم واجدية الشيء لذاته ولو كان هذا ناشئا عن عدم إدراكه لها ، وهذا ليس من الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق بل من الرجوع إليه في تعيين المفاهيم. فلاحظ.

وبالجملة : ما ذكره لا يرجع إلى محصل.

والّذي يتحصل : انه لم يتم لدينا وجه لدفع الإشكال في صدق صفات الباري على ذاته حقيقة ، لعدم النسبة والربط لعدم التغاير بين الذات والصفات ، فلا محيص عن الالتزام بما التزم به صاحب الفصول من كون استعمالها بنحو المجاز أو النقل.

نعم يبقى هنا إيرادان :

ص: 364

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية على الالتزام بالنقل ، من لزوم الإلحاد أو التعطيل ، وذلك لأن المعنى الّذي يراد استعماله فيه ، اما ان يكون المعنى العرفي المفهوم كمن ينكشف لديه العلم في عالم ، أو ما يقابله كالجهل ، أو لا يراد بها أي معنى.

فالأوّل : هو المدعى والمفروض انه لا يقول به. والثاني ، يستلزم نسبة الجهل إليه تعالى وهو محال. والثالث ، يستلزم ان يكون اللفظ صرف لقلقة لسان (1).

ولا يخفى ان هذا الإيراد انما يتأتى لو أراد صاحب الفصول بالنقل نقل المادة ، اما لو كان مراده نقل الهيئة وانها تستعمل في معنى آخر غير المعنى الموضوعة له لم يلزم ما ذكر ، فان المبدأ يراد به معناه ، وهو من ينكشف لديه العلم ، وإنما التصرف في الهيئة ، فانها هي مورد الإشكال.

الثاني : ان التجوز لا يتصور في الحروف ، إذ الموضوع له فيها هو النسبة والربط وهو من سنخ الوجود ، فإذا لم يستعمل فيه الحرف واستعمل في غيره ، فاما ان يكون الغير من المعاني الحرفية أو من المعاني الاسمية ، فعلى الأول يعود الإشكال. وعلى الثاني لا علاقة بين المعنيين كي تصحح الاستعمال للتغاير الموجود بينهما ، مضافا إلى خروج الحرف عن كونه حرفا.

والجواب : انه لا ملزم لأن يكون المجاز في الكلمة كي يورد ما ذكر ، بل يمكن ان يكون المجاز في الإسناد ، بمعنى ان يكون في اسناد الصفة إلى الذات مسامحة وتجوز ، مع استعمالها هيئة ومادة في معناها الموضوع له.

وبالجملة : يتعين الالتزام بما التزم به صاحب الفصول ، ولا محذور فيه عقلا. واللّه العالم.

ص: 365


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /58- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تذييل : عقد صاحب الكفاية في آخر مبحث المشتق امرا لم يتضح المراد به والأثر منه وعبارته لا تخلو من ارتباك وتهافت ، إذ قال أولا : « الظاهر انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبس بالمبدإ حقيقة ... بل يكفي التلبس به ولو مجازا كما في الميزاب الجاري » ، ثم قال بعد ذلك : « فالمشتق في مثل المثال بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي وان كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالإسناد المجازي » (1). إذ ظاهر العبارة الأولى عدم اعتبار التلبس بالمبدإ حقيقة في جري المشتق على الذات حقيقة. وظاهر العبارة الثانية انه لا يعتبر في صدق المشتق في نفسه وبما انه مشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدإ ، بل يكون التجوز في الإسناد لا في الكلمة ، نظير اسناد الجريان بما له من المعنى إلى الميزاب.

وعلى كل فليس ما أفاده أخيرا بذي إفادة وأثر فلا يهمنا تحقيقه والبحث فيه. واللّه ولي السداد والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تم بحث المشتق درسا وحضورا يوم السبت 30 رجب سنة 1384 ه -. وقد تم تسويده يوم الثلاثاء 3 شعبان سنة 1384 ه -. ويأتي الكلام بعده في مبحث : « الأوامر » ونستمد من اللّه تعالى العون.

ص: 366


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /58- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأوامر

اشارة

ص: 367

ص: 368

الأوامر

الكلام في مطالب :

المطلب الأول : في مادة الأمر.

ولأجل تحقيق الحال فيها يتكلم في جهات :

الجهة الأولى : في معنى الأمر لغة وعرفا واصطلاحا.

وقد ذكر صاحب الكفاية : بأنه ذكر له معان عديدة ، كالطلب. والشيء. والشأن. والغرض. والحادثة. والفعل ، إلا انه قدس سره استشكل كون هذه كلها من معاني الأمر ، وادعى أن عدّ بعضها من معانيه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق ، بمعنى : انه لم يستعمل في الموارد التي يستشهد بها في المفهوم ، بل يراد منه ما هو مصداق المفهوم ، ولكن لا بما انه مصداق المفهوم فيتخيل انه مستعمل في المفهوم وموضوع له ، فمثلا قوله : « جئت لأمر كذا » لم يستعمل لفظ الأمر في مفهوم الغرض كما قيل. بل اللام دلت على الغرض لكونها تعليلية ، وانما استعمل في مفهوم آخر كان هذا بدلالة اللام مصداقا للغرض. ونحوه غيره ، ومن هنا خطأ صاحب الفصول حيث التزم بان لفظ الأمر حقيقة في الطلب والشأن (1).

ص: 369


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /61- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية تعبير صاحب الكفاية عن الاشتباه المزبور بأنه من اشتباه المفهوم بالمصداق ، ببيان : ان اشتباه المفهوم بالمصداق انما يكون في مورد يوضع اللفظ للمصداق بما انه مصداق وبما هو كذلك ويستعمل فيه مع هذا اللحاظ ، فيدعى وضعه للمفهوم كما لو وضع اللفظ للغرض بالحمل الشائع ، فيدعى وضعه للغرض بالحمل الأولي. اما مع عدم الوضع للمصداق فلا يكون ادعاء وضعه للمفهوم من باب الخلط بين المفهوم والمصداق. والحال في المعاني المذكورة كذلك ، إذ لم يوضع اللفظ لمصاديقها جزما. فالمتجه على هذا : التعبير بالاشتباه ، لا غير (1).

وأنت خبير بان هذا التعبير كما يمكن ان يراد به ما ذكره المحقق الأصفهاني يمكن ان يراد به ما قصده المحقق الخراسانيّ ، إذ يصح التعبير به عن دعوى الوضع للمفهوم مع استعماله في المصداق لتخيل استعماله في المفهوم.

ويكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق في مقام الاستعمال الّذي لوحظ طريقا لمعرفة الوضع.

وبالجملة : ليس في وضع التركيب المذكور ما يعين كون مفاده ما ذكره الأصفهاني ، بل هو تركيب يمكن ان يقصد منه ما يتلاءم معه. فلاحظ ، والأمر سهل ، لأن الإيراد أدبي لا جوهري علمي.

ثم ان صاحب الكفاية بعد هذا لم يستبعد كون الأمر موضوعا للطلب في الجملة - يعنى بلا تعيين كونه الوجوبيّ أو الأعم أو غير ذلك من الخصوصيات التي يتكلم في أخذها فيه - وللشيء وحقيقة فيهما (2).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني : بان وضع الأمر للشيء يقتضي

ص: 370


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 103 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /62- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مرادفتهما الموجب لصحة استعمال كل منهما في كل موضع يستعمل فيه الآخر ، مع ان الأمر ليس كذلك ، فان هناك موارد يستعمل فيها الشيء ولا يستعمل فيها الأمر ، كالأعيان الخارجية ، فانه لا يقال : « رأيت أمرا » إذا رأى فرسا ، مع انه يقال : « رأيت شيئا » فان الأمر يختص في صدقه بالصدق على الأفعال. كما ان من موارد استعمال الأمر ما لا يحسن إرادة الشيء فيه كقولك : « امر فلان غير مستقيم » ، فانه لا يحسن أن يقال : « شيء فلان غير مستقيم » (1).

واختار المحقق النائيني قدس سره : ان معنى الأمر هو الطلب والواقعة ذات الأهمية في الجملة ، ثم تدرّج وادعى إمكان القول بان الأمر بمعنى الطلب من مصاديق الواقعة ذات الأهمية ، لأن الطلب من الأمور التي لها أهمية. وعليه فللأمر معنى واحد يندرج فيه الكل ، وهو الواقعة ذات الأهمية ، وهو ينطبق تارة على الطلب. وأخرى على الغرض. وثالثة على الحادثة. وهكذا. نعم هو لا يستعمل في الجوامد بل في خصوص الأفعال والصفات. وقد ذكر قدس سره بان تصوير الجامع القريب بين الجميع وان كان صعبا ، لكننا نرى بالوجدان ان الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد ، فيكون الاشتراك اللفظي أبعد (2).

ولكن الإنصاف يقتضي عدم تمامية ما ذكر ، إذ يرد عليه :

أولا : انه من الواضح استعمال لفظ الأمر فيما لا أهمية له من الوقائع بلا لحاظ عناية وعلاقة ولا وجود مسامحة بحسب النّظر العرفي ، فيقال : « هذا الأمر لا أهمية له » ، فدعوى كون الموضوع له هو الواقعة ذات الأهمية ممنوعة.

وثانيا : ان لفظ الأمر يجمع بنحوين : الأول : بنحو أوامر. والآخر : بنحو أمور. وهذا التعدد يكشف عن تعدد معنى الأمر بحيث يختلف الجمع لاختلاف

ص: 371


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 103 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 86 - الطبعة الأولى.

المعنى المقصود ، فدعوى وحدة معنى الأمر ممنوعة. فلاحظ.

وقد ذهب المحقق العراقي رحمه اللّه إلى ان لفظ الأمر له معنيان :

أحدهما : عبارة عن مفهوم عرضي عام مساوق لمفهوم الشيء والذات من جهة كونهما من المفاهيم العامة العرضية ، ولكنه أخص مما يساوقه من هذين العنوانين ، وهو بهذا المعنى من الجوامد يجمع بنحو : « أمور ».

والآخر : ما يساوق الطلب المظهر بالقول أو بغيره من كتابة أو إشارة ، لا مطلق الطلب ولو لم يظهر ، ولا مطلق إظهاره ولو لم يكن في الواقع طلب ، وهو بهذا المعنى من المشتقات فيصلح الاشتقاق منه اسما أو فعلا ، فيقال : أمر يأمر فهو آمر. ويجمع بنحو : « أوامر » (1).

ولا يخفى انه لا يرد عليه ما ورد على صاحب الكفاية ، لالتزامه بأخصية معنى الأمر عن مفهوم الشيء ، بل هو مفهوم آخر يشارك مفهوم الشيء في كونه مفهوما عاما عرضيا لا غير. كما لا يرد عليه ما ورد على المحقق النائيني من تعدد الجمع ، لالتزامه بتعدد المعنى المستتبع لتعدد الجمع. وقد التزم المحقق الأصفهاني رحمه اللّه بوحدة معناه ، وانه بمعنى الطلب والإرادة ، وهو بهذا المعنى يصدق على التكوينيات ، فانها متعلقة لإرادة اللّه التكوينية ومشيئته الإلهية فيطلق عليها لفظ المصدر ، ويكون بمعنى المفعول بمعنى ان المقصود بالأمر فيها المراد. فيطلق على الأعيان الخارجية بلحاظ هذا المعنى. ثم انه قدس سره تعرض لإبطال ما قيل من ان معنى الأمر هو الفعل. ببيان : ان الموضوع له اما ان يكون مفهوم الفعل وما هو بالحمل الأولي فعل. أو يكون مصداقه وما هو بالحمل الشائع فعل. اما الأول : فهو واضح المنع لوضوح عدم مرادفة الأمر للفعل ، فليس امر وفعل بمعنى واحد لا محالة ، واما الثاني : فالوضع لذوات المصاديق بلا جهة جامعة بينها ،

ص: 372


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 156 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كالأكل والشرب والقيام وغيرها سخيف جدا ولا يلتزم به أحد.

والجهة الجامعة بين افراد الفعل بما هي كذلك ليست إلا حيثية الفعلية المتقومة بقابلية تعلق الإرادة بها ، فانها هي الجهة الفارقة بين الأفعال والصفات. وعليه فيكون إطلاق الأمر عليها من جهة قابليتها لأن تكون موردا للإرادة فيطلق لفظ الأمر بمعناه المصدري المبنى للمفعول على الأفعال ، كما يطلق المقصد والمطلب على ما يقع في معرض القصد والطلب وان لم يكن هناك طلب ولا قصد.

وبالجملة : فالامر في جميع استعمالاته بمعنى واحد ، وهو الإرادة والطلب ، لكنه يستعمل في متعلق الإرادة بمعنى المفعول.

يبقى إشكال اختلاف الجمع. ويدفع : بان الأمر حين يطلق على الأفعال لا يلحظ فيه تعلق الطلب بها تكوينا أو تشريعا فعلا ، بل لا يلحظ إلاّ قابليتها لذلك ، فيكون اللفظ متمحّضا في معناه الأصلي الجامد ، فيجمع على وزن أمور كما هو الغالب فيما هو على هذا الوزن ، بخلاف إطلاقه على الطلب ، فان الطلب فعلا ملحوظ فيه كيف؟ وهو المستعمل فيه ، فلا يتمحض في معناه الأصلي فيجمع على وزن أوامر.

ثم انه قدس سره بعد تحقيق هذا بتفصيل اختصرناه ، ذكر ان تحقيق الحال لا أثر فيه ولا طائل تحته فالاقتصار على هذا المقدار متعين وأولى (1).

ومن الواضح ان مرجع ما ذكره قدس سره إلى عدم الملزم للالتزام بتعدد المعنى للأمر بنحو الاشتراك اللفظي ، مع إمكان فرض معنى واحد له بلا ورود أي إشكال.

وما ذكره لا أرى فيه خدشا ، فلا ضير في الالتزام به فتدبر.

هذا كله في بيان المعنى اللغوي والعرفي. واما المعنى الاصطلاحي : فقد

ص: 373


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 104 - الطبعة الأولى.

نقل صاحب الكفاية بأنه موضوع في الاصطلاح للقول المخصوص ، واستشكل صاحب الكفاية بأنه على هذا لا يكون معنى الأمر حدثيا بل جامدا. فلا يصح الاشتقاق منه ، مع ثبوت الاشتقاق الظاهر كونه بلحاظ ما له من المعنى عندهم ، وذلك يتنافى مع دعوى أنّ معناه القول المخصوص. ثم ذكر انه يمكن ان يراد بان المعنى الاصطلاحي للأمر هو الطلب بالقول لا نفس القول ، وانما ذكر القول فقط تعبيرا عن الطلب بما يدل عليه.

وبعد ان ذكر هذا ، أفاد ان تحقيق المعنى الاصطلاحي غير مهم ، بل الأمر سهل ، إذ لا مشاحة في الاصطلاح ، وانما المهم تحقيق معناه العرفي ليحمل عليه الاستعمال الوارد في الآيات والروايات مع عدم القرينة على التعيين (1).

ثم انه قدس سره ذكر انه قد استعمل في غير واحد من معانيه. وهو بظاهره يتنافى مع ما تقدم منه من انه حقيقة في خصوص الطلب والشيء ، فلاحظ. والأمر سهل كما ذكر فلنكتف بهذا المقدار ، فالتطويل بلا طائل.

الجهة الثانية : في أخذ العلوّ أو الاستعلاء في معنى الأمر.

لا إشكال في ان الطلب الموجه من طرف - شخص - إلى آخر بلا علوّ ولا استعلاء لا يعد عرفا أمرا ، بل يسمى التماسا المرادف بالفارسية ل- :

« خواهش ». وانما الإشكال في أن الطلب الّذي يكون معنى الأمر هل هو الطلب مع خصوص العلوّ ، أو مع خصوص الاستعلاء ، أو أحدهما؟.

ادعى صاحب الكفاية : بان الأمر هو خصوص الطلب من العالي. واستدل على دعواه بظهور ذلك عرفا ، وان الطلب من العالي ولو كان مستخفضا لجناحه يعد امرا (2).

ص: 374


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /62- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /63- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد يستدل على كفاية الاستعلاء في تحقق الأمر وعدم اعتبار العلو بتقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه ، وهو قد يقرب بوجهين :

أحدهما : ان نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب امرا ، إذ أمر السافل العالي قبيح.

والآخر : إطلاق الأمر على طلبه في مقام التوبيخ بقولهم : « لم تأمره؟ » ، فانه كاشف عن كون طلبه أمرا ، إذ الظاهر كون الاستعمال حقيقيا وبما له من المعنى لا مجازيا.

ولكن كلا الوجهين مدفوعان :

اما الأول : فلان التوبيخ لم يكن على الأمر ، بل على استعلائه على من هو أعلى منه وإثبات ما ليس له من المقام لنفسه ، لا على نفس الأمر.

ومنه يتضح اندفاع الوجه الثاني ، فان إطلاق الأمر على طلبه جريا على اعتقاده وبنائه لا حقيقة. فان الطالب السافل يدعى لنفسه مقام الآمر والأمر. فيجري في مقام توبيخه على مجرى بنائه ويوبخ على ما هو أمر بنظره. كما يقال لمن يدعي الأعلمية وهو ليس كذلك : أيها الأعلم بين هذه المسألة بوضوح. فلاحظ.

وأنت خبير بان تحقيق هذه الجهة لا أثر له أصلا ، لأن الأمر الّذي نبحث فيه ما يصدر من المولى جل شأنه وهو مستجمع للعلو والاستعلاء كما لا يخفى.

وانما تعرضنا لها تبعا لصاحب الكفاية فالدقة فيها غير لازمة. وانما الأمر الّذي لا بد من التنبيه عليه : ان مطلق الطلب من العالي لا يسمى أمرا ، وانما هو خصوص الطلب الصادر منه بحسب مقام مولويته أو علوه دون ما يصدر منه بغير لحاظ هذه الجهة ، كالتماسات الملوك لإخوانهم أو لغيرهم لا بنحو الأمر المستتبع لغضبهم وعقابهم ، فانها لا تسمى أوامر بلا إشكال.

الجهة الثالثة : قد عرفت ان الأمر بمعنى الطلب من العالي ، فهل هو

ص: 375

خصوص الطلب الإلزامي والّذي يكون بنحو الوجوب ، أو الأعم منه ومن الطلب الندبي ، أو أنه خصوص الطلب الندبي.

ذهب صاحب الكفاية إلى الأول وان لفظ الأمر حقيقة في الوجوب ، مستدلا على ذلك : بانسباقه عند إطلاقه. وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة امره. وأيده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب المطولة ، ولذلك جعلها تأييدا ومقربا لا دليلا وشاهدا.

وأنكر الاستدلال على الوضع للأعم بصحة تقسيم الأمر للوجوب والندب ، فيقال : الأمر وجوبي وندبي. بأنه انما يكون دليلا على إرادة الأعم من لفظ الأمر في مقام التقسيم ومن اللفظ المستعمل ، والاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.

كما أنكر الاستدلال على الوضع للأعم بان فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهي فعل المأمور به. بان المراد من المأمور به ان كان معناه الحقيقي ، فالكبرى ممنوعة لاختصاص الأمر بالوجوب. وان كان الأعم من معناه الحقيقي ، فالكبرى وان سلمت لكن لا تفيد في إثبات المدعى (1).

ولكن الإنصاف : ان صحة التقسيم إلى الإيجاب والندب انما يكون بلحاظ ما للأمر من معنى عرفي لا بلحاظ ما يستعمل فيه اللفظ حال التقسيم. وعليه ، فهو دليل على كون اللفظ موضوعا للأعم من الطلب الوجوبيّ والندبي.

ولكن يعارض هذا الدليل بدوا صحة مؤاخذة العبد بمجرد مخالفة الأمر ، فانه ظاهر في ظهور الأمر في الوجوب.

ويمكن الجمع بالالتزام بوضع لفظ الأمر للأعم مع الالتزام بأنه ينصرف مع عدم القرينة إلى الطلب الوجوبيّ والإلزامي وينسبق إليه. فيتحفظ على

ص: 376


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /63- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ظهور كلا الأمرين المزبورين - أعني التقسيم والمؤاخذة - ، وتكون النتيجة موافقة لمدعى صاحب الكفاية وان خالفناه في المدعى والموضوع له. فتدبر.

الجهة الرابعة : هل الموضوع له لفظ الأمر هو الطلب الحقيقي أو الإنشائي ، أو الحقيقي المنشأ بقول أو بغيره من كتابة أو إشارة؟.

التحقيق كونه موضوعا للطلب الإنشائي ولو لم يكن طلب حقيقي ، وهو مختار صاحب الكفاية (1). لوضوح عدم صدق الأمر على مجرد حصول الطلب في النّفس لو علم به بلا إظهار له إنشاء ، كما انه يصدق بلا مسامحة على الأوامر الامتحانية ، مع عدم ثبوت الطلب فيها حقيقة.

ولا بد من التنبيه على امرين :

الأمر الأول : ان الأمر إذا كان موضوعا للطلب الإنشائي - كما اختاره صاحب الكفاية وهو الظاهر - ، امتنع إنشاء الطلب بلفظ الأمر حقيقة ، لأن الطلب الإنشائي هو الطلب المنشأ باللفظ والموجود بوجود إنشائي بواسطته ، وهذا غير قابل للإنشاء ثانيا ، إذ ما هو موجود لا يقبل الإيجاد ، وانما الإنشاء والوجود الإنشائي يطرأ على ذات المعنى ونفس المفهوم. وعليه ، فإذا كان لفظ الأمر موضوعا للطلب الموجود في عالم الإنشاء - بأي معنى أريد من الإنشاء - امتنع ان يستعمل في إنشاء الطلب حقيقة ، لأنه يستلزم إنشاء الطلب المنشأ ويكون معنى : « أمرتك » إنشاء الطلب المنشأ وقد عرفت امتناعه.

ونظير هذا الأمر يورد على تعريف البيع : بأنه تمليك إنشائي ، فانه يقتضي عدم صحة إنشاء التمليك بلفظ البيع ، كقوله : « بعت » ، لأن التمليك الإنشائي الّذي هو معنى البيع غير قابل للإنشاء.

وقد غفل من وجّه تعريف الشيخ للبيع في مكاسبه : بأنه إنشاء التمليك

ص: 377


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /64- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بكون مراده كون البيع هو التمليك الإنشائي لا إنشاء التمليك ، لعدم قابلية الإنشاء للإنشاء ، لأنه عبارة عن استعمال اللفظ في مقام إيجاد المعنى - اعتبارا أو إنشاء - أو نفس إيجاد المعنى ، وهو بذلك غير قابل للإنشاء ، بل لا معنى لإنشائه - كما لا يخفى ونبهنا عليه في بيان الإشكال في وضع لفظ المعاملة للسبب (1) -. غفل من وجه كلام الشيخ رحمه اللّه بذلك عن ورود عين الإشكال على ما وجّهه به ، إذ عرفت ان التمليك الإنشائي غير قابل للإنشاء كالطلب الإنشائي ، وعليه فيشكل إنشاؤه بلفظ البيع كما يقع كثيرا.

والطريق إلى التخلص عن هذا الإيراد ينحصر في أحد امرين :

أحدهما : الالتزام بان لفظ الأمر والبيع ونحوهما مستعمل في مقام الإنشاء في ذات المعنى كالطلب والتمليك بلا أخذ خصوصية إنشائه فيه ، وان وضع اللفظ للمعنى مع الخصوصية ، فتكون هذه الاستعمالات مجازية.

والآخر : التنزل عن دعوى وضع اللفظ للطلب الإنشائي أو التمليك الإنشائي ، والتزام ان الموضوع له لفظ الأمر هو مفهوم الطلب ، أعم من كونه حقيقيا أو إنشائيا ، وان الموضوع له لفظ البيع هو كلي التمليك سواء كان حقيقيا أو إنشائيا. نعم ينصرف اللفظ إلى الفرد الإنشائي من الطلب والتمليك ، لكنه مع عدم القرينة فهو مستعمل في مقام الإنشاء في معناه الحقيقي ، وهو نفس المفهوم ، ولا ينصرف في هذا الحال إلى الفرد الإنشائي ، لأن استعماله في مقام الإنشاء بضميمة عدم إمكان إنشاء المنشأ قرينة قطعية على عدم إرادته. وعليه فيلتزم بانصرافه إلى الفرد الإنشائي في مقام الاخبار لا في مقام الإنشاء لوجود القرينة في هذا المقام المانعة عن الانصراف. فتدبر.

وعلى كل فالإشكال متين ، وهذان الطريقان فرار منه والتزام بوروده كما

ص: 378


1- راجع 1 / 276 من هذا الكتاب.

لا يخفى.

الأمر الثاني : فيما يتعلق بعبارة الكفاية في المقام لظهور وجود تهافت بين صدرها وذيلها.

وبيان ذلك : انه قدس سره ادعى ان الطلب الموضوع له لفظ الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الّذي يحمل عليه الطلب المطلق بالحمل الشائع الصناعي ، بل هو الطلب الإنشائي الّذي لا يحمل عليه الطلب بقول مطلق بالحمل الشائع ، بل يحمل عليه الطلب الإنشائي. ثم ذكر انه لو أبيت إلاّ عن كونه موضوعا لمطلق الطلب الأعم من الحقيقي والإنشائي ، فلا أقل من دعوى انصرافه إلى الطلب الإنشائي ، كما ان لفظ الطلب ينصرف إليه (1).

فان الّذي يظهر من صدر العبارة ان للطلب مفهوما لا يشمل الطلب الإنشائي ، ولذلك لا يحمل عليه بالحمل الشائع لأنه ليس فرده ، وهذا ينافي ما جاء في العبارة الأخرى من انصرافه إلى الطلب الإنشائي ، إذ مع عدم كونه من افراده كيف ينصرف إليه؟!. فان الانصراف فرع فردية المنصرف إليه للمفهوم الكلي كما لا يخفى. ثم انه إذا لم يحمل عليه بقول مطلق عرفا ، فكيف ينسبق عنه إلى الذهن؟.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه العبارة ورفع ما يظهر من التهافت هو :

ان الحمل الشائع الصناعي ينصرف عرفا إلى ما كان الاتحاد بين المحمول والموضوع في الوجود الخارجي الا ما قامت القرينة فيه على كون الاتحاد في غير الخارج ، بل نسب إلى صدر المتألهين : القول بان ملاكه الاتحاد في الخارج.

وعليه ، فلا يحمل المفهوم على فرده غير الخارجي مع كونه فردا له. وبما ان الطلب الإنشائي ليس موجودا خارجا فلا يحمل عليه الطلب المطلق ، وانما يحمل

ص: 379


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /64- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

على الطلب الحقيقي لأنه وجوده الخارجي.

واما الانصراف فهو لا يرتبط بعالم الحمل والصدق ، وانما هو يرتبط بعالم اللفظ واستعماله ، فيجوز ان ينصرف اللفظ إلى الفرد الإنشائي لكثرة استعماله فيه ، ولو لم يصح حمل المفهوم عليه.

وبالجملة : صحة الحمل لا ترتبط بالاستعمال ، بل بالملاك الواقعي للحمل ، بخلاف الانصراف فان ملاكه كثرة الاستعمال ولو كان مجازيا ، فالانفكاك بينهما جائز. فلاحظ وتأمل.

إلى هنا ينتهي الكلام في جهات مادة الأمر.

ص: 380

الطلب والإرادة

أقحم صاحب الكفاية مبحث الطلب والإرادة ، وحديث اتحادهما وتغايرهما ، في البحث عن مادة الأمر ، وقد انتقل إليه بنحو واضح التكلف. فانه بعد ما انتهى من الحديث عن مادة الأمر ، وان الطلب الموضوع له لفظ الأمر هو الإنشائي ، أو انه هو المنصرف إليه من لفظ الأمر كما انه المنصرف من لفظ الطلب ، ذكر أن الأمر في لفظ الإرادة بالعكس ، فان المنصرف منها الإرادة الحقيقية ، وهو الّذي أوجب إيهام تغايرهما ذاتا ، فقيل به ثم بدأ بذكر ما اختاره في المقام ، والاستدلال عليه بشكل مفصل.

وعلى كل فقد تبعه في هذا المبحث سائر الاعلام ممن تأخر عنه ، فاللازم متابعتهم والبحث في هذا الموضوع.

وقد اختار صاحب الكفاية اتحاد الطلب والإرادة مفهوما وإنشاء وخارجا ، بمعنى ان مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، والإرادة الإنشائية عين الطلب الإنشائي ، وواقع الإرادة عين واقع الطلب ، ولا فرق بينهما ذاتا ووضعا ، وانما الفرق بينهما لفظي لا أكثر ، فلفظ الطلب ينصرف إلى الطلب الإنشائي ولفظ الإرادة ينصرف إلى الإرادة الحقيقية. وقد نسب قدس سره هذا الرّأي إلى المعتزلة ، ونسب دعوى تغايرهما إلى الأشاعرة (1).

وتحقيق المقام : انه قد قيل : ان النزاع يمكن ان يكون بأنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون في ثبوت صفة نفسانية أو فعل نفساني غير الإرادة عند

ص: 381


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /64- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر بشيء. وهو بهذا النحو يكون عقليا.

الثاني : ان يكون النزاع في ان مدلول الأمر هل هو الإرادة والطلب متحد معها ، أو منطبق على الكاشف عنها كي يكون الصيغة كاشفة عن الإرادة ، فيترتب عليه ما يترتب على إحراز إرادة المولى ، أولا فتكون الصيغة كاشفة عن الطلب المغاير للإرادة ، فلا يترتب عليها ما يترتب على إحراز إرادة المولى. والمسألة بهذا النحو تكون أصولية.

الثالث : ان يكون النزاع في مرادفة لفظ الطلب للفظ الإرادة بلا نظر إلى ثبوت صفة أخرى في النّفس ولا إلى مدلول الصيغة. والمسألة بهذا النحو تكون لغوية محضة.

وعليه فالكلام يقع في الأنحاء الثلاثة :

اما في ثبوت صفة أخرى نفسانية غير الإرادة ، فقد التزم به الأشاعرة ، وعبروا عنها بالكلام النفسيّ في الجمل الاخبارية وبالطلب في الإنشائيات. ومنشأ التزامهم بثبوت هذه الصفة في النّفس هو : انه مما لا ريب فيه ان اللّه جلّ اسمه يطلق عليه متكلم ويوصف بالتكلم كما يوصف بالعلم والإرادة وغيرهما. وبما ان صفاته جلّ شأنه عين ذاته وجودا لزم ان تكون قديمة كقدم ذاته. فيلزم ان يكون الكلام الموصوف به اللّه قديما ، فيمتنع ان يراد به هو الكلام اللفظي لوضوح حدوثه وتصرمه فليس هو بقديم ، فلا بد ان يكون امرا قديما في نفس المولى كشف عنه الكلام اللفظي ، فهناك صفة أخرى في النّفس غير الإرادة هي الكلام النفسيّ ، لأنه يوصف بهما فيقال : مريد ومتكلم ، وهو يقتضي المغايرة. ومن هنا قال شاعرهم :

« ان الكلام لفي الفؤاد وانما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا »

فالكلام اللفظي كاشف عن وجود صفة نفسانية من سنخه وحاك عنها ، سواء

ص: 382

كان إخباريا أو إنشائيا. وعليه ففي مورد الأمر والإنشاء تكون في النّفس صفة غير الإرادة يحكي عنها الكلام اللفظي الإنشائي ، فعبر عنها الأشاعرة بالطلب لأنها من سنخ الكلام اللفظي ، وبذلك يختلف الطلب عن الإرادة ذاتا وحقيقة.

هذا هو الأساس في ذهاب الأشاعرة إلى تغاير الطلب والإرادة ، كما قيل.

والإشكال فيه واضح : فان ما ذكروه انما يتم لو كان التكلم من صفات الذات لاتحادها مع الذات المستلزم لقدمها.

ولكنه ليس كذلك ، بل هو من صفات الفعل التي يصح سلبها عن الذات في حين ما ، وهو الفارق - كما قيل - بينها وبين صفات الذات ، كالرازق والخالق ، وهي لا يلزم ان تكون قديمة لعدم اتحادها مع الذات ، بل هي حادثة ولذلك يقال :

« خلق اللّه زيدا الآن ، ورزقه كذا فعلا » ، ولم يكن كل من الخلق والرزق قديما كما لا يخفى ، فالكلام كذلك. وعليه فلا يمتنع ان يراد من الكلام هو الكلام اللفظي ، ولا موجب للالتزام بثبوت الكلام النفسيّ.

بل قيل : بامتناع الالتزام بالكلام النفسيّ وانه صفة من صفات النّفس غير الإرادة ، لإقامة البرهان في محله على تعيين الكيفيات النفسانيّة وتحديد صفات النّفس وامتناع غيرها ، وليس منها الكلام النفسيّ (1).

ولا موجب لذكر الدليل وملاحظة صحته أو سقمه.

وانما نقول : انه على تقدير تسليم الدليل على امتناع وجود صفة نفسانية غير الإرادة والعلم وغيرهما مما قيل بانحصار الكيفيات النفسانيّة فيه ، فيمكننا الالتزام بالكلام النفسيّ ، لا على ان يكون من صفات النّفس ، بل يكون من افعال النّفس ومخلوقاتها وموجوداتها ، فان النّفس لها قابلية إيجاد الصور وحمل أحدها على الأخرى ، والحكم بان هذا ذاك والتصديق والجزم به ، فان هذا مما لا

ص: 383


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 109 - الطبعة الأولى.

ينكره أحد ، فان كل شخص حين يحمل المحمول على الموضوع خارجا ، لا بد له من لحاظ الموضوع والمحمول والجزم بان هذا ذاك في نفسه ، والبناء على ذلك ، والتصديق به ، وكل من التصور والجزم أو الحمل أو الحكم - بأي لفظ يعبر عما يجده في النّفس حال الحمل - من موجودات النّفس ومخلوقاتها. وقد أشار إلى هذا المعنى أمير المؤمنين علیه السلام في قوله : « كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق لكم مردود إليكم » (1).

وعليه ، فيمكن ان يدعى كونه كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي.

والإشكال فيه : بان الموجود الخارجي أو الذهني غير قابل للمدلولية وانما هي شأن الماهيات ، لأن المدلولية مرجعها إلى انتقال المعنى إلى الذهن بواسطة اللفظ والموجود غير قابل للانتقال ، كما تقدم من ان المماثل لا يقبل المماثل والمقابل لا يقبل المقابل.

يمكن التخلص عنه : بان استعمال اللفظ وإرادة الموجود الخارجي منه كثيرا ما يقع في الكلام ، كاستعمال الاعلام أو استعمال اللفظ الموضوع للكلي وإرادة فرد منه معين. ويصحح ذلك : بان الموضوع له والمدلول للفظ هو نفس الماهية الكلية أو الجزئية وإرادة الفرد المعين والموجود المتميز بالتطبيق. فليكن ما نحن فيه كذلك ، فالكلام اللفظي يكون دالا على نفس المفهوم وذاته لا بما انه موجود وإرادة ما هو موجود في النّفس منه من باب التطبيق لا الاستعمال والكشف والحكاية.

وعليه ، فالالتزام بوجود فعل للنفس يسمى بالكلام النفسيّ ، وهو الجزم والحكم ، ويكون مدلولا للكلام اللفظي ، لا نرى فيه محذورا.

ولكن ما ذكرناه يختص بالجمل الخبرية كما لا يخفى ، إذ الحكم والتصديق

ص: 384


1- والكلام للإمام محمد الباقر علیه السلام كما في حق اليقين 1 / 47 للسيد الشبر.

يرتبط بالأخباريات ، فالالتزام به لا ينفع الأشاعرة فيما رتبوه عليه من تغاير الطلب والإرادة ، فانه يتوقف على ثبوته في الإنشائيات.

ولكن الالتزام في الإنشائيات بوجود صفة نفسانية أو فعل للنفس غير الإرادة ونحوها يكون مدلولا للكلام اللفظي ويعبر عنه بالكلام النفسيّ مشكل ، بل ممنوع ، لأن القوم ما بين منكر لوجود صفة في النّفس غير الإرادة ومقدماتها من تصور الشيء والجزم بفائدته وغيرهما. ومدّع لوجود صفة أخرى تتوسط الإرادة والفعل عبر عنها بالاختيار وسمّاها بالطلب.

وبيان ذلك : ان معظم الفلاسفة أو كلهم يدعون بأنه ليس في النّفس غير الإرادة ومقدماتها التي يحصل بها الفعل. فلا واسطة بين الفعل والإرادة وليس لهم شاهد على ما ذهبوا إليه سوى دعواهم الوجدان ، وان كل من يراجع وجدانه يرى انه لا يحصل لديه سوى تصور الشيء ، والجزم بفائدته ، والميل إليه والشوق إليه ، المستتبع للفعل بلا توقف. ولا يجد صفة أخرى غير هذه في نفسه. والوجدان أكبر شاهد على إثبات المدعى. وتابعهم على ذلك صاحب الكفاية (1).

إلاّ ان المتكلمين وبعض الأصوليين خالفوا الفلاسفة في ما ذهبوا إليه ، وادعوا وجود صفة أخرى بين الإرادة والفعل عبروا عنها بالاختيار وبحملة النّفس ومشيئتها.

وممن ذهب إلى ذلك المحقق النائيني قدس سره (2) ، وقد قرب الدعوى : بأنه لا إشكال ان العقلاء يفرقون بين حركة المرتعش والحركة الصادرة عن غيره بفعله ، فيسندون الثانية إلى الشخص ، بحيث يقال انه فعله ويلام عليها أو يثاب على اختلاف موارده. دون الأولى فانه لا يقال له : لم فعلت ذلك ، أو حبذا ما

ص: 385


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /65- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 89 - الطبعة الأولى.

فعلت. فالأفعال بنظر العقلاء على نحوين : نحو يستحق المدح والذم ، كرمي الشخص نفسه من شاهق. ونحو لا يستحق المدح والذم ، بل لا يسند إلى الشخص القائم به الفعل ، كما لو رمي شخص من شاهق. فلو لم تكن هناك صفة أخرى غير الإرادة ومقدماتها ، للزم ان يكون الفعل الإرادي كغيره ، فلا فرق بين حركة المرتعش وحركة غيره ، وذلك لأن حصول الإرادة ومقدماتها التي هي العلة التامة للفعل - كما يدعى - ليس أمرا بالاختيار ، بل هو قهري الحصول ، فالفعل الحاصل بها يكون كعلته قهريا لعدم انفكاكه عنها ، فتكون الإرادة التي تنشأ منها الحركة كالمرض الّذي ينشأ منه الارتعاش ، فالفعلان بالنسبة إلى الشخص على حد سواء. فلا بد ان يكون السبب في الفرق المحسوس وجود صفة أخرى بين الإرادة والفعل يستطيع بها الشخص الفعل وعدمه ، بحيث انه بعد الإرادة له ان يفعل وله ان لا يفعل. تسمى هذه الصفة أو الفعل النفسيّ بالاختيار أو حملة النّفس أو مشيئة النّفس ، وهي المفرقة بين مثل حركة المرتعش وغيره ، لأنه لا اختيار للمرتعش في حركته فليس له ان يفعل وان لا يفعل ، بخلاف غيره فان له الاختيار ، فتارة يفعل. وأخرى لا يفعل. وبذلك يستحق المدح والذم وغيرهما من آثار الفعل الاختياري.

وبهذا التقريب وعلى أساسه تنحل مشكلة الجبر ، إذ يثبت توسط الاختيار بين افعال الناس وإراداتهم ، فلا جبر كما قد يتوهم. كما تنحل مشكلة التفويض به مع إضافة شيء بسيط. وعلى كل فليس ذلك محل بحثنا ، انما المهم هو التنبيه على ان ذلك لا ينفع الأشاعرة.

اما على قول من لا يقول بوجود صفة غير الإرادة ومبادئها فواضح جدا.

واما بناء على الالتزام بوجود صفة أو فعل هو الاختيار المتوسط بين الإرادة والفعل فلان المفروض في كلامهم ان الصفة يعبر عنها بالكلام النفسيّ المدلول للكلام اللفظي ، وليس الاختيار كلاما نفسيا ، إذ لا دلالة للفظ عليه

ص: 386

بالمرة ، فانه مربوط بالفعل الخارجي لا بالكلام كما ستعرف.

هذا مضافا إلى : انه مما يلتزم به في افعال الشخص الخارجية والتكوينيات دون مثل الأمر من الإنشائيات ، إذ المفروض ان الاختيار يتعلق بنفس الفعل ، فله ان يفعل وله ان لا يفعل ، وهو انما يتم لو كان الفعل فعل الشخص نفسه ، وفي مورد الأمر لا يتصور ذلك ، إذ الفعل ليس فعل الآمر كي يتعلق به اختياره ، وانما هو فعل المأمور ، والّذي يتعلق به اختيار نفس المأمور ، وانما تتعلق به إرادة الآمر فيأمر به العبد ، فلا يتصور حصول صفة الاختيار في مورد التكليف والأمر فلا تحقق لها في مورده. وثبوتها في مورد آخر لا ينفع الأشاعرة.

والمتحصل : انه لا محذور في موافقة الأشاعرة في وجود صفة في النّفس غير الإرادة في الإخباريات دون الإنشائيات.

لكن هذا لا يعني القول باتحاد الطلب والإرادة مفهوما ، بل هما متغايران مفهوما.

وقد قيل : ان التغاير بينهما بنحو العموم المطلق ، فالطلب هو خصوص الإرادة من الغير دون الإرادة ، فانها مطلق الشوق سواء كان من الغير أو لا.

ولكنه غير صحيح ، لوضوح صدق الطلب في موارد لا تتعلق الإرادة فيها بالغير ، كما يقال : طلب الدنيا أو طلب العلم بواسطة المطالعة ونحو ذلك.

فالإنصاف : ان الإرادة تطلق على الصفة النفسانيّة التي هي عبارة عن الشوق والرغبة إلى الشيء مطلقا ، والطلب يطلق على التصدي لحصول المراد والمرغوب ، ولذلك لا يقال طلب الضالة إلا لمن تصدى خارجا للبحث عنها دون من أرادها نفسا فقط ، فالطلب ليس هو الشوق نفسه ، بل هو إظهاره وإبرازه بالتصدي لتحصيل المشتاق إليه. ولذلك يطلق الطلب على نفس صيغة الأمر لأنها تتعنون بعنوان التصدي وبها إظهار الإرادة. وبذلك يتضح اختلاف الطلب والإرادة مفهوما ، وانه ليس مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، بحيث يكون

ص: 387

اللفظان مترادفين - كما ادعاه صاحب الكفاية - كما يتضح ان إطلاق الطلب على الاختيار في التكوينيات - كما ارتكبه المحقق النائيني - لا يخلو عن تسامح ، فان التصدي ينشأ عن الاختيار ، وليس هو الاختيار كما لا يخفى. وقد نبه قدس سره على ذلك بتقريب : ان التوجه والقصد لما كان إلى الغاية لا إلى المبدأ أطلق اسم الغاية على المبدأ من باب أخذ الغاية وترك المبدأ ، كما يطلق الأكل على مجرد البلع بلا مضغ. فلاحظ.

يبقى الكلام في الجهة الثانية من جهات النزاع - أعني النزاع في مدلول صيغة الأمر -.

فقد تقدم الكلام فيما مضى عن معنى الحروف وهيئة الاسم وهيئة الماضي والمضارع من الأفعال. وبقي الكلام في هيئة الأمر ك- : « افعل » و « صلّ » و « كل » ونحوها وموضعه هاهنا.

وعلى كل فقد ذكر صاحب الكفاية : انها موجدة لمعناها في نفس الأمر (1) ، وقد تقدم منه ان الصيغ الإنشائية تتكفل إيجاد المعنى بوجود إنشائي (2).

ولكن ما ذكره هنا ليس بيانا لمعنى الصيغة ، إذ لم يعلم ما هو معناها الّذي توجده إنشاء. وكلامنا في معرفة معناها وما هي موضوعة له لا في بيان أثرها وعملها.

ولكنه قال في موضع آخر ما مضمونه : إن صيغة افعل تستعمل في إنشاء الطلب ، وان معناها ذلك وان اختلفت دواعي إنشائه ، من طلب ، وتهديد ، وتعجيز ، واستفهام ، ونحوها (3).

ومن الواضح ان الالتزام بوضع الصيغة لإنشاء الطلب مثار المناقشة ، لأن

ص: 388


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /66- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /286- المطبوعة ضمن حاشية الفرائد.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 69- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإنشاء كما عرفت غير قابل للإنشاء والإيجاد مرة أخرى. وعليه فلا تصلح الصيغة لإنشاء معناها كما ذكره ، لأن معناها هو الإنشاء وهو غير قابل للإيجاد. ومن هنا حاول البعض تصحيح كلامه بحمله على إرادة كون الموضوع له والمستعمل فيه هو الطلب الإنشائي لا إنشاء الطلب ، كما وجهت عبارة الشيخ الدالة على ان البيع هو إنشاء التمليك بإرادة التمليك الإنشائي ، كما أشرنا إليه. ولكنك قد عرفت عدم ارتفاع الإشكال ، فان الطلب الإنشائي معناه هو الطلب الموجود بوجود إنشائي ، فلا يقبل الإنشاء ثانيا لامتناع إيجاد الموجود. وعليه فلا تصلح الصيغة لإيجاد معناها لأنه غير قابل للإيجاد ، إذ هو الطلب الإنشائي.

فالأولى ان يقال في توجيه عبارته قدس سره : ان الموضوع له والمستعمل فيه هو الطلب ، لكن قيد الوضع - بمعنى العلقة الوضعيّة - بان تستعمل في مقام الإنشاء والإيجاد ، فان الطلب تارة يقصد الأخبار عنه. وأخرى يقصد إيجاده وإنشاؤه. فصيغة افعل وضعت لنفس الطلب لكن بقيد استعمالها في مقام الإنشاء والإيجاد ، بحيث لا يجوز أن تستعمل في الاخبار عن الطلب ، ولذلك لا تدل عليه بوجه. فاللام في قوله : « لإنشاء » لم يقصد بها لام الإضافة بل لام الغاية ، فمراده انها موضوعة للطلب لأجل إنشائه بتقييد الوضع بذلك. وإذا كانت موضوعة لمفهوم الطلب صح استعمالها فيه بقصد إيجاده ، ويتحقق الطلب فيها بتحقق إنشائي كغيره من المفاهيم المنشأة.

وعليه ، فلا إشكال في كلامه من هذه الجهة. انما الإشكال في أصل دعواه الوضع لمفهوم الطلب المبتني على دعواه في مبحث الحروف بعدم الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، وان كلا من الحرف والاسم موضوع لمعنى واحد ، والفرق في جهة خارجة عن الموضوع له ، وهي اختصاص الاسم باللحاظ الاستقلالي ، والحرف باللحاظ الآلي.

فانك قد عرفت فيما تقدم وجود الفرق الذاتي الجوهري بين معنى الاسم

ص: 389

والحرف ، فيمتنع ان توضع الهيئة إلى مفهوم الطلب كلفظ الطلب ، لأن الهيئة من الحروف.

ولكنه ليس بإيراد خاص بهذه الدعوى ، بل هو راجع إلى أصل المبنى ، فالهيئة والطلب ك- : « من والابتداء » و « في والظرفية ».

وعلى كل ، فما ذكره في معنى الصيغة لا يمكن الالتزام به لما عرفت من ان معنى الحروف ليس من سنخ المفاهيم ، فيمتنع الالتزام بان الصيغة موضوعة لمفهوم الطلب. فلاحظ.

وقد ادعي : انها موضوعة لإبراز الاعتبار النفسانيّ (1).

وتحقيق الحال فيه يقتضى التكلم في جهتين :

الجهة الأولى : في ان المعتبر ومتعلق الجعل هل هو كون الفعل في عهدة المكلف ، أو انه البعث نحو الفعل؟. وبعبارة أخرى : ان الأمر هل هو جعل الفعل في عهدة المكلف الّذي يرجع ثبوته إلى اشتغال ذمة المكلف بالفعل ، أو انه جعل الباعث نحو العمل والمحرك إليه؟. ويترتب على تحقيق أحد الاحتمالين آثار عملية في الأصول جمّة تظهر بوضوح في باب التزاحم والعلم الإجمالي ، فان التكليف إذا كان من باب اشتغال الذّمّة لا يعتبر فيه القدرة على العمل ، لعدم توقفه عليه ، بل يكون كالدين الّذي في الذّمّة مع عدم القدرة على الأداء ، بخلاف ما إذا كان جعل الباعث ، فان الباعثية والمحركية تتوقفان على القدرة لتوقف الانبعاث عليها.

كما انه بناء على الأول لا يعتبر في تنجز العلم الإجمالي كون جميع أطرافه محل الابتلاء ، لعدم اعتبار كون الشيء في موضع الابتلاء في صحة التكليف به ، بناء على انه من باب اشتغال الذّمّة بالفعل. بخلاف ما لو كان جعل الباعث

ص: 390


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 130 - الطبعة الأولى.

لاشتراط موضعية الشيء للابتلاء في التكليف به ، فيعتبر في تنجيز العلم الإجمالي كون جميع الأطراف محل الابتلاء.

وبالجملة : فالالتزام بالأول له آثار جمّة قد تغير من سير الفقه والاستنباط الفعلي.

والصحيح : انه لا يمكن ان يلتزم بجعل الفعل في العهدة - كما عليه السيد الخوئي - ولا جعل البعث واعتباره تشبيها بالبعث التكويني - كما عليه المحقق الأصفهاني -.

وتحقيق هذه الجهة ليس محله الآن بل يكون في مورد التزاحم أو نحوه إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثانية : في صحة كون الموضوع له الصيغة هو الاعتبار بأحد احتماليه أو إبرازه. وقد تقدم تحقيق ذلك في مبحث الإنشاء والاخبار ، وتقدم ان هذه الدعوى باطلة لا محصل لها. فراجع (1).

والمشهور كون الصيغة موضوعة للنسبة الطلبية كغيرها من الحروف الموضوعة للنسب الخاصة.

وتوضيحه : ان الشخص حينما يطلب شيئا من غيره تكون هناك نسبة ذات أطراف أربعة ، وهي : الطالب ، والطلب ، والمطلوب ، والمطلوب منه. ويعبر عن هذه النسبة بالنسبة الطلبية ، وهي معنى إيجادي ، كما عرفت في تحقيق حقيقة النسب. ولها مماثل في الذهن ، فالهيئة تستعمل في النسبة الطلبية المتحققة في ذهن المتكلم بقصد إيجاد البعث وإنشائه.

واما اعتبار البعث ففيه :

أولا : ان البعث التكويني لا يترقب منه سوى تحقق الفعل ولو بدون

ص: 391


1- راجع 1 / 137 من هذا الكتاب.

اختيار الشخص. وهذا لا يمكن ان يلتزم به في باب التكليف ، فكيف يكون متعلقا للاعتبار؟.

وثانيا : انه خلاف ما يصرح به القائل نفسه من كون الحكم المجعول هو ما يمكن ان يكون داعيا الّذي يرجع إلى جعل الداعي والباعث ، وهو غير جعل البعث.

وثالثا : ان الاعتبار شيء لا بد ان يكون بلحاظ ترتب أثر عليه بوجوده الحقيقي ، فيقصد ترتيبه عند اعتباره ، كما في الملكية ونحوها. وهذا انما يكون إذا لم يكن الأثر مما يترتب بدون الاعتبار وإلاّ كان لغوا ، والأثر المترقب من جعل التكليف هو لزوم الطاعة عقلا. وهذا يترتب بمجرد وجود الغرض الملزم مع تصدي المولى لتحصيله ، سواء تحقق اعتبار البعث أم لا ، فإذا حصل التصدي وجبت الطاعة ولو لم يعتبر أي شيء وعليه يكون الاعتبار لغوا لا أثر له.

ويتحصل من ذلك : ان مفاد الصيغة ليس امرا مجعولا ، بل مفادها ما عرفت من نسبة صدور الفعل إلى الإرادة النفسيّة وغيرها من الصفات ، والمتكلم حيث يستعملها في هذا المقام يتحقق به مصداق التصدي ، فتلزم الحركة على طبق الغرض الملزم ، فالطلب عنوان الصيغة لا مدلول لها ، كما انها لا تكشف إلا عن أمر تكويني لا جعلي.

هذا هو المشهور. وقد نسب إلى المحقق الشيخ هادي الطهراني رحمه اللّه دعوى كون الهيئة موضوعة للنسبة الصدورية بين الفعل والمخاطب بداعي الطلب ، فان استعمال الهيئة في النسبة الصدورية قد يكون بداعي الاخبار كما هو الحال في الجمل الخبرية ك- : « ضرب زيد » ونحوه. وقد يكون بداعي الإنشاء والإيجاد ، كما هو الحال في الألفاظ الموضوعة لما يقبل الإيجاد ك- : « بعت » ونحوه. وقد لا يكون بكلا الداعيين بل بداع آخر ، كداعي الطلب. فهيئة الأمر مستعملة في النسبة الصدورية ولكن بداع الطلب ، وقصد تحقق الفعل ، لا بداعي الاخبار ،

ص: 392

ولا بداعي الإيجاد ، لعدم قابلية الطلب للإيجاد ، وبذلك يحصل الانبعاث نحو الفعل والتحريك إليه ، كما لا يخفى.

والّذي حدا به إلى هذه الدعوى : ما أشرنا إليه ، من الإشكال في إنشائية بعض الصيغ كصيغ التمنّي لعدم كون معانيها قابلة للإيجاد ، إلا بناء على رأي صاحب الكفاية في الإنشاء. وقد أشرنا هناك إلى تخلصه عن الإشكال بان الإنشاء ليس هو استعمال اللفظ بداعي الإيجاد كي يستشكل في إنشائية بعض الصيغ ، بل هو استعمال اللفظ في المعنى لا بداعي الحكاية والاخبار. سواء كان بداعي الإيجاد أو غيره من الدواعي ، كالتمني والطلب ونحوهما.

وقد عرفت إمكان التخلص عن الإشكال بوجه آخر مع المحافظة على ما هو المشهور من معنى الإنشاء. فلاحظ تلك المباحث.

وعلى كل ، فالوجه الّذي ذكره في معنى الصيغة لا محذور فيه ثبوتا ، فيدور الأمر إثباتا بين الالتزام به والالتزام بما هو المشهور ، ولا دليل من الصناعة يعين أحدهما.

فالأولى إحالتهما على الوجدان ، والّذي يعينه الوجدان هو المعنى المشهور ، فان العرف لا يجد من الآمر انه استعمل اللفظ في صدور الفعل من المخاطب بداعي الطلب ، بل يرى انه استعمل الهيئة في مقام أسبق من مقام الصدور وهو مقام التسبيب إلى الصدور والبعث نحو الفعل.

وبعبارة أخرى : ان الّذي يجده كل آمر من نفسه ويفهمه العرف منه هو انه عند الأمر واستعمال الصيغة لا يلاحظ نسبة صدور الفعل من المخاطب بحيث يستعمل اللفظ فيها ، بل لحاظه يتركز على ما هو السبب في ذلك وهو نسبة الطلب والبعث.

وعليه ، فالمتعين الالتزام بان الموضوع له صيغة الأمر هو النسبة الطلبية ، على حد سائر الحروف من وضعها لأنحاء النسب والربط.

ص: 393

وهذا هو مراد من صرح بان الموضوع له الصيغة هو الطلب أو البعث النسبي - وهو المحقق الأصفهاني (1) - ، وليس مراده كون الموضوع له هو نفس مفهوم البعث المتقوم بطرفين والملحوظ حالة لغيره في قبال البعث الملحوظ بنفسه ومستقلا ، إذ ذلك لا يخرجه - عند هذا القائل - عن كونه مفهوما اسميا لا حرفيا ، إذ اختلاف اللحاظ لا يوجب اختلافا في حقيقة المفهوم ، بل يبقى اسميّا وان لوحظ حالة لغيره ، لأن الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي لدى القائل جوهري ذاتي. بدعوى ان المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بالمرة وانما هو نحو وجود المفهوم في الذهن. وبتعبير أوضح : المعنى الحرفي هو النسبة الذهنية بأنحائها ، فلا بد ان يكون مراده من تعبيره بوضع الهيئة للبعث النسبي - بقرينة ما سبق منه في المعنى الحرفي - هو النسبة الطلبية والبعثية ، وإلاّ كان المعنى اسميا وهو خلف كون الهيئة من الحروف.

وقد تابع المحقق المذكور في التعبير المزبور مقرر المحقق العراقي رحمه اللّه فذكر : ان الهيئة موضوعة للبعث النسبي (2).

ويغلب الظن أنه اشتباه من المقرر ، وانه ليس من تعبيرات نفس المحقق العراقي ، وانما أخذه المقرر من المحقق الأصفهاني ، فانه يختار في الهيئات والحروف غير المستقلة كونها موضوعة للنسب كما تقدم ، مضافا إلى استبعاد توافق المحققين في التعبير الواحد وتوارد ذهنيهما على لفظ فارد ، ولذلك لم يجئ هذا التعبير في المقالات ، وعبر بالوضع للنسبة الإرسالية بين المبدأ والفاعل (3) ، فلاحظ (4).

ص: 394


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 125 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 210 - الطبعة الأولى.
3- العراقي المحقق الشيخ آقا ضياء. مقالات الأصول /70- الطبعة الأولى.
4- لا يخفى انه يصرح قدس سره بكونها - الصيغة - موضوعة للنسبة الإرسالية كما في نهاية الأفكار 1 / 178.

وعلى كل فالأمر سهل.

المطلب الثاني : في صيغة الأمر.

وتحقيق الحال فيها يستدعي بيان جهات :

الجهة الأولى : في بيان معنى الصيغة وما هو الموضوع له الهيئة.

وقد تقدم بيانه في ذيل مبحث الطلب والإرادة ، وقد عرفت انه النسبة الطلبية.

وقد وقع الإشكال والكلام في استعمالها في موارد لا يكون هناك طلب حقيقي ، كاستعمالها في مقام التهديد أو الامتحان أو التعجيز أو السخرية والاستهزاء.

وجهة الإشكال - كما أشار إليها صاحب الكفاية - هي : انها - أعني الصيغة - في هذه الموارد هل هي مستعملة في هذه المعاني كالتهديد والتعجيز والتمني والترجي وغيرها؟ فيكون الاستعمال مجازيا فيها لوضعها للطلب ، إلاّ أن يدعى الوضع لكل منها ، أو الجامع ان كان. أو انها مستعملة في معناها الموضوعة له بلا اختلاف؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني ، فادعى : ان المستعمل فيه في الجميع واحد وهو الموضوع له ، واختلاف الموارد من جهة أخرى خارجة عن دائرة المستعمل فيه. ببيان : ان الموضوع له الصيغة هو مفهوم الطلب بقصد إيجاده في عالم الإنشاء ، وهذا المعنى قد تختلف الدواعي له ، فتارة : يكون الداعي له هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي. وأخرى : يكون الداعي له هو التهديد. وثالثة : يكون هو التمني. ورابعة : التعجيز. وهكذا .. فالمستعمل فيه في جميع هذه الموارد واحد وهو مفهوم الطلب بقصد الإنشاء ، وانما الاختلاف من جهة

ص: 395

الدواعي ، وغاية ما يمكن دعواه : هو ان الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب بداعي البعث والتحريك ، فإذا كان الإنشاء بداع آخر لزم المجاز ، ولكنه لا بمعنى استعمالها في التهديد ونحوه ، بل كل هذه الأمور خارجة عن دائرة المستعمل فيه.

ثم أضاف قدس سره إلى ذلك تأتّي ما ذكره في جميع الصيغ الإنشائية ، فالمستعمل فيه صيغة الاستفهام هو مفهوم الاستفهام بقصد إنشائه ، وانما يختلف الداعي إلى ذلك ، فتارة : يكون ثبوت الاستفهام حقيقة. وأخرى : يكون بداع آخر كالاستنكار أو التقرير أو نحوهما. وهكذا الحال في صيغ التمني والترجي وغيرهما. ومن هنا يظهر انه لا وجه للالتزام بانسلاخ صيغ الاستفهام عن معانيها إذا وردت في كلامه تعالى واستعمالها في غيرها - كما أشار إليه الشيخ في رسائله ، في مبحث حجية خبر الواحد ، في آية النفر حيث قال : « ان لعل - بعد انسلاخها عن معنى الترجي - ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلم » (1) - ، لاستحالة ثبوت الاستفهام حقيقة في حقه تعالى ، لانتهائه إلى الجهل. واستحالة ثبوت الترجي والتمني حقيقة في حقه لانتهائه إلى العجز كما لا يخفى ، وتعالى اللّه عنهما علوا كبيرا. وذلك لأن معانيها ليس إلا الفرد الإنشائي لا الحقيقي ، والمستحيل في حقه هو الحقيقي منها دون الإنشائي ، فالمستعمل فيه في كلامه تعالى وفي كلام غيره واحد ، إلا ان الداعي في كلامه لا يمكن ان يكون ثبوت الصفات حقيقة ، بل يكون شيئا آخر كالاستنكار وإظهار المحبة ، كما يقال في سؤاله تعالى لموسى علیه السلام عن ما في يمينه. فلاحظ (2).

والتحقيق : انه لا بد أولا من معرفة صحة ما ذكره من كون الصيغة مستعملة لإيجاد الطلب إنشاء ، وانما يختلف الداعي إليه ، وان ذلك معقول ثبوتا

ص: 396


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /78- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /69- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أو غير معقول. ثم يقع الكلام إثباتا بعد ذلك.

والإنصاف انه غير معقول ثبوتا ، فان الداعي بحسب ما يصطلح عليه هو العلة الغائية ، بمعنى ما يكون في تصوره سابقا على الشيء وفي وجوده الخارجي مترتبا على الشيء متأخرا عنه. فيقال : « أكل » بداعي تحصيل الشبع ، فان الشبع تصورا سابق على الأكل ، وبلحاظ ترتبه على الأكل ينبعث الشخص إلى الأكل ، ولكنه وجودا يترتب على الأكل ويتأخر عنه.

وعليه ، فصلاحية الأمور المذكورة من تمن وترج وتعجيز وتهديد وامتحان وسخرية لأن تكون داعيا للإنشاء في الموارد المختلفة يصح في فرض ترتب هذه الأمور على الإنشاء وجودا وأسبقيتها عليه تصورا. وليس الأمر فيها كذلك ، فان ..

منها : ما يترتب على صورة الأمر ولو لم يكن استعمال أصلا كالامتحان في مقام الإطاعة ، لأن الاختبار يتحقق بذكر ما صورته أمر ولو كان مجرد لفظ ولقلقة لسان ، إذ الانبعاث نحو الفعل يحصل بوجود ما يتخيل المنبعث كونه أمرا حقيقة ، فيعلم بذكر الصيغة ولو لم يقصد بها أي معنى أنه في مقام الإطاعة أو العصيان.

ومنها : ما يترتب على الأمر حقيقة وبداعي البعث والتحريك ، كالامتحان في المأمور به واختباره في مقدار معرفته في أداء المأمور به ، فان المأمور به مراد واقعا كامتحان الطفل بأمره بالكتابة أو القراءة.

منها : ما يكون في تحققه وترتبه أجنبي بالمرة عن الأمر حقيقة وصورة ، كالتهديد والتمني والترجي ونحوها ، فان هذه الأمور تحصل بأسبابها الخاصة ولا تترتب على الأمر ، كما لا يخفى.

نعم في ما كان الداعي السخرية والاستهزاء ، أمكن أن يدعى ترتب الاستهزاء على استعمال الصيغة في معناها لا بداعي الجد والواقع ، فيصلح الاستهزاء على استعمال الصيغة في معناها لا بداعي الجد والواقع ، فيصلح الاستهزاء للداعوية لو لم نقل بأنه - أعني الاستهزاء - يتحقق بمجرد الإنشاء صورة ولو لم يكن استعمال ، فان إنشاء الأمر صورة بلا قصد أي معنى من المعاني ،

ص: 397

بل ليس المقصود إلا هذه الألفاظ الخاصة ، يعد استهزاء عرفا. فتأمل.

وإذا تبين ان جميع هذه الأمور لا تصلح للداعوية ما عدا الاستهزاء - على إشكال فيه - فلا وجه لأن يقال : ان الصيغة هنا مستعملة في معناها ، ولكن لا بداعي البعث والتحريك بل بداع آخر.

فالأولى ان يقال في هذه الموارد : ان الصيغة مستعملة فيها في معناها الحقيقي وبداعي البعث والتحريك ، إلا ان موضوع التكليف مقيد ، فالتكليف وارد على الموضوع الخاصّ لا مطلق المكلف ، ففي مورد التعجيز يكون التكليف الحقيقي معلقا على قدرة المكلف بناء على ادعائه ، فيقال له في الحقيقة : « ان كنت قادرا على ذلك فأت به » ، فحيث انه لا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه لا يكون مكلفا ، لا بلحاظ عدم كون التكليف حقيقيا ، بل بلحاظ انكشاف عدم توفر شرط التكليف فيه وعدم كونه مصداقا لموضوع الحكم ، فموضوع الحكم هاهنا هو القادر لا مطلق المكلف. وهكذا يقال في التهديد فان الحكم فيه مشروط بمخالفة الأمر في مكروهة وما لا يرضى بفعله وعدم الخوف من عقابه ، فيقول له : « افعل هذا إذا كنت لا تخاف من العقاب ومصرا على فعل المكروه عندي » ، فالموضوع خاص في المقام ، وهكذا الكلام في البواقي.

ومثل هذا يقال في الأوامر الواردة في أجزاء الصلاة ، فان المشهور على انها أوامر إرشادية تتكفل الإرشاد إلى جزئية السورة مثلا وغيرها.

ولكن للفقيه الهمداني تحقيق فيها لا بأس فيه وهو : انها أوامر مولوية حقيقية إلا انها واردة على موضوع خاص ، وهو من يريد الإتيان بالمركب الصلاتي كاملا وعلى وجهه ، فكأنه قيل لهذا الشخص : « ائت بالسورة » ، فمن لا يريد ذلك لا يكلّف بهذا التكليف ، فالامر مولوي لكن موضوعه خاص (1).

ص: 398


1- الهمداني الفقيه آغا رضا. مصباح الفقيه / 133 كتاب الصلاة - الطبعة الأولى.

والمتحصل : انه إذا أمكن الالتزام بان الصيغة في هذه الموارد مستعملة في النسبة بداعي البعث والتحريك جدا ، فلا وجه لتكلف جهة أخرى في حل الإشكال في هذه الموارد ، كما تصدى لذلك صاحب الكفاية.

وبعد هذا نقول : ان ما ذكره صاحب الكفاية من كونها ظاهرة في الطلب والبعث الحقيقي (1) ، سواء ادعى انها موضوعة لمطلق النسبة الطلبية ، أو النسبة الطلبية إذا كان الداعي هو البعث الحقيقي ، أمر لا ينكره أحد ، فان العرف يفهم ذلك من الصيغة بمجرد إطلاقها ، ولا يهمنا بعد ذلك تحقيق الموضوع له ، إذ الّذي يفيد الفقيه والأصولي تحقيق ظاهر الكلام المنسبق منه عند إطلاقها سواء كان بالوضع أو بغيره ، فلا يهمه تحقيق ان هذا الظهور وضعي أو ليس بوضعي.

الجهة الثانية : في ظهور الصيغة في الوجوب.

فقد وقع الخلاف في انها ظاهرة في خصوص الطلب الإلزامي المعبر عنه بالوجوب ، أو الطلب غير الإلزامي المعبر عنه بالندب ، أو مطلق الطلب بلا خصوصية الإلزام وعدمه فيحتاج تعيين كل منهما إلى قرينة خاصة وبدونها يكون الكلام مجملا.

وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الخلاف واختار وضعها للطلب الوجوبيّ (2).

إلا ان المحقق النائيني سلك نحوا آخر في تحقيق المسألة مدعيا عدم الوجه في البحث في تشخيص الموضوع له وانه الوجوب أو الندب أو الأعم ، لأن الطلب الوجوبيّ ليس سنخا آخر غير الطلب الندبي ، بل هما من سنخ واحد ومعنى فارد ، فان الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة المولى.

ص: 399


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /69- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /70- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فليس هناك نحوان من الطلب ثبوتا كي يتنازع في كون أيهما الموضوع له دون الآخر. وبيان ما أفاده - كما جاء في تقريرات بحثه للسيد الخوئي - : إن بناء المتقدمين كان على كون كل من الوجوب والاستحباب معنى مركبا ، فالوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، والاستحباب هو طلب الفعل مع الترخيص في الترك. وقد رفض المتأخرون هذا القول وذهبوا إلى أنهما أمران بسيطان وهما مرتبتان من الطلب ، فمرتبة منه ضعيفة يعبر عنها بالاستحباب ومرتبة شديدة يقال عنها الوجوب ، والمنع من الترك والاذن فيه من لوازم شدة الطلب وضعفه لا دخيلان في حقيقة الوجوب والاستحباب ، وهذا المعنى أمر عرفي ظاهر لا يقبل الإنكار.

ولكنه قدس سره لم يرتض هذا المعنى ذاهبا إلى : ان الطلب غير قابل للشدة والضعف ، وان المستعمل فيه في كلا الحالين ، سواء كان الفعل ضروري الوجود أو غير ضرورية ، ليس إلاّ النسبة الإيقاعية بمعنى إيقاع المادة على المخاطب من دون ان يكون شدة وضعف في المستعمل فيه ، ولا يجد الآمر اختلافا في المستعمل فيه في نفسه.

واما الطلب القائم بالنفس المتعلق بالافعال التكوينية ، فهي غير قابل للشدة والضعف أيضا ، لأنه - كما عرفت - عين الاختيار ، وهو واحد في كل الحالات.

واما الإرادة فهي وان كانت في نفسها قابلة للشدة والضعف ، لكن الإرادة فيما نحن فيه هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات ، وغيره لا يكون إرادة ، وذلك غير قابل للشدة والضعف.

وبذلك يتبين ان الوجوب والاستحباب ليسا من كيفيات المستعمل فيه حتى يدعى ظهور أو انصراف صيغة في أحدهما ، بل المستعمل فيه واحد ، وهو النسبة الإيقاعية ، والاختلاف من حيث المبادئ ، فان إيقاع المادة على المخاطب

ص: 400

ينشأ - تارة - عن مصلحة لزومية. وأخرى : عن مصلحة غير لزومية.

إذا تمّ ذلك ، فاعلم ان الصيغة إذا صدرت من المولى يحكم العقل بمجرد صدورها بلزوم امتثال التكليف والجري على طبقه ، قضاء لحق العبودية والمولوية ، إلاّ إذا صرح المولى بعدم لزوم الفعل وجواز الترك ، وقد قرّب هذا المعنى بوجه فلسفي لا نعرف ارتباطه. فلاحظه. وعلى كل فالذي يتخلص من مجموع كلامه : ان استفادة الوجوب انما هو من طريق حكم العقل بلزوم الإطاعة ولا يرتبط بعالم اللفظ والمستعمل فيه (1).

ولتحقيق الحق لا بد ان نتكلم في إمكان وجود الفرق بين الوجوب والاستحباب ثبوتا وإثباتا. فنقول : انه لا إشكال في ان صدور الصيغة الطلبية من المولى يختلف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى ..

اما من حيث المبدأ. فلان الأمر وطلب الفعل انما يكون بلحاظ ما يترتب على الفعل من مصلحة ، وهذه المصلحة تختلف فقد تكون لزومية وقد تكون غير لزومية ، وباختلاف المصلحة من هذه الجهة تختلف الإرادة وتتفاوت شدة وضعفا ، فان إرادة الفعل الّذي تكون مصلحته لزومية تكون أشد من إرادة الفعل ذي المصلحة غير اللزومية ، ويكون الشوق إليه آكد ، وهذا أمر وجداني لا ينكر.

واما حديث ان الشوق ما لم يصل لحد تحريك العضلات لا يسمى إرادة ، ومع وصوله لا يقبل الشدة والضعف حينئذ. فهو ان سلم تام بالنسبة إلى الإرادة التكوينية دون الإرادة التشريعية ، إذ ليس في الإرادة التشريعية تحريك العضلات ، لأن الإرادة التشريعية إرادة الفعل من الغير فلا معنى لاستتباعها تحريك العضلات ، وإرادة الفعل من الغير يتصور فيها الشدة والضعف حسب اختلاف المصالح الموجبة لانقداح الإرادة. فما ذكر - منه قدس سره - من

ص: 401


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 94 - الطبعة الأولى.

الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.

واما من حيث المنتهى ، فلان الأمر ينشأ بداعي البعث والتحريك نحو الفعل ، فيمكن ان يكون المقصود تارة : هو البعث المسمى اللزومي. وأخرى : البعث والتحريك غير الحتمي. ونظيره في البعث التكويني دفع الشخص غيره بقوة وشدة ، ودفعه دفعا خفيفا غير شديد ، وعلى كل فاعتبار البعث والتحريك بنحويه الحتمي وغير الحتمي متصور وليس فيه إشكال وريب ، فالفرق من حيث المنتهى ثابت أيضا ، كما لا يخفى.

وإذا ثبت الاختلاف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى ، أمكن دعوى رجوع اختلاف الوجوب والاستحباب إلى الاختلاف في المدلول اللفظي ، بان يقال : ان الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتمية الأكيدة. والاستحباب هو الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتمية ، وان اللفظ موضوع للنسبة الطلبية التي يكون إنشاؤها عن إرادة حتمية أو عن مطلق الإرادة.

وبالجملة ، يمكن دعوى اختلاف الوجوب والاستحباب وضعا ، وان الصيغة التي يراد بها الوجوب تستعمل في غير ما تستعمل فيه لو أريد بها الندب. وبكلمة مختصرة : انه بعد فرض وجود نسبتين : إحداهما : طرفها الشوق الأكيد. والأخرى : طرفها الشوق الضعيف. فيمكن أن يقع النزاع في أن الموضوع له هذه النسبة أو تلك النسبة أو الجامع؟.

واما ما عن المحقق العراقي من تصوير النزاع بملاحظة الاختلاف في مرتبة الشوق ، فيقع الكلام في إرادة أي المرتبين (1).

ففيه : ان الكلام ليس مسوقا لبيان الشوق كي يتنازع في مدلوله من مراتب الشوق. هذا بلحاظ مقام الثبوت.

ص: 402


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 214 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

اما مقام الإثبات (1) : فما ذكره قدس سره من ان العقل يحكم بلزوم الإطاعة بمجرد إنشاء الصيغة. بدعوى (2) جزافية ، فانك خبير بأنه بعد إدراك العقل ان إنشاء الطلب يمكن أن يكون عن إرادة حتمية ، كما يمكن ان يكون عن إرادة غير حتمية ، وان المنشأ عن إرادة غير حتمية لا يلزم امتثاله بعد إدراكه هذا المعنى ، كيف يحكم بلزوم الامتثال بمجرد الإنشاء ما لم يدع ظهور الصيغة في كون الإنشاء عن إرادة حتمية ، وهو خلاف المفروض؟!.

وإذن هل يجد الإنسان في نفسه ذلك؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به بل يمكن الجزم بخلافه. وإذا ظهر وجود الاختلاف بين الوجوب والاستحباب ثبوتا وعدم تعين أحدهما في نفسه إثباتا ، لا بد من بيان ان أيهما الّذي يظهر فيه اللفظ بوضع أو إطلاق ، كي يحمل عليه اللفظ إذا ورد بلا قرينة معينة للآخر ومن هنا يتضح ان تحرير الكلام بنحو ما حرره صاحب الكفاية لازم.

وقد ادعى صاحب الكفاية تبادر الوجوب من اللفظ بلا قرينة. وقد عرفت ان التبادر علامة الحقيقة. وأيد دعواه بعدم صحة اعتذار العبد عن مخالفة الأمر باحتمال إرادة الندب وعدم القرينة الحالية والمقالية عليه ثم أشار إلى بعض الإيرادات ودفعها.

كالإيراد بكثرة الاستعمال في الندب في الكتاب مما يجب نقله إليه أو حمله

ص: 403


1- التعرض إلى مقام الإثبات بعد بيان الفرق الثبوتي إنما هو لأجل بيان بطلان ما ذكره المحقق النائيني ، لأنه مع تماميته يلغو النزاع في ظهور الصيغة ووضعها وان ثبت الفرق ثبوتا لعدم الأثر عليه. فتدبر. ( منه عفي عنه ).
2- هذا ما ذكرناه سابقا. لكن نقول. فعلا : انه لا بد من القول بمقالة النائيني ، لتوقف ما التزم به من تقديم النص أو الأظهر على الظاهر - كتقديم دليل جواز الترك أو الفعل على الدليل الظاهر في الوجوب أو التحريم - على الالتزام بهذه المقالة ، إذ على المبنى المشهور تكون دلالة الظاهر على المدلول قطعية كدلالة النص أو الأظهر ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر. وقد أوضحنا ذلك في بعض مباحث التعادل والترجيح فراجع تعرف.

عليه. وفيه أولا : بكثرة استعماله في الوجوب وثانيا : بان الاستعمال وان كثر في الندب لكنه مع القرينة ، والاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يستلزم صيرورته مشهورا فيه كي يبنى على الخلاف في المجاز كما لم ينثلم ظهور العام بكثرة استعماله في الخاصّ حتى قيل : ما من عام إلاّ وقد خصّ.

وفيه : أن الوجه الثاني يبتني على ان الدالّ على المعنى المجازي هو مجموع اللفظ والقرينة بحيث يكون اللفظ جزء الدال ، وما إذا كان تمام الدال هو بواسطة القرينة فلا يتم ، لحصول الأنس بين ذات اللفظ بكثرة الاستعمال. وأمّا النقض بكثرة التخصيص تام بناء على مبناه في التفصيل في استعمال العام في الخاصّ بين المخصّص المتصل والمنفصل في باب العموم. فراجع.

وقد استشكل المحقق العراقي - كما جاء في تقريرات بحثه (1) - وضع الصيغة للوجوب لعدم العلم باستناد التبادر إلى حاق اللفظ ونشوئه عن الوضع ، ولكنه وافق صاحب الكفاية في نفس ظهور الصيغة في الوجوب مع عدم القرينة.

ووجّه ذلك : بأنه مقتضى الإطلاق وجريان مقدمات الحكمة في الإرادة التي تستتبع الإنشاء. ببيان : ان الإرادة الوجوبية هي الإرادة التامة التي لا ضعف فيها ولا نقصان ، بخلاف الإرادة الاستحبابية ، فانها تشتمل على جهة نقص لضعفها. وعليه فلا بد من حمل الكلام على ما يتمحض في الإرادة ، بحيث كان ما به امتيازه عن غيره عين ما به اشتراكه معه ، وهو الإرادة ، لأن شدة الإرادة إرادة ، وهي الإرادة الشديدة التامة ، لأنه لا يحتاج في بيانها إلى غير اللفظ ، دون الإرادة الضعيفة فانها تحتاج في بيانها إلى غير لفظ الإرادة أو ما يؤدى معناه ، لكي يبين جهة النقص فيها وعدم وصولها إلى المرتبة الخاصة من الإرادة مما يكون امتيازها بغير ما به اشتراكها ، لأن نقص الإرادة غيرها كما لا يخفى.

ص: 404


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 212 - الطبعة الأولى.

وإلى هذا البيان أشار صاحب الكفاية في أواخر كلامه (1).

وقد استشكل على نفسه : بان مقدمات الحكمة انما تجري في المفاهيم لكونها قابلة للسعة والضيق الّذي يرجع إليه الإطلاق والتقييد لا الأشخاص ، لأنها غير قابلة للإطلاق والتقييد ، فإذا دار الأمر بين أحد فردين خارجا كان من دوران الأمر بين المتباينين ، والحال في الإرادة كذلك ، فان الإرادة الموجودة في نفس المولى أمر شخصي يدور أمره بين أحد نحوين ، فيكون من دوران الأمر بين المتباينين ، وليس اللفظ يقصد منه بيان مفهوم الإرادة كي يقبل الإطلاق والتقييد.

والتفصي عن هذا الإشكال : بان الفرد الخارجي وان كان بحسب مفهومه غير قابل للإطلاق والتقييد ، لكنه من حيث الأحوال قابل لهما ، والشدة والضعف من أحوال الإرادة الطارئة عليها ، فيمكن لحاظ الإطلاق والتقييد من حيث الأحوال.

ممنوع : لأن الشدة والضعف في الإرادة من لوازم وجودها وليسا من الأحوال الطارئة عليها بعد وجودها. فهي توجد إما شديدة أو ضعيفة ، والمفروض هو تعيين أحد النحوين في الفرد بالإطلاق ، لا إثبات إرادة صرف الفرد بلا لحاظ شدته وضعفه.

وانما الصحيح ان يجاب بما حررناه في محله ، من جريان مقدمات الحكمة في تعيين أحد الفردين ، إذا دار الأمر بينهما وكان أحدهما يحتاج في بيانه إلى مئونة زائدة على اللفظ الموضوع للطبيعي ، فانه بالإطلاق يثبت إرادة الفرد الآخر ، كما هو الحال فيما نحن فيه. هذا محصل كلامه.

وفيه أولا : انه يبتني على الالتزام بجريان مقدمات الحكمة في الأشخاص

ص: 405


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

إذا دار الأمر بين فردين أحدهما يحتاج في بيانه إلى مئونة والآخر لا يحتاج في بيانه إليها. وتحقيق ذلك في محله.

وثانيا : ان أساس مقدمات الحكمة كون المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يقصد التمسك بالإطلاق فيها ، وليس المتكلم فيما نحن فيه في مقام البيان من جهة الإرادة شدة وضعفا ، بل في مقام إنشاء الطلب واستعمال اللفظ في النسبة الطلبية. اما نحو الإرادة فليس الآمر والمنشئ في مقام بيانه ، كي يتمسك بإطلاق كلامه.

ثم ان المحقق النائيني ، بعد ما أفاد ما عرفته ، ذكر : انه بما عرفت يندفع الإشكال المشهور في استعمال الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب معا ، مثل : « اغتسل للجمعة والجنابة » بل لا يرد الإشكال أصلا (1).

وتوضيح الإشكال : ان الطلب جنس لا بد في تحققه من الانفصال بفصل ، لأن الفصل هو الّذي يحصل الجنس وبه يتحقق. كما انه لا بد ان يتحدد بحدّ من الشدة والضعف ، فلا يمكن ان يوجد في الخارج منفكا عنهما معا.

وعليه ، فلا يمكن ان يلتزم ان المستعمل فيه مطلق الطلب ، كما لا يمكن ان يلتزم بان المستعمل فيه الطلب الوجوبيّ والطلب الاستحبابي ، لأنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال ، وإرادة أحدهما ممنوعة ، لأنها خلف فرض كون المتعلقين مختلفين وجوبا واستحبابا.

ولا يخفى انه يندفع بل لا يرد ، بناء على ما التزم به المحقق النائيني كما ذكر ذلك قدس سره ، لأن المستعمل فيه في حالتي الوجوب والاستحباب واحد وهو النسبة الإيقاعية ، والاختلاف من جهة المبادئ ، وهو لا يضير في المستعمل فيه ، واستفادة الوجوب بحكم العقل ، ولا ربط له بالمستعمل فيه.

ص: 406


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 96 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : نسبة المستعمل فيه إلى كلا المتعلقين بنحو واحد ، والوجوب والاستحباب أجنبيان عن عالم المستعمل فيه ، إذ استفادتهما من الخارج لا من اللفظ ، فكون أحدهما واجبا والآخر مستحبا لا يستلزم أي إشكال ، كما هو ظاهر جدا.

ولكن اندفاع الإشكال لا ينحصر بالالتزام بما ذكره ، بل يمكن دفعه بناء على ما ذكرناه. فان اللفظ في حالتي وجود الإرادة الحتمية وغيرها انما يستعمل في النسبة الطلبية. غاية الأمر : ان منشأه تارة : يكون هو الإرادة الحتمية المنبثقة عن وجود المصلحة اللزومية. وأخرى : يكون هو الإرادة غير الحتمية الناشئة عن وجود المصلحة غير اللزومية.

وعليه ، فيمكن ان يقال في دفع الإشكال : ان اللفظ مستعمل في النسبة الطلبية في كلا المتعلقين بمقتضى وضعه لها ، لكنه ناشئ عن إرادتين إحداهما :

حتمية وهي المتعلقة بالجنابة لكون مصلحتها لزومية. والثانية : غير حتمية وهي المتعلقة بالجمعة لكون مصلحتها غير لزومية ، فالمستعمل فيه واحد ، وهو المعنى الموضوع له اللفظ ، أعني النسبة الطلبية ، ولكن منشأ الاستعمال متعدد ، ولا محذور فيه ، سوى مخالفته لمقتضى الوضع لو قيل : بان الموضوع له هو النسبة الناشئ إنشاؤها عن الإرادة الحتمية ، فيكون الاستعمال مجازيا. لكنه خال عن المحذور ، كما قد يتوهم.

ودعوى كون الطلب جنسا ، فلا بد ان يتحصل بأحد فصليه.

تندفع : بان الأمر كذلك ثبوتا ، وهو لا ينافي إرادة الكشف عن الكلي خاصة دون فصله كما يقال : « الإنسان والبقر حيوان ». ولا يخفى ان مقتضى هذا الجواب عدم إمكان استفادة الوجوب من الكلام بالنسبة إلى غير ما قام الدليل على استحبابه.

ويمكن الجواب بوجه آخر ، وهو ان يقال : ان العطف في قوة تكرار

ص: 407

الصيغة فأداته تدل على نسبة أخرى غير النسبة المدلول عليها بنفس الصيغة.

وعليه ، فلدينا نسبتان مدلول عليهما بدالين ، فيمكن ان تكون إحداهما وجوبية والأخرى ندبية ، ويبقى ظهور الصيغة في الوجوب بالنسبة إلى غير ما قام الدليل على استحبابه على حاله. فتدبر جيدا.

الجهة الثالثة : في تحقيق الكلام في مدلول الصيغة الخبرية الواردة في مقام الطلب ، وبيان ما تظهر فيه من وجوب أو استحباب أو غيرهما.

وبيان ذلك : انه كثيرا ما يجيء في النصوص في مقام الطلب صيغة خبرية نظير : « يعيد » أو : « يتوضأ » ونحوهما. فهل هي ظاهرة في الوجوب أو لا؟.

قيل : بعدم ظهورها في الوجوب ، باعتبار انها غير مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاخبار بثبوت النسبة ، والمعاني المجازية المحتملة متعددة ، ولا مرجح للوجوب لعدم أقوائيته.

وقد التزم صاحب الكفاية بظهورها في الوجوب ، بدعوى : ان الصيغة لم تستعمل في غير معناها ، بل انما استعملت في معناها وهو النسبة ، إلاّ إنه لم يكن بداعي الاخبار والاعلام - وهو غير مقوم للموضوع له كما تقدم - ، بل بداعي البعث والتحريك بنحو آكد ، فانه أخبر بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه ، فيكون ظهوره في البعث آكد من ظهور الصيغة.

ثم تعرض بعد ذلك لا يراد لزوم وقوع الكذب في كلامه تعالى - إذا كان المستعمل فيه هو النسبة - لعدم وقوع المطلوب غالبا.

والجواب عنه : بان الكذب انما يتحقق لو كان الاستعمال بداعي الإعلام لا بداعي البعث كما فيما نحن فيه ، وإلاّ لزم الكذب في غالب الكنايات (1).

ولا يخفى ان ما ذكره قدس سره مجرد دعوى ليس لها صورة دليل

ص: 408


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /70- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبرهان ، ولم يذكر لها تقريب وتوجيه ، وذلك لا يكفي في إثبات المطلوب ، بل يمكن الإيراد فيه : بان الاخبار بالوقوع لا يكشف إلا عن إرادة الوقوع باعتبار المناسبة بينهما ، اما كون الإرادة بنحو خاص بحيث لا يرضى بتركه فلا دلالة للجملة على ذلك.

وقد قرّب ظهور الصيغة في الوجوب بتقريب دقيق حاصله : انه قد تقرر في علم الفلسفة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، بمعنى : انه ما لم توجد علته التامة المقتضية لضرورة وجوده - لعدم انفكاك المعلول عن العلة - لا يوجد الشيء فإذا أخبر بوجود الشيء وتحققه كان ذلك كاشفا عن ضرورة وجوده ولا بديته ، والمناسب لذلك في مقام الطلب هو الوجوب التشريعي والطلب الإلزامي ، فيدل الإخبار على الوجوب بالملازمة.

وأنت خبير بأن ما اعتمد عليه في إثبات دلالة الصيغة على الوجوب من القاعدة المحررة ، وهي ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، ليس أمرا عرفيا واضحا ، بل هو أمر دقيق لا يدركه كل أحد بالإدراك البدوي ، فلا يمكن دعوى الظهور العرفي للفظ استنادا إلى ذلك.

فالأولى في تقريب ظهور الصيغة في الوجوب ان يقال : ان وقوع الفعل خارجا من المنقاد يلازم الوجوب والطلب الحتمي ، فان الطلب غير الحتمي لا يستلزم وقوع الفعل خارجا من المنقاد ، إذ يمكن ان يفعل ويمكن ان لا يفعل ، لأن عدم الفعل لا ينافي الانقياد لعدم الإلزام. فالإلزام والوجوب مستلزم وعلة لوقوع الفعل ، وعليه فالوجوب ملزوم ووقوع الفعل لازم ، فيكون اللفظ مستعملا في اللازم ويدل على الملزوم بالدلالة الالتزامية. فظهور الصيغة الخبرية الواقعة في مقام البعث في الوجوب بنحو الالتزام والدلالة الالتزامية ، لملازمة الوقوع للإرادة الحتمية.

ولعل نظر صاحب الكفاية في دعواه إلى ذلك فتأمل.

ص: 409

ثم ان صاحب الكفاية ذكر : انه لو لم نقل بان المناسبة المذكورة بين وقوع الفعل وعدم الرضا بالترك موجبة لظهور الصيغة في الطلب الوجوبيّ ، فلا أقل من الالتزام باستلزامها بتعين الوجوب من سائر المحتملات عند الإطلاق وعدم القرينة ، فإذا تمت مقدمات الحكمة كان مقتضاها حمل الكلام على إرادة الوجوب ، لأن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب توجب تعين إرادة الوجوب مع عدم القرينة على غيره وكون المتكلم في مقام البيان (1).

الجهة الرابعة : لو لم نقل بظهور الصيغة في الوجوب وضعا ، فهل هي ظاهرة فيه بسبب آخر من انصراف أو غيره؟.

ادعي انصرافها إليه باعتبار كثرة الاستعمال فيه ، أو بلحاظ غلبة وجوده ، أو من جهة أكمليته.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان استعمال الصيغة في الندب وهكذا وجوده لا يقل عن استعمالها في الوجوب ووجوده لو لم يكن بأكثر ، وأكملية الوجوب لا توجب انصراف اللفظ إليه ، إذ الظهور انما ينشأ من شدة أنس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجها ومرآة له ، والأكملية وحدها لا توجب ذلك (2).

ثم انه قدس سره قرب ظهور الصيغة في الوجوب عند الإطلاق وتمامية مقدمات الحكمة بما مرت الإشارة إليه في كلام المحقق العراقي ، وقد عرفت الإشكال فيه فلا نعيد.

ص: 410


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /71- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التعبدي والتوصلي

اشارة

الجهة الخامسة : الواجبات على قسمين : تعبدي وتوصلي.

وقد وقع الكلام في بيان المراد من التعبدي والتوصلي.

فقيل : ان الوجوب التعبدي ما لا يحصل الغرض فيه إلا بإتيان متعلقه بقصد القربة. ويقابله التوصلي ، وهو ما يحصل منه الغرض بلا قصد القربة (1).

وقيل : بان الواجب التعبدي ما شرع الإتيان به بنحو العبادة وللتعبد به. ويقابله التوصلي وهو ما شرع لغرض حصوله بذاته لا بعنوان العبادة (2).

وقيل : بان التعبدي ما اعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي ما لم يعتبر فيه قصد القربة (3).

ولا يخفى ان تحقيق كون التعبدي أي المعاني من هذه ، أو تحقيق ان التعبدية والتوصلية هل هي صفة الوجوب أو الواجب؟. ليس بذي أهمية فيما هو المهم في الكلام كما سيتضح ، كما لا يخفى ان هذه التفسيرات كلها تشير إلى معنى واحد ، وهو كون التعبدي ما لا يسقط به الأمر إلا بقصد القربة دون التوصلي.

وعليه ، فلا يهمنا إثبات أيها معنى للتعبدي والتوصلي ، فليكن موضوع الكلام فعلا ، هو التعبدي ، بمعنى ما يعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي بمعنى ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

وقد أشير إلى أن للتعبدي معنى آخر ، وهو : ما لا يسقط به الأمر إلا بالمباشرة ، وان يكون عن إرادة واختيار ، وان لا يكون بفعل محرم. بخلاف

ص: 411


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 96 - الطبعة الأولى.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 139 - الطبعة الأولى.

التوصلي ، فانه ما يسقط الأمر بمجرد وجوده وتحققه خارجا ولو كان بفعل الغير ، أو بلا إرادة واختيار ، أو بفعل محرم من المحرمات كتطهير الثوب (1).

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم : ان محل الكلام في أن مقتضى الأصل - مع الشك في كون الواجب تعبديا أو توصليا - هل هو العبادية أو التوصلية؟. والمراد بالأصل الأعم من الأصل اللفظي والعملي ، فان المناسب لمبحث الألفاظ وان كان هو البحث في الأصل اللفظي دون العملي ، لكن حيث جاء في كلام الأعلام البحث عن كليهما جرينا على منوالهم.

ولا يخفى ان البحث لا بد ان يكون أولا عن الأصل اللفظي ، وانه هل هناك إطلاق أو نحوه يعين أحد النحوين؟ ، فانه مع ثبوته ووجوده لا تصل النوبة للأصل العملي ، فإذا لم يثبت الأصل اللفظي يبحث ثانيا عما يقتضيه الأصل العملي من أحد النحوين وما تكون نتيجته منها.

ثم ان البحث يقع أولا عن التعبدية بالمعنى الأول - أعني الجامع بين الأقوال الثلاثة -. ثم نبحث أخيرا عن العبادية والتوصلية بالمعنى الآخر ، فيتكلم في أن الأصل هل يقتضي المباشرة في الواجب أو الإرادية أو عدم تحققه بالفعل المحرم ، أو لا يقتضي شيئا منها ، أو بعضها؟. فان تحقيق ذلك مما له فائدة جمة في مباحث الفقه.

وعلى كل ، فيقع الكلام فعلا في : أن مقتضى الأصل هل هو اعتبار قصد القربة في الواجب أولا؟. والكلام في مرحلتين :

المرحلة الأولى : في الأصل اللفظي ، ومحل البحث هو وجود أصل لفظي كالإطلاق يعين أحد النحوين وعدمه. فالكلام في اقتضاء إطلاق الصيغة التوصلية ونفي اعتبار قصد القربة وعدمه.

ص: 412


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 139 - الطبعة الأولى.

والمشهور في كلامهم هو : عدم إمكان التمسك بالإطلاق ، لأجل عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، بضميمة كون الإطلاق إنما يثبت في المورد القابل للتقييد دون غير القابل له كالمورد.

ولا يخفى ان التقرب كما يحصل بقصد امتثال الأمر كذلك يحصل بما يكون موجبا للقرب من القصود ، كقصد المحبوبية أو قصد الإتيان بالفعل له تعالى ونحوه ، إلا ان كلامهم أولا ينصب على تحقيق إمكان وعدم إمكان أخذ قصد امتثال الأمر والإتيان بالفعل بداعي الأمر في متعلق الأمر ، ومنه يبتّون في الأنحاء الأخرى من القصد.

ولأجل ذلك فيكون الكلام فيه أولا في إمكان أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر نفسه وعدم إمكانه ، جريان على منوال القوم.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع أخذه في متعلق الأمر شرعا ، معللا ذلك باستحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلق ذلك الأمر ، سواء كان أخذه فيه بنحو الجزئية أو الشرطية ، وأعقب ذلك بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها » (1).

وكلامه في المقام لا يخلو عن إجمال ، إذ لم يتضح منها ان وجه عدم إمكان أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر شرعا هو استلزامه لمحذور واحد أو لمحذورين ، وعبارته قابلة للحمل على كلا الاحتمالين ، كما ان لكل منهما قرينتين ، فلا يمكن الجزم بإرادته أحدهما ، ويحسن بنا بعد ان نبهنا على ذلك الإفصاح عما ذكرناه فنقول :

يمكن حمل عبارته على استلزام أخذ قصد القربة في متعلق الأمر لمحذورين :

ص: 413


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /72- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : ان متعلق الأمر لا بد وان يكون في رتبة سابقة على نفس الأمر ، لأنه معروض الأمر ، والعارض متأخر عن معروضه رتبة ، وداعي الأمر معلول لوجود الأمر لاستحالة تحققه بدونه فهو متأخر عنه تأخر المعلول عن علته. وعليه فلا يمكن أخذه في متعلق الأمر ، لأنه متأخر عن الأمر ، ففرض كونه في متعلق الأمر يستلزم فرض تقدمه على الأمر وهو خلف.

والثاني : ان الأمر انما يتعلق بما هو مقدور دون ما هو ليس بمقدور ، والإتيان بالصلاة بداعي الأمر غير مقدور إلا بتعلق الأمر بذات الصلاة. وأوضح ذلك فيما بعد بان الأمر انما يدعو إلى ما تعلق به ، وقد تعلق بالصلاة مقيدة بقصد القربة ، فلا يمكن الإتيان بالصلاة بداعي الأمر ، إذ لا أمر قد تعلق بها كي يدعو إليها ويؤتى بها بداعيه.

وإلى هذا المحذور أشار بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة .. ». وإلى الأول أشار بقوله : « لاستحالة أخذ ... ».

كما انه يمكن حمل عبارته على ذكر محذور واحد وهو محذور عدم القدرة بتقريب : انه قدس سره ذكر أولا استحالة أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه ، ولم يبين السّر والوجه في الاستحالة ، وانما ذكر ذلك بنحو الإجمال ، لكنه عقب ذلك ببيان مثال ذلك مشيرا في مثاله إلى نكتة الامتناع ، وهي عدم القدرة ، وذلك بقوله : « فما لم تكن نفس الصلاة ... ».

وقرينة هذا الاحتمال :

أولا : ظهور الفاء في قوله : « فما لم تكن » في التفريع على ما سبق. وهو يتناسب مع وحدة المحذور لا مع تعدده إذ على الثاني لا معنى للتفريع ، بل كل منهما محذور مستقل.

وثانيا : حكمه بفساد التوهم الّذي ذكره مع تسليمه بجهة من جهاته ، فلو كان النّظر إلى وجود محذورين لم يكن مجموع التوهم فاسدا ، بل يكون دفعه

ص: 414

للمحذور الآخر فاسدا دون الأول ، فحكمه المذكور ظاهر في وحدة المحذور ، وانه لا يندفع به المحذور. وان سلمت إحدى الجهتين به ، فهو واضح الفساد. ويؤيد ذلك انه أصر على ما ذكره من الكلية - أعني استحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر في متعلقه - في غير مكان من الكفاية ، فلو كان نظره فيه إلى ما ذكر من المحذور بنحو التعدد لم يتجه ذلك لاندفاعه بكفاية تصور المتعلق في مرحلة الأمر وتسليمه قدس سره به. فتأمل.

كما أنه على الاحتمال الأول قرينتان :

إحداهما : التعرض في التوهم إلى دفع جهتين والتخلص من إشكالين ، وهما اللذان ذكرناهما وهو ظاهر في تعدد المحذور.

ثانيتهما : عدم مناسبة التفريع مع الكلية المذكورة أولا ، وذلك لأن عدم القدرة على الإتيان بقصد امتثال الأمر لم ينشأ عن جهة كون قصد الأمر مما لا يتأتى إلا من قبل الأمر ، بل لخصوصية في قصد الأمر بنفسه ، ولذا لا يسري إلى كل ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر كالعلم بالحكم ونحوه. فظاهر الكلية كون المحذور ناشئا عن جهة كون قصد الأمر مما لا يتأتى إلا من قبل الأمر ، وهو أجنبي عن عدم القدرة على المتعلق ، بل ظاهره كون المحذور فيه هو المحذور في غيره مما يشابهه في عدم تأتيه الا من قبل الأمر وهو غير عدم القدرة. ولذا يلتزم البعض بعدم استحالة أخذ العلم بالحكم في المتعلق ببعض التأويلات ، مع ان المحذور لو كان جهة القدرة لم يقبل التأويل كما هو واضح جدا. وبواسطة وجود القرينة على كلا الاحتمالين يمكننا دعوى كون كلام صاحب الكفاية من المجملات. فلاحظ.

وعلى أي حال فالمهم هو بيان ما ذكر من الوجوه لمنع أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر وهي كثيرة ربما أوصلها البعض إلى عشرة :

الأول : إشكال الدور الّذي أوضحناه في مقام بيان عبارة الكفاية ، والّذي

ص: 415

محصله : ان الأمر يتوقف على ثبوت متعلقه ، وقصد الأمر يتوقف على ثبوت الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر يستلزم فرض توقف الأمر عليه ، وقد عرفت توقفه على الأمر. وهذا هو الدور أو الخلف وهو محال.

والجواب عنه واضح ، وقد أشار إليه في الكفاية ، وبيانه : ان الأمر لا يتوقف على وجود متعلقه خارجا ، بل يتوقف على وجوده ذهنا وتصورا ، فيتعلق به ويبعث الأمر بعد تصوره. وداعي الأمر انما يتوقف على الأمر بوجوده الخارجي لا التصوري ، إذ يمكن تصور داعي الأمر ولو لم يكن أمر أصلا. وعليه فالذي يتوقف عليه الأمر هو قصد الأمر بوجوده التصوري وهو لا يتوقف على الأمر ، بل الّذي يتوقف على الأمر هو قصد الأمر بوجوده الخارجي وهو لا يتصور عليه الأمر فلا دور ، إذ الموقوف عليه الأمر غير الموقوف على الأمر.

الثاني : استلزامه الدور بلحاظ مقام الامتثال ، وذلك لأن الأمر يتوقف على القدرة على متعلقه ، إذ لا يصح الأمر مع عدم القدرة ، فإذا كان قصد الأمر مأخوذا في متعلق الأمر كان الأمر متوقفا على القدرة عليه ، مع ان القدرة على قصد الأمر تتوقف على الأمر ، إذ لا يتحقق قصد الأمر بدون الأمر.

وأجيب عن ذلك : بان القدرة المصححة للأمر إنما هي القدرة على المتعلق في ظرف الامتثال لا في ظرف الأمر.

وتوضيح النّظر في الجواب يتوقف على بيان المقصود من شرطية القدرة.

فنقول : ان الشرط قد يطلق ويراد به معناه الفلسفي ، وما هو المصطلح به عليه عند أهل ذلك الفن ، وهو جزء العلة التامة وما يكون دخيلا في وجود المشروط. وقد يطلق ويراد به معنى غير ذلك ، بل ما يكون مصححا لإيجاد الفعل ورافعا للغويته وموجبا لكونه من الأفعال العقلائية وان أمكن وجود الفعل بحسب ذاته بدونه ، وذلك نظير ما يقال شرط اعتبار الملكية ترتب الأثر عليها ، فان ترتب الأثر ليس دخيلا في وجود الملكية ، بل هو مصحح لإيجادها من قبل

ص: 416

العقلاء وبه يخرج الفعل على تقدير وجوده عن اللغوية. ومن الواضح ان الشرط بالمعنى الأول سابق رتبة على المشروط ، فيمتنع ان يفرض تأخره عنه رتبة في حال من الأحوال سواء كان في وجوده لا حقا أم سابقا على وجود المشروط.

واما الشرط بالمعنى الثاني ، فليس هو في الرتبة سابقا على المشروط ولا يتوقف المشروط عليه ، فلا يمتنع ان يفرض تأخره عنه في الرتبة.

وشرطية القدرة للتكليف لو أريد بها المعنى الأول كان الإشكال في محله ، إذ القدرة على قصد الأمر يتوقف عليها الأمر مع ان قصد الأمر معلول لوجود الأمر.

ولا ينحل الإشكال بان القدرة التي هي شرط الأمر هي القدرة في مقام الامتثال لا في ظرف التكليف والأمر ، إذ القدرة في مقام الامتثال على قصد الأمر معلولة للأمر ، فلا يمكن أن تؤخذ شرطا للأمر وجزء علته ، فان ذلك يستلزم الدور والخلف كما هو واضح.

لكن الّذي يهون الخطب ان شرطية القدرة للتكليف ليس المقصود بها المعنى الفلسفي للشرطية ، بل المقصود بها المعنى الثاني ، فالقدرة مصححة للأمر والتكليف ، إذ بدونها يكون لغوا ومعها يخرج عن اللغوية ، فهي شرط للتكليف الصادر من المولى الحكيم ، فلا يمتنع ان تكون ناشئة عن نفس التكليف ، كما أنها ثابتة ، إذ ما هو شرط ومصحح للأمر انما هو القدرة في مقام الامتثال لا في ظرف الأمر كي يدعي عدم القدرة عليه بدون الأمر ، والقدرة على قصد الأمر في ظرف الامتثال حاصلة لتحقق الأمر.

وبالجملة : فإشكال الدور يبتني على الخلط بين الشرط بالمعنى الفلسفي والشرط بمعناه الآخر. وبعد تبين الخلط والمراد بالشرط يتضح عدم تأتي الإشكال ، ويتبين ما هو محط النّظر في الجواب المشار إليه فتبصر.

الثالث : وهو ما يرتبط بعدم القدرة على المأمور به أيضا. لكنه بتقريب

ص: 417

آخر ، وهو ما أشار إليه في الكفاية أولا ثم أوضحه في طيات كلماته.

وبيانه : ان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يستلزم عدم القدرة على الإتيان بالفعل بقصد الأمر. وذلك : لأن قصد الأمر إما ان يؤخذ بنحو الشرطية للفعل أو بنحو الجزئية ، بحيث يكون المأمور به مركبا من الفعل وقصد الأمر.

فعلى الأول : فحيث ان الأمر إنما يتعلق بالمقيد بما هو مقيد بحيث لا يكون إلا أمر واحد متعلق بموضوع واحد وهو المقيد ولا ينحل الأمر إلى أمرين أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر بالخصوصية أو بتقيده بها ، لأن التجزؤ إنما يكون بالتحليل العقلي ..

لم تكن ذات الفعل متعلق للأمر. وعليه فلا يمكن الإتيان بها بداعي الأمر المتعلق بها لعدم وجوده ، والأمر الموجود إنما يدعو إلى المقيد بما هو مقيد لأنه متعلقه ، لا إلى الذات إذ لم يتعلق بالذات ، والمفروض ان المقيد - وهو الفعل بقصد الأمر - غير مقدور لتوقفه على تعلق الأمر بذات الفعل حتى يصح الإتيان به بداعي أمره.

وعلى الثاني : فالفعل وان كان بذاته متعلقا للأمر لأنه جزء ، والمفروض ان الكل عين أجزائه فالأمر المتعلق به متعلق بها ، إلا أن في أخذه جزء محذورين :

أحدهما : لزوم تعلق الأمر بغير الاختياري ، وهو قصد القربة ، لأنه إذا كان جزء كان متعلقا للأمر وهو غير اختياري ، لأن الإرادة ليست بالاختيار ، وإلا لزم التسلسل - وهو واضح - ويمتنع تعلق الأمر بما هو غير اختياري.

ثانيهما : عدم القدرة على الإتيان بالمأمور به ، وذلك لأن المركب الارتباطي لا يمكن الإتيان بكل جزء منه على حدّه ومستقلا ، بل لا يتحقق امتثاله إلا بالإتيان بكل جزء مع غيره من الأجزاء - ولذا لا يمكن قصد الأمر في الإتيان بالركوع وحده -.

وعليه ، فلا يمكن الإتيان بذات الفعل بداعي وجوب الكل ما لم ينضم

ص: 418

إليه الجزء الآخر وهو قصد الأمر ، فيكون المأتي به هو الفعل بداعي الأمر لداعي الأمر ، وذلك محال لا من باب ان داعي الأمر لا يمكن ان يتحقق بداعي الأمر - إذ ذلك بنفسه لا محذور فيه ، ولذا يرتفع المحذور المذكور في صورة الالتزام بتعدد الأمر مع انه يستلزم ان يكون داعي الأمر عن الأمر - بل من جهة ان الأمر لا يكون محركا نحو محركية نفسه ، فانه بوزان علية الشيء لعلية نفسه ، بيان ذلك : ان المفروض انه لا أمر إلا واحد ، وعليه فإذا جيء بالصلاة - مثلا - بقصد أمرها - وهو الأمر بالمجموع المركب - وكان المحرك نحو ذلك هو الأمر بالمجموع ، كان الإتيان بالصلاة بداعي الأمر بالمركب منبعثا عن الأمر بالمركب ، فالأمر بالمركب يكون داعيا للإتيان بالصلاة بداعي الأمر نفسه ، فيلزم ان يكون الأمر داعيا لداعوية نفسه وهو محال بملاك علية الشيء لعلية نفسه (1). وعلى هذا الوجه حمل المحقق الأصفهاني عبارة الكفاية وبين جهة المحالية بما عرفته (2).

وهذا توضيح ما أفاده صاحب الكفاية ويقع الكلام في ما أفاده في موارد ثلاثة :

الأول : فيما ذكره من عدم انحلال الأمر بالمقيد وانبساطه ، بل يكون امرا واحدا متعلقا بالمقيد بما هو مقيد.

وتحقيق الكلام في صحة هذه الدعوى ليس محله هاهنا ، بل له محل آخر في هذا العلم وهو مبحث البراءة والاشتغال عند البحث عن جريان البراءة مع الشك في الشرطية ، فان جريان البراءة الشرعية والاشتغال يبتني على تحقيق أن الأمر بالمشروط هل ينحل إلى أمرين ضمنيين ، أمر بذات المشروط وامر آخر

ص: 419


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /73- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 134 - الطبعة الأولى.

بتقيده بالشرط ، فيكون الحال في الشروط كالحال في الاجزاء ، إلاّ ان الجزء يختلف عن الشرط في أنه بذاته متعلق الأمر الضمني دون الشرط فان متعلق الأمر الضمني فيه هو التقيد به لا نفس الشرط؟. أو انه لا ينحل ، بل لا يكون هناك إلا أمر واحد متعلق بالمشروط بما هو كذلك ، فنفس الفعل لا يكون مأمورا به بالأمر الضمني أصلا ، إذ المأمور به يكون أمرا بسيطا متعلقا لأمر واحد ولا وجه للانحلال حينئذ؟.

فعلى الأولى : يتجه إجراء البراءة عند الشك في شرطية شيء ، لأنه يعلم تفصيلا بتعلق الأمر بذات المشروط ويشك بدوا في تعلقه بالتقيد بالشرط ، فيكون الشك شكا في التكليف وهو مجرى البراءة.

واما على الثاني : فلا مجال للبراءة ، إذ العلم الإجمالي لا ينحل لفرض وحدة الأمر على تقدير تعلقه بالمشروط ، فالأمر دائر بين المتباينين ، إما الأمر بذات المشروط ، أو الأمر بالمشروط بما هو كذلك ، وهو مجرى الاشتغال.

وعليه ، فالتزام المحقق الخراسانيّ هنا بعدم انحلال الأمر بالمشروط ينافى التزامه بجريان البراءة الشرعية عند الشك في الشرطية ، وعلى كل فتحقيق الحال فيما ذكره له محل آخر كما عرفت. والحق - كما سيأتي - هو الالتزام بالانحلال ورجوع الشرطية إلى أخذ التقيد بالشرط جزء.

وعليه ، فيبتني إمكان أخذه شرطا في متعلق الأمر وعدمه على تحقيق إمكان أخذه بنحو الجزئية أولا ، إذ الملاك فيهما يتحد بعد ما عرفت من رجوع الشرطية إلى جزئية التقيد بالشرط.

الثاني : فيما ذكره من عدم إمكان تعلق الأمر بقصد الأمر لعدم اختياريته ، وهو ممنوع ، إذ يرد عليه :

أولا : النقض بتعلق الإلزام بقصد الأمر ولو بحكم العقل ، فان العبد يرى نفسه ملزما بالإتيان بالفعل مع هذا القصد ، بحيث يرى ان هناك فرقا بينه وبين

ص: 420

غيره من الواجبات غير العبادية في مقام الامتثال وإسقاط التكليف ، وإذا لم يكن القصد اختياريا فكيف يتعلق به الإلزام؟ ، سواء كان من العقل أو الشرع.

وثانيا : إنكار عدم اختياريته ، فان ذلك يبتني على الخلط والاشتباه في المراد منه ، فان القصد يطلق ويراد به تارة : ما يرادف الإرادة والاختيار. وأخرى : ما يرادف الداعي والباعث فيقال قصدي من هذا الفعل كذا. ومن الواضح ان المراد بقصد امتثال الأمر ليس الإرادة بل الداعي ، بمعنى ان الإتيان بالمأمور به حيث يترتب عليه موافقة الأمر وامتثاله يكون الإتيان بداعي حصول الموافقة والامتثال والتقرب إلى المولى ونحو ذلك.

فالمراد (1) بالقصد هو هذا المعنى لا الإرادة ، لأن امتثال الأمر من المسببات التوليدية فلا تتعلق بها الإرادة ، بل انما تتعلق بالسبب بداعي تحقق المسبب. ومن الواضح أن الداعي يمكن تعلق الأمر به ، فان الأمر كثيرا ما يتعلق بما يتقوم بالداعي كالتعظيم ونحوه مما يتقوم بالإتيان بالفعل بداعي التعظيم ولا إشكال في اختياريته.

وثالثا : إنكار عدم اختيارية الإرادة ، والالتزام بما التزم به المتكلمون من أن اختيارية الأشياء بالإرادة واختيارية الإرادة بنفسها بواسطة الالتزام بوجه من الوجوه التي ذكروها لذلك ، وإلاّ لوقع الإشكال في اختيارية الأفعال باعتبار استنادها إلى ما ليس بالاختيار.

ص: 421


1- علل سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) في مجلس الدرس إرادة هذا المعنى من القصد دون الإرادة : بان الإرادة انما تتعلق بفعل الشخص نفسه لا بفعل غيره ، فلا معنى لتعلقها بالأمر ، لأنه فعل المولى فلو أريد من القصد الإرادة لم يكن معنى لقولهم قصد الأمر. لكنه عدل عن ذلك بعد مذاكرته ، لأن المفروض الإتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر لا بقصد الأمر ، والامتثال أمر اختياري ومن فعل الشخص نفسه. مضافا إلى أن قصد الأمر لا معنى له مطلقا ، ولو أريد من القصد الداعي ، لأن الأمر لا يترتب على الفعل ، والداعي ما يترتب خارجا على الفعل ، وانما يكون بوجوده الذهني سابقا عليه ، فتأمل. ( منه عفي عنه ).

وبالجملة : فلا محيص عن الالتزام باختيارية الإرادة بوجه من الوجوه ، وتحقيق ذلك موكول إلى محله في علم الكلام.

الثالث : فيما ذكره من عدم إمكان الإتيان بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

والّذي علله المحقق الأصفهاني باستلزامه محركية الشيء لمحركية نفسه.

وقد جاء في تقريرات بحث السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) نسبة هذا المحذور إلى نفس المحقق الأصفهاني ، وحمل كلام الكفاية على معنى آخر ، ثم أورد عليه : بان الأمر بالكل ينحل إلى أوامر ضمنية تنبسط على الاجزاء وتتعدد بتعدد الاجزاء ، فيختص كل جزء بأمر ضمني لنفسه ، ويكون محركا نحو الجزء وباعثا إليه وعلى هذا فالأمر بالمركب من الفعل وقصد الامتثال ينحل إلى أمرين ضمنيين أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر يتعلق بقصد الامتثال ينحل إلى أمرين ضمنيين أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر يتعلق بقصد الامتثال ، فيكون الأمر المتعلق بقصد الامتثال داعيا وباعثا إلى الإتيان بالفعل بقصد أمره الضمني المتعلق به. فلا يكون الأمر محركا نحو محركية نفسه بل محركا نحو محركية غيره ، فان الأمر الضمني المتعلق بقصد الامتثال يكون محركا نحو محركية الأمر الضمني المتعلق بالفعل ، فلا محذور (1).

ولكن صدور هذا الإيراد من مثل السيد الخوئي عجيب جدا. بيان ذلك : ان تمامية الإيراد الّذي ذكره تبتني على أمرين :

الأمر الأول : الالتزام بانحلال الوجوب المتعلق بالمركب إلى أوامر ضمنية يتعلق كل منها بجزء من أجزاء المركب ، توضيح ذلك : انه وقع الكلام في ان الأمر بالمركب هل هو امر واحد بسيط متعلق بمجموع الاجزاء ولا يقبل التعدد والانحلال بل ينسب إلى كل الاجزاء على حد سواء ، ولا يقال عن كل جزء انه

ص: 422


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 163 و 170 - الطبعة الأولى.

مأمور به ، نظير الحمى التي تعرض على البدن ، فانه يتصف بها جميع اجزاء البدن لكنها عرفا حمى واحدة ، ولذا لا يقال لليد وحدها انها محمومة ، بل يقال عن جميع البدن انه محموم وان عرضت الحمى على كل الاجزاء؟ أو انه أوامر متعددة بتعدد الاجزاء ، بحيث يكون كل جزء متعلقا لأمر مختص به ، ويقال انه مأمور به كالبياض الطارئ على الجسم الإنساني فانه يعرض على جميع الاجزاء ويوصف به كل جزء ، فيقال وجهه أبيض ويده بيضاء وهكذا ، كما انه يقال لمجموع جسمه أنه أبيض؟.

فعلى الالتزام بعدم انبساط الأمر بالمركب على الاجزاء ، وانه ليس إلا أمر واحد لا معنى لما ذكره من كون الحصة من الأمر المتعلقة بقصد الامتثال تكون محركة نحو محركية الحصة المتعلقة بذات الفعل ، فلا يكون الأمر محركا نحو محركية نفسه ، إذ لا يتحصص الأمر وليس هو إلا امر واحد متعلق بالمركب فلا يتجه الإيراد. كما انه لا يكفي في صحة الإيراد الالتزام بتحصص الأمر وانحلاله وانبساطه على الاجزاء ، بل يتوقف على ثبوت.

الأمر الثاني : وهو الالتزام بان الأمر الضمني المنحل عن الأمر بالكل يصلح للداعوية نحو ما تعلق به وإلاّ فلا يتم الإيراد ، لأنه وان كان كل من الفعل وقصد الامتثال متعلقا للأمر الضمني ، لكن كلا منهما لا يصلح للمحركية كي يكون أحدهما محركا نحو محركية الآخر ، ويرتفع بذلك محذور محركية الشيء نحو محركية نفسه ، بل الّذي يصلح للمحركية هو الأمر الاستقلالي بالمجموع فيعود المحذور.

والحاصل : ان الإيراد يتم لو التزم بانبساط الوجوب وانحلاله وصلاحيته الأمر الضمني للمحركية ، إذ يقال حينئذ : ان كلا من الفعل وقصد الامتثال يكون متعلقا للأمر الضمني ، ويكون الأمر المتعلق بقصد الامتثال محركا نحو قصد امتثال الأمر الضمني المتعلق بالفعل عند إتيانه. فيكون الأمر محركا نحو محركية

ص: 423

غيره لا نفسه كما عرفت تقريره.

إذا تبين ذلك : فبما ان الظاهر من كلام الكفاية هو عدم انبساط الوجوب وانحلاله كما يشير إليه قوله : « ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل » (1).

وان كان هذا خلاف التزام المحقق الأصفهاني ، فانه يلتزم بانحلال الوجوب وانبساطه (2).

وعليه ، فان حملنا عبارة الكفاية على ما تقدم وكان الإيراد عليه ، كان الإيراد مبنائيا لما عرفت من انه يبتني على القول بانحلال الأمر وصاحب الكفاية لا يلتزم به. وان لم يكن الإيراد على صاحب الكفاية. بل كان على المحقق الأصفهاني ، بلحاظ ان المحذور منه نفسه لا مقصود الكفاية ، فهو عجيب جدا ، لأنك عرفت انه يبتني على الالتزام بداعوية الأمر الضمني والمحقق الأصفهاني لا يلتزم بها ، بل انه يصرح في كلامه بابتناء المحذور على عدم داعوية الأمر الضمني ، وذلك لا يفوت السيد الخوئي لاطلاعه على آراء أستاذه الأصفهاني ، وكذلك يكون نحو إيراده المزبور محل العجب منه ، إذ كان المناسب التصدي للمناقشة معه في هذه الجهة ، أعني داعوية الأمر الضمني وعدمها ، لا المناقشة معه في أصل المحذور مع إغفال جهة الداعوية بالمرّة.

وإذا كانت النكتة - التي هي أساس المحذور - هي عدم صلاحية الأمر الضمني للداعوية ، فلا بد لنا من تحقيق الحال في هذه الجهة ، والّذي يبدو لنا بعد التأمل موافقة المحقق الأصفهاني والالتزام بعدم داعوية الأمر الضمني. والسر في ذلك : ان الشيء انما يكون داعيا للعمل وباعثا نحوه ، اما لكونه بنفسه أثرا مرغوبا ، فيقصد بالعمل ترتبه عليه. أو لكونه ذا أثر مرغوب ، بحيث يكون تصور

ص: 424


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /73- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 264 - الطبعة الأولى.

ترتبه على الفعل باعثا نحو العمل باعتبار ان لوجوده أثرا مرغوبا عقلا أو شرعا أو عرفا أو نفسيا إلى غير ذلك.

وبالجملة : الشيء لا يصلح للداعوية ما لم يكن بوجوده ذا أثر محبوب ، أو كان هو بنفسه محبوبا ، اما بدون ذلك فلا يصلح للداعوية نحو العمل بل يكون العمل لغوا.

وعليه ، فالأمر الضمني إنما يصلح للداعوية إذا كان لموافقته أثر مرغوب شرعا أو عقلا من تحصيل مثوبة أو دفع عقوبة أو حصول التقرب ونحوها ، اما إذا لم يكن لموافقته أي أثر بل كانت هذه الآثار التي يترتب على الموافقة انما يترتب على موافقة الأمر بالكل لم يكن الأمر الضمني صالحا للداعوية ، والأمر كذلك ، فإن حصول الامتثال والطاعة والثواب انما يكون على موافقة الأمر بالمركب ولذا لا تتعدد الطاعة والمعصية ولا يتعدد الثواب والعقاب ، بل ليس هناك إلا إطاعة واحدة وعصيان واحد وثواب واحد وعقاب كذلك تترتب على موافقة الأمر بالمركب أو مخالفته ، وليس لموافقة الأمر بالجزء أي أثر من ذلك. ولا يخفى ان موافقة الأمر بالكل أمر بسيط غير قابل للتعدد لأنه ينتزع عن الإتيان بجميع الاجزاء والشرائط ، فهي تكون داعية للمجموع بما هو كذلك وليست أمرا قابلا للتعدد كي يترتب الإطاعة والأثر على كل حصة بنفسها فيصلح الأمر بها للداعوية ، لترتب الأثر على المجموع ، فيكون كل جزء دخيلا في ترتب الأثر ، بل يترتب عليه بعض الأثر بنسبته. فلاحظ.

وبالجملة : مما ذكرنا يظهر ان الأمر الضمني غير صالح للداعوية.

وعليه ، فيتم المحذور المزبور - ويندفع الإيراد -. وحاصله : ان الأمر انما يتعلق بمتعلقه ليكون داعيا إليه وباعثا نحوه ، فإذا كان داعي امتثال الأمر نفسه جزء المتعلق كان الأمر به للدعوة إليه مستلزما لأن يكون الشيء داعيا لداعوية نفسه.

ص: 425

وبهذا التقريب يكون الإشكال أجنبيا عن عدم القدرة على الامتثال وان أمكن حمل عبارة الكفاية عليه وربطه بعدم القدرة لعدم الأمر كما تقدم.

والمحصل : ان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يستلزم داعوية الأمر لداعوية نفسه وهو محال ، وهذا محذور تام يمنع من أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ولا يهم فيه كونه مراد الكفاية أو لا ، فلاحظ.

الرابع : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر لاستلزامه المحذور في مقام الفعلية والإنشاء والامتثال. بيان ذلك : ان الأحكام الشرعية معلقة على موضوعاتها بنحو القضايا الحقيقية ، يعني ان الحكم يترتب على تقدير وجود موضوعه فلا يكون الحكم فعليا إلا بعد فعلية الموضوع وتحققه خارجا ، فالموضوع في مرحلة ثبوت الحكم يكون مفروض الوجود.

وعليه ، فيمتنع أخذ ما يترتب على الحكم في وجوده في موضوع ذلك الحكم ، كالعلم بالحكم ، فيستحيل تقييد موضوع الحكم بالعلم بالحكم بحيث لا يترتب الحكم إلا في فرض تحقق العلم به. وذلك لأن أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم يستلزم أن تكون نسبة العلم بالحكم إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول لما عرفت من أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه وعدم تحقق الحكم إلا بتحقق موضوعه. فالحكم موقوف على العلم بالحكم ، ومن الظاهر ان العلم بالحكم انما يثبت في فرض ثبوت الحكم ، إذ مع عدمه لا معنى لتعلق العلم به ، فالعلم بالحكم موقوف على الحكم ، فيكون الحكم موقوفا على العلم به والعلم به موقوفا على الحكم وهو دور. فأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم يستلزم محذور الدور. هذا بالنظر إلى مرحلة الفعلية ، وقد اتضح عدم صحة أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه.

واما بالنظر إلى مقام الإنشاء فأخذ العلم بالحكم ممتنع أيضا لوجهين :

ص: 426

أحدهما : ان الإنشاء جعل المنشأ وإيجاده ، فنسبة الإنشاء إلى الحكم نسبة الإيجاد إلى الموجود ، فإذا كان المنشأ مما يستحيل تحققه لما عرفت ، امتنع إيجاده وتحقيقه ، إذ الإيجاد لا يتعلق بالمحال. والمفروض ان الإنشاء يتعلق بالاحكام الشرعية.

ثانيهما : ان باب إنشاء الأحكام على موضوعاتها ليس من باب الفرض والتقدير المحض كالخيال نظير : « أنياب الأغوال » كي يقال انه خفيف المئونة ولا يستدعي أكثر من تصور الموضوع والحكم ، بل إنما ينشأ الحكم على فرض وجود موضوعه بلحاظ مرآتية هذا المفروض عن الخارج بحيث يكون الملحوظ حال الإنشاء ملحوظا طريقا للخارج فيرتب عليه الحكم.

وعليه ، فلا بد ان يفرض وجود الموضوع ومنه العلم بالحكم في مقام الإنشاء ، وفرض وجود العلم بالحكم فرض وجود نفس الحكم فيلزم ان يكون الحكم مفروض الوجود قبل وجوده وهو محذور الدور وان لم يكن دورا بنفسه.

هذا بالنسبة إلى العلم بالحكم ونحوه مما يترتب في وجوده على وجود الحكم. وليس هذا هو محور الكلام بل هو تمهيد إلى ما نحن فيه من امتناع أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه. ولذلك شرع قدس سره بعد بيان ما عرفت في بيان امتناع أخذ قصد الأمر في متعلق التكليف. ولا بد قبل الشروع في بيان ما أفاده في هذا الموضوع من بيان شيء ، وهو : ان ما يكون في المرتبة السابقة على الأمر على نحوين : متعلق وموضوع. ويصطلح بالمتعلق على ما يكون التكليف داعيا على نحوين : متعلق وموضوع. ويصطلح بالمتعلق على ما يكون التكليف داعيا إليه وملزما للعمل والإتيان به ، نظير الصلاة في : « صل » ، فان الأمر يدعو إليها ولا بد من إتيانها بمقتضى الأمر. ويصطلح بالموضوع على ما يكون في رتبة سابقة على الأمر ولا يدعو الأمر إليه ولا يلزم الإتيان به ، بل الحكم يحصل في فرض وجوده سواء كان غير اختياري ، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة فانه تجب الصلاة في الوقت ، فالذي لا بد من الإتيان به هو إيقاع الصلاة في الوقت اما

ص: 427

نفس الوقت فليس كذلك ، أو كان اختياريا كالعقد بالنسبة إلى وجوب الوفاء بالعقد ، فان المتعلق هو الوفاء ، بمعنى انه إذا حصل العقد فيلزم الوفاء به ، اما نفس العقد فلا يلزم إتيانه وتحصيله بل الحكم يثبت على تقدير حصوله ، ويعبر عن هذا بمتعلق متعلق التكاليف ، فان العقد متعلق الوفاء والوفاء متعلق التكليف الوجوبيّ.

ولعل هذا الفصل بين هذين النحوين والاصطلاح عليهما بما عرفت من مبتكرات المحقق النائيني قدس سره ، إذ لم نعثر في كلام غيره على هذا التفكيك ، وكثيرا ما يقع الخلط في كلام الأعلام ، فيعبر عن المتعلق بالموضوع.

وعلى كل فقد عرفت في مقدمة كلامه ان ما ينشأ عن الحكم يمتنع أخذه في موضوع الحكم ، لأن الحكم انما يثبت في فرض وجود موضوعه ، فالموضوع يكون مفروض الوجود في مرحلة ثبوت الحكم. اما أخذه في متعلق الحكم فلا محذور فيه من هذه الجهة ، إذ المتعلق ليس مفروض الوجود كما لا يخفى.

وعليه ، فما ارتباط ما ذكره من امتناع أخذ العلم بالحكم ونظيره في موضوع الحكم بما هو محل البحث من أخذ قصد الامتثال في متعلق الحكم؟.

والجواب : ان الكلام في امتناع أخذ قصد الامتثال ليس مركزا على نفس قصد الامتثال ومنظورا فيه ذلك كي يقال ان نسبة قصد الامتثال إلى الحكم نسبة المتعلق لا نسبة الموضوع ، بل هو مركز على الأمر نفسه ، وذلك لأن فرض أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الحكم يلازم فرض كون الأمر موضوعا لأنه متعلق لمتعلق التكليف ، لأنه متعلق لقصد الامتثال الّذي هو متعلق الأمر ، وقد عرفت ان مثل هذا يكون موضوعا للحكم ، فقصد الامتثال وان كان متعلقا للحكم لكن الأمر الّذي هو متعلق قصد الامتثال موضوع للحكم فالكلام فيه. فجهة ارتباط ما ذكره أولا بمحل البحث هو استلزام أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر أخذ ما يتفرع على الأمر في موضوع الأمر ، فموضوع الحديث في قصد الامتثال

ص: 428

هو : « الأمر » وهو السر في الامتناع.

وإذا تبين ذلك ، فقد أفاد قدس سره : ان أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ممتنع في مقام الإنشاء ومقام الفعلية ومقام الامتثال. وذلك ..

اما امتناعه في مقام الإنشاء فلما عرفت من انه لا بد من فرض وجود الموضوع في ذلك المقام ، فيلزم فرض وجود الأمر لأنه موضوع الحكم قبل وجوده ، وهو يستلزم تقدم الشيء على نفسه.

واما امتناعه في مقام الفعلية ، فلما عرفت من ان فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه ، فإذا كان الأمر دخيلا في موضوع الأمر كانت فعلية الأمر متوقفة على فعليته ، وهو يستلزم تقدم فعليته على فعليته وهو محال.

واما امتناعه في مقام الامتثال ، فلان قصد الامتثال متأخر بالطبع عن تمام الأجزاء ، لأنه يكون بها فيقصد بالأجزاء قصد الامتثال ، فإذا فرضنا ان من الأجزاء قصد امتثال نفس الأمر ، فلا بد ان يكون المكلف في مقام امتثاله قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله ، فيلزم تقدم قصد الامتثال على نفسه.

فالمحذور المستلزم لأخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه في جميع المراحل ، هو لزوم تقدم الشيء على نفسه وهو محال كالدور (1).

هذا محصل وتوضيح ما أفاده المحقق النائيني ، والّذي يظهر ان عمدة المحذور هو أخذ قصد امتثال الأمر بلحاظ مرحلة الفعلية ، وان تعليق فعلية الحكم على فعلية ما لا يكون إلا به هو الأساس في الإشكال ، إذ مقام الإنشاء يتفرع عليه كما عرفت. فان المحذور كما عرفت هو انه لا بد من فرض الموضوع مطابقا لما هو الواقع في مقام الإنشاء ، وبما ان الواقع محال لم يمكن فرض ما هو يطابقه لعدم تحققه ، وما هو مفروض لا يكون مرآتا ومطابقا للواقع.

ص: 429


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 105 - 108 - الطبعة الأولى.

وقد استشكل المحقق العراقي رحمه اللّه فيما أفاده بان هذا الكلام إنما يتأتى بالنسبة إلى ما يكون متعلقا لمتعلق التكليف لا ما يكون متعلقا للتكليف بقصد الامتثال ، إذ مثله لا يكون مفروض الوجود ، بل فرض وجوده مساوق لسقوط الأمر لا فعليته (1).

وأنت خبير بان نكتة المحذور في كلام المحقق النائيني والتي أوضحناها أولا مغفول عنها في كلام المحقق العراقي. فان المحذور نشأ من جهة نفس الأمر باعتبار انه يكون متعلق متعلق التكليف لا من جهة قصد الامتثال نفسه ، فالإشكال فيما أفاده بهذا النحو بعيد عن كلام النائيني ومحط نظره. فالذي لا بد من معرفته لتحقيق صحة ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه هو انه هل كل ما يكون متعلّقا لمتعلق التكليف ولا يدعو الأمر إليه لا بد من فرض وجوده وكونه مفروض الوجود في فعلية الحكم؟ أولا.

فإذا ثبت عدم الملازمة بين كونه متعلقا لمتعلق التكليف وفرض وجوده في فعلية الأمر ، وإمكان أن يكون أمر لا يدعو التكليف إليه ولا يحرك نحوه وليس مفروض الوجود قبل الحكم ، لم يثبت ما أفاده لأن الأمر وان كان متعلقا لمتعلق التكليف ولا يصلح التكليف للداعوية إليه لأنه فعل المولى لا العبد إلا انه لا يلزم ان يكون مفروض الوجود وتكون فعلية الحكم متوقفة على فعليته.

وان ثبتت الملازمة بنحو الكلية ، فالأمر كما أفاده من امتناع أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر لما ذكر من لزوم تقدم الشيء على نفسه فمعرفة صحة ما أفاده قدس سره تبتني على تحقيق هذه الجهة. هذا بالنسبة إلى مقام الفعلية.

واما بالنسبة إلى مقام الامتثال. فما أفاده من محذور أخذ قصد الامتثال بالنسبة إليه لا يرتبط بمحذور مقام الفعلية ، فانه مرتبط بنفس المتعلق ، أعني قصد

ص: 430


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 76 - الطبعة الأولى.

الامتثال لا متعلقه أعني الأمر.

ولكنه غير وجيه ، فان قصد امتثال الأمر الّذي يؤخذ جزء إما ان يراد منه امتثال الأمر الضمني المتعلق بالأجزاء أو امتثال الأمر الاستقلالي النفسيّ المتعلق بالمركب.

فعلى الأول : لا يلزم ما ذكره من تقدم الشيء على نفسه فان قصد الامتثال المأخوذ جزء هو قصد امتثال الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل ، وقصد امتثال الأمر الّذي يؤتى بالمجموع معه هو قصد امتثال الأمر الاستقلالي المتعلق بالكل ، بمعنى ان الفعل يؤتى به بداعي أمره الضمني بقصد امتثال الأمر بالكل المتعلق به وبقصد امتثال امره فالذي يكون جزء وفي مرتبة الأجزاء غير الّذي يكون متأخرا عنها. فلم يفرض الشيء في رتبة سابقة عليه.

وعلى الثاني : فالمحذور انما يمكن القول به لو فرض ان قصد امتثال الأمر المعتبر واحد لا غير ، فيقال ان اعتباره في مرتبة الأجزاء لا يتلاءم مع كونه في رتبة متأخرة عن الأجزاء ، إذ الفرض ان الأجزاء بمجموعها يؤتى بها بقصد الأمر. ولا ملزم بذلك ، بل يمكن ان يدعى ان هناك قصدين لامتثال الأمر أحدهما متعلق للأمر وفي مرتبة الأجزاء ، والآخر يؤتى بالكل معه ، فما هو في مرتبة الاجزاء فرد آخر غير الّذي يؤتى بالاجزاء معه. فلا يلزم ان يتقدم الشيء على نفسه لتعدد الفرد وكون المتقدم فردا غير المتأخر ، فيؤتى بالفعل بداعي الأمر.

نعم ، في ذلك محذور من جهة أخرى ، وهي ما ذكرناها من استلزام كون الأمر داعيا لداعوية نفسه ، ولكنه كلام آخر ، والمهم بيان ان جهة المحذور ليست ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من استلزام فرض الشيء سابقا على نفسه.

ص: 431

وبالجملة : فأخذ قصد الامتثال لا يستلزم ما أفاده بالنسبة إلى مقام الامتثال. والمهم تحقيق ما أفاده في مقام الفعلية ، وقد عرفت انه يبتني على امرين :

الأول : ان كل ما يؤخذ في متعلق الحكم ولم يكن الأمر داعيا إليه كان مفروض الوجود.

الثاني : ان كل ما هو مفروض الوجود يكون الحكم متأخرا عنه بحيث لا يصير فعليا إلا بعد وجوده.

فانه بتمامية هذين الأمرين يثبت توقف فعلية الأمر على الأمر وهو محال.

ولا يخفى ان كلا الأمرين محل بحث وكلام ، فان تسليم الأول لا يستلزم تسليم الثاني. والبحث في الأمر الثاني ليس محله هاهنا ، بل محله مبحث الواجب المعلق ، وقد التزم به - كما التزم بالأول - المحقق الثاني ، ولذلك بنى على ان وجوب الحج مثلا لا يصير فعليا الا بحلول وقته للغوية فعلية الوجوب قبل الوقت مع عدم إمكان الامتثال إلا في الوقت.

وانما البحث مع المحقق قدس سره في الأمر الأول - بفرض تسليم الأمر الثاني له وعدم مناقشته فيه لو ثبت الأمر الأول - ، فيقع الكلام فعلا في ان كل ما يكون مأخوذا في متعلق الخطاب ولم يصلح الأمر للداعوية إليه يلزم ان يكون مفروض الوجود ، فتتوقف فعلية الأمر على فعليته ، أو ليس الأمر كذلك ، بل يمكن ان يتصور ما هو مأخوذ في متعلق الأمر وليس الأمر بصالح للدعوة إليه ولم يكن مفروض الوجود؟.

ولا يخفى ان الكلام يقع أولا بلحاظ مقام الثبوت ، اما مقام الإثبات فهو متفرع على مقام الثبوت ، فان ثبتت الملازمة بنحو الكلية فلا مجال لتحرير الكلام إثباتا ، واما إذا لم تثبت الملازمة الكلية فلا بد حينئذ من لحاظ الدليل على الحكم واستظهار فرض وجود الشيء وعدمه. فالكلام بدوا في مرحلة الثبوت ومعرفة وجود الملازمة كليا أو جزئيا.

ص: 432

وقد جزم السيد الخوئي بالثاني ، فذهب إلى تصور ما لا يكون مفروض الوجود مع أخذه في متعلق الخطاب وعدم صلاحية الأمر للباعثية نحوه ، بتقريب : ان كون الشيء مفروض الوجود اما ان يكون لأجل قيام البرهان العقلي عليه كالأمور غير الاختيارية ، أو لظهور الدليل المتكفل لبيان الحكم في ذلك ، ومع عدم البرهان العقلي وظهور الدليل لا وجه لكون الشيء مفروض الوجود كما لا يخفى (1).

ويرد عليه : بان مفروض الكلام اما ان يكون مرحلة الثبوت ، بمعنى كون البحث في ثبوت أصل الدعوى بان كل ما يؤخذ في متعلق الخطاب ولم يصلح للداعوية إليه يكون مفروض الوجود مع غض النّظر عن مقام الإثبات والدليل. واما ان يكون مرحلة الإثبات وما يستفاد من دليل الحكم.

فان كان فرض البحث مع المرحوم النائيني قدس سره في مرحلة الثبوت - كما هو اللازم - فذلك لا يتلاءم مع ما ذكره من ان استفادة فرض الوجود تكون بالبرهان العقلي وبظهور الدليل ، فان البحث الثبوتي لا يلاحظ فيه الدليل الخارجي وما يستفاد منه في موضوع الكلام ، لأنه بحث عن الضرورة والإمكان بحسب ما يدركه العقل ، وعالم الأدلة والنصوص مغفول عنه في هذا البحث بالمرة ، لأنه ترتبط بمقام الكشف عن الواقع وتشخيص الثابت فيه وإثباته ، وان كان فرض البحث في مرحلة الإثبات بدعوى ان معرفة كون الشيء مفروض الوجود والكشف عنه تكون تارة بواسطة برهان العقل. وأخرى بواسطة ظهور الدليل الشرعي في ذلك ولا طريق آخر لتشخيص ذلك ، فله وجه ولا إشكال فيه من هذه الجهة - أعني جهة أسلوب الإيراد -. لكن يورد عليه : بان ما ينظر إليه من البرهان العقلي في الأمور غير الاختيارية لا يفي بإثبات

ص: 433


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 158 - الطبعة الأولى.

فرض الوجود في هذه الأمور. وذلك لأن محصل الدليل العقلي هو لزوم التكليف بما لا يطاق. بتقريب : ان التكليف اما ان يتحقق عند وجود الأمر غير الاختياري ، كالوقت بالنسبة إلى وجوب الصلاة. أو قبله مع اشتراطه في الفعل. فالأوّل هو المطلوب وهو معنى فرض الوجود وتوقف فعلية الحكم على تحقق ذلك الأمر. والثاني يستلزم التكليف بما لا يطاق ، لأن اشتراط الوقت ونحوه من الأمور غير الاختيارية مع تحقق الحكم قبل حصولها يستلزم التكليف وتعلق الحكم بغير المقدور فعلا ، وهو محال على المولى الحكيم. فلا بد ان يترتب الحكم على تحققه وذلك هو معنى فرض الوجود.

وأنت خبير : بان القدرة على المكلف به من الشرائط العامة المأخوذة في موضوع الحكم على رأي الأكثر - ومنهم السيد الخوئي - فالحكم لا يصير فعليا بدون القدرة على امتثاله. وعليه فإذا كان منشأ أخذ الأمور غير الاختيارية مفروض الوجود في موضوع الحكم هو استلزام عدم ذلك للتكليف بغير الاختيارية مفروض الوجود في موضوع الحكم هو استلزام عدم ذلك للتكليف بغير المقدور ، كان أخذ شرط القدرة على الامتثال في موضوع الحكم ومفروض الوجود كاف عن أخذ كل منها كذلك ، إذ بدونها لا تحصل القدرة ، فعدم التكليف يكون لأجل عدم القدرة لا من جهة عدم الوقت مثلا ، وان كان تحقق الوقت ملازما لحصول القدرة ، لكنه مع أخذ القدرة في الموضوع لا حاجة لأخذ الوقت ونحوه مما تتوقف عليه القدرة في الموضوع أيضا. ولا يخفى ان الحكم وان لم يحصل الا بحصولها لتوقف القدرة عليها لكنه لا يستلزم ذلك كونها مأخوذة في الموضوع ومفروض الوجود ، بل تكون من ملازمات الموضوع لا من مقوماته ، فلا يترتب عليها آثار الموضوع وفرض الوجود في غير المقام.

وبالجملة : لا وجه ولا ملزم لأخذ الأمور غير الاختيارية في موضوع الحكم بملاك لزوم التكليف بما لا يطاق بدونه بعد كون القدرة عند هذا القائل من الشرائط العامة المأخوذة في موضوع الحكم ، لأن تحقق هذه الأمور محصل للقدرة

ص: 434

لا أكثر ، فاشتراط القدرة يكفي عن اشتراطها ، فتدبر.

فالأولى : في مقام الإيراد على المحقق النائيني - في ذهابه إلى ان كل قيد وارد في الخطاب ، ولم تكن للأمر صلاحية الدعوة إليه ، يكون دخيلا في الموضوع ويؤخذ مفروض الوجود - ان يقال : ان كون الشيء مفروض الوجود ودخيلا في الموضوع لا بد ان يكون له منشأ يدعو إلى ذلك ، وهو لا يخلو عن أحد وجهين : إما ان يكون لأجل مطابقة الأمر للإرادة ، أو لأجل ترتب أثر مرغوب على ذلك. بيان ذلك : انه قد ذكر - كما عليه المحقق النائيني رحمه اللّه - ان القيود والأوصاف المرتبطة بالفعل الخارجي على نحوين. نحو يكون مقوما لاتصاف الفعل بالمصلحة ، بمعنى انه بدونه لا يكون الفعل ذا مصلحة نظير حدوث المرض بالنسبة إلى الدواء فانه بدون المرض لا يكون الدواء ذا مصلحة. ونحو يكون منشأ لفعلية المصلحة وتحققها ، بمعنى ان ترتب المصلحة فعلا يكون متوقفا عليه ، وان كان أصل ثبوت المصلحة في الفعل حاصلا بدونه ، وذلك نظير إعداد الدواء بطبخه أو نحو ذلك ، فانه بدون الاعداد لا تترتب عليه المصلحة فعلا وان ترتب عليه شأنا.

وبالجملة : فالقيود منها ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة. ومنها ما يكون دخيلا في فعلية المصلحة. فإرادة الفعل لا تتحقق الا بعد اتصافه بالمصلحة ، فهي متأخرة عن وجود النحو الأول من القيود ، بمعنى ان تحققها انما يكون بعد تحقق هذه القيود وبدونها لا تتعلق الإرادة بالفعل لخلوّه عن المصلحة. بخلاف النحو الثاني فان إرادة الفعل تكون محركة نحو الإتيان بها وتحقيقها ، كي تصير المصلحة فعلية ولا يتوقف حصول الإرادة على حصولها ، وهذا أمر عرفي وجداني لا إشكال فيه.

وحينئذ نقول : بان الأمر حيث يكون على طبق الإرادة وينبعث عن تعلق الإرادة بالفعل ، بل هو الإرادة نفسها - على قول - فلا بد ان يكون جعله في

ص: 435

المورد التي تتحقق فيه الإرادة ، فهو بالنسبة إلى القيود التي تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة متأخر ، بمعنى ان اعتباره وفعليته في فرض وجودها وتحققها بخلاف القيود التي تكون دخيلة في فعلية المصلحة ، فانها تكون مأخوذة في متعلق الأمر ويكون الأمر باعثا نحوها. فكون الشيء مأخوذا مفروض الموجود من باب مطابقة الأمر للإرادة ومن جهة كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة.

وإذا لم يعترف بهذا المعنى ، وقيل بان الأحكام قد لا تكون تابعة للمصلحة في متعلقها كي يتأتى ما ذكر ، ففرض الوجود في قيد وتأخر الأمر عنه وعدم تحققه بدونه لا بد وان يكون بلحاظ ترتب أثر عقلائي وإلاّ لم يكن له داع لأنه ذو مئونة زائدة ، وذلك نظير إيجاب الصلاة بالنسبة إلى الوقت ، فانه يتصور لفرض الوجود في الوقت بالنسبة إلى الحكم وتوقف الحكم عليه أثر ، وهو عدم صيرورة المكلف قبل الوقت في عهدة التكليف ، فانه إذا تحقق الحكم قبل الوقت مع قيدية الوقت في المتعلق يكون المكلف قبل الوقت من حين ثبوت الحكم في عهدة التكليف. بخلاف ما إذا كان التكليف مترتبا على حصول الوقت ، فانه لا يكون قبل الوقت في العهدة إذ لا تكليف ، فترتيب الحكم على الوقت وأخذه مفروض الوجود يكون لأجل الأثر المترتب عليه وهو عدم كون المكلف قبل الوقت في عهدة التكليف. اما مع عدم ترتب أثر على أخذه كذلك بالمرة فلا وجه له لأنه يكون عملا لغوا.

والحاصل : ان كون القيد مفروض الوجود بالنسبة إلى الحكم اما ان يكون منشؤه مطابقة الأمر للإرادة ، فيتحقق ذلك فيما كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة من القيود. واما ان يكون المنشأ ترتب أثر عقلائي عليه فينتفى بالنسبة إلى ما لا يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كما ينتفي فيما لا أثر على فرض وجوده في ترتب الحكم ، لعدم المنشأ لأخذه كذلك. ومن هذا القبيل

ص: 436

نفس الأمر ، فانه ليس دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، بل هو ينبعث عن المصلحة ، لا ان الفعل به يكون ذا مصلحة ، كما انه لا يتصور لأخذه مفروض الوجود أثر ، فان الأثر المذكور للوقت لا يتأتى هنا ، إذ لا يمرّ زمان على المكلف يكون في عهدة التكليف قبل حصول القيد وهو الأمر كما هو واضح جدا. ولا يعرف لأخذه كذلك أثر آخر. وعليه فلا وجه لأخذ الأمر مفروض الوجود وان كان متعلقا لمتعلق التكليف.

والخلاصة : انه قد ظهر انه ليس كل ما يكون متعلقا لمتعلق التكليف يكون مأخوذا مفروض الوجود ويصطلح عليه بالموضوع ومن ذلك نفس الأمر ، فكونه متعلقا لمتعلق التكليف لا يستلزم أخذه في الموضوع بعد عدم المنشأ لذلك. ومنه يظهر عدم تحقق المحذور في مقام الإنشاء لتفرعه على ثبوت المحذور في مقام الفعلية ، وقد عرفت عدم ثبوته. وبذلك يتبين عدم تمامية الوجه الّذي أقامه المحقق النائيني على محالية أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر. فتدبر جيدا ولاحظ.

الخامس : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية وفي مقام بيان مراد الكفاية وهو محذور الخلف. بتقريب : ان متعلق الأمر متقدم بالطبع على نفس الأمر تقدم المعروض على عارضه ، لا بمعنى ان نسبته إليه كذلك بلحاظ وجوده الخارجي ، فان المتعلق بوجوده الخارجي معلول للأمر لا أن الأمر يعرض عليه بوجوده الخارجي ، بل المقصود من التقدم الطبعي هو أن المتأخر لا يمكن فرض وجوده بلا فرض تقرر للمتقدم ولو ذهنا ولا عكس ، ولا يخفى انه لا يمكن فرض ثبوت الأمر بدون المتعلق الّذي يرد عليه الأمر - فالمتعلق له تقرر ونحو ثبوت ما في مرتبة سابقة على الأمر -. بخلاف نفس المتعلق فانه يمكن فرض وجوده خارجا بلا ان يكون هناك امر ، بل يوجد بأسبابه التكوينية. وهذا نظير العلم والمعلوم ، فانه لا يمكن فرض تحقق العلم

ص: 437

بلا تحقق المعلوم وثبوته ، ويمكن فرض ثبوت ذات المعلوم بلا ان يثبت العلم به. وعلى كل : فمتعلق الأمر متقدم طبعا على الأمر ، وقصد الأمر حيث أنه معلول الأمر يكون متأخرا عن الأمر تأخر المعلول عن العلة في الرتبة ، فان داعوية الأمر فرع وجود الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر يستلزم أخذ المتأخر متقدما وفي رتبة سابقة عليه وهو خلف.

وقد أجاب عنه : بان قصد الأمر ليس معلولا للأمر بوجوده الخارجي بل للأمر بوجوده العلمي - فان ذلك مقتضى برهان السنخية بين المعلول والعلة - ، فقصد الأمر حيث أنه من الأمور النفسانيّة فيمتنع ان يؤثر فيه ما هو خارج عن دائرة النّفس وحيزها ، بل لا بد ان يكون المؤثر أمرا في حدود النّفس ، فيتعين ان يكون هو العلم بالأمر لا نفس الأمر ، فانه موجود خارج عن أفق النّفس. كما يعضده الوجدان ، فان القصد والدعوة انما تتحقق بعد الاطلاع على الأمر وانكشافه لا بمجرد وجوده خارجا ، ولو لم يطلع عليه ، نظير الخوف من الأسد ، فانه انما يحصل وتترتب عليه آثاره إذا علم بوجود الأسد في الدار ، ومع عدم العلم لا يكون للخوف أي أثر ، بل الإنسان يكون على استقراره النفسيّ وان كان الأسد موجودا في الدار حقيقة ، فهو متأخر عنه رتبة ، والأمر الّذي يفرض قصد الأمر في متعلقه هو الأمر بوجوده الخارجي فلا يلزم الخلف ولا الدور ، لأن ما هو متأخر عن قصد الأمر غير ما يكون قصد الأمر متأخرا عنه ، كما ان ما يكون متوقفا على قصد الأمر غير ما يكون قصد الأمر متوقفا عليه. فتدبر (1).

هذا توضيح ما أفاده المحقق الأصفهاني ، وقد عرفت انه لا يرتبط بمحذور الدور المزبور ، بل هو تقرير لمحذور آخر هو محذور الخلف. والسر في ذكرنا له مع جوابه مع انه تفسير لمطلب الكفاية وقد أشرنا إليه ، هو معرفة

ص: 438


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 131 - الطبعة الأولى.

ارتباطه بما ذكره المحقق العراقي محذورا في المقام والتزم به.

فقد ذكر المحقق العراقي لأخذ قصد الأمر في متعلق الأمر محذورا بنى عليه والتزم به. وهو وان اختلف صورة عما ذكره المحقق الأصفهاني إلا انه في الحقيقة يرجع إليه وهما بملاك واحد.

ومحصل ما أفاده المحقق العراقي هو : ان موضوع الأمر متقدم على الأمر رتبة ، فهو في اللحاظ متقدم بحيث يرى انه متقدم على الأمر. وقصد الأمر حيث انه معلول للأمر يرى متأخرا عن الأمر ، بمعنى انه في الذهن وبحسب اللحاظ يرى أنه متأخر عن الأمر ، فيكون متأخرا عن موضوع الأمر بحسب اللحاظ بمرتبتين ، فإذا أخذ في موضوع الأمر لزم ان يلحظ متقدما على نفسه ، فيلزم تقدم المتأخر بحسب اللحاظ وذلك امر ممتنع ، إذ يمتنع ان يرى الشيء الواحد متأخرا ومتقدما ، وقد ذكر ان ذلك لا يختص بقصد الأمر بل بكل ما ينشأ عن الأمر كالعلم بالأمر ونحوه.

ثم ذكر إيراد المحقق الأصفهاني : بان قصد الأمر معلول للأمر بوجوده العلمي ومتأخر عنه ، والمفروض انه يقصد أخذه في موضوع الأمر بوجوده الخارجي فلا يلزم تقدم المتأخر لحاظا كما عرفت تقريبه.

وقد أجاب عنه - كما في تقريرات الآملي - : بان قصد الأمر وان كان معلولا للأمر بوجوده العلمي ، إلا ان العلم به لم يؤخذ بنحو الموضوعية ، بل بنحو الطريقية إلى الواقع ومن باب انكشاف الواقع به بحيث يكون العلم في مقام الدعوة فانيا ومرآتا ، ولا يرى المكلف المنقاد من نفسه إلا أنه منبعث عن نفس الأمر الثابت في الخارج ، نظير حدوث الخوف في نفسه بعد علمه بوجود الأسد ، فانه لا يلتفت إلى علمه بحيث لو سئل عن سبب خوفه لأجاب وجود الأسد لا العلم به. وإذا كان دعوة الأمر وقصده ناشئة في الحقيقة عن نفس الأمر الخارجي وكان العلم طريقا إليه لا أكثر ، عاد المحذور ، فان قصد الأمر يكون متأخرا عنه

ص: 439

بوجوده الخارجي فأخذه في موضوعه يستلزم تقدم المتأخر بحسب اللحاظ وهو خلف (1).

ولم يتعرض في المقالات إلى الإشكال ودفعه ، وانما أشار إلى دفعه بما أفاده من ان العلم بالأمر متأخر بحسب اللحاظ عن الأمر فكل ما يكون من شئون العلم ومتأخرا عنه كداعوية الأمر ، يكون متأخرا قهرا عن الأمر كما لا يخفى (2).

والإنصاف : تمامية إيراد المحقق الأصفهاني وعدم صحة الجواب المذكور ، فانه ناشئ عن الغفلة عن نكتة دقيقة في المقام. بيان ذلك : ان ما يؤخذ في متعلق الأحكام هو المفاهيم والطبائع لا المصاديق الخارجية كما لا يخفى. والعلم الّذي يكون فانيا في متعلقه ومرآتا له بحيث لا يلتفت إليه انما هو مصداق العلم والفرد الخارجي منه ، اما مفهوم العلم وطبيعته فليس كذلك ، فان العلم الطريقي بحسب مفهومه ليس فانيا في المعلوم ومرآتا له ، بل يكون متعلقا للنظر الاستقلالي ولتوجه النّفس إليه بخصوصه. وهذا هو الّذي يؤخذ في موضوعات الأحكام ، فإذا قيل : « إذا علمت بوجود زيد تصدق بدرهم » فان موضوع وجوب التصدق هو العلم بوجود زيد بنحو الطريقية - مثلا - ، إلا أنه في مرحلة موضوعيته لا يكون فانيا في متعلقه ومرآتا له ، بل يكون ملحوظا بنحو الاستقلال ، والّذي يكون فانيا في متعلقه هو مصداق العلم وفرده الخارجي.

وعليه ، فقصد الأمر إذا ثبت انه معلول للأمر بوجوده العلمي فيكون مأخوذا في المتعلق بهذه الخصوصية ، فالمتعلق يكون هو الفعل بقصد الأمر المعلوم ، ولا يخفى ان العلم المأخوذ في المتعلق ليس مصداق العلم كي يقال انه فان في متعلقه ، بل المأخوذ مفهومه وطبيعيه ، وهو لا يفنى في متعلقه كما عرفت ، فالقصد

ص: 440


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 229 - الطبعة الأولى.
2- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 75 - الطبعة الأولى.

متفرع في مرحلة موضوعيته عن الأمر المعلوم لا الأمر الخارجي ، فلا خلف. فالجواب ناشئ عن الخلط بين مفهوم العلم ومصداقه.

ونظير هذا الاشتباه ما جاء عن المحقق النائيني من عدم إمكان أخذ العلم الطريقي تمام الموضوع ، لأن العلم الطريقي فان في متعلقه ، وأخذه موضوعا يستلزم لحاظه الاستقلالي وهو ممتنع ، لاستلزامه اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي (1).

فانه خلط بين مفهوم العلم ومصداقه ، فان العلم الملحوظ آليا هو العلم الخارجي ومصداق العلم لا مفهومه ، والمأخوذ في موضوع الحكم هو مفهوم العلم الطريقي وهو لا يلحظ آليا أصلا. فلا يستلزم كونه تمام الموضوع اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي فيه. وتوضيح الحال في محله.

وبالجملة : فما أفاده المحقق الأصفهاني في دفع المحذور لا نرى فيه إشكالا ولا نعلم له جوابا. فيتعين ان يكون المحذور لأخذ قصد الأمر في متعلق الأمر هو استلزام داعوية الأمر لداعوية نفسه. فتدبر.

ومما ينبغي التنبيه عليه هو : ان كلام التقريرات - أعني تقريرات الآملي - يظهر منه ذكر المحذور بنحو آخر ، وهو ان موضوع الأمر حيث كان متقدما في الرتبة على الأمر لزم ان يكون لحاظه متقدما على الأمر ، وحيث ان قصد الأمر متأخر عن الأمر رتبة كان لحاظه متأخرا عن لحاظ الأمر ، فأخذه في الموضوع يستلزم تقدم لحاظه مع فرض تأخره ، فجهة المحذور هو تقدم وتأخر نفس اللحاظ لا الملحوظ.

ولا تخفي ركاكة هذا البيان ، فان توقف الأمر على موضوعه لا يستلزم ان يكون لحاظ الموضوع قبل لحاظ الأمر ، كما ان معلولية قصد الأمر لنفس الأمر

ص: 441


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 5 - الطبعة الأولى.

لا يستلزم تأخر لحاظه عن لحاظ الأمر ، فان المعلولية انما تستلزم التأخر الرتبي لا اللحاظي ، إذ يمكن لحاظ المعلول قبل لحاظ العلة ، بل بدون لحاظ العلة بالمرة وهذا أمر واضح.

ولكن عبارة المقالات تشير إلى ما ذكرناه في بيان المحذور من كون التقدم والتأخر في الملحوظ لا اللحاظ فتدبر.

هذا كله في أخذ قصد الأمر في متعلقه بنفس ذاك الأمر. اما أخذه فيه بأمر آخر :

أخذ قصد الأمر في متعلقه بأمر آخر

فقد قيل : بجوازه عقلا ، فيجوز ان يتعلق الأمر بذات الفعل وأمر آخر. بتعلق بالفعل بداعي أمره الأول ، إذ لا يرد عليه شيء من المحاذير السابقة كما لا يخفى على المتأمل فلا حاجة إلى بيان ذلك (1).

إلا ان صاحب الكفاية رحمه اللّه استشكل في صحة ذلك عقلا. وانتهى بإشكاله إلى منعه بحكم العقل أيضا.

وتقريب ما أفاده : ان الغرض من الأمر الثاني انما هو جعل الأمر الأول تعبديا ، بمعنى عدم سقوطه وحصول الغرض منه بدون قصد القربة ، وليس له داع غير ذلك كما هو الفرض. وعليه فإذا أتى العبد بالفعل بدون قصد امتثال امره فلا يخلو الحال ثبوتا عن أحد نحوين : اما ان يسقط الأمر الأول أو لا يسقط. فإذا سقط الأمر الأول وانتفى موضوع امتثال الأمر الثاني كما لا يخفى كشف سقوطه عن عدم صيرورته بالأمر الثاني تعبديا ، إذ لو كان تعبديا لم يكن يسقط بدون قصد القربة ، فلا يحصل الغرض المطلوب من الأمر الثاني وهو تعبدية الأمر الأول به ، فيكون الأمر الثاني لغوا لعدم ترتب الأثر المرغوب عليه. وان لم يسقط

ص: 442


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /60- الطبعة الأولى.

الأمر كشف ذلك عن توقف حصول الغرض الباعث للأمر الأول على الإتيان بالفعل بقصد القربة ، وبدونه لا يحصل الغرض فلا يسقط الأمر ، إذ لو حصل بدونه لزم سقوط الأمر لتبعية الأمر للغرض حدوثا وبقاء.

وعليه ، فإذا علم توقف حصول الغرض وتحقق امتثال الأمر على الإتيان بالفعل بقصد الأمر ، فالعقل يحكم حينئذ بلزوم الإتيان بقصد القربة تحصيلا للغرض وتحقيقا للامتثال بمقتضى حكمه بوجوب إطاعة المولى. لتوقف الإطاعة والامتثال على قصد القربة كما فرض.

ومع حكم العقل بذلك لا يسع الشارع الحكيم ان يأمر عبده به ويلزمه مولويا بذلك ، لأنه عمل لغو بعد إلزام العقل به تبعا للشارع في أمره الأول. وبتعبير آخر : ان الأثر المولوي انما يكون بداعي جعل الداعي ، ولا يخفى ان داعويته ولزوم اتباعه بحكم العقل ، وإلاّ فبدون انضمام حكم العقل لا يكون داعيا. والمفروض ان حكم العقل بلزوم الإتيان بقصد القربة لإسقاط الأمر موجود فلا داعي لإنشاء الأمر بذلك فيكون لغوا. فالمتحصل : ان الأمر الثاني المولوي على كلا التقديرين لغو محض فيستحيل على الحكيم وقوعه منه (1).

وقد استشكل الأعلام في ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه ، وهم ما بين من أغفل الشق الأول من الترديد واقتصر في الإيراد على الشق الثاني ، وما بين من تصدى في إشكاله إلى كلا شقي الترديد وهو المحقق الأصفهاني رحمه اللّه . ولنذكر أولا ما جاء من الإيراد على الشق الأول من الترديد.

فقد ذكر المحقق الأصفهاني : بان لنا الالتزام بهذا الشق - أعني سقوط الأمر الأول - ، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء المجال لموافقة الأمر الثاني - كما ادعي - بيان ذلك : انه سيجيء من المصنف - في مبحث الإجزاء - ان الإتيان

ص: 443


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /74- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالفعل إذا لم يكن موجبا لحصول الغرض الأوفى من الأمر جاز للعبد تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر غير الفرد الأول وان جاز له الاقتصار على الأول في مقام الامتثال ، مثلا لو أمر المولى عبده بالإتيان بالماء للشرب ، فجاء العبد بماء غير بارد كان للعبد أن يأتي بماء آخر بارد قبل ان يشرب المولى الماء الأول ، نعم له ان يقتصر على الأول ويعدّ ممتثلا. واما إذا كان الفعل سببا لحصول الغرض لم يكن مجال لتبديل الامتثال لسقوط الأمر به.

وعليه ، فنقول : ان الأمر الأول وان كان يسقط لو اقتصر على الإتيان بمتعلقه ، إلاّ انه حيث لم يكن علة تامة لحصول الغرض الأوفى أمكن الإتيان بالفعل بداعي امره ثانيا ، فيمكن امتثال الأمر الثاني وبمقتضاه يلزم العبد به امتثالا للأمر. وعليه فلا بد للعبد من الإتيان بالفعل بداعي الأمر وان أتى به أولا مجردا عن ذلك لبقاء الغرض الملزم وإمكان الاستيفاء وإعادة الفعل بداعي الأمر ، وتعلق الأمر به (1).

وفيه :

أولا : انه يبتني على التزام صاحب الكفاية بجواز تبديل الامتثال ولو مع سقوط الأمر.

اما مع الالتزام بجوازه من باب بقاء الأمر لعدم حصول غرضه الأوفى فلا يتأتى ما ذكر هاهنا ، لأن المفروض سقوط الأمر بمجرد الفعل فلا يكون المورد قابلا لتبديل الامتثال بعد سقوطه ، ومن العجيب انه رحمه اللّه يفرض في كلامه إمكان الإتيان بالفعل بداعي امره لبقاء الأمر الأول ، مع ان ذلك خلاف فرض كلام صاحب الكفاية من سقوط الأمر الّذي صحح الالتزام به والقول بتعدد الأمر كما عرفت في صدر كلامه.

ص: 444


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 135 - الطبعة الأولى.

وثانيا : ان هذا الإيراد جدلي إلزامي ، لأن جواز تبديل الامتثال انما يلتزم به خصوص صاحب الكفاية دون من تأخر عنه ، ومن البعيد أن يلتزم به المحقق الأصفهاني. ولا يحضرني كلامه في مبحث الإجزاء فعلا لكن الّذي ببالي انه لا يلتزم به ، فلا ينفع في رفع المحذور الّذي ذكر في الكفاية بالنسبة إليه.

وقد أورد على الشق الأول : بان الأمر الأول وان كان يسقط لحصول متعلقه فيستحيل بقاؤه لكونه طلب الحاصل ويتبعه الأمر الثاني في ذلك ، لكن حيث ان الغرض من تعدد الأمر باق على حاله فيحدث أمران آخران ، وهكذا إلى ان يحصل الغرض بالإتيان بالفعل بداعي الأمر.

ولا يخفى وهن هذا الإيراد - كما جاء في حاشية الأصفهاني (1) -. لأن الغرض إذا كان علة لحصول الأمر ، فبدون حصوله لا يسقط الأمر لأنه معلول للغرض وبقاء المعلول ببقاء علته بديهي ، ولا يلزم من بقائه طلب الحاصل لأن مقتضاه ليس الموجود الخارجي حتى يلزم من طلبه طلب الحاصل وان لم يكن علة لم يكن موجبا لحدوثه أولا فضلا عن إيجابه له ثانيا وثالثا كما هو المدعى. وبتعبير آخر : ان لم يحصل الغرض من الأمر بنفس الفعل لم يسقط الأمر ، وان حصل فلا وجه لحدوث أمرين آخرين فتدبر.

واما الشق الثاني من الإيراد. فقد أورد عليه المحقق العراقي رحمه اللّه - كما جاء في تقريراته - : بعد بيان ان إمكان تعدد الأمر وصحته أو عدمها تبتني على القول بالبراءة أو الاشتغال في مورد الشك في توصلية الواجب وتعبديته ، فانه إذا قيل بالاحتياط في مورد الشك لا مجال للأمر الشرعي المولوي الثاني لحكم العقل بلزوم الإتيان بما يكون مقوما للعبادية ، فالامر الثاني لو كان يكون أمرا إرشاديا إلى حكم العقل لا مولويا بمعنى صدوره بداعي جعل الداعي. واما

ص: 445


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 135 - الطبعة الأولى.

إذا قيل بالبراءة كان الأمر الثاني ممكنا ولا مانع منه بنحو المولوية لتحصيل غرضه وبيان مرامه لعدم حكم العقل بلزوم التحصيل ، وبيان ان بناء صاحب الكفاية في التزامه بعدم صحة امر آخر مولوي لحكم العقل واستقلاله بلزوم الإتيان بكل ما يحتمل دخله في امتثال الأمر الأول على عدم جريان البراءة في مثل المقام.

أورد عليه بعد ذلك : بأنه منظور فيه مبنى وبناء ، اما المبنى فلما سيأتي من كون المرجع في مورد الشك في التعبدية والتوصلية هو البراءة. واما البناء فلمنع ما ذكره من امتناع أمر ثان مولوي مع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، إذ لا ينحصر غرض المولى المولوي في جعل الداعي إلى فعل ما يحصل به الغرض ، بل يمكن تصور أغراض أخرى تتوقف على الأمر المولوي ونحوه ، كمعرفة المكلف به تفصيلا ورفع الشك عن المكلف ليعمل على بصيرة من أمره ، فانتفاء قابلية الأمر للداعوية لا يستلزم امتناع ثبوته بعد تصور غرض آخر له كإيضاح المأمور به للمكلف (1).

ولكن ما ذكره قدس سره من ابتناء التزام صاحب الكفاية بامتناع الأمر الثاني مولويا على عدم جريان البراءة في مورد الشك في التعبدية والتوصلية وإجراء الاحتياط فيها عجيب منه قدس سره ، كيف؟ وصاحب الكفاية انما لا يلتزم بالبراءة ويلتزم بالاحتياط ، لأجل امتناع بيان العبادية بالأمر شرعا. بيان ذلك : انه إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر فقد قيل : بان مقتضى العلم الإجمالي الاحتياط ولا تتأتى البراءة العقلية ، وقيل : بان المورد مجرى البراءة العقلية لانحلال العلم الإجمالي ، وصاحب الكفاية ممن لا يلتزم بالبراءة العقلية في المورد المذكور ، وانما يلتزم بالاحتياط عقلا بمقتضى العلم الإجمالي. نعم يلتزم بجريان البراءة شرعا لكون المورد من مواردها. ومن الظاهر

ص: 446


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 232 - الطبعة الأولى.

إنهم يلتزمون بجريان البراءة شرعا - بل عقلا - في المورد القابل للجعل والوضع شرعا ، اما ما لا يقبل الوضع شرعا فلا يكون الشك فيه مشمولا لحديث الرفع ، لأن ما لا يقبل الوضع شرعا لا يقبل الرفع. وتوضيح ذلك موكول إلى محله وانما المهم هو الإشارة.

ومن ذلك يذهب صاحب الكفاية عند الشك في اعتبار قصد الامتثال في سقوط الأمر وتحصيل الغرض إلى كون المورد من موارد الاحتياط لا البراءة ، لعدم قابلية المورد للبيان الشرعي والجعل من قبل المولى لامتناع أخذه في متعلق الأمر ، فالالتزام بالاحتياط دون البراءة بلحاظ عدم إمكان البيان والوضع شرعا (1) ، فكيف يفرض ان التزامه بعدم إمكان جعله شرعا وأخذه في متعلق الأمر مستند إلى التزامه بالاحتياط في مورد الشك في التعبدية والتوصلية؟ فانه فرض دوري كما لا يخفى.

اما مناقشته قدس سره في أصل المبنى فسيأتي الكلام في تحقيق الأصل ، فليس محله هاهنا بل نوكله إلى ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

واما ما ذكره في مقام المناقشة له في البناء ، فهو ممنوع بان الظاهر ان الأثر العقلائي للأمر ينحصر بجعل الداعي والمحركية نحو العمل ، ولا نعرف له أثرا عقلائيا يصححه غير هذا ، فإذا فرض وجود الداعي كان الأمر لغوا إلا ان يكون إرشاديا واقعه الإخبار.

وقد أورد على هذا الشق المحقق النائيني قدس سره : بأنه ليس وظيفة العقل هي الإلزام والحكم على العبد بلزوم العمل ، بل ليس شأنه إلا إدراك تعلق إرادة الشارع بشيء وعدمه ، اما الآمرية فليست من شئونه حتى يكون شارعا في قبال الشارع. وعليه فلا بد في حصول غرض المولى واستيفائه من تعدد الأمر

ص: 447


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /76- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وكون الأمر الثاني داعيا إلى ما لا يصلح الأمر الأول للدعوة إليه ، لعدم دعوة العقل إليه ومحركيته نحوه (1).

وأنت خبير بان ما أفاده قدس سره بعيد عن كلام الكفاية ، فانه لم يدع كون شأن العقل الآمرية والشارعية ، بل ما أفاده يرجع إلى ان العقل يرى بمقتضى لزوم إطاعة امر المولى - وهو الأمر بذات العمل - لزوم الإتيان بالفعل بداعي القربة خروجا عن عهدة الأمر وتحقيقا للامتثال وإطاعة الأمر - لا انه يأمر العبد بلزوم قصد القربة مع غض النّظر عن حكم الشارع - ، بل هو يرى لزوم إطاعة الأمر الأول المتوقفة على الإتيان بقصد القربة لتوقف حصول الغرض عليه ، ومن الظاهر ان الإلزام بوجوب الإطاعة حكم عقلي لا شرعي وإلاّ لزم التسلسل - ، سواء رجع هذا الحكم إلى إدراك تحقق المفسدة أو العقاب في المخالفة ، أو إلى الإلزام والبعث بالفعل من جهة أخرى ، والأمر الظاهر على كلا التقديرين ان الانبعاث والتحرك يحصل منه وهو مما لا إشكال فيه.

وبالجملة : فما أفاده انتقال بكلام صاحب الكفاية إلى ما لا يريده ولا يظهر من عبارته. فان الظاهر منها ما عرفت وهو مما لا إشكال فيه.

وقد أورد السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - كما في مصابيح الأصول - على هذا الشق : بأنا نلتزم بعدم السقوط مع وجود الأمر الثاني ، ولكن حيث كانت أخصية الغرض عن الفعل وعدم وفائه بذاته في حصول الغرض مما لا طريق إليه إثباتا وخارجا إلا بنحوين : اما الاخبار والكشف عنه بالجملة الخبرية ، أو بالإنشاء والأمر بما يحصل الغرض والدعوة إليه ، فلا امتناع من تحقق الأمر الثاني بنحو المولوية وبقصد جعل الداعي ، لعدم تحقق الدعوة عقلا إلى قصد القربة بدونه لعدم العلم بأخصية الغرض (2).

ص: 448


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 116 - الطبعة الأولى.
2- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 239 - الطبعة الأولى.

وفيه : انه إذا كان الموضوع قابلا للدعوة عقلا والتحريك بمقتضى حكم العقل ، وانما كان ذلك معلقا على تحقق موضوعه وهو العلم بأخصية الغرض وعدم وفاء ذات الفعل بتمام الغرض ، فلا يحتاج إلى الأمر المولوي الثاني وجعل الداعي لفرض وجود ملاك البعث والمحركية وقابلية المورد لذلك ، بل يكفي الكشف عنه بالجملة الخبرية أو الإنشائية على ان يكون الأمر إرشاديا لا مولويا ، لعدم الاحتياج إليه بعد تحقق الدعوة عقلا بمجرد الانكشاف ، فلا تكون للأمر وظيفة الداعوية ، بل وظيفة الكشف عن أخصية الغرض وبها يكون إرشاديا لا مولويا.

وقد حمل المحقق الأصفهاني قدس سره عبارة الكفاية على ما أفاده المحقق العراقي تقريبا ، فانه بعد ان بيّن الفرق بين الجزء والشرط بان الأول ما له دخل في أصل الغرض ، والشرط ما له دخل في فعلية التأثير ، وان الشرط تابع في الإرادة والدعوة للجزء ، فان ما يدعى إليه بالأصالة وأولا وبالذات وهو ذات ما يفي بالغرض ، اما ما له دخل في فعلية التأثير فلا يدعو إليه الغرض في عرض السبب ، بل الدعوة إليها وإيجادها انما تكون بأغراض تبعية تنتهي إلى الغرض الأصلي وان من الشرائط قصد القربة - بعد ان ذكر هذا المعنى بنحو مفصل تقريبا ، اختصرناه لعدم كونه محل الكلام هنا بل الكلام فيه في مبحث مقدمة الواجب - ، ذكر : ان لزوم الإتيان بقصد القربة اما من باب حكم العقل بلزوم الإتيان به بعنوانه ، وهو ممنوع. أو من باب حكم العقل بلزوم الإتيان بما يحتمل دخله في الغرض ، وهو ممنوع أيضا ، لأنه انما يحكم بذلك في المورد الّذي لا يتمكن الآمر من بيانه ولو بأمر آخر والمفروض إمكانه بأمر ثان (1).

وقد أشرنا سابقا في مناقشة المحقق العراقي إلى : ان نظر المحقق صاحب الكفاية ليس إلى حكم العقل من باب الاحتياط ، بل من باب آخر ، إذ التزامه

ص: 449


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 135 - الطبعة الأولى.

بالاحتياط عقلا يبتني على امتناع الأمر.

ولتوضيح ذلك لا بأس بالإشارة إلى بعض ملاكات حكم العقل في باب الإطاعة مما يرتبط بما نحن فيه ، فنقول : ان العقل ..

تارة : يحكم بلزوم الإتيان بالفعل من باب لزوم تحصيل غرض المولى الملزم ، مع عدم الأمر أصلا ، كما إذا رأى العبد ابن مولاه في حالة الغرق ولم يكن يعلم سيده بذلك ، فانه ملزم عقلا بإنقاذه ولا حجة له في عدم إنقاذه ولا يصح اعتذاره بعدم امره له.

وأخرى : يحكم بلزوم الإتيان بالفعل من باب الاحتياط وتحصيل العلم بالامتثال وموافقة الأمر كما في موارد العلم الإجمالي.

وثالثة : يحكم بلزوم الإتيان بالفعل من باب وجوب إطاعة امر المولى لتوقف حصول الامتثال وسقوط الأمر عليه.

ومن الواضح ان الملاك لحكمه في جميع الصور الثلاث هو وجوب الإطاعة ، ولكنها تختلف موضوعا وأثرا كما سيتضح.

ولا يخفى ان مراد صاحب الكفاية من حكم العقل عند عدم سقوط امر المولى بمجرد الفعل بلزوم الإتيان بالفعل بقصد القربة ليس الصورة الأولى والثانية ، بل الثالثة ، وذلك لأن حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى انما يلتزم به عقلائيا في المورد الّذي لا يتمكن المولى من الأمر كالمثال الّذي سقناه. اما لو كان المولى متمكنا من الأمر ولم يأمر عبده. فلا يرى العقل ان العبد ملزم بالإتيان بالفعل ، كما لو رأى السيد ابنه يغرق وكان العبد بمنظر منهما ولم يأمر السيد عبده بإنقاذ ولده ، فانه لا يحق للسيد مؤاخذة العبد على عدم إنقاذه لولده ، إذ للعبد ان يحتج بعدم الأمر. وعليه فلا يمكن ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى هذا المعنى ، إذ للمدعي ان ينكر حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى بدون الأمر لتمكنه في نفسه مع غض النّظر عن حكم العقل

ص: 450

المدعى.

وبالجملة : حكم العقل المذكور يبتني على عدم إمكان الأمر الثاني فلا يمكن ان يستند إليه عدم إمكان الأمر.

واما عدم كونه من باب حكمه بلزوم الاحتياط ، فلما ذكرناه من انه يبني مسألة الاحتياط على عدم إمكان الأمر بقصد القربة ولو بأمر ثان ، فيمتنع ان يكون نظره في حكم العقل هاهنا حكم العقل بالاحتياط ، فان المسألة تكون دورية كما أشرنا إليه.

وانما نظره في حكم العقل ، هو حكم العقل بإطاعة أمر المولى ولزوم الامتثال ، فان المفروض ان المولى أمر عبده بالفعل ، وكان هذا الأمر معلولا لغرض في نفس المولى لا يحصل إلا بالفعل مع قصد القربة ، وبدون ذلك لا يسقط الأمر لعدم حصول الغرض ويمتنع انفكاك المعلول عن العلة (1). فيحكم العقل من باب لزوم إطاعة امر المولى وامتثاله بلزوم الإتيان بالفعل بداعي الأمر بقصد الامتثال حتى يحصل الغرض ويسقط الأمر ، فلا يبقى مجال للأمر الثاني للغويته بعد داعوية العقل إلى متعلقه.

وهذا المعنى لا إشكال فيه ولا نعلم السبب في حمل كلام صاحب الكفاية على غير هذا المعنى مع وضوحه من كلامه.

وبالجملة : فما ذكره صاحب الكفاية في منع تعدد الأمر وأخذ قصد القربة في متعلق الأمر الثاني بالتقريب الّذي ذكرناه لا نرى فيه إشكالا فالالتزام به متجه. وبذلك يتبين ان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ممنوع عقلا.

هذا كله في أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر ، اما أخذ غيره مما يكون محققا للتقرب ، كقصد المحبوبية ونحوه ، فهل هو ممكن أو غير ممكن؟. ولا

ص: 451


1- فلا يقال : ان العقل لا يحكم بلزوم تحصيل الغرض مع التمكن من الأمر وعدم الأمر ، لأن المفروض تعلق الأمر بالفعل ، فلا بد من تحصيل غرضه منه. ( منه عفي عنه ).

يخفى انه لا بد من الكلام في تحقيق ما به يتحقق التقرب وما به يكون الفعل عباديا ، وسيأتي ذلك فيما بعد ، وليكن الكلام فعلا في إمكان أخذ قصد المحبوبية في متعلق الأمر ، فانه مما لا إشكال في مقربيته ، واما غيره كقصد المصلحة ونحوه فسيأتي الكلام فيه.

وقد التزم صاحب الكفاية بإمكان أخذه في متعلق الأمر لعدم ورود أي محذور فيه مما سبق ، لأن قصد المحبوبية غير متفرع على الأمر كي يلزم الدور ، كما لا يلزم داعوية الشيء لداعوية نفسه كما لا يخفى. لكنه ذهب إلى عدم اعتباره قطعا ، لأنه ان كان معتبرا فاما ان يكون معتبرا بنحو التعيين ، أو بنحو التخيير بينه وبين داعي الأمر - كالواجب التخييري -. فان كان معتبرا بنحو التعيين لزم عدم صحة العمل بدونه كسائر الشروط المعتبرة. مع انه لا إشكال في كفاية داعي الأمر في حصول الامتثال وان لم تقصد المحبوبية. وان كان بنحو التخيير لزم أخذ داعي الأمر في متعلق الأمر ، لأن النتيجة تكون : « صل » بقصد المحبوبية أو بقصد الأمر ، فيعود المحذور المذكور في أخذ قصد الأمر في متعلقه (1). هذا ما يمكن ان توجه به عبارة الكفاية.

ويرد عليه.

أولا : إنا نلتزم باعتبار قصد المحبوبية بنحو التخيير بنحو لا يلزم منه ما ذكر ، وذلك لأن أخذه بنحو التخيير يتصور بنحوين : أحدهما : ان يكونا من قبيل الواجب التخييري ، بحيث يتعلق الأمر بهما بنحو التخيير ويدعو إليهما كذلك. وثانيهما : ان يؤخذ عدم الإتيان بداعي الأمر قيدا لموضوع الوجوب المتعلق بقصد المحبوبية ، بمعنى ان يقال : « صلّ بقصد المحبوبية ان لم تأت بها بداعي الأمر » ، فان النتيجة نتيجة الوجوب التخييري لأنه إذا أتى بالصلاة بداعي

ص: 452


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /74- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر لا يجب عليه الإتيان بقصد المحبوبية وإذا لم يأت بداعي الأمر وجب عليه الإتيان بقصد المحبوبية ، لكن الأمر لم يتعلق بداعي الأمر ولم يدع إليه لأنه مأخوذ في موضوعه لا في متعلقه ، فيكون حاله حال السفر في قولك : « ان لم تسافر فتصدق بدرهم » بالنسبة إلى عدم تعلق الأمر بالسفر وعدم دعوته إليه ، ولكن المكلف نتيجة يرى نفسه مخيرا بين السفر وبين التصدق. نعم قد يدعى بثبوت محذور الدور وهو لزوم أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر في موضوعه. ولكنك عرفت الإشكال فيه بكفاية تصور الأمر وتسليم صاحب الكفاية بالإشكال وتركز المحذور في كلامه في لزوم داعوية الأمر لداعوية نفسه ، وهو غير متحقق في الفرض لفرض عدم تعلق الأمر بقصد الأمر.

وثانيا : لو تنزلنا وسلمنا ورود محذور الدور في المقام ، فهو لا ينافي التخيير أيضا ، وذلك لأنه إذا فرض ان قصد الأمر لا يمكن أخذه في متعلق الأمر ولا موضوعه كان الحكم بالنسبة إليه مهملا في مقام الثبوت لا مطلقا ولا مقيدا. وعليه فإذا حكم الشارع بوجوب الفعل بقصد المحبوبية بلا تعليق له على عدم الإتيان بقصد الأمر لعدم تمكنه كان اعتبار القيد المذكور - أعني قصد المحبوبية بالنسبة إلى تعليقه على عدم الإتيان بقصد الأمر وعدم تعليقه عليه - مهملا غير مطلق ، فيرجع إلى حكم العقل في المقام. ومن الواضح ان العقل يرى كفاية قصد الأمر في تحقيق الامتثال ، فينتفي موضوع قصد المحبوبية معه لسقوط الأمر ، فيكون المكلف مخيرا عقلا بين قصد الأمر وقصد المحبوبية ، فلا مانع من أخذ قصد المحبوبية في متعلق الأمر وتكون النتيجة هي التخيير بينه وبين قصد الأمر لا تعينه كي يقال بكفاية غيره. ولا محذور في ذلك.

وقد جاء في تعليقة المحقق الأصفهاني قدس سره على الكفاية ما حاصله : ان التسالم على الاكتفاء بالإتيان بالفعل بداعي أمره كاشف عن تعلق الأمر بذات الفعل لا به مع قصد المحبوبية ونحوه من الدواعي ، لأن تعلق الأمر

ص: 453

بالمجموع يستلزم صدور الفعل عن داعيين أو يكون داعي المحبوبية في طول داعي الأمر ، وكلاهما خلاف الفرض ، لأن المفروض الاكتفاء بداعي الأمر وحده وهو يستلزم تعلق الأمر بذات العمل وإلاّ لم يمكن الإتيان به وحده (1).

وفيه :

أولا : انه لا ينسجم مع عبارة الكفاية ، إذ لا ظهور لها في كون الإتيان بالفعل بداعي امره كي يقال باستلزام ذلك لتعلق الأمر بذات العمل ، بل يمكن ان يكون المراد الإتيان بالفعل بداعي الأمر بالكل لا بداعي أمره ، فلا ظهور لكلامه في تعلق الأمر بذات العمل.

وثانيا : ان ذهاب المشهور أو الكل إلى الاكتفاء بداعي الأمر لا يكشف عن تعلق الأمر بذات العمل ، بل يمكن ان يكون لأجل ذهاب البعض إلى مقربية الأمر الضمني وداعويته ، أو إلى صحة الإتيان بالعمل بداع قربي أي داعي الأمر مع الغفلة عن اعتبار داعي المحبوبية ونحوه.

وبالجملة : الاتفاق على الاكتفاء بداعي الأمر لا يكشف عن الاتفاق على تعلق الأمر بذات العمل.

وثالثا : ان ما ذكره لا يقتضي إلا عدم أخذ غير قصد الأمر في متعلق الأمر لا عدم إمكانه ، ولا يخفى ان صاحب الكفاية بصدد إثبات عدم إمكان أخذ قصد القربة بقول مطلق في متعلق الأمر لينتهي منه إلى النتيجة الأخيرة. وهي عدم صحة التمسك بالإطلاق لإثبات التوصلية. فان هذه النتيجة لا تتم إلا بثبوت عدم إمكان أخذ قصد القربة بجميع أنحائه في متعلق الأمر. لا بثبوت عدم أخذه فلاحظ.

وبعد هذا الكلام كله يقع البحث في أصل المبحث ، وهو صحة التمسك

ص: 454


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 136 - الطبعة الأولى.

بالإطلاق في إثبات عدم أخذ قصد القربة في متعلق الأمر فيكون الواجب توصليا ، وعدم صحته.

وقد أفاد البعض في مقام منع التمسك بالإطلاق : بأنه بعد ثبوت امتناع أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بضميمة ان الإطلاق انما يصح في المورد الّذي يقبل التقييد ، لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فالإطلاق عدم التقييد في المورد الّذي يقبل التقييد فلا يصح الإطلاق في المورد الّذي لا يصح التقييد - بعد ذلك - ، لا يصح التمسك بإطلاق الكلام لنفي أخذ قصد القربة لامتناع الإطلاق (1). وقد وقع الكلام في صحة ذلك - أعني كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة -. كما وقع في استلزامه منع الإطلاق - لو ثبت - عند امتناع التقييد.

والّذي يبدو لنا عند التحقيق : انه لا وقع في المقام لهذه الكلمات أجمع ، فانها بعيدة عن واقع المطلب. بيان ذلك : ان امتناع التقييد وورود الحكم على الحصة المقيدة تارة : يكون من جهة عدم قابلية الذات الخاصة والحصة المعينة لورود الحكم عليها ، بان كان الحكم لا يتلاءم مع نفس الذات الخاصة ، فالامتناع من جهة التنافي وعدم التلاؤم بين الحكم ونفس الذات. وأخرى لا يكون من هذه الجهة ، بان يكون ورود الحكم على نفس الذات لا محذور فيه ، وانما المحذور في تخصيص الحكم وقصر الحكم عليها ، فالمحذور في نفس التقييد لا في ورود الحكم على ذات المقيد.

فان كان امتناع التقييد من الجهة الأولى - أعني لأجل عدم قابلية نفس الذات المقيدة للحكم - لزم امتناع الإطلاق في موضوع الحكم أيضا ، وذلك لأن الإطلاق معناه إسراء الحكم إلى جميع الافراد ومنها الفرد المقيد ، وقد فرض عدم

ص: 455


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 113 - الطبعة الأولى.

قابليته لورود الحكم عليه ، فيمتنع الإطلاق ، بل يختص الحكم بغير المقيد على تقدير قابليته له.

وان كان امتناع ثبوت الحكم للحصة المقيدة من جهة نفس تخصيص الحكم بها وقصره عليها لا من جهة منافاتها له بذاتها ، فالاحتمالات ثبوتا ثلاثة : اما ان يثبت الحكم لغير المقيد بخصوصه. أو يثبت الحكم للمطلق ، أو يكون مهملا. فيدور الأمر ثبوتا بين هذه الاحتمالات الثلاثة. فإذا فرض امتناع اختصاص الحكم بغير المقيد وثبوت المحذور فيه دار الأمر حينئذ بين الإطلاق والإهمال. وحينئذ فان كان المحذور في التقييد من جهة امتناع لحاظ القيد امتنع الإطلاق أيضا لتوقفه على لحاظ القيود وفرض عدم دخلها في الحكم ، فإذا فرض امتناع لحاظ القيد أصلا امتنع الإطلاق لامتناع موضوعه فيتعين الاحتمال الثالث ، أعني الإهمال في موضوع الحكم ، لعدم تمكن المولى من تعيينه مقيدا أو مطلقا.

اما إذا أمكن لحاظ القيد وكان محذور التقييد جهة أخرى غير اللحاظ ، تعين الإطلاق لامتناع الإهمال في مقام الثبوت والتردد في ثبوت الحكم في ما لا يتعين فيه الإهمال بحسب ذاته لعدم إمكان الإطلاق. فانه إذا فرض امتناع التقييد بالوجود والعدم وامتناع الإهمال فيما يقبل عدم الإهمال لأن الحاكم لا يمكن ان يتردد في حكمه تعين الإطلاق قهرا.

وبالجملة : مع امتناع التقييد وإمكان الإطلاق يتعين الإطلاق ويمتنع الإهمال.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام في تطبيقه على ما نحن فيه ، فنقول : بناء على امتناع كون المتعلق هو الفعل بقصد القربة ، فالامتناع انما هو من جهة تقييد الحكم لا من جهة منافاة نفس الذات المقيدة للحكم ، إذ لا منافاة بين الأمر ونفس الصلاة المقيدة بقصد القربة ، بل المحذور في أخذ القيد وتقييد المتعلق به ،

ص: 456

وحينئذ يدور الأمر ثبوتا بين ان يكون متعلق الأمر هو الفعل مقيدا بعدم قصد القربة أو ذات الفعل مطلقا سواء جيء به بقصد القربة أو بدونها ، أو يكون مهملا.

ومن الظاهر ان تقييد المتعلق بعدم قصد القربة ، بمعنى الأمر بالفعل بشرط ان يؤتى به بداع آخر لا يرتبط بالأمر أصلا ، ممتنع ، لأن الأمر انما هو لجعل الداعي وإيجاد التحريك ، فيمتنع ان يتعلق بشيء بقيد ان يكون الداعي إليه غير الأمر ، فان ذلك مساوق لعدم الأمر كما يظهر بقليل من التأمل.

وعليه ، فيدور الأمر بين الإطلاق والإهمال ، فلو بنى على ان محذور أخذ قصد القربة هو لزوم الخلف أو الدور للحاظ ما هو المتأخر عن الأمر متقدما على الأمر تعين الإهمال ، لامتناع لحاظ هذا القيد أصلا ، فيمتنع الإطلاق لتوقفه على لحاظ القيود ونفي دخلها في موضوع الحكم كما عرفت. ولكن حيث عرفت دفع هذا المحذور وان المحذور يتمحض فيما هو خارج عن دائرة اللحاظ وهو داعوية الشيء لداعوية نفسه ، فلا يمتنع لحاظ قصد القربة. وعليه فيتعين الإطلاق لامتناع الإهمال - كما عرفت - ، فيكون متعلق الحكم واقعا هو ذات العمل من دون دخل للقيد فيها ، ولا محذور فيه كما لا يخفى.

والّذي يتلخص إن امتناع أخذ قصد القربة في موضوع الأمر ومتعلقه يستلزم ضرورية الإطلاق ، فلا شك في متعلق الأمر لفرض تعين الإطلاق ، وإذا كان الأمر كذلك فما هو معنى الشك في التعبدية والتوصلية؟ لتعين متعلق الأمر ومعرفته بمعرفة امتناع قصد القربة.

والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، فان مرجع الشك في التعبدية والتوصلية إلى الشك في دخل قصد القربة في حصول غرض المولى من الأمر وان لم يؤخذ في متعلقه ، إذ قد عرفت إمكان ان لا يكون متعلق الأمر وافيا بتمام الغرض.

ص: 457

وعليه ، فمتعلق الأمر وان كان معلوما ، إلا أن وفائه في الغرض بنفسه بدون قصد القربة غير معلوم وهو موضع الشك.

وأنت خبير بعد هذا بان الشك وموضوعه أجنبي بالمرة عما هو متعلق الحكم وموضوعه ، كيف؟ والمفروض العلم بمتعلق الأمر ، ومعه لا يبقى مجال للكلام في صحة التمسك بإطلاق الكلام في نفي قصد اعتبار القربة ، وان متعلق الأمر هو ذات العمل ، لأن ما يثبت بالإطلاق وما يتكفله الكلام بعيد عما هو موضوع الشك ولا يرتبط به ، فإن ما يتكفله الإطلاق هو ثبوت الحكم لمتعلقه لا أكثر ، وقد عرفت ان مورد الشك غير هذا المعنى ، بل هذا المعنى مقطوع به ومعلوم بلا حاجة إلى بيان إثباته بالإطلاق أو عدم إمكان إثباته.

والخلاصة : ان مورد الشك بعيد عن مفاد الإطلاق وعالم الكلام. ومن هنا نجزم بعدم صحة التمسك بإطلاق الكلام ، بل لا معنى له بعد الجزم بمفاده بالتقريب الّذي عرفته ، فما سلكه الأعلام ( قدس اللّه سرهم ) في بيان عدم صحة التمسك بالإطلاق من ان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا فائدة فيه ولا وجه له.

ولعل ما ذكرناه هو مراد صاحب الكفاية ، فانه حكم بعدم صحة التمسك بالإطلاق ولم يبين الوجه فيه ، فيمكن ان يكون نظره قدس سره إلى ما ذكرناه من ان مورد الشك لا يرتبط بعالم الإطلاق ، ولذا استدرك بعد ذلك بأنه إذا علم كون المولى بصدد بيان ما هو دخيل في الغرض وان لم يؤخذ في متعلق الأمر ولم يذكر قصد القربة كان للتمسك بإطلاقه الكلامي أو المقامي مجال وأثر في نفى دخالة قصد القربة في الغرض. وهو استدراك وجيه كما لا يخفى.

وقد قرب المحقق الأصفهاني رحمه اللّه عدم صحة التمسك بالإطلاق : بان عدم إمكان التقييد وان لم يستلزم عدم إمكان الإطلاق ، إلا أن إمكانه لا يجدي في صحة التمسك به لنفي التقييد ، لأن من مقدمات الحكمة عدم بيان ما

ص: 458

يمكن ان يكون بصدد بيانه ، ولما كان المفروض عدم إمكان بيان التقييد وان أمكن الإطلاق ثبوتا لم يصح التمسك بالإطلاق الكلام في نفي القيد لعدم تمامية إحدى مقدماته ، إذ يمكن ان يكون القيد دخيلا ولكنه لا يمكنه بيانه ، فعدم البيان لا يكون دليل الإطلاق لعدم إمكانه البيان (1).

وقد تابعة في هذا التقريب السيد الخوئي دام ظله - كما جاء في مصابيح الأصول (2) -.

ولكن هذا التقريب عجيب منه قدس سره ، فانه انما يتم ، لو كان أخذ القيد ودخله في المتعلق ممكنا ثبوتا لكن كان هناك مانع من بيانه بواسطة الدليل. وبعبارة أخرى : كان الممتنع هو أخذ القيد في المتعلق إثباتا لا ثبوتا ، فانه يقال : ان عدم بيان الآمر القيد في كلامه لا يكشف عن عدم دخله في المتعلق لإمكان دخله وعدم تمكنه من بيانه لوجود محذور فيه.

واما في مثل ما نحن فيه من كون دخل القيد ثبوتا ممتنع ، فلا معنى لهذا الكلام بالمرة ، إذ لا معنى لأن يقال ان عدم ذكر القيد لا يدل على عدم دخله ، لإمكان دخله وامتناع بيانه ، كيف؟ والمفروض عدم إمكان دخله ثبوتا.

وبالجملة : فما ذكره قدس سره امر يرتبط بما إذا كان الامتناع إثباتيا فلا ربط بما نحن فيه ، لأن الامتناع فيه ثبوتي والشك في أخصية الغرض وأعميته ، فلا يهم فيه تحقيق إمكان بيان القيد وعدم إمكانه ، كيف؟ والمفروض انه موجود مع إحراز الإطلاق. فكان اللازم نقل الكلام إلى مرحلة الثبوت كما مرّ عليك.

وعلى كل ، فالذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه : انه ان بنى على امتناع

ص: 459


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 137 - الطبعة الأولى.
2- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 232 - الطبعة الأولى.

أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، لم يصح التمسك بالإطلاق في نفي دخل قصد القربة في الغرض الّذي هو موضوع الشك ، وان بنى على إمكانه كغيره من قيود المتعلق نظير الطهارة في الصلاة ، أمكن التمسك بالإطلاق في نفي دخله في المتعلق الّذي هو موضوع الشك مع تمامية مقدمات الحكمة ، لأنه يكون كسائر القيود المحتمل الأخذ ، فمع الإطلاق ينفي أخذها. فالتمسك بالأصل اللفظي - وهو الإطلاق - في نفي اعتبار قصد القربة على القول بامتناعه غير صحيح.

وقد ذكر لإثبات كون الأصل في الواجبات هو التعبدية - في قبال التمسك بالإطلاق الّذي يقتضي التوصلية - وجوه :

الوجه الأول : ان الأمر لما كان من الأفعال الاختيارية للمولى ، فلا بد من صدورها عن غرض مصحح ، والغرض من الأمر ليس إلا جعل الداعي والمحرك للعبد نحو العمل المأمور به. فلا بد من الإتيان بالعمل بداعي الأمر تحصيلا لغرض المولى ما لم يقم دليل خاص على حصوله بدون ذلك. فالأصل في الواجب الإتيان بها بداعي الأمر.

وقد أورد عليه المحقق النائيني رحمه اللّه : بان المراد من كون الأمر بغرض جعل الداعي والمحركية ..

ان كان ان الأمر انما هو بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا ومحركا لو لم يكن له داع آخر من قبل نفسه ، بمعنى ان العبد المنقاد إذا لم يكن في نفسه ما يدعوه إلى الإتيان بالعمل فلا أمر صالح لداعويته إليه ومحركيته نحوه.

وبعبارة أخرى : ان كان المراد كون الغرض من الأمر جعل ما يقتضي الداعوية وما له قابلية المحركية وشأنيتها.

فهو مسلم لا ينكر ، لكنه لا يثبت التعبدية لأنه مشترك بين جميع الواجبات التوصلية والتعبدية ، إذ لا ملزم فيه للإتيان بالفعل بداعي الأمر كما لا يخفى.

ص: 460

وان كان المراد جعل ما يكون داعيا فعلا بحيث لا بد من صدور الفعل بداعي امر المولى دون غيره من الدواعي.

ففيه :

أولا : ان يبتني على انحصار التقرب بقصد الأمر كما عليه صاحب الجواهر (1) وهو ممنوع كما تقدم.

وثانيا : انه يستلزم المحال ، وذلك لأن الملحوظ حال الأمر بالاستقلال هو نفس العمل ، اما إرادة المكلف للعمل فهي ملحوظة باللحاظ غير الاستقلالي الآلي ، فلو كان إرادة العبد العمل بداعي الأمر ملحوظة حال الأمر كان ذلك مستلزما للحاظ الإرادة بنحو الاستقلال وهو خلف فرض لحاظها آليا (2).

والإنصاف : ان ما ذكره أخيرا من استلزام المحال - وهو عمدة الإيراد على المدعى - غير وارد ، فللمدعي ان يلتزم بالشق الثاني من شقي الترديد ، أعني كون الغرض هو المحركية والداعوية الفعلية لا الاقتضائية. بيان عدم وروده : انه بنفسه يرد على الشق الأول الّذي فرض التسليم به واختياره ، وهو كون الغرض هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا لو لم يكن هناك داع آخر ، فان ذلك يستلزم أيضا تعلق اللحاظ الاستقلالي بإرادة الفعل ولزوم صدورها عن داعي الأمر إذا لم يكن داع آخر.

وعليه ، فاما ان يلتزم بكفاية اللحاظ الآلي في ذلك فهو جار في الشق الثاني. واما ان لا يلتزم فيسري الإشكال إلى الشق الأول. فمحصل الإيراد عليه قدس سره هو النقض بالشق الأول. فتدبر.

ولعل هذا الوجه هو الّذي حدا بالسيد الخوئي إلى عدم ارتضاء إيراده -

ص: 461


1- النجفي الشيخ محمد حسين. جواهر الكلام2/ 87 - 88 - الطبعة الثانية.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 114 - الطبعة الأولى.

إذ لم يبين الوجه فيه - والإيراد على المدعى بوجهين :

أحدهما : انه لا دليل على لزوم تحصيل غرض المولى من الأمر ، بل الواجب عليه بحكم العقل الإتيان بما تعلق به التكليف وتحصيل الغرض في نفس المأمور به ، وهو - أي المأمور به - مطلق غير مقيد بداع من الدواعي. فلو فرض ان غرض المولى ما ذكر فلا يلزم تحصيله ، بل يكفي الإتيان بذات العمل المتعلقة للأمر.

والآخر : إنكار كون الغرض من الأمر جعل الداعي فعلا ، لأن الغرض ما يترتب على الشيء ترتب المعلول على علته ، ونحن نرى ان الإتيان بالفعل بداعي الأمر يتخلف كثيرا عن الأمر كما في موارد الكفر والعصيان ، فالغرض انما هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا وهو لا يتخلف عن الأمر أصلا (1).

أقول : ما أورده أولا ليس محل بحثه هنا ، بل له مجال آخر.

واما الوجه الثاني ، فهو غير تام ، بيان ذلك : ان الغرض قد يطلق ويراد منه ما يساوق العلة الغائية وهو المعنى الاصطلاحي للغرض والداعي ، وهو ما يترتب على نفس الفعل ترتب المعلول على علته. وقد يطلق ولا يراد منه هذا المعنى ، بل يراد منه معنى عرفي يساوق المقصود ، وقد يعبر عنه في الاصطلاح بالغرض - الأصلي أو الأقصى ، وهو بهذا المعنى قابل الانفكاك عن العمل وان عبر عنه بالغرض ، فيقال : غرضي من هذا العمل ومقصودي كذا ، مع عدم ترتبه عليه ، بل يمكن ان يترتب ويمكن ان لا يترتب ، كأكل الخبز بغرض الشبع وشرب شيء بقصد العافية من المرض والإتيان بالماء بغرض الوضوء ونحو ذلك. ولا يخفى انه يطلق على مثل ذلك الغرض مع تخلفه عن العمل أحيانا ، فقد يكون مراد المدعي من كون الداعوية الفعلية غرضا للأمر هذا المعنى من لفظ الغرض

ص: 462


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 189 - الطبعة الأولى.

لا المعنى الاصطلاحي كي يورد عليه بما ذكره.

وبالجملة : الإيراد المذكور يبتني على حمل لفظ الغرض على المعنى الاصطلاحي ، مع انه بلا ملزم ، فقد يكون المراد منه الغرض الأصلي والأقصى ، بل لا ملزم للتعبير بلفظ الغرض كي يتحقق هذا الالتباس ، بل نقول : ان النّظر والقصد الأصلي في الأمر هو جعل الداعوية الفعلية ، ولا يخفى صحة التعبير بذلك عرفا. فيرجع الإشكال إلى التعبير بلفظ الغرض ، وان هذا - أعني الداعوية الفعلية - لا تسمى غرضا ، وهو إشكال لفظي ، والمهم هو الالتزام بواقع الدعوى وما ذكر لا يصلح إيرادا عليها كما عرفت من كون الغرض الأصلي ممكن التخلف عن العمل ، بل مع الالتفات إلى هذه الجهة - أعني إمكان التخلف - يعبر عنه أيضا بالغرض الأصلي والمقصود بلا توقف ، ويجيب الفاعل عند سؤاله عن مقصوده في فعله ، بان غرضي كذا. فتدبر.

وعليه ، فالكلام مع المدعي يقع في ان الغرض الأصلي من الأمر هل هو جعل الداعي فعلا أو جعل ما يصلح للداعوية وما له اقتضاء الدعوة لا فعليتها؟.

والحق هو الثاني ، توضيح ذلك : انه قد تقرر في محله ان الأوامر تابعة للمصالح الموجودة في متعلقاتها ، فالغرض من الأمر غرض تبعي وطريقي للوصول إلى مصلحة المتعلق وليس له استقلالية في الغرض ولا انفراد به ، ومن الواضح ان المصلحة في المتعلق تارة : تتقوم بذات الفعل وتترتب عليه بأي نحو تحقق وبأي صورة حصل. وأخرى : لا تترتب عليه إلا إذا جيء به بنحو قربي عبادي ، فالأمر الّذي يتعلق بالنحو الأول لا يكون الغرض منه سوى جعل ما يقبل التحريك وما من شأنه الباعثية والداعوية لا أكثر ، إذ عرفت انه يتبع المصلحة في المتعلق ، فإذا فرض ان المصلحة تتحقق بتحقق الفعل بأي كيفية وبأي داع حصل ، لم يكن الداعي من الأمر سوى التحريك نحو العمل وجعل

ص: 463

ما يمكن ان يكون داعيا إذا لم يكن داع آخر ، فإذا تحقق الفعل بداع آخر لا ينافي غرض الأمر لأنه يتبع الغرض من الفعل. وإذا لم يكن للعبد داع خارجي للفعل يكون الأمر صالحا للداعوية والمحركية.

وعليه ، فإذا فرض إمكان كون مصلحة المتعلق لا تقتضي سوى الأمر بهذا النحو - أعني بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا - ، فكيف يستظهر في الا وامر كونها بداعي جعل الداعي الفعلي؟.

الوجه الثاني : - ويمكن ان يكون تقريبا آخر للوجه الأول - ، وهو : ان الأمر لما كان بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا لزم ان يقتصر في تعلقه بمن لا يكون في نفسه داع خارجي غير الأمر للفعل ، فان من يكون في نفسه داع في نفسه لتحقق الفعل قبل الأمر يمتنع عقلا تعلق الأمر به وتوجه البعث نحوه للغويته بعد كونه منبعثا ، أو في مقام الانبعاث ، فلا معنى لأمره بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا بعد تحقق الداعي الفعلي للعمل عنده.

وعليه ، فالأمر انما يصح في مورد لا يكون للمكلف داع آخر غير الأمر ولم يكن المكلف في مقام الإتيان بالعمل بدون الأمر. والتقريب بهذا المقدار لا تثبت به التعبدية ، إذ غاية ما يثبت عدم صحة تعلق التكليف بمن له داع غير الأمر للفعل وانه انما يصح في المورد الّذي لا يكون للمكلف أي داع ومحرك نحو الفعل. وهذا لا يقتضي التعبدية كما لا يخفى ، فلا بد من تتميمه بان يقال : انه حيث يعلم بان التكاليف مطلقة ولا تختص بطائفة من المكلفين دون غيرهم ، بل تشمل الجميع ، وحيث ان شمولها للبعض ممتنع في ذاته لتحقق الدواعي النفسيّة للفعل عندهم ، فشمولها لهم يقتضي ان يكون مفاد الأمر هو الإتيان بالفعل لا عن هذه الدواعي ، بل بداعي الأمر فيرتفع عن اللغوية وتثبت به العبادية.

ويمكن الخدش فيه من وجهين :

أحدهما : ان تعلق الأمر بجميع المكلفين مسلم لا ينكر ، إلا انه لا يمتنع

ص: 464

ان يختلف مفاده باختلاف المكلفين ، فيكون مفاده الداعوية الفعلية والبعث الفعلي بالنسبة إلى من لا داعي له نحو الفعل ، ويكون مفاده الداعوية الشأنية بالنسبة إلى من له داع آخر غير الأمر ، فيكون الأمر متعلقا به بداعي جعل الداعي على تقدير عدم الداعي الآخر أو عدم الانبعاث عنه. وهذا التعليق مصحح للأمر ولا تتوقف صحته ورفع لغويته على عدم الداعي الخارجي ، لأن الغرض انه جعل للداعوية بنحو التعليق. وصدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها. فلاحظ.

وبالجملة : لا مانع من الالتزام باختلاف نحو تعلق الأمر بالمكلفين أجمع إذ لا دليل على خلافه.

ثانيهما : انه سلمنا عدم إمكان توجه الأمر لمن له داع خارجي للفعل إلا بان يكون مفاده تجريد الفعل عن هذه الدواعي والإتيان به بداعي الأمر - كما هو مفاد التقريب المزبور -.

فلا نسلم اقتضاء ذلك لتعبدية الأمر ، وذلك لأن ارتفاع اللغوية لا يتوقف على تعلق الأمر بالفعل على ان يكون الأمر نفسه داعيا ، بل يكفي لزوم تحقق الفعل عن الأمر وكون الأمر منشأ لوجود الفعل خارجا دون غيره من الدواعي ، وهذا لا يلازم العبادية ، إذ يمكن ان يكون الإتيان بالفعل بتحريك الخوف من العقاب أو الرغبة في الثواب الّذي يقتضيه الأمر لا بتحريك نفس الأمر. وسيأتي ان هذا الداعي ليس من الدواعي المقربة ، مع صدور الفعل به عن الأمر ، إذ لو لا الأمر لما جاء به. أو يكون الإتيان به رياء ولتعريف الناس انه يمتثل الأمر ، فان هذا الداعي متفرع على وجود الأمر ، إذ موضوعه الأمر ، مع انه ليس من الدواعي المقربة بلا كلام.

وبالجملة : الدليل يقتضي لزوم صدور الفعل بمنشئية وجود الأمر بحيث لو لا وجود الأمر لا يتحقق الفعل خارجا - لارتفاع اللغوية بذلك - ، وصدور

ص: 465

الفعل عن الأمر لا يلازم العبادية والتقرب كما عرفت.

الوجه الثالث : الآية الشريفة : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1). وتقريب الاستدلال بها على المدعى : حصر الأوامر في الآية الكريمة في العبادية ، وحصر جهة الأمر والغاية منه في العبادة ، فيقتضي ان يكون الأصل هو العبادية ، إلا إذا قام دليل خاص على عدمه فيخصص الآية الشريفة.

ولكن الاستدلال بها غير مستقيم لوجهين :

الأول : ما قيل من ان الآية بملاحظة صدر السورة وذيلها واردة في الكفار وتفنيد ما زادوا في دينهم على عبادة اللّه ، وبيان انهم لم يأمروا بغير عبادة اللّه وترك الأوثان ، وان ما يدعونه من الدّين لم يأمرهم به اللّه. وبذلك تكون الآية بعيدة وأجنبية عن إثبات تعبدية الأوامر وكونها عبادية كما لا يخفى.

الثاني : انه لو سلم عدم اختصاص الآية بالكفار وعمومها لجميع المكلفين ، فهي لا تدل على حصر الأوامر بالعبادية ، بل انما تدل على حصر الأوامر العبادية بعبادة اللّه ، بمعنى ان الأوامر العبادية انما كانت ليعبدوا اللّه تعالى لا ان نفس الأوامر كانت لأجل تحقق العبادة منهم ، فهي لا تتكفل بيان عبادية الأوامر ، بل بيان جهة عبادة اللّه في الأوامر العبادية وهذا المعنى أجنبي عن المدعى.

وتوضيح ما ذكرناه : انه إذا قال القائل : « ما أمرت زيدا إلا لأجل تحصيل العافية التامة أو لأجل الذهاب إلى الطبيب الحاذق » ، فانه ظاهر في حصر الأوامر بالذهاب إلى الطبيب أو بتحصيل العافية في الأمر بالذهاب إلى الطبيب الحاذق دون غيره ، وبتحصيل العافية التامة لا الناقصة ، نعم لو قال : « ما أمرته إلا لأجل الذهاب إلى الطبيب » ، كان ظاهرا في حصر الأوامر في الذهاب إلى

ص: 466


1- سورة البينة : الآية : 5.

الطبيب ، أو حصر أوامر الذهاب بالذهاب إلى الطبيب. فتأمل. وما نحن فيه من قبيل الأول ، فان الظاهر ان الغرض المسوق له الكلام هو بيان انحصار العبادة بعبادة اللّه ونفي عبادة غيره ، ولزوم الإخلاص في عبادته جلّ اسمه وعدم إشراك غيره فيها ، لا بيان أصل العبادة فتكون الآية ظاهرة في ان الأمر العبادي انما كان لأجل تحقق عبادة اللّه تعالى. فلا دلالة لها على ان مطلق الأوامر عبادية كما لا يخفى.

الوجه الرابع : الروايات كقوله صلی اللّه علیه و آله : « انما الأعمال بالنيات » (1) وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لكل امرئ ما نوى » (2) وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لا عمل إلا بنية » (3) ونحو ذلك مما يدل على توقف العمل على نية القربة إلا ما خرج بالدليل الخاصّ المخصص.

وقد ناقش الشيخ رحمه اللّه في دلالتها على المدعى بكلام مفصل حاصله : ان الكلام لو حمل على ظاهره من توقف تحقق العمل على نية القربة وقصد التقرب بحيث لا يتحقق عمل بدونها ، فهو كاذب قطعا ، لأن الأعمال تحصل بدون قصد القربة ، بل بدون نية أصلا ، لأنها أمور واقعية تحصل بأسبابها.

وان أريد منها نفي صحة العمل بدون نية القربة لا نفي أصل العمل لزم تخصيص الأكثر بنحو مستهجن جدا ، لأن الأعمال الشرعية العبادية قليلة جدا ونسبتها إلى غير العبادية منها نسبة متفاوتة جدا ، فلا معنى لهذا العموم وبهذا اللسان مع إرادة افراد قليلة منه لصحة الواجب التوصلي بدون نية القربة ، إذ لا يعتبر فيه قصد التقرب ، وانما المتوقف صحته على قصد التقرب هو الأفعال

ص: 467


1- وسائل الشيعة 1 / 34. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 7.
2- وسائل الشيعة 1 / 35. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 10.
3- وسائل الشيعة 1 / 34. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 9.

العبادية وهي قليلة كما عرفت.

وان أريد من مثل قوله : « لا عمل إلا بنية » ان نسبة الفعل إلى الفاعل وكون الفعل فعلا له انما تكون إذا صدر الفعل عن قصد واختيار وبدونه لا يكون العمل عملا اختياريا له ، فيكون المراد من النية ما يساوق القصد والاختيار لا نية القربة. ويكون المعنى : ان العمل الصادر عفوا وبلا إرادة لا يكون عملا للشخص ، بل الإسناد إلى الشخص يتقوم بالقصد ونية العمل ، فلا يقال لمن أكرم هاشميا مع عدم العلم بهاشميته أنه أكرم هاشميا بما هو هاشمي لعدم القصد إلى العنوان ان أريد ذلك فهو معنى متجه ، لكنه أجنبي عن المدعى - أعني إثبات كون الأصل في الأوامر العبادية كما لا يخفى -. مضافا إلى انه يدفعه ظاهر بعض الروايات التي تقتضي عدم إرادة هذا المعنى ، كقوله : « لا قول إلا بعمل ولا عمل إلاّ بنية ولا نية الا بإصابة سنة » (1) ، فان ظاهر السياق عدم إرادة نفي اختيارية العمل لعدم القصد لتحقق القول اختيارا بدون عمل ، بل الّذي يظهر من الروايات بملاحظة موارد تطبيقها في النصوص كما ورد في باب الجهاد من ان المجاهد ان كان قد جاهد لله فالعمل له تعالى ، وان جاهد لطلب المال والدنيا فله ما نوى (2) -. وهو كونها ناظرة إلى بيان توقف ترتب الإثابة على نية كون العمل لله وان ظاهر نفس العمل لا يكفي في ترتب الأثر المرغوب ما لم يقصد من ورائه ذلك. فلا يعد العمل لله ما لم ينو اللّه ويقصد به التقرب إليه ، وان ما يحصله المرء هو ما نواه وقصد ، من خير أو شر. فلا ترتبط بالمرة بما نحن فيه من تعبدية الأوامر (3).

وبهذه النتيجة أورد المحقق النائيني على الاستدلال بهذه الروايات مهملا

ص: 468


1- وسائل الشيعة 1 / 33. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 2.
2- وسائل الشيعة 1 / 35. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 10.
3- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /63- الطبعة الأولى.

ما ذكره الشيخ مقدمة لها (1).

وبالجملة : الظاهر من الروايات الكثيرة هو ما أفاده الشيخ وتابعة غيره عليه من ان تقدير الثواب وتحصيله على نية التقرب فقط. لا توقف صحة العمل على نية القربة بحيث يترتب العقاب على تركها ، بل نتائج الأعمال وغاياتها تتبع النيات ولا تتحقق بدون النية بل تتبع النية.

وخلاصة ما تقدم : انه لا دليل تعبديا على كون الأصل في المأمور به ان يكون عباديا ، كما انه - بناء على عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق - لا يمكن التمسك بالإطلاق في إثبات التوصلية ونفي التعبدية. فلا دليل اجتهاديا على أحد الأمرين ، فتصل النوبة قهرا عند الشك في التعبدية والتوصلية إلى الأصل العملي من براءة أو اشتغال. فيقع الكلام فعلا في ..

المرحلة الثانية : وهي في مقتضى الأصل العملي بعد فرض عدم إمكان التمسك بالإطلاق لنفي التعبدية الّذي هو محور الكلام. وعدم قيام دليل على إثبات التعبدية.

فنقول : ذهب صاحب الكفاية إلى ان الأصل العملي في المقام هو الاشتغال ، فلا بد من الإتيان بقصد القربة تحصيلا للعلم بالفراغ ، وانه لا مجال لجريان البراءة ولو قلنا بها في مسألة الأقل والأكثر. فان الشك في ما نحن فيه يرجع إلى ان الوظيفة اللازمة هل هي الأقل أو الأكثر؟ لكنه لا يتأتى فيه حكم الأقل والأكثر (2).

ووجه المحقق النائيني قدس سره كلامه بأنه ناظر إلى التفريق بين الأسباب والمسببات العادية ، والأسباب والمسببات الشرعية ، فان للشارع التصرف في الأسباب الشرعية وبيان حدّها ، فمع الشك فيها بين الأقل والأكثر

ص: 469


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 115 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /75- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يرجع فيه إلى البراءة لأنها مجعولة شرعا. بخلاف الأسباب العادية ، فانه ليس للشارع التصرف فيها باعتبار ان تأثيرها في المسببات تكويني لا جعلي ، فإذا تردد السبب العادي بين ان يكون الأقل أو الأكثر لم يكن المورد مجرى البراءة لأن المرفوع بها ما يمكن جعله شرعا وليس السبب العادي بخصوصياته من مجعولات الشارع. وبما ان الشك فيما نحن فيه يرجع إلى الشك في دخل قصد القربة في الغرض لا في المأمور به لفرض عدم إمكان أخذه فيه ، فمرجع الشك في التعبدية إلى الشك في دخل قصد التقرب في الغرض ، ولا يخفى ان تأثيره في ترتب الغرض - لو كان - ليس بجعلي وانما تأثير تكويني ، فليس للشارع رفعه بالبراءة. فيكون مقتضى الأصل هو الاشتغال لا البراءة.

وأورد عليه بعد ذلك : بأنه فاسد مبنى وبناء.

اما المبنى ، فلعدم الفرق بين المسببات العادية والشرعية في كون الشك في ترتبها على أسبابها مجرى قاعدة الاحتياط ، ولذا يقرر الاحتياط عند الشك في تحقق الطهارة بفقدان بعض خصوصيات الوضوء وهو أمر مسلم.

واما البناء ، فببيان ان متعلقات التكاليف ليست نسبتها إلى الغرض نسبة السبب إلى المسبب ، وانما نسبتها إليه نسبة المعد للمعد له (1). وقد بين ذلك بنحو مفصل ليس تحقيقه محل بحثنا فعلا ، وانما ذكرنا ملخص كلامه ، فالإيراد الصحيح على الوجه المذكور ما ذكره من عدم الفرق بين الأسباب والمسببات الشرعية والعادية في كون الشك في المسببات مطلقا مورد الاحتياط ، فالتفريق بين ما نحن فيه ومسألة الأقل والأكثر بهذا الوجه واللحاظ غير سديد.

لكن الحق ان هذا المعنى ليس مراد صاحب الكفاية ، فانه غير ظاهر من العبارة أولا ، ولا يلتزم بجريان البراءة عند الشك في المسبب الشرعي ثانيا ، فلا

ص: 470


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 119 - الطبعة الأولى.

يمكن ان يجعل وجه التفريق ما لا يلتزم به. فما ذكر في توجيه عبارته غير صحيح.

وقد حمل السيد الخوئي مراد الكفاية على معنى آخر محصله : انه ناظر إلى جهة الفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية الموجبة لعدم جريان الأولى في مسألة الأقل والأكثر وجريان الثانية ، وهي ان الشك في الأقل والأكثر يرجع إلى الشك في حصول غرض المولى بالأقل والبراءة العقلية لا توجب رفع هذا الشك ، فيلزم الإتيان بالأكثر تحصيلا للغرض اللازم تحصيله. بخلاف البراءة الشرعية فانها تقتضي إطلاق متعلق الأمر في مرحلة الظاهر الّذي يكشف عن حصول الغرض به.

وعليه ، فما نحن فيه حيث يشك في حصول الغرض بدون قصد القربة فلا تجري البراءة العقلية لعدم ارتفاع الشك بها ، كما انه لا مجال لجريان البراءة الشرعية ، لأن المرفوع بها ما يكون قابلا للوضع والجعل الشرعي ، فغيره كقصد القربة لا يكون من مواردها. فيتعين الاحتياط.

وأورد عليه : بان التفكيك بين البراءتين بهذا البيان غير صحيح ، لأنه إذا كان تحصيل غرض المولى لازما عقلا وان لم يقم عليه دليل شرعي ، فجريان البراءة الشرعية لا يجدي ، لأن البراءة انما تتكفل نفي المشكوك عن متعلق الأمر ، اما نفي دخالته في الغرض فهو أجنبي عن مفادها ، فيبقى الشك على حاله مع جريان البراءة الشرعية ، وليس للشارع نفي لزوم تحصيله بعد حكم العقل بلزومه. وإذا لم يكن تحصيل الغرض لازما إلا بالمقدار الّذي تقوم عليه حجة شرعية ، فجريان البراءة العقلية ممكن ومجد ، لنفي دخل المشكوك في المتعلق بها ، فيكون الغرض المتقوم به غير لازم التحصيل لعدم الحجة عليه شرعا وعقلا.

ودعوى : عدم إمكان جريان البراءة العقلية فيما نحن فيه - كالبراءة الشرعية - لفرض عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق فلا يكون موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لعدم إمكان البيان.

ص: 471

مندفعة : بان المحقق عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق ، وهذا لا يلازم عدم إمكان بيان عدم دخله في الغرض ولو بالجملة الخبرية ، فيمكن للمولى بيان ذلك بنحو الإخبار كما لا يخفى (1).

والإنصاف : ان ما حمل عليه كلام الكفاية خلاف ظاهر الكفاية جدا. مضافا إلى ان الّذي يخطر بالبال فعلا ان الوجه في نفي صاحب الكفاية إجراء البراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر ليس هو الشك في حصول الغرض بدون المشكوك ، فيلزم الإتيان به تحصيلا للغرض ، بل من باب العلم الإجمالي بان متعلق التكليف اما الأقل أو الأكثر وعدم انحلال هذا العلم الإجمالي المانع من جريان البراءة عقلا لعدم كون العقاب بلا بيان بعد وجود العلم الإجمالي. وهذا المعنى كما لا يخفى لا ينطبق على ما نحن فيه ، إذ لا علم إجماليا بل يعلم تفصيلا بعدم أخذ قصد القربة في المتعلق ، فالمسألة في الحقيقة يختلف موضوعا عن مسألة الأقل والأكثر ، لأن متعلق التكليف معلوم الحدّ ولا شك فيه. نعم الأمر يدور بين الأقل والأكثر في مقام الامتثال لا في متعلق التكليف.

والحاصل : ان إجراء أصالة الاشتغال ليس من باب كون المقام من قبيل المسببات التوليدية العبادية ولا من باب لزوم تحصيل الغرض ، بل من جهة أخرى وهي لزوم إطاعة امر المولى. بيان ذلك : انه بعد تعلق الأمر بذات العمل فقط دون قصد القربة ، يشك في ان الأمر هل يسقط بمجرد الإتيان بالفعل أو لا بد من ضم قصد القربة إليه؟. ومنشأ الشك هو الشك في حصول الغرض بدون قصد القربة ، فانه يوجب الشك في سقوط الأمر لأن الأمر معلول للغرض والمعلول تابع لعلته وجودا وعدما. فإذا تحقق الشك في سقوط الأمر لزم الاحتياط تحصيلا للعلم اليقيني بالامتثال والإطاعة ، فانه حكم عقلي مسلم من باب لزوم

ص: 472


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 193 - الطبعة الأولى.

إطاعة أمر المولى ، فما ذكره يبتني على أمرين : أحدهما : حكم العقل بوجوب إطاعة امر المولى المعلوم تفصيلا. والآخر : تبعية سقوط الأمر لحصول الغرض لأنه علة ثبوته. فمع الشك في حصول الغرض يشك في حصول الإطاعة فيحكم العقل بلزوم الاحتياط تحصيلا للإطاعة لا من باب لزوم تحصيل الغرض.

وبالجملة : حكم العقل بالاحتياط هنا بعين الملاك الّذي قربنا حكمه فيما تقدم بتحصيل غرض المولى.

ولا يخفى انه لو التزم بالبراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر بدعوى انحلال العلم الإجمالي ، فلا يلتزم بها هنا للعلم التفصيليّ بالمكلف به وعدم الشك في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، وانما الشك في الأقل والأكثر بلحاظ مقام امتثال التكليف المعلوم المبين لا في متعلق التكليف كي يكون مجرى البراءة العقلية مع عدم البيان ، كما انه لا تجري البراءة الشرعية ، لأن موضوعها ما يكون قابلا للوضع والجعل شرعا دون ما لا يقبل ذلك كقصد القربة.

وبهذا البيان الظاهر من عبارة الكفاية يظهر انه لو التزم بعدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فالأصل العملي هو الاشتغال بلا كلام للزوم العلم بالامتثال.

واما لو التزمنا بإمكان أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فيكون كسائر الاجزاء والشرائط المشكوكة مجرى لأصالة البراءة فينفي أخذها في المتعلق بالبراءة كما هو الحال في سائر موارد الأقل والأكثر على ما يأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّه تعالى.

فخلاصة الكلام في الأصل العملي : انه إذا التزمنا بعدم إمكان أخذ قصد التقرب في متعلق الأمر كان الأصل هو الاشتغال كما عليه صاحب الكفاية ، وإذا التزمنا بإمكان أخذه في متعلق التكليف كان الأصل هو البراءة. فالأصل يختلف باختلاف المبنيين فتدبر.

ص: 473

الدواعي القربية

وبعد كل هذا لا بأس بصرف الكلام إلى تحقيق ما يتحقق به التقرب وما به قوام العبادة.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في هذا المقام ما حاصله : ان استحقاق المدح والثواب عقلا على شيء يتوقف على أمرين :

الأول : ان ينطبق عنوان حسن بالذات أو بالعرض عليه ، وإلاّ فمجرد المشي إلى السوق لا يمدح عليه العقلاء ما لم يتعنون بعنوان حسن ، حتى إذا جيء به بداعي الأمر لأن الداعي المذكور لا يوجب المدح ما لم يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن.

الثاني : ان يؤتى به مضافا إلى من يستحق من قبله الثواب والمدح ، فان الفعل بدون ارتباطه بالمولى نسبته إلى المولى وغيره على حد سواء. وارتباط الفعل بالمولى تارة : يكون بنفسه كتعظيم المولى. وأخرى : بواسطة الأمر كالصلاة فانها بنفسها لا يمكن ربطها بالمولى ، لأنها ليست من الأفعال المضافة إلى الغير نظير التعظيم.

وعليه ، فالإتيان بالفعل بداعي الأمر يكون موجبا لاستحقاق المدح ، لأنه بذلك يتعنون بما هو حسن في نفسه وهو الانقياد والإحسان مع ارتباطه بالمولى بقصد امره. اما الإتيان به بالدواعي القربية الأخرى كداعي أهلية المولى أو الشكر والتخضع أو المصلحة أو تحصيل الثواب والفرار من العقاب ، فلا يوجب مدحا ولا ثوابا. بيان ذلك :

اما داعي أهلية المولى ، فموضوعه العبادة الذاتيّة ، وهو ما كان حسنا في

ص: 474

ذاته ، لأن ما لا يكون بذاته حسن لا يكون المولى أهلا له ، وإذا فرض ان مورده هو العبادة الذاتيّة وما هو حسن في ذاته فهو مرتبط ومضاف إلى المولى بذاته - لغرض كونه عبادة للمولى - ، فلا يكون هذا الداعي موجبا لربطه بالمولى ولا لحسنه ، بل هو في طول الداعي المقرب فيمكن ان يكون بنحو داعي الداعي.

ومثله الكلام في داعي الشكر والتخضع ونحوهما ، فان الإتيان بالفعل بهذه الدواعي يتوقف على كون الفعل بنفسه شكرا وتخضعا كي يؤتى به بهذا الداعي ، إذ لو لم يكن كذلك لا معنى لأن يؤتى به للشكر ، لأنه ليس شكرا ، ومع فرض كونه شكرا في نفسه أو تخضعا فيكون بنفسه ذا عنوان حسن ومرتبطا بالمولى أو منتهيا إلى ما يكون كذلك ، فلا يكون الداعي مقوما للتقرب بل هو في طوله.

واما داعي استحقاق الثواب أو الفرار من العقاب ، فهو أيضا في طول العبادية والتقرب ، لأن الفعل بنفسه لا يوجب الثواب ما لم يكن عباديا وذا عنوان حسن ومرتبطا بالمولى ، ومعه يكون داعي الثواب غير مقوم لاستحقاقه لفرض ان نفس الفعل مؤثر فيه لاجتماع كلا الجهتين فيه. وهكذا الفرار من العقاب ، فانه إذا لم يكن بنفسه موجبا لمنع العقاب لا يتجه الإتيان به بهذا القصد ، ولا يكون الفعل مانعا عن العقاب إلا بكونه حسنا ومرتبطا بالمولى.

واما داعي المصلحة ، فان قصدت المصلحة بما انها فائدة ونفع ، فلا إشكال في عدم كون الداعي مقربا ، إذ لا ارتباط للفعل بالمولى كما انه لا يكون حسنا بمجرد ترتب فائدة عليه. اما إذا قصد الإتيان به بداعي المصلحة بلحاظ انها داعية للمولى إلى الأمر لو لا المزاحمة بالأهم أو غفلته ومن باب رغبة المولى في تحققها ، فيكون مقربا لانطباق عنوان حسن عليه وهو الانقياد وارتباطه بالمولى ، بل الانقياد في هذا الحال أعظم منه في صورة وجود الأمر كما لا يخفى (1).

ص: 475


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 129 - الطبعة الأولى.

هذا محصل كلامه قدس سره . ويقع الكلام في جهات ثلاث من كلامه :

الجهة الأولى : فيما أفاده من تقوم استحقاق المدح والثواب على الفعل باشتماله على أمرين العنوان الحسن وارتباطه بالمولى.

وتحقيق الحق فيها : ان الاستحقاق تارة : يراد منه ان يكون للمستحق على غيره حقا في عهدته له المطالبة به ويلزم الوفاء به ممن عليه الحق. كالحق الثابت بالمعاملة البيعية ونحوهما. وأخرى : يراد منه قابلية المستحق لما استحقه وشأنيته ولياقته ، بمعنى انه لو أعطي ذلك ، كان في محله لا ان له حقا لازما في عهدة غيره ، وبعبارة أخرى : يراد بالاستحقاق تارة : انه له حق لازم في العهدة. وأخرى : انه ذو لياقة للحق واستعداد. والمراد به فيما نحن فيه هو المعنى الثاني ، فالكلام في أن العبد بأي فعل يكون لائقا للمدح والثواب ، بحيث إذا مدحه العقلاء يكون المدح في محله ولا يكون ارتجاليا وبدون ما بإزاء ، لا المعنى الأول فانه ليس محل الكلام ، كما يصرح به المحقق الأصفهاني في بعض كلماته.

بملاحظة المعنى الثاني يمكن الجمع بين القول بان الثواب على العمل من باب الاستحقاق والقول بأنه من باب التفضل ، فيراد من الاستحقاق اللياقة للثواب لا لزومه وثبوته في عهدة المولى.

وعلى كل ، فالكلام في ما تتحقق به لياقة العبد للثواب والمدح ولا يخفى انه لا يلزم اشتمال الفعل المحقق لذلك على الأمرين ، بل كونه ذا عنوان حسن كاف في لياقته للمدح من العقلاء ، وذلك فان المكلف إذا جاء بما هو حسن عند العقلاء يكون بنفس هذا الفعل وان لم يربطه بأي جهة ذا لياقة للمدح ، بحيث إذا مدح وجوزي عليه كان ذلك عن لياقة ولا يكون كمن لم يفعل أصلا ، وبما ان الشارع سيد العقلاء ورئيسهم فالعبد يكون لائقا لمدحه الّذي هو الثواب ، وعليه فلا يلزم ان يكون الفعل الحسن مرتبطا بالمولى ، إذ لياقة الجزاء والمدح تتحقق بفعل الحسن سواء أضافه إلى المولى أو لم يضفه. نعم قد يكون الفعل

ص: 476

بذاته لا يشتمل على عنوان حسن ، وانما يتقوم حسنه بإضافته إلى المولى بالإتيان به بداعي أمره أو بداعي محبوبيته للمولى ، فيستحق العبد الثواب بذلك لكنه غير لزوم إضافته إلى المولى في استحقاق الثواب ، بل من باب انه لا يكون حسنا - الّذي هو ملاك الاستحقاق - إلا بإضافته لتعنونه حينئذ بعنوان الخضوع والتخشع. ومن هنا يظهر ان البحث مع المحقق الأصفهاني علمي لا عملي ، لأن سائر العبادات الفعلية من صلاة ونحوها ليست بنفسها ذات عناوين حسنه ، بل يتقوم حسنها بإضافتها إلى المولى بالإتيان بها بداعي الأمر ، فاستحقاق الثواب عليها لا يكون إلا مع إضافتها إلى المولى لتقوم حسنها بذلك.

وجملة القول : ان استحقاق الثواب والمدح بمعنى لياقة العبد لهما - الّذي هو المقصود بالبحث - لا يتوقف إلا على الإتيان بفعل حسن. غاية الأمر ان الحسن قد يتوقف على إضافته للمولى ولكنه لا يعني تقوم الاستحقاق بالإضافة إلى المولى فلاحظ.

الجهة الثانية : فيما أفاده من ان قصد الخضوع والتعظيم ونحوهما يتوقف على ان يكون الفعل في نفسه قابلا لذلك كي يكون ذلك داعيا إليه ، إذ لا يصلح ما لا يكون مترتبا على نفس الفعل ان يكون داعيا إلى الفعل. فانه قد وقع الكلام بالنسبة إلى قصد التعظيم بالفعل مع ان التعظيم لا يتحقق إلا بالقصد وبدونه لا يعد الفعل تعظيما ، وجرى البحث في ان التعظيم هل هو من الأمور الاعتبارية أم انه من الأمور الواقعية؟ وتحقيق هذه الجهة بالنسبة إلى التعظيم ونحوه لا يهمنا فعلا وليس محله هنا ، بل له مجال آخر فنوكله إليه.

الجهة الثالثة : فيما قرره من ان الانقياد الناشئ عن الإتيان بالفعل لاحتمال الأمر أو لملاكه مع عدمه أعظم لدى العقلاء من الانقياد الناشئ عن الإتيان بالفعل للأمر في صورة وجوده. فان هذا الأمر وقع محل البحث في مسألة جواز الاحتياط والامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيليّ التي جزم

ص: 477

فيها المحقق النائيني رحمه اللّه بعدم جوازه وعدم تحقق الإطاعة به ، لأن الإطاعة التفصيلية مقدمة على الإجمالية واكتفي بهذا المقدار من الدعوى والدليل الّذي هو دعوى محضة أيضا (1). وفي قباله جزم المحقق الأصفهاني رحمه اللّه بجواز الامتثال الإجمالي لأن الانقياد عن احتمال الأمر أعظم من الانقياد عن وجود الأمر.

ولم يحقق البحث بشكل يتضح به أحقية أحد الرأيين ، بل اكتفي سلبا وإيجابا بما يشبه الدعوى. فلا بد لنا من تحقيقه هنا. كما انه لا بد من معرفة موضوع النزاع وما يدور عليه النفي والإثبات واقعا وفي الحقيقة ، فنقول : الكلام ليس في حسن الانقياد فانه ليس من أحد ينكر حسن الانقياد ومقربيته. وانما الكلام في ان الانقياد هل هو من صفات الفاعل فقط والفعل على ما هو عليه في الواقع ، أو انه يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن ويستلزم طرو عنوان الحسن على الفعل المنقاد به؟. فإذا كان الانقياد من صفات الفاعل ولا يسري حسنه إلى الفعل لم يكن الفعل مقربا فلا يتحقق به الامتثال إلاّ إذا كان بذاته حسنا. وإذا كان حسنه يسرى إلى نفس الفعل ويكون الانقياد من عناوين الفعل لا من صفات الفاعل يكون نفس الفعل مقربا فيتحقق به الامتثال والإطاعة. ومثل هذا الكلام يجري بالنسبة إلى التجري ، فيقال ان التجري القبيح من صفات الفاعل أو انه من العناوين المنطبقة على الفعل فيكون نفس الفعل قبيحا؟. كما يجري نظيره في التشريع ، فيقال انه هل ينطبق على نفس الفعل فيكون الفعل محرما ولذا يفسد إذا كان عبادة ، أو لا ينطبق عليه بل هو من صفات الفعل فلا يكون الفعل بنفسه محرما.

وبالجملة : فيقع البحث في ان الانقياد من صفات الفاعل أو من صفات

ص: 478


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 26 - الطبعة الأولى.

الفعل وعناوينه المتقومة به ، ولا بد من تحقيق هذه الجهة. ولا يخفى ان الشك في ذلك يقتضي بعدم جواز الانقياد في مقام الامتثال للشك في تحقق الامتثال به مع الشك في هذه الجهة. وعلى كل ..

فالحق : ان الانقياد من صفات الفاعل وموجب لحسن الفاعل لا الفعل ولا ينفك الفعل المنقاد به عن عنوانه المبغوض لو كان في نفسه كذلك. والسر في ذلك : انا نرى بالوجدان ان الفعل قد يكون مبغوضا فعلا مع تحقق الانقياد به ، فلو كان الانقياد من صفات الفعل لزم ان يكون الفعل حسنا ، وهو لا يجتمع مع المبغوضية الفعلية. ومن هنا يقال انه لو صلى في الدار المغصوبة جهلا - بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الحرمة - لم تصح صلاته لأنها مبغوضة في حال الإتيان بها ، مع أنه يؤتى بها بقصد الإطاعة ، فلا تكون مقربة.

وبالجملة : تحقق الانقياد بالفعل المذموم والمبغوض في نفسه بالفعل امر لا إشكال فيه ويشهد له ملاحظة الأمثلة العرفية الكثيرة - فلو ضربك شخص بداعي الاحترام لتخيل ان هذا مصداق الاحترام ، فان الضرب لا يخرج بمقارنته للداعي المذكور عن المبغوضية لديك - ولو كان حسن الانقياد يسري إلى الفعل كان الفعل المنقاد به ممدوحا ومرغوبا فيه لا مبغوضا. فالحق ان الانقياد من صفات الفاعل لا الفعل.

ومن هنا يكون الاحتياط من باب الانقياد غير مجز وليس بموجب للامتثال ، سواء كان الامتثال التفصيليّ ممكنا أو لم يكن ممكنا ، فلا يكون الاحتياط في عرض الامتثال التفصيليّ ، كما لا يكون في طوله أيضا لعدم كون الفعل به مقربا.

إلا ان يدعى : بان الاكتفاء به مع عدم التمكن من الامتثال التفصيليّ ، لإلزام العقل به بعد دوران الأمر بينه وبين الإتيان بالفعل بداع آخر غير موجب للحسن الفاعلي ولا الفعلي ، والإتيان بالفعل لا بأي داع لأنه أفضل الافراد ، إذ

ص: 479

يرى العقل انه مع التمكن من الإتيان بالفعل المأمور به جزما فلا أقل من الإتيان بما يوجب الحسن الفاعلي والقرب من جهة الفاعل. فان الانقياد من جهة الحسن الفاعلي أعظم من الإطاعة ، لأنه يكشف عن زيادة قرب العبد من المولى وكونه في مقام العبودية بنحو أشد وآكد.

وبالجملة : الاكتفاء بالاحتياط مع عدم التمكن من الامتثال التفصيليّ لأجل انه أيسر الافراد المقربة - ولو فاعليا لا فعليا - وأفضلها.

ولكن التحقيق هو صحة الاحتياط مطلقا حتى مع التمكن من الامتثال التفصيليّ ، لكن لا بملاك الانقياد بل بملاك الإطاعة والموافقة. بيان ذلك : ان الأثر في كفاية الاحتياط في مقام الامتثال والثمرة إنما يظهر في مورد يكون الأمر المحتمل ثابتا في الواقع. فيقال : ان الامتثال الإجمالي هل يكفي في إطاعته وسقوطه أم لا؟. اما مع عدم وجوده واقعا فلا أثر للكلام في الاكتفاء بالاحتياط لعدم موضوع الاكتفاء وهو الأمر الواقعي.

وعليه ، فلما كان الاحتياط عبارة عن الإتيان بهذا الفعل بداعي موافقة الأمر الواقعي وامتثاله على تقدير وجوده واقعا ، فإذا فرض ان الأمر الواقعي موجود واقعا فقد تحقق الإتيان بالفعل بداعي موافقته ، لأن المفروض انه علق هذا المعنى وهو الإتيان بالفعل بداعي موافقة الأمر الواقعي على تقدير حاصل ، وهو وجود الأمر واقعا ، وإذا وجد المعلق عليه يحصل المعلق قهرا طبعا ، وقد علمت ان المعلق هو الفعل بداعي موافقة الأمر الموجود واقعا.

وبالجملة : المعتبر هو الإتيان بالفعل بداعي الموافقة ، وقد تحقق عن قصد واختيار لأنه قصد بنحو التعليق وفرض حصول المعلق عليه ، - وهذا نظير ما لو قصد تعظيم شخص إذا كان زيدا ، فظهر انه زيد فانه يقال انه عظم زيدا ، لأنه قصد تعظيمه وان لم يعلم بذلك ، لكنه قصد معلقا وقد ثبت المعلق عليه -. ولا يخفى ان الفعل بذلك يكون حسنا ومقربا لأنه يتعنون بعنوان موافقة الأمر

ص: 480

وتبعيته وأداء الوظيفة الثابتة في العهدة ، وهو من العناوين المقربة المحسنة كما لا يخفى.

وعليه ، فالاحتياط والامتثال الإجمالي يكون في عرض الامتثال التفصيليّ بملاك الإطاعة والموافقة لا الانقياد.

وملخص الكلام : انه بعد الاحتياط والإتيان بالامتثال الاحتمالي اما ان يكون هناك أمر في الواقع أو لا يكون. فان كان أمر في الواقع فقد تحققت إطاعته بالفعل وقصدت موافقته كما عرفت. وان لم يكن امر فلا كلفة عليه.

فالاحتياط موجب للاطمئنان في مقام الامتثال وعدم بقاء العبد في الحيرة من هذه الجهة ، فيحكم العقل باجزائه كما يحكم باجزاء الامتثال الجزمي. فلاحظ.

يبقى الكلام في امر خارج عما نحن فيه ، لكن نذكره استطرادا لعدم وقوع البحث عنه مستقلا ، وهو التشريع.

ويقع الكلام في انه من صفات الفعل أو الفاعل. والثمرة انه لو كان من صفات الفعل كان مفسدا للعبادة لو تحقق فيها أو في بعض اجزائها. بخلاف ما إذا كان من صفات الفاعل - كما التزم به صاحب الكفاية (1) - فانه لا يسري قبحه إلى الفعل كي يفسده إذا كان عبادة.

والحق انه من صفات الفاعل لا الفعل ، وذلك لأن التشريع كما يعرف عبارة عن إدخال ما ليس في الدين في الدين. ولا يخفى ان الدّين لا يتقوم بالافعال الخارجية وانما يتقوم بالاحكام الكلية ، اما الفعل الخارجي الّذي يطرأ عليه الحكم فليس من الدّين ، بل الدين هو الأحكام الكلية الشرعية. وعليه فالإدخال في الدين انما يتصور بالنسبة إلى الأحكام بالبناء والالتزام بحكم مع عدم كونه ثابتا ، ونسبته إلى الشارع مع عدم تحقق ثبوته ، اما نفس موضوعه الخارجي

ص: 481


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /187- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المطابق له فليس يتصف بعنوان التشريع إذ لا ينطبق عليه تعريفه. فالتشريع صفة وعنوان للفعل النفسيّ أعني البناء والالتزام بان هذا حكم اللّه وليس من صفات الفعل المأتي به خارجا الّذي هو موضوع التشريع.

ويشهد لما ذكرنا : انهم استدلوا (1) على حرمة التشريع بالآية الكريمة : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (2) ، مع ان الافتراء على اللّه انما يكون بنسبة امر له غير صادر منه ، وليس الافتراء يتحقق بالفعل الخارجي ، بل يتحقق بالكذب على اللّه اما قولا أو بناء والتزاما كما لا يخفى.

وبالجملة : التشريع مساوق للبدعة المتحققة بإثبات حكم في الشريعة غير ثابت عن اللّه ، وهو أجنبي عن موضوع الحكم المجهول ومتعلقه الخارجي. فكون التشريع من صفات النّفس والفاعل لا الفعل أمر ظاهر جدا ، فلاحظ وتدبر.

تذييل : هل يعتبر في صحة العبادة ومقربيتها وسقوط الأمر بها إضافتها إلى المولى من طريق الأمر الثابت المقصود امتثاله وإسقاطه ، أو لا يعتبر ذلك ، بل يكفي في سقوط الأمر وقوع العبادة بنحو قربي وبداع مقرب وان لم يكن بإضافته من طريق الأمر؟.

بيان ذلك : ان الأمر العبادي لا إشكال في سقوطه بالإتيان بمتعلقه بقصد امتثاله وإطاعته ، ولكنه هل يعتبر ذلك في سقوطه ، أو انه يكفي فيه الإتيان بمتعلقه مع ربطه بالمولى وإضافته إليه ولو لا من طريق هذا الأمر بل بطريق غيره؟. والكلام يقع في موردين :

المورد الأول : موارد التداخل ، كما إذا تعلق أمران بطبيعة واحدة ولم يكن

ص: 482


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /33- الطبعة الأولى.
2- سورة يونس الآية : 59.

متعلق كل منهما قصديا يتوقف حصوله على القصد إليه ، وقيل بإمكان الإتيان بفرد واحد بداعي امتثال كلا الأمرين فيسقطان معا ويتحقق امتثالهما ، وذلك نظير ركعتي الغفيلة وركعتي النافلة ، فان الأمر قد تعلق بكل منهما ، لكنه حقق انه يجتزئ مع قصد الغفيلة والنافلة بركعتين فقط ولا يحتاج إلى أربع ركعات ، فيقال حينئذ : انه هل يكفي في سقوط الأمر بالنافلة الإتيان بركعتين بقصد الغفيلة بدون قصد امتثال امر النافلة بدعوى كفاية إضافة الفعل إلى المولى من طريق الأمر بالغفيلة في امتثال الأمر بالنافلة فتحتسب الركعتان غفيلة ونافلة ، أو لا يكفي في سقوطه إلاّ بقصد امتثال الأمر بالنافلة؟ ، فلا تحتسب الركعتان الا عن الغفيلة لقصدها بخصوصها. ولا يخفى ان الكلام يبتني على ان لا يكون عنوان النافلة من العناوين القصدية كعنوان التعظيم ، بل من العناوين الواقعية المتحققة بذات العمل ، فانه لو كان من العناوين القصدية لا يتحقق امتثال أمرها بدون قصدها لعدم تحقق متعلق الأمر - أعني النافلة - بدون قصده ، بخلاف ما لو كان من العناوين الواقعية ، فان المتعلق حاصل وان لم يقصد وانما الإشكال في تحقق الامتثال به بدون قصد امره ، كما انه يبتني على عدم استظهار إرادة فردين من الدليل لا فرد واحد ، وإلاّ لم يصح التداخل. فلاحظ.

المورد الثاني : موارد توهم الأمر والإتيان بالفعل بداعي الأمر المتوهم ، كما لو تخيل انقضاء الوقت فصلى بنية القضاء ثم تبين ان الوقت باق وانه لا أمر بالقضاء ، فهل تكفي صلاته بنية القضاء في سقوط الأمر بالأداء أو لا تكفي؟.

اما مورد تعدد الأمر والإتيان بالفعل بداعي امتثال أحد الأمرين فلا إشكال في كونه مسقطا للأمر الثاني غير المقصود امتثاله ، لأن الفعل المأتي به متوفر على جوانب العبادية ومحققاتها على أي بناء في تحقق العبادة ، سواء قلنا بكفاية تعنون المأتي به بعنوان حسن في العبادية والمقربية أو اعتبرنا إضافته إلى المولى. فانه مضافا إلى كونه متعنونا بعنوان حسن وهو عنوان تبعية المولى

ص: 483

وإطاعته وموافقة أوامره مضاف إلى المولى ومرتبط به ، لأنه قد أتى به بداعي امتثال امره ، فهو مقرب وعبادة بلا كلام ، ولا يخفى ان الأمر العبادي ما يسقط بالإتيان بمتعلقه بنحو عبادي وقربي ، فيسقط الأمر الثاني غير المقصود ، إذ قد جيء بمتعلقه بنحو عبادي وقربي وان لم يربط بالمولى من طريقه ولا دليل على أكثر من ذلك.

واما مورد توهم الأمر ، فحيث ان الأمر المقصود امتثاله لا وجود له فلا يتعنون الفعل بعنوان موافقة الأمر ولا يكون الفعل في نفسه ذا عنوان حسن ولا يكون في البين سوى صفة الانقياد الحسنة ، فان قلنا بان الانقياد من صفات الفعل فيكون الفعل به حسنا ، اكتفي بالفعل في امتثال الأمر الموجود غير المقصود لوقوعه بنحو عبادي مقرب ، فيكون قد أتى بمتعلق الأمر بنحو عبادي. واما إذا قلنا - كما هو الحق على ما عرفت - بان الانقياد من صفات الفاعل لا الفعل لم يكن الفعل بنفسه عباديا ومقربا ، فلا يكفي في سقوط الأمر فلاحظ جيدا وتدبر.

هذا تمام الكلام في الواجب التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول - أعني ما لا يسقط الأمر به إلا بالإتيان به بقصد القربة ويقابله التوصلي -.

ويقع الكلام فعلا في التعبدي بالمعنى الثاني ، وهو ما أشرنا إليه في صدر المبحث من : انه ما لا يسقط به الأمر إلا بالمباشرة وان يكون عن إرادة واختيار. وان لا يكون بفعل محرم. ويقابله التوصلي وهو ما يسقط به الأمر ولو لم يكن بالمباشرة ، أو عن إرادة واختيار. أو بفعل غير محرم. وموضوع الكلام هو ان مقتضى الأصل في الواجبات هل يقتضي المباشرة ، أو الإرادية أو عدم تحققه بفعل محرم أو لا؟ ، فيقع الكلام في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في ان مقتضى الأصل الأولي في الواجب هل هو المباشرة فلا يسقط الأمر بفعل الغير أو لا؟.

ص: 484

وهذه الجهة لم تنقح في كلام الاعلام بالنحو اللازم ، وقد وقع الخلط في كلامهم بين ما يرتبط بها وما لا يرتبط ، ولا بد من تحقيق النيابة قبل التعرض لأصل الكلام في لزوم المباشرة وجواز الاستنابة. وتحقيق الحال في النيابة بنحو تعرف وجه الغموض الّذي سنشير إليه في كلمات بعض الاعلام : ان الكلام فيما يرتبط بالنيابة ..

تارة : يوقع في معنى النيابة وبيان حقيقة كون الشخص نائبا عن الآخر. فهل النيابة تنزيل الشخص النائب نفسه منزلة المنوب عنه فيكون وجودا تنزيليا للمنوب عنه؟ ، أو انها تنزيل النائب عمله منزلة عمل المنوب عنه؟. أو انها لا ترتبط بالتنزيل ، بل هي عبارة عن الإتيان بالعمل بداعي ترتب آثاره الوضعيّة والتكليفية في حق المنوب عنه كالإتيان بالصلاة بداعي ترتب سقوط الأمر المتعلق بالمنوب عنه أو ترتب حصول الثواب عليه للمنوب عنه أو نحو ذلك؟.

ولا يخفى ان تحقيق معنى النيابة واختيار أحد هذه المعاني لا يرتبط بما نحن فيه أصلا ، بل الكلام فيما نحن فيه من كون الأصل صحة النيابة في الفعل الواجب وعدمها جار على جميع هذه التقارير في معنى النيابة ، فلا يهمنا فعلا تحقيق ذلك فله محل آخر.

وأخرى : يوقع الكلام في ان ظاهر الدليل المتكفل للأمر بشيء هل تعلق الأمر بالفعل أعم من ان يوجده المكلف مباشرة وتسبيبا أو لا؟. وقبل إيضاح ذلك نشير إلى شيء وهو ان الأفعال التسبيبية الصادرة من غير المسبب على نحوين :

نحو ينسب إلى المسبب ، كما ينسب إلى الفاعل على حد سواء كالقتل ، فانه لو سبب شخص ان يقتل آخر شخصا ، فانه يقال عرفا أنه قتل ذلك الشخص كما يقال ذلك لمن باشر القتل. ومثل هذا على قسمين : الأول : ما يكون له ظهور - ولو بواسطة القرينة العامة - في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء

ص: 485

والخياطة ونحوهما ، فان إطلاقهما ظاهر في إرادة التسبيب لا المباشرة. والآخر : ما لا ظهور له في ذلك كالقتل فانه لا ينصرف إلى القتل التسبيبي.

ونحو لا ينسب إلى المسبب مهما ضعفت إرادة الفاعل وقويت إرادة المسبب كالأكل والمشي ، فانه لو سبب زيد ان يمشي عمرو أو يأكل بنحو أكيد وشديد بحيث كان عمرو مسلوب الإرادة تقريبا ، فلا يقال عن زيد انه مشى أو أكل ، بل ينسب الفعل إلى الفاعل فقط.

فالأفعال التسبيبية على نحوين : ما ينسب إلى المسبب كما ينسب إلى المباشر. وما لا ينسب إلى المسبب وهذا امر عرفي واضح. ولو لا خوف حصول التطويل لأشرنا إلى ضابط كل نحو من الأفعال.

وعلى كل فكل فعل يمكن ان يكلف به الشخص بنحو المباشرة وعلى ان يأتي به بنفسه ، ويمكن ان يكلف به أعم من المباشرة والتسبيب بان يكلف بإيجاد هذا الأمر في الخارج سواء بنفسه أو بتسبيبه لحصوله من الغير. فان إمكان صدور الفعل من الغير بتسبيبه بحيث يكون لتسبيبه جهة دخل في حصول الفعل ولولاه لما حصل ، يصحح تعلق الحكم بفعل الغير بلحاظ هذا المعنى.

فيقع الكلام في ان مقتضى الدليل الأولي هل هو تعلق الحكم بالفعل المباشري أو الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. ويظهر مما ذكرنا ان ثبوت سقوط التكليف بالفعل التسبيبي الصادر من الغير مرجعه إلى كون الواجب أمرا تخييريا مرددا بين فعل الشخص مباشرة والفعل تسبيبا ، فيصير المورد من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأن الفعل التسبيبي إذا كان محصلا للغرض فلا وجه لتعيين الفعل المباشري على المكلف.

ولكن المحقق النائيني قدس سره نفي ذلك بوجهين :

الأول : ان الاستنابة إذا كانت طرفا للوجوب التخييري كان مقتضى ذلك سقوط الوجوب بمجرد الاستنابة ، وهو باطل جزما لعدم فراغ ذمة الولي

ص: 486

بمجرد الاستنابة قطعا.

الثاني : ان الإجماع قام على جواز التبرع في كل ما تدخله النيابة ، ولا معنى لكون فعل الغير من أطراف الوجوب التخييري (1).

ويرد على الأول : ان طرق التخيير ليس هو الاستنابة ، بل فعل الغير الصادر بتسبيب المكلف ، فلا يسقط التكليف بمجرد الاستنابة.

ويرد على الثاني : ان فعل الغير تبرعا إذا كان مسقطا يكون من مصاديق سقوط الواجب بغيره ، وهو ليس ممتنعا ، بل قد التزم بسقوط وجوب الصلاة على الميت بفعل الصبي المميز. وذلك لا ينافي كون الفعل التسبيبي طرفا للوجوب التخييري.

ثم لا يخفى عليك ان محل الكلام في دوران الأمر بين المباشرة أو الأعم منها ومن التسبيب انما هو في غير القسم الأول من أقسام الأفعال التي أشرنا إليها مثل البناء ، لأن هذا القسم عرفت ان الظهور الأولي فيه ما يعم الفعل التسبيبي فلا شك فيه كما لا يتأتى في القسم الثالث إذ أضيفت المادة إلى المكلف مثل : « كل » و: « قم » لأن فعل الغير لا يسند بحال إلى المكلف فلا معنى للتخيير فيه إذا كان المطلوب أكل وقيام المكلف نفسه وانما يقع البحث في هذا القسم إذا لم يتعلق التكليف بالمادة المضافة إلى المكلف ، بل توجه التكليف إلى الشخص بإيجاد المادة بلا إضافتها إليه ، كما لو قال المولى : « أريد منك إيجاد أكل هذا الطعام » ، فانه كما يتحقق بالإيجاد المباشري يتحقق بالإيجاد التسبيبي كما يقع في القسم الثاني وهو ما ينسب إلى المكلف مع التسبيب لكن لا ظهور له أوليا في الأعم منه كالقتل. فمحل الشك هذان القسمان وقد عرفت رجوع الشك إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ص: 487


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 98 - الطبعة الأولى.

ولا يخفى ان صحة التسبيب وإسقاطه الأمر ولو دل الدليل عليها لا يقتضي سقوط الأمر بفعل الغير تبرعا وبدون تسبيب ، بدعوى ان صحة السبب تكشف عن ان المصلحة تتحقق بمجرد حصول الفعل في الخارج من أي شخص كان.

وذلك لإمكان ان لا تتقوم المصلحة بنفس الفعل وذاته بل بالفعل المستند وجوده إلى هذا الشخص بنحو استناد ، اما بالمباشرة أو بالتسبيب. فإذا دل الدليل على إجزاء فعل الغير عن تسبيب فلا يلازم اجزاء فعل الغير لا عن تسبيب ، بل تبرعا لعدم استناده إلى المكلف ، وإمكان تقوم المصلحة بجهة استناد وجود الفعل إليه.

كما انه لا ملازمة بين صحة التسبيب وبين صحة النيابة في الفعل ، فإذا دل الدليل على إجزاء التسبيب فلا دلالة له على اجزاء الاستنابة ، وذلك لأن جواز التسبيب يقتضي إجزاء فعل الغير وسقوط الأمر به إذا وقع عن تسبيب إليه ، ومن الظاهر ان الغير لا يقصد بفعله النيابة عن المسبب ، بل يأتي بالفعل استقلالا فيسقط الأمر بمجرد ذلك. ومن المعلوم انه لا يكفي في باب النيابة مجرد إتيان الغير بالفعل ، بل لا بد من انضمام خصوصية قصد النيابة - بأي معنى فسرنا النيابة - إليه ، فإتيان الفعل لا يكفي في سقوط الأمر - في باب النيابة - ، بل يعتبر ان يكون الإتيان به مع القصد الخاصّ في سقوط الأمر. وعليه فباب النيابة غير باب تعلق الأمر بالفعل أعم من المباشري والتسبيبي.

وانما النيابة عبارة عن الإتيان بالفعل بقصد خاص ، فيقع الكلام في ان مقتضى الأصل الأولي والدليل المتكفل لثبوت الحكم للفعل هل هو عدم سقوطه إلا بفعل الشخص نفسه أو يسقط بفعل الغير مع القصد الخاصّ؟.

وليعلم انه إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فلا ملازمة بينها وبين صحة مطلق النيابة ، فلا يدل على سقوط الأمر بفعل الغير بقصد النيابة تبرعا وبدون

ص: 488

تسبيب ، وذلك لجواز ان يكون الغرض الحاصل بهذا الفعل لا يتقوم بذات الفعل مع القصد الخاصّ ، بل انما يحصل بالفعل الخاصّ المستند إلى المكلف بنحو استناد كالتسبيب ، فدلالة الدليل على صحة الاستنابة لا تلازم دلالته على صحة النيابة مطلقا ولو تبرعا لإمكان دخل جهة التسبيب في تحقق المصلحة وحصول الغرض ، فيكون الغرض حاصلا بفعل الشخص أو بفعل الغير الخاصّ عن تسبيب إليه دون غير ذلك.

ومن هنا يعلم ان باب النيابة يرجع إلى ان الغرض من الأمر يتحقق بالفعل الصادر عن الغير بقصد النيابة ، إما مطلقا ولو لم يكن عن تسبيب لو دل الدليل على صحة النيابة بقول مطلق. أو في خصوص ما إذا كان عن تسبيب لو دل الدليل على صحة الاستنابة فقط. ولكن النيابة في كلا الموردين لا يمكن إرجاعها إلى الوجوب التخييري.

اما المورد الأول : وهو ما كان الغرض يحصل بالفعل الصادر من الغير بقصد النيابة ولو لم يكن عن تسبيب ، فلان فعل الغير بهذه الخصوصية إذا كان وافيا بالملاك ومحصلا للغرض على نحو فعل الشخص نفسه وبحده بحيث لم يختلفا في شيء من ذلك كي يتحقق ملاك الوجوب التخييري بينه وبين فعل الشخص عن استنابة ، لزم ان يتوجه الأمر لذلك الغير بالفعل بالقصد الخاصّ لكونه محصلا للغرض ووافيا بالملاك ، فلا وجه لعدم تعلق الأمر به أيضا كما تعلق بنفس الشخص. ومن البديهي ان الأمر لا يتعلق بالغير بالإتيان بالفعل النيابي وهو مما يكشف عن ان الفعل النيابي وان كان محصلا للغرض ومسقطا للأمر لكنه بنحو لا يستلزم تعلق الأمر به وقاصر عن جعله أهلا للأمر ، اما لوجود المانع أو لقصور المقتضي نفسه. وعليه فكونه مسقطا للأمر ومحصلا للغرض لا يستلزم أهليته لتعلق الأمر ، وعليه فقيام الدليل على النيابة مطلقا لا تكشف عن كون الاستنابة أحد طرفي الوجوب التخييري وتعلق الأمر التخييري بالفعل والاستنابة ، بل

ص: 489

غاية ما يدل عليه الدليل كفاية الاستنابة في حصول الغرض وسقوط الأمر ولا ملازمة بين ذلك وبين علّية الغرض الحاصل ، للأمر التخييري بها. وعليه فإرجاع النيابة إلى الوجوب التخييري لا وجه له ولا دليل عليه.

واما المورد الثاني : وهو ما إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فقط لا مطلق النيابة ، فلأنه وان لم يستكشف كون الغرض بنحو غير مؤهل لتعلق الأمر ، إلاّ ان الالتزام بان فعل الغير التسبيبي متعلقا للأمر التخييري وكونه عدلا لفعل الشخص نفسه وفي عرضه ينافي قصد النيابة فيه. لأن النيابة كما عرفت عبارة عن تنزيل النائب نفسه أو عمله منزلة نفس المنوب عنه أو عمله. أو عبارة عن الإتيان بالفعل بداعي ترتب آثاره في حق المنوب عنه ، ولا يخفى ان قصد هذه المعاني يتوقف على ان يكون الأمر متعلقا بخصوص فعل الشخص كي ينزل عمل آخر منزلته أو شخص آخر منزلة المكلف أو الإتيان بعمل بداعي ترتب آثاره في حق غير الفاعل وهو المنوب عنه ، اما إذا كان الأمر متعلقا بنفس الفعل النيابي ، فلا معنى للإتيان به بهذه القصود لأن فعل المنوب عنه مأخوذ في موضوع الفعل النيابي الّذي يستلزم كونه واجبا ومتعلقا للأمر في حال النيابة ، بحيث يكون الداعي للنيابة إسقاط الأمر المتعلق به ، فيمتنع ان يكون الفعل النيابي عدلا له وفي عرضه ، إذ معنى ذلك انه لو جيء بالفعل النيابي كان فعل المنوب عنه غير واجب أصلا وهو خلف الفرض.

وبالجملة : النيابة في طول تعلق الأمر بفعل المنوب عنه ، فيمتنع ان تؤخذ عدلا له وفي عرضه كما هو شأن الواجب التخييري.

والمتحصل : انه لا يمكن إرجاع الاستنابة - والمقصود منها عمل الغير الخاصّ التسبيبي - إلى الواجب التخييري في كلا الموردين ، بل الدليل الدال على صحة النيابة أو الاستنابة انما يدل على ترتب الغرض على عمل الغير النيابي مطلقا أو مع التسبيب إليه.

ص: 490

وعليه ، فمع الشك في صحة النيابة أو الاستنابة لا يرجع ذلك إلى الشك في التعيين والتخيير ، بل يرجع ذلك إلى ان الغرض الباعث للأمر هل يتحقق بالفعل النيابي مطلقا أو عن تسبيب ، فيسقط الأمر به أو لا يتحقق فلا يسقط الأمر به؟. ومن الواضح ان دليل الحكم لا نظر له إلى هذه الجهة كي تنفي بإطلاقه أو لا تنفي. ولا يرتبط مدلوله بالمشكوك بالمرة ، فالمرجع حينئذ هو الأصل العملي ، وهو يقتضي عدم صحة النيابة ، لأنه يشك بالفعل النيابي في سقوط الأمر لحصول الغرض وعدم سقوطه لعدم حصول غرضه ، فلا يجزم بحصول الامتثال بالفعل النيابي ، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم الإتيان بالعمل مباشرة لتحصيل العلم بالامتثال. فلاحظ.

هذا تحقيق الكلام في المقام فيما يرتبط بالنيابة والاستنابة.

وقد نهج المحقق النائيني قدس سره في تحقيقه نحوا آخر من البيان لا يخلو عن مؤاخذات. وهي : - مضافا إلى ما تعرض إليه من ذكر احتمالات النيابة وبناء المسألة عليها ، إذ قد عرفت ان تحقيق الكلام في النيابة ومقتضى الأصل فيها لا يختلف فيه الحال على جميع احتمالات النيابة ، فالكلام في معنى النيابة وتحقيقه له مجال آخر غير ما نحن بصدده من تحقيق ما يقتضيه الأصل في النيابة - في موارد متعددة من كلامه :

الأول : ما أفاده من امتناع إرجاع الاستنابة إلى تعلق التكليف بالعمل من المكلف ، أعم من المباشرة والتسبيب. بتقريب : ان عمل الغير لا يعد عملا تسبيبيا للمستنيب مع كون النائب ذا إرادة تامة مستقلة ، بل العمل عمل النائب والحال هذه ، وليس للمستنيب غير التسبيب وهو غير الواجب ، نعم انما يستند عمل الغير إلى المسبب فيما إذا لم يكن للمباشرة إرادة أصلا أو كانت له ولكن كانت ضعيفة جدا بحيث يعد العمل عملا للمسبب ، كعمل المجانين والصبيان

ص: 491

الّذي يكون عن تسبيب المكلف (1).

وتتضح المؤاخذة في هذا التقريب بما عرفت : من ان المناط في استناد العمل إلى الشخص المسبب ونسبته إليه ليس عدم توسط إرادة مستقلة من المباشر.

إذ هناك من الأفعال ما لا يصح استناده إلى المسبب وان لم يكن المباشر بذي إرادة أصلا ، أو كان ذا إرادة ضعيفة جدا بحيث تلحق بعدم الإرادة ، كالأكل والمشي ونحوهما من الأفعال والأسباب ، فانه لو سبب شخص ان يأكل مجنون لا يقال عن المسبب انه أكل كما هو واضح جدا.

كما ان هناك من الأفعال ما تصح نسبتها إلى المسبب كما تنسب إلى المباشر ، وان كان المباشر ذا إرادة تامة مستقلة ، كالإحراق والقتل ونحوهما من المسببات التوليدية.

فالمناط على الإسناد وعدمه ليس على توسط الإرادة وعدمها كما عرفت.

هذا مضافا إلى ان استناد وجود الفعل إلى تسبيب المسبب بحيث لو لا تسبيبه لم يحصل ، كاف في تعلق التكليف به وان لم ينسب الفعل إلى المكلف ولا يعد من أفعاله الاختيارية ، فيكلف العبد بإيجاد الفعل في الخارج بطريقه سواء كان بنفسه أو بإحداث الإرادة في نفس الغير المباشر فيأتي به بحيث لو لا تسبيبه لم يتحقق ، فان التكليف بمثل ذلك معقول لا محذور فيه وان لم يكن الفعل من افعال المكلف.

ويشهد لذلك صحة تعلق النذر بما لا يؤتى به مباشرة عادة ، بل بتوسط فعل الغير الإرادي ، ووجوب الوفاء به لاستتباعه التكليف ، كما لو نذر ان يبني مسجدا ، فان البناء لا يباشره المكلف المستنيب مع انه مكلف به.

ص: 492


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 97 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : التكليف لا يتقوم بنسبة الفعل المأمور به إلى المكلف ، بل يتقوم بتمكن المكلف من تحقيق هذا الفعل خارجا بتسبيبه اما بمال أو بغيره ، بحيث يستند وجوده خارجا إليه وان لم ينسب نفس الفعل إليه. فالتكليف بفعل الغير تسبيبا إليه جائز عقلا لتمكن المكلف من تحقيقه.

الثاني : ما أفاده قدس سره من عدم كون النيابة عبارة عن إيجاب العمل على المكلف ، أعم من بدنه الحقيقي أو التنزيلي ، بان ينزل النائب بدنه منزلة بدن المنوب عنه ، بتقريب : ان التنزيل المدعى مما لا يخطر ببال النائب والمستنيب أصلا (1).

وموضوع المؤاخذة في ذلك هو ما يظهر منه قدس سره من الالتزام بإمكان التكليف فيه بنحو التخيير على هذا المبنى وتأتيه لو لا فساده في نفسه ، باعتبار انه أمر على خلاف المرتكز العرفي في باب النيابة.

مع انه يمكن المناقشة فيه ، بان التكليف على هذا المبنى يتصور ثبوتا على نحوين :

الأول : ان يكون متعلقا بالوجود الحقيقي للمكلف وبالوجود التنزيلي له الّذي هو الوجود الحقيقي للنائب ، فيكون موضوعه كلا الشخصين على نحو الوجوب الكفائي.

ولا يخفى انه بهذا النحو خلاف فرض باب النيابة ورجوعها إلى التخيير في الواجب ، كما انه لا يلتزم به أحد حتى المحقق النائيني ، إذ ليس من يلتزم بان النيابة من باب الواجب الكفائي.

الثاني : ان يكون التكليف متعلقا بالشخص بوجوده الحقيقي ، لكن يطلب منه العمل أعم من الصادر عن وجوده الحقيقي أو وجوده التنزيلي فيرجع إلى

ص: 493


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 98 - الطبعة الأولى.

التخيير في الواجب.

ويرد عليه ما أورده قدس سره على التصوير الأول للنيابة من : ان فعل النائب الّذي هو وجود تنزيلي للمستنيب ليس فعلا اختياريا له كي يتعلق به تكليفه ، ومجرد التنزيل والادعاء لا يوجب اختياريته ، إذ لا يغير الواقع عما هو عليه فلاحظ.

الثالث : ما اختاره من ان النيابة عبارة عن تنزيل النائب عمله منزلة عمل المنوب عنه ، ثم إرجاعها إلى الوجوب التخييري.

فانه يرد عليه : بان فعل الغير إذا لم يكن اختياريا للمكلف - كما اختاره أولا - ، فتنزيل الغير عمله منزلة عمل المكلف المستنيب لا يصحح نسبة العمل إلى المنوب عنه ولا يوجب كونه عملا اختياريا له بعد فرض كون عمل الغير إراديا للغير ، إذ التنزيل لا يغير الواقع ولا يزيله عما هو عليه.

الرابع : ما ساقه لتحقيق المطلب بعد اختياره لمعنى النيابة بما عرفته من ان العمل الواجب على الولي فيه جهات ثلاثة :

الأولى : الوجوب التعييني من جهة المادة وهو نفس الصلاة مع قطع النّظر عن مصدره بمعنى ان المولى يريد أصل وجود الصلاة خارجا ولا تسقط بمجرد الاستنابة.

الثانية : التخيير من جهة المصدر ، بمعنى ان الولي مخير بين إصدارها بالمباشرة وبين الاستنابة.

الثالثة : الوجوب المشروط بعدم فعل الغير.

وبعد هذا أفاد انه مع الشك في سقوط الواجب بالاستنابة وعدمه ، فمرجع الشك إلى الشك في الوجوب التخييري من ناحية الإصدار. وهذا ينفى بظهور الخطاب في المباشرة ، لأن نفس توجه الخطاب إلى المكلف من دون تقييد يرفع الشك من هذه الجهة ، وادعى ان الظهور من هذه الجهة أقوى من ظهور

ص: 494

الصيغة في التعيين من جهة المادة (1).

والمؤاخذة في هذا الكلام من جهات :

الأولى : سوقه مثال وجوب القضاء على الولي لمورد الاستنابة ، فان المثال أجنبي عن مقام الاستنابة ، بل يرتبط بمقام المباشرة والتسبيب.

وذلك : لأن قد عرفت ان النيابة عبارة عن الإتيان بالفعل الواجب على الغير بقصد خاص ، لا الإتيان به مطلقا بدون قصد النيابة كما هو الحال في باب التسبيب ، فالاستنابة عبارة عن تسبيب خاص وهو التسبيب للفعل بقصد الخصوصية ، لا تسبيب مطلق الّذي يكفي فيه الإتيان بمجرد الفعل الواجب على المسبب.

والّذي يجب على الولي هو الإتيان بالصلاة بقصد النيابة عن الميت ، فالواجب عليه هو الفعل النيابي ، فإذا جاء غير الولي بالصلاة عن الميت بدلا عن الولي بتسبيب الولي فانما يأتي بنفس ما وجب على الولي - أعني الفعل النيابي - بلا ان يقصد فيه النيابة عن الولي ، فهو في الحقيقة نائب عن الميت ، غاية الأمر انه قام بالفعل الواجب على الولي ، فإتيان الغير بالصلاة نائب عن الميت بدلا عن الولي ليس من باب النيابة عن الولي لعدم اعتبار قصد خصوصية النيابة عن الولي في الفعل ، بل من باب التسبيب بلحاظ ان الواجب على الولي الفعل النيابي أعم من المباشري والتسبيبي. وعليه فالشك في إجزاء إتيان الغير به عن تسبيب لا يرجع إلى الشك في صحة الاستنابة فيه وان الواجب هل هو خصوص الإتيان به مباشرة أو انه مخير بين المباشرة والاستنابة؟. بل يرجع إلى الشك في صحة التسبيب وان الواجب هل هو خصوص الفعل المباشري أو انه الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. والدليل الدال على صحة إتيان غير الولي لا

ص: 495


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 98 - الطبعة الأولى.

يدل على التخيير بين المباشرة والاستنابة ، بل يدل على التخيير بين المباشرة والتسبيب.

والخلاصة انه ليس المثال من أمثلة موارد الشك في الاستنابة ، بل من أمثلة موارد الشك في التسبيب ، إذ لا يعتبر في فعل الغير أكثر من الواجب على المسبب المكلف به. نعم لا بد على الغير من قصد النيابة عن الميت ، لكنه باعتبار كونها دخيلة فيما يجب على الولي فإيراد المثال للشك في الاستنابة غير سديد ، ولعل منشأ الاشتباه هو اعتبار قصد النيابة في فعل النائب والغفلة عن انه معتبر في فعل الولي نفسه أيضا.

الثانية : ما ذكره من اشتمال التكليف النيابي على التخيير من جهة الإصدار ، وان المطلوب هو المادة سواء كانت منه مباشرة أو من غيره بنحو الاستنابة.

فانه يرد عليه : ان التكليف اما ان يتعلق بكلا الشخصين ، بمعنى ان يكون كل من المستنيب والنائب موضوعا للتكليف. أو انه يتعلق بخصوص المستنيب لكنه مخير شرعا بين الإتيان به بنفسه أو بالاستنابة.

فالفرض الأول يرجع إلى الوجوب الكفائي ، وهو مضافا إلى عدم تناسبه ، مع التعبير بالتخيير مما لا يلتزم به أحد في باب النيابة ، إذ لا يلتزم بان الفعل يجب كفاية على النائب بالاستنابة. نعم هو يجب عليه بالوجوب الاستيجاري وهو غير الوجوب الكفائي.

والفرض الثاني يتنافى مع ما تقدم منه من ان فعل الغير الإرادي غير قابل لتعلق التكليف به لعدم كونه فعل الشخص ، فلا معنى - بناء على هذا - من توجه التكليف إليه بالإصدار ، اما بالإصدار مباشرة أو بالإصدار من الغير عن تسبيب واستنابة.

الثالثة : ما أفاده من ظهور اعتبار المباشرة من نفس توجه الخطاب إلى

ص: 496

المكلف.

فانه غير سديد ، وذلك لأن توجه الخطاب إلى المكلف أمر يشترك فيه الوجوب التعييني والتخييري ، فان الخطاب في كل منهما متوجه إلى المكلف خاصة والتكليف متعلق به بخصوصه ، إلا أنه تارة : يكون محركا نحو امر واحد معين.

وأخرى : نحو امرين على سبيل التخيير ، فنفس توجه الخطاب إليه - على هذا - لا يدل على تعيين الفعل عليه مباشرة ونفي التخيير بعد فرض ان كلا الفعلين يسندان إليه وانه يمكن ان يكون مخيرا بين الإصدار بنفسه والإصدار بالواسطة ، لأن الخطاب في الواجب التخييري متوجه إلى المكلف أيضا. فغاية ما يظهر فيه توجيه الخطاب هو تعيين التكليف عليه ولزوم إتيانه بالفعل واما إتيانه بنحو المباشرة أو بنحوها ونحو التسبيب ، فهو خارج عن ظهور الخطاب. نعم توجيه الخطاب إليه ينافي الوجوب الكفائي لعدم توجه الخطاب إلى أحدهما خاصة فيه ، لكنه غير الفرض وليس بمفروض في المقام.

وبالجملة : فدعوى ظهور توجيه الخطاب في تعيين المباشرة غير وجيهة.

ودعوى : ظهور ذلك عرفا كما يشهد بذلك ملاحظة موارد استعمال الجملة الخبرية ، فإذا قيل : « صام زيد أو صلّى ». فانه لا إشكال في ظهورها في صدور الفعل منه مباشرة وبنفسه ، فكذلك الجملة الإنشائية ، فإذا قيل : « صم أو صلّ » كانت ظاهرة في طلب الصيام أو الصلاة منه بنفسه. فليس ما ذكر جزافا ، بل له شاهد عرفي لا ينكر.

مندفعة : بما تقدم من بيان اختلاف الأفعال وأنها على أقسام ، فالاستشهاد على ظهور اسناد الفعل في إرادة المباشرة ببعض الأمثلة على حكم مطلق الأفعال في غير محله ، فان الأمثلة المسوقة من قبيل ما لا ينسب إلى الشخص المسبب بالمرة مثل الأكل ، وهي لا تكون قرينة على غيرها مما عرفت نسبتها إلى المسبب كالقتل ، بل عرفت ظهور بعضها في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء. هذا

ص: 497

مع ما تقدم من ان الأفعال التي لا تنسب إلى المسبب داخلة في محل الكلام إذا تعلق الأمر بوجود الطبيعة من دون إضافة إلى المكلف ، كما لو قال : « يجب عليك إيجاد الصلاة أو الأكل ». فانه كما يصدق على الإيجاد المباشري يصدق على الإيجاد التسبيبي.

وبالجملة : الأمثلة المسوقة أمثلة لما هو خارج عن موضوع البحث فلا تصلح شاهدا عليه. فلاحظ.

وتندفع أيضا : بوجود الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية الطلبية باشتمال الجملة الخبرية على خصوصية تستدعي الظهور المذكور. وذلك لأن هيئة الفعل الماضي أو المضارع تدل على النسبة الصدورية والربط الخاصّ الصدوري بين الفاعل والفعل ، وهذا الربط يلازم صدور الفعل منه نظير هيئة الإضافة مثل : « صوم زيد » ، فان الإضافة تدل على ربط خاص ونسبة مخصوصة تلازم صدور الفعل من الفاعل. وليس كذلك الجملة الإنشائية الطلبية ، إذ غاية ما تدل عليه هي النسبة الطلبية بين الآمر والمأمور به والمأمور الملازمة للبعث نحو الفعل والتحريك نحوه. اما نسبة الفعل إلى المأمور الفاعل فلا تتكفله هيئة الطلب ، فلا دلالة لها إلا على توجه الخطاب للمكلف لأنه طرف النسبة ، اما كيفية الفعل والإصدار فهو أجنبي عن مفاد الكلام. فالفرق بين الموردين واضح.

وعليه ، فالدعوى بظهور خطاب الأمر في إرادة الفعل المباشري غير خالية عن الخدشة.

ويقع الكلام بعد ذلك في موضوعه ، وهو ان مقتضى الأصل في الواجبات هل يقتضي المباشرة أو انه لا يقتضيها فيسقط بفعل الغير عن تسبيب ، أو لا عن تسبيب بل عن تبرع من الغير؟ ، بلا نظر إلى النيابة ، بل الكلام في مسقطية إتيان الغير بنفس الفعل الواجب كأداء الدين وغسل الثوب ونحوه.

والبحث في مقامين :

ص: 498

المقام الأول : في مقتضى الأصل اللفظي.

فنقول : انه ان تصورنا إمكان تعلق الحكم بفعل الغير التسبيبي بحيث يمكن التخيير شرعا بينه وبين الفعل المباشري ، بالتقريب الّذي قدمناه من استناد الوجود إلى المسبب وان لم ينسب إليه الفعل ، كان الشك في اعتبار المباشرة أو عدم اعتبارها من الشك في التعيين والتخيير ، لأنه يشك في تعلق التكليف بخصوص الفعل المباشري أو به وبالفعل التسبيبي بنحو التخيير بينهما ، وقد تقرر في محله - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - انه مع دوران الأمر بين التعيين والتخيير فالإطلاق يقتضي التعيين ونفي التخيير ، ولا كلام فيه.

وان لم نلتزم بإمكان التخيير بين فعل الشخص وفعل الغير التسبيبي ، كما لا يلتزم بإمكانه بينه وبين فعل الغير التبرعي فمرجع سقوط الوجوب عن الشخص بفعل الغير - على تقدير قيام الدليل عليه - ليس هو أخذه بنحو الواجب التخييري وكونه عدلا للوجوب ، بل إلى انه محقق لملاك الحكم ومحصل لغرضه فيسقط الأمر لحصول غرضه وتبعية وجوده للغرض كما لا يخفى. وعليه فمع إتيان الغير بالفعل يشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه ، ومقتضى إطلاق الدليل ، ثبوت التكليف مطلقا حتى في حال إتيان الغير بالفعل ، فالإطلاق يقتضي المباشرة. وعدم كفاية التسبيب أو التبرع من الغير.

والمقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي.

اما في المورد الأول - أعني ما كان الشك فيه من الشك في التعيين والتخيير - : فحيث انه من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فهو يتبع ما يختار في تلك المسألة من أصالة البراءة أو الاحتياط. والّذي ثبت بالتحقيق هو اختيار الاحتياط الّذي يقضي بالتعيين وعدم كفاية الفعل الآخر المشكوك.

وعلى كل ، فالجزم به هنا تابع لما يجزم به في تلك المسألة ، فان المورد من مصاديقها.

ص: 499

واما المورد الثاني : فهل يتبع في الأصل مسألة التعيين والتخيير ، أو انه مجرى البراءة ولو كانت تلك المسألة مجرى الاحتياط؟ أو يجري فيه الاحتياط ولو كانت تلك المسألة مجرى البراءة؟. احتمالات ثلاثة. وتحقيق الكلام يقتضي بيان الفرق الموضوعي بين المسألتين ليتضح مقدار ارتباط إحداهما بالأخرى وعدم ارتباطهما.

فنقول : ان عمدة ما قيل في حقيقة الوجوب التخييري وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون وجوب كل من الفعلين مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، بحيث يكشف الإتيان بأحدهما عن عدم وجوب الآخر واقعا ومن أول الأمر.

الثاني : ان يكون متعلق الوجوب عنوان : « أحدهما » ، وهو جامع انتزاعي ينطبق على كل من الفعلين.

الثالث : ان يكون كل منهما متعلقا لوجوب خاص ومرتبة خاصة من الإرادة وسط بين الوجوب التعييني الّذي لا يجوز ترك متعلقه ولو إلى بدل ، والاستحباب الّذي يجوز ترك متعلقه مطلقا ولو لا إلى بدل.

تقتضي هذه المرتبة عدم جواز الترك إلا إلى بدل ، فهو يختلف عن الوجوب التعييني سنخا وهكذا عن الاستحباب.

وهذا اختيار صاحب الكفاية (1). الّذي أورد عليه : بأنه خروج عن محل الكلام في الوجوب التخييري (2) ، إذ المقصود تعيين ذلك السنخ وتلك المرتبة ، وقد بينا في محله عدم تمامية الإيراد. وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في محله.

ولا يخفى ان ما نحن فيه يختلف موضوعا عن الوجوب التخييري بكل معانيه المتصورة الثلاثة ، إذ ليس متعلق الوجوب فيه هو عنوان أحدهما والجامع

ص: 500


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /141- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 254 - الطبعة الأولى.

الانتزاعي ، بل متعلقه نفس الفعل بعنوانه الخاصّ.

كما انه ليس الفعل متعلقا لسنخ وجوب لا يمنع من الترك إلى بدل ، إذ لا عدل له ولا بدل كما هو الفرض. وسيجيء تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.

كما ان وجوبه ليس مشروطا بعدم فعل الآخر فانه وان أمكن تصور ذلك ثبوتا بان يكون وجوب الفعل على الشخص مشروطا بعدم فعل الغير له بحيث لو فعله الغير كشف عن عدم تعلق الوجوب بالشخص أصلا ومن أول الأمر ، لكنه مجرد تصور وخلاف الفرض ، فان المفروض كون فعل الغير له شأنية إسقاط التكليف عن الشخص لا بيان عدم وجوده ، فلا بد من فرض ثبوت التكليف على الشخص ثم يسقط بفعل الغير.

كما انه لا يلتزم بذلك أحد في مورد الثابت ، فلا يلتزم أحد بان قيام شخص بوفاء دين الآخر كاشف عن عدم توجه التكليف للآخر في الواقع ، إذ من البديهي تعلق التكليف به قبل وفاء الغير كما لا يخفى ، وعليه فالالتزام بالبراءة في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير على المسالك الثلاثة ..

بتقريبها على المسلك الأول بأنه مع الإتيان بالفعل الآخر يشك في أصل ثبوت الوجوب ، فهو شك في التكليف وهو مجرى البراءة.

وبتقريبها على المسلك الثاني بان التكليف متعلق بالجامع والخصوصية مشكوكة ، فهو القدر المتيقن وان نوقش فيه بأن تعلق التكليف بالجامع غير متيقن والتردد في تعلق الأمر بهذه الخصوصية أو بالجامع فلا تجري البراءة.

وبتقريبها على المسلك الثالث بان البراءة كما تجري في مورد الشك في زيادة التكليف تجري أيضا في مورد الشك في كيفيته ونحوه. وعلى كل فالالتزام بالبراءة هناك لا يستلزم الالتزام بالبراءة هنا ، لاختلاف الموردين موضوعا ، ولعدم جريان كل تقريب من هذه التقريبات هنا كما لا يخفى. فيرجع الشك هاهنا إلى الشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه به وهو مجرى الاستصحاب أو

ص: 501

الاشتغال لا البراءة ، إذ ليس الشك في أصل التكليف ، وبهذا التزم المحقق النائيني (1). وبعكسه تماما التزم المحقق العراقي فذهب إلى كون المورد مجرى البراءة وان التزم بالاحتياط في مورد الشك في التعيين والتخيير. وذلك ببيان : ان منشأ القول بالاحتياط في مقام دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو وجود العلم الإجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة - مثلا - مطلقا ولو مع صلاة الجمعة ، واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ، ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به الفراغ اليقيني وهو صلاة الظهر. وهذا العلم الإجمالي غير موجود فيما نحن فيه ، لأنه يعلم تفصيلا بأنه مخاطب بهذا الفعل لعدم كون الفعل الآخر - أعني فعل الغير - عدلا له ، لأنه ليس مقدورا له. وحيث انه يعلم بأنه مخاطب بالفعل في حال ترك الغير له ويشك في وجوبه عليه في حال إتيان الغير به فله ان يجري البراءة في حال إتيان الغير به ولا يلزمه الإتيان بالفعل لأصالة البراءة من وجوبه عليه (2).

ويقع الكلام معه في نقطتين :

إحداهما : في تقريبه جريان الاحتياط في مسألة الشك في التعيين والتخيير بوجود العلم الإجمالي ، فانه غير وجيه ، وذلك : لأن طرف العلم الإجمالي ليس هو أصل وجوب صلاة الظهر للعلم التفصيليّ بوجوبها اما تخييرا أو تعيينا ، وانما طرفه هو إطلاق وجوب صلاة الظهر كما بيّنه قدس سره وشموله لصورة الإتيان بصلاة الجمعة ، فانه يعلم إجمالا اما بوجوب صلاة الظهر مطلقا أو وجوب صلاة الجمعة عند ترك الظهر ، فطرفا العلم الإجمالي في الحقيقة هما وجوب الجمعة عند ترك الظهر ووجوب الظهر عند الإتيان بالجمعة ، وهذا العلم الإجمالي غير مجد

ص: 502


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 99 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 248 - الطبعة الأولى.

في الالتزام بصلاة الظهر. وذلك لأنه اما ان يلاحظ فيه ظرف فعلية المعلوم وهو حال الإتيان بصلاة الجمعة أو يلاحظ فيه ظرفه بمعنى انه يلحظ قبل الإتيان بإحدى الصلاتين ، فالمكلف يعلم فعلا بوجوب الجمعة أو الظهر على تقدير الإتيان بالجمعة ، فان لوحظ فيه ظرف فعلية المعلوم - أعني ظرف الإتيان بالجمعة بحيث يكون الظهر فعلي الوجوب - لو كان الوجوب تعيينيا - لا تقديري الوجوب ، كما كان قبل الإتيان به - ان لوحظ في هذا الظرف - فهو غير منجز لأن أحد أطرافه خرج عن محل الابتلاء للإتيان به ، فلا يكون العلم الإجمالي الحاصل بعد الإتيان بصلاة الجمعة بوجوبها أو وجوب الظهر منجزا ، لأن أحد طرفيه لا بعث نحوه ولا تكليف فعليا بالنسبة إليه. وان لوحظ فيه ظرفه وقبل الإتيان بصلاة الجمعة ، فهو أيضا غير منجز ، لأن تنجيز العلم الإجمالي انما يتكلم فيه ويحقق في المورد الّذي يمكن ان تكون له مخالفة قطعية ، اما الّذي ليس له مخالفة قطعية فلا يكون منجزا ، والعلم الإجمالي المذكور لا مخالفة قطعية فيه ، لأنه ان جاء بصلاة الجمعة فترك الظهر يكون مخالفة احتمالية لأنه قد جاء بأحد طرفي العلم الإجمالي ، وان لم يأت بصلاة الجمعة ، يكون قد خالف أحد الطرفين وهو وجوب صلاة الجمعة ، اما الطرف الآخر فلا مخالفة فيه فعلا وهو وجوب صلاة الظهر لأنه معلق على الإتيان بصلاة الجمعة ، والمفروض انه لم يأت بها.

وبالجملة : حيث ان التكليف في أحد الطرفين معلق على الإتيان بالطرف الآخر فلا تمكن فيه المخالفة القطعية أصلا ، لأنه اما ان يأت بالطرف المعلق عليه الطرف الآخر أولا؟ فان جاء به فقد وافق أحد الطرفين وان لم يأت لم يكن الطرف الآخر فعليا كي يخالف. فما ذكره من العلم الإجمالي وان كان شكلا لا بأس به لكنه مخدوش عند التدبر.

ثانيهما : ما ذكره من جريان البراءة فيما نحن فيه لرجوع الشك إلى الشك في التكليف ، وقد عرفت الخدشة فيه ، فانه مع إتيان الغير بالفعل وان شك

ص: 503

في تعلق التكليف ، لكنه شك في ارتفاع التكليف لا شك في أصل ثبوت التكليف من أول الأمر ، لأن وظيفة فعل الغير إسقاط التكليف لا نفيه من أول الأمر واقعا ، والشك في ارتفاع التكليف يكون مجرى الاستصحاب الموجب للزوم المباشرة كما لا يخفى فتدبر.

المقام الثاني : في أن الأصل هل يقتضي عدم سقوط الواجب بما لا يكون عن إرادة واختيار أو لا؟. وقد قرب وجه اعتبار كون الفعل عن إرادة واختيار تارة : بان مادة الأفعال منصرفة إلى الفعل الإرادي ، فإذا قيل : « الأكل » انصرف إلى الآكل الاختياري. وأخرى : بان هيئة الأفعال منصرفة إلى ذلك ، ولا يخفى فساد الوجهين : فان المادة موضوعة إلى نفس الطبيعة المهملة غير الملحوظ فيها أي قيد. ولذا نرى صدق الفعل على غير الإرادي فيقال : « فعل كذا » وان صدر منه بلا إرادة ، فدعوى الانصراف جزافية.

كما ان الهيئة موضوعة للربط والنسبة الخاصة القائمة بين المادة والطرف الآخر لا غير بلا تقييد ولا انصراف إلى خصوص ما كانت المادة اختيارية.

وبالجملة : فدعوى الانصراف في المادة أو الهيئة بلا وجه.

والمهم في تقريب اعتبار صدور الفعل عن إرادة وجهان أفادهما المحقق النائيني :

الأول : ان الغرض من الأمر إنما هو جعل الداعي للمكلف إلى الفعل والمحرك له نحو الفعل ، ولا يخفى ان هذا انما يتصور في الأفعال الإرادية التي تصدر عن اختيار ، دون الأفعال غير الإرادية إذ لا معنى لجعل الداعي إليها ، فوظيفة الأمر تقضي بتعلقه بالفعل الإرادي دون غيره.

الثاني : ما دل على اعتبار الإرادة والقدرة على متعلق التكليف في صحة التكليف وتوجهه ، فلا يتعلق التكليف بالفعل غير الاختياري بحكم العقل.

فهذان الوجهان يقضيان بان الأصل الأولي هو اعتبار صدور الفعل عن

ص: 504

اختيار في سقوط التكليف ، لأنه هو متعلق التكليف دون غيره ، فإسقاط غيره يحتاج إلى دليل خاص (1).

ولا يخفى ان الإيراد على الوجهين : بان حقيقة الأمر ليس جعل الداعي والمحرك وانما هو جعل الفعل في عهدة المكلف فيكون نظير اشتغال الذّمّة فلا مانع من تعلقه بغير الاختياري من الأفعال ، إذ لا يمتنع اشتغال الذّمّة بغير الاختياري وغير المقدور.

وبعدم اعتبار الاختيارية والقدرة في صحة التكليف (2).

غير وجيه لأنه إيراد مبنائي.

فاللازم تحقيق صحة ما أفاده بعد الجري على مبناه من كون الأمر بداعي جعل الداعي ، واعتبار القدرة في متعلق الأمر في صحة التكليف.

وقد أورد عليه بعد الجري على ما ذكره بما قرره في مبحث التزاحم (3) من : انه يمكن الالتزام بصحة الواجب المهم مع عدم الالتزام بالأمر به بنحو الترتب ، وذلك باعتبار احتوائه على ملاك الحكم ، وان لم يتعلق به الأمر والحكم بواسطة المزاحمة لما هو الأهم. وبيّن انه يمكن التوصل لمعرفة وجود الملاك مع عدم الأمر بالتمسك بإطلاق المادة ، فانها بإطلاقها من هذه الناحية تقتضي ثبوت الملاك ولو مع انتفاء الأمر بالمزاحمة - وتحقيق ذلك وتوضيحه وبيان صحة ما أورد عليه وسقمه في محله إن شاء اللّه تعالى والمقصود الإشارة -.

وجه الإيراد هو : ان يقال بأنه وان حكم العقل باعتبار القدرة في الواجب ونفي الأمر عن غير المقدور ، إلا انه يمكن التمسك بإطلاق المادة في إثبات وجود الملاك في غير الاختياري وان لم يتعلق به الحكم. فان الإطلاق المذكور في جهة

ص: 505


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 101 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 101 - في التعليقة - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 264 - الطبعة الأولى.

لا تنافي التقييد لأنه في جهة أخرى ، فان الإطلاق من ناحية الملاك والتقييد في ناحية الأمر ، ولا منافاة - كما قرره بنفسه قدس سره - ، وإذا ثبت بالإطلاق ثبوت الملاك في غير الاختياري كان الإتيان به مسقطا للتكليف وان لم يكن متعلقا للحكم ، لتحصيله الملاك ومع حصول الغرض يسقط الأمر.

وعليه ، فمقتضى إطلاق المادة سقوط الوجوب بغير الاختياري والإرادي (1).

والتحقيق : انه ذكر في فرض المزاحمة وانتفاء الحكم لاستكشاف بقاء الملاك ووجوده طريقان :

أحدهما : ما عرفت من إطلاق المادة.

ثانيهما : التمسك بالدلالة الالتزامية ، وذلك ببيان ان دليل الحكم يتكفل بالدلالة المطابقية ثبوت الحكم للمتعلق ، وبالدلالة الالتزامية ثبوت الملاك في المتعلق - لملازمة ثبوت الحكم لثبوت الملاك لأنه معلول للملاك - فإذا اقتضى دليل نفي الدلالة المطابقية عن الحجية لم يستلزم ذلك نفي الدلالة الالتزامية عنها أيضا ، لأنها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية. فالمزاحمة انما تقضي ارتفاع الدلالة المطابقة عن حجيتها في ثبوت الحكم فتبقى دلالة الدليل الالتزامية على ثبوت الملاك على حالها من الحجية.

ولا يخفى انه مع الالتزام بصحة التمسك بإطلاق المادة ، كان الإيراد على المحقق النائيني متوجها وتعين الالتزام بنتيجته وهو كون الأصل سقوط الوجوب مع عدم صدور الفعل عن اختيار. ولكننا بينا في محله كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى عدم صحة هذه الدعوى.

واما الطريق الثاني فهو كبرويا وجيه لكنه لا يتأتى فيما نحن فيه.

ص: 506


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 101 - الطبعة الأولى.

وذلك لأنه انما يجري فيما كان ارتفاع الحكم بدليل منفصل بحيث لا يتصرف في ظهور الكلام ، بل يقتضي نفي حجيته فقط. اما فيما إذا كان الدليل متصلا أو كالمتصل بحيث أوجب التصرف في ظهور الكلام ورفع أصل الدلالة المطابقية لا خصوص حجيتها ، فلا يتأتى ما ذكر لأنه بانتفاء الدلالة المطابقية تنتفي الدلالة الالتزامية لتبعيتها لها في الوجود كما لا يخفى.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن حكم العقل باعتبار الاختيارية والقدرة في متعلق التكليف امر ظاهر عرفا لا يحتاج إلى نظر ، بل هو ارتكازي في النفوس فيكون من قبيل القرينة المتصلة. وعليه فلا يكون ظهور للكلام في الإطلاق من أول الأمر ، بل ينعقد للفظ ظهور في خصوص الفعل الاختياري. فلا دلالة التزامية على ثبوت الملاك في غيره لانتفاء الدلالة المطابقية وجودا.

فالذي يتحصل بعد عدم الطريق لإحراز الملاك في الفعل غير الاختياري هو عدم سقوط التكليف بغير الإرادي ، لأنه متعلق بالفعل الاختياري ، فمع الشك في سقوطه بما لا يكون عن إرادة واختيار يرجع إلى قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لو التزم بجريانه هنا لحكومته على قاعدة الاشتغال.

هذا إذا لم يكن إطلاق ، وإلاّ كان هو المحكم ، وهو يقتضي عدم سقوط التكليف بالفعل غير الإرادي ، لأن مقتضى الإطلاق ثبوت التكليف مطلقا أتى بفعل غير إرادي أو لم يؤت فلاحظ.

المقام الثالث : في ان مقتضى الأصل في الوجوب هل هو عدم سقوطه بالفرد المحرم أو لا؟.

ومن الكلام في المقام الثاني اتضح الكلام في هذا المقام ، فانهما بملاك واحد ، وذلك : لأنه بعد فرض ان الفرد محرم يمتنع تعلق الوجوب به فلا يكون من افراد الواجب ففرض تحريمه مساوق لفرض عدم فرديته للواجب. وعليه

ص: 507

فيرجع الشك فيه إلى الشك في إسقاط غير الواجب للوجوب ، ومعه يتمسك بالإطلاق في إثبات بقائه لو كان وبدونه تجري قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لو التزم بجريانه في المقام.

ومن هنا يظهر انه لا حاجة إلى التفصيل في هذا المقام بين ما إذا كانت نسبة الدليل الدال على التحريم إلى دليل الوجوب نسبة الخاصّ إلى العام ، أو ما إذا كانت نسبته نسبة العموم من وجه - كما جاء في تقريرات المحقق النائيني (1) - وتحقيق الكلام على كلا التقديرين ، وذلك لما عرفت انه بفرض كونه فردا محرما يمتنع تعلق الوجوب به ، سواء كانت النسبة بين الدليل العموم المطلق أو العموم من وجه. والالتزام بجواز اجتماع الأمر والنهي يرجع في الحقيقة إلى الالتزام بان متعلق الأمر غير متعلق النهي ، فالمأمور به ليس محرما ، بل المحرم غيره فلا يكون من الإتيان بالفرد المحرم للمأمور به. فالتفت. فالكلام في هذا المقام لا يحتاج إلى أكثر مما ذكرنا فتدبر.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه ان الأصل الأولي - في بعض المقامات - والعملي يقتضي عدم سقوط التكليف إلا بالفعل المباشري الاختياري المحلل فاعلم واللّه ولي التوفيق. هذا تمام الكلام في التعبدي والتوصلي.

ص: 508


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 102 - الطبعة الأولى.

فصل : إطلاق الصيغة وتعيينية الوجوب ونفسيته وعينيته

ذكر صاحب الكفاية قدس سره وتابعة غيره : ان إطلاق صيغة الأمر يقتضي ان يكون الوجوب تعيينيا نفسيا عينيا (1).

وهذا الأمر قد يكون مثارا للبحث في ان كلا من التعيينية والنفسيّة والعينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيرية والكفائية وكل من الوجوب التعييني والنفسيّ والعيني فرد خاص كالوجوب التخييري والغيري والكفائي ، فكيف يكون مقتضى الإطلاق إرادة هذه الخصوصية دون تلك وتعيين هذا الفرد دون ذاك؟. فان كلا منها فرد يقابل الآخر ، وليس الوجوب العيني النفسيّ التعييني هو نفس طبيعة الوجوب بحيث تطرأ عليها الغيرية والكفائية كما لا يخفى.

وحل هذا الإشكال واضح : فان التعيينية والنفسيّة والعينية وان كان كل منها خصوصية طارئة على الوجوب ، إلا انها سنخ خصوصية تتلاءم مع نحو من

ص: 509


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /76- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه ، فإذا ثبت ذلك الإطلاق ثبت هذا الفرد الخاصّ بالملازمة ، فحيث ان خصوصية العينية تلازم ثبوت الوجوب مطلقا سواء أتى به آخر أو لم يأت به كان إثبات إطلاق الوجوب في حال إتيان الغير بالمتعلق وعدم إتيانه ملازما لثبوت خصوصية العينية وكون الوجوب عينيا ، كما ان خصوصية التعيينية ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة الإتيان بشيء آخر وعدمه ، وخصوصية النفسيّة ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه ، وخصوصية النفسيّة ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه فمع التمسك بالإطلاق في إحدى هذه الجهات تثبت الخصوصية الملازمة له فلاحظ.

ولا بد من التعرض لأمر ، وهو : ما قد يورد على صاحب الكفاية من وجود التهافت في كلماته ، وذلك ببيان : انه قرب في هذا المقام التمسك بإطلاق الصيغة في نفي الغيرية والكفائية والتخيير كما أنه صحح - في مبحث الواجب المشروط (1) - رجوع القيد إلى الهيئة منكرا على الشيخ ما ذهب إليه من عدم إمكانه ، لأن معنى الهيئة معنى حرفي وهو غير قابل للتقييد (2).

ولكنه ذكر في مبحث مفهوم الشرط عدم إمكان التمسك بإطلاق هيئة الشرط لإثبات المفهوم وانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، لأن الهيئة من الحروف غير القابلة للإطلاق والتقييد (3).

فكان هذا الكلام موردا للإشكال النقضي عليه من جلّ من علق على الكفاية أو كلهم. ومطالبته بالفرق بين هيئة الأمر وهيئة الشرط (4).

ولكن الّذي يبدو بعد التأمل إمكان الدفاع عن صاحب الكفاية ونفي ما

ص: 510


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /65- 97 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /45- 52 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /195- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 322 - الطبعة الأولى.

يدعى ما التهافت في كلامه.

وتوضيح ذلك : ان الإطلاق كما يتقوم بعموم المعنى كذلك يتقوم بتعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الّذي يراد إفادة إطلاقه. وذلك لأن من قوام الإطلاق كون المتكلم في مقام البيان ، وهذه المقدمة تقتضي توجه المتكلم نحو الجهة التي يقصد إطلاقها ، وذلك يستلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى.

وعليه ، فصاحب الكفاية وان التزم بان الموضوع له الحرف كالموضوع له الاسم في كونه عاما ، لكنه التزم في الوقت نفسه بامتياز الاسم عن الحرف بان الأول ملحوظ استقلالا والثاني ملحوظ آلة ، وعليه فالمعنى الحرفي لا يمكن التمسك بإطلاقه لأنه ملحوظ آليا ، وقد عرفت استلزام الإطلاق للحاظ الاستقلالي ، فمن هنا يظهر الوجه في كلامه في مبحث مفهوم الشرط ، وان عدم صحة التمسك بإطلاق هيئة الشرط من جهة كون المعنى ملحوظا آليا لا من جهة خصوص المعنى.

واما ما ذكره في مبحث الواجب المشروط ، فهو لا يرجع إلى التمسك بإطلاق الهيئة ، بل يرجع إلى قابلية معنى الهيئة للتقييد لعمومه.

واما البحث في اعتبار اللحاظ الاستقلالي في التقييد والكلام في قابلية المعنى الحرفي لأن يكون مقيدا مع عدم قابليته للإطلاق - باعتبار عدم تمامية مقدمات الحكمة - فهو موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط ويتضح هناك إن شاء اللّه تعالى.

وعلى كل ، فلو كان هناك إشكال في قابليته للتقييد فهو على الجميع ، ولا اختصاص له بصاحب الكفاية ، لالتزام الكل به. والمهم دفع التهافت في كلام صاحب الكفاية.

واما ما أفاده في هذا المبحث ، فالإيراد عليه انما يتم لو كان مراده قدس سره التمسك بإطلاق الهيئة ، لأنها معنى حرفي لا يلحظ استقلاليا ، ولكنه لم يعلم

ص: 511

منه ذلك فيمكن ان يكون نظره إلى التمسك بإطلاق المادة - أعني الواجب - ، فيكون المراد التمسك بإطلاق الواجب وان الواجب هو الفعل مطلقا جاء به شخص آخر أو لا ، جيء بشيء آخر أو لا ، وجب شيء آخر أولا. ولا إشكال في التمسك بإطلاق المادة لأنها ليست من المعاني الحرفية الملحوظة آلة ، ويمكن استظهار هذا المعنى من بعض كلماته في مفهوم الشرط فراجع. اما ما ذكره هنا فلا صراحة فيه في كون التمسك بإطلاق الهيئة فلاحظ وتدبر.

ص: 512

فصل : الأمر عقيب الحظر أو توهمه

قد عرفت ظهور الأمر في الوجوب - اما ظهورا وضعيا أو إطلاقيا - إلا ان تقوم قرينة على خلافه.

وعليه ، فهل ورود الأمر بفعل عقيب تحريمه أو تخيل تحريمه واحتماله قرينة على عدم إرادة الوجوب وإرادة غيره أو لا؟. وبتعبير آخر : الكلام في تعيين ما يظهر فيه الأمر الوارد عقيب الحظر أو توهمه.

فقيل : انه ظاهر في الوجوب. وقيل : انه ظاهر في الإباحة. وقيل : انه ظاهر في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما ، ان علق الأمر على زوال علة النهي. وقيل : غير ذلك.

وقد ذهب صاحب الكفاية رحمه اللّه إلى إجمالها وعدم ظهورها في شيء مما ادعي إلا بقرينة خاصة (1).

ولكن التحقيق : ان الصيغة ظاهرة في رفع التحريم والترخيص في العمل

ص: 513


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /77- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وتجويزه لا أكثر ، كما يظهر من ملاحظة استعمالات العرف ، فليست هي مجملة ليست ظاهرة في شيء أصلا كما ذهب إليه صاحب الكفاية. فتدبر.

ص: 514

فصل : المرة والتكرار

موضوع البحث هو تشخيص دلالة الأمر على المرة أو التكرار ، بمعنى انه يبحث في ان الأمر هل يدل على طلب الفعل مرة واحدة ، أو طلبه مكررا ، أو لا يدل على شيء منهما؟. والحق هو الأخير لظهور الأمر في طلب إيجاد الطبيعة لا أكثر.

وقد أسهب صاحب الكفاية في هذا البحث بما لا يغني ولا يسمن من جوع لا علميا ولا عمليا (1).

نعم يتعرض بمناسبة البحث المذكور إلى جهتين :

إحداهما عملية وهي : البحث عن جواز تبديل الامتثال بفرد آخر غير المأتي به أولا ، وقد أشار إليها صاحب الكفاية في أواخر كلماته لمناسبة ، وأوكل تحقيقها إلى مبحث الاجزاء.

وسيأتي البحث فيها هناك لعدم ارتباطها بالمبحث المذكور موضوعا.

ص: 515


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -1. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وثانيتهما علمية وهي : بيان جهة الفرق بين الأمر والنهي المقتضية لاقتضاء النهي التكرار والدوام دون الأمر حيث يكتفي في امتثاله بالمرة. وقد حققها صاحب الكفاية في أول مبحث النواهي (1). وتعرض إليها المحقق العراقي قدس سره في هذا المبحث ، ولعله لخلو المبحث المزبور عن جهة علمية عملية (2).

وعلى كل فالتعرض إلى هذه الجهة في مبحث النواهي أنسب.

ومنه يظهر انه لا طائل في تطويل الكلام في هذا البحث.

ص: 516


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 255 - الطبعة الأولى.

فصل : الفور والتراخي

وموضوع البحث هو معرفة ان الأمر هل يدل على فورية المأمور به ، أو لا يدل عليها بل يدل على جواز التأخير والتراخي فيه؟. وهذا المبحث كسابقه في وضوحه وخلوه عن جهة علمية. ولكن ينبغي التعرض لجهات ثلاث في كلام الكفاية (1).

الأولى : ما ذكره من عدم دلالة الأمر على التراخي ولا على الفورية ثم ذكره ان مقتضى إطلاق الصيغة هو جواز التراخي.

وهذا الكلام منه لا يخلو من مسامحة.

بيان ذلك : ان البحث تارة : يقع في ان الأمر هل يقتضي لزوم الفورية أو لزوم التراخي؟. وأخرى : يقع في ان الأمر هل يقتضي لزوم الفورية أو لا يقتضي لزومها بل يقتضي جاز التراخي؟. فطرفا الترديد تارة : يكونان هما لزوم الفور ولزوم التراخي. وأخرى ، يكونان لزوم الفور وعدم لزومه وجواز التراخي. ومن

ص: 517


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /80- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الظاهر ان موضوع البحث هو الجهة الثانية لا الأولى ، إذ لا وجه لتوهم دلالة الأمر على لزوم التراخي وعدم جواز الفورية. ولا يخفى انه مع الحكم بعدم دلالة الأمر على لزوم الفورية ولا على جواز التراخي - كما ذكره صاحب الكفاية أولا - ، لا معنى لدعوى دلالة إطلاق الأمر على جواز التراخي - كما ذكره ثانيا - فانه لا يخلو عن ركاكة واضحة (1).

نعم لو كان موضوع البحث هو الجهة الأولى كان ما ذكر صحيحا ، إذ عدم دلالة الأمر بوجه من الوجوه على لزوم التراخي لا يتنافى مع دلالته بالإطلاق على جوازه. لكن قد عرفت ان البحث في الجهة الثانية.

الثانية : ما ذكره في مقام الإيراد على الاستدلال بآية المسارعة والاستباق على لزوم الفورية - بعد ان ذكر ظهور الأمر في الإرشاد إلى حسن المسارعة والاستباق لا الإلزام المولوي - بدعواه بعد التنزل عن ذلك بعدم كون الأمر إلزاميا ، بل هو استحبابي باعتبار انه لو كانت المسارعة والاستباق واجبين كان الأنسب بيان ذلك بذكر لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة رأسا.

فان ما ذكره قد يكون مثار الإشكال بان هذا سار في جميع الأوامر الوجوبية ، لأن المقصود فيها بيان لزوم الفعل ، فاللازم على ما ذكره بيان الوجوب ببيان لازمه وهو لا يلتزم به. وإلاّ فما الفرق بين المقام وبين غيره.

والجواب عنه - كما قرر - : ان حسن المسارعة والاستباق إلى الخيرات حيث انه من الأمور المرتكزة في أذهان العرف بنحو الاستحباب وعدم اللزوم ، كان الكلام المتضمن للأمر بهما محمولا عندهم على ما هو مرتكز في أذهانهم لاستظهارهم جري الأمر على ما يرونه إلا ان تقوم قرينة خاصة معينة صارفة للكلام عما هو المرتكز ، وليس في المقام قرينة دالة على إرادة الوجوب سوى بيان

ص: 518


1- يمكن ان يكون النّظر في موضع الكلام هو الظهور الوضعي للأمر في الفور وعدم ظهوره ، لا مطلق الظهور. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة.

الثالثة : ما أفاده أخيرا من انه على القول بلزوم الفورية لو عصى المكلف وأخر المأمور به فهل يجب عليه الإتيان بالعمل فورا ففورا أو لا يجب؟. فقد أفاد قدس سره بان لزوم الإتيان به ثانيا فورا ففورا وعدم لزومه يبتني على دلالة الصيغة على أخذ الفورية بنحو وحدة المطلوب أو تعدده فلا يجب على الأول ويجب على الثاني.

وقد أنهى الكلام بهذا المقدار تقريبا.

ولتوضيح الحال نقول : انه لا بد من الكلام في جهتين طوليتين :

إحداهما : انه بناء على لزوم الفورية لو عصى وأخر ، فهل يجب الإتيان بذات العمل أو لا يجب؟. فان قيل بان الفورية مأخوذة بنحو وحدة المطلوب بحيث يكون العمل الفوري مطلوبا واحدا. لا يجب الإتيان بذات العمل لو أخّر لفوات المأمور به بالعصيان. وان قيل بأنها مأخوذة بنحو تعدد المطلوب بحيث يتعلق طلب بذات العمل وطلب آخر بالإتيان به فورا. كان التأخير عصيانا للطلب الآخر دون الطلب المتعلق بذات العمل ، فيلزم الإتيان بالعمل لبقاء طلبه لعدم عصيانه.

ثانيتهما : انه بناء على كون الفورية مأخوذة بنحو تعدد المطلوب ولزوم الإتيان بالعمل ، فهل يلزم الإتيان به فورا أيضا أو لا؟. ولا يخفى ان الفورية الثانية والثالثة وهكذا ، لا يقتضيها أخذ الفورية في متعلق الأمر بنحو تعدد المطلوب ، إذ ما يقتضيه تعدد المطلوب ليس إلا لزوم الإتيان بالعمل كما عرفت ، اما انه يلزم ان يؤتى به فورا ففورا فهو يحتاج إلى دليل آخر خاص.

وبالجملة : الإتيان بالمأمور به فورا ففورا بعد التأخير أولا لا يرتبط بالالتزام بأخذ الفورية بنحو تعدد المطلوب كما لا يخفى. فما جاء في الكفاية من بناء ذلك على الالتزام بتعدد المطلوب لا يعلم له وجه.

ص: 519

ص: 520

الفهرس

تمهيد... 21

ضابط المسألة الأصولية :... 21

بيان الكفاية للضابط وتوجيهه ... 22

بيان المحقق الأصفهاني للضابط ... 24

ايراد المحقق الأصفهاني على تعريف الكفاية والمناقشة فيه ... 26

المختار في تعيين الضابط... 29

عدم شمول التعريف للقواعد الفقهية... 30

شمول التعريف للشبهات الموضوعية... 32

بيان المحقق النائيني للضابط والمناقشة فيه... 37

الوضع... 43

والكلام فيه في جهتين :... 32

في حقيقة الوضع... 43

الوضع : أمر حقيقي تكويني... 44

الوضع : جعل العلقة بين اللفظ والمعنى... 46

بيان دعوى المحقق العراقي في المقام وعدم ورود ما أورده السيد الخوئي عليه... 47

الوضع : برزخ بين الواقعي والجعلي... 49

مناقشة مع المحقق النائيني ... 51

الوضع : جعل اللفظ على المعنى ... 53

ص: 521

ايراد السيد الخوئي والمناقشة فيه... 55

ما يورد على المحقق الأصفهاني... 56

الوضع : تنزيل اللفظ على المعنى... 57

ايراد السيد الخوئي في المقام والمناقشة فيه... 57

الوضع : هو التعهد... 61

المراد من التعهد... 61

احتمالات ثلاث في المراد من التعهد... 64

المختار في حقيقة الوضع... 66

اللفظ والاستعمال... 69

حقيقة استعمال اللفظ في المعنى... 70

الجهة الثانية : في اقسام الوضع تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني... 72

تقسيم الوضع بلحاظ عموم الموضوع له وخصوصه... 73

تصوير الوضع العام والموضوع له الخاص... 74

كلام المحقق العراقي في المقام والمناقشة فيه... 76

امكان تصوير الوضع الخاص والموضوع له العام... 81

ما افاده المحقق الأصفهاني في محالية هذا القسم والمناقشة فيه... 81

ما افاده المحقق العراقي في محالية هذا القسم والمناقشة فيه... 82

ما افاده السيد الخوئي في محالية هذا القسم والمناقشة فيه... 83

كلام المحقق الرشتي في إمكانية هذا القسم والمناقشة فيه... 84

كلام المحقق الحائري اليزدي في إمكانية هذا القسم والمناقشة فيه... 86

المعنى الحرفي... 87

آلية المعنى الحرفي : مختار صاحب الكفاية... 87

احتمالات ثلاث في تفسير كلام الكفاية... 89

علامية الحروف... 94

ايجادية المعني الحرفي : مختار النائيني... 95

ص: 522

مناقشة السيد الخوئي في ايجادية الحروف... 98

مناقشة المحقق العراقي في ايجادية الحروف... 101

الوجود الرابط : مختار المحقق الأصفهاني... 105

مناقشة السيد الخوئي والرد عليها... 106

الاعراض النسبية : مختار المحقق العراقي... 109

مناقشة مع المحقق العراقي في اختياره... 110

ايراد السيد الخوئي على المحقق العراقي وبيان عدم تماميته... 111

تضييق المعاني الاسمية : مختار السيد الخوئي... 112

مناقشة مع السيد الخوئي في جهات ثلاث من كلامه... 114

كيفية الوضع للحروف... 120

ثمرة البحث... 121

الإنشاء والأخبار... 123

الاحتمالات المذكورة في معنى الإنشاء... 123

مختار المحقق الخراساني في الإنشاء... 124

مختار المحقق الأصفهاني في الإنشاء... 126

مناقشة مع المحقق الأصفهاني... 128

مختار المشهور في الإنشاء... 130

توجيه وتصحيح مختار المشهور ... 133

مختار السيد الخوئي في الإنشاء والمناقشة فيه... 137

الجملة الخبرية ومختار المشهور في مدلولها... 139

مناقشة السيد الخوئي في اختيار المشهور وبيان مختاره في المقام... 139

مناقشة مع السيد الخوئي في مختاره... 141

مناقشة مع السيد الخوئي في مختاره في مدلول الجملة الإنشائية... 147

المختار في الموضوع له الجملة الخبرية والإنشائية... 148

حروف التمني والترجي... 150

الموضوع له في حروف التمني والترجي... 151

ص: 523

صدق الإنشاء على جملة التمني... 152

الموضوع له في حروف النداء والاستفهام... 153

الموضوع له في أسماء الإشارة... 154

كلام المحقق الأصفهاني في المقام والمناقشة فيه... 156

التحقيق في الموضوع له أسماء الإشارة... 158

استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له... 160

اطلاق اللفظ واردة شخصه... 161

اطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه... 162

اطلاق اللفظ وإرادة مثله... 163

الإرادة والموضوع له... 164

هل اللفظ موضوع للمعني بما هو أو بما هو مراد؟... 165

هل الوضع يقتضي دلالة اللفظ والكلام على تحقق الإرادة أم لا؟... 168

هل الدلالة تابعه للإرادة... 169

وضع المركبات... 172

أمارات الوضع... 173

التبادر... 173

صحة الجمل وعدمها... 176

الاطراد... 179

أحوال اللفظ... 181

الحقيقة الشرعية... 185

تحرير حمل البحث... 185

كلام الكفاية في المقام... 185

مناقشة المحقق الأصفهاني مع الكفاية... 188

مناقشة المحقق العراقي مع الكفاية... 190

ثمرة القول بالحقيقة الشرعية... 193

ص: 524

الصحيح والأعم... 197

مناقشة المحقق العراقي مع الكفاية... 190

الأمر الأول : تصوير النزاع... 197

الأمر الثاني : معنى الصحة... 201

التحقيق في معنى الصحة... 205

الأمر الثالث : تصوير القدر الجامع... 210

لزوم تصوير الجامع بين الافراد... 212

تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة... 214

الوجه الأول : مختار المحقق الخراساني... 217

عدم تمامية اختيار المحقق الخراساني... 217

الوجه الثاني : مختار الشيخ الأنصاري... 220

الوجه الثالث : مختار المحقق الأصفهاني... 221

تمامية هذا الوجه ودفع ما أورد عليه... 223

تصوير الجامع للأعم من الصحيح والفاسد... 225

تصوير السيد الخوئي للجامع والمناقشة فيه... 230

الأمر الرابع : ثمرة النزاع... 236

امكان التمسك بالاطلاق على القول بالصحيح... 236

الصحيح في رد ما أورد على كون النزاع ذا ثمرة علمية... 240

هل الثمرة عملية أيضا... 243

جريان البراءة عند الشك في الجزئية على القول بالأعم... 247

ظهور الثمرة في مسألة النذر... 255

ظهور الثمرة عند النهي عن الصلاة وبحذائه امرأة تصلي... 258

أدلة القول بالصحيح... 260

أدلة القول بالأعم... 264

ألفاظ المعاملات... 272

تحرير النزاع على رأي صاحب الكفاية... 272

ص: 525

تصحيح وضع ألفاظ المعاملات للأسباب والمسببات... 277

تعيين الموضوع له في ألفاظ المعاملات... 282

ثمرة النزاع... 287

امكان التمسك بالاطلاق بناء على كون الألفاظ موضوعة للأسباب... 287

تصحيح التمسك بالاطلاق بناء على كون الألفاظ موضوعة للمسببات... 290

اقسام دخل الشئ في المأمور به... 295

تصوير الجزء المستحب... 296

ثمرة الالتزام بالجزء المستحب... 301

الاشتراك... 303

استعمال اللفظ في أكثر من معنى... 305

المراد من تعدد المعنى... 306

ابتناء الامكان والامتناع على حقيقة الاستعمال... 307

تصحيح المحقق الأصفهاني في دعواه للامتناع... 310

مناقشة مع السيد الخوئي في دعواه للجواز... 312

تفصيل صاحب المعالم... 315

في تفسير حديث : للقرآن سبعة بطون... 318

تصحيح قصد معاني آيات الكتاب في الصلاة... 320

المشتق... 327

تحديد موضوع النزاع... 327

المراد من المشتق في موضوع المسألة... 328

خروج الافعال والمصادر المزيد فيها عن الموضوع... 334

عدم اختصاص النزاع بما إذا كان المبدأ فعليا... 339

المراد بالحال المأخوذ في عنوان المسألة... 340

تأسيس الأصل... 342

تحقيق الحق في المسألة... 347

ص: 526

تنبيهات المسألة... 353

الأول : في بيان بساطة مفهوم المشتق أو تركيبه... 353

الثاني : في ملاك الحمل... 358

الثالث : في حمل صفات الباري كالعالم والقادر وصدقها على ذاته المقدسة... 360

الأوامر... 369

معنى الأمر... 369

أخذ العلو والاستعلاء في معنى الامر... 374

الأمر هو الطلب الإلزامي أو الأعم... 375

موضوع له الأمر هو الطلب الانشائي... 377

الطلب والإرادة... 381

مدلول صيغة الامر... 388

دعوى صاحب الكفاية في موضوع له صيغة الامر... 388

دعوى السيد الخوئي في موضوع له الصيغة... 390

استعمال صيغة الأمر في غير الطلب الحقيقي... 395

دلالة الصيغة وكيفيتها على الوجوب... 399

التعبدي والتوصلي... 411

معاني التعبدي والتوصلي... 411

امكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر نفسه وعدمه... 413

توضيح كلام الكفاية في المقام... 413

وجوه لاستحالة اخذ قصد الأمر في متعلق الامر... 415

اخذ قصد الأمر في متعلقه بأمر آخر... 442

تصحيح كلام الكفاية في المقام... 451

مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في التعبدية... 455

وجوه لاثبات كون الأصل في الواجبات هو التعبدية... 460

مقتضي الأصل العملي عند الشك في التعبدية ... 468

ص: 527

الدواعي القربية ... 474

كلام المحقق الأصفهاني في المقام والتحقيق فيه ... 474

الاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي... 477

التشريع ... 481

اعتبار إضافية العبادة إلى المولى في مقر بيتها ... 482

هل مقتضى الدليل الأولي في الواجبات هو المباشرة؟... 484

النيابة في العبادات... 485

ارجاع الاستنابة إلى الواجب التخييري... 486

كلام المحقق النائيني في المقام والمناقشة فيه... 491

ما هو اقتضاء الأصل اللفظي في الواجبات؟... 499

ما هو اقتضاء الأصل العملي في الواجبات؟... 499

اعتبار سقوط الواجب صدوره عن إرادة واختيار... 504

اقتضاء الوجوب عدم سقوطه بالفرد المحرم... 507

فصل إطلاق الصيغة وتعيينية الوجوب ونفسيته وعينيته... 509

فصل الأمر عقيب الحظر أو توهمه... 513

فصل المرة والتكرار... 515

فصل الفور والتراخي... 517

الفهرس... 521

ص: 528

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 526

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء الثاني

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 2

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

الاجزاء

اشارة

ص: 4

مبحث الاجزاء

وهو من المباحث الجليلة القدر علما وعملا.

وموضوعه كما حرره في الكفاية ان الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا (1)؟. وعمدة البحث فيه هو الكلام عن إجزاء المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي - الاضطراري - عن الأمر الواقعي الأولي ، وإجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي.

ولكن صاحب الكفاية تعرض في بدء بحثه إلى الكلام عن بعض الجهات غير الدخيلة في أساس البحث المذكور والتي لا تغني ولا تسمن من جوع ، ناهجا في ذلك ما يعتاده القدماء من محاولة بيان المراد من موضوع الكلام بشرح ألفاظه (2).

فمن هنا تعرض صاحب الكفاية إلى بيان المراد من كلمة : « وجهه ». والمراد من كلمة : « يقتضي ». وكلمة : « الاجزاء ». ونحن نقتصر في المقام على توضيح ما جاء

ص: 5


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /81- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- ذكر سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) : ان بعض الأعلام أسهب في شرح ألفاظ قاعدة : « الجمع مهما أمكن أولى » بحيث يقرب عشرين صفحة بذكر احتمالات معاني الألفاظ ودفعها ونحو ذلك. ( منه عفي عنه ).

في الكفاية - تبعا - فنقول :

اما : « وجهه ». قد ذكر : ان المراد منه هو الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا وعقلا ، وليس المراد منه الكيفية المعتبرة شرعا ، ولا المراد منه قصد الوجه الّذي قيل باعتباره في العبادة.

اما عدم إرادة الكيفية المعتبرة شرعا فلوجهين :

الأول : انه يلزم ان يكون قيدا توضيحيا ، لأن الكيفية المعتبرة شرعا يدل عليها عنوان المأمور به ، فلا يكون : « على وجهه » قيدا احترازيا بل توضيحا لعنوان : « المأمور به ».

الثاني : انه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع لدى من لا يرى إمكان أخذ قصد القربة ونحوه شرعا ، إذ لا إشكال لديه في أن الإتيان بالمأمور به العبادي على الكيفية المعتبرة شرعا. يعني بدون قصد القربة - لا يقتضي الإجزاء ولا نزاع في ذلك فيختص النزاع في التوصليات.

وامّا عدم إرادة قصد الوجه فلوجهين أيضا :

الأول : عدم اعتباره إلا من القليل ، فلا معنى لإرادته في عنوان يشترك في تحريره الجميع.

الثاني : خروج الواجبات التوصلية عن حريم النزاع ، لعدم اعتبار قصد الوجه - عند من يعتبره - في غير العباديات.

هذا مضافا إلى عدم الوجه في تخصيصه بالذكر دون سائر القيود المعتبرة لا ميزة له على غيره.

واما : « الاقتضاء » ، فقد ذكر : ان المراد منه هو العلّية والتأثير لا الكشف والدلالة ، ولا يخفى ان الاقتضاء مطلقا بمعنى العلية والتأثير ، إلا أنه تارة : يكون التأثير في الوجود الواقعي للشيء فيصطلح عليه بالعلية. وأخرى : يكون في الشيء بوجوده العلمي فيصطلح عليه بالكشف والدلالة. وإلاّ فهو في مقام

ص: 6

الكشف بمعنى التأثير حقيقة لكنه تأثير في الوجود العلمي لا الواقعي.

وعلى كل المراد منه هاهنا هو العلية والتأثير لا الكشف والدلالة ، وأيد ما ذكره بأنه قد نسب في موضوع النزاع إلى الإتيان لا الأمر ، فانها تتناسب مع إرادة العلية منه ، إذ الكشف من شئون الألفاظ والأدلة لا من شئون الأفعال فانها مؤثرة واقعا.

وقد يورد عليه بوجهين :

أحدهما : بأنه لم يرد الاقتضاء في كلام القوم منسوبا إلى الإتيان ، بل ورد منسوبا إلى الأمر - وهو يتناسب مع إرادة الكشف والدلالة منه -. وعليه فالاستشهاد على ما ادعاه من إرادة العلية منه بنسبة الاقتضاء إلى الإتيان في غير محله ، لأن النسبة المذكورة لم يذكرها غيره ولا معنى لاستشهاده على إرادة شيء من كلام القوم أو من كلامه بما جاء في كلامه بخصوصه كما هو واضح.

وأجيب عن هذا الوجه : بأنه قدس سره ليس في مقام بيان كون المراد من الاقتضاء في كلام القوم هو العلية ، بل في مقام بيان ان الأنسب في تحرير البحث هو جعل الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير لا بمعنى الكشف والدلالة (1).

نعم يبقى سؤال وهو : انه إذا كان الملحوظ في كلامه هذه الجهة ، فما هو معنى التعليل بنسبة الاقتضاء إلى الإتيان مع انه وارد في كلامه بالخصوص؟.

ويمكن الجواب عنه : بأنه يمكن ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى تصحيح نسبة الاقتضاء إلى الإتيان بهذه الجهة ، فيكون المعنى انه من أجل ان البحث ينبغي ان يكون عن الاقتضاء بمعنى العلية نسبنا الاقتضاء إلى الإتيان لملاءمته معه. وليس نظره - كما قد يظهر بدوا - إلى تعليل كون البحث عن الاقتضاء بمعنى العلية بنسبة الاقتضاء إلى الإتيان كي يرد عليه ما ذكر.

ص: 7


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 146 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : النّظر إلى تعليل نسبة الاقتضاء إلى الإتيان بإرادة العلية من الاقتضاء ، لا إلى تعليل إرادة العلية من الاقتضاء بنسبته إلى الإتيان. فتدبر.

الثاني : وهو الّذي أشار إليه تحت عنوان : « ان قلت ». وتوضيحه : ان الكلام لا ينحصر في اقتضاء الإتيان بالمأمور به للإجزاء ، بل يقع النزاع في بعض الصور في دلالة الدليل على الإجزاء ، فلا معنى لفرض النزاع مطلقا في الاقتضاء بمعنى العلية. بيان ذلك : ان موضوع الكلام تارة : يكون إجزاء المأمور به عن أمره كإجزاء المأمور به بالأمر الواقعي الأولي عن أمره ، وإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن أمره ، واجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن أمره. وأخرى : يكون في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي.

فالكلام في الأول - لو فرض - يكون في الاقتضاء بمعنى العلية ، إذ لا تلحظ دلالة الدليل في هذا المقام.

واما في الثاني : فالنزاع في الحقيقة في دلالة الدليل على إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري - كل بحسب دليله - عن الأمر الواقعي ، فالمناسب في هذا النحو إرادة الكشف والدلالة من الاقتضاء.

وأجاب عنه قدس سره : بان وقوع النزاع في هذا النحو في دلالة الدليل مسلم لا ينكر ، لكنه لا يتنافى مع كون النزاع الأساسي في ان نفس الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري يؤثر في الإجزاء ، بلحاظ وفائه بالملاك وعدم وفائه ، وينضم إليه النزاع المزبور - أعني النزاع فيما هو مقتضى الدليل - ، وهو منشأ الخلاف في النزاع الأول ، بمعنى ان النزاع في الإجزاء الإتيان وعدمه للخلاف في دلالة الدليل على الوفاء بالملاك وعدمه أو مقدار الوفاء. فيكون هناك نزاعان كبروي وصغروي ، كما انه في النحو الأول يكون نزاع واحد كبروي لو فرض نزاع ، إذ لا كلام في إجزاء المأمور به عن نفس أمره لوفائه بملاك أمره وتحصيله غرضه.

ص: 8

وقد استشكل في الجواب : بان فرض وقوع النزاع في الصغرى - أعني في دلالة الدليل - لا يتناسب مع المسألة الأصولية ، إذ من شرائط المسألة الأصولية كما تقدم ان تكون نتيجتها كلية جارية في جميع الموارد ، ولذا قيل بخروج قاعدة الطهارة عن الأصول لاختصاصها بباب الطهارة ، مع كون مفادها مفاد قاعدة الحلّ والبراءة. ولا يخفى ان الكلام في دلالة كل دليل كدليل : « التراب أحد الطهورين » (1) ونحوه لا ينتهي بنا إلى نتيجة عامة ، بل نتيجتها خاصة بمورد الدليل كالطهارة أو الصلاة أو غيرهما.

هذا مضافا إلى انه إذا كان منشأ الخلاف الكبروي هو النزاع في دلالة الدليل ، فالمناسب هو تحرير النزاع في دلالة الدليل وتشخيص مفاده لتحسم به مادة النزاع الكبروي وينتهى منه إلى النتيجة الكبروية ، لأن الأولى هو تحرير الكلام فيما هو سر الخلاف وتنقيحه فيه كما لا يخفى.

مع ان فرض تحقق النزاع الكبروي مشكل ، كالإشكال في فرضه بالنسبة إلى إجزاء المأمور به عن أمره ، إذ إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي وعدمه يبتني على أمور توجب التسليم به لو ثبتت ، وهي الوفاء بالملاك ، أو عدم وفائه ، أو عدم إمكان تدارك المصلحة الفائتة كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى ، وعليه فالنزاع في الحقيقة ليس في أصل الكبرى وانما في ما تثبت به وهي مقدار الوفاء بالملاك وتحديده ، وهذا يستكشف من دليل الحكم الاضطراري أو الظاهري.

وبالجملة : لا نزاع في أصل الكبرى بما هي هي ، بل بما تبتني عليه الكبرى فيرجع النزاع صغرويا فينبغي ان يكون في دلالة الدليل ومقتضاه (2).

ص: 9


1- عن أبي جعفر علیه السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ». وسائل الشيعة 2 / 991 باب : 21 من أبواب التيمم حديث : 1.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 146 - الطبعة الأولى.

وقد يجاب : بان النزاع ليس في دلالة كل دليل في مورده الخاصّ كي يدعى ان نتيجة ذلك النزاع خاصة بمورد الدليل ولا تتعداه إلى غيره ، وانما يفرض في أمر كلي ينطبق على جميع الأدلة ، وهو ان الدليل - أي دليل كان - في أي حال وعلى أي نحو يكون دالا على وفاء المأمور به بالملاك الواقعي فيكون مجزيا. وعدم وفائه به فلا يكون مجزيا؟. فهل إطلاقه يقتضي وفاء المأمور به بالملاك أولا؟. فالبحث إنما هو في الملازمة بين الإطلاق ووفاء المأمور به بالملاك. ولا يخفى ان نتيجتها قاعدة كلية تنطبق على كل مورد من دون خصوصية لمورد على آخر.

وعلى هذا فالبحث فيها يتلاءم مع كون المسألة أصولية.

ولا يخفى ان هذا الجواب تصحيح لأصولية البحث في الإجزاء وكون مسألته من المسائل الأصولية ، ولا يصحح كلام الكفاية ، فان الاقتضاء عليه وان لم يكن بمعنى الدلالة والكشف. ولكنه ليس بمعنى العلّية والتأثير أيضا ، بل البحث أجنبي عن الاقتضاء ، فانه عن الملازمة بين الإطلاق والوفاء بالملاك. وعلى كل فالأمر سهل.

واما : « الإجزاء » فقد أفاد : بان المراد به معناه اللغوي والعرفي ، وهو الكفاية ، غاية الأمر ان المكفي عنه يختلف ، فتارة : يكون إسقاط القضاء. وأخرى : يكون إسقاط الإعادة. ومع إمكان حمله على المراد العرفي اللغوي لا يتجه جعل معناه اصطلاحيا ، بمعنى إسقاط القضاء أو إسقاط الإعادة.

وبعد ان فرغ من ذلك تعرض إلى جهة الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة دلالة الأمر على المرة أو التكرار ، إذ قد يتوهم عدم الفرق بينهما ، حيث انه على القول بعدم الاجزاء لا بد من تكرار الفعل ، كما انه بناء على دلالته على التكرار لا بد من تكرار العمل. ببيان : ان المبحوث عنه في تلك المسألة يختلف عنه في هذه المسألة ، فان المبحوث عنه في تلك هو تشخيص المأمور به وتعيينه ،

ص: 10

وانه هل الوجودات المتعددة أو الوجود الواحد ، والبحث في هذه عن ان الإتيان بما هو المأمور به هل يجزي أو لا ، فهو في طول تعيين المأمور به؟.

كما تعرض إلى بيان الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعية القضاء للأداء التي يبحث فيها عن ان القضاء هل هو بأمر جديد أو يثبت بنفس الأمر الأدائي؟ ، ولكن لم يظهر الوجه في تعرضه لذلك بعد عدم وجود القدر الجامع بين المسألتين الموجب لتوهم كونهما راجعتين إلى بحث واحد ، كيف؟ وموضوع تبعية القضاء للأداء عدم الإتيان بالفعل المأمور به ، وموضوع هذه المسألة هو الإتيان بالمأمور به ، وكان عليه قبل بيان الفرق الإشارة إلى ما به الاشتراك الموهم للاتحاد ، لا التعرض رأسا إلى بيان ما به الامتياز. فلاحظ. وعلى كل فالفرق واضح بين جهة البحث في هذه المسألة وجهة البحث في مسألة التبعية.

وبعد ان أنهى الكلام في هذه المقدمات تطرق إلى البحث فيما هو موضوع الكلام - أعني اجزاء الإتيان بالمأمور به وعدمه -. وأوقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالنسبة إلى أمره ، كأجزاء الإتيان المأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي ، أو المأمور به بالأمر الظاهري بالنسبة إلى الأمر الظاهري ، والمأمور به بالأمر الاضطراري بالنسبة إلى الأمر الاضطراري.

وهو مما لا إشكال فيه ، وذلك لأن المأمور به المأتي به اما ان يكون وافيا بالملاك الباعث نحو الأمر. أو لا يكون وافيا به.

فالثاني خلف كونه مأمورا به ، لأن الأمر لا يتعلق إلا بما هو واف بملاكه ، ولزم ان يكون غيره هو المأمور به لا هو لعدم وفائه بملاك الأمر.

والأول يلزمه سقوط الأمر لحصول الغرض ، والأمر تابع لحصول الغرض ، فإذا حصل سقط الأمر وإلاّ لم يكن تحصيله غرضا للأمر وغاية له.

وبالجملة : تحقق امتثال الأمر بإتيان المأمور به بذلك الأمر لا كلام فيه

ص: 11

ولا خلاف.

انما الكلام في جواز تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر للمأمور به يكون هو امتثالا للأمر وعدم جوازه.

ادعى صاحب الكفاية جوازه في بعض الموارد ، وهي ما إذا لم يكن المأمور به علة تامة لحصول الغرض.

بيان ذلك : ان المأمور به تارة : يكون علة تامة لحصول الغرض ، كما لو أمر المولى عبده بإهراق الماء في فمه لأجل رفع العطش ، فأهرق العبد الماء في فيه ، فان المأمور به علة تامة لحصول الغرض وهو رفع العطش ، ففي هذا الفرض لا يجوز تبديل الامتثال عقلا لسقوط الأمر بمجرد الإتيان بالفعل ، فلا يبقى مجال لامتثاله ثانيا. وأخرى : لا يكون علة تامة لحصول الغرض ، بل تكون نسبته إليه نسبة المقتضي أو المعد ، كما لو كان حصول الغرض يتوقف على فعل اختياري للمولى نفسه مثل ما لو أمره بإحضار الماء لرفع العطش ، فإن مجرد إحضار الماء لا يحصّل الغرض ، بل يتوقف حصوله على انضمام شرب المولى للماء ، ففي هذا الفرض يجوز عقلا تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر أفضل منه - مثلا - ليكون هو امتثالا عن الأمر ، لعدم حصول الغرض بالفعل الأول كما هو الفرض.

وأيد هذه الدعوى ، بل دلل عليها بما جاء في النصوص (1) من الأمر بالصلاة جماعة لمن كان قد صلّى فرادى وان اللّه يختار أحبّهما إليه (2).

وقد استشكل في هذه الدعوى : بأنه يستحيل ان لا يكون المأمور به علة

ص: 12


1- الكافي : 3 / 379 - باب الرّجل يصلي وحده من كتاب الصلاة. تهذيب الأحكام : 3 / 269 - الحديث : 94. الفقيه : 1 / 251 - الحديث : 41 إلى 43.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /83- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تامة لحصول الغرض لتبعية الأمر لتحصيل الغرض من المأمور به : فيستحيل ان يتوسط بين الفعل وحصول الغرض مقدمة غير اختيارية للمكلف ، بل المأمور به لا ينفك عن الغرض من الأمر ، واما ما ذكر من مثال الأمر بإحضار الماء للشرب ، فالغرض من الأمر هاهنا ليس هو نفس الشرب ، فإنه أمر اختياري للمولى لا يرتبط بالعبد ، فلا معنى لانبعاث الأمر عنه ، بل الغرض منه هو التمكن من الشرب وهو لا ينفك عن المأمور به كما لا يخفى.

وعليه ، فالإتيان بالفعل مطلقا يكون موجبا لحصول الغرض لأنه علة تامة له المستلزم لسقوط الأمر المانع من جواز تبديل الامتثال (1).

والعجيب من صاحب الكفاية استدلاله على المدعى بالنصوص المزبورة ، مع ان الكلام في تبديل الامتثال ثبوتي يحرر لأجل معرفة المراد بهذه النصوص.

ولا يخفى ان الكلام يدور بين الجواز عقلا والمنع عقلا ، فلا معنى للاستدلال على الجواز بالروايات وبالدليل في مقام الإثبات ، إذ لو ثبت المنع عقلا يعلم بعدم إرادة ما هو ظاهر الدليل الإثباتي وان المراد به خلاف ظاهره ، فيصرف عن ظاهره ، فلا يتوصل إلى إثبات الجواز بالدليل في مقام الإثبات. نعم لو وصلت المرحلة إلى التشكيك في الجواز والامتناع أمكن التمسك بالدليل الإثباتي في إثبات الجواز ويكون دليل الوقوع دليلا على الإمكان ، ولكن النوبة لا تصل إلى ذلك بل الأمر دائر بين النفي والإثبات.

فلا معنى للاستدلال بالدليل الإثباتي على عدم المنع.

وبالجملة : الكلام فيما نحن فيه انما هو في مرحلة الثبوت لمعرفة امتناع تبديل الامتثال وجوازه تمهيدا وتوطئة لتشخيص المراد من هذه النصوص ونظائرها. فلا يتجه الاستدلال بها على أحد الطرفين ثبوتا كما هو ظاهر جدا.

ص: 13


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 148 - الطبعة الأولى.

وعلى أي حال فهذا نقاش أشبه باللفظي ، فلا أثر لتطويل الكلام فيه.

وانما المهم تحقيق أصل الدعوى. فنقول : الكلام ..

تارة : يقع في تحقيق جواز تبديل الامتثال وعدم جوازه بالمعنى اللفظي لتبديل الامتثال ، الراجع إلى البحث في جواز رفع عنوان الامتثال الصادق على فعل وتطبيقه على فعل آخر وجعله هو الامتثال دون ذلك الفعل الأول.

وأخرى : لا يقع في مؤدى هذا اللفظ ، بل يبحث في جواز الإتيان بفرد آخر - بعد الإتيان بما يكون امتثالا لو اكتفي به - بنحو عبادي قربي يقصد به تحصيل ما هو ملاك الأمر الأقصى فيكون امتثالا واقعيا. ولا يتعين الأول لأن يكون امتثالا وان تعين على تقدير الاكتفاء به.

ولا يخفى ان البحث فيما لم يكن الفعل علة تامة لحصول الغرض كما لو كان هناك غرض أقصى من الفعل يحصل باختيار المولى ، إذ لو كان الفعل علة تامة لحصول الغرض يسقط به الأمر ويحصل به الغرض فلا مجال للتعبد بالفعل ثانيا ولا تجري فيه وجوه الجواز الآتية كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

ويتضح الفرق جليا بين نحوي الكلام في ضمن البحث.

ولنوقع البحث على النحو الثاني. فنقول : انه قد يذكر لجواز الإتيان بالفعل ثانيا بنحو عبادي وقابل لانطباق عنوان الامتثال الواقعي عليه وانصرافه عن الآخر وجوه ثلاثة :

الوجه الأول : الالتزام بان الواجب - فيما لو كان هناك غرض أقصى يتوسط بينه وبين الفعل ما لا اختيار للمكلف فيه كفعل المولى - هو الحصة المقارنة لترتب الغرض الأقصى عليها ، فما لم يترتب عليها الغرض الأقصى لا تكون واجبة ولا يشملها الوجوب ، كما يقال في ان الوجوب المقدمي إنما يترشح على المقدمة الموصلة دون غيرها ، بمعنى ان الواجب من المقدمات هو المقدمة التي يترتب عليها الواجب دون ما لا يترتب عليه ، وفي مقابله القول بان الواجب

ص: 14

مطلق المقدمة الموصلة وغيرها.

وبالجملة : إذا التزم بمبنى المقدمة الموصلة فيما نحن فيه وقيل ان الوجوب المترشح عن تحصيل الغرض والناشئ عنه انما يثبت للفعل الموصل للغرض بمعنى الحصة الملازمة لترتب الغرض فغيرها لا تتصف بالوجوب المقدمي للغرض ، أمكن الإتيان بفعل آخر بعد الإتيان بأول مع فرض عدم حصول الغرض الأقصى بالأول فعلا ، فيمكن الإتيان بفعل آخر برجاء تحصيل غرض المولى به ليكون مصداقا للامتثال ، فإذا حصل غرض المولى به كان هو الواجب وما به الامتثال لأنه هو الموصل دون الأول.

وبعبارة أخرى : حيث انه بعد لم يسقط الأمر بالأول وعدم العلم بكونه هو الامتثال ، أمكن الإتيان بفرد برجاء الأمر وتحصيل غرض المولى ، فيكون امتثالا وواجبا لو حصل به غرض المولى. فالإتيان بفرد آخر يمكن ان يكون امتثالا وبرجاء الأمر جائز بلا كلام على الالتزام بالمقدمة الموصلة.

الوجه الثاني : انه لو لم يلتزم بالمقدمة الموصلة وان الواجب ما يصلح للإيصال ومطلق ما هو مقدمة موصلا كان أولا ، فيكون الفعل الأول امتثالا جزميا ويسقط به الأمر للامتثال به لكنه مع هذا يمكن الإتيان بفرد آخر بداعي تحصيل ما هو محبوب للمولى والوصول إلى ما هو ملاك الأمر. فانه إذا كان للمولى غرض أقصى مرغوب فيه - كالشرب في مثال الأمر بإحضار الماء - ولم يتحقق بالفرد الأول وان سقط به الأمر ، أمكن ان يؤتى بفرد آخر برجاء تحصيل ما هو محبوب المولى به وهو الشرب ، فإذا جاء بإناء ثان بهذا القصد كان الفعل عباديا صحيحا - نظير الاحتياط - ، فإذا تحقق الغرض الأقصى به كان موضوع آثار الامتثال ، بمعنى يكون حاويا لملاك الامتثال فيكون امتثالا واقعيا يترتب عليه أثر الامتثال دون الأول.

الوجه الثالث : - وهو المنسوب إلى المرحوم المحقق الشيخ كاظم

ص: 15

الشيرازي قدس سره - وهو وجه عرفي محصله : انه إذا كان للمولى غرض أقصى لا يحصل بمجرد الإتيان بالفعل ، فالعرف يرى في مثل الحال ان المكلف مخير بين إبقاء الفرد الأول وبين إتلافه والإتيان بفرد جديد آخر ، فهناك وجوب تخييري متعلق بإبقاء الفرد الأول والإتيان بفرد آخر بنحو التخيير.

ولا يخفى انه من المقرر في مورد الوجوب التخييري جواز الإتيان بكلا فردي الوجوب دفعة ويكون كل منهما امتثالا للأمر.

وعليه ، فيمكن للمكلف أن يأتي بفرد آخر جديد في عرض إبقاء الفرد الأول الّذي هو طرف التخيير ، فيأتي - في مثال الأمر بالماء - بإناء ثان في حال إبقاء الإناء الأول ، فيكون كل من الإبقاء والإتيان بإناء ثان امتثالا للأمر التخييري ، فالفرد الثاني يقع امتثالا للأمر. وهذا امر عرفي واضح.

ومن الظاهر ان هذا الوجه إنما يتم في المورد الّذي يكون الإبقاء اختياريا للمكلف كما في الإتيان بالإناء الّذي فيه ماء ، إذ يتمكن المكلف من إراقة الماء فينعدم الفرد. واما المورد الّذي لا يكون الإبقاء اختياريا للمكلف ، فلا يتم ذلك ، إذ لا يكون الإبقاء حينئذ طرف الوجوب التخييري كما في مورد الأمر بالصلاة ، فان إبقاء المكلف للصلاة التي جاء بها ليس اختياريا له ، إذ لا يتمكن من رفعها وإعدامها بأي طريقة ، فان الفعل قد وقع فلا يرتفع كما هو ظاهر جدا.

وعلى أي حال فهو وجه لا بأس به.

والمتحصل : ان هذا المعنى من تبديل الامتثال أمر معقول ولا محذور فيه.

وقد ذهب المحقق العراقي - كما في تقريرات بحثه - إلى عدم معقولية تبديل الامتثال ، ببيان : انه ان التزمنا بالمقدمة الموصلة صح الإتيان بفرد آخر برجاء امتثال الأمر به وتحصيل غرض المولى ، وحينئذ إذا اختاره المولى في تحصيل غرضه كان هو مصداق الامتثال دون الأول ، فلا يكون من باب تبديل الامتثال ، لأن الفرد الأول غير امتثال. وان لم نلتزم بالمقدمة الموصلة كان الإتيان

ص: 16

بالفرد الأول مسقطا للأمر لكونه امتثالا ، فلا مجال للإتيان بفرد آخر ثانيا ليصير امتثالا لعدم الأمر (1).

وهو كما لا يخفى يبتني على إرادة تبديل الامتثال بالمعنى الأول ، فيرجع النقاش لفظيا ، لا بالمعنى الّذي عرفت معقوليته ، وعليه يمكن حمل النصوص الواردة في أمر من صلى فرادى بالصلاة جماعة. اما بناء على المقدمة الموصلة فواضح ، فانه يستكشف من هذا الدليل ان للصلاة غرضا أقصى يمكن ان يحصل بكلا الفردين ، فما هو الأفضل لدى اللّه هو الّذي يكون محصلا للغرض باختياره ، فيقع امتثالا دون الآخر. وهكذا بناء على الوجه الثاني ، إذ للمولى ان يختار في تحصيل غرضه ما هو الأفضل منهما فيكون في الحقيقة هو مصداق الامتثال وان لم يكن أمر بعد الإتيان بالفرد الأول. واما بناء على الوجه الثالث ، فالأمر فيه كذلك ، فانه وان وقع كل من الفردين امتثالا للأمر ، لكن يمكن ان يختار أحبهما في مقام استحقاق الثواب باعتبار تحصيل الغرض الأقصى به ، ولا يتعدد الثواب لوحدة الملاك والغرض الباعث للأمر التخييري ، إلا انه يلزم الاقتصار على مورده ، أعني الصلاة جماعة أو مطلق الصلاة ، إذ لا بد في جواز تبديل الامتثال بالمعنى الّذي عرفته من إحراز وجود غرض أقصى للمولى ، فمع عدم الدليل عليه لا يتجه الإتيان بالفعل ثانيا لعدم وجود ملاك المقربية والامتثال فيه. والدليل فيما نحن فيه مختص بالصلاة ، فيستكشف منه وجود غرض أقصى في الصلاة فقط اما بنحو العموم ، أو في خصوص صلاة الجماعة.

ولا يخفى انه مع عدم الالتزام بجواز تبديل الامتثال بأي معنى كان والالتزام بمنعه عقلا يشكل الأمر في هذه النصوص من حيث مفادها. وتقريب الإشكال : انه اما ان يلتزم بان الصلاة الأخرى المعادة متعلقة للأمر - الوجوبيّ

ص: 17


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 263 - الطبعة الأولى.

أو الاستحبابي - أو لا يلتزم بذلك. فعلى الأول تكون امتثالا آخرا لأمر آخر فلا معنى لاختيار إحداهما ، إذ كل منهما مأمور به وقد وقعت امتثالا لأمرها فيستحق العبد ثوابين. وان لم يلتزم بوجود امر آخر متعلق بها ، فيشكل الإتيان بها مع عدم الأمر بها وسقوط الأمر الأول وعدم جواز تبديل الامتثال.

والتخلص من هذا الإشكال : بان اختيار أحبهما إليه انما هو راجع إلى مقام الثواب الّذي هو تفضل منه سبحانه ، أجنبي بالمرة عن مفاد الإشكال كما لا يخفى بأدنى تأمل.

وقد التزم المحقق الأصفهاني بتعدد الأمر ، ووجّه وحدة الثواب باختيار أحبهما بوجهين :

الأول : ان الثواب حيث انه من توابع القرب فإذا اجتمع مؤثران في القرب وكان تأثير أحدهما أكثر من الآخر ، كانا مشتركين في القدر المشترك بمعنى انه لا يحسب لكل منهما القدر المشترك بينهما ، بل القدر المشترك يجعل لهما كليهما ويضاف إليه الزائد الّذي يؤثر فيه أحدهما خاصة وهو معنى اختيار أحبهما.

الثاني : ان اجتماع المثلين في شيء واحد ممتنع كاجتماع الضدين ، فإذا كان هناك مؤثران في القرب لم يؤثر كل منهما على حدة ، لاستلزامه اجتماع فردين من القرب وهو من اجتماع المثلين ، بل المؤثر أحدهما فيمكن ان يختار اللّه في مقام التأثير ما هو الأكثر تأثيرا (1).

ولا يخفى عليك ان كلا الوجهين مخدوشان :

اما الأول : فدعوى اتحاد المؤثرين في القدر المشترك دعوى بلا دليل ، فان العقل يحكم باستحقاق الثواب - بأي معنى كان الثواب بفعل ما يوجبه ،

ص: 18


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 148 - الطبعة الأولى.

فإذا تعدد الموجب تعدد الثواب أيضا بحكم العقل ، ولا وجه لاتحاد التأثير بعد كون كل منهما قابلا في نفسه وذاته للمؤثرية.

واما الثاني : فهو أجنبي بالمرة عن مقام اتحاد المثلين ، فان مقامه الوجودات الخارجية لا النّفس ، والقرب والبعد من صفات النّفس. وقد تكرر منه إمكان اجتماع المتضادين في النّفس كالكراهة والإرادة.

وعلى كل ، فما ذكره لم يتضح وجهه ، فانه لا يمتنع ان يأتي العبد في حين واحد بفعلين مقربين يكون كل منهما موجبا للقرب ومستلزما للثواب ، وإلاّ لجرى ما ذكره في جميع الواجبات والمستحبات ولا يلتزم به.

والمتحصل : انه مع تعدد الأمر لم يظهر وجه اتحاد الثواب واختيار أحدهما في مقام الثواب ، فمع عدم الالتزام بإمكان تبديل الامتثال بالمعنى الّذي ذكرناه ، يبقى الإشكال في مفاد الرواية على حاله. فلاحظ.

المقام الثاني : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي.

والكلام في موقعين :

الموقع الأول : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي ، كما لو كان مأمورا بالصلاة مع التيمم ثم ارتفع العذر ، فهل يجب عليه الإتيان بالصلاة مع الوضوء أو لا يجب ، بل يكون الإتيان بالصلاة مع التيمم مجزيا عنه؟.

ولا بد قبل الخوض في البحث من التعرض إلى جهتين :

الجهة الأولى : في بيان موضوع الكلام ، وهو ما كان موضوع الأمر الاضطراري متحققا في الواقع بحيث يكون للأمر الاضطراري ثبوت واقعي في حين الإتيان بالعمل ، وذلك كما إذا أخذ في موضوعه الاضطرار آناً ما ، فتحقق كذلك ، أو كان موضوعه الاضطرار المستمر إلى نهاية الوقت فتحقق كذلك أيضا.

ص: 19

فانه في كلا الفرضين يكون للأمر الاضطراري ثبوت واقعي.

واما إذا لم يكن الأمر الاضطراري ثابتا واقعا لعدم تحقق موضوعه واقعا. وانما جيء بالعمل استنادا إلى إحراز تحقق الموضوع وجدانا ، أو بالاستصحاب - لو سلم جريانه في مثل الفرض - ، ثم انكشف الخلاف وعدم تحققه واقعا - كما لو كان موضوع الأمر هو الاضطرار تمام الوقت ، فتخيل انه يستمر الاضطرار معه إلى نهاية الوقت ، أو قيل بصحة إجراء الاستصحاب في أمر استقبالي.

فاستصحب بقاء الاضطرار إلى نهاية الوقت ، فجاء بالعمل الاضطراري ثم انكشف الخلاف بارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت -.

فليس هذا الفرض موضوع الكلام ، إذ لا مأمور بالأمر الاضطراري لعدم وجود الأمر الاضطراري ، كي يقع الكلام في إجزائه ، بل فرض الاستصحاب يكون من باب الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ، والكلام في إجزائه يقع في الموقع الثاني.

وجملة القول : ان موضوع الكلام انما هو الإتيان بما هو مأمور به بالأمر الاضطراري واقعا ، بحيث يكون الملاك وموضوع الأمر الاضطراري ثابتا في الواقع فيثبت الأمر بتبعه.

الجهة الثانية : في تأسيس الأصل ومعرفة القاعدة الأولية في الكلام ، بمعنى انه لا بد من معرفة ان مقتضى القاعدة والأصل الأولي - لو لم يتكفل دليل الأمر الاضطراري الإجزاء - هل هو الإجزاء أو عدمه؟ ، بحيث يرجع اليد مع قصور الدليل المتكفل للأمر الاضطراري للاجزاء. ولا يخفى انه إذا كان مقتضى الأصل الأولي هو الإجزاء ، لم يكن البحث في تكفل دليل الأمر الاضطراري الإجزاء وعدمه بذي أهمية وأثر عملي مهم ، إذ الإجزاء ثابت على كلا التقديرين اما باعتبار دلالة دليل الأمر الاضطراري أو باعتبار الأصل

ص: 20

والقاعدة الأولية. فأثر البحث في مقتضى دليل الأمر الاضطراري انما يظهر لو كان مقتضى الأصل هو عدم الإجزاء كما لا يخفى.

والكلام في الأصل تارة : في الأصل اللفظي. وأخرى : في الأصل العملي. والّذي نحققه فعلا هو الأصل اللفظي ، فنقول : ان مقتضى إطلاق دليل الأمر الواقعي الأولي لزوم الفعل مطلقا وفي جميع آنات الوقت سواء جاء بالمأمور به الاضطراري أو لا ، خرج عنه زمان الاضطرار باعتبار عدم القدرة عليه فيتقيد الحكم عقلا لاشتراط القدرة على متعلقه في تحققه ، فإذا ارتفع الاضطرار وعدم القدرة في أثناء الوقت كان إطلاق دليله محكما لعدم المانع ، وشموله لما إذا جاء بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو لم يجئ.

وبالجملة : مقتضى الإطلاق لزوم إعادة الفعل وعدم الإجزاء. هذا بالنسبة إلى لزوم الإعادة.

اما بالنسبة إلى لزوم القضاء ، فان قلنا بان القضاء تابع للأداء ، وأن دليل الأداء هو الّذي يتكفل إيجاب القضاء ، كان الأمر فيه كالإعادة ، فان إطلاق دليل الأمر الواقعي يتكفل لزوم الفعل سواء جيء بالمأمور به الاضطراري أو لم يجئ ، وهو يقتضي لزوم الفعل مطلقا إلى آخر العمر ، فيجب القضاء بمقتضى إطلاق الدليل. وان قلنا بأنه بأمر جديد لم يكن هناك إطلاق يتكفل وجوبه كما لا يخفى ، لارتفاع الأمر الأولي بخروج الوقت والشك في شمول دليل القضاء للمورد ، فالمرجع هو الأصل العملي.

والأمر الغريب ان صاحب الكفاية بعد ان يتكلم في تحقيق المطلب ثبوتا بنحو مفصل ثم يتعرض لمقام الإثبات ، وان إطلاق دليل الأمر الاضطراري يقتضي الإجزاء ، يذكر أمرا يقتضي عدم وجود ثمرة للبحث ، وهو : انه مع عدم إطلاق دليل الأمر الاضطراري ، فمقتضى الأصل العملي - الّذي هو المرجع

ص: 21

حينئذ - هو عدم وجوب الإعادة. لأنه شك في التكليف (1).

ولا يخفى ان هذا يقتضي الإجزاء سواء من جهة الدليل المتكفل للأمر الاضطراري أو من جهة الأصل ، فلا ثمرة في البحث عن دلالة الدليل ومقتضاه كما لا يخفى.

إلا ان يكون مراده قدس سره من قوله : « فالمتبع هو الإطلاق » إطلاق دليل الأمر الواقعي أو الاضطراري لا خصوص إطلاق دليل الأمر الاضطراري. وقد عرفت ان مقتضى إطلاق دليل الأمر الواقعي هو عدم الاجزاء فتظهر الثمرة العملية في البحث.

ولكن هذا خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من يلاحظه.

وبعد هاتين المقدمتين يقع الكلام في أصل المبحث ، وهو إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى بيان أنحاء ما يمكن ان يقع عليه المأمور به الاضطراري ثبوتا وأنها أربعة : لأنه اما ان يكون وافيا بملاك الأمر الواقعي بتمامه ، أو لا يكون وافيا بتمامه. والثاني اما ان يكون المقدار الباقي من المصلحة والملاك مما لا يمكن تداركه ، أو يكون مما يمكن تداركه ، والثاني اما ان يكون ذلك المقدار مصلحة ملزمة ، أو لا يكون كذلك. فالصور أربعة :

الأولى : ان يكون وافيا بتمام ملاك الأمر الواقعي.

الثانية : ان يكون وافيا ببعض الملاك ويكون المقدار الباقي مما لا يمكن تداركه.

الثالثة : ان يكون وافيا ببعض الملاك وأمكن تدارك الباقي وكان ملزما.

الرابعة : ان لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه ملزما ، بل بنحو

ص: 22


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /85- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يوجب الاستحباب.

والكلام في كل صورة يقع من جهات ثلاثة :

الأولى : في اقتضائه الاجزاء.

الثانية : في جواز البدار بمعنى الإتيان به في أول الوقت.

الثالث : في جواز تعجيز النّفس وإيجاد الاضطرار اختياريا.

اما الصورة الأولى : فهي تقتضي الاجزاء بلا كلام ، لحصول تمام ملاك الأمر الواقعي بالمأمور به الاضطراري ، فلا مجال لوجود الأمر الواقعي حينئذ.

واما جواز البدار ، فهو يتوقف على إحراز وفاء المأمور به الاضطراري بملاك الأمر الواقعي بمجرد الاضطرار ، إذ لا إشكال في جوازه لعدم فوات مصلحة الواقع به.

واما إذا كان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك مقيّدا باليأس عن ارتفاع الاضطرار أو بالانتظار إلى آخر الوقت ، فلا يجوز البدار بدون اليأس لعدم وفاء المأتي به بملاك الأمر الواقعي ولا يتحقق الإجزاء.

واما الاضطرار اختيارا فقد يدعى جوازه ، إذ لا قبح فيه بعد عدم فوات مصلحة الواقع به.

ولكنه يتوقف على إحراز ان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك بمطلق الاضطرار سواء حصل اختيارا ، أو قهرا وبدون اختيار.

ومع عدم إحراز ذلك ، وإحراز أو احتمال كون وفائه بالملاك يختص بصورة ما إذا كان حصول الاضطرار قهريا وبدون اختيار فلا يجوز التعجيز وإيجاد الاضطرار اختيارا ، إذ فيه تفويت لمصلحة الواقع الملزمة أو احتمال تفويتها مع حكم العقل بتحصيلها الموجب للعلم باشتغال الذّمّة بتحصيلها ، فلا يكفى الإتيان بالمأمور به الاضطراري لعدم إحراز فراغ الذّمّة.

واما الصورة الثانية : فلا إشكال في تحقق الإجزاء فيها ، لعدم وجود الأمر

ص: 23

الواقعي بعد ان كانت المصلحة الفائتة غير ممكنة التدارك ، إذ لا ينشأ عنها أمر بالفعل لعدم إمكان تحصيلها.

واما البدار ، فلا بدّ من ملاحظة ان المصلحة الفائتة التي لا يمكن تداركها هل هي بنحو ملزم بعد ملاحظة ما في البدار من إدراك مصلحة أول الوقت ووقوع الكسر والانكسار؟ أو لا ، فان كانت بنحو ملزم أشكل جوازه ، لأن فيه تفويتا لمصلحة لازمة الحصول. وان لم تكن بنحو ملزم جاز البدار بلا إشكال ولم يتعرض صاحب الكفاية إلى التفصيل المزبور.

واما تعجيز النّفس والاضطرار اختيارا - بعد فرض وفاء الفعل بمقدار من المصلحة في هذا الحال أيضا بلحاظ أن مطلق الاضطرار كاف في تحصيل الفعل لبعض الملاك - فهو مشكل الجواز لو كانت المصلحة الفائتة بنحو ملزم دون ما لم تكن كذلك كما هو واضح.

واما الصورة الثالثة : فالحق عدم الإجزاء ، لوجود المصلحة الملزمة التي يمكن تداركها فتكون منشئا للأمر.

واما البدار ، فلا مانع منه ، إذ ليس فيه تفويت لمصلحة الواقع بعد فرض لزوم الإتيان بالفعل بعد ارتفاع العذر كما انه يجوز له تأخير العمل إلى ما بعد العذر فيأتي بعمل واحد لا غير. فيكون المكلف مخيرا بين الإتيان بالعمل الاضطراري هذا الاضطرار والاختياري بعد ارتفاع الاضطرار وبين الإتيان بالعمل الاختياري فقط عند ارتفاع الاضطراري.

واما الاضطرار اختيارا ، فهو مما لا مانع منه بعد عدم استلزامه للتفويت لعدم الإجزاء ، لكنه ليس عملا عقلائيا - عادة - لفرض عدم الاجزاء ولزوم الإتيان بالعمل الاختياري لا محالة.

واما الصورة الرابعة : فالحق فيها الإجزاء لعدم كون المصلحة الفائتة بنحو تكون منشئا للأمر الإلزامي. نعم تكون منشأ للأمر الاستحبابي ، كما انه لا

ص: 24

إشكال في جواز البدار والاضطرار اختيارا لأن ما يفوت من المصلحة بسببهما غير لازم التحصيل ، فلا مانع من تفويته عقلا. هذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية في مرحلة الثبوت - وان كان قدس سره لم يتعرض للاضطرار اختيارا - ثم ذكر قدس سره مرحلة الإثبات وأفاد ان مقتضى إطلاق دليل الأمر بالتيمم هو الإجزاء (1).

وقد لا يتضح بدوا الارتباط بين ما ذكره في مقام الثبوت من التفصيل وبين ما انتهى إليه بحسب الدليل الإثباتي ، بحيث يرى ان ما ذكره في مقام الثبوت تطويل بلا طائل ، بعد ان كان إطلاق الدليل يقتضي الإجزاء ، فلا بد من بيان جهة الارتباط بنحو يخرج كلامه الثبوتي عن اللغوية والتطويل. ثم بيان تقريب دلالة الإطلاق على الاجزاء.

وقبل ذلك لا بد من التنبيه على شيء وهو ان البحث عن الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة موضوعه ما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري حصول الاضطرار في بعض الوقت لا جميعه بحيث يكون ارتفاع العذر في الأثناء غير مناف لوجود الأمر الاضطراري في حين العذر ، لأنه لو كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار في تمام الوقت - كما عليه المحقق النائيني والأغلب - ، فلا مجال للبحث عن الإجزاء من حيث الإعادة ، لأن ارتفاع العذر في أثناء الوقت يكشف عن عدم وجود امر اضطراري واقعا وبالمرة كي يتكلم في اجزاء إتيان المأمور به بامره ، بل البحث عن الاجزاء على هذا البناء ينحصر في البحث عنه من حيث إسقاط القضاء لا غير ، وموضوع البحث فعلا هو الاجزاء من حيث الإعادة أو القضاء ، فالمفروض على هذا كون الاضطرار في بعض الوقت موضوعا واقعا للحكم الاضطراري لا الاضطرار في تمامه فلا تغفل.

ص: 25


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /85- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبعد هذا نقول : انه حيث أفاد في مرحلة الثبوت ان جميع الصور الثبوتية تقتضي الإجزاء ما عدا الصورة الثالثة وبين ان مقتضاها ثبوت الأمر التخييري بالفعل الاضطراري حال الاضطرار والاختياري بعد ارتفاعه أو خصوص الفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار ، لما كان الحال كذلك كان مقتضى الإطلاق هو نفي كون الأمر الاضطراري على الصورة الثالثة ، فمقتضاه الإجزاء حينئذ ، إذ ما عدا هذه الصورة من الصور يقتضي الإجزاء. فجهة الارتباط بين مرحلة الثبوت ومرحلة الإثبات واضحة ، فان المقصود بدلالة الدليل على الإجزاء هو نفيه الصورة الثالثة.

واما وجه اقتضاء إطلاق الدليل نفي هذه الصورة الملازم لدلالته على الاجزاء ، فهو ان الصورة الثالثة - كما عرفت - تقتضي التخيير في الواجب بين الفعل الاضطراري عند الاضطرار والاختياري بعده وبين خصوص الفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر ، فيكون الواجب الاضطراري في هذه الصورة مشتملا على خصوصيتين خصوصية التقييد بالفعل الآخر الاختياري التي هي مفاد « الواو ». وخصوصية التخيير بينه وبين الفعل الاختياري التي هي مفاد « أو ».

ولا يخفى ان كلتا هاتين الخصوصيّتين منافيتان لمفاد الإطلاق ، لأن كلا منهما جهة زائدة على أصل الوجوب في الواجب. فيكون مقتضى الإطلاق المنعقد لدليل الأمر الاضطراري نفي كلتا الخصوصيّتين وان الواجب هو خصوص الفعل الاضطراري لا هو وغيره ولا هو أو غيره الملازم لنفي الصورة الثالثة المستلزم للإجزاء ، فمقتضى الإطلاق في النتيجة هو الإجزاء.

وهذا البيان واضح في مثل قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) (1) مما اشتمل على الأمر.

ص: 26


1- سورة النساء الآية : 43. سورة المائدة الآية : 6.

واما في مثل : « التراب أحد الطهورين » (1) مما لا يشتمل على الأمر فلا يتأتى فيه هذا التقريب ، إذ لا يتكفل بيان الوجوب ولا الواجب كي يتمسك بإطلاقه في نفي تقييده والتخيير بينه وبين غيره.

وقد يقرب التمسك بإطلاقه في الدلالة على الإجزاء بان ظاهر الدليل تنزيل البدل الاضطراري - كالتراب - منزلة المبدل منه - كالماء - ، فيتمسك بإطلاق التنزيل في إثبات كونه بمنزلته في الوفاء بتمام الغرض ، فيكون مجزيا كما عرفت.

ولكنه لا يخلو من نظر ، فان دليل التنزيل ليس ناظرا إلى جميع جهات المنزل عليه في مقام التنزيل ، فليس المتكلم في مقام البيان من جهة الوفاء بالغرض وعدم وفائه ، بل النّظر إلى التنزيل في مقام التكليف والأمر وتعيين الواجب فهو أجنبي عن مقام الوفاء بالغرض.

ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر وهو ان يقال : ان الدليل يتكفل تنزيل التيمم منزلة الوضوء في تعلق التكليف به وبيان ان الصلاة مع التيمم كالصلاة مع الوضوء في كونها متعلقة للوجوب.

وبما ان وجوب الصلاة مع الوضوء في ظرف الاختيار وجوب تعييني غير تخييري ، فيكون مقتضى دليل التنزيل هو تنزيل الصلاة مع التيمم منزلة الصلاة مع الوضوء في هذه الجهة وهي كون وجوبها تعيينيا لإطلاق دليل التنزيل من جهة الوجوب وتعلق الأمر في التنزيل من هذه الخصوصية الراجعة إلى الوجوب.

وبالجملة : دليل البدل الاضطراري سواء كان بلسان الأمر أو التنزيل يقتضي نفي التخيير بينه وبين غيره كما هو الحال في الصورة الثالثة. وعليه

ص: 27


1- عن أبي جعفر علیه السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ». وسائل الشيعة 2 / 991 باب : 21 من أبواب التيمم حديث : 1.

فيكون مقتضى إطلاق الدليل الاجزاء.

فمرجع كلام صاحب الكفاية إلى ان التخيير ملازم لعدم الاجزاء فإذا نفي بالإطلاق كان مقتضاه الإجزاء كما لا يخفى.

وقد يورد على التمسك بالإطلاق في نفي التخيير والتقييد بما بيانه : ان التمسك بإطلاق الدليل في نفي القيد المشكوك انما يتم في مورد تمامية موضوعه وثبوته ، فالتمسك بإطلاق كل دليل انما يصح في ظرف ثبوت موضوعه لتفرع ثبوت أصل الحكم على ثبوت الموضوع ، فمع عدم ثبوت موضوعه يعلم بعدم ثبوت الحكم.

وعليه ، فموضوع الأمر الاضطراري هو العذر والاضطرار ، فلا يصح التمسك بإطلاق في نفي التخيير والتقييد في غير ظرف ثبوت موضوعه وهو ظرف ارتفاع الاضطرار ، بل التمسك بإطلاقه انما يصح بالنسبة إلى القيود المشكوكة في ظرف الموضوع.

ولكنه يندفع : بتصور الإطلاق والتقييد في ظرف غير موضوعه ، مثلا : إذا ورد حكم بوجوب التصدق على المسافر ، فانه يمكن تقييد هذا الحكم ثبوتا بما إذا لم يتصدق في حال الحضر ، فمع الشك في ذلك يمكن التمسك بإطلاق : « يجب التصدق على المسافر » - مثلا - في إثبات وجوب التصدق عليه مطلقا. سواء كان قد تصدق في الحضر ، أو لم يتصدق في حال الحضر وعدم السفر. وذلك لأن عدم الوجوب على المسافر لو كان قد تصدق في الحضر يرجع في الحقيقة واللب إلى تقييد الوجوب عليه بصورة عدم التصدق في حال الحضر.

ومن هذا القبيل ما نحن فيه فان نفي وجوب المأمور به الاضطراري عند الإتيان بالفعل الاختياري في حال الاختيار يرجع إلى تقييد دليل الأمر الاضطراري لبا بصورة عدم الإتيان بالفعل الاختياري في ظرف الاختيار ، فينفي مع الشك بإطلاق الدليل.

ص: 28

وبالجملة : فالإيراد بمنع التمسك بالإطلاق من حيث توقفه على فرض ثبوت موضوعه وعدم صحته في ظرف عدم موضوع الحكم غير تام.

فالأولى في مقام الإيراد ان يقال :

أولا : انه يختص بالإجزاء من حيث إسقاط الإعادة فقط ولا يقتضي الاجزاء من حيث القضاء ، كما هو بخصوصه موضوع البحث عند من يرى موضوعية الاضطرار تمام الوقت للحكم الاضطراري. فلا يشمل ما إذا تحقق الاضطرار تمام الوقت.

والوجه فيه هو انه مع استمرار العذر إلى آخر الوقت لا تكون خصوصية التعيينية ملازمة للقول بالإجزاء كي يكون مقتضى الإطلاق الإجزاء - بلحاظ انه ينفي التخيير - ، بل القائل بعدم الاجزاء يرى تعين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم جواز تركه والإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت. فتعين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم الترخيص في تركه والإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت امر يشترك فيه القائل بالاجزاء وعدمه ، فليس نفي التخيير ملازما للاجزاء.

ودعوى : ان الصورة الثبوتية الثالثة تقتضي اشتمال الواجب الاضطراري على خصوصيتين إحداهما تقيده بالفعل الاختياري بعد العذر. والأخرى التخيير بينه وبين الفعل الاختياري بعد العذر. والأمر الثابت - مع استمرار العذر إلى آخر الوقت - هو انتفاء خصوصية التخيير التي هي بمفاد « أو » سواء على القول بالاجزاء أو القول بعدمه.

واما تقيده بالفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر الّذي هو الخصوصية بمفاد « الواو » فهذا لازم القول بعدم الاجزاء فقط ، إذ القائل بالاجزاء لا يرى لزوم الإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت بعد ارتفاع العذر. وقد تقدم ان الإطلاق ينفي كلتا الخصوصيّتين فهو ينفي خصوصية التقيد بالفعل الاختياري

ص: 29

بعد العذر خارج الوقت الملازم لنفي القول بعدم الاجزاء والقول بالاجزاء.

وان لم يكن انتفاء خصوصية التخيير ملازمة لعدم الاجزاء في الفرض كما عرفت.

مندفعة : بان لزوم الإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر خارج الوقت أو في أثنائه ، لا يرجع إلى تقييد الحكم الاضطراري ولا متعلقه ، بل هو حكم آخر استقلالي ناشئ عن المصلحة الفائتة اللزومية ، فلا يصح التمسك بإطلاق الدليل لنفيه ، لأن التمسك بإطلاق الدليل انما يصح في مورد يرجع القيد المشكوك إلى الواجب أو الوجوب ، وهذا القيد كما عرفت لا يرجع إلى الوجوب ولا الواجب. إذ كل منهما امر مستقل بذاته واف بمقدار من المصلحة اللزومية ، وليس وجوب أحدهما ولا الواجب فيه معلقا على امتثال الآخر. فهذا نظير التمسك بإطلاق دليل وجوب الصلاة الخاصة في نفي الأمر بالفرد الخاصّ من الصوم.

وبالجملة : ما قرره من التمسك بالإطلاق في نفي وجوب الفعل الاختياري مع الاضطراري لا نسلمه لعدم تماميته ، وانما الصحيح تمسكه بالإطلاق في نفي التخيير بينه وبين الفعل الاختياري ، وقد عرفت عدم إجدائه في مورد استمرار الاضطرار إلى آخر الوقت لعدم اختصاص القول بالاجزاء في نفي التخيير ، إذ يتعين الفعل في الوقت على كلا القولين.

وثانيا : ان ما ذكره لا يجدي في إثبات الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ، وذلك لأن القول بالتخيير بين الفعل الاضطراري حال الاضطرار والفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في الوقت ليس لازما للقول بعدم الإجزاء فحسب ، بل القائل بالاجزاء يلتزم بالتخيير أيضا ، إذ من الظاهر انه لا يقول أحد بلزوم الفعل الاضطراري معينا ولو مع ارتفاع العذر في أثناء الوقت وإمكان الفعل الاختياري.

ص: 30

بل الفعل الاضطراري يجوز تركه والإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر عند الكل فالتخيير لازم أعم للقول بالاجزاء والقول بعدمه.

وعليه ، فالتمسك بالإطلاق في نفي التخيير لإثبات الاجزاء لا وجه له بعد ان كان التخيير مما يلتزم به القائل بالاجزاء.

واما خصوصية تقيد الفعل الاضطراري الواجب بالإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر وهي الخصوصية الثانية في الصورة الثالثة الثبوتية ، فقد عرفت عدم صلاحية الإطلاق لنفيها ، لعدم رجوع الخصوصية إلى الواجب ولا إلى الوجوب ، وعرفت ان ما هو المسلم في نفسه هو التمسك بالإطلاق في نفى خصوصية التخيير.

وهذا غير ثابت فيما نحن فيه لاشتراك القولين في الالتزام بالتخيير.

وخلاصة القول : ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية بعد توجيهه ، بما عرفت امر لا يجدي في إثبات إجزاء الأوامر الاضطرارية لا عن الإعادة لأن التخيير لازم أعم للقولين. ولا عن القضاء - في موضوعه وهو استمرار العذر إلى نهاية الوقت - ، لأن التعيين لازم أعم للقولين. فلاحظ.

الوجه الثاني : مما قيل في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي وعدمه : ان هذه المسألة من صغريات مسألة التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص التي تحرر في باب الاستصحاب من الأصول وموضوعها ما إذا ورد عام ثم ورد تخصيصه بفرد في ظرف معين وشك في استمرار حكم المخصص بعد ذلك الظرف المعين أو ثبوت حكم العام. فيقع الكلام في إمكان استصحاب حكم الخاصّ أو التمسك بإطلاق دليل العام في إثبات حكم العام للفرد؟ فان الحال فيما نحن فيه كذلك. وذلك لورود دليل مطلق يتكفل بيان وجوب الفعل بالطهارة المائية على جميع الافراد ، ثم خرج منه الفرد المضطر غير المتمكن في حال اضطراره وعذره ، فإذا زال اضطراره يشك في ثبوت حكم العام له وشمول

ص: 31

دليل العام له.

فما يقال هناك من إمكان التمسك بإطلاق دليل العام وعدمه يقال هنا لأنه من صغريات تلك المسألة.

نعم ، احتمال استصحاب حكم المخصص منتف هنا للعلم بعدم وجوب الفعل الاضطراري بعد ارتفاع الاضطرار.

وبالجملة : هذه المسألة من صغريات تلك المسألة فلا حاجة لإتعاب النّفس في الإجزاء وعدمه.

والتحقيق : ان هذا الوجه باطل وان مسألة الإجزاء لا ترتبط بتلك المسألة وليست من صغرياتها ، إذ يرد على هذا الوجه أمور :

الأول : انه لو سلم يتناول حل مشكلة الإجزاء وعدمه من حيث الإعادة فقط ، ولا يشمل الإجزاء من حيث القضاء الّذي هو بخصوصه موضوع بحث الكثيرين بلحاظ اختيارهم كون الموضوع للأمر الاضطراري هو الاضطرار في تمام الوقت ، فلا يتصور الاجزاء إلا بلحاظ القضاء كما أشرنا إليه.

وذلك لأن التخصيص بالفرد المعذور انما كان لإطلاق دليل الفعل في الوقت.

اما دليل القضاء فلم يخصص لأنه مستقل وليس البحث في شموله لمن أتى بالمأمور به الاضطراري من صغريات البحث في التمسك بدليل العام بعد زمان التخصيص.

وبالجملة : حيث وقع البحث من الكثيرين في الاجزاء من حيث القضاء فقط لم يتجه بناء المسألة على مسألة التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص ، لعدم شموله للإجزاء من حيث القضاء ، فلا بد من ان يكون نظر الباحثين جهة عامة لفروع المسألة.

الثاني : انه عليه لا بد ان يختص النزاع في مسألة الاجزاء بما إذا كان

ص: 32

الاضطرار في أثناء الوقت لا من أوله. وذلك لما تقرر في تلك المسألة من ان خروج الفرد بالتخصيص إذا كان من أول أزمنة الحكم كان التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص مما لا إشكال فيه ولا خلاف ولذا يلتزم بجواز التمسك بإطلاق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) في نفي الشك بعد انتهاء زمان خيار المجلس لأن دليله اقتضى التخصيص من أول أزمنة الحكم. نعم إذا كان التخصيص بعد شمول حكم العام للفرد المخصص بعض الوقت كان التمسك بإطلاق العام بعد زمان التخصيص محل كلام.

وعليه ، فإذا كان الاضطرار من أول زمان الحكم ، وفي أول الوقت بحيث خرج الفرد عن الحكم من أول زمان الأمر بان كان فاقدا للماء من حين الزوال كان التمسك بإطلاق دليل العام بعد ارتفاع العذر من المسلمات فلا كلام فيه فيختص الكلام بما إذا كان الاضطرار في الأثناء ، مع ان الحال في الإجزاء وعدمه لا يفرق فيه - في كلمات القوم - بين كون الاضطرار من الأول أو في الأثناء.

الثالث : - وهو عمدة الإشكال على الوجه المزبور - ان شمول إطلاق دليل العام بعد ارتفاع العذر - فيما نحن فيه - امر مسلم لا ينكره أحد وشاهدنا على ذلك ، انه لو لم يأت بالفعل الاضطراري يجب عليه الفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر بمقتضى الإطلاق ، فلو كان مجرد التخصيص بالفرد المضطر في بعض الوقت مانعا عن شمول الإطلاق له فيما بعد الاضطرار لم يفترق فيه صورة الإتيان بالفعل الاضطراري وعدمه ، ومقتضاه عدم وجوب الفعل الاختياري لو عصى الأمر الاضطراري ، مع انه لا قائل به. فهذا مما يكشف عن ان شمول الإطلاق لما بعد ارتفاع العذر امر مسلم لا كلام فيه وانما الكلام في جهة أخرى وهي ان دليل الأمر الاضطراري هل يقتضي الصدّ من شمول

ص: 33


1- - سورة المائدة الآية : 1.

الإطلاق لو أتى بالمأمور به الاضطراري.

فالبحث ليس في أن التخصيص هل يقتضي نفي شمول الإطلاق لما بعد زمان التخصيص أو لا يقتضي؟ ، فان شموله في نفسه ثابت ولا يمنع عنه التخصيص ، وإلاّ لم يجب الفعل الاختياري ولو لم يأت بالفعل الاضطراري عصيانا ، لعدم الدليل عليه. وانما البحث في ان الإتيان بالمأمور به الاضطراري بمقتضى دليله هل يمنع من شمول الإطلاق أو لا يمنع؟.

فالكلام في مانعية الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الإطلاق - بمقتضى دليل الأمر الاضطراري - لا في مانعية نفس تخصيص الأمر الواقعي لشمول الإطلاق.

فلا تبتني هذه المسألة على تلك وليست من صغرياتها ، لأن جهة البحث في تلك المسألة مفروغ عنها هنا ولا كلام فيها ، للجزم بأحد طرفيها والبحث في جهة أخرى. فلاحظ.

الوجه الثالث : ما قرره المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - في بيان الاجزاء من حيث الإعادة ومحصله : انه اما ان يكون موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت ، فإذا انتفى الاضطرار في الأثناء كشف عن عدم ثبوت الأمر الاضطراري بالمرة ، فإذا كان إحراز الاضطرار تمام الوقت - المتوقف عليه الإتيان بالعمل في أول الوقت - بالاستصحاب الاستقبالي ، ابتني الكلام في الإجزاء هنا على إجزاء الأمر الظاهري ، إذ يتحقق بالاستصحاب أمر ظاهري ثم يظهر كون الواقع خلافه. وان كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار بعض الوقت ، كان الإتيان بالمأمور به الاضطراري مجزيا لو ارتفع العذر في الأثناء للإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد. والمفروض انه

ص: 34


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 196 - الطبعة الأولى.

جاء بصلاة واجبة ، فلا تجب الأخرى جزما.

وهذا الوجه واضح المنع فانه يختص بباب الصلاة ، إذ موضوع الإجماع هو عدم تعدد الواجب الصلاتي في وقت واحد ، فهو غاية ما يثبت الاجزاء في باب الصلاة ، ولا يخفى ان الأوامر الاضطرارية لا تختص بباب الصلاة بل تتعدى إلى غيرها من الواجبات ولم يثبت قيام الإجماع على عدم تعدد الواجب مطلقا في الوقت الواحد.

وبالجملة : هذا الوجه أخص من المدعى.

والعجيب من السيد الخوئي « دام ظله » انه بعد أن قرر الإشكال على المحقق النائيني في تعليقته على التقريرات وذكر انه لا دليل على الاجزاء في غير باب الصلاة قال : « فان كان لدليل الأمر بالفعل الاضطراري إطلاق يقتضي جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو كان الاضطرار مرتفعا بعده فهو المرجع ، وإلاّ فأصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الإعادة ، فمقتضى القاعدة هو الإجزاء في موارد الأمر الاضطراري مطلقا » (1).

ووجه الغرابة فيه هو : رجوعه إلى أصالة البراءة لنفي وجوب الإعادة ، مع ان شمول إطلاق دليل الواجب الاختياري في نفسه لما بعد ارتفاع العذر امر مسلم مفروغ عنه. والكلام فيما يمنع عنه ، والشاهد على شموله ما عرفت من انه لو لم يأت بالفعل الاضطراري في حال الاضطرار لا يستشكل أحد في وجوب الفعل الاختياري عليه بعد ارتفاع الاضطرار بدليل الواجب ، فالتمسك بأصالة البراءة في قبال إطلاق الدليل لا يعرف وجهه.

مضافا إلى ان ما ذكره من الرجوع إلى إطلاق دليل الأمر الاضطراري إذا اقتضى جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو ارتفع الاضطرار في الأثناء ،

ص: 35


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 196 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

وكونه هو المحكم المرجع ، وان كان تاما في نفسه ، إلا ان الّذي ينبغي ذكره بيان تقريب اقتضاء إطلاق دليل الأمر الاضطراري للإجزاء وجهة دلالته عليه ، فانه هو الّذي ينبغي ان يحرر ، لا بيان الرجوع إلى الإطلاق لو اقتضى الإجزاء ، فلاحظ.

وقد قرب الإجزاء في بحثه - كما في مصابيح الأصول (1) - بنحو آخر يختلف عما جاء في التعليقة. وبيانه : ان الأمر الاضطراري ملازم للاجزاء وذلك لأن الصور الثبوتية للأمر الاضطراري كما جاء في الكفاية أربعة ، ثلاثة منها تلازم الاجزاء وواحدة وهي الصورة الثالثة - حسب ترتيب الكفاية - تقتضي عدم الإجزاء كما عرفت بيانه.

والأمر الاضطراري في هذه الصورة - أعني الثالثة - غير معقول ، وذلك لرجوع الأمر فيه إلى التخيير بين الأقل والأكثر ، فان الفعل الاختياري مأمور به ، اما وحده أو مع الفعل الاضطراري وهو - أي التخيير بين الأقل والأكثر - محال كما يحقق في محله إن شاء اللّه تعالى. وإذا ثبت انه في الصورة الثالثة ليس هناك امر اضطراري وانه إذا وجد فهو لا ينفك عن ان يكون بأحد الأنحاء الثلاثة الأخرى ، وقد عرفت انه ملازم للإجزاء فيها جميعها فيمكن على هذا دعوى ملازمة الأمر الاضطراري للإجزاء بلا احتياج إلى تقريب إطلاق أو قيام ضرورة وإجماع.

وفيه : ان التخيير بين الأقل والأكثر بعنوانه غير معقول كما ذكر ، لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى إرجاع ما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر إلى التخيير بين المتباينين بدعوى ان طرف التخيير هو الأقل بحده وبشرط لا وهو مباين للأقل بشرط شيء الّذي يتحقق بالأكثر.

ص: 36


1- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 263 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : قد تقرر في محله تصوير التخيير بين الأقل والأكثر بنحو معقول وهو إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، فيرتفع المحذور الّذي يذكر في التخيير بين الأقل والأكثر كما يجاب في محله عن الإيراد بعدم الأثر في التخيير. فانتظر.

وخلاصة الإيراد عليه : ان التخيير بين الأقل والأكثر بإرجاعه إلى التخيير بين المتباينين كما سيجيء لا محذور فيه ، فيمكن إرجاع ما نحن فيه إلى ذلك النحو من التخيير. فالتفت.

الوجه الرابع لتقريب الإجزاء - وهو يختص بالأوامر الضمنية كما سيتضح - : ان دليل الفعل الاضطراري ..

تارة : يكون متكفلا لبيان محققية الفعل لما هو الشرط أو الجزء في المأمور به الواقعي. غاية الأمر أنه يقيد بصورة الاضطرار والعذر. مثلا إذا أخذ في المأمور به الواقعي شرط خاص كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ثم بيّن بدليل آخر أن الفعل الكذائي محقق لهذا الشرط وسبب له ، كالدليل الدال على سببية الوضوء للطهارة ، فمقتضى إطلاق هذا الدليل سببية الوضوء للطهارة في مطلق حالات وآنات المكلف.

فإذا جاء دليل يبيّن فيه بان التيمم كالوضوء في محققيته للطهارة ووجودها به كقوله علیه السلام : « التراب أحد الطهورين » ولكنه في ظرف خاص وهو ظرف الاضطرار ، لم يكن منافيا لدليل سببية الوضوء ، بل كان الإتيان به في ظرفه إتيانا للفعل واجدا لشرطه الواقعي ، نظير ما لو دل دليل على سببية غسل الجمعة للطهارة في يوم معين وهو يوم الجمعة ، فانه لا تنافي بين دليل الغسل والوضوء.

فإذا كان دليل الفعل الاضطراري يتكفل بيان محققية الفعل للشرط الواقعي للمأمور به كدليل : « التراب أحد الطهورين » بالنسبة إلى دليل شرطية

ص: 37

الطهارة وهو : « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) ، غاية الأمر انه يقيد بصورة العذر وحاله ، فإذا جاء بالتيمم في حال العذر فقد تحقق منه الشرط للمأمور به الواقعي وهو الطهارة ، فيكون قد جاء بالصلاة المأمور بها واقعا ، وهي الصلاة مع الطهارة ، فلا كلام في الإجزاء لأنه في الحقيقة يكون من الإتيان بالمأمور به الواقعي ولا إشكال في إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره.

وبالجملة : ليس لدينا في هذا الفرض مأمور به بالأمر الاضطراري ، بل ليس إلا الأمر الواقعي. غاية الأمر دليل الاضطرار يتكفل التوسعة فيما هو المحقق للشرط فيضيف إلى الوضوء - مثلا - التيمم في سببيته للطهارة. ومن هنا يقال انه لو توضأ في مواضع جواز التيمم للعذر صح الوضوء لإطلاق دليله الشامل لصورة العذر ، وعدم منافاة دليل التيمم له ، إذ هو يتكفل سببية التيمم ولا ينفي سببية الوضوء.

وعليه ، فالمأتي به مع التيمم يكون هو المأمور به الواقعي لأنه صلاة مع الطهارة ، فلا إشكال في إجزائه ، فيخرج الفرض نتيجة عن محل الكلام في الإجزاء وعدمه ، إذ لا تعدد للأمر في المقام.

وأخرى : يكون دليل الاضطرار متكفلا للأمر بالفعل الاضطراري مع العذر - لا بيان اشتراك الفعل الاضطراري مع الفعل الاختياري في الأثر المعتبر في المأمور به - كالأمر بالجلوس في الصلاة مع العجز عن القيام ، وكالأمر بالتيمم مع العذر لو قيل بان الشرط هو الوضوء لا الطهارة الحاصلة بأحدهما ونحو ذلك. فلا إشكال في إجزاء الفعل الاضطراري عن الأمر الواقعي أيضا.

بيان ذلك : ان دليل الشرطية لا يتكفل تكليفا وإلزاما بالفعل - حتى يختص بصورة التمكن - ، بل انما يتكفل بيان دخالة هذا الفعل في حصول

ص: 38


1- وسائل الشيعة 1 / 256 ، باب : 1 من أبواب الوضوء ، حديث : 1 و 6.

المركب وتوقفه على وجود الشرط ، بمعنى انه مع عدم الإتيان به لا يتحقق المركب المأمور به ، فحقيقة الأمر بالشرط الإرشاد إلى اعتبار هذا الفعل في تحقق المأمور به ، ومعه لا يختص الاشتراط بصورة التمكن ، بل مقتضى إطلاق الدليل هو كونه شرطا في حال التمكن وعدمه ، إذ عدم التمكن من الشرط لا ينافى شرطيته ودخالته في تحقق المركب ، نظير الشروط في الأمور التكوينية ، فان دخالتها في تحقق المركب وتوقف وجوده عليها لا يختص بحال دون حال. فان توقف « الإسكنجبين » على السكّر لا يرتفع في حال عدم التمكن من السكّر أو توقفه على الطبخ الخاصّ للأجزاء المعينة.

وبالجملة : مقتضى دليل الشرطية هو كونه شرطا مطلقا تمكن أو لم يتمكن ، إذا جاء دليل يتكفل بيان شرطية شيء في حال عدم التمكن ..

فتارة : يكون لسانه لسان جعل شرط مستقل غير الشروط المعتبرة ، بمعنى انه لا يتعرض بمفاده إلى الشروط الأخرى ، بل يتكفل جعل شرط آخر في هذا الحال ، فهو خارج عما نحن فيه. إذ الشرط الاختياري بعد على اعتباره في حال العذر. وانما أضيف إليه شرط آخر ، فلا يكون من باب الأمر الاضطراري ، بل لا بد من الإتيان بكلا الشرطين مع التمكن عقلا - ولا ملازمة بين التمكن وانتفاء الشرط الاضطراري ، إذ يمكن ان يكون موضوعه الاضطرار الشرعي كالحرج لا العقلي.

وأخرى : لا يكون مفاده ذلك ، بل يكون ناظرا إلى الشرط المعتبر غير المتمكن منه فعلا ، فيتكفل بيان ان الشرط في هذا الحال هو هذا الفعل ، كالجلوس ، فينفي شرطية القيام. فيكون دليل شرطية الجلوس حاكما على دليل شرطية القيام وموجبا لتقييد شرطيته في حال التمكن ، ومتكفلا لجعل شرطية الجلوس في حال العذر ، مع بقاء الأمر الأول بالمركب على حاله وانما تبدل الشرط.

ص: 39

وعليه ، فيكون الشرط الواقعي للمأمور به بالأمر الصلاتي الواقعي هو الجلوس - مثلا - في حال العذر ، فيكون الإتيان بالصلاة من جلوس إتيانا بالمأمور به الواقعي ، وهو ملازم للإجزاء ، لإجزاء إتيان المأمور به بالنسبة إلى أمره.

بتعبير آخر نقول : ان دليل شرطية الجلوس لا يتعرض إلى الأمر بأصل الصلاة مع القيام ، بل يتعرض إلى دليل شرطية القيام المتكفل لإطلاق شرطيته ، فيتكفل بمقتضى الحكومة تقييد دليله بحال التمكن ، ويكون الشرط للصلاة في حال الاضطرار هو الجلوس ، فالساقط في حال الاضطرار هو شرطية القيام لا الأمر بالصلاة ، بل هو باق كما كان. لكن قيّد المأمور به بشرط آخر وهو الجلوس ، فالإتيان بالصلاة من جلوس إتيان بالمأمور به الواقعي ، وهو يقتضي الإجزاء وسقوط الأمر بالصلاة ، للإتيان بما هو المأمور به بشرطه.

وخلاصة القول : ان إجزاء الفعل الاضطراري عن الأمر الواقعي واستلزامه لسقوط في مورد تكفل دليل الاضطرار بيان سببية ومحققية الفعل لما هو الشرط في المأمور به ، ومورد تكفله بيان شرطية الفعل في حال عدم التمكن ونفي شرطية غيره في هذه الحال أمر واضح جدا لا يحتاج إلى تكلف بيان ومزيد برهان ، كما جاء في التقريبات الأخرى للاجزاء. ولعله لأجل وضوحه وكونه على طبق القاعدة كان الإجزاء في فتاوى الأعلام أمرا مفروغا عنه ولا يتردد فيه أحد ، بل ان الفقيه الهمداني رحمه اللّه التزم بطرح رواية موثقة مفادها لزوم القضاء في مورد الإتيان بالفعل الاضطراري ، لجهات منها مخالفتها للقاعدة العقلية المسلمة وهي الإجزاء ، ومنافاتها لها.

ولكن الّذي ينبغي التنبيه عليه - كما أشرنا إليه - هو ان هذا التقريب الّذي ذكرناه يتكفل بيان الإجزاء في الأوامر الضمنية الاضطرارية كالأوامر المتعلقة بالشروط والأجزاء.

ص: 40

واما بالنسبة إلى الأمر الاضطراري بمركب آخر غير المركب المأمور به في حال الاختيار ، فلا يتكفل هذا التقريب بيان إجزاء الإتيان بالمأمور به عنه ، فلو فرض وجود مثل ذلك في الشرع لم يصح تطبيق هذا التقريب عليه ، واستنتاج إجزاء المأتي به الاضطراري عن الأمر الواقعي.

فان أساس ثبوت الإجزاء - على التقريب الّذي ذكرناه - هو إرجاع الفعل الاضطراري إلى كونه فردا للمأمور به الواقعي في عرض الفرد الاختياري ، فيكون مسقطا للأمر بلا كلام ، لإجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا تعدد الأمر كما لا يخفى. هذا كله بالنسبة إلى الإجزاء من حيث الإعادة.

واما الإجزاء من حيث القضاء الّذي عرفت ان محل الكلام فيه ما إذا أخذ الاضطرار تمام الوقت موضوعا للأمر الاضطراري ، إذ لا يتصور في المقام الإجزاء من حيث الإعادة ، لأن ارتفاع العذر في الأثناء يكشف عن عدم ثبوت الأمر الاضطراري.

ثم لا يخفى ان الكلام في الإجزاء من حيث القضاء إنما يقع في ما إذا كان مقتضى القاعدة الأولية ثبوت القضاء ، لقيام الدليل عليه. فيتكلم في أن الفعل الاضطراري يكفي عن القضاء أو لا يكفى ، إذ لو لم يثبت القضاء بدليل في نفسه لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وكفايته ، لعدم ثبوته. والبحث في الاجزاء والكفاية يقتضي ثبوت كلا الطرفين المجزي والمجزى عنه والكافي والمكفي.

وطريق معرفة ثبوت القضاء بقول مطلق في جميع الواجبات عند عدم الإتيان بما هو المأمور به الواقعي في الوقت. أحد وجوه :

الأول : ان يكون هناك إطلاق يقتضي وجوب الفعل مطلقا في الوقت وخارجه إلى آخر العمر ، ثم يأتي دليل منفصل يدل على التوقيت بوقت معين ،

ص: 41

ولكن يستكشف من مجموع الدليلين أو من دليل التوقيت ان التوقيت لا يرجع إلى أصل المطلوب بل إلى تمامه. وبعبارة أوضح : يفهم من قرينة داخلية أو خارجية ان التوقيت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، أو يرجع إلى دخالة الوقت في ملاك أقوى ملزم ، فإذا فات الفعل في الوقت كان مقتضى الإطلاق ثبوت وجوب الفعل خارجه ، إذ لم يقيد أصل الواجب بالوقت. وانما كان هناك مطلوب آخر لم يؤت به ، وهو الإتيان بالواجب وإيقاعه في الوقت ، أو يكون مقتضى عموم الملاك ثبوت الحكم خارج الوقت لفوات بعضه بخروج الوقت ، والمفروض كون الباقي ملزما بالفعل.

وعلى هذا الأساس يقال بتبعية القضاء للأداء وان دليل الأداء نفسه يتكفل إيجاب القضاء.

الثاني : ان لا يلتزم بإطلاق دليل الفعل الواجب وشموله إلى ما بعد الوقت ، بل ما يدل عليه هو وجوب الفعل في الوقت لا أكثر ، لكن يرد دليل خارجي يدل على ان التوقيت المأخوذ في الدليل انما هو على نحو تعدد المطلوب لا وحدته ، وان في المقام مطلوبين أحدهما الفعل. والآخر إيقاعه في الوقت ، فإذا فات الثاني بخروج الوقت بقي الأول أعني طلب الفعل على حاله.

الثالث : ان لا يكون مقتضى الإطلاق تعدد المطلوب ، ولا ذلك مقتضى دليل خارجي ، بل يكون الوقت والواجب بنحو وحدة المطلوب ، ولكن يثبت دليل خارجي على لزوم الإتيان بالفعل مع عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت ، فيثبت لزوم القضاء.

والحاصل : أنه بأحد هذه الوجوه الثلاثة يمكن إثبات لزوم القضاء بقول مطلق في جميع الواجبات ، فيتكلم في هذا الفرض في كفاية الفعل الاضطراري عنه ، واستلزامه لسقوطه وعدم كفايته.

ومع هذا لا وجه للتمسك في نفي وجوب القضاء بإجراء أصالة البراءة

ص: 42

باعتبار الشك فيه ، وهو شك في التكليف الّذي تجري فيه أصالة البراءة ، لأن فرض الكلام وجود دليل يدل على لزوم القضاء وهو شامل في نفسه لما نحن فيه. والكلام في إجزاء الفعل الاضطراري عنه ، اما مع الشك فيه فليس هو محل الكلام ، إذ لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وعدم إجزائه - كما لا يخفى -.

ثم ان الوجه في إجزاء الفعل الاضطراري عن القضاء بناء على ما قربناه من الإجزاء عن الإعادة واضح ، إذ موضوع لزوم القضاء هو عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت. وقد عرفت بمقتضى التقريب المزبور - ان الفعل الاضطراري يكون فردا للمأمور به الواقعي ، لأن دليله اما ان يتكفل بيان محققية الفعل في حال الاضطرار لما هو الشرط الواقعي ، أو يتكفل بيان شرطية الفعل للمأمور به الواقعي في حال العذر ، بحيث ينفي بالملازمة شرطية الفعل الاختياري ، ويستلزم تقييد إطلاقه بحال الاختيار وعدم العذر. وعلى كلا التقديرين يكون إتيان الفعل الاضطراري إتيانا لما هو المأمور به واقعا ، ومعه يسقط الأمر بالفعل ، فلا يبقى ثابتا إلى ما بعد خروج الوقت ، بل الحال فيه هاهنا عين الحال في الإعادة ، كما انه لا يتحقق موضوع القضاء ليشمله دليل القضاء المنفصل ، لعدم ترك الواجب الواقعي في وقته.

وبالجملة : نفس التقريب السابق في نفي الإعادة يتأتى في نفى القضاء بلا زيادة ولا نقصان ، فالتفت.

وقد قرب نفي القضاء في الكفاية بما تقدم بيانه ، من التمسك بإطلاق دليل الفعل الاضطراري في نفي التخيير الملازم للإجزاء عن الإعادة - بالبيان المتقدم - ، فيستلزم الإجزاء عن القضاء ، إذ مع سقوط الأمر بالإعادة في ظرف الإعادة يسقط الأمر بالقضاء جزما ، لتفرعه على الأمر بالفعل في الوقت. فبيانه قدس سره وان اختص بنفي الإعادة لكنه يلازم نفي القضاء.

ص: 43

ولكن عرفت الإشكال عليه بان هذا لا يشمل الإجزاء عن القضاء فيما لو كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت ، لأن تعيين الفعل في الوقت الثابت بالإطلاق ليس لازما للقول بالاجزاء. بل القائل بعدم الاجزاء يقول بتعيين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم جواز تركه ، فالتمسك بالإطلاق في نفي التخيير وإثبات التعيين لا يلازم الإجزاء ، بل هو لازم أعم للإجزاء وعدمه ، فلا يتكفل تقريبه إثبات الإجزاء عن القضاء.

وجاء في تقريرات المحقق النائيني رحمه اللّه تقرير الإجزاء عن القضاء بما محصله : ان القيد المتعذر في تمام الوقت اما ان يكون دخيلا في ملاك الواجب مطلقا ، حتى في حال التعذر ، كالطهور. فلا يمكن الأمر بفاقده في الوقت لعدم كون الفاقد ذا مصلحة ، واما ان لا يكون دخيلا في ملاك الواجب حين تعذره ، كالطهارة المائية ، فلا تكون الفريضة فائتة بملاكها لحصوله بالفعل مع التيمم ، فلا يجب القضاء لأن القضاء تابع لفوت الفريضة في الوقت بملاكها. فالأمر بالفاقد في الوقت يكشف عن تحقق الملاك به - وإلاّ لما أمر به - ومعه لا معنى لإيجاب القضاء (1).

وقد أورد عليه : بان هذا انما يتم في ما لو فرض وحدة المصلحة والملاك في الأمر الاضطراري والواقعي وهو غير مفروض ، إذ يمكن ان يكون الأمر الاضطراري بملاك آخر ومصلحة أخرى - مع فوات مصلحة الواجب الواقعي في حال التعذر - ، فيتكلم في ان هذه المصلحة هل يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع أو لا؟.

وعليه ، فالأمر الاضطراري لا يكشف عن وفاء الفعل بمصلحة الواقع ، لإمكان ان يكون ناشئا عن مصلحة أخرى في الفعل ، دون ان يكون فيه مصلحة

ص: 44


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 195 - الطبعة الأولى.

الواقع لدخالة القيد المتعذر في تحققها.

والّذي يظهر بعد كل هذا ان الوجه التام والقريب إلى الأذهان في إثبات الإجزاء من حيث الإعادة والقضاء هو ما ذكرناه. فتدبر.

الموقع الثاني : في اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، كما لو قام أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فصلى بدون سورة ، ثم انكشف ان السورة واجبة ، فهل تكون الصلاة بدون سورة مجزية عن الواقع أو لا؟.

وقبل الخوض في محل الكلام لا بد من التنبيه على ما هو موضوع البحث ، فنقول : موضوع البحث ما إذا استند في عمله إلى حجة شرعية في الواقع ، بحيث لا تنسلب حجتها في ظرفها مع انكشاف كون الواقع على خلافها.

وبتعبير آخر : ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي انقطع بانكشاف الواقع وانتهى أمده بمعرفة الواقع ، فلا يشمل ما إذا كان له وجود تخيلي يتضح انتفاؤه من أول الأمر بانكشاف الواقع ، كما إذا استند إلى ما تخيل انه حجة شرعية ، كخبر فاسق تخيل انه خبر عادل فانه وان كان في حين العمل معذورا لجهله المركب ، ولكن لم يثبت في حقه حكم ظاهري واقعا بل تخيلا ، إذ لم تقم الحجة الواقعية في حقه ، بل ما تخيل انه حجة ، وهو لا يستلزم ثبوت الحكم الظاهري.

والسرّ في عدم دخول مثل هذا الحكم الظاهري في موضوع البحث ، ما يشير إليه صاحب الكفاية في ذيل مبحث الاجزاء (1) من عدم اجزاء الحكم المقطوع به عن الواقع ، وذلك لأن جميع ما يقال في تقريب الاجزاء في الأوامر الظاهرية بنحو التعميم أو التفصيل لا يتأتى في مثل هذا ، إذ لا وجود للحكم

ص: 45


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /88- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الظاهري كي يبحث عن اجزاء العمل على طبقه عن الواقع. فهو خارج عن موضوع البحث في الاجزاء وعدمه. فموضوع البحث ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي في زمان محدود يتحدد بانكشاف الخلاف ، بحيث يكون انكشاف الخلاف رافعا للحكم الظاهري من حينه لا من أول الأمر ، فهو لا يكشف عن عدم ثبوت الحكم الظاهري وانما يقتضي ارتفاعه. كما إذا استند في عمله إلى قول المجتهد المفروض انه حجة في حقه ، ثم بعد حين انكشف له باجتهاده ان الواقع على خلاف رأي المجتهد الّذي كان يقلده ، فان انكشاف الخلاف لا يسلب حجية القول المجتهد في ظرفها ولا يكشف عن عدم حجيته ، فلا يقتضي الا رفع الحكم الظاهري لا نفيه من أول الأمر ، فللحكم الظاهري ثبوت واقعي ، فيبحث في انه يقتضي اجزاء العمل المأتي به على طبقه عن الواقع أو لا.

ومن هذا البيان يظهر ان تبدل الرّأي الحاصل للمجتهد وانكشاف كون الحكم الواقعي خلاف ما كان يرتئيه أولا لا يدخل في موضوع البحث - بالنسبة إلى عمل نفسه دون مقلديه كما سيظهر - ، وذلك لأن الحكم الظاهري الثابت في نظره أولا بواسطة الاستناد إلى حجة حكم تخيلي ، فانه ينكشف لديه انه قد اشتبه في استفادة الحكم المذكور ، اما لاشتباهه في دلالة الدليل فكان يتخيل ظهوره في شيء ثم يظهر له انه ظاهر في غيره ، أو لاشتباهه في سند الدليل بتخيل ان الخبر لعادل فظهر انه لغير عادل.

وبالجملة : الّذي يتبين للمجتهد في أغلب الموارد انه لم يكن ما استند إليه في مقام العمل وإبداء الرّأي حجة شرعية - فلم يكن ما تخيل انه ظاهر بظاهر فلا يكون حجة ، وما تخيل انه خبر عادل بخبر عادل وهو غير حجة وهكذا - ، فليس للحكم الظاهري السابق وجود واقعي في حقه ، إذ ليس هناك ما يقتضيه ، لأنه ينشأ عن قيام الحجة ، بل كان له وجود تخيلي انكشف عدمه من أول الأمر

ص: 46

بانكشاف عدم حجية ما استند إليه في مقام الحكم من ظهور ونحوه. فيشكل الاجزاء في حقه بالنسبة إلى عمل نفسه.

نعم يتأتى بحث الاجزاء في الفرض بالنسبة إلى عمل مقلديه ، إذ قول المجتهد بالنسبة إليهم حجة واقعا ، فيكون الحكم الأول ثابت في حقهم في مرحلة الظاهر واقعا ، وان ارتفع بالحكم الثاني المستنبط أخيرا ، لكنه ارتفع من حين الرّأي الثاني لا من أول الأمر. فتدبر.

وبعد هذا نقول : ان البحث يقع في اجزاء الحكم الظاهري أعم من ثبوته بأصل أو أمارة ، وأعم من كون انكشاف خلافه بأمارة ظنية أو بعلم وجداني. وفي المسألة أقوال كثيرة ، ولا يهمنا سطرها ، وانما المهم بيان ما يحتمل من وجوه الاجزاء.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى الإجزاء في بعض الأصول دون الأمارات إذا كان اعتبارها بنحو الطريقية. - ولا يخفى ان الفرق بين الأمارة والأصل ، ان الشك وعدم العلم مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة ، فان عدم العلم مأخوذ فيها بنحو الظرفية لا بنحو الموضوعية ، وتحقيق الفرق بين أخذه موضوعا وأخذه ظرفا يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى من مباحث الأصول العملية -.

اما ما ذكره بالنسبة إلى اجزاء بعض الأصول وهو ما كان متكفلا لتنقيح ما هو موضوع التكليف وبلسان جعله وإيجاده ، كأصالة الطهارة وأصالة الحلية واستصحاب الطهارة والحلية ، بناء على كون المجعول في الاستصحاب حكما ظاهريا مماثلا للحكم الواقعي الّذي قواه صاحب الكفاية (1).

فقد أفاد : ان أصالة الحل والطهارة بما انهما يتكفلان جعل الموضوع وإيجاده في ظرف الشك ، كان مقتضى ذلك ترتب الشرطية على ما هو المجعول

ص: 47


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 392 و414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بهما ، فيكون دليلهما متكفّلا لتوسعة صدق موضوع الشرطية المأخوذ في دليل الاشتراط ، فيكون حاكما على أدلة اشتراط الطهارة والحلية لتكفله بيان أحد افراد الموضوع ، ويكون المأتي به مع الطهارة أو الحلية الظاهرية واجدا لشرطه واقعا ، لأن الشرط الواقعي هو الأعم. فتكون الطهارة المجعولة في ظرف الشك نظير الطهارة الأصلية الثابتة لمطلق الأشياء - غير ما استثني من الأعيان النجسة - أو الطهارة المتحققة بعد التطهير بالكرّ. وعليه فيكون العمل مجزيا عن الواقع للإتيان بما هو المأمور به بشرطه ، ولا يكون العلم بالنجاسة من باب انكشاف فقدان الشرط ، بل من باب ارتفاع الشرط كطروّ النجاسة على ما كان طاهرا حسب أصله ، لتحقق الشرط سابقا وهو الطهارة الظاهرية وقد ارتفعت بالعلم لتحديدها به.

وبالجملة : فأصالة الطهارة تكون حاكمة على أدلة الاشتراط ، فتثبت الشرطية للطهارة الثابتة بها (1).

وقد أورد على ما أفاده قدس سره بالنقض والحل ولا بد قبل التعرض لبيان الإيرادات من إيضاح كلام الكفاية وسبر مراده ، كي يتضح الحال في ما أورد عليه نقضا وحلا. وإيضاحه يتوقف على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان الحكومة - كما ذكره في محله - عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر وتصرفه فيه في مرحلة دلالته ، اما في عقد الوضع أو الحمل.

وهذا يتصور بأنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون الدليل المحكوم متكفلا لجعل حكم على موضوع اعتباري جعلي ، فيأتي دليل آخر يتكفل إيجاد فرد من افراد ذلك الموضوع وجعله

ص: 48


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /86- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اعتبارا في مورد ما ، فيترتب عليه الحكم الثابت بالدليل المحكوم قهرا. مثلا : لدينا دليل يتكفل جواز بيع المملوك ، كما لدينا دليل يتكفل جعل الملكية واعتبارها في مورد الحيازة. فان هذا الدليل يتكفل إيجاد الموضوع فيتسع صدق الموضوع به.

ويثبت الحكم له بالدليل الأول المتكفل لجواز بيع المملوك. ومثله ما إذا استصحبت الملكية ، فانه - على بعض المباني - يتكفل إيجاد الملكية ، نظير دليل من حاز ملك. غاية الأمر ان موارد الاعتبار تختلف ، فهذا يتكفل الاعتبار في مورد الحيازة ، وذلك في مورد الشك. فالدليل المتكفل لإيجاد الموضوع ليس له نظر إلى ترتب الحكم عليه الثابت بالدليل الآخر ، بل الحكم ثابت قهرا بمقتضى الدليل الآخر بعد تحقق الموضوع في عالمه. - نعم لا بد من الالتفات إلى ترتب الحكم عليه كي يخرج الاعتبار عن اللغوية بلا ان يكون الاعتبار بلحاظ ثبوت الأثر بدليل الاعتبار ، بل دليل الاعتبار لا يتكفل سوى الإيجاد والاعتبار لا غير -.

ومن هنا خرج هذا النحو عن الحكومة الاصطلاحية المتقومة بنظر أحد الدليلين إلى الآخر ، لعدم كون دليل الاعتبار ناظرا لدليل ثبوت الحكم على الموضوع الاصطلاحي وانما يشترك مع الحكومة في الأثر ، وهو تقدم الدليل المتكفل لإيجاد الموضوع على ما يتكفل ترتيب الحكم على الموضوع ، بل لا تنافي بينهما كما عرفت تقريبه.

الثاني : ان يكون الدليل المحكوم بحسب ظاهره متكفلا لجعل الحكم على الموضوع الواقعي ، فيتكفل دليل آخر اعتبار كون هذا الفرد فردا للموضوع مع عدم كونه كذلك حقيقة ، فان هذا الدليل يكون ناظرا إلى ترتيب الأثر الثابت بالدليل المحكوم على الموضوع الاعتباري بتكفله التوسعة في موضوع الحكم وجعله أعم من الحقيقي والاعتباري ، فيثبت الأثر للموضوع الاعتباري بالدليل المحكوم. فالدليل الحاكم يكون ناظرا إلى ترتب الحكم على موضوعه ومتكفلا بنفسه إلى إثباته بالدليل المحكوم ، باعتبار انه يتكفل التوسعة في موضوعه.

ص: 49

فالفرق بين هذا النحو وسابقه : ان الحكم يترتب على الموضوع الاعتباري في الأول بنفس الدليل المحكوم بلا ان يكون الدليل الحاكم دخيلا في هذا الأمر ، بخلافه في النحو الثاني فان الأمر وان كان يثبت بالدليل المحكوم لكن بواسطة الدليل الحاكم ونظره في الاعتبار إلى ترتب الأثر الّذي يتكفله الدليل المحكوم.

الثالث : ان يكون الدليل الحاكم متكفلا لإثبات حكم مماثل على موضوعه ، لا إثبات نفس الحكم الثابت بالدليل المحكوم - كما في بعض أدلة التنزيل - ، ولعل قوله : « الطواف في البيت صلاة » (1) يرجع إلى هذا النحو ، فانه بهذا اللسان ناظر إلى إثبات شرطية الطهارة ونحوها للطواف ، ولكن يثبت به حكم مماثل لحكم الصلاة ، لا ان نفس الشرطية المنشأة في قوله مثلا : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) تثبت للطواف ، بل يثبت المماثل لها.

المقدمة الثانية : ان الدليل المتكفل لإثبات موضوع ظاهري بلحاظ ترتب أثر معين له ، تارة : يكون لهذا الأثر أثر مناقض ثابت لضد موضوعه ، نظير استصحاب الملكية لزيد ، فانه يترتب عليه أثر الملكية لجواز النقل والانتقال ، وللملكية ضد وهو الوقف ، له أثر مناقض لأثر الملكية ، وهو عدم جواز النقل والانتقال. وأخرى : لا يكون للموضوع الظاهري الثابت بالدليل ضد ذو أثر مناقض لأثره ، نظير الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة ، فانه ليس للنجاسة أثر يناقض الشرطية وهو المانعية عن الصلاة ، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا ، بل المأخوذ هو الطهارة في موضوع الشرطية - وقد تقرر ان أحد الضدين إذا أخذ شرطا امتنع أخذ الضد الآخر مانعا لتساوي الضدين رتبة واختلاف الشرط والمانع في

ص: 50


1- كنز العمال 3 / 10 الفصل الرابع في السعي والطواف. حديث : 206.
2- وسائل الشيعة 1 / 365. أبواب الوضوء حديث : 1.

الرتبة - ، نعم للنجاسة آثار لا تناقض الأثر المرغوب ، كنجاسة الملاقي ونحوها.

وهذان النحوان يشتركان في جهة ويمتازان في جهة أخرى.

اما اشتراكهما : ففي انه بقيام الدليل على ثبوت الموضوع يحكم ظاهرا بنفي جميع آثار الضد الآخر المناقضة لأثر الموضوع وغيرها.

اما في النحو الأول : فواضح ، فانه بعد ان ترتب على استصحاب الملكية - مثلا - جواز النقل والانتقال يحكم ظاهرا بنفي عدم جواز النقل والانتقال ، ولا يمكن الالتزام بهما للتناقض.

واما في النحو الثاني : فان الأثر المترتب على الضد وان لم يكن مناقضا للأثر المترتب على الموضوع الظاهري ، لكن الحكم بثبوته ظاهرا ملازم لنفي ضده في مرحلة الظاهر المستلزم لنفي آثار الضد ، فبعد ان حكم بطهارة الماء - مثلا - المستلزم لنفي نجاسته فعلا وفي مرحلة الظاهر لا يعقل ترتيب آثار النجاسة وان لم تكن مناقضة لأثر الطهارة ، إذ لا يعقل الحكم بالطهارة ونفى النجاسة وترتيب آثار النجاسة ، فيحكم بطهارة ملاقيه ظاهرا ونحوه.

واما امتيازهما : ففي ان الدليل المتكفل لإيجاد فرد ظاهري لموضوع الحكم حقيقة إذا لم يكن للأثر المترتب عليه أثر مناقض له ثابتا لضده ، كان ثبوت ذلك الأثر للموضوع المجعول ثبوتا واقعيا ، بمعنى انه يثبت له في مرحلة الواقع ونفس الأمر ، إذ هو فرد من افراد موضوعه ولو في ظرف معين ، فيثبت له واقعا بمقتضى دليله الخاصّ. ومن هذا القبيل الطهارة بالنسبة إلى الشرطية في الصلاة ، فان الدليل الّذي يثبت الطهارة ويكوّنها ويعتبرها في مرحلة الشك يقتضي ثبوت الشرطية للطهارة واقعا ، لأن موضوعها هو الطهارة وهي امر اعتباري ، واعتبار الشارع لها في مرحلة الشك تحقق فرد تكويني لها ، فتثبت له واقعا من دون مانع ، فيكون حال دليل الطهارة حال الدليل المتكفل اعتبار الطهارة إذا طهّر النجس في الكرّ في ثبوت الشرطية لها واقعا لأنه فرد للموضوع.

ص: 51

واما إذا كان لضده أثر مناقض للأثر المترتب عليه ، فبما ان الدليل لا يتكفل نفي الضد الآخر واقعا وتكوينا حتى تنتفي آثاره الواقعية واقعا بل يتكفل نفي الضد ظاهرا ، فلا يمتنع ان يكون ثابتا في الواقع وتثبت له آثاره بدليلها. فحينئذ يتعارض الدليلان الدليل المتكفل لاعتبار الموضوع الّذي يترتب عليه أثر خاص ، والدليل المتكفل لإثبات أثر - للموضوع الواقعي المفروض تحققه - مناقض لذلك الأثر ، إذا لا يمكن اجتماع هذين الحكمين المتناقضين معا على موضوع واحد. ومن هذا القبيل : الملكية لزيد الثابتة بالاستصحاب التي يترتب عليها جواز النقل والانتقال. فانه إذا كانت العين في الواقع وقفا كان أثرها مناقضا للأثر الثابت بالاستصحاب ، وذلك لعدم جواز بيع الوقف ولا يقبل النقل والانتقال : فاستصحاب ملكية زيد يقتضي جواز البيع والنقل والانتقال. والوقفية الواقعية - بمقتضى الدليل الواقعي - تقتضي عدم جواز ذلك. فيتعارض الدليلان لعدم إمكان اجتماع الحكمين.

ففي الحال هذه اما ان يلتزم بتخصيص الأدلة الواقعية وتقييدها بحال الشك وجريان الاستصحاب ، بان يقال : ان عدم جواز بيع الوقف الثابت بدليله الواقعي انما هو في غير حال الشك وقيام الأصل على عدم الوقفية ، وامّا مع ذلك فهو جائز واقعا ولا يحكم بعدم الجواز واقعا. أو لا يلتزم بذلك لوصمة التصويب فيه بتقيد الأحكام الواقعية على الموضوع بحال العلم به.

وانما يلتزم بان الجواز ظاهري والحكم بعدمه واقعي ، فيجمع بين الدليلين بذلك. فإذا زال الشك وعلم بالوقفية يرتفع الحكم الظاهري بجواز البيع لارتفاع موضوعه ، ويتأتى فيه حديث الاجزاء.

وهذا بخلاف الصورة الأولى ، فانه حيث لا مانع من ثبوت الحكم واقعا للموضوع باعتبار عدم ترتب الأثر المناقض على ضده لو كان ثابتا في الواقع ، مع وجود المقتضي لذلك ، وهو كونه فردا للموضوع تكوينا ، كان ثبوت الحكم له

ص: 52

ثبوتا واقعيا لا يتصور فيه انكشاف خلاف ، بل يرتفع بارتفاع موضوعه لانكشاف الخلاف في موضوعه.

وإذا تبين هذا فنقول : ان أدلة الاشتراط تتكفل إثبات الشرطية للطهارة ودخل وجودها في العمل الصلاتي - مثلا - ، فالدليل المتكفل لجعل الطهارة وإيجادها في عالمها الواقعي لها - أعني العالم الاعتباري - يكون موجبا لترتب الشرطية عليها بالدليل الأول ، لأنه قد حقق أحد مصاديق الموضوع ، فيترتب عليه الحكم قهرا ، فيكون حاكما على أدلة الاشتراط بالمعنى الأول للحكومة التي عرفت انها ليست من أنواع الحكومة الاصطلاحية ، لعدم النّظر في الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم أصلا ، لأنه لا يتكفل سوى جعل فرد وإيجاده من دون ان ينظر إلى ترتب الحكم الثابت بذلك الدليل عليه مما تقدم.

وبالجملة : حال أصالة الطهارة بالنسبة إلى دليل الاشتراط حال ما يتكفل تكوين « عالم » حقيقة بالنسبة إلى دليل : « أكرم العلماء » ولما لم يكن للشرطية أثر مناقض مترتب على النجاسة الواقعية ، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا لامتناع ذلك كما عرفت الإشارة إليه ، كان ثبوت الشرطية للطهارة الظاهرية - بمعنى المجعولة في حال الشك بالطهارة والنجاسة الواقعيتين - ثبوتا واقعيا.

فالطهارة الظاهرية شرط واقعا. فيكون العمل الّذي جاء به مع الطهارة الظاهرية واجدا لما هو الشرط واقعا ، فإذا زال الشك وعلم بالنجاسة وزالت الطهارة الظاهرية لم يكن في العمل بالنسبة إلى الشرط انكشاف خلاف الواقع لوجدانه للشرط واقعا ، وانما يكون من باب تبدل الموضوع فتزول الشرطية قهرا ، لارتفاع موضوعها كما لو تنجس الطاهر.

وعليه ، فالمقصود من حكومة أصالة الحل والطهارة على أدلة الاشتراط هذا المعنى من الحكومة - أعني حكومة ما يتكفل إيجاد ما هو الموضوع واقعا وتكوينه - ، فيترتب عليه الأثر واقعا بأدلة الاشتراط.

ص: 53

نعم أصالة الطهارة بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار التي ثبت ضدها للنجاسة كجواز الشرب ، إذ لا يجوز شرب النجس ، لا تتكفل ثبوتها الواقعي ، وذلك لأن الموضوع الّذي تكفلت بيان طهارته في حال الشك إذا كان نجسا واقعا تثبت له آثار النجاسة الواقعية في الواقع كعدم جواز الشرب ، ودليل الطهارة يتكفل جواز شربه ، فيتعارضان ، وقد عرفت ان مقتضى الجمع الصحيح هو الالتزام بان الحكم الثابت بالأصل حكم ظاهري والثابت للنجس الواقعي حكم واقعي ويتقرر فيهما ما قرّر في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

وهكذا الحال بالنسبة إلى آثار النجاسة الخاصة غير المناقضة لأثر الطهارة ، كتنجيس الملاقي - إذ ليس عدم تنجيس الملاقي من آثار الطهارة المجعولة ، بل المجعول هو تنجيس الملاقي للنجاسة - ، فان أصالة الطهارة تتكفل نفيها ظاهرا لاستلزامها نفي النجاسة ظاهرا كما عرفت.

وعليه ، فإذا زال الشك وانكشف الخلاف انكشف خلاف الحكم الظاهري الثابت ، وزال الحكم الظاهري من حين انكشاف الخلاف.

وخلاصة الكلام : ان أصالة الطهارة بضميمة دليل الاشتراط تتكفل إثبات الشرطية واقعا ، فيكون زوال الطهارة ظاهرا موجبا لارتفاع موضوع الشرطية وهو الطهارة ، ولا يتصور في الشرطية كشف خلاف الواقع ، لعدم المانع من ثبوت الشرطية واقعا مع وجود المقتضي وهو دليل الشرطية.

واما بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار المترتب ضدها على النجاسة فهي تتكفل ثبوته ظاهرا لأنه مقتضى الجمع بين الدليلين.

ومن هنا خصّ صاحب الكفاية بالاجزاء مورد حكومة أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط وبالنسبة إلى الشرطية والشطرية. فالتفت جيدا.

وبوضوح ما ذكرنا يتضح عدم الوجه فيما أورد على صاحب الكفاية نقضا : بان أصالة الطهارة إذا كانت تتكفل التوسعة الواقعية في موضوع له.

ص: 54

لزم ان لا يحكم بتنجس ما يلاقي النجس واقعا المحكوم بطهارته ظاهرا ، ويحكم بطهارته بعد انكشاف الخلاف لأنه لاقى الطاهر في حينه.

كما لزم ان يحكم بصحة الوضوء أو الغسل بالماء الثابتة طهارته بأصالة الطهارة أو استصحابها ، مع كونه نجسا واقعا - لو انكشف ذلك - ، لأن شرط صحة الوضوء والغسل طهارة الماء وقد تحققت.

وبأنه لو كان الاستصحاب كأصالة الطهارة يتكفل التوسعة في الموضوع واقعا.

لزم ان نحكم بصحة البيع المترتب على استصحاب ملكية زيد للمال مع انكشاف انه وقف واقعا أو انه ملك لعمرو ، لتحقق موضوع صحة البيع وجواز النقل والانتقال وهو ملكية زيد.

والحال انه لا يلتزم أحد بهذه اللوازم حتى صاحب الكفاية نفسه (1).

ووضوح عدم ورود هذه النقوض : ان نجاسة الملاقي من أحكام النجس ، إذ لم يؤخذ عدم النجاسة حكما للطهارة شرعا. وبما ان الطهارة تضاد النجاسة كان الحكم بطهارة الماء ظاهرا ملازما لنفي النجاسة ظاهرا الملازم لنفي نجاسة ملاقيه ظاهرا لا واقعا. وعليه إذا انكشف نجاسة الماء واقعا زال الحكم الظاهري ، وعلم بان الملاقي قد لاقى ما هو نجس فيترتب عليه حكم ملاقاة النجس وهو النجاسة.

وبالجملة : الحكم بطهارة الملاقي حكم ظاهري لا واقعي كالشرطية ، للفرق الواضح كما أشرنا إليه في أصل التقريب.

وهكذا الحال في عدم صحة الوضوء والغسل ، لأنه لم يثبت أخذ الطهارة في الوضوء والغسل شرطا كي تثبت للماء واقعا لعدم المانع ، بل يمكن ان يدعى

ص: 55


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 200 - الطبعة الأولى.

أخذ النجاسة فيهما مانعا ، فالذي يتكفله دليل الطهارة حينئذ نفي المانعية ظاهرا بالملازمة العقلية ، فإذا انكشف الخلاف بالعلم بنجاسة الماء فقد انكشف كون الوضوء مع المانع الواقعي ، لعدم نفي المانعية واقعا بأصالة الطهارة.

وبالجملة : لا يعلم ان أصالة الطهارة بالنسبة إلى الوضوء والغسل تتكفل حكما واقعيا يقتضي صحتهما ، لاحتمال أخذ النجاسة مانعا فيهما وعدم أخذ الطهارة شرطا ، وقد عرفت ان اعتبار أخذ الضدين ظاهرا انما ينفي آثار الضد الآخر - ولو لم تكن مناقضة لآثاره - ظاهرا لا واقعا.

واما النقض باستصحاب الملكية لزيد ، فعدم وروده لأجل ان للملكية ضدا ، له أثر يناقض أثرها ، وذلك الأثر هو عدم جواز النقل والانتقال. فجواز النقل والانتقال الثابت باستصحاب ملكية زيد بمقتضى الجمع بين الدليلين جواز ظاهري يرتفع بانكشاف خلافه ، فتكون المعاملة واقعة على ما هو وقف أو ملك عمرو واقعا وحكمها عدم الصحة واقعا.

ولعل النقض المذكور قد جاء في ذهن صاحب الكفاية فخصّ حكومة الاستصحاب باستصحاب الطهارة لا مطلق الاستصحاب ، فقال : « واستصحابهما ... ».

والحاصل : ان موارد النقوض يختلف فيها الحال عن مورد الشرطية فلا يلزم بهما صاحب الكفاية.

وقد أورد المحقق النائيني على صاحب الكفاية مضافا إلى بعض النقوض بالحل وهو أربعة وجوه :

الأول : ان الحكومة بنظر صاحب الكفاية تتقوم بان يكون الدليل الحاكم مفسرا وشارحا للدليل المحكوم ، بتضمنه ألفاظ الشرح كلفظ : « أعني » وما شابهه ، ولأجل ذلك لم يلتزم بحكومة أدلة نفي الضرر والحرج على أدلة الأحكام الواقعية.

ص: 56

وعليه ، فلا تتجه دعوى حكومة أصالة الطهارة وأصالة الحل والاستصحاب على أدلة الاشتراك لعدم كون لسانهما لسان الشرح والتفسير (1).

وفيه :

أولا : انه لم يثبت من صاحب الكفاية هذا الالتزام في باب الحكومة وان كان له شاهد في بعض عباراته في الكفاية - كما بينا ذلك في محله - ، لصراحة متابعته الشيخ في حاشيته على الرسائل في تفسير الحكومة في نفي ذلك (2).

ومقتضى القاعدة وان كان نسبة ما تتضمنه الكفاية إليه دون التعليقة مع الاختلاف ، لتأخر الكفاية ، إلاّ انه حيث لم يكن لما ذكره في الكفاية ظهور جزمي فيما نسب إليه لم يمكن نسبة المعنى المذكور إليه.

وثانيا : ان المهم فيما نحن فيه هو بيان تقدم أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط ، وتكفلها التوسعة الواقعية في مصاديق الشرط ، وقد عرفت وجهه ، اما كون جهة هذا التقديم هي الحكومة أو غيرها فهذا لا يهم فيما نحن بصدده ، فالإيراد المذكور إيراد لفظي صرف يرجع إلى بيان عدم صحة تسمية جهة التقديم بالحكومة ، وهو غير مهم في أصل الدعوى وتحقيق الاجزاء.

الثاني : ان أصالة الطهارة يستحيل ان تكون متكفلة للتوسعة الواقعية للشرط ، لأنها تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر ومورد الشك بالواقع ، فكيف تكون بنفسها موجبة لثبوت حكم واقعي لها وهو الشرطية؟ (3).

وفيه : انها انما تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر ، وذلك لا ينافي ان يثبت للطهارة الظاهرية المجعولة حكم واقعي ، وقد عرفت ان أصالة الطهارة انما تتكفل التوسعة الواقعية في الشرط ، وهو لا ينافي كون المجعول بها حكما ظاهريا.

ص: 57


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 198 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /257- الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 198 - الطبعة الأولى.

وبتعبير آخر : ما ذكره قدس سره انما يتجه لو ادعى اتحاد ما تتكفل جعله أصالة الطهارة وما تستلزم توسعته واقعا ، إذ بعد فرض ان المجعول بها امر ظاهري قد لوحظ الجهل بالواقع فيه لا يمكن فرض تكفلها توسعة المجعول بها واقعا وإيجاد فرد واقعي ، فانه خلف فرض كون المجعول بها امرا ظاهريا.

واما مع اختلاف المجعول بها وما تستلزم توسعته فلا محذور فيه ، والأمر كذلك ، فان أصالة الطهارة لا تتكفل التوسعة الواقعية في نفس الطهارة ، بل تتكفل التوسعة في الشرط الواقعي وما هو موضوع الشرطية واقعا ، وهذا لا ينافى كون المجعول بها الطهارة الظاهرية ، إذ لا امتناع في كون الطهارة الظاهرية شرطا واقعا.

الثالث : ان الحكومة على نحوين : نحو يكون الدليل الحاكم في رتبة الدليل المحكوم ، بان لا يكون الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في موضوع الدليل الحاكم ، نظير دليل : « لا شك لكثير الشك » بالنسبة إلى أدلة الشكوك في الصلاة ، فانهما في رتبة واحدة لاتحاد موضوعيهما رتبة ، وهذا النحو يعبر عنه بالحكومة الواقعية والدليل الحاكم فيه يكون معمما واقعا للدليل المحكوم أو مخصصا بلسان الحكومة. ونحو يكون الدليل الحاكم متأخرا في المرتبة عن الدليل المحكوم ، بان كان الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في الدليل الحاكم ، فيتأخر موضوعه المستلزم للتأخر الرتبي ، يعبر عن هذا النحو بالحكومة الظاهرية ، لأن الدليل الحاكم فيه لا يتكفل التوسعة أو التضييق في الدليل المحكوم واقعا لفرض ثبوته في مرحلة الشك بالواقع ، بل يتكفل التوسعة أو التضييق في مرحلة الظاهر والإحراز ، فيترتب عليه آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، ومع انكشافه ينكشف عدم ثبوت الأثر الواقعي ، لعدم تحقق موضوعه ، فيكون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء. والحكومة فيما نحن فيه من هذا القبيل ، لكون المفروض أخذ الشك في الواقع في موضوع أدلة الأصول ، فلا تكون الأصول في رتبة الدليل الواقعي ، بل

ص: 58

يكون نظرها إلى ترتب الحكم على المجعول بها ظاهرا وفي ظرف الشك.

وعليه ، فمع انكشاف الخلاف يتضح عدم وجدان العمل لشرطه الواقعي ، فلا وجه للحكم بالاجزاء حينئذ (1).

وفيه : ان ما ذكره يتم لو كانت الحكومة بأحد النحوين الأخيرين الذين يتكفل الدليل الحاكم فيها ترتيب الحكم والنّظر فيه إلى ترتب الأثر ، فيتكفل بنفسه التوسعة فيما هو موضوع الحكم ، فانه يقال عليه : انه إذا فرض انه يتكفل جعل الموضوع في مرحلة الظاهر فلا محالة يتكفل جعل الحكم له ظاهرا أيضا فيتأتى فيه انكشاف الخلاف.

واما إذا كان المراد من الحكومة هو المعنى الأول لها الّذي قد عرفت ان الدليل الحاكم فيه لا يتكفل سوى إيجاد الموضوع بلا ان يكون ناظرا إلى ترتيب الحكم عليه ، بل الحكم يثبت له بدليله الخاصّ ، فلا يتكفل سوى التوسعة في مقدار صدق ما هو الموضوع وانطباقه ، لا التوسعة في الموضوع ، فلا يتأتى فيه ما ذكره لأن ثبوت الحكم للمجعول يكون ثبوتا واقعيا ، لا معنى لانكشاف الخلاف فيه.

وقد عرفت ان حكومة أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط التي ادعاها صاحب الكفاية من النحو الأول ، لأن موضوع الشرطية أمر اعتباري ينوجد بالاعتبار والجعل وهو الطهارة ، وأصالة الطهارة تتكفل إيجاد فرد للموضوع في ظرف خاص بلا ان تتكفل هي جعل الحكم وترتيب الأثر ، بل تثبت الشرطية بدليلها للطهارة باعتبار انطباق الموضوع عليها وكونها فردا من افراده كالطهارة المجعولة للأشياء بحسب أصلها أو بعد التطهير بالكرّ ، فهي انما تتكفل التوسعة في دائرة انطباق الموضوع لا في دائرة نفس الموضوع. فتدبر.

الرابع : ان حكومة أصالة الطهارة إذا كانت بلحاظ انها تتكفل إيجاد

ص: 59


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 199 - الطبعة الأولى.

الموضوع وجعل ما هو المماثل ، وبتعبير آخر : إذا كانت جهة حكومة أصالة الطهارة واستصحابها هو تكفلهما إيجاد حكم ظاهري ، لزم ان يلتزم بالحكومة في موارد الأمارات ، لأنها تتكفل جعل حكم ظاهري مماثل للمؤدى ، فالأمارة القائمة على طهارة الماء تتكفل بدليل اعتبارها جعل الطهارة واعتبارها ظاهرا ، فتثبت لها الشرطية واقعا لأنها فرد للموضوع الاعتباري ، فلا يتصور فيه كشف الخلاف أيضا ، فلا يتجه التفصيل بين الأصول والأمارات ، مع ان ملاك الحكومة والاجزاء في كليهما متحقق (1).

ولا يخفى ان هذا الإيراد - وان كان لا يخلو عن وجه في نفسه - لكنه من مثل المحقق النائيني قدس سره غير وجيه ، لأنه قدس سره لا يلتزم بكون المجعول في باب الأمارات حكما ظاهريا ، بل ما يلتزم به كون دليل الاعتبار متكفلا لجعل الطريقية وتتميم الكشف - كما سيجيء توضيحه في محله - ، فالنقض على صاحب الكفاية بالأمارات غير وجيه ، كما ان لا يصلح ان يكون إيرادا جدليا يذكر لإلزام صاحب الكفاية بالنقض ، لأن صاحب الكفاية يتفق مع المحقق النائيني في عدم كون المجعول حكما ظاهريا بدليل الأمارة ، وان كان يختلف معه في كون المجعول بدليل الأمارة المنجزية والمعذرية التي يدعي المحقق النائيني عدم معقولية جعلها.

فهذا الإيراد انما يورد على من يلتزم بان المجعول في باب الأمارة حكم ظاهري مماثل ، إذ يتجه النقض بالأمارة حينئذ وطلب الفارق بين الموردين.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني للإجابة عنه وبيان الفرق الفارق بين الأصل والأمارة بما بيانه : ان لسان دليل الأصل يختلف عن لسان دليل الأمارة فان لسان الأصل مفاده جعل فرد ظاهري للطهارة في مقابل الفرد الواقعي ، مع

ص: 60


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 199 - الطبعة الأولى.

غض النّظر عن الواقع ، فيتكفل قهرا ثبوت الحكم لهذا الفرد يوجب التوسعة في موضوع الحكم ، فيكون أعم من الفرد الواقعي والظاهري ، فلا يتصور فيه كشف خلاف. ولسان الأمارة مفاده جعل الفرد الواقعي واعتباره وبيان ان مفاد الأمارة هو الواقع ، فلا تتكفل جعل شيء في قبال الواقع بل تتكفل اعتبار هذا هو الواقع ، فلا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم ، بل تتكفل ثبوت آثار الواقع لما اعتبر بها ، فإذا تبين انه غير الواقع كان من باب انكشاف الخلاف ، إذ لم تثبت الآثار الواقعية له ، بل تثبت آثار الواقع للبناء على انه الواقع ، فيتصور فيه انكشاف الخلاف بخلاف الأصل ، فانه لما لم يكن الاعتبار فيه بلحاظ الواقع كان متكفلا للتوسعة في الموضوع وثبوت الآثار الواقعية ، فلا معنى لانكشاف الخلاف ، بل يزول الحكم بزوال موضوعه (1).

ولا يخفى ان هذا الجواب لا يدفع الإشكال على ما قرّبنا به عبارة الكفاية ، لأنه لم نلتزم بتكفل دليل الأصل التوسعة في الموضوع وترتيب الحكم على الفرد الظاهري ، كي يفرق بين الأصل والأمارة في كيفية المفاد ونحو اللسان ، بل قد عرفت تقريبه ، بان الأصل لا يتكفل سوى جعل الموضوع الظاهري من دون لحاظ ترتب الحكم عليه ، فيترتب عليه الحكم الثابت بدليله الخاصّ على طبيعي الموضوع الاعتباري ، فهو انما يوجب التوسعة في دائرة صدق الموضوع لا دائرة نفس الموضوع. وهذا المعنى يتأتى في مفاد الأمارة ، فانها تتكفل جعل الموضوع الاعتباري ظاهرا فتحقق فردا للموضوع فيثبت له الحكم قهرا بدليله لأنه أحد افراد الموضوع ، واختلاف اللسان وكون النّظر في الأمارة إلى جعل الموضوع بلحاظ الواقع لا يكون فارقا بعد ان كانا مشتركين فيما هو ملاك ثبوت الأثر الواقعي واقعا وهو تكفلها إيجاد فرد للموضوع الاعتباري ،

ص: 61


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 153 - الطبعة الأولى.

ولا نظر لهما إلى ترتب الآثار ، كي يقال : ان نظر الأصل إلى ترتب الأثر الواقعي واقعا ، ونظر الأمارة إلى ترتب أثر الواقع ظاهرا.

فالحق في الجواب ان يقال : ان الفرق الفارق بين الأصل والأمارة لا يرجع إلى اختلاف لسانيهما ، بل إلى اختلاف المجعول بهما ، فالمجعول بالأصل غير المجعول بالأمارة ، بيان ذلك : ان المجعول بالأصل هو الطهارة بلا نظر إلى الواقع أصلا ، بل تعتبر الطهارة بالأصل مع غض النّظر عن الواقع وبإسدال الستار عليه ، فيكون الطهارة الثابتة بالأصل فردا لطبيعي الطهارة الاعتبارية الثابت لها الأثر بالدليل المعين ، في مقابل الفرد الواقعي وفي عرضه فيثبت لها الأثر الواقعي كما يثبت للطهارة الواقعية ، لكون كل منهما فردا تكوينيا لما هو موضوع الأثر. وهذا بخلاف الجعل في الأمارة ، فانه بلحاظ الوصول إلى الواقع ، فالمجعول بالأمارة هو الطهارة بما انها الطهارة الواقعية وبما هي ثابتة واقعا - ولذا يصح نسبة مفاد الأمارة إلى اللّه على انه الواقع ، والالتزام به على انه كذلك ، بخلاف مفاد الأصل فانه لا يصح الالتزام به على انه الواقع ، وهذا امر تشترك فيه جميع الالتزامات في المجعول في باب الأمارة من المنجزية أو الطريقية أو الحجية أو الحكم المماثل ، فان الجميع يلتزمون بهذا المعنى وانه عند قيام الأمارة يصح الالتزام بمفادها بما انه الواقع ويصح نسبته إليه تعالى كذلك فيقال حكم اللّه الواقعي كذا -.

وعليه ، فالفرد الثابت بالأمارة لا يكون في عرض الواقع ، بل في طوله فتترتب عليه آثار الواقع ظاهرا لا الأثر الواقعي ، فيتصور فيه كشف الخلاف بانكشاف انه غير الواقع دون ما هو مفاد الأصل.

ولإيضاح هذا المعنى جيدا ورفع الإبهام فيه كاملا نقول : انه إذا ثبت حكم على طبيعي موضوع ، كما إذا ثبت الحكم على طبيعي العالم ، فكان له فرد تكويني حقيقي ، وثبت بالدليل فرد اعتباري - وان لم يكن حقيقة كذلك - ثبت

ص: 62

ذلك الحكم لكلا الفردين الحقيقي والاعتباري ، لأن كلا منهما فرد للطبيعي ، فإذا اعتبر الفرد الاعتباري - بلحاظ جهة ما كالشك فيه - ثابتا متحققا ، بان ورد الاعتبار على الفرد لا على الطبيعي ، كان دليل الاعتبار بمقتضى ذلك متكفلا لثبوت آثار الفرد الاعتباري عليه في مرحلة الشك ، فإذا تبين انه ليس الفرد الاعتباري كان من باب انكشاف الخلاف ويزول الحكم حينئذ ، ويتبين ان لا موضوع لترتيب الآثار ، إذ لم يكن ذلك الفرد الاعتباري ثابتا في الواقع ، إذ الاعتبار الثاني في طول الاعتبار الأول فتترتب عليه آثاره لا في عرضه ، كي تترتب عليه الآثار الواقعية.

إذا عرفت هذا فما نحن فيه كذلك ، فان الأثر وهو الشرطية قد ترتب على طبيعي الطهارة التي هي امر اعتباري ، فلها فرد واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك كالطهارة المعتبرة عند التطهير بالكرّ أو كالطهارة الأصلية.

وقد ثبت لها فردا آخر ظاهرا وهو الطهارة المعتبرة بالأصل ، لكنه ثابت في عرض الفرد الواقعي ، ولذا كان الاعتبار واردا على مفهوم الطهارة وكلّيها. فثبت له الشرطية كما تثبت للفرد الواقعي.

ولكن الطهارة الثابتة بالأمارة ليست كذلك ، فانه لم يعتبر بها مفهوم الطهارة وطبيعيها ، وانما المعتبر هو الطهارة الواقعية ، أعني الفرد الواقعي للطهارة الاعتبارية - وهو غير المأخوذ في موضوعه الشك - ، فظهر : ان المعتبر في الأمارة هو الطهارة بما انها الواقع.

وعليه ، فلا تثبت لها آثار طبيعي الطهارة المأخوذ في الموضوع ، بل تثبت لها آثار الواقع ، إذ هي فرد اعتباري للواقع ، فهي في طوله ، فتترتب عليه آثاره ، وإلاّ لما اتجه اعتبار الواقع ، بل كان اللازم ان يعتبر أصل الطهارة ويتحقق كليهما في عالم الاعتبار والجعل كي تترتب عليه الآثار الواقعية ، ومعه يتصور انكشاف الخلاف بظهور عدم ثبوت الطهارة الواقعية والفرد الواقعي المعتبر للطهارة ،

ص: 63

فينكشف عدم تحقق ما هو موضوع الأثر - وهو الشرطية - فيكون العمل فاقدا للشرط الواقعي. وذلك لا يثبت في مفاد الأصل ، لأن المعتبر هو المفهوم - وهو ثابت في عالم الاعتبار لا ينكشف عدم تحققه - وليس المعتبر به الفرد الواقعي. وعليه فترتب عليه آثار المفهوم ومنها الشرطية واقعا ، فيكون العمل واجدا للشرط الواقعي في ظرفه. ولم ينكشف عدم تحقق الشرط لتحقق موضوع الشرطية ، بل يزول الشرط وينعدم بزوال الشك فتدبر.

وخلاصة القول : ان الفرق الفارق هو الاختلاف في ما هو المجعول فيهما واقعا وثبوتا فلاحظ.

وبهذا البيان يتضح ان ما أفاده في الكفاية من الاجزاء في موارد الأصول الجارية في تحقيق ما هو موضوع التكليف أو متعلقه ، لا مانع عن الالتزام به ، بل لا محيص عنه لسلامته عن أيّ محذور قيل فيه.

ثم انه قدس سره التزم بعدم الاجزاء في موارد الأمارات الجارية في تنقيح ما هو الموضوع أو المتعلق بناء على الطريقية ، وبالاجزاء بناء على السببية.

واما الأصول والأمارات الجارية في نفس الأحكام الشرعية ، فقد التزم بعدم الاجزاء في مواردها مطلقا ، قيل بالطريقية أو السببية (1).

اما عدم التزامه بعدم الاجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو متعلق الحكم بناء على الطريقية فقد بين سرّه بما تقدم من المحقق الأصفهاني قدس سره في بيان الفرق بين الأصل والأمارة - ولعله استخلصه من ظاهر عبارة الكفاية - ، من ان لسان دليل الأمارة جعل الموضوع بما انه الواقع ، فتتكفل جعل آثار الواقع عليه ، فالأمارة القائمة على الطهارة تتكفل بيان تحقق ما هو الشرط واقعا ، فيتصور فيه كشف الخلاف بانكشاف عدم ثبوت الطهارة

ص: 64


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواقعية ، وقد تقدم بيان عدم وفاء هذا المعنى بالمطلوب ، وبيان ما هو التحقيق في الفرق الفارق من انه اختلاف المجعول واقعا وثبوتا فلا نعيد.

واما التزامه بالاجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو المتعلق بناء على السببية ، فقد بيّنة بأنه حيث يكون مؤدّى الأمارة بقيام الأمارة ذا مصلحة واقعية ، فيتأتى فيه الاحتمالات الثبوتية المتأتية في المأمور به الاضطراري ، من ان المصلحة اما ان تكون وافية بتمام مصلحة الواقع أو بعضها ، ولم يمكن تدارك الباقي أو أمكن ، وكان لازم التدارك أو غير لازم التدارك ، وقد تقدم ان جميع الاحتمالات الثبوتية غير الاحتمال الثابت ملازم للاجزاء ، كما عرفت ان مقتضى الإطلاق نفي الاحتمال الثالث المستلزم لثبوت الاجزاء.

وقد أورد عليه : بان هذا انما يتم بناء على السببية التي يلتزم بها المصوبة وأهل الخلاف ، دون التي يلتزم بها أهل الحق المخطئة (1).

ولا بد لنا في وضوح كلام الكفاية نفيا أو إثباتا في هذه الجهة والجهة الأخرى - أعني التزامه بعدم الاجزاء مطلقا في الأصول والأمارات القائمة على الحكم - وما ذكره من الأصل العملي عند الشك في اعتبار الأمارة من باب الطريقية أو السببية ، واختلاف الحال فيه عن الأصل العملي في باب الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناء على السببية. من البحث في الاجزاء مستقلا بنحو كلي ، وبه تتضح كل جهة من جهات كلامه. فنقول : ان الأصل أو الأمارة التي يثبت بها حكم ظاهري ، تارة تكون جارية في الموضوع. وأخرى في نفس الحكم.

فالأولى : كما إذا قامت البينة أو الاستصحاب على موت زيد الّذي يترتب عليه آثار شرعية.

والثانية : كالأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة.

ص: 65


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 202 - الطبعة الأولى.

وانكشاف الخلاف وان الواقع على خلاف مؤدى الأمارة ، تارة يحصل بالعلم الوجداني التكويني. وأخرى يحصل بحجة وأمارة أخرى بحيث تمنع من نفوذ الأولى.

ولا يخفى انه قد يشتبه الأمر على بعض ، فلا يتصور دخول صورة قيام الحجة الأخرى على خلاف الأولى في موضوع الكلام ، ويخصص الكلام فيما إذا حصل الانكشاف بالعلم.

وجهة ذلك : ان قيام الأمارة الأخرى والحجة الثانية المتأخرة لا يمنع من حجية الأمارة الأولى في ظرفها ، ولا ينفي كون مفاد الأولى هو الوظيفة العملية الفعلية للمكلف في حينه ، وعليه فلا يتصور فيه كشف خلاف الأولى من أول الأمر وان الواقع على خلاف مفادها ، إذ لا تنفي حجيتها في ظرف قيامها وعدم وجود الحجة الأقوى المتأخرة.

ولا يخفى انه توهم فاسد ينشأ من عدم الالتفات إلى ما هو محل الكلام وموضوع النزاع.

وذلك لأن موضوع الكلام : ما إذا قامت أمارة على تعيين الوظيفة الفعلية الظاهرية واستمر ذلك ، ثم انكشف ان هذه الوظيفة الظاهرية لم تكن على طبق الواقع.

وهذا كما يتصور في العلم كذلك يتصور بقيام حجة أخرى.

اما صورة قيام العلم فواضحة. واما صورة قيام الحجة ، فلان الحجة الأخرى وان لم تمنع من حجية الأولى في حينها ولا تنفي كون مفاد الأولى هو الوظيفة الظاهرية الفعلية في ظرفها ، لكن مفادها ان الواقع هو مؤداها وان غيره ليس بواقع ، فيكون مفادها ان الوظيفة الظاهرية السابقة على خلاف الواقع ، فالعلم والأمارة الأخرى يشتركان في عدم نفي حجية الأمارة السابقة وكون مؤداها في حينها هو الوظيفة الفعلية - إذ بالعلم ينكشف الواقع ، وذلك لا يمنع

ص: 66

من كون الأمارة القائمة على خلافه حجة قبل حصوله - ، إلاّ انهما يتكفلان الكشف عن ان تلك الوظيفة الفعلية لم تكن على طبق الوظيفة الواقعية ، فيقع الكلام في ان تلك الوظيفة الفعلية الظاهرية مع العلم بمخالفتها للواقع وجدانا أو تعبدا وبالأمارة ، هل تجزي عن الواقع ولا يلزم الإتيان بالوظيفة الواقعية فعلا ، أو بما يترتب الآثار الشرعية على فوات الواقع - لو فرض فواته - أو لا تجزي؟.

وبالجملة : بعد العلم بعدم الإتيان بالوظيفة الواقعية ، يتكلم في ان ما جاء به من الوظيفة الظاهرية هل يكفي فلا يلزم الإتيان بالواقع أو بما يترتب على فواته شرعا ، أو لا يكفي فلا بد من ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع من الإتيان به لو لم يفت وقته أو قضائه لو فات الوقت ونحو ذلك من الآثار الشرعية؟.

والمتحصل : ان عدم تكفل الأمارة الأخرى نفي حجية الأولى ، بل تتكفل تحديدها زمانا لا يكون ملاكا لخروج المورد عن محل الكلام ، إذ مورد العلم الوجداني بالخلاف كذلك ، إذ لا ينكشف بالعلم عدم حجية الأمارة القائمة ، بل هي حجة في ظرفها. فالملاك في موضوع الكلام هو انكشاف كون مؤدى الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا كما يحصل بالعلم يحصل بأمارة أخرى لأنها تنفي مفاد الأولى - وان لم تنفي حجيتها -. فيقع الكلام - كما عرفت - في اجزاء الوظيفة الظاهرية عن الواقع وعدمه.

وأنت خبير بأنه بعد وضوح ما هو محل النزاع لا يبقى مجال لتوهم الاجزاء بناء على الطريقية ، بل عدم الاجزاء بملاحظة ما هو محل الكلام من القضايا التي قياساتها معها ، إذ بعد العلم - وجدانا أو تعبدا - بعدم الإتيان بما هو الوظيفة في الواقع لا وجه عقلائيا ولا عقليا في الالتزام بعدم ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع وكفاية فعل أجنبي عن الواقع عنه.

نعم غاية ما تتكفله الأمارة الأولى هو المعذرية وعدم استحقاق المؤاخذة على مخالفة الواقع للجهل به مع العذر الموجب لقبح العقاب. ولكن الجهل لا

ص: 67

يرفع الآثار المترتبة على مخالفة الواقع ، فلا بد من ترتيبها بعد العلم بالمخالفة.

وبالجملة : إطلاق أدلة الآثار المترتبة على عدم الإتيان بالواقع كإطلاق دليل القضاء ونحوه محكم ، ولم يثبت ان الإتيان بالوظيفة الظاهرية مانع عن شموله.

ومع هذا فقد ذكر للاجزاء وجوه :

الأول : ما تقدم ذكره من ان قيام الحجة الأخرى لا يمنع من حجية الأولى في ظرفها ، فيكون لدينا حجتان ، إحداهما تقضي بالاجزاء وهي الأولى التي تحدد أمدها بالأخرى. والثانية تقضي بعدمه وهي الأخرى الفعلية ، ولا وجه لترجيح الأخرى على الأولى والالتزام بمقتضاها من عدم الاجزاء.

ووضوح وهن هذا الوجه لا يخفى على من له أقل فضل ، فان الحجة الأخرى وان لم تنف حجية الأولى في حينها ، إلاّ انها تمنع من حجيتها فعلا وبقاء ، فالحجة الثابتة فعلا على الواقع هي الثانية ، وهي تقتضي بان الحكم الواقعي غير ما أدّت إليه الحجة السابقة ، وانه لا بد من ترتيب الآثار الواقعية لعدم الإتيان بالواقع ، فلا بد من العمل بها لأنها حجة في حقنا فعلا ، وغيرها ليس حجة فعلا ، بل كان حجة وانقطعت حجيته بقيامه.

وبعبارة أخرى : انه لا بد علينا من العمل بالأمارة الفعلية والالتزام بمقتضاها ، ومقتضاها ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع في ظرفه ، وليس هناك حجة فعلية تعارضها ، لانقطاع حجية الأولى بقيام الأمارة الثانية.

الثاني : ان الإتيان بالوظيفة الظاهرية المخالفة للوظيفة الواقعية كان عن استناد إلى حجة في حينه ، ومرجع الحجية إلى الاكتفاء بما قامت عليه عن الواقع وعدم المؤاخذة عليه ، وقيام الحجة الأخرى لا ينفي حجية الأولى في ظرفها ، بل يمنع من حجيتها بقاء ، فلا يكون مقتضاها عدم الاستناد في مقام العمل إلى الحجة.

ص: 68

وهذا الوجه وان لم يكن كسابقه في الوهن ، لكنه غير سديد ، فانه لا يخلو عن نوع مغالطة ، وذلك لأن معنى الحجية الثابتة للأمارة هو المنجزية والمعذرية ، أعني ما يصح به احتجاج المولى على العبد لو صادف الواقع ، واحتجاج العبد على المولى لو خالف ، والأول المقصود بالمنجزية والثاني هو المقصود بالمعذرية ، فيكون العبد موظفا بما تؤدّيه الأمارة ما دامت قائمة ويكتفي به عن الواقع في حال قيامها. فإذا انقطعت حجيتها وانكشف ان الواقع على خلاف ما أدّته لزم ترتيب الآثار الواقعية على عدم إتيانه ، ولا مجال للاكتفاء بالوظيفة الظاهرية عن الواقع بعد فرض انكشاف الخلاف والعلم بأنها على خلاف الواقع بالحجة الأخرى ، لأن الاكتفاء بمؤداها عن الواقع - بمعنى المعذورية عنه - انما يثبت ما دامت قائمة وحجة ، فإذا انتفت حجيتها لم يثبت الاكتفاء بها عن الواقع. وهكذا الحال لو التزم بان المجعول في الأمارة هو الحكم المماثل ، فانه بلحاظ ترتب المنجزية والمعذرية عليه ، والمعذرية مستمرة باستمرار الحجية ، فإذا انقطعت الحجية انقطعت المعذورية ولزم العمل بالواقع الّذي قامت عليه الحجة المخالفة.

وبالجملة : الاكتفاء بمؤدى الأمارة عن الواقع انما هو ما دامت الأمارة حجة ، فإذا انتفت حجيتها بقيام حجة أخرى أقوى منها امتنع الاكتفاء بمؤداها ، إذ لا وجه له ، لأن غاية ما تتكفله الأمارة الأولى هو المعذرية عن الواقع ، بمعنى عدم صحة المؤاخذة على الواقع ، وهي ثابتة ، ولكنها انقطعت بقيام الأمارة الأخرى فلا بد من ترتيب الآثار الواقعية التي تقضي بها الأخرى ، ومنها وجوب القضاء أو الإعادة ونحوهما. فلاحظ.

الثالث : ان الالتزام بعدم الاجزاء مستلزم للعسر والحرج ، وذلك فان إعادة الصلاة أربعين سنة على من قلد مجتهدا لا يقول بوجوب السورة هذه المدة ، ثم قلد من يقول بوجوبها ، وكان قد أتى بالصلاة بدون سورة ، موجب للحرج الشديد بلا كلام ، وهكذا الالتزام ببطلان جميع معاملات من قلّد مجتهدا يذهب

ص: 69

إلى جواز العقد بالفارسية وعمل على قوله ، ثم قلّد من يذهب إلى بطلان العقد بالفارسية ، فانه موجب للعسر ، ونحو ذلك من موارد البناء على بطلان الأعمال السابقة وعدم ترتيب الأثر عليها. وعليه فينفي عدم الاجزاء بأدلة نفي العسر والحرج فيثبت الاجزاء.

وفيه : انه لو تم الدليل على نفي الحرج في الشريعة - فانه أول الكلام - ، فموضوعه الحرج الشخصي لا النوعيّ. ولذا لا يجوز ترك الوضوء بالماء البارد لمن لا يكون عليه حرجيا بلحاظ انه موجب للحرج نوعا. ومعه لا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه ، فإذا كان عدم الاجزاء فيه موجبا للحرج بنى على الاجزاء بمقدار ما يرتفع به الحرج لا مطلقا وفي جميع الأعمال. ومن الطبيعي ان أصل الحرج ومقداره يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا يمكن الحكم لأجله بالاجزاء بقول مطلق ، بل يحكم بالاجزاء في مورد الحرج خاصة.

ولا يخفى ان هذا يرجع إلى تسليم كون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء ، ورفع اليد منها بلحاظ العنوان الثانوي ، كرفع اليد عن سائر الأحكام الثابتة بلحاظه.

والمتحصل : انه لا دليل على الاجزاء والقاعدة تقتضي عدمه.

وبعد هذا يقع الكلام في جهات كلام صاحب الكفاية الثلاث :

الجهة الأولى : في التزامه بالاجزاء في موارد الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق بناء على السببية. وقد عرفت توجيهه بان مؤدى الأمارة يكون ذا مصلحة واقعية ، فتأتي فيها الاحتمالات الثبوتية في المأمور به الاضطراري الّذي عرفت انها تنتهي إلى الالتزام بالإجزاء (1).

وقد أورد عليه المحقق النائيني رحمه اللّه : بان هذا انما يتم بناء على

ص: 70


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /86- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

السببية التي يلتزم بها المصوبة وأهل الخلاف. لا السببية التي يلتزم بها أهل الحق والمخطئة المعبر عنها ب- : « المصلحة السلوكية ». فان ما ذكره لا يصح مطلقا بناء عليها ، وذلك : لأن الواقع يبقى على ما هو عليه من المصلحة بعد قيام الأمارة ، ولا يكون مؤدى الأمارة ذا مصلحة بنفسه ، نعم لا بد ان يكون في العمل على طبق الأمارة مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع ، فلا وجه للاجزاء بالنسبة إلى الإعادة ولا بالنسبة إلى القضاء.

اما الإعادة فواضح ، إذ لم تفت مصلحة العمل بعد لبقاء الوقت وإمكان الإتيان به واستيفاء مصلحته ، فلا يكون هناك مصلحة متداركة لمصلحة الواقع ، نعم إذا كان انكشاف الخلاف بعد فوات أول الوقت في مثل الصلاة ، لزم ان يكون في سلوك طريق الأمارة مصلحة يتدارك بها مصلحة أول الوقت لا أكثر ، لأنها هي الفائتة دون غيرها.

واما القضاء ، فلان الفائت ليس إلاّ مصلحة الوقت دون المجموع من العمل والوقت ، إذ يمكن استيفاء مصلحة ذات العمل بالإتيان به بذاته خارج الوقت ، فالثابت من المصلحة في العمل على طبق الأمارة ليس إلاّ ما يتدارك به مصلحة الوقت الفائتة دون مصلحة ذات العمل ، لإمكان الاستيفاء ، فيجب القضاء لأن مصلحة ذات العمل ملزمة يلزم استيفاؤها. نعم إذا استمر الاشتباه إلى آخر العمل كان للاجزاء وجه لفوات مصلحة العمل على المكلف أيضا ، فلا بد من ان تكون هناك مصلحة يتدارك بها تلك المصلحة. فتدبر (1).

وأورد عليه : بان ما ذكر من عدم الاجزاء وجيه بالنسبة إلى الإعادة دون القضاء ، وذلك.

اما بالنسبة إلى الإعادة ، فلان غاية ما يفوت من المصلحة مصلحة أول

ص: 71


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 202 - الطبعة الأولى.

الوقت ، وهي مما يمكن تداركها مستقلا ، لأن مصلحة إيقاع الصلاة أول الوقت ليست مصلحة مرتبطة بمصلحة أصل الصلاة ، بل هي مصلحة استقلالية ظرفها الصلاة ، مثل مصلحة القنوت ونحوه من المستحبات - هذا يبتني على ما يلتزم المورد من عدم معقولية الجزء أو الشرط المستحب ، بل مرجع الكل إلى المستحب في الواجب فيكون ذا مصلحة مستقلة - ، اما مصلحة نفس الصلاة فهي غير فائتة لإمكان استيفائها بفعل الصلاة لعدم فوات الوقت.

واما بالنسبة إلى القضاء ، فلأنه بخروج الوقت وانكشاف الخلاف بعد مضيه تفوت مصلحة الوقت الملزمة ، وهي مصلحة ارتباطية بمصلحة أصل الصلاة ، بمعنى انه لا يمكن تداركها واستيفاؤها الا في ضمن الصلاة. نظير حسن طعم الطعام ، في التكوينيات ، فانه لا يمكن استيفاؤه بدون نفس الطعام كما لا يخفى.

وعليه بعد فرض تدارك ما فات من المصلحة يلزم تدارك مصلحة الوقت الفائتة ، وقد عرفت ان تداركها لا يكون إلاّ في ضمن مصلحة الصلاة ، ففرض تدارك مصلحة الوقت يلزمه فرض تدارك مصلحة الصلاة ، ومعه لا مجال لإيجاب القضاء لحصول مصلحة العمل بدونه.

وبالجملة : فلا بد من التفصيل - بناء على السببية الحقة - بين الإعادة والقضاء ، فيلتزم بالاجزاء في الثاني دون الأول (1).

ولكن هذا الإيراد لا يخلو من بحث ، وذلك لأنه انما يتم لو كان اللازم - في صورة خطاء الأمارة - تدارك نفس المصلحة الفائتة وإيجاد فرد مماثل لها. واما لو كان اللازم هو جبران المصلحة الفائتة بما يرفع الفوات والخسارة ، سواء كان بتدارك نفس المصلحة الفائتة أو بمصلحة أخرى تجبر فوات تلك المصلحة كما

ص: 72


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 274 - الطبعة الأولى. بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 276 - الطبعة الأولى.

هو الحق فلا يتم هذا الإيراد.

وتوضيح ذلك : ان وجه الالتزام بالمصلحة السلوكية هو ان الأمارة كثيرا ما لا تصادف الواقع ، فيكون العمل عليها مفوتا لمصلحة الواقع ، وعليه فإيجاب العمل عليها من قبل المولى الحكيم يلزمه عقلا ان يجبر فوات مصلحة الواقع بجعل مصلحة في سلوك الأمارة والعمل عليها ، وإلاّ لكان الالتزام بالعمل بها قبيحا ، لأن فيه تفويتا للمصالح الواقعية الملزمة. ومن الواضح ان العقل لا يحكم - رفعا للقبح - بلزوم تدارك نفس المصلحة الفائتة ، بل غاية ما يحكم به هو لزوم الجبران ، بحيث لا يفوت العبد شيئا من آثار المصلحة سواء كان يتدارك نفس المصلحة أو بإيجاد مصلحة أخرى جابرة ، فان القبح يرتفع بذلك كما لا يخفى.

وإذا ثبت انه يمكن ان يكون الجبران بمصلحة ليست من سنخ المصلحة الفائتة ، فيمكن ان يكون تدارك مصلحة الوقت بمصلحة أخرى غير مرتبطة بمصلحة الصلاة فتبقى مصلحة الصلاة بلا تدارك فيجب القضاء ، ومع الشك في ذلك فاللازم هو الاحتياط ، للعلم أولا بعدم استيفاء مصلحة الصلاة والشك في تداركها ، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم تحصيل العلم باستيفائها وهو لا يكون إلاّ بالقضاء.

فالمتحصل : ان إيراد المحقق النائيني رحمه اللّه على صاحب الكفاية وجيه.

الجهة الثانية : في تفصيله - بناء على السببية - بين الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق ، كالأمارات القائمة على جزئية السورة للصلاة والأمارات القائمة على الحكم ، فالتزم بالاجزاء في الأولى وبعدمه في الثانية ، فانه قد يتساءل عن وجه الفرق والسرّ في التفصيل (1).

ص: 73


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولتوضيح جهة الفرق : لا بد أولا من الإشارة إلى جهة ثبوت المصلحة في المؤدى الّذي هو مفاد الالتزام بالسببية ، فنقول : ان الوجه فيه أحد امرين :

الأول : ان الأمر الّذي تتكفله الأمارة كسائر الأوامر الشرعية الواقعية لا بد ان يكون بملاك وجود المصلحة في متعلقه ، وإلاّ لم يتجه البعث نحو متعلقه من الحكيم العادل. ولا خصوصية للأمر الواقعي في كونه تابعا للمصلحة في متعلقه دون غيره ، فما تقوم عليه الأمارة من امر يكون متعلقه ذا مصلحة.

الثاني : ان إيجاب العمل على طبق الأمارة كثيرا ما يفوّت مصلحة الواقع على المكلف ، لكثرة خطاء الأمارة ، وعليه فلا بد ان يكون مؤداها مشتملا على مصلحة تجبر بها فوات مصلحة الواقع.

إذا عرفت هذا فاعلم ان سرّ الفرق يرجع إلى كون الوجه في الالتزام بالسببية هو الأول.

وذلك : لأن الأمارة القائمة على الموضوع أو المتعلق مرجعها إلى بيان كون الأمر الواقعي متعلقه كذا ، والأمر بالإتيان بهذا المتعلق ، ومقتضى ذلك ثبوت المصلحة الباعثة للأمر الواقعي في ما هو مؤدّى الأمارة - كالصلاة بدون السورة مثلا - ، فيكون امتثاله سببا للاجزاء لاستيفاء مصلحة الأمر الواقعي وصيرورته بعد العمل بلا ملاك فيسقط ، ولا يمكن ان يتعلق بنفسه بالمتعلق الواقعي لتعلقه واقعا بما هو مؤدى الأمارة لثبوت الملاك فيه ، وهو لا يتعلق واقعا بأمرين. وأما الأمارة القائمة على الحكم ، كالأمارة القائمة على وجوب الجمعة ، فهي لا تنفي وجوب صلاة الظهر واقعا ، لأن غاية ما تتكفله احداث مصلحة في وجوب الجمعة ، فيكون وجوبها واقعيا ، وهو لا ينافي وجوب الظهر ، لأن مفاد الأمارة وجوب هذا العمل ، ولا تتكفل نفي وجوب غيره فيبقى وجوب غيره على ما هو عليه من المصلحة. ولا تفي مصلحة مؤدى الأمارة بها لأنها مصلحة أخرى

ص: 74

وكل منهما ملزمة. نعم لو كان مفاد الأمارة كون الواجب الواقعي هو الجمعة كان للاجزاء وجه لانقلاب مصلحة الواقع من الظهر إلى الجمعة ، ولكنه خلاف الفرض ، لأنه من مورد قيام الأمارة على المتعلق وان الواجب هذا ، لا على أصل الحكم وان هذا واجب من دون تعرض لإثبات ونفي غيره.

وبالجملة : مع قيام الأمارة على أصل الحكم يكون كل من الواقع ومؤدى الأمارة واجبا واقعيا ذا مصلحة في متعلقه ولا يجزي أحدهما عن الآخر ، إلاّ ان يدل دليل خارجي على عدم وجوب عملين واقعيين من سنخ واحد كصلاتين في وقت واحد ، فانه كلام آخر غير مقتضي القاعدة.

ومحصل الفرق : ان الأمارة القائمة على المتعلق أو الموضوع بما ان لها نظرا إلى الواقع الثابت المتقرر ، فهي تقلبه عما كان عليه وتجعل المصلحة الباعثة نحوه في مؤداها ، فيسقط بالإتيان بمؤداها. واما القائمة على الحكم ، فغاية ما تثبته تحقيق مؤداها واقعا لصيرورته بها ذا مصلحة ، واما الواقع الثابت فلا تقبله عما هو عليه من المصلحة لعدم نظرها إليه أصلا.

واما بناء على الوجه الثاني ، فلا يفترق الحال بين الأمارة القائمة على الحكم وغيرها في الاجزاء مطلقا ، إذ بقيام الأمارة على الحكم أو غيره لا بد ان يكون فيه مصلحة تسدّ عن مصلحة الواقع وتفي به ، وهذا ملازم للاجزاء لاستيفاء مصلحة الواقع بما هو مؤدى الأمارة ، لأن المصلحة الثابتة فيه قد لوحظ فيها تدارك مصلحة الواقع مطلقا ، وهو يقتضي الاجزاء.

الجهة الثالثة : فيما ذكره عند الشك في كون حجية الأمارات بنحو الطريقية أو بنحو السببية ، من ان القاعدة تقتضي عدم الإجزاء ولزوم الإعادة في الوقت للعلم باشتغال ذمته بما يشك في فراغها منه بما أتى به بضميمة أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، ولا يعارض هذا الأصل استصحاب عدم

ص: 75

فعلية التكليف ، لأنه لا يثبت مسقطية ما أتى به إلاّ بنحو الأصل المثبت (1).

فان هذا الكلام لا يخلو عن إجمال وغموض ، ولا بد في توضيحه من الإشارة إلى مواضع الغموض والتساؤل. فنقول : ما المراد من العلم باشتغال الذّمّة وثبوت التكليف؟ هل العلم التفصيليّ بثبوت التكليف الواقعي بعد كشف الخلاف ، أو المراد العلم الإجمالي؟.

فان كان المراد من العلم العلم التفصيليّ ، ففيه : ان مجرد العلم التفصيليّ بثبوت التكليف لا يكفي في لزوم إفراغ الذّمّة ما لم يعلم فعلية ذلك التكليف الثابت ، وهي غير معلومة ، لأن حجية الأمارة إذا كانت بنحو الطريقية كان التكليف فعليا ، وإذا كانت بنحو السببية لا يكون التكليف الواقعي فعليا ، بل التكليف الفعلي على طبق مؤدى الأمارة ، وقد أتى به دون الواقع ، وبذلك يحصل له الشك في ثبوت التكليف الواقعي وأصل البراءة ينفيه. ولو تنزلنا وقلنا : بكون التكليف الواقعي المعلوم فعليا ، كان ذلك بنفسه موجبا للزوم امتثاله جزما بحكم العقل ، لعدم الإتيان بمتعلقه ، فإجراء أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف وضمنه إليه لم يعرف وجهه الصناعي.

وان كان المراد به العلم الإجمالي ، فإما ان يراد به العلم الإجمالي في مرحلة الحدوث ، فيقال : انه يعلم قبل العمل وبعد قيام الأمارة بثبوت تكليف فعلي عليه اما على طبق مؤدى الأمارة - لو كانت حجيتها بنحو السببية - ، أو بالواقع - لو كانت حجيتها بنحو الطريقية -. واما ان يراد به العلم الإجمالي في مرحلة البقاء ، فيقال : انه يعلم بعد العمل وانكشاف الخلاف بأنه مكلف بالواقع المنكشف فعلا أو بمؤدى الأمارة الّذي جاء به.

فان أريد به العلم الإجمالي في مرحلة الحدوث ، الّذي يقتضي بدوا الإتيان

ص: 76


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بكل من مؤدى الأمارة والواقع بمقتضى تنجيز العلم الإجمالي ، لاحتمال فعلية كل من التكليفين فتجب موافقته قطعا ، فهو منحل حكما بقيام الأمارة على كون التكليف الفعلي على طبق مؤداها ونفي فعلية غيره بالملازمة ، إذ قد تقرر في محله انه إذا قامت أمارة معينة لما هو المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ينحل العلم الإجمالي ولا يكون منجزا ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد هذين الإناءين ، فقامت البينة على ان النجس هو هذا الإناء فانها تنفي نجاسة الآخر بالملازمة ، ومعه لا يجب الاجتناب الا عما قامت البينة على نجاسته دون الآخر ، لانحلال العلم الإجمالي حكما. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن مفاد الأمارة كون التكليف الفعلي هو مؤداها ، فتنفى بالملازمة فعلية الواقع ، وعليه فلا يجب الإتيان بغير مؤداها ، لعدم كون الواقع فعليا بمقتضى الأمارة وانحلال العلم الإجمالي. ولو فرض التنزل والالتزام بعدم انحلال العلم الإجمالي وكونه منجزا في المقام ، فهو بنفسه يقتضي بالإتيان بالفرد المشكوك الآخر ، أعني الواقع بعد الإتيان بمؤدى الأمارة بلا احتياج للتمسك بأصالة عدم الإتيان بما هو مسقط للتكليف ، لأن مقتضى تنجيز العلم الإجمالي لزوم الإتيان بجميع افراده تحصيلا للموافقة القطعية ، فأي ميزة لهذا العلم أوجبت الاحتياج إلى ضمّ أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف؟.

وان كان المراد به العلم الإجمالي في مرحلة البقاء ، فمرجعه إلى العلم باشتغال الذّمّة اما بتكليف ساقط - لو كان مؤدى الأمارة - ، أو بتكليف باق - لو كان هو الواقع - ، ومثل هذا العلم لا حظّ له من التنجيز لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء وعدم كون التكليف المعلوم على جميع تقاديره فعليا فلا يكون منجزا.

وبعد هذا كله ننقل الكلام إلى جهة أخرى من كلامه ، وهي ما ذكره من ان استصحاب عدم فعلية الواقع لا تثبت مسقطية المأتي به إلاّ على القول

ص: 77

بالأصل المثبت (1).

فانه قد يتساءل : بان مجرد إثبات عدم فعلية الواقع تكفي في نفي التكليف فعلا ، سواء كان ما أتى به مسقطا أو لم يكن ، فما هي جهة الاهتمام بهذا الأمر مع فرض ثبوت عدم فعلية الواقع بالأصل؟.

هذه هي مواضع الغموض في كلامه وقد تبين انها في جهتين :

الجهة الأولى : في تشخيص المراد من العلم ، وبيان جهة الحاجة إلى أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف.

ويمكن رفع الغموض في هذه الجهة بان يقال : ان المقصود بالعلم هو العلم التفصيليّ ، وبالأصل الاستصحاب الموضوعي الّذي يثبت به بقاء التكليف ، لا الاستصحاب الحكمي - أعني استصحاب نفس بقاء التكليف -. بيان ذلك : انا نعلم تفصيلا بثبوت الحكم الواقعي قبل الإتيان بمؤدى الأمارة ، سواء كانت حجية الأمارة من باب الطريقية أو من باب السببية ، فان الحكم الواقعي له نحو تقرر على كلا التقديرين ، وقد وقع الكلام في كيفية ثبوته وتقرره. وقد ذهب صاحب الكفاية في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إلى انه يكون في مورد الطرق والأمارات حكما إنشائيا لو علم به يصير فعليا ويتنجز (2).

وعليه ، فبعد الإتيان بمؤدى الأمارة وانكشاف الخلاف نعلم تفصيلا بان الحكم الواقعي كان ثابتا بثبوت إنشائي ، لكنا نشك في بقائه وارتفاعه من جهة الشك في كون المأتي به مسقطا وعدمه ، فيستصحب عدم الإتيان بما هو مسقط للتكليف ، فيترتب عليه بقاء التكليف - ولا يجري استصحاب بقاء التكليف ، لإمكان إجراء الأصل في الموضوع ، ومعه لا تصل النوبة إلى إجرائه في المسبب - ،

ص: 78


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /277- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبمقتضى ان الاستصحاب يكون بمنزلة العلم الموضوعي الطريقي ، يكون الحكم الواقعي الثابت بالاستصحاب الموضوعي معلوما تعبدا لا تكوينا ، فتثبت فعليته ، لأن المفروض ان ثبوته كان بنحو لو علم به كان فعليا. وإذا ثبتت فعليته وجب امتثاله بالإتيان بمتعلقه.

وقد يستشكل على هذا الاستصحاب بلزوم الدور ، وذلك لأن جريانه متوقف على ثبوت الأثر المتوقف على فعلية الحكم ، وفعلية الحكم تتوقف على جريان الاستصحاب ، فيلزم الدور ، ولا يخفى ان هذا الإشكال سار في جميع الموارد التي يجري فيها الأصل لإثبات الأثر المأخوذ في موضوعه العلم بالحكم الواقعي كالفعلية ونحوها. وجوابه في محله وليس محله هاهنا.

الجهة الثانية : جهة الارتباط بين أصالة عدم كون الواقع فعليا وإثبات مسقطية المأتي به.

ولرفع الغموض من هذه الجهة نقول : ان النّظر في إجراء استصحاب عدم فعلية الواقع هو إيجاد المعارض لأصالة عدم كون الإتيان بما يسقط معه التكليف ، كي تسقط عن العمل ، والمعارضة تتوقف على كون استصحاب عدم فعليه الواقع مثبتا ، لكون المأتي به مسقطا ، فإذا كان إثباته بالملازمة العقلية ، يكون من الأصل المثبت فلا يكون حجة ، فلا يعارض أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، بل يكون هذا مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع بملاك تقدم الأصل السببي على المسببي. بيان ذلك : ان التنافي بين الأصلين وان كان موجودا ، لأن الغرض من أصالة عدم الإتيان بمسقط التكليف إثبات فعلية الواقع واستصحاب عدم فعليته ينفيه ، إلاّ ان الأصل المثبت للفعلية لما لم يكن مثبتا لها رأسا - بمعنى ان موضوعه ليس هو بقاء الفعلية - وانما يثبتها بتوسط إثبات عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، واستصحاب عدم فعلية الواقع لا يثبت الإتيان بالمسقط إلاّ بنحو الملازمة ، كان استصحاب عدم الإتيان بالمسقط

ص: 79

مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع ، لأنه يتكفل نفي مفاد استصحاب عدم الفعلية بإثباتها ، واستصحاب عدم الفعلية لا ينفي مفاده ومجراه إلاّ بالملازمة غير المعتبرة شرعا ، فيكون رفع اليد عن استصحاب عدم فعلية الواقع بوجه - وهو استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف لأنه ينفيه - ، ولا يكون رفع اليد عن استصحاب عدم الإتيان بما هو المسقط بوجه ، إذ الأصل الآخر لا ينفيه كما هو الفرض ، أو بوجه دائر ، وهو نفي جريان استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف بأصالة عدم الفعلية المتوقفة على عدم جريان استصحاب عدم الإتيان بالمسقط.

وبالجملة : الوجه في تقديم استصحاب عدم المسقط على استصحاب الفعلية هو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسببي ، فانهما من قبيلهما وان لم يكونا من مصاديقهما.

ومثل هذا يقال في الجواب عما يدعى من معارضة الاستصحاب التعليقي بالاستصحاب المنجز دائما بتقريب : ان المستصحب حرمته تعليقا كان حلالا جزما قبل حصول المعلق عليه ، فتستصحب حليّته بعد حصوله ، فيتعارض الأصلان. مثلا : بعد قيام الدليل على حرمة العنب إذا غلى ، وشك في سراية هذا الحكم إلى الزبيب وعدمها ، فتستصحب هذه الحرمة التعليقية ، فيقال : ان الزبيب حين كان عنبا كان إذا غلى يحرم والآن بعد ان صار زبيبا يشك في ذلك فيستصحب كونه كذلك وبقاؤه على ما كان. ولكن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب فعلي منجز ، وهو استصحاب حلية الزبيب الثابتة له قبل الغليان ، فيقال : ان الزبيب كان حلالا قبل الغليان ، وبعد الغليان يشك في حليته وحرمته فيبنى على انه حلال بالاستصحاب.

فانه يقال في مقام رد هذه الدعوى : ان استصحاب الحلية الفعلية لا ينفى الحرمة التعليقية التي هي مؤدى الاستصحاب الآخر إلاّ بالملازمة العقلية ، لأن

ص: 80

عدم الحرمة التعليقية ليس من آثار الحلية الفعلية شرعا كما لا يخفى. بخلاف استصحاب الحرمة التعليقية فانه ينفي الحلية الفعلية بعد الغليان شرعا وبالملازمة الشرعية ، لأن عدم الحلية من آثار الحرمة التعليقية شرعا.

وعليه ، فعدم العمل باستصحاب الحلية يكون بوجه ، وعدم العمل باستصحاب الحرمة التعليقية يكون بدون وجه أو على وجه دوري ، فيتعين العمل باستصحاب الحرمة التعليقية ، وهذا الوجه أحسن ما يقال في جواب دعوى المعارضة. فقد قيل في جوابها وجوه لا تخلو عن مناقشة ظاهرة ، فراجع مبحث الاستصحاب التعليقي في الأصول.

وبعد جميع هذا يحسن التعرض لتنبيهات المسألة ، وهي ثلاثة :

التنبيه الأول : - وقد ذكره في الكفاية (1) - كما أشرنا إليه فيما تقدم (2) ، ان موضوع الكلام في الاجزاء ما إذا كان هناك حكم ثابت ظاهري أو اضطراري ، فيبحث عن كونه مجزيا عن الواقع وعدمه.

اما إذا لم يكن هناك حكم متقرر له ثبوت ، وانما تخيل ثبوته ، فهو أجنبي عن بحث الاجزاء ، إذ لا حكم كي يبحث عن اجزائه وعدمه ، بل عدم الاجزاء في مثله مما لا كلام فيه ، إذ لا يتجه الاجزاء بوجه من الوجوه المذكورة له لعدم انطباقها عليه. ومن هنا يظهر عدم الإشكال في عدم الاجزاء فيما إذا قطع بحكم ثم انكشف خلافه ، إذ القطع لا يوجب تحقق الأمر لا واقعا ولا ظاهرا ، فلا يكون في البين إلاّ تخيل لثبوت الحكم. فلا وجه لاجزاء المأتي به مع عدم كونه الواقع.

نعم قد يكون ما أتى به مشتملا على مقدار من المصلحة ، بحيث لا يمكن معه تدارك الباقي من مصلحة الواقع ، فلا يجب الإتيان بالواقع حينئذ ، لكنه ليس

ص: 81


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /88- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- راجع 2 / 45 من هذا الكتاب.

من جهة اجزاء المقطوع به عن الواقع ، بل من باب عدم إمكان تدارك مصلحة الواقع الباقية ، ولكن هذا إثباتا يحتاج إلى دليل خاص ، وقد ثبت في بعض الموارد كما إذا صلّى جهرا في مورد الإخفات وبالعكس ، وكما إذا صلّى تماما في السفر مع الجهل بكون الوظيفة غير ما أتى به ، فان الدليل دل على الاكتفاء بالعمل وعدم لزوم الإعادة مع معاقبته على تقصيره في السؤال والتعلّم ، مما يكشف عن عدم كون ما أتى به متعلقا للحكم ، وانما هو محصل لبعض المصلحة بحيث لا يمكن تدارك الباقي ، ولذا لا تجب الإعادة ولكن يعاقب على ذلك باعتبار انه فوّت على نفسه مصلحة الواقع الملزمة.

التنبيه الثاني : - وقد ذكره في الكفاية أيضا (1) - وموضوعه ، بيان عدم الملازمة بين الاجزاء والتصويب ، فانه قد يتوهم ملازمة القول بالاجزاء للتصويب ، لأن مرجع الاجزاء إلى كون الواقع هو مؤدى الأمارة الّذي هو التصويب. وانه كان من الجدير بالذكر ان يذكر هذا الأمر وجها لإبطال الاجزاء ، فيقال : ان الاجزاء ملازم للتصويب ، وهو - أي التصويب - باطل بالإجماع ، فكذلك ما هو لازم له وهو الاجزاء.

والّذي ادعاه في الكفاية نفي ملازمة القول بالاجزاء للتصويب ، بل عدم معقوليته ، لاستلزامه لزوم عدم الشيء من وجوده.

وبيان ذلك : ان الحكم له في نظر صاحب الكفاية مراتب أربع ، مرتبة الاقتضاء ومرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية ومرتبة التنجيز - وشرح المراد من كل منها ليس محله هاهنا ، وانما المقصود هنا الإشارة إليها - ، والّذي يرتبط بمحل الكلام فعلا من هذه المراتب هو مرتبة الفعلية والإنشاء دون مرتبتي الاقتضاء والتنجز ، ثم ان الّذي ذهب إليه صاحب الكفاية في الجمع بين الأحكام الظاهرية

ص: 82


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /88- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والواقعية ، كما أشرنا إليه ، هو كون الحكم الواقعي في موارد الطرق والأمارات إنشائيا ، بحيث لو حصل العلم به يصير فعليا ، سواء في ذلك القول بالطريقية والقول بالسببية ، فان الواقع يكون إنشائيا والأمارة مانعة عن فعليته لا أكثر.

ولا يخفى ان الحكم الّذي دلت الأدلة على اشتراك العالم والجاهل فيه انما هو الحكم الإنشائي ، فان أدلة الاشتراك لا تقتضي أكثر من ذلك ، اما الحكم الفعلي فهو يختص بالعالم لأن موضوعه العلم بالحكم الإنشائي.

وبهذا البيان ظهر ان القول بالاجزاء الّذي هو فرع الالتزام بالسببية في حجية الأمارة ، لا يلازم التصويب بمعنى ارتفاع الحكم الواقعي ، لبقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه ، ولكنه بمرتبة الإنشاء والأمارة المخالفة مانعة عن فعليته. وهكذا الحال لو التزم بالاجزاء بناء على الطريقية. بل لا يعقل التصويب في مورد الأمارة والحكم الظاهري ، لأن الجهل بالحكم الواقعي مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري ، فلا بد ان يفرض ثبوت واقع يتعلق به الجهل والعلم ، فلو فرض ارتفاع الحكم الواقعي بقيام الأمارة يرتفع الشك في الواقع فيلزم ارتفاع موضوع الحكم الظاهري ، فيلزم من وجود الحكم الظاهري عدمه وذلك محال. هذا إيضاح ما ذكره في الكفاية.

والتحقيق ان يقال : انه ان التزمنا في الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية بما يلتزم به صاحب الكفاية ، من ان الأحكام الواقعية أحكام إنشائية ، كان الحق ما ذهب إليه صاحب الكفاية في المقام من عدم الملازمة بين الاجزاء والتصويب. وان لم نلتزم بذلك اما من جهة ان المرتبة الإنشائية للحكم بالمعنى الّذي يفرضه لها صاحب الكفاية ، لا يمكن تعلّقه ، وبمعنى آخر معقول - يذكر في محله - ترجع إلى المرتبة الفعلية ، والحكم الّذي يكون مشتركا بين العالم والجاهل هو الحكم الفعلي ، وهو الّذي يقع البحث في ارتفاعه وبقائه في موارد الأمارات والطرق. واما من جهة ان المرتبة الإنشائية بالنحو الّذي يصوّرها

ص: 83

صاحب الكفاية وان كان امرا معقولا في نفسه إلاّ ان الحكم الّذي يشترك فيه العالم والجاهل هو الحكم الفعلي لا الإنشائي ، لأن الحكم الفعلي هو الّذي فيه جهة البعث دون الإنشائي ، فانه لا بعث فيه ، بل هو في الحقيقة ليس حكما.

وبالجملة : لو لم نلتزم بمذهب صاحب الكفاية والتزمنا بان الحكم الواقعي في مورد الطرق والأمارات فعلي لا إنشائي ، فهل الالتزام بالاجزاء يلازم التصويب وارتفاع الحكم الواقعي أو لا؟. نقول : انه حيث عرفت ابتناء القول بالاجزاء على القول بالسببية ، فان كان شأن السببية ومرجعها إلى رفع الحكم الواقعي بلحاظ ثبوت المصلحة المعادلة لمصلحة الواقع في مؤدى الأمارة ، فيوجب ذلك تخيير الشارع بين العمل بالواقع والعمل على طبق الأمارة ، فيرتفع الوجوب التعييني الواقعي ويصير الوجوب الثابت تخييريا ، وعلى هذا الأساس يقال بالاجزاء ، لأن الواجب أحدهما وقد جاء به فيتحقق الامتثال - إذا كان مرجع السببية إلى ذلك - ، فالقول بالاجزاء ملازم للتصويب ، لارتفاع الحكم الواقعي الثابت ، فان الحكم الواقعي كان هو الوجوب التعييني وقد فرض تبدّله إلى الوجوب التخييري بقيام الأمارة. وان كان مرجع السببية إلى رفع موضوع الحكم الواقعي بقاء لا حدوثا ، فيسقط امتثاله في مرحلة البقاء لارتفاع موضوعه ، وذلك ببيان : ان الحكم الواقعي يبقى فعليا على ما هو عليه ، إلا انه بعد الإتيان بمؤدى الأمارة المشتمل على مصلحة يستوفي بها مصلحة الواقع لا يبقى مجال بعد ذلك لامتثال الواقع لسقوطه باستيفاء مصلحته ، فيكون نظير ما لو وفى عمرو الدّين الّذي في ذمة زيد ، فان المأمور بالوفاء وان كان زيدا لكنه بأداء عمرو يرتفع موضوع الأمر فيسقط بعد ان كان. فالحكم الواقعي لا يرتفع بقيام الأمارة ، بل يبقى لكنه يسقط بامتثال الأمر الظاهري ، لارتفاع موضوعه في مرحلة البقاء لا الحدوث وإلاّ لزم ارتفاعه بقيام الأمارة. ان كان مرجع السببية ذلك لم يكن القول بالاجزاء ملازما للتصويب ، لبقاء الأمر الواقعي على ما كان عليه وعدم ارتفاعه

ص: 84

بقيام الأمارة.

والّذي يتحصل : ان القول بالاجزاء لا يلازم التصويب بقول مطلق ، حتى بناء على السببية التي يلتزم بها أهل الخلاف ، فيكون ذلك جهة إيراد على القائلين بالاجزاء. والّذي كان بناؤنا عليه في الدورة السابقة هو ملازمة القول بالاجزاء للتصويب حتى بناء على السببية بمعنى المصلحة السلوكية ، فانتبه وتدبر.

التنبيه الثالث : - وقد ذكره المحقق النائيني قدس سره - انه لا فرق في عدم الاجزاء وكونه مقتضى القاعدة الأولية بين اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين ، فكما لا يجوز ترتيب آثار الواقع على ما كان يبني عليه أولا من الحكم تبعا للحجة كذلك لا يجوز ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه الحجة إذا كانت الحجة لديه على خلافه ، فلا يجوز لمن لا يرى صحة العقد بالفارسية ان يكون أحد طرفي العقد مع من يرى صحة العقد بالفارسية وأجراه بذلك. وهكذا لمن يرى نجاسة العصير العنبي لا يجوز ان يعامل مع من يرى طهارته معاملة الطاهر إذا علم بملاقاته للعصير. ولا يجوز لمن يرى جزئية السورة ان يقتدي بمن لا يرى جزئيتها إذا ترك السورة. وغير ذلك من موارد العبادات والمعاملات. نعم قد يستثنى من ذلك باب الطهارة والنجاسة ويحكم فيها بالاجزاء ، وذلك لما جرت عليه السيرة المتشرعة التي يعلم بانتهائها إلى زمان الأئمة علیهم السلام بلا ردع منهم ، على معاملة الناس معاملة الطهارة وان اختلفوا معهم في الرّأي في كيفية التطهير وإعداد النجاسات ، بل ويشهد لذلك صريحا معاملتهم مع أهل الخلاف معاملة الطاهرين مع اختلافنا معهم في تعيين النجاسات وكيفية التطهير منها ، فهم قد لا يرون الدّم نجسا أو يرون التطهير منه بمجرد زواله عن البدن أو الثوب ، ومع هذا يعاملون معاملة الطاهرين بلا

ص: 85

توقف أحد مما يكشف عن انخرام قاعدة عدم الاجزاء في هذا الباب (1).

وأضاف السيد الخوئي إلى هذا الاستثناء استثناء باب آخر ، وهو باب النكاح متمسكا بما ورد من ان لكل قوم نكاحا ، فانه يدل على البناء على صحة نكاح كل من يرى عقده نكاحا وان لم يكن ثابتا عند الغير ، فيلزم ترتيب آثار الصحة على النكاح بالفارسية على من لا يرى صحته وهكذا (2).

وتحقيق الحال يقتضي التكلم في جهات ثلاثة :

الجهة الأولى : فيما قرره من عدم الفرق في حكم عدم الاجزاء بين شخص واحد أو شخصين ، مرجعه إلى تفريع عدم إمضاء عمل شخص في حق الآخر إذا كان على خلافه في الرّأي تفريعه على عدم الاجزاء. وهو غير وجيه ، فان هذا البحث لا يرتبط ببحث الاجزاء أصلا ، إذ عدم إمضاء عمل شخص في حق الآخر المخالف له في الرّأي لا يختص بالبناء على عدم الاجزاء ، بل الحال أعم من القول بعدم الاجزاء والقول بالاجزاء.

واما على القول بعدم الاجزاء فواضح.

واما على القول بالاجزاء ، فلان أساسه على ما عرفت هو الالتزام بالسببية التي مرجعها إلى كون مؤدى الأمارة ذا مصلحة فعلية ملزمة ، فيكون التكليف الفعلي على طبق مؤدى الأمارة ، ومن الواضح ان هذا المعنى يختص بمن قامت لديه الأمارة ، اما من قامت عنده الأمارة على خلاف ذلك أو علم بالواقع فالحكم الفعلي في حقه هو ما قامت عليه الأمارة لديه أو ما علم به ، ولا ينقلب الواقع إلى ما قامت عليه الأمارة لدى الشخص الآخر لفرض انكشاف الواقع لديه اما تكوينا بالعلم أو تعبدا بالأمارة ، وتلك الأمارة لدى غيره ليست حجة

ص: 86


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 208 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 286 - الطبعة الأولى.

عليه كي يكون متعلقها ومؤداها ذا مصلحة واقعية مجزية عن الواقع. فالبحث في هذا الأمر لا يرتبط بالاجزاء وعدمه ، بل موضوع البحث فيها هو ما بيّنه الشيخ في مكاسبه (1) ، وأشار إليه في رسائله (2) وهو ان الحكم الظاهري في حق شخص هل يكون حكما واقعيا في حق غيره أو لا؟ ومن الواضح ان صيرورته واقعيا في حق غيره مجرد وهم ولفظ لا أكثر.

الجهة الثانية : في كون استثناء باب الطهارة من جهة الحكم بالاجزاء فيها. وقد عرفت ان ذلك لا يبتني على الاجزاء ، فلا يجوز لمن يرى لزوم التعدد في التطهير من البول ترتيب آثار الطهارة على الصبّ مرة واحدة ممن يرى عدم لزوم التعدد ، لو قلنا بالاجزاء ، وإلاّ لزم ترتيب آثار الطهارة على مجرد زوال الدم عن بدن المخالف لأنه يرى الطهارة بذلك ولو علمنا بعدم وصول الماء إليه أصلا وهو مما لا يلتزم به أحد ، فالذي توجه به السيرة القطعية على معاملة الناس معاملة الطاهرين وان اختلفوا رأيا في باب الطهارة والنجاسة ، مع عدم العلم ببقاء النجاسة وعدم التطهير ، بل مع احتمال حصول الطهارة الواقعية هو أحد وجهين :

الأول : البناء على ان غيبة المسلم مطهرة مطلقا ولا تختص بمورد دون آخر ، بل مع احتمال حصول الطهارة الواقعية لبدن المسلم أو ثوبه في غيبته يبني على طهارته وان اختلف رأيا في كيفية التطهير.

الثاني : البناء على جريان أصالة الصحة في عمل الغير مطلقا ولو مع الاختلاف تقليدا أو اجتهادا في العمل الصحيح ، وذلك بترتيب آثار الصحيح الواقعي على العمل المأتي به إذا احتمل ان يكون قد جيء به على ذلك النحو ولو عفوا بدون اختيار وقصد ، فيرتب على تطهير من يرى اجزاء المرة آثار

ص: 87


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب /101- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /29- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الصحة الواقعية لا الصحة عند الفاعل. وهذه المسألة خلافية ، وقد التزم بها بعض ، وتحقيق أحد الطرفين فيها يكون في بعض جهات الكلام في أصالة الصحة ، وموضوعها ان دليل أصالة الصحة هل هو يقتضى ترتيب آثار الصحة الواقعية على العمل أو الصحة الفاعل؟ فراجع.

الجهة الثالثة : فيما استثناه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - أعني باب النكاح - مستدلا بما ورد من ان لكل قوم نكاحا. ومن الواضح ان هذا النص أجنبي عما نحن فيه ، فانه وارد لبيان إلغاء اعتبار الشروط المأخوذة في النكاح شرعا بالنسبة إلى نكاح غير المسلمين ، وان صحة النكاح بالنسبة إليهم مترتبة على ملاحظة الشروط المعتبرة لدينهم في النكاح ، وذلك لأن مقتضى عموم أدلة اعتبار الشروط هو اعتبارها في صحة كل نكاح سواء صدر من مسلم أو من غيره ، فهذا النص ورد لتخصيص اعتبار تلك الشروط الواقعية في نكاح المسلمين فقط ، فصحة نكاح المسلم تتوقف على توفره على الشروط المعتبرة فيه ، فإذا اختلف شخصان في ذلك وبنى أحدهما على فقدان نكاح الآخر لبعض الشروط لا يجوز ترتيب آثار الصحة عليه ، إذ النص المذكور لا يشمل مثل ذلك ، وانما هو ناظر إلى نكاح غير المسلمين من أقوام الكفر ، فلا يلغي اعتبار الشرط الواقعي بالنسبة إلى نكاح المسلم إذا كان يرى عدم اعتباره ، بل هو يؤكد اعتبارها ويخصصه بنكاح المسلمين.

هذا تمام الكلام في هذا التنبيه. وبه يتم الكلام في الاجزاء (1) (2).

ص: 88


1- وقد تم تدريسا في يوم 14 / ع 1 / 85 وكتابة في يوم 2 / ع 2 / 85 ، إذ لم أكن في المباحث الأخيرة في النجف الأشرف ، وقد كرر تقريرها عليّ سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) ، فلا زال متفضلا.
2- ملخص ما أفيد في الدورة المتأخرة في النجف الأشرف حول إجزاء الأمر الظاهري الوجه الثالث : من وجوه الإشكال على صاحب الكفاية هو : ان دليل التوسعة لا بد وأن يأخذ الطهارة مفروغا عنها ، ثم يثبت سعة الشرطية ، مع انه في مقام جعل الشرطية. والجواب : إنه بمقتضى الحكومة يتكفل التوسعة بالمدلول الالتزامي ، فهو بالمطابقة يتكفل جعل الطهارة المستلزم لترتب الأثر وهو الشرطية ، فتكون دلالته على التوسعة بالالتزام نظير سائر موارد الحكومة المتكفلة للتوسعة. فتدبر. كما إن إشكال : إن المورد من موارد الحكومة الظاهرية ، يمكن دفعه : مضافا إلى ما في المتن ، من إن الدليل يتكفل التوسعة الواقعية لدليل الشرطية ولا ينافي ذلك كونه متكفلا لحكم ظاهري ، إذ الحكم الظاهري لا يمتنع أن يكون له أثر واقعي. ثم ان جريان مطلب الكفاية في أصالة الحل يبتني على أمرين : الأول : كون المراد من محرم الأكل هو هذا العنوان لا جعله طريقا إلى مصاديقه الخارجية كالأسد والهر. الثاني : كون الشرط هو كون الملبوس مما يؤكل لحمه لا أن المانع هو لبس محرم الأكل فلاحظ. ثم إن الفرق بين الأمارة والأصل : ان مرجع التعبد بالأمارة إلى التعبد بوجود الشرط لأنه هو مؤدي الأمارة وهو لا أثر له الا الدخول في الصلاة ، فإذا انكشف الخلاف فلا وجه للإجزاء ، بخلاف الأصل فإنه يتعبد بنفس الطهارة ويجعلها ويوجدها ويترتب عليه صحة الصلاة لوجدان الشرط. ثم ان ما ذكره في الكفاية من التمسك بإطلاق دليل الحجية بناء على السببية لإثبات الاجزاء غير واضح. أما أولا : فلان عمدة الدليل هو بناء العقلاء ، وهو دليل لبي لا إطلاق له. وإما ثانيا : فلأن دليل الحجية ولو كان لفظيا لا يتكفل الأمر. وأما ما ذكره في مورد الشك من الرجوع إلى أصالة عدم سقوط التكليف مع العلم الإجمالي ، فقد يورد عليه : بأنه لا تنجيز للعلم الإجمالي هاهنا لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء. والجواب : إنه لم يتمسك بالعلم الإجمالي وإنما تمسك بأصالة عدم إتيان ما يسقط به التكليف فتدبر. هذا ما يرتبط بمطلب الكفاية. وأما تحقيق المقام : فلا بد من تحديد محل الكلام ، فقد يقال : إن عمدة البحث في الشبهات الحكمية لا الموضوعية ، ولكن الأمر بالعكس ، لأن جميع موارد الشبهة الحكمية أو أكثرها يرجع إلى تبدل الرّأي لأجل انكشاف عدم الحجية واقعا ، وهذا راجع إلى الأمر الظاهري التخيلي لا الأمر الظاهري الحقيقي ، وهو خلاف محل الكلام. والحق في المقام اجزاء الأمر الظاهري الموضوعي أصلا كان أم إمارة في العبادات دون المعاملات. والسر فيه : إن الشارع حين يتحقق منه التعبد الظاهري المؤمن - مثلا - يكون قد تصدى للمنع عن حكم العقل بالاشتغال حين الشك أو استصحاب التكليف لو كان وقلنا بجريانه. ومع هذا يسقط الحكم الواقعي جزما بعدم قابليته للداعوية مع حكم العقل بالأمان إذ قوام التكليف بالداعوية ، وهي تتقوم بالخوف والرجاء ، فإذا أتى المكلف بالعمل ثم انكشف الخلاف فالموجب لثبوت التكليف الواقعي إما قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب أو إطلاق دليل الأمر الواقعي. أما قاعدة الاشتغال فلا تجري ، لأن الشك في حدوث التكليف. واما إطلاق الأدلة ، فقد يقرب جريانه بان المورد كموارد الغفلة التي يسقط فيها التكليف ثم يعود بالالتفات. ولكن الحق عدم جريانه ، لأن المورد من مصاديق المسألة المعروفة وهي دوران الأمر بين عموم العام واستصحاب حكم المخصص ، وهو من موارد عدم العام لأنّ الثابت حكم واحد مستمر ، وقد انقطع استمراره ، فلا مجال للتمسك بالدليل لإثبات الحكم بعد الانقطاع ، كما في الأمر بالوفاء بالعقد فلاحظ. وأما الحكم في موارد الغفلة ، فثبوته بعد الغفلة إنما هو للقطع بثبوت التكليف ، وعدم الفرق بين صورة عروض الغفلة من أول الأمر التي يكون للإطلاق فيها مجال ، وصورة العروض في الأثناء. ومن هنا يمكن أن يقرب ثبوت الحكم بعد الغفلة بأن الإطلاق المثبت للحكم بعد الغفلة مع كونها من أول الأمر يثبت الحكم بعد الغفلة في الأثناء بالملازمة ، والقطع بعدم الفرق. ومن هنا يتضح إن قيام الأمارة لو كان من أول الأمر لم يجر فيه البيان السابق ، لأنه يمكن التمسك بالإطلاق بعد زوال الجهل. ولكن هذا يقتضي ثبوت الحكم في الأمارة القائمة في الأثناء بالملازمة ، كما أشير إليه في صورة الغفلة. وعلى هذا فيختص هذا البيان بخصوص الأمارة أو الأصل الّذي لا يمكن ان يقوم من الأول ، كقاعدة الفراغ ، أو التجاوز ، والظن في الركعات أو الأفعال - على تقدير اعتباره - ، ثم إنه لو تم هذا البيان لا يعارض بحديث لا تعاد لأن ظاهره ثبوت الإعادة في مورد قيام المقتضي لها وقد عرفت عدم تمامية المقتضي للإعادة في موارد قاعدة الفراغ ، فيختص مدلولها بخصوص النسيان. فتأمل. ويمكن أن يقرب الاجزاء بوجهين آخرين : أحدهما : إنه عند قيام الأمارة أو الأصل يثبت جواز الاكتفاء بالعمل في مقام الامتثال ، وبعد الانكشاف يستصحب ذلك. ودعوى : إن الإطلاق حاكم على الاستصحاب. تندفع : بان الإطلاق يثبت الحكم الواقعي ، وهو لا ينافي جواز الاكتفاء الثابت بالاستصحاب ، لأنه متفرع على الحكم الواقعي. ولكن هذا الوجه انما يتم في موارد يكون جواز الاكتفاء ثابتا شرعا ، كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز. أما موارد البينة ونحوها فلا ، إذ جواز الاكتفاء فيها عقلي لا شرعي ، فلا معنى لاستصحابه. واستصحاب الطبيعي يكون من القسم الثالث وهو لا نلتزم به. والآخر : إنه عند قيام الأمارة يثبت الترخيص في ترك الواقع ، فيستصحب ذلك بعد الانكشاف ، وهو ينفي الوجوب بناء على ما تقدم من إن الوجوب بحكم العقل الثابت بلحاظ الطلب وعدم الترخيص ، وإذا ثبت الترخيص فلا وجوب ولو كان هذا الترخيص بواسطة الأصل. وقد يقال : إن مقتضي ذلك عدم ثبوت الوجوب مطلقا في موارد الأمر لاستصحاب الترخيص قبل التشريع. وهذا خلاف ما يبني عليه القوم من الأخذ بالدليل وإثبات الوجوب ، إلا إذا أثبت الاستحباب بالدليل. وفيه : إن الترخيص قبل الشرع ثابت في ضمن الإباحة وقد انتفت قطعا هنا بوجود الطلب ولو استحبابا. واستصحاب طبيعي الترخيص من القسم الثالث من استصحاب الكلي وهو ممنوع وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن المستصحب هو الترخيص الظاهري الثابت سابقا الّذي يجتمع مع الطلب الواقعي ، وهو غير معلوم الزوال. ثم إن هذا البيان وسوابقه للاجزاء يتأتّى حتى الأمارات القائمة على الحكم. ولا يختص بالموضوع فلاحظ. ثم إنه لو تم الأجزاء على القول بالطريقية ، فلا إشكال في ثبوته على السببية لنفس البيانات. ولو فرض عدم الإجزاء والرجوع إلى إطلاق الأدلة الدالة على لزوم الإعادة أو القضاء. فهل يحكم بالإجزاء على السببية أو لا؟. التحقيق : ان للسببية مسالك ثلاثة : الأول : السببية بمعنى عدم الواقع إلا ما قامت عليه الأمارة ، وهذا هو المنسوب إلى الأشاعرة ومقتضاه هو الاجزاء ، بل لا موضوع للأجزاء وعدمه لأنه لا واقع هنا غير ما أدت إليه الأمارة حتى يقال إنه مجز عنه. الثاني : المصلحة السلوكية التي بنى عليها الشيخ ، ومقتضاها التفصيل بين الالتزام بتبعية القضاء للأداء وكون التوقيت بنحو تعدد المطلوب ، والالتزام بعدم التبعية وانه بأمر جديد وان التوقيت بنحو وحدة المطلوب. فعلى الأول لا وجه للاجزاء من حيث القضاء ، إذ لم تفت الا مصلحة الوقت ، وأما مصلحة الفعل فهي قابلة للتدارك ، وعلى الثاني يلتزم بالأجزاء لفوات مصلحة الواجب السابق ، فلا بد من تداركه ومع تداركه لا يصدق الفوت الموضوع للقضاء. الثالث : السببية المعتزلية الراجعة إلى انقلاب الواقع عما كان أولا ، ومقتضاها عدم الاجزاء ، إذ غاية ما يقرب الاجزاء عليها بأن المورد عليها يكون كموارد الأوامر الاضطرارية. لكن بيان الأجزاء في الأوامر الاضطرارية - الراجع إلى ان أدلة الأوامر الاضطرارية تقتضي تصنيف المكلفين - لا يجري هاهنا ، إذ لا يقتضي دليل الحجية ولا نفس الأمارة تصنيف المكلفين. كما ان الوجه الآخر الراجع إلى تكفل دليل الأمر الاضطراري تحقيق الشرط كالطهارة بالتيمم لا يجري هاهنا ، فلاحظ وتدبر. يبقى الكلام في بعض خصوصيات كلام الكفاية كتفصيله على السببية بين إمارة الموضوع وإمارة الحكم وقد أوضحنا الفرق في المتن فلاحظ. وأما رجوعه مع الشك إلى أصالة عدم المسقط بضميمة العلم بالشغل فالمراد به كما تقدم ليس التمسك بالعلم الإجمالي بل بالعلم الإجمالي ولضميمة استصحاب ما يثبت بقاء التكليف ، فالتنجز بقاء بواسطة الاستصحاب. وهذا أحسن ما يمكن توجيه كلام الكفاية به ولا يرد عليه سوى إن هذا الاستصحاب من استصحاب الفرد المردد لا الكلي القسم الثاني ، لأن الوجوب لا يتعلق بطبيعي الصلاة الجامعة بين الظهر والجمعة - مثلا - فليس المستصحب كلي الوجوب بل الفرد المردد بين فرديه ، وليس نظير الحدث مما كان المجعول أمرا كليا لا تعلق له بشيء : وتحقيق ذلك الأمر في محله ، مع انه لو رجع إلى استصحاب القسم الثاني فنحن لا نقول به أيضا. فلاحظ.

ص: 89

ص: 90

ص: 91

ص: 92

مقدّمة الواجب

اشارة

ص: 93

ص: 94

مقدمة الواجب

قبل الخوض في المهم لا بد من التنبيه على جهة وهي : انه قد يتساءل عن جهة إطناب صاحب الكفاية في مبحث المقدمة. والبحث في أمور دقيقة نظرية ، مع اعترافه أخيرا بعدم الثمرة العملية لهذا البحث وان ما ذكر له من الثمرات ليس بثمرة له.

والجواب : ان موضوع هذا البحث الطويل وان كان بحسب العنوان والمدخل هو وجوب المقدمة ، لكن الواقع انه يشتمل على أبحاث دقيقة نظرية لا ترتبط في حقيقتها بوجوب المقدمة وعدمه ، وكل منها ذو آثار عملية في الفقه ومقام الفتوى. اما أصل وجوب المقدمة فالبحث عنه نفيا وإثباتا مختصر جدا مع انه غير خال عن الثمرة العملية كما سنشير إليه.

اما تلك الأبحاث الاستطرادية غير المرتبطة بوجوب المقدمة.

فمنها : البحث عن إمكان الشرط المتأخر ومعقوليته وعدمه ، فانه بحث دقيق طويل يستهلك قسما كبيرا من مبحث وجوب المقدمة ، مع انه لا علاقة له بوجوبها وعدمه ، فسواء كانت المقدمة واجبة أو غير واجبة يبحث عن إمكان الشرط المتأخر ، وتترتب عليه آثار عملية فقهية ، كإمكان الالتزام بالكشف في

ص: 95

المعاملة الفضولية المتعقبة للإجازة بناء على إمكانه ، واما بناء على عدم إمكانه فلا مناص عن الالتزام بالنقل ، وثمرة كلا الالتزامين تظهر في النماء المتجدد الحاصل بين زمان العقد والإجازة ، فانه بناء على الكشف يكون للمشتري واما بناء على النقل فيكون للبائع لأنه نماء حدث في ملكه.

ومنها : بعض صغريات بحث المقدمة الموصلة ، وهو البحث عن كون المشروع من المقدمات العبادية هل هو الموصل منها أو الأعم؟ مع قطع النّظر عن وجوبه وعدمه وثمرة هذا البحث ظاهرة ، فان الإيصال إذا كان دخيلا في مشروعية الوضوء للصلاة مثلا ، فلازمه عدم صحة الوضوء إذا لم يترتب عليه الواجب ، بخلاف ما إذا لم يعتبر في المشروعية وكان المشروع مطلق المقدمة.

ومنها : البحث في إمكان الواجب المعلق وعدمه ، فانه مما لا يرتبط بوجوب المقدمة وعدمه وله آثار مهمة في الفقه ، كلزوم الإتيان بالمقدمة عقلا إذا لم يبنى على وجوبها شرعا ، وعلم المكلف انه لا يقدر على الإتيان بها عند دخول وقت الواجب.

وغير ذلك من المباحث التي لا تخفي على النبيه.

واما الثمرة العملية للبحث في وجوب المقدمة ، فهو كون المورد من موارد التعارض بناء على وجوب المقدمة لو كانت المقدمة محرمة وكونه من موارد التزاحم بناء على عدم وجوبها. بيان ذلك : انه إذا وجب شيء كإنقاذ الغريق وكانت له مقدمة محرمة ، وهي الاجتياز في ملك الغير بدون اذنه ، فلو قلنا بوجوب المقدمة كان المورد من موارد التعارض ، لعدم إمكان تعلق الحرمة والوجوب بشيء واحد ، فيتعارض دليل التحريم مع دليل الوجوب بخلاف ما إذا التزمنا بعدم وجوب المقدمة ، فانه يكون من موارد التزاحم ، لاختلاف متعلق الحكمين ، وعدم المحذور في جعل الحرمة والوجوب لكل من متعلقيهما في نفسه ، لكن الحكمين لا يمكن امتثالهما معا لعدم القدرة فيقع التزاحم بينهما ، ومن الواضح

ص: 96

اختلاف الأثر العملي بين ما إذا كان المورد من موارد التعارض أو من موارد التزاحم.

وجملة القول : ان هذا الإطناب ليس موضوعه وجوب المقدمة ، بل موضوعه كثير من المباحث التي يتعرض لها بالمناسبة ، مع ان بحث وجوب المقدمة لا يخلو عن ثمرة عملية كما عرفت.

وبعد هذا يقع الكلام في أمور :

الأمر الأول : والبحث فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في ان هذه المسألة مسألة أصولية أو فقهية أو غيرهما.

والّذي أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه هو : انه يمكن فرض المسألة بنحو تكون من المسائل الفقهية ، كأن يفرض البحث عن وجوب المقدمة وعدمه. كما يمكن فرضها بنحو تكون من المسائل الأصولية ، كأن يفرض البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، فانها بذلك تكون من المسائل الأصولية ، لأن نتيجتها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، وهو وجوب المقدمة المعينة كالوضوء - كما يشير إليه في أواخر المبحث - ، وبهذا الاعتبار لا بد من تحرير المسألة بهذا النحو كي تندرج في مسائل علم الأصول ولا تكون من المسائل الاستطرادية في هذا العلم ، إذ مع إمكان فرض البحث بنحو تكون من المسائل لا وجه لفرضه بنحو تكون خارجة عن العلم ويلتزم بان ذكرها بنحو الاستطراد. هذا مما أفاده في الكفاية (1).

وقد أفيد - خلافا له - بان المسألة لا يمكن ان تكون من المسائل الفقهية ، وذكر لذلك وجوه ثلاثة :

الأول : - ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه - ان المسألة الفقهية ما كان

ص: 97


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /89- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

موضوعها امرا خاصا كوجوب الصلاة أو الصوم أو نحوهما. اما ما كان موضوعها عنوانا عاما ينطبق على عناوين خاصة فليست بمسألة فقهية ، وذلك كمسألة وجوب المقدمة ، فان المقدمة عنوان عام ينطبق على عناوين خاصة في الأبواب المختلفة كالوضوء ونحوه. فلا تكون من المسائل الفقهية وان كان محمول المسألة هو الوجوب وعدمه (1).

وأورد عليه المحقق العراقي رحمه اللّه : بالنقض ببعض المسائل الفقهية مما كان موضوعها عاما لا يختص بباب دون آخر ، كمسألة وجوب الوفاء بالنذر ، فانه يشمل كل منذور سواء كان صلاة أو حجا أو صوما أو غيرها. ومسألة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وعكسها - أي ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده - فان الموصول يعم جميع العقود التي تنطبق عليها الصلة كالبيع والإجارة وغيرهما (2).

الثاني : - ما أفاده المحقق العراقي قدس سره - ان المسألة الفقهية ما كان الحكم المبحوث عنه فيها ناشئا عن ملاك واحد ، ووجوب المقدمة ليس كذلك ، لأن وجوب كل مقدمة بوجوب ذيها ، فملاكه يكون ملاك وجوب ذيها ، ولا يخفى اختلاف الأحكام في الملاكات فملاك وجوب الصلاة غير ملاك وجوب الصوم وهكذا ، فوجوب المقدمة يختلف ملاكه باختلاف موارده فلا تكون المسألة من المسائل الفقهية (3).

وفيه :

أولا : ان تعيين الضابط لمسائل العلم ليس امرا يرجع إلى اختيار كل أحد ، وإلاّ لما صح الإيراد بعدم الطرف والعكس على أحد ، بل الملحوظ فيه أحد

ص: 98


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 213 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 313 - الطبعة الأولى.
3- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 312 - الطبعة الأولى.

امرين : اما ان تكون هناك مسائل مجموعة اصطلح عليها باسم خاص ، فيلحظ الجامع بينها ويفرض كونه هو الضابط لمسائل العلم ، واما ان يلحظ الغرض والملاك في تدوين العلم وتحرير مسائله ، فينتزع الضابط للمسائل بلحاظه. واما فرض الضابط بلا لحاظ أحد هذين الأمرين ، بل بالاختيار ، فذلك ما لا وجه له.

ولا يخفى ان الضابط للمسألة الأصولية بلحاظ غرض علم الفقه ، انما هو كل ما يبحث فيه عن عوارض فعل المكلف الشرعية ، سواء تعدد ملاكه أو اتحد ، فمسألة وجوب المقدمة على هذا من المسائل الفقهية ، وزيادة قيد اتحاد الملاك بلا وجه ظاهر.

وثانيا : ان وجوب المقدمة بعنوان انها مقدمة يكون بملاك واحد في جميع موارده وهو ملاك المقدمية ، فانه هو الّذي يوجب ترشح الوجوب على المقدمة في كل الموارد وليس له ملاك آخر غيره.

الثالث : - وهو ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - ان البحث ليس عن خصوص وجوب مقدمة الواجب أو استحباب مقدمة المستحب وانما البحث في الحقيقة يرجع إلى مطلوبية مقدمة المطلوب بقول مطلق بلا خصوصية للوجوب والاستحباب ، وذكر الوجوب في العنوان ليس إلاّ لأهميته لا لخصوصية فيه ، ومعه لا تكون المسألة فقهية ، لأن جامع الطلب ليس من الأحكام الشرعية والعوارض التي تفرض لفعل المكلف ، إذ ما يعرض على فعل المكلف هو خصوصيات الطلب ، بل تكون المسألة مما يستنبط بواسطتها حكم شرعي وهو وجوب المقدمة أو استحبابها كما لا يخفى (1).

وفيه : ان جامع الطلب لو كان امرا متقررا في قبال الوجوب أو الاستحباب ، أو لم يكن كذلك ولكن كان البحث عن مطلوبية المقدمة بكلّي

ص: 99


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 293 - الطبعة الأولى.

الطلب بلا نظر إلى خصوصية الوجوب والاستحباب ، كان ما ذكر في محلّه ، لكنه ليس كذلك ، بل الطلب المأخوذ في العنوان قد أخذ عنوانا ومرآتا للوجوب والاستحباب ، فالبحث يرجع في الحقيقة إلى وجوب مقدمة الواجب واستحباب مقدمة المستحب ، غاية الأمر انه يشار إليهما بلفظ وعنوان واحد.

وبعبارة أخرى : ان لكل من خصوصيتي الوجوب والاستحباب دخل في وجوب المقدمة واستحبابها ، وليس الترشح من جهة أصل الإرادة والطلب فقط ، وإلاّ لما اتجه وجوب مقدمة الواجب دون المستحب ، بل غاية ما يثبت مطلوبيتها ، اما كون الطلب وجوبيا فلا دليل عليه. فالانتهاء إلى وجوب مقدمة الواجب واستحباب مقدمة المستحب من البحث كاشف عن تعلق النّظر في البحث بخصوصيتي الوجوب والاستحباب ، غاية الأمر انه عبّر عنهما بعنوان واحد وهو لا يعني إلغاء الخصوصية ، وبذلك لا تخرج المسألة عن الفقه لأن البحث عن مطلوبية المقدمة عنوانا لا حقيقة. فتدبر.

والإنصاف : ان المسألة ليست من المسائل الأصولية ولا الفقهية ، وانما هي من مبادئ الأصول.

اما عدم كونها من مسائل الأصول : فلما عرفت في مبحث ضابط المسألة الأصولية من ان المسألة الأصولية ما كانت نتيجتها رافعة لتحير المكلف في مقام العمل ، اما تكوينا كمباحث الملازمات العقلية ، أو تعبدا ، كمباحث الأمارات. ولا يخفى ان هذه المسألة لا تتكفل هذه الجهة ، إذ لا تحيّر للمكلف في مقام العمل وأداء الوظيفة ، إذ لا بد عليه من الإتيان بالمقدمة تحصيلا لامتثال ذيها وجبت شرعا أو لم تجب ، فوجوب المقدمة وعدمه لا يؤثر في عمل المكلف أصلا.

واما عدم كونها من مسائل الفقه : فلان المسائل الفقهية ما يبحث فيها عن عوارض الفعل الشرعية العملية لا مطلق العوارض الشرعية. ولا يخفى ان وجوب المقدمة شرعا لا أثر عمليا له ، إذ لا إطاعة له ولا عصيان ولا ثواب عليه

ص: 100

ولا عقاب ولا بعث فيه ولا زجر وقد عرفت ان المكلف يلزمه الإتيان بالمقدمة سواء كانت واجبة شرعا أو لم تكن.

واما كونها من المبادئ : فلما عرفت من ان ثمرتها العملية تحقيق صغرى لمسألة التعارض بناء على الوجوب ، أو صغرى لمسألة التزاحم بناء على عدم الوجوب ، وكل من مسألتي التزاحم والتعارض من مسائل الأصول ، فهي بذلك تكون من مبادئ المسألة الأصولية فلاحظ.

الجهة الثانية : في ان المسألة عقلية أو لفظية.

ذهب صاحب الكفاية إلى كونها عقلية لا لفظية - كما قد يظهر من صاحب المعالم (1) - والوجه فيه : ان أصل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته محل إشكال ، فلا بد من إيقاع البحث فيه ، ولا معنى لإيقاع البحث في مقام الإثبات وكون وجوب المقدمة مدلولا للفظ بأي الدلالات ، أو عدم كونه مدلولا له بأحدها (2).

ولا يرد على صاحب الكفاية : ان موضوع البحث لا يتحمل البحث في مقامين الثبوت والإثبات - كما هو ظاهر الكفاية - ، لأن مرجع البحث الإثباتي في ثبوت الدلالة الالتزامية على وجوب المقدمة إلى تحقيق وجود الملازمة ثبوتا وعدمه ، فالبحث في مقام الإثبات ينتهي إلى تحقيق مقام الثبوت (3).

وجه عدم ورود هذا الإيراد : ان الملازمة التي هي ملاك الدلالة الالتزامية هي الملازمة العرفية ، والمبحوث عنه ثبوتا هو كلي الملازمة ، ومع كون أصل الملازمة محل الإشكال لا تصل النوبة إلى مرحلة الإثبات ، وتحقيق أي نوع ثابت من أنواع الملازمة وعلى أي حال فالأمر سهل.

ص: 101


1- العاملي جمال الدين. معالم الدين في الأصول /61- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /89- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 261 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأمر الثاني : في تقسيمات المقدمة.

وقد تعرض في الكفاية إلى ذكر تقسيمات متعددة لها :

التقسيم الأول : انقسامها إلى المقدمة الداخلية ، وهي : الأجزاء المأخوذة في المأمور به. والمقدمة الخارجية ، وهي : الأمور الخارجة عن الماهية التي يتوقف وجود المأمور به عليها.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى البحث عن المقدمة الداخلية من جهتين :

الجهة الأولى : في صحة إطلاق المقدمة عليها ، إذ قد يستشكل (1) في ذلك : بان المقدمية تتوقف على كون المقدمة سابقة على ذي المقدمة ، والأجزاء غير سابقة على المركب ، لأن الكل هو عين الاجزاء ، ونفس الشيء لا يكون سابقا عليه. والجواب الّذي أشار إليه في الكفاية عن هذا الإشكال هو : ان الأجزاء بالأسر فيها جهتان واقعيتان إحداها مترتبة على الأخرى ، فان في كل جزء جهة ذاته وجهة اجتماعه مع غيره من الأجزاء. ولا يخفى ان جهة الذات متقدمة على جهة اجتماع الذات مع الذات الأخرى تقدم المعروض على العارض ، لأن جهة الاجتماع عارضة على الذوات.

وعليه فنقول : إذا لوحظت الأجزاء بجهة ذاتها كانت المقدمة ، وإذا لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكل ، فالمقدمة سابقة على الكل وذي المقدمة سبق المعروض على العارض ، وهذا السبق يصحح إطلاق المقدمية عليها.

ويمكن التعبير عن الفرق بين الأجزاء والكل بحسب اصطلاح المعقول : بان الأجزاء ما لوحظت لا بشرط ، والكل ما لوحظ بشرط شيء (2).

وقد نبّه عليه في الكفاية تمهيدا للإشارة إلى الإشكال على جواب صاحب التقريرات عن الاستشكال في مقدمية الأجزاء : بان الجزء ما لوحظ بشرط لا (3) ،

ص: 102


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار -3. الطبعة الأولى.

وانه ناشئ عما قيل في بيان جهة الفرق بين الاجزاء الخارجية كالمادة والصورة المعبر عنهما في الإنسان بالنفس والبدن ، والاجزاء التحليلية كالجنس والفصل المعبر عنهما بالحيوان والناطق الموجبة لعدم صحة حمل المادة على الصورة وبالعكس في ظرف صحة حمل كل من الجنس والفصل على الآخر ، فقد قيل في بيان جهة الفرق : ان الاجزاء الخارجية مأخوذة بشرط لا فلا يصح حملها ، والأجزاء التحليلية مأخوذة لا بشرط ، فكان ذلك منشأ لأن يكون جواب صاحب التقريرات في بيان الفرق بين الجزء والكل بان الجزء مأخوذ بشرط لا ، غفلة منه بان ذلك لا يتلاءم مع كونه جزء للكل لأن الكلية والجزئية متضايفان.

وأخذ الجزء الخارجي بشرط لا بلحاظ الحمل لا بلحاظ الجزئية والكلية.

الجهة الثانية : في دخولها في محل النزاع ، والّذي قرّره في الكفاية عدم دخولها في محل النزاع لوجهين :

الأول : وهو ما أشار إليه في حاشية له في المقام : ومرجعه إلى عدم المقتضي للوجوب الغيري فيها ، وذلك لأن ما يدل على وجوب المقدمة وترشح الوجوب عليها ، انما هو الارتكاز العقلائي العرفي ، وهو غاية ما يدل على ثبوت الوجوب والترشح في مورد تعدد الوجود ومغايرة وجود المقدمة لوجود ذيها ، اما مع عدم مغايرة وجود المقدمة لوجود ذيها واتحادهما في الوجود ، وتصحيح المقدمية بوجه من الوجوه الدقيقة العقلية ، كما في الجزء والكل ، فالدليل قاصر عن إثبات وجوبها وترشح الوجوب من ذيها عليها (1).

الثاني : وهو ما ذكره في متن الكفاية ، ومرجعه إلى وجود المانع من تعلق الوجوب الغيري بها ، وبيان ذلك : ان الاجزاء لما كانت عين الكل في الوجود كان الأمر النفسيّ المتعلق بالكل متعلق بها حقيقة ، فهي متعلقة للوجوب النفسيّ ،

ص: 103


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /91- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه فيلزم من تعلق الوجوب الغيري بناء على ثبوت مقتضية اجتماع حكمين على موضوع واحد وهو محال ، لأنه من باب اجتماع المثلين وهو في المنع كاجتماع الضدين ، فالأجزاء لا تكون متعلقة للوجوب الغيري وان ثبت مقتضية فيها لوجود المانع وهو استلزامه للمحال (1).

وقد ذكر للتفصي عن هذا المحذور وجهان :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني رحمه اللّه من : انه لا مانع من تعلق الوجوب الغيري بالأجزاء مع تعلق الوجوب النفسيّ بها إذا رجع إلى تعلق حكم واحد بها مؤكّد لا حكمين مستقلين كي يستلزم اجتماع المثلين ، فمحذور اجتماع المثلين يرتفع بالالتزام بالتأكد في الوجوب ، كما يلتزم به في غير الأجزاء من الواجبات النفسيّة إذا كانت مقدمة لواجب آخر ، نظير صلاة الظهر فانها مقدمة لصلاة العصر فهي واجبة بوجوب مؤكد لثبوت ملاك الوجوب الغيري فيها بضميمة تعلق الوجوب النفسيّ.

ولكنه استشكل في هذا الوجه بدعوى : ان التأكد انما يتصور في غير المورد الّذي يكون الوجوب الغيري معلولا للوجوب النفسيّ ، نظير مثال صلاة الظهر. واما إذا كان الوجوب الغيري معلولا لنفس الوجوب النفسيّ كالأجزاء ، فان وجوبها الغيري المفروض يترشح من وجوبها النفسيّ ، فيمتنع فرض التأكد فيه (2).

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : بان امتناع التأكد انما يتم لو كان أحدهما سابقا على الآخر زمانا ، بمعنى ان وجود أحدهما بعد وجود الآخر ، لا ما كان أحدهما متقدما على الآخر رتبة مع تقاربهما في الوجود كما فيما نحن فيه ، إذ

ص: 104


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 218 - الطبعة الأولى.

العلة لا تنفك عن المعلول وجودا والسبق واللحوق بينهما رتبي لا زماني فلا مانع من التأكد (1).

وفيه : ان جهة استحالة التأكد لا يفترق فيها الحال بين النحوين. فان الوجه في امتناع تأكد المعلول مع العلة : ان ترشح الوجوب الغيري لما كان معلولا للوجوب النفسيّ لا يمكن فرضه إلا بفرض تحقق الوجوب النفسيّ خارجا ووجوده كي يترشح منه الوجوب الغيري ويكون مؤثرا في وجوده تأثير العلة بالمعلول ، ولا يخفى ان لكل وجود حد خاص معين ، وعليه فإذا فرض ترشح الوجوب الغيري عن الوجوب النفسيّ مقارنا لوجوده ، فاما ان يكون لكل منهما وجود مستقل فيلزم اجتماع المثلين. واما ان ينعدم الوجوب النفسيّ بحدّه الخاصّ ويحدث فرد جديد للوجوب مؤكد فيلزم انعدام علة الوجوب الغيري - إذ قد عرفت أنه الوجوب النفسيّ بحدّه الوجوديّ - ، وهو مساوق لعدم وجود الوجوب الغيري لانعدام المعلول بانعدام علته ، ففرض التأكد بين المعلول والعلة ملازم لفرض انعدام العلة بحدّها الوجوديّ الّذي به قوام التأثير ، وهو مستلزم لانعدام المعلول وهو خلف فرض التأكد ، ولا يخفى ان هذا الوجه لا يرتفع بدعوى المقارنة بين وجود المعلول ووجود العلة زمانا والاختلاف رتبة ، فان ملاكه أعم ، فكما يمتنع التأكد مع التقدم الزماني لعين الوجه ، فكذلك يمتنع مع التقدم الرتبي والعلية وان تقارن زمان العلة والمعلول. فلاحظ.

الثاني : ما ذكره في الكفاية من انه قد تقرر في مبحث اجتماع الأمر والنهي ان اختلاف الوجه والعنوان يجدي في رفع غائلة امتناع اجتماع الحكمين المتضادين ، فلا بد ان يكون كافيا في رفع غائلة اجتماع الحكمين المتماثلين لأنه موجب لتعدد المعنون ، ولا يخفى ان العنوان الّذي يثبت له الوجوب الغيري في

ص: 105


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 300 - الطبعة الأولى.

الأجزاء غير العنوان الّذي يثبت له الوجوب النفسيّ فيها ، فان الوجوب النفسيّ طارئ على عنوان المركب الخاصّ من صلاة وصوم وغيرهما ، والغيري طارئ على الاجزاء بعنوان المقدمية ، فيختلف العنوان وبه ترتفع غائلة اجتماع الحكمين المتماثلين.

وأورد عليه في الكفاية : ان عنوان المقدمية لم يؤخذ جهة تقييدية ، فليس الوجوب بعارض على عنوان المقدمة ، بل هو عارض على ذات المقدمة وما هي بالحمل الشائع مقدمة ، فعنوان المقدمية مأخوذ بنحو الجهة التعليلية ، فتكون ذوات الأجزاء متعلقة للوجوب النفسيّ باعتبار انها عين المركب ، ومتعلقة للوجوب الغيري لأنها مقدمة فيجتمع المثلان في واحد (1).

فتحصل من مجموع ما ذكرنا خروج الأجزاء عن موضوع الكلام ، فموضوع الكلام هو المقدمات الخارجية التي لا ينبسط عليها الوجوب النفسيّ.

التقسيم الثاني : انقسامها إلى المقدمة العقلية والشرعية والعادية.

فالعقلية : ما توقف وجود الشيء عليها عقلا.

والشرعية : ما توقف وجود الشيء عليها شرعا.

والعادية : ما توقف وجود الشيء عليها عادة.

وقد أفاد صاحب الكفاية : بان التحقيق يقضي برجوع الكل إلى العقلية ، وانه ليس لدينا مقدمة غير عقلية.

اما الشرعية : فلان توقف وجود الشيء عليها شرعا لا يكون إلاّ بأخذها شرطا في الواجب والمأمور به ، ولا يخفى ان استحالة المشروط بدون شرطه عقلية.

وبعبارة أخرى : توقف وجود الواجب - بما أنه واجب - على وجود الشرط

ص: 106


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مما يحكم به العقل بعد أخذه شرطا.

واما العادية : فهي بمعنى خارجة عن المقسم ، ولا تكون مقدمة حقيقة. وبمعنى آخر ترجع إلى العقلية ، فانها بمعنى كون التوقف عليها بحسب الاعتياد والتعارف مع إمكان وجود ذيها بدونها نظير لبس الحذاء أو الرداء عند الخروج إلى السوق ، لا تكون مقدمة حقيقة لأن معنى المقدمية مساوق للتوقف ، والفرض انه لا توقف هنا ، وإطلاق المقدمة على مثله مسامحي. وبمعنى ان التوقف عليها فعلا واقعي لكنه باعتبار عدم إمكان غيره عادة لا عقلا ، كتوقف الصعود على السطح على نصب السلّم تكون مقدمة عقلية ، لأن العقل يحكم باستحالة الصعود بدون مثل النصب فعلا وان كان ممكنا في نفسه وذاته ، لأن العقل انما يحكم باستحالة الطفرة لا بعدم إمكان الصعود بدون مثل النصب ذاتا كما لا يخفى (1).

التقسيم الثالث : انقسامها إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم.

وقد التزم ان موضوع البحث هو مقدمة الوجود دون غيرها ، لرجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، لأن مفروض الكلام هو مقدمة الواجب ، ولا يخفى ان مقدمة صحة العمل وما عليه يتوقف صحة العمل يرجع إلى كونه مقدمة لوجود الواجب ، إذ الواجب انما هو الصحيح دون الأعم ، كي يتوهم انفراد مقدمة وجوده عن مقدمة صحته.

واما مقدمة الوجوب : فلان الوجوب النفسيّ لا يتحقق إلا بعد تحققها ،

ص: 107


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /91- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . لا يظهر من كلامه رجوع الكل إلى العقلية إذ لم ينكر وجود المقدمة العادية بأحد معنييها ، وعدم رجوعها إلى العقلية ، وانما التزم بخروجها عن محل النزاع لعدم وجود ملاك الوجوب الغيري فيها وهو التوقف. وهو لا ينافي كونها مقدمة عادة وعرفا. ( المقرر ).

نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، ومعه لا يعقل فرض ترشح الوجوب من ذيها عليها ، للزوم طلب الحاصل.

واما مقدمة العلم : فهي مما لا يتوقف وجود الواجب عليها واقعا ، فان الصلاة إلى كل جهة من الجهات المحتملة للقبلة لا تكون دخيلة في حصول نفس الواجب الواقعي ، نعم هي دخيلة في حصول ما هو واجب عقلا وهو حصول العلم بالامتثال ، فتكون واجبة بالوجوب العقلي الإرشادي من باب وجوب الإطاعة لا الوجوب الشرعي المولوي من باب الملازمة ، لعدم كونها مقدمة له.

واعلم : ان هذين التقسيمين لا يستدعيان أكثر من إيضاح مطلب الكفاية ، إذ لا يتكفلان بحثا علميا ومطلبا دقيقا ، ولذلك اقتصرنا في الكلام عنهما على مطلب الكفاية. وانما المهم هو البحث في الشرط المتأخر الّذي يجيء ذكره في التقسيم الآخر فلاحظه.

التقسيم الرابع : انقسامها إلى المقدمة المتقدمة والمقدمة المقارنة والمقدمة المتأخرة.

فانها ان كانت سابقة زمانا على ذيها كانت متقدمة. وان كانت مقارنة في وجودها لوجود ذي المقدمة كانت مقارنة. وان كانت لاحقة له في الوجود كانت متأخرة.

وقد وقع الكلام في معقولية المقدمة المتأخرة ، وبتعبير آخر : « الشرط المتأخر » ، كالأغسال الليلية المعتبرة عند بعض في صحة صوم المستحاضة في اليوم السابق.

وجهة الإشكال في معقولية الشرط المتأخر هي : ان معنى كونه شرطا ومقدمة انه دخيل في وجود المشروط وتحققه ، بحيث يكون من اجزاء علته ، وعليه فإذا فرض وجود المشروط في زمان سابق على زمان وجود الشرط المفروض أنه دخيل في التأثير لزم ان يؤثر المعدوم - وهو الشرط - في الموجود - وهو المشروط - ،

ص: 108

وتأثير المعدوم في الموجود محال.

وقد أسرى صاحب الكفاية هذا الإشكال إلى الشرط المتقدم المتصرم وجوده عند وجود المشروط : كالعقد في الصّرف والسّلم ، فان حصول الملكية انما يكون بعد القبض ، ولا يخفى انه لا وجود للعقد حينه فيلزم تأثير المعدوم في الموجود ، إذ لا كلام في دخالة العقد في تحقق الملكية. بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه ما عدا الجزء الأخير منه ، لأن الإنشاء بألفاظه دخيل في تحقق الأثر المنشأ مع انه لا وجود لغالب الألفاظ حال تحقق الأثر (1).

وبهذه التسرية ألزم صاحب الكفاية نفسه والأعلام بحلّ الإشكال ، إذ الالتزام به في هذه الموارد ونظائرها يستلزم تأسيس فقه جديد وأحكام غريبة ، لأن الإشكال لو كان يقتصر على الشرط المتأخر خاصة ، لأمكن الالتزام به ونفى الشرط المتأخر وتوجيه ما ورد مما ظاهره ذلك لقلة موارده ، اما بعد ان صار الإشكال ساريا في موارد كثيرة جدا فالالتزام به مشكل جدا فلا بد من حلّه.

والّذي أفاده في الكفاية في مقام الحل هو : ان الشرط والمؤثر في الحقيقة ليس ما يصطلح عليه الشرط ويسمى به ، وانما هو امر آخر مقارن للمشروط ، وهذا الأمر ثابت بالنسبة إلى الشرط المقارن أيضا. بيان ذلك : ان الشرط اما ان يكون شرطا للحكم ، سواء كان حكما تكليفيا أو وضعيا. واما ان يكون شرطا للمأمور به.

اما الحكم ، فقد ادعى : ان الشرط الحقيقي المؤثر فيه هو الوجود العلمي للشرط لا الخارجي ، والوجود العلمي مقارن للحكم مطلقا. بتقريب : أنه قد تقرر في محلّه ان العلة باجزائها لا بد ان تكون من سنخ المعلول - وهو المعبّر عنه بقانون السنخيّة - ، فلا بد ان يتحد أفق العلة مع أفق المعلول - ، ويمتنع ان يكون

ص: 109


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /92- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أفق العلة غير أفق المعلول ، فإذا كان المعلول من الأمور الذهنية امتنع ان تكون علته من الأمور الخارجية لامتناع تأثير الخارجي في الذهنيات ، وإلا لزم وجود الخارجي بما انه كذلك في الذهن وهو محال.

وعليه ، فبما ان الحكم الشرعي - تكليفيا كان أو وضعيا - من افعال المولى الاختيارية ، فهي صادرة عن إرادة المولى ومنبعثة عنها ، فلا معنى لتأثير الأمور الخارجية فيه ، وانما ينقل الكلام إلى مصدر نشوء الإرادة وتحقيقها ، فبما ان أفق الإرادة ليس هو الخارج وانما هو النّفس امتنع ان يؤثر فيها شيء من الخارجيات ، ولذا كانت مقدماتها ذهنية ، ومنها تصور الشرط الخارجي فانه يوجب إرادة الحكم ويؤثر فيها ، فالمؤثر هو العلم بالشرط وتصوره لا نفس الشرط بوجوده الخارجي لامتناع تأثيره في الإرادة كما عرفت ، وهذا المعنى كما يتأتى في الشرط المتقدم والمتأخر يتأتى في الشرط المقارن أيضا ، فان المؤثر في الحقيقة هو تصور وجوده لا نفس وجود الخارجي ، لامتناع تأثير الخارجيات في الإرادة.

وبالجملة : في مورد ثبوت الشرط للحكم ، يكون الشرط في الحقيقة هو الوجود العلمي التصوري لذلك الأمر لا نفس ذلك الأمر الخارجي ، فانه هو الّذي يصلح للتأثير في الإرادة دون المطابق الخارجي. ومن الواضح ان تصور الشرط يكون مقارنا للمعلول ، أعني الإرادة ، وان كان مطابقه متأخرا أو متقدما ، فلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود. واما تسمية الأمور الخارجية بالشروط فهي بلحاظ كونها مطابقا لما هو الشرط في الحقيقة : أعني الوجود الذهني لها.

واما المأمور به فقد ادعى : ان الشرط في الحقيقة ليس ما يصطلح عليه بالشرط ، وانما هو إضافة خاصة للمأمور به طرفها ذلك الأمر ، والإضافة مقارنة مطلقا للمأمور به. بتقريب : ان الشيء لا يكون متعلقا للأمر وموردا له إلاّ إذا كان معنونا بعنوان حسن يستلزم تعلق الأمر به ، ومن الواضح الّذي لا إشكال فيه اختلاف الحسن والقبح باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من

ص: 110

الإضافات ، فالشيء باعتبار إضافة خاصة يكون ذا وجه به يتصف بالحسن.

وعليه ، فالذي يكون دخيلا في تعلق الأمر وصيرورة الشيء مأمورا به نفس إضافة ذات المأمور به إلى أمر آخر بإضافة خاصة لا نفس الأمر الآخر الّذي يكون طرف الإضافة.

وعلى هذا فشرطية شيء للمأمور به مرجعها إلى كون إضافة المأمور به إليه محصلة لوجه يوجب اتصافه بالحسن ، فمرجعها إلى دخالة إضافة المأمور به في تعلق الأمر وتأثيرها فيه. ومن الظاهر انه كما تكون إضافة شيء إلى أمر مقارن له موجبة لتعنونه بعنوان حسن به يكون متعلقا للأمر ، كذلك يمكن ان تكون إضافته إلى أمر متقدم عليه أو متأخر عنه موجبة لذلك ، فالتأثير في الحقيقة في جميع ذلك إلى الإضافة وهي الشرط حقيقة ، وهي مقارنة للمأمور به مطلقا. اما نفس الأمر المقارن أو المتقدم أو المتأخر فإطلاق الشرط عليه باعتبار أنه طرف الإضافة لا غير ، لا باعتبار انه الشرط حقيقة كي يتوهم استلزام ذلك تأثير المعدوم في الموجود في مورد الشرط المتأخر.

والمتحصل : ان الشرط في الحقيقة أمر مقارن للمشروط - سواء كان الحكم أو المأمور به - ، وإطلاق الشرط على الأمور المتأخرة والمتقدمة ، بل المقارنة بلحاظ نوع من العلاقة والارتباط بينها وبين ما هو الشرط حقيقة والمؤثر في الواقع.

هذا إيضاح ما ورد في الكفاية في التفصّي عن الأشكال المذكور (1).

وقد قيل في التفصي عنه : ان اجزاء العلة على نحوين : نحو يكون دخيلا في نفس تأثير المقتضي في المعلول. ونحو لا يكون دخيلا في التأثير وانما يكون مقربا للمعلول من علته ، ويعبر عنه في الاصطلاح بالمعدّ ، نظير الخطوات

ص: 111


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /93- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التدريجية غير الخطوة الأخيرة المنتهية إلى المكان الّذي يراد الوصول إليه ، فان الخطوة الأولى والثانية وهكذا - وان كانت مما يتوقف عليها الكون في المكان لكنها - غير مؤثرة في نفس الكون في ذلك المكان ، وانما أثرها مقربية ذلك المكان للمؤثر وهو الخطوة الأخيرة.

وهذا النحو من الأجزاء - أعني المعدات - لا يمتنع تقدمها على المعلول بحيث تكون معدومة عند حصوله كما في المثال المزبور ، فان الخطوات السابقة منعدمة عند الكون في المكان الخاصّ ، وانما الّذي تلزم مقارنته للمعلول هو الأجزاء المؤثرة فيه.

وعليه ، فحيث ان الشرائط الشرعية كلها من قبيل المعدّات المقربة لم يمتنع تقدمها على المشروط وكونها منعدمة عند وجوده (1).

وهذا الجواب مضافا إلى انه يرفع الإشكال في خصوص الشرط المتقدم لا المتأخر - إذ ليس هو من قبيل المعدّ - يبتني على استظهار كون الشروط الشرعية من قبيل المعدّات ، وهو لا يخلو من جزاف ، ولعلنا نعود إلى هذا الجواب وما حوله من الكلام مرة أخرى.

ثم ان المحقق الأصفهاني ذكر امرا - في تعليقته على مطلب الكفاية في شرائط الحكم - بعنوان الإيراد على صاحب الكفاية ، ثم تصدى إلى جوابه ، وتوجيه كلام صاحب الكفاية وتصحيحه في بعض أنحائه.

اما ما ذكره بعنوان الإيراد فهو : ان للبعث والتحريك الاعتباريين الذين هما من افعال المولى الآمر جهتين : جهة تعلق إرادة الآمر بهما. وجهة ذاتيهما ووجوديهما الحقيقيّين. فهما بلحاظ الجهة الأولى كسائر مرادات المولى لا يتأثر ان

ص: 112


1- تعرض إليه في نهاية الدراية 1 / 170 وادعى ان الالتزام بكون جميع الأسباب والشرائط الشرعية معدات ، جزاف.

بالأمور الخارجية ، لأن الإرادة من الكيفيات النفسانيّة فلا يؤثر فيها ما هو خارج عن أفق النّفس. ولكنهما بلحاظ هذه الجهة خارجان عن محل الكلام ، فان محل الكلام جهة وجودهما الحقيقي ، وبهذا اللحاظ يبقى الإشكال في محله ولا ينحل بما أفيد ، لإمكان توقف وجود البعث الحقيقي على الأمور الخارجية ، وعليه فيقع الكلام في صحة توقفه على ما هو متأخر عنه وجودا. هذا ما ذكره بنصّ العبارة - تقريبا - وهو لا يخلو عن إجمال (1). وسيتضح في طيّ ذكر كلمات الاعلام وما يدور حولها ، لذلك سنترك الكلام فيه وننتقل إلى كلام علم آخر وهو المحقق النائيني ...

فقد أورد على ما أفاده صاحب الكفاية من إرجاع الشروط إلى التصور وعلم الآمر : بأنه نقل للكلام إلى غير موضعه ، وناشئ عن الخلط بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية.

بيان ذلك : ان إنشاء الحكم يتصور على نحوين :

الأول : ان يكون بنحو القضية الخارجية ، وذلك بان ينشأ الحكم على موضوع متحقق ثابت خارجي ، كما يقال - مثلا - « أكرم زيدا » ، فان الحكم قد رتب على موضوع خارجي موجود ولم يعلق على شيء ، وهذا النحو من الأحكام يكون الدخيل في ملاكه وموضوعه علم المولى بلا تأثير للأمور الخارجية ومطابقات العلم فيه ، فيعلم المولى بان زيدا صديق له فيوجب إكرامه ويثبت الحكم بذلك ، وان لم يكن زيد في الواقع صديقا له. ومن الواضح ان فعلية الحكم هاهنا لا تنفك عن إنشائه وجودا ، إذ الفرض انه لم يعلق على شيء ، بل ثبت على موضوع موجود خارجا. نعم هي متأخرة عن إنشائه رتبة.

الثاني : ان يكون بنحو القضية الحقيقية ، وذلك بان ينشأ الحكم على

ص: 113


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 170 - الطبعة الأولى.

موضوع مقدّر الوجود ، ولا يلحظ فيه مقام الخارج وانه ثابت خارجا أو لا ، بل الحكم ينشأ بنحو التعليق على وجود الموضوع خارجا بلا نظر للمولى إلى الخارج أصلا ، فيقال مثلا : « يجب الحج على من يستطيع » اما تشخيص المستطيع خارجا والحكم عليه فهو أجنبي عن المولى وليس من وظيفته ، بخلاف القضية الخارجية فان المولى في حكمه ناظر إلى الخارج ومرجع حكمه إلى تشخيص الموضوع وتعيينه بنفسه.

ولا يخفى ان فعلية الحكم يمكن أن تنفك عن إنشائه - في القضايا الحقيقية - فيتحقق إنشاؤه فعلا بلا ان يكون فعليا ، إذ فعليته تدور مدار ثبوت موضوعه ، فقد لا يكون الموضوع حال الإنشاء متحققا ، فلا يكون الحكم فعليا وثابتا أيضا. ومن هنا التزم قدس سره بإمكان انفكاك الجعل عن المجعول وان للمجعول عالما غير عالم الجعل. ونظّر له بالوصية التمليكية ، فان إنشاء التمليك يكون في حال الحياة مع ان الملكية لا تتحقق إلا بعد الموت بالإنشاء السابق ، لأن موضوعها هو الموت وهو لم يكن متحققا حال الإنشاء.

وكما تفترق القضايا الحقيقية عن الخارجية في هذه الجهة - أعني انفكاك الحكم المجعول عن الجعل والإنشاء زمانا - كذلك تفترق عنها في جهة أخرى ، وهي ان المؤثر في ثبوت الحكم في القضايا الخارجية على ما عرفت هو علم المولى بتحقق الموضوع وتشخيصه ذلك ، وان لم يكن في الواقع ثابتا. اما القضايا الحقيقية فليس الحال فيها كذلك ، فان المؤثر في ثبوت الحكم من حيث الموضوع هو وجود الموضوع خارجا علم به المولى أو لم يعلم ، لأن الفرض كون الحكم منشأ على تقدير ثبوت الموضوع فيدور مدار ثبوته الواقعي لا مدار علم المولى ، بخلاف القضية الخارجية ، لأن الحكم لم ينشأ على تقدير الموضوع ، بل أنشئ فعلا على الموضوع الخارجي ، فترجع جهة ثبوته إلى علم المولى بتوفر جهات الموضوع فيما حكم عليه وان لم يكن كذلك واقعا.

ص: 114

وإذا تبين هذا يعلم ان ما ذكره صاحب الكفاية من رجوع شرائط الحكم إلى التصور والعلم انما يتمّ في ما إذا كانت الأحكام بنحو القضايا الخارجية ، لا ما إذا كان الحكم بنحو القضية الحقيقية ، لما عرفت في انحصار التأثير في الأولى في نفس العلم لا إلى الخارجيات. وعليه فلا يمتنع ان يكون مطابق العلم متقدما أو متأخّرا ، لأن التأثير لصورته وهي مقارنة لا لوجوده الخارجي. اما القضايا الحقيقية فقد عرفت ان فعلية الحكم فيها لا ترجع إلى علم المولى وعدم علمه ، بل ترتبط بوجود الموضوع وتحققه وعدمه. ومحل الكلام في الشرط المتأخر هو هذا النحو من الأحكام لا النحو الأول ، فما جاء في الكفاية يكون نقلا للكلام إلى غير موضعه وخلطا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية (1).

وعلى أي حال فمحل الكلام وموضع البحث في نظر المحقق النائيني هو الأحكام المنشأة بنحو القضية الحقيقية ، لأنها التي يتصور دخل الأمور الخارجية فيها ، فيقع البحث في انه هل يمكن ان يفرض امرا متأخرا عن الحكم وجودا دخيلا في وجود الحكم وتحققه أو لا؟ ، دون المنشأة بنحو القضية الخارجية لعدم تأثير الأمور الخارجية فيها ، بل المؤثر فيها ليس إلاّ علم المولى وهو مقارن ، وان كان المعلوم متأخرا أو متقدما لعدم تأثيره. اما الحكم المنشأ بنحو القضية الحقيقية فلما لم يكن لعلم المولى تأثير في تحققه وفعليته ، بل التأثير لوجود موضوعه ، فيتصور ان يؤثر فيه ما هو متأخر عنه ، فيتكلم في انه هل يمكن ان يؤثر في وجود الحكم ما هو متأخر زمانا عنه أو لا؟. والّذي بنى عليه المحقق المذكور عدم إمكان ذلك وامتناعه عقلا. ببيان : ان تعليق الحكم على امر مرجعه إلى أخذ ذلك الأمر في موضوع الحكم ، ومرجع ذلك إلى أخذه مفروض الوجود في مرحلة سابقة على الحكم في ثبوت الحكم ، بمعنى ان ثبوت الحكم متفرع على

ص: 115


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 222 - الطبعة الأولى.

تحققه وثبوته ، فلا بد ان يفرض وجوده في مرحلة ثبوت الحكم فان هذا هو معنى فرض وجود الموضوع الّذي عرفت توقف فعلية الحكم عليه.

وعليه ، فيمتنع ان يعلق الحكم على امر متأخر عنه ، ويكون الأمر المتأخر شرطا له ، إذ الحكم - على هذا - يوجد قبل وجود الأمر المتأخر ، وهذا يستلزم الخلف ، لأن معنى كونه شرطا أخذه مفروض الوجود في مرحلة ثبوت الحكم ، وثبوت الحكم على تقدير تحققه ، فثبوت الحكم مع عدم تحققه يرجع إلى وجود الحكم قبل وجود موضوعه وهو خلف محال. بهذا التقريب انتهى المحقق النائيني إلى امتناع الشرط المتأخر.

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : بان أخذه شرطا ومفروض الوجود وربط الحكم به بنحو ارتباط امر بيد الشارع الجاعل ، فيتبع كيفية الجعل والتقدير والفرض ، فإذا فرض ان الجاعل فرض الارتباط بينه وبين الحكم بوجوده المتأخر عن الحكم ، بمعنى انه أخذه مفروض الوجود في زمان متأخر وتأثيره في ثبوت الحكم بهذا النحو ، فلا يمتنع ان يوجد الحكم قبله ، إذ لم يؤخذ مفروض الوجود حال الحكم ، بل أخذ مفروض الوجود في الزمان المتأخر ، فلا يستلزم ثبوت الحكم قبله الخلف المحال ، بل يكون ذلك مطابقا لما هو المفروض والمجعول من قبل الشارع. وعلى هذا فلا يمتنع الشرط المتأخر من هذه الجهة (1).

ولا بد في تحقيق الحال في كلام المحقق النائيني وما يدور حوله من كلام من تحقيق بعض الأمور :

الأمر الأول : في انه هل يكون وراء إنشاء المولى وجعله امرا يكون مرتبطا بالأمور الخارجية؟ ، وبتعبير آخر : هل ان للمجعول - بتعبير - والمعتبر

ص: 116


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 313 - الطبعة الأولى.

والأمر الاعتباري - بتعبير آخر - عالما غير عالم الجعل والاعتبار ، ويكون مرتبطا بالأمور الخارجية أو لا؟.

وتحقيق الحال : ان في هذا الأمر مسالك ثلاثة :

المسلك الأول : - وهو مسلك المحقق النائيني رحمه اللّه - ان المجعول والمعتبر له عالم غير عالم الجعل والاعتبار ، فيمكن ان ينفك عنه ، فيتحقق الجعل دون المجعول لارتباط المجعول بأمور خارجية تتحقق فيما بعد ، وقد نظّر لذلك بباب الوصية التمليكية ، فان الموصي ينشئ التمليك حال الحياة مع عدم حصول الملكية في تلك الحال ، بل تحصل بعد الموت ، فالاعتبار منفك عن المعتبر.

وبالجملة : الّذي يدعيه ان فعلية المجعول لا تلازم فعلية الجعل ، بل هي ترتبط بالأمور الخارجية فتدور مدارها وجودا وعدما. ومن هذه الجهة يقع البحث في الشرط المتأخر كما تقدم تقريبه. وهذا أصل قرّره وبنى عليه كثير من الآراء الأصولية كامتناع الشرط المتأخر والواجب المعلق وغير ذلك (1).

وقد نوقش هذا الوجه :

أولا : بان المعتبر لا تقرّر له ولا عالم سوى عالم الجعل والاعتبار ، فيستحيل ان ينفك عن الاعتبار ويوجد متأخرا عنه ، فانه نظير الماهية المتصورة في الذهن ، فانها كما لا يمكن انفكاكها عن التصور ، فيوجد التصور بدون الماهية المتصورة ، لأن واقعها هو التصور ، كذلك لا يمكن انفكاك المعتبر عن الاعتبار والمجعول عن الجعل لتمحض واقعه في الجعل والاعتبار ، وليس له واقع وراء ذلك ، فلا يمكن تخلفه عنه.

وثانيا : - أو بتقريب آخر - ان نسبة الاعتبار إلى المعتبر نسبة الإيجاد إلى الوجود ، وقد تقرر ان الإيجاد والوجود متحدان ذاتا ، والتغاير بينهما اعتباري فلا

ص: 117


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 127 و 145 - الطبعة الأولى.

يمكن تصور الانفكاك بينهما.

المسلك الثاني : - وهو ما يظهر من كلمات المحقق الأصفهاني - ان الاعتبار بحسب ذاته وواقعه يرجع إلى الفرض والبناء ، نظير التخيل والادعاء كأنياب الأغوال ، إلاّ ان يختلف عنه بان الفرض إذا كان متعنونا بعنوان حسن ، كما إذا كان ذا مصلحة سمّي اعتبارا وخرج عن مجرد الفرض كالتخيّل. والتعنون بالعنوان الحسن المقوم لتحقق الاعتبار والمعتبر قد يكون مرتبطا بأمور خارجية بحيث تكون دخيلة في ذلك. فالاعتبار والمعتبر لا ينفكان إلا أنهما يتحققان بلحاظ تعنون القرار بعنوان حسن ، ولكنهما قد يتأخران تحققا عن الفرض لتأخر التعنون بالحسن ، باعتبار ارتباطه بالأمور الخارجية. وعلى هذا الأساس يقع البحث في الشرط المتأخر ، وذلك بان يقال : انه هل يمكن ان يكون من الأمور الخارجية المؤثرة في حصول العنوان الحسن وتحقق الاعتبار والمعتبر ، ما هو متأخر وجودا عن ترتب الأثر أو لا؟.

وهذا المسلك باطل كما أشار إليه المحقق الأصفهاني نفسه فان الاعتبار هو عبارة عن الإنشاء والجعل بداع عقلائي لا لصرف الفرض والبناء - كي يكون نظير أنياب الأغوال - وعليه فهو لا يتأخر عن نفس القرار والجعل ، ولا ينفك عنه المجعول والمعتبر - كما هو المفروض - ولا يتوقف ثبوته على نفس ترتب الآثار.

المسلك الثالث : - ما يظهر من المحقق العراقي - وهو ان الجعل والمجعول لا ينفكان وليس للجعل عالم غير عالم المجعول بل عالمهما واحد ، وفعلية المجعول لا تنفك عن الجعل. إلاّ ان تأثير المجعول وترتب الآثار العقلائية عليه قد تنفصل عن فعلية المجعول فلا تترتب عليه الباعثية والمحركية بمجرد وجوده ، بل يكون ترتبها بلحاظ ثبوت بعض الأمور الخارجية وبتعبير آخر : ان فعلية المجعول وان كانت ثابتة بالجعل ، لكن فاعليته قد تنفصل عنها ، فيحصل الانفكاك بين

ص: 118

الفاعلية والفعلية لتوقف الفاعلية على حصول بعض الأمور الخارجية. ومن هذه الجهة يقع البحث في الشرط المتأخر فيقال : انه هل يمكن تأثير أمر في فاعلية الحكم وترتب الأثر عليه يكون متأخرا عنه أو لا يمكن؟. وإلاّ فنفس الحكم ثابت بنفس الجعل غير معلق على شيء بالمرّة.

وهذا المسلك مخدوش من وجهين :

الأول : انه غير تام في نفسه ، فانه مع البناء والالتزام بان الحكم ثابت بنحو الفعلية وغير مقيد بأيّ امر من الأمور ، يمتنع الالتزام بعدم ترتب الباعثية والمحركية عليه ، وانه غير واجب الإطاعة فعلا ، فانه مما لا محصل له ، إذ يرجع إلى تخصيص الحكم العقلي بلزوم الإطاعة وهو ممتنع حتى من قبل الشارع.

وبالجملة : بعد تمامية الحكم بجميع جهاته لا وجه لعدم ترتب الأثر عليه وتوقفه على امر لا يرتبط بالحكم.

الثاني : ان المورد بذلك يخرج عن موضع البحث ، إذ موضع البحث هو تقييد نفس الحكم وتعليقه على شرط متأخر ، لا تقييد ترتب الأثر عليه بشرط متأخر مع كون نفس الحكم ثابتا بقول مطلق. وبنحو أوضح نقول : ان الغرض هو البحث عما يرى بالبداهة شرطا متأخرا للحكم وتصحيحه بنحو يرفع الأشكال ، فإرجاع ذلك إلى كونه شرطا لغير الحكم وهو ترتب الأثر عليه وكون الحكم ثابتا بلا تعليق مما يخالف الظهور البديهي للشرط ، خروج عن محل الكلام ونقل الكلام إلى موضع آخر لا يهمنا البحث عنه فعلا. وبانتفاء كل من المسالك الثلاثة يشكل البحث في الشرط المتأخر ، إذ لا يتحدد موضعه ومحلّه كي يدور النفي والإثبات والنقض والإبرام حوله.

فالتحقيق ان يقال : ان الإنشاء ليس عبارة عن اعتبار المعنى المنشأ من قبل المنشئ ، بل هو - كما حقق في محلّه على ما تقدم - التسبيب إلى تحقق الاعتبار العقلائي للمعنى المنشأ الموجد باللفظ ، بمعنى ان المنشأ

ص: 119

يتسبب بإنشائه إلى تحقق اعتبار العقلاء لما أنشأه باللفظ ، اما لأجل تحقق الاعتبار العقلائي في نفسه فيكون بعمله وإنشائه متسببا لتطبيق الاعتبار الكلي على المورد أو لأجل أنه بإنشائه يحدث الاعتبار العقلائي بعد أن لم يكن ثابتا قبل الإنشاء. وببيان أوضح : أنه تارة : يكون للعقلاء اعتبار كلي بنحو القضية الحقيقية ، كأن اعتبروا الملكية عند إنشائها - مثلا - ، فإذا إنشاء المنشئ يكون مسببا إلى تطبيق ذلك الاعتبار الكلي على مورد إنشائها لإيجاده ما هو موضوع الحكم العقلائي واعتبار العقلاء. وأخرى : لا يكون لهم اعتبار كلي. بل يتحقق اعتبارهم عند تحقق كل إنشاء ، فالمنشئ يتسبب بإنشائه إلى احداث اعتبار العقلاء.

وعلى أيّ حال : فالاعتبار انما هو من قبل العقلاء لا نفس المنشئ ، نعم يمكن تسمية الإنشاء بالجعل ، لكنه لا بالمعنى الحقيقي للجعل ، لما عرفت من انه لا يتكفل سوى التسبيب لجعل العقلاء.

ثم ان الاعتبار العقلائي قد يكون مرتبطا بالأمور الخارجية ، وذلك لأنه يتبع قصد المنشئ وكيفية إنشائه. فتارة ينشئ المعنى مطلقا بمعنى انه يقصد تحقق اعتباره حال إنشائه فيكون الاعتبار على طبق قصده. وأخرى ينشئه مقيدا ، بمعنى انه يقصد تحققه في ظرف خاص أو عند وجود أمر معين. فيكون الاعتبار على نحو قصده فلا يتحقق الاعتبار إلا في ذلك الظرف وعلى النحو الّذي قصده وأنشأه.

وبذلك يتضح ان للمجعول عالما غير عالم الإنشاء والجعل - بالمعنى المسامحي - ، وان لم ينفك عن الجعل العقلائي ، ويمكن ان يكون مرتبطا بالأمور الخارجية ولا يتمحض ارتباطه بالموجودات الذهنية كنفس الإنشاء ، فيقع الكلام حينئذ في انه هل يمكن ان يكون مرتبطا بما يكون متأخرا عنه في وجوده أو لا؟. فيتجه الكلام في الشرط المتأخر أو يتحدد موضعه ، وبعد هذا ننقل الكلام إلى ...

ص: 120

الأمر الثاني : الّذي يدور البحث فيه حول تشخيص نوع الارتباط الموجود بين المجعول والأمور الخارجية.

وقد عرفت ان مرجع الارتباط بالأمور الخارجية هو كيفية الإنشاء والجعل ، لأن الاعتبار العقلائي تابع لقصد المنشئ ، فقد يقصد تحقق المعنى في ظرف معين ، فلا يتحقق الاعتبار إلا في ذلك الظرف ، وهذا هو معنى الارتباط ، فيعلم بذلك بان الارتباط بين الأمر الخارجي المفروض والمجعول ليس من قبيل ارتباط العلة بالمعلول ، بمعنى ان يكون الأمر الخارجي دخيلا في تحقق الاعتبار ومؤثرا فيه ، كي يستشكل بأن الاعتبار فعل من افعال العقلاء تابع للإرادة فلا يمكن ان يؤثر فيه ما هو خارج عن أفق النّفس من الخارجيات. وانما الارتباط بينهما ناشئ عن كيفية الإنشاء والجعل ، فانه كما عرفت تابع لقصد المنشئ ، فإذا أنشأ المعنى وقصد تحققه في فرض وتقدير خاص كان الاعتبار في ذلك الظرف الخاصّ وعلى ذلك التقدير المعين ، ولا يخرج بذلك عن كونه فعلا من افعال العقلاء تابعا لتحقق الإرادة بلا تأثير للخارجيات فيها أصلا.

الأمر الثالث : في تحقيق معنى الفرض والتقدير الّذي ورد في كلام المحقق النائيني في مقام بيان المراد من القضية الحقيقية من أن موضوعها مأخوذ بنحو فرض الوجود ، وانه هل يمكن ان يكون الأمر المتأخر مأخوذا بنحو الفرض والتقدير أو لا يمكن؟. ولا بد قبل ذلك من البحث في ان هذه القيود المأخوذة في القضية الحقيقية بنحو فرض الوجود هل هي من قبيل قيود متعلق التكليف أو لا ، بل تكون من قبيل آخر؟. بيان ذلك : ان قسما من القيود يكون راجعا إلى متعلق التكليف ولا يجب تحصيله ، كما إذا كان من الأمور غير الاختيارية كالوقت في مثل : « صل في الوقت الكذائي » ، أو كان من الأمور الاختيارية ولكن أخذ قيدا بوجوده - لا بذاته كي يجب تحصيله نظير أخذ الطهارة في الصلاة - ، وذلك كالمسجد في مثل : « صل في المسجد » ، فان كلا من

ص: 121

المسجد والوقت مما لا يلزم تحصيله مع رجوعه إلى المتعلق ، فان متعلق التكليف هو الحصة الخاصة كالصلاة في الوقت أو في المسجد. وقسما من القيود لا يكون راجعا إلى المتعلق مع كونه قيدا للحكم - بمعنى تقيد الحكم به - كظرف الحكم ، فان الحكم إذا تحقق في زمان خاص كان متقيدا به واقعا مع ان ذلك الزمان لم يؤخذ قيدا في المتعلق ، بل المتعلق في حيّز الخطاب مطلق من جهته وان كان لا ينفك عنه حقيقة.

إذا عرفت ذلك ، نقول : ان قيود الحكم في القضية الحقيقية المفروضة الوجود - والقدر المتيقن منها الأمور غير الاختيارية - هل هي راجعة إلى المتعلق فتكون من قيوده ويكون المتعلق هو الحصة المتقيدة بها وان لم يلزم تحصيلها ، أو انها لا ترجع إلى المتعلق؟.

والثمرة انه إذا كانت راجعة إلى المتعلق ومن قيوده كان فرض وجود الأمر المتأخر بمكان من الإمكان ، لأن مرجع ذلك إلى تقييد متعلق الحكم بالقيد وإضافته إليه بجعله الحصة المضافة إليه بنحو من أنحاء الإضافة. ومن الواضح ان كيفية التقييد والإضافة بيد الجاعل ، فيمكن ان يقيد المتعلق بالمتأخر بجعله الحصة المتعقبة بذلك الأمر كتقييده بالمقارن وجعله الحصة المقارنة له.

وهذا بخلاف ما إذا لم تكن راجعة إلى المتعلق ، فانه لا يمكن يؤخذ منها ما هو متأخر من الحكم قيدا له.

والتحقيق : انها لا ترجع إلى متعلق التكليف ، وذلك لوجوه :

الأول : الوجدان الشاهد على عدم رجوع بعض تلك القيود في بعض مواردها إلى متعلق الحكم نظير الحيازة أو البيع الّذي يكون سببا لملكية العين المحازة أو المباحة. فان من الظاهر ان متعلق الحكم - وهو الملكية - هو ذات العين كالأرض والكتاب من دون ان تتقيد في مقام طروء الحكم عليها بالحيازة والبيع ، مع ان كلا من الحيازة والبيع مأخوذ بنحو فرض الوجود ، إذ تحقق الملكية انما

ص: 122

يكون عند تحققهما ، فهما من قيود تحقق الملكية لكنهما لا يرجعان إلى المتعلق ، فان اعتبار الملكية موضوعه نفس العين بذاتها ، لا العين بقيد الحيازة أو البيع ، نعم لا يتحقق الاعتبار إلا عند تحقق الحيازة أو البيع ، لكنه لا يعنى رجوعه إلى المتعلق.

الثاني : ان تحقق الحكم تابع لتحقق ملاكه ودواعيه ، ومن الواضح أنه تابع لثبوت المصلحة في متعلقه ، والفعل بلحاظ المصلحة المترتبة عليه له مرحلتان : مرحلة اتصافه بالمصلحة بأن يكون ذا مصلحة ، ومرحلة فعلية مصلحته بمعنى مرحلة الترتب الفعلي للمصلحة عليه ، فمن القيود ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، وهذا النحو لا يكون واجب التحصيل. ومنها ما يكون دخيلا في فعلية مصلحة الفعل وترتبها عليه ، وهذا يكون لازم التحصيل. ومثاله في التكوينيات : شرب الدواء ، فانه قبل تحقق المرض لا يكون ذا مصلحة أصلا ، فالمرض دخيل في اتصاف الدواء بالمصلحة ، بمعين ان شربه يكون ذا مصلحة ، ولكن قد يشرب الدواء ولا تترتب عليه المصلحة وهي الشفاء ، لفقد بعض الشروط الدخيلة في ترتبها نظير الاعداد بالنحو الخاصّ من حرارة خاصة وكمّية خاصة وغيرهما ، فمثل الوضع على النار للحرارة يكون دخيلا في ترتب المصلحة على الدواء المشروب ولذا يكون لازم التحصيل.

وعليه ، فما يكون دخيلا في أصل الاتصاف بالمصلحة يكون دخيلا في تحقق الإرادة التي ينبعث عنها الحكم ، فتحقق الإرادة مترتب على تحققه - وان لم يكن بنفسه مؤثرا بالمباشرة لمعلولية الإرادة للصور الذهنية بلا تأثير للخارجيات - ، إذ بعد تحققه يتصور الآمر مصلحة الفعل فيبعث نحوه لحصول الشوق إليه عندئذ ، ومثل هذا لا يكون مأخوذا في متعلق الإرادة والحكم لفرض تحققه حين تعلق الإرادة بالفعل ، فلا يتجه إضافة ، المتعلق إليه. إذا تمّ هذا فاعلم : ان الشروط المأخوذة بنحو فرض الوجود كلها تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة ، فتكون سابقة على الإرادة والحكم فلا يتجه أخذها في متعلق الحكم.

ص: 123

الثالث : ان ارتباط قيود المتعلق به ينشأ من تقييد طبيعي المأمور به بوجود القيد الخاصّ ، بمعنى ان المأمور به يكون هو الحصة المضافة إلى وجود القيد الخاصّ بإضافة معينة خاصة ، وذلك يكون بتوسيط بين مفهوم المأمور به ومفهوم القيد بلحاظ المرآتية عن الواقع والنّظر إلى الخارج والحكاية عنه. وهذا المعنى غير ثابت في فرض الوجود ، فإن فرض الوجود مرجعه إلى فعل نفسي محصله الإتيان بهذا العمل حين وجود ذلك العمل ، فالارتباط الثابت بفرض الوجود ارتباط بين الواقعين والخارجين ، وليس ذلك بمعنى تقييد أحدهما بالآخر وإضافته إليه وكونه الحصة المتقيدة به ، بل بمعنى تحقق ذلك خارجا عند تحقق هذا ، وهذا ينافي البناء النفسيّ على ذلك. فسنخ الارتباط بينهما يختلف عن سنخ ارتباط المتعلق بقيوده ، فالارتباط بينهما ناشئ من الاتحاد في التحقق والمقارنة في الوجود بفرض الجاعل وبنائه على هذا العمل. والارتباط بين المتعلق وقيوده ناشئ من تقييده بها وإضافته إليها.

وعليه ، فلا مجال لرجوع الشروط المفروضة الوجود إلى قيود المتعلق ، فيقع الكلام بعد هذا في صحة كون مفروض الوجود متأخرا عن الحكم.

والتحقيق : انه ممنوع ، وذلك لأن فرض الوجود الّذي هو عبارة عن ربط مخصوص لا محصل له ولا معنى سوى الربط بنحو الترتب ، بمعنى كون وجود الحكم مترتبا على ما فرض وجوده فانه معنى فرض الوجود ومن المعلوم أنه لا يعقل ترتب وجود الحكم على وجود الشرط المتأخر عنه ، بل لا بد من مقارنته للحكم ، لأن الترتب لازم لمقارنة المترتب على المترتب عليه أو تأخره عنه زمانا ولا يعقل تقدمه عليه ، ومن هنا يتعين القول باستحالة الشرط المتأخر بالتقريب الّذي قرّره المحقق النائيني من لزوم الخلف منه.

ومن هذا البيان يظهر أن ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في مقام الإيراد على المحقق النائيني قدس سره : بان الفرض والربط بين الحكم

ص: 124

والشرط تابع لكيفية الجعل وفرض الجاعل ، فيمكن ان يفرض الارتباط بين الحكم والأمر المتأخر كما مرّ تفصيله. غير وجيه ، لأنك قد عرفت ان واقع الفرض والتقدير ترتيب وجود الحكم على وجود الشرط من قبل الجاعل ، فترتيبه على أمر متأخر غير معقول.

واما ما أفاده صاحب الكفاية من تصحيح الشرط المتأخر بإرجاع الشرط حقيقة إلى أمر مقارن ، وهو الوجود العلمي ، وان اختلف مطابقه الخارجي من جهة المقارنة والتقدم والتأخر. فقد عرفت الإيراد عليه من قبل المحقق النائيني من أنه خلط بين القضايا الخارجية التي يتبع الحكم فيها علم المولى وتشخيصه الموضوع والقضايا الحقيقية التي يؤخذ فيها الموضوع مفروض الوجود بلا دخل لعلم المولى وتصوره في البين.

واما ما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني في مقام الإيراد على صاحب الكفاية من : ان للبعث اعتبارين : اعتبار أنه فعل من افعال المولى ، واعتبار انه موجود حقيقي. وانه بالاعتبار الأخير يتأثر بالخارجيات. فقد عرفت انه لا يخلو عن غموض ، وغاية ما يمكن توضيحه به هو ما تقدم من المسلك الثاني في باب الاعتبار الّذي عرفت ظهوره من كلماته قدس سره ، من ان الاعتبار عبارة عن الفرض ، ولكنه يختلف عنه بأنه الفرض المتعنون بعنوان حسن أو المترتب عليه أثر عقلائي - على اختلاف تعبيراته - وبذلك يتأثر بالأمور الخارجية الموجبة للتعنون بالحسن ، فنفس الفعل وان كان من أفعال المولى إلا أن وجود الاعتبار والمعتبر حقيقة يرتبط بالتعنون بالحسن الّذي يتأثر بالأمور الخارجية.

ولكنك عرفت الخدشة في نفس المسلك منه قدس سره وأن الاعتبار ليس إلا البناء والقرار بداع عقلائي. كما يرد عليه : إن توقف الاعتبار على التعنون بالعنوان الحسن لا يخرجه عن حقيقته وهي الفرض الّذي هو فعل من افعال المولى المستلزم لامتناع تأثره بالخارجيات ، واختلاف الاعتبار واللحاظ في البعث

ص: 125

لا يستلزم تغيير حقيقته.

ثم ان المحقق العراقي قدس سره حاول تصحيح الشرط المتأخر في الشرعيات والتكوينيات ببيان : ان حقيقة الشرط ليس كما يقال من أنه المتمم لتأثير المقتضي كي يمتنع تأخره ، لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود. وانما حقيقته هو كونه طرفا لإضافة المقتضي إليه فيتحدد بها ويتحصص بواسطتها ، فيكون بهذه الإضافة مؤثرا من دون أن يكون لنفس الشرط تأثير في وجود المعلول ، بل المؤثر ليس إلا المقتضي ، لكنه هو الحصة الخاصة منه ، فالمؤثر في الإحراق ليس هو مطلق النار ، بل الحصة الخاصة منها وهي النار المجاورة للشيء ، أو يكون طرفا لإضافة المعلول إليه ، فيكون بتلك الإضافة قابلا للانوجاد والتأثير ، فليس الشرط كما يدعى هو المتمم لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، بل هو طرف إضافة وتحديد بها تحصل الفاعلية للفاعل والقابلية للقابل ، ومن الواضح انه لا يمتنع ان يكون طرف الإضافة من الأمور المتأخرة بعد ان كانت الإضافة مقارنة ولم يكن للأمر المتأخر أي تأثير (1).

ولا يخفى ما فيه : لأنه إن أريد من الإضافة الخاصة التي بها يكون المعلول قابلا للانوجاد أو المقتضي قابلا للإيجاد الإضافة الاعتبارية اللحاظية ، لم يتجه الالتزام بتأثيرها في قابلية العلة أو المعلول ، فانها لا تعدو التصور والبناء ، فلا معنى لدخالتها في تأثيرها في قبول المعلول للانوجاد والعلة للإيجاد ، فانه من الواضح إن تأثير النار في الإحراق وقابلية الشيء للحرق لا يرتبط بعالم اللحاظ والإضافات بل هو مرتبط بعالم الخارج وناشئ عن الجهات الخارجية ، وهذا أمر لا يشك فيه أحد ، فدعوى تأثير نفس الإضافة في القابلية بحيث لا يكون المضاف قبل اللحاظ الخاصّ قابلا للتأثر أو التأثير لا ترجع إلى محصل.

ص: 126


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 275 - الطبعة الأولى.

واما إذا أريد من الإضافة الإضافة الحقيقة المقولية التي لها تقرر واقعي ، فهي تتوقف على تحقق طرفيها فعلا ، والمفروض أنه بصدد تصحيح كون طرفها غير متحقق فعلا ، فلاحظ جيدا.

وملخص ما حرّرناه : هو امتناع الشرط المتأخر بناء على كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقة ، وما قيل في تصحيحه من الوجوه التي عرفتها لا تغني ولا تسمن من جوع. وعليه فلو ورد ما ظاهره شرطية الأمر المتأخر ، كما لو ورد ما يدل على حصول الملكية من حين العقد إذا أجاز المالك بعد حين - في عقد الفضولي - ، فلا بد من الالتزام بخلاف ظاهره بحمله على كون الشرط عنوانا انتزاعيا عن وجود الأمر المتأخر في زمانه ، كعنوان التعقب به ، فالمؤثر هو العقد المتعقب بالإجازة ، فالشرط هو عنوان التعقب وهو أمر مقارن دون طرف الإضافة أعني الإجازة. فلا يتحقق المحذور.

فعلى هذا يمكننا أن ندعي : بان الشرط المتأخر بمعنى ممتنع وبمعنى آخر معقول ، لكنه بالمعنى المعقول خلاف الظاهر ، لأن الظاهر من الدليل كون الشرط هو نفس الأمر المتأخر ، وقد عرفت ان معقوليته تكون بإرجاع الشرط إلى العنوان الانتزاعي.

وقد اشترط المحقق النائيني في الالتزام بأن الشرط هو العنوان الانتزاعي كعنوان التعقب امرين :

الأول : قيام الدليل على شرطية الأمر المتأخر بحيث لا يمكن توجيهه إلاّ بذلك.

الثاني : مساعدة العرف والعقل على كون الشرط هو العنوان الانتزاعي في خصوص المورد لا مطلقا لفرض تجويز العقل لذلك في نفسه (1).

ص: 127


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 228 - الطبعة الأولى.

وقد استشكل المحقق الخوئي في الشرط الثاني : بأنه بعد فرض معقولية هذا المعنى ثبوتا وإمكان حمل الدليل الإثباتي عليه - بل انحصار محمله به -. فلا معنى لتقييد ذلك بمساعدة العرف والعقل ، إذ ليس للعرف والعقل مجال تشريع في قبال الشارع المقدس (1).

والظاهر ان هذا الاستشكال ناشئ عن عدم التدقيق في معرفة مراد المحقق النائيني قدس سره ، فان مراده ليس ان للعرف والعقل جهة تشريعية في قبال الشارع ، وانما نظره إلى أن هذا المعنى وان كان في نفسه معقولا لكن قد لا يساعد العقل في خصوص مورد لخصوصية فيه على كون الشرط هو المعنى الانتزاعي ، بان كان يرى عدم دخالة هذا المعنى في الحكم ، كأن يرى أن المؤثر في ملكية - لو كان غير العقد مؤثر - هو نفس الرضا دون عنوان التعقب. أو لا يساعد العرف عليه بحسب مرتكزاته بحيث لم يمكنه توجيه الدليل إلى الوجه العقلي المعقول وحمله عليه. ففي مثل هاتين الحالتين لا يحمل الدليل على ذلك المعنى الثبوتي ، لأنه مناف للفهم العرفي أو الإدراك العقلي كمنافاة ظاهره للحكم العقلي بامتناع الشرط المتأخر. فلا بد من طرحه وما أفاده هاهنا نظير لما يقال في باب الاستصحاب من ان المحكم في تعيين موضوع الحكم الوارد في الدليل هل هو العقل أو العرف أو المتبع لسان الدليل؟ ، فانه لا يعني ان العقل والعرف يحكم في قبال الشارع بتعيين الموضوع ، بل النّظر إلى أن العقل هل يحكم نظره في دخالة هذا الوصف - مثلا - في الموضوع الشرعي أو عدم دخالته بان كان يراه من الجهات التعليلية؟ ، أو انه هل يتبع العرف بحسب مرتكزاته وفهمه ، فما يراه موضوعا شرعيا للحكم الشرعي يؤخذ به أو لا؟. وبتعبير آخر : وظيفة العقل والعرف تعيين ما هو الموضوع عند الشارع بحسب القواعد المقررة لكل منهما

ص: 128


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 316 - الطبعة الأولى.

لا تعيين موضوع الحكم قبالا للشرع وحكمه به. فالاستشكال لا مجال له.

يبقى الكلام في شيء وان لم يكن مرتبطا بمحل كلامنا ، وهو ما أفاده المحقق النائيني قدس سره : من أن كل قيد أخذ في الخطاب ولم يكن لازم التحصيل لا بد أن يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود (1) ، وقد التزم بذلك وكرّر التنبيه عليه. فلا بد من معرفة مقدار وجاهة هذا المفاد.

والتحقيق انه غير وجيه.

وذلك لأن القيود التي تؤخذ في الخطاب على أنحاء ثلاثة :

الأول : قيود المتعلق.

الثاني : ما يكون مرتبطا بالحكم بنفسه ، كالزمان فان نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف.

الثالث : ما لا يكون بنفسه وبلحاظه خاصة ارتباط مع الحكم أصلا.

ومن الواضح ان الّذي يحتاج إلى أخذه مفروض الوجود هو النحو الثالث الّذي لا ارتباط له بنفسه مع الحكم أصلا ، فمع لحاظ المولى كلا من الحكم والقيد لا يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط شيء آخر إلا بنحو فرض الوجود. وهذا بخلاف مثل الزمان فانّه يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط شيء آخر بدون فرض الوجود ، فيقول مثلا : « أوجبت التصدق في يوم الجمعة » ، لأن الزمان يكون مرتبطا بالشيء لو وجد فيه بلا توسط شيء ، بخلاف مجيء زيد بالنسبة إلى وجوب التصدق ، فانه لا ارتباط بينهما أصلا لو وجدا متقارنين إلا بالفرض والتقدير. نعم يمكن الربط بينهما بغير الفرض والتقدير إذا توسط بينهما شيء آخر كالزمان ، فانه يقال : « يجب التصدق في زمان مجيء زيد » ، لكنه خلاف الفرض ، إذ المفروض ان المولى لا يلحظ شيئا غير الحكم والقيد ، ومعه

ص: 129


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 132 - الطبعة الأولى.

لا يمكن الربط بينهما إلا بالفرض والتقدير ، وهو - أعني فرض الوجود - ليس شيئا آخر زائدا كالزمان ، بل هو فعل نفسي مرجعه إلى إيجاد أحد الشيئين مترتبا على وجود الآخر كما عرفت.

ومن هنا يتضح الحال في قيود المتعلق ، إذ بعد تقيد المتعلق بها وكونه الحصة الخاصة ، لا حاجة إلى ربطه بالحكم بأخذه مفروض الوجود لتحقق ارتباطه به بتوسط ارتباط الحكم بالمتعلق بلا احتياج إلى فرض وجوده. فتدبر.

هذا كله بالنسبة إلى ما يرجع إلى شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي.

واما ما يرجع إلى شرائط المأمور به المتأخرة ، فالإشكال فيها من جهتين :

الجهة الأولى : - وهي تعمّ جميع موارد الشرط المتأخر للمأمور به - : ان الأثر المترتب على المأمور به والّذي بلحاظه يتعلق به الأمر - أعني المصلحة الواقعية - اما ان يكون مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط. أو يكون مترتبا بعد حصول الشرط ، إذ المفروض تخلل العدم بين الشرط والمشروط ، فان كان مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط لزم ان يؤثر المعدوم في الموجود ، لأن مقتضى شرطية المتأخر تأثيره فيه ، والفرض انه - أي الشرط المتأخر - معدوم عند حصول الأثر. وان ترتب بعد حصول الشرط كان المشروط حينئذ منعدما ، فيلزم أيضا تأثير المعدوم في الموجود. فعلى كلا التقديرين يلزم ما هو المحال من تأثير المعدوم في الموجود.

ورفع الإشكال من هذه الجهة بأحد وجهين :

الأول : ان يلتزم بترتب الأثر عند حصول الشرط مع عدم كون المشروط دخيلا في التأثير ، بل هو يكون من قبيل المعدّ للأثر ، بمعنى أنه يقرب المعلول من العلة - كما مر - وقد عرفت ان المعدّ يمكن أن يكون سابقا ، إذ لا يستلزم سبقه تأثير المعدوم في الموجود لعدم كونه من اجزاء المؤثر.

الثاني : ان يجاب بما أفاده صاحب الكفاية قدس سره ، وذلك بعد إنكار

ص: 130

تبعية الحكم للمصلحة الواقعية في متعلقه ، وانما هو تابع للحسن المتعنون به المأمور به ، فيقال حينئذ : بان الحسن يختلف بالوجوه والاعتبارات الناشئة من اختلاف الإضافات ، فالحسن ينشأ من إضافة خاصة ، وعليه فالدخيل في تحقق المأمور به هو نفس الإضافة إلى الأمر المتأخر أو غيره. وتسمية الأمر المتأخر شرطا ليس إلا بلحاظ كونه طرف الإضافة من دون ان يكون دخيلا في تحقق المأمور به. ومن الواضح أن الإضافة من الأمور المقارنة وان كان طرفها متأخرا. فشرط المأمور به في الحقيقة أمر مقارن وهو الإضافة الخاصة ، لأنها هي الموجبة لتعنون العمل بالحسن دون طرفها ، إذ وجود الأمر المتأخر لا يوجب تعنون المأمور به بالحسن ما لم يلحظ المأمور به مضافا إليه ومتقيدا به (1).

وقد بنى المحقق النائيني قدس سره ارتفاع الإشكال هاهنا على الالتزام بتعلق الأمر الضمني كالأجزاء ، ثم قرر هذا المعنى وهو : ان الأمر الضمني متعلق بالشرائط ، ومعه يرتفع الإشكال (2).

ولكنا لم نعلم الربط بين تعلق الأمر الضمني بالشرط وارتفاع الإشكال ، لأن الإشكال إن كان من جهة ان تحقق المأمور به فعلا يتوقف على وجود الأمر المتأخر ، فيكفي في دفعه تعلق الأمر بنفس التقيد ولو لم يتعلق بنفس القيد ، لأنه - أي التقيد - مقارن للمأمور به. وان كان من جهة ترتب الأثر ، فلا بد من الإجابة عنه بما عرفت من الوجهين ، ولا يندفع بتعلق الأمر بالشرط ، لأنه متأخر وجودا عن المشروط ، فارتفاع الإشكال لا يرتبط بتعلق الأمر الضمني بالشرط أصلا.

الجهة الثانية : - وهي خاصة بمورد المثال الّذي يذكر لشرط المأمور به

ص: 131


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /93- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 221 - الطبعة الأولى.

المتأخر ويتصدون لتصحيحه ، وهي تقيد صحة صوم المستحاضة بغسل الليلة الآتية - فإن الإشكال فيه ليس من جهة تأخر الشرط عن المشروط ، كي يدفع بما عرفت ، بل الإشكال فيه من جهة ان من يلتزم باعتبار الغسل يلتزم به من باب أنه دخيل في تحقق الطهارة المعتبرة في الأعمال السابقة كالصوم ، فيقع الإشكال في صحة تأثير المتأخر في تحقق الشرط المتقدم الّذي هو الطهارة المفروض مقارنته للعمل ، إذ الطهارة اما أن تحدث في ظرف العمل - كما هو المفروض - أو بعده ، فان حدثت في ظرف العمل لزم تأثير المعدوم - وهو الغسل - في الموجود. وان لم تحدث في ظرف العمل ، بل حدثت في زمان الغسل لزم وقوع العمل بلا طهارة. فالعمدة في الإشكال في هذا المورد هو هذه الجهة ، ولكن الأعلام لم يتعرضوا لها ولا لحلها ، بل تابعوا صاحب الكفاية ، سوى المحقق النائيني فانه تعرض لبيان جهة الإشكال فيها فقط.

والوجه ان يقال : انه حيث يرجع الغسل إلى شرطية الحكم الوضعي وهو الطهارة ، فمن يلتزم بإمكان شرطية المتأخر للحكم الوضعي كصاحب الكفاية ينحل الإشكال هنا لديه. ومن لا يلتزم بإمكان ذلك كما هو المختار تبعا للمحقق النائيني يشكل الأمر في المورد ، فلو دل دليل قطعي على اعتبار الغسل في صحة العمل السابق لا بد من توجيهه : إما بان يلتزم بأن الشرط نفس الغسل لا بلحاظ تأثيره في الطهارة. أو يلتزم بان الشرط هو العنوان الانتزاعي المقارن للعمل كعنوان التعقب ، كما قد التزم بذلك في باب عقد الفضولي ، لكن الأمر هاهنا أشكل ، لأن ما يتعنون بعنوان التعقب في مورد العقد موجود وهو نفس العقد الّذي هو المقتضي للملكية.

اما ما نحن فيه فقد لا يوجد ذلك ، بل لا يكون المؤثر في الطهارة سوى الغسل المتأخر ، فليس هناك ما يتعنون بعنوان التعقب يكون هو المؤثر ، بل ليس لدينا سوى نفس العنوان ، والالتزام بتأثيره نفسه مشكل جدا. وذلك كما لو

ص: 132

استحاضت قبل الفجر بقليل ولم تغتسل إلا بعد الفجر ، إذ المعتبر هو الغسل للصلاة وهو لا يعتبر إلا حال الصلاة ولا يلزم ان يكون قبل الفجر ، فيمضي مقدار من الصوم قبل الغسل ، وليس غيره ما يؤثر في الطهارة كي يقال ان ذلك الشيء بعنوان تعقبه بالغسل مؤثر في الطهارة. فالتفت.

والغريب من السيد الخوئي إغفاله التعرض إلى هذه الجهة من الإشكال في المورد ، والاكتفاء بما جاء في الكفاية مع تنبيه المحقق النائيني على الإشكال كما عرفت.

وإلى هنا ينتهي الكلام فيما يرجع إلى شرائط المأمور به. ولا بأس بالتنبيه على أمر وهو : انه قد وقع في عبارات بعض الأعلام - كالسيد الخوئي والمحقق العراقي - في هذا المقام التعبير عن المأمور به : بأنه الحصة الخاصة (1) وهذا المعنى قد يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأن أساس الالتزام بها هو كون المأمور به نفس الأجزاء وذاتها ، فينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل. اما إذا لم يكن المأمور به نفس الأجزاء فقط ، بل كانت فيه جهة إضافية خارجة عن دائرة الأمر وهي عنوان الحصة الخاصة أشكل التمسك بالبراءة عند الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، للشك في تحقق الحصة الخاصة بدون المشكوك. فليكن هذا على ذكر منك حتى نصل إلى محلّه ونرى ما هو الحق فيه.

هذا تمام الكلام في الشرط المتأخر. وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في ...

الأمر الثالث : والكلام فيه في تقسيمات الواجب ، وهي متعددة :

التقسيم الأول : انقسامه إلى المطلق والمشروط.

وقد ذكر صاحب الكفاية : انه قد عرف كل منهما بتعريفات أورد عليها

ص: 133


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 315 - الطبعة الأولى. البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 275 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بعدم الطرد والعكس ، ولكن الحق انه لا وجه للإيراد عليها بذلك ، لأنها تعريفات لفظية يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن ، لا تعريفات حقيقية يقصد منها بيان الحقيقة والماهية ، كي يورد عليها بأنها غير مطردة أو غير منعكسة.

ثم أفاد بعد ذلك : أن الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان ، فان الواجب قد يكون مطلقا بالإضافة إلى شيء ومشروطا بالإضافة إلى آخر ، إذ الإطلاق من جميع الجهات وبقول مطلق غير متحقق في واجب من الواجبات ، إذ كل واجب لا بد أن يكون وجوبه مشروطا بشرط ولا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة من البلوغ والعقل. فعلى هذا يقال : إن كل واجب لوحظ بالإضافة إلى أمر ، فاما أن يكون وجوبه متقيدا به أو لا يكون ، فالأوّل هو الواجب المشروط. والثاني هو الواجب المطلق (1).

وقد وقع الكلام بين الاعلام في إمكان الواجب المشروط ، بمعنى إمكان رجوع القيد إلى الوجوب وتقييد الوجوب به ، بحيث لا يتحقق إلا بعد تحققه. والآراء فيه ثلاثة :

الأول : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري - على ما في التقريرات - من عدم إمكان رجوع القيد إلى الوجوب ، وانما هو راجع إلى الواجب والوجوب فعلي مطلق (2).

الثاني : ما التزم به صاحب الكفاية خلافا لما نسب إلى الشيخ ، من إمكان رجوع القيد إلى الوجوب وتعليق تحققه على الشرط (3).

الثالث : ما التزم به المحقق النائيني ، من ان القيد راجع إلى المادة المنتسبة ، وإليه ارجع كلام الشيخ لا إلى الأول ، مدعيا استحالة الأول لرجوعه إلى

ص: 134


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /95- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /45- 46 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /95- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواجب المعلق وهو محال (1).

وقد استدل الشيخ على رأيه ، مع اعترافه بان مقتضى القواعد العربية رجوع القيد إلى الهيئة في الجملة الشرطية لا المادة بوجهين :

الأول : ان مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للإطلاق والتقييد ، لأن التقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، والحرف موضوع للافراد الجزئية وهي غير قابلة للتقييد ، فيمتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة لعدم قابليته للتقييد.

الثاني : - وهو وجه وجداني - ان الإنسان إذا توجّه إلى شيء إما ان يتعلق به طلبه باعتبار اشتماله على المصلحة الداعية للأمر أو لا يتعلق به طلبه ، أما الفرض الثاني فهو خارج عن محل الكلام. وأما الفرض الأول ، فالمصلحة التي تترتب عليه إما أن تترتب عليه بقول مطلق بلا تعليق على شيء فيتعلق به طلبه على جميع تقاديره. وأما ان تكون تترتب عليه على تقدير خاص ، فيكون ذو المصلحة هو الفعل على ذلك التقدير ، فيتعلق الطلب والشوق بذلك الفعل على ذلك التقدير. فالشوق فعلي متعلق بما هو استقبالي ، لأن الآمر إذا علم بترتب المصلحة عليه في المستقبل يتعلق به شوقه فعلا ويطلبه في نفس الحين بلا تعليق. وهذا أمر وجداني يلتفت إليه كل أحد ويجده من نفسه.

بهذين الوجهين استدل الشيخ على ما ذهب إليه من عدم رجوع القيد إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة.

وقد تنكر صحة نسبة هذا الالتزام إلى الشيخ باعتبار ما يقرره في مكاسبه في مبحث جواز التعليق في العقود من : ان الوجه في بطلان التعليق هو قيام الإجماع على عدم صحته ، وبطلان العقد به ، مما يظهر منه انه لو لا الإجماع لكان مقتضى القواعد صحة التعليق في العقد ، مع ان هذا يتنافى مع الالتزام بعدم صحة

ص: 135


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 132 - الطبعة الأولى.

تقييد مفاد الهيئة ، لأن الإنشاء مدلول الهيئة أيضا فكيف يصح تعليقه وتقييده ثبوتا (1).

وبالجملة : الالتزام بصحة نسبة الالتزام المذكور إلى الشيخ لازمه الالتزام بوقوع التهافت في كلماته ، وهو مما يجلّ عنه مثل الشيخ في مثل هذا المطلب الواضح.

والإنصاف : انه لا مناقضة بين الالتزام بعدم صحة رجوع القيد إلى الهيئة والالتزام بصحة التعليق في العقود ، وذلك لأن ما يدور البحث حول صحة تعليقه وعدمها ليس نفس الإنشاء ، وانما هو المنشأ كالتمليك. ومن الواضح أن المنشأ مدلول اسمي ، فالتمليك مدلول للمادة في قول المنشئ : « ملّكت » ، وهي من الأسماء الموضوعة للمفاهيم. وهكذا سائر المنشآت فانها مداليل المواد.

والمفاهيم الاسمية قابلة للتعليق والتقييد ثبوتا ، فلو لا الإجماع لصح أن يلتزم بصحة التعليق في العقود ، ولا ينافي ذلك التزامه بعدم صحة تقييد مفاد الهيئة لأنه معنى حرفي غير قابل للتقييد.

وقد تفصّى صاحب الكفاية عن الوجه الأول بما قرّره من : ان المعنى الحرفي لا يختلف عن المعنى الاسمي في كونه مفهوما عاما ، وان اختلف معه في كيفية الوضع ونحوه ، وعليه فكما ان المعنى الاسمي يقبل التقييد لقابليته للسعة والضيق كذلك المعنى الحرفي لاشتراكهما في المفهومية التي هي موضوع الإطلاق والتقييد (2).

وتحقيق الكلام في المقام : ان عمدة الإشكال وأساسه امر مغفول عنه في عبارات الأعلام ، وان اعترف به المحقق النائيني في بعض كلماته وهو : ان الجملة

ص: 136


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب /100- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /97- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشرطية تفيد تعليق الجزاء على الشرط ، وربط أحدهما بالآخر بنحو من أنحاء الربط ، سواء قلنا أنّ ذلك مفاد نفس الأداة كان ، أو قلنا بأن مفاد الأداة ليس إلاّ كون تاليها واقعا موقع الفرض والتقدير ، والتعليق يستفاد من « الفاء » أو « ثم » أو غيرهما من الأدوات الداخلة على الجزاء ، أو من نفس ترتيب الجزاء على الشرط والهيئة التركيبية الخاصة - فان تحقيق أحد الوجهين الذين ذهب إلى أولهما أهل الميزان وإلى ثانيهما أهل العربية ، وليس بمهم في المقام - ، إذ لا اختلاف بينهم في النتيجة ، فان القدر المسلم لدى الطرفين هو أن مفاد الجملة الشرطية تعليق الجزاء على الشرط ، اما سببه فهو محل الاختلاف.

ومن البديهي ان الربط الموجود في الجملة الشرطية انما هو ربط بين المفاهيم التركيبية ، أعني المفهوم التركيبي لجملة الشرط والمفهوم التركيبي لجملة الجزاء ، لا بين المفاهيم الإفرادية. فمفاد : « إذا جاء زيد يجيء عمرو » تعليق مجيء عمرو على مجيء زيد وترتيب نسبة مجيء عمرو على نسبة مجيء زيد ، وليس مفادها تعليق نفس المجيء في الجزاء على مجيء زيد ، إذ مرجع ذلك إلى الحكم الفعلي على عمرو بالمجيء الخاصّ وهو المترتب على مجيء زيد ، نظير : « عمرو جاء بالمجيء المترتب على مجيء زيد ».

وهذا امر لا يجده المخبر بالجملة الشرطية من نفسه ، فانه لا يعلم بمجيء زيد فكيف يحكم بثبوت المجيء المقدر عليه؟. كما أنه ليس مفادها الحكم بالمجيء على عمرو على تقدير مجيء زيد برجوع القيد إلى الموضوع لا الحكم ، لوضوح انه يصح إطلاق الجملة الشرطية مع التصريح بأخذ موضوع الجزاء بنحو مطلق بلا تقييده بشيء. فمن البديهي ان المخبر بالجملة الشرطية لا يجد في نفسه إلاّ أنه يخبر عن الربط بين المفهومين التركيبين - أعني مفهومي جملتي الشرط والجزاء - ، بحيث إذا سئل عن قصده لأجاب بذلك. ومن هنا يأتي الإشكال ، فإن المفاهيم التركيبية من المعاني الحرفية لأنها مداليل هيئات الجمل

ص: 137

أو الإضافة أو غيرهما. فيشكل تحقق الربط بين المفهومين التركيبيين لامتناع تحقق الربط بين المعاني الحرفية وتقييد أحدهما بالآخر على جميع المذاهب في المعنى الحرفي.

بيان ذلك : ان الآراء في وضع الحروف مختلفة ، وعمدتها أقوال عديدة :

الأول : ان الموضوع له الحرف هو الافراد الخاصة الخارجية أو الذهنية للمفاهيم العامة (1).

الثاني : ما ذهب إليه صاحب الكفاية من ان الحروف موضوعة للمفاهيم العامة كالأسماء ، ف : « من » ولفظ الابتداء موضوعان إلى مفهوم الابتداء (2).

الثالث : ما ذهب إليه المحقق النائيني من ان الموضوع له الحرف هو النسبة الكلامية التي عرفت ان المراد منها هي النسبة الذهنية بين المفاهيم الاسمية ، لاحتياج المفاهيم الاسمية إلى رابط يربطها لعدم الارتباط بينها في أنفسها ، فشأن الحرف الربط بين المفاهيم الاسمية (3).

الرابع : ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من ان المعنى الحرفي هو الوجود الرابط الّذي هو نوع رابع من أنواع الوجود (4). وقد عرفت رجوع هذا الوجه إلى اختيار المحقق النائيني.

الخامس : ما ذهب إليه السيد الخوئي من أنّ الحروف موضوعة لتضييق المعاني الاسمية ، لأنها واسعة النطاق في الصدق فاحتيج إلى تفهيم الحصة الخاصة منه إلى وضع شيء فكان هو الحروف (5). وقد تقدم انه لا محصل له إلا ان يرجع

ص: 138


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /16- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 18 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 16 - الطبعة الأولى.
5- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 79 - الطبعة الأولى.

إلى اختيار العلمين النائيني والأصفهاني (1).

وعلى كل : فتقييد المعنى الحرفي وربطه. وبتعبير آخر ورود معنى حرفي على معنى حرفي آخر ممتنع على جميع هذه الأقوال الخمسة.

اما على القول الأول : فواضح ، لأن التقييد انما يطرأ على المفاهيم القابلة للسعة والضيق دون الأفراد التي لا تقبل السعة والضيق أصلا.

واما على القول الثاني : فلأنه وان كان المعنى الحرفي من سنخ المفاهيم التي تقبل السعة والضيق ، إلا أنه لا يمكن تقييده أيضا ، لأن صاحب الكفاية وان التزم بأن الموضوع له الحرف هو المفهوم العام ، لكنه أخذ في وضع الحرف كون المعنى ملحوظا آليا ، وبه افترق عن المعنى الاسمي. وبهذا القيد يمتنع تقييد المفاهيم الحرفية ، وذلك لأن لازم كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة للغير كون الغير ملحوظا بالاستقلال.

وعليه ، فإذا كان الربط الثابت بين المعنيين الحرفيين ملحوظا آلة - لكونه معنى حرفيا - كان لازمه لحاظ ذيه وهو المعنى الحرفي المقيد استقلالا ، والمفروض انه معنى حرفي ملحوظ باللحاظ الآلي ، فيلزم ان يكون المعنى الحرفي ملحوظا في حين واحد بلحاظين ، وهو ممتنع كما يقرره صاحب الكفاية. ومن هنا يظهر ان ما أفاده في دفع إشكال الشيخ من كون المعنى الحرفي عاما غير مجد في ما نحن فيه ، إذ الإشكال يتأتى من ناحية أخرى لم يتعرض لدفعها في كلامه ، وهي استلزام التقييد اجتماع اللحاظين.

واما على القول الثالث : فلان الربط انما يكون بين المفاهيم الاسمية ، والمعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم ، بل هو من سنخ الوجود غير القابل للربط ، لأنه على ما تقدم من شئون الوجود وكيفية من كيفياته.

ص: 139


1- راجع 1 / 114 من هذا الكتاب.

واما على القول الرابع : فالأمر فيه كالأمر على الثالث ، فان التقييد انما يطرأ على المفاهيم دون ما هو من سنخ الوجود وهو الوجود الرابط ، الّذي هو كيفية من كيفيات وجود الشيء.

واما على القول الخامس : فلان القائل لا يدعي الوضع لمفهوم التضييق ، لأنه من المعاني الاسمية ، وانما يدعي الوضع لواقع التضييق وهو غير قابل للتقييد والربط ، لعدم كونه قابلا للسعة والضيق.

فتحصل ان تقييد أحد المفهومين التركيبيين وربط أحدهما بالآخر مما قام البرهان على استحالته ولا إشكال فيه ، كما ان مفاد الجملة الشرطية هو الربط بين المفاهيم التركيبية بالبداهة ، فكيف يجتمع الأمر البديهي الواضح مع الأمر البرهاني الثابت.

ولا يخفى ان ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من رجوع القيد إلى المادة لا يجدي في رفع الإشكال ، لأن مرجعه إلى تحقق الربط بين المفاهيم الإفرادية الّذي قد عرفت انه خلاف الوجدان ، فان الشخص المخبر بالجملة الشرطية لا يرى من نفسه إلا أنه يخبر بالربط بين المعاني التركيبية ، وهذه البداهة وان لم تكن واضحة في الجملة الإنشائية ، ولا سبيل لنا إلى إنكاره بالبداهة والبرهان السابق على عدم كون المعلق هو المفهوم الأفرادي ، إلا أنه من المعلوم أن حال الجملة الشرطية في كلتا الصورتين واحد لا يختلف ، وقد ثبت ان الربط في الجملة الشرطية الخبرية بين المفاهيم التركيبية وجدانا بل برهانا ، فيثبت ذلك في الإنشائية أيضا.

كما انه لا يجدي في رفع الإشكال ما أفاده السيد الخوئي من : ان الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، فليس ثمة معنى حرفي يكون مدلولا للهيئة ، بل مدلولها فعل من افعال النّفس تبرزه (1).

ص: 140


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 323 - الطبعة الأولى.

وذلك : لأن التعليق لا يرد على نفس الإبراز والاعتبار لأنه فعلي ، وانما يرد على المعتبر وهو كون الفعل في عهدة المكلف. ومن الواضح أن هذا من المفاهيم التركيبية الحرفية ، لأنه مدلول هيئة الإضافة ، فيأتي الكلام في صحة تعليقه وتقييده بالشرط.

والتحقيق في رفع هذا الإشكال ان يقال :

ان الاخبار والإنشاء - كما مرّ سابقا (1) - خارجان عن مدلول الجملة الخبرية والإنشائية ، وانما هما أمران نفسيان قصديان ، والجملة لا تدل إلا على النسبة بين الموضوع والمحمول لا أكثر. وهذه النسبة تارة تكون متعلقة للاخبار ، كما إذا قصد الحكاية عن ثبوتها. وأخرى متعلقة للإنشاء كما إذا قصد تحققها. وقد استشهدنا على ذلك بان من الجمل الخبرية ما لا يسمى اخبارا قطعا ، كما إذا قال : « علمت ان زيدا قائم » ، فان : « زيدا قائم » جملة خبرية ذات موضوع ومحمول ، مع انها لا تسمى خبرا ، إذ ليس القصد الحكاية عن تحقق مضمونها ، بل القصد الحكاية عن تحقق العلم بتحقق مضمونها فالجملة الخبرية الاسمية لا تدل إلا على النسبة الاتحادية بين الموضوع والمحمول ، بمعنى ان الموضوع والمحمول أمر واحد ، والاخبار ليس جزء مدلولها ، وانما يطرأ عليها ، وهو عبارة عن قصد الحكاية عن ثبوت هذه النسبة أو لا ثبوتها. ومن هنا يعلم ان ثبوت النسبة أو لا ثبوتها خارجان عن مدلول الجملة أيضا ، فلا دلالة لها على الثبوت وعدمه ، بل هي انما تدل على خصوص النسبة. اما ثبوتها فيعلم من دال آخر وهو القرينة العامة عند عدم أداة النفي ، وعدم ثبوتها يعلم من أداة النفي كليس ولا ونحوهما. فكل من الاخبار والثبوت خارجان عن مدلول الهيئة وليس مدلولها سوى النسبة. وهكذا الحال في الإنشاء ، فانه عبارة

ص: 141


1- راجع 1 / 148 من هذا الكتاب.

عن قصد تحقق النسبة - لا الحكاية عن ثبوتها - فتحقق النسبة خارج عن مدلول الهيئة كنفس القصد. وإذا اتضح ذلك يتضح اندفاع الإشكال ، فان مفاد الجملة الشرطية ليس تعليق إحدى النسبتين على الأخرى وتقييدها بها ، كي يدعى أن ذلك يستلزم تقييد المعنى الحرفي وهو ممتنع. وانما مفادها تعليق ثبوت إحدى النسبتين على ثبوت الأخرى ، فالجملة الشرطية الاخبارية تتكفل الاخبار بترتب ثبوت هذه النسبة على ثبوت تلك. وقد عرفت ان ثبوت النسبة خارج عن مدلول الهيئة فلا يكون من المعاني الحرفية وانما هو معنى اسمي قابل للتقييد. وهكذا الحال في الجملة الإنشائية فانها تتكفل تعليق تحقق الجزاء على ثبوت الشرط. وقد عرفت ان التحقق خارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني الاسمية القابلة للتقييد والتعليق ، فما هو المعلق على ثبوت الشرط غير المعنى الحرفي ، بل أمر خارج عن مدلول الكلام الحرفي ، وبذلك نجمع بين امتناع تقييد المعاني الحرفية وبداهة كون الربط في الجملة الشرطية بين المفاهيم التركيبية.

ومن هنا يظهر إمكان الواجب المشروط وعدم استحالته عقلا كما ادعاه الشيخ في الوجه الأول ، لأن القيد لا يطرأ على مدلول الهيئة وانما يطرأ على ما هو خارج عن مدلولها - أعني ثبوت النسبة - ، فالمقيد ليس نفس النسبة الطلبية المدلولة للهيئة ، وانما هو ثبوت النسبة ، وهو معنى اسمي قابل للتقييد ، ونتيجة ذلك عدم تحقق الوجوب إلا عند تحقق الشرط. فالتفت.

وبما ذكرناه يتضح انه يمكن التفصي عن الإشكال المزبور بما أفاده السيد الخوئي من : ان مدلول الهيئة الإنشائية إبراز الاعتبار النفسانيّ. ببيان : انه وان كان الاعتبار فعليا لكن المعتبر هو ثبوت الفعل في الذّمّة ، فالمقيد هو الثبوت الخارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني الاسمية كما تقدم. فالتفت.

ثم انه حفظه اللّه تعرض إلى ذكر بعض الإشكالات الواردة على الواجب المشروط والإجابة عنها.

ص: 142

الإشكال الأول : ما أشير إليه من أن معنى الهيئة من المعاني الحرفية وهي غير قابلة للتقييد.

وأجاب عنه : بان المعنى الحرفي انما لا يقبل التقييد بمعنى التضييق ، واما التقييد بمعنى التعليق الّذي هو مفاد أداة الجملة الشرطية فلا مانع منه (1).

وفيه :

أولا : أنه ظاهر في الالتزام بان معنى الهيئة من المعاني الحرفية ، وهو خلاف ما قرره أولا من خروج مدلولها عن المعاني الحرفية وأنه إبراز الاعتبار النفسانيّ.

وثانيا : أنه مناف لما قرّره في مبحث المعنى الحرفي من أن الحروف موضوعة للتضييق بما فيها أدوات الشرط ، فدعوى أن أداة الشرط لم توضع للتضييق لم يظهر لها وجه منه.

وبالجملة : ما أفاده هنا يستظهر منه إغفال عمّا قرّره في مبحث المعنى الحرفي من رأي.

الإشكال الثاني : ما أفاده المحقق النائيني من ان معنى الهيئة من المعاني الحرفية غير القابلة للحاظ الاستقلالي الّذي يقتضيه التقييد ، فلا يصح تقييدها لأنها ملحوظة آلة.

وأجاب عنه : بأنه يمكن ان يلحظ المعنى استقلالا فيقيد ، ثم يلحظ المقيد آلة في حال الاستعمال ، فالقيد يطرأ على ما هو ملحوظا استقلالا ثم المقيد يلحظ آلة في حال الاستعمال (2).

وفيه : انه وان أشار إليه في الكفاية لكنه بلحاظ مقام الإنشاء لا مقام اللحاظ ، ان المعنى المقيد عند لحاظه بقيد التقيد آليا إما أن يكون ملحوظا

ص: 143


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 320 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 129 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

بالاستقلال المقوم للتقييد أو لا يكون. فان كان ملحوظا بالاستقلال لزم أن يجتمع اللحاظان فيه الآلي والاستقلالي. وان لم يكن ملحوظا بالاستقلال امتنع طروّ القيد عليه ولحاظه مقيدا حال الاستعمال ، لتقوم القيد بان يكون ذوه ملحوظا استقلالا.

وبالجملة : لا يجتمع تقيد المعنى الحرفي مع كونه ملحوظا آليا.

ثم انه قد تكرر في كلام السيد الخوئي التعبير بكون الاعتبار متعلقا بأمر على تقدير (1).

ولا بد من تحقيق هذا الأمر ومدى صحته وسقمه ، فانه مما يترتب عليه آثار عملية ، كصحة الالتزام بالكشف الانقلابي في عقد الفضولي. بيان ذلك : أنه وقع الكلام في عقد الفضولي المتعقب بالإجازة في أن الإجازة هل تكون موجبة لحدوث الملكية مثلا من حينها المصطلح عليه بالنقل ، أو كاشفة عن تحققها من حين العقد المصطلح عليه بالكشف؟. وهناك قول ثالث ، وهو أن الإجازة تكون موجبة لتحقق الملكية وترتب آثارها من حين العقد إلا أن حدوث الملكية السابقة يكون بالإجازة لا أنه كان من حين العقد ، ويعبّر عن هذا المعنى بالانقلاب ، وبه تصحح الروايات الدّالة على ترتب آثار المنشأ من حين العقد مع عدم معقولية الكشف الحقيقي.

وقد تبنى المحقق الإيرواني هذا الرّأي ، وعبّر عنه بالبرزخ بين الكشف والنقل ، وحاول تصحيحه بنحو يكون حكما على طبق القاعدة لا حكما تعبديا (2). وتابعة السيد الخوئي في ذلك (3). ولا يخفى ان صحة هذا المبنى تتوقف على الالتزام بإمكان تعلق الاعتبار الفعلي بالملكية أو نحوها في الزمان اللاحق ، وعلى تقدير

ص: 144


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 323 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الإيرواني الشيخ ميرزا علي. حاشية المكاسب /127- الطبعة الأولى.
3- التوحيدي محمد علي. مصباح الفقاهة4/ 142 - الطبعة الأولى.

شيء آت أو تعلقه بالملكية في الزمان السابق ، وبتعبير أخصر : إمكان اعتبار الملكية اللاحقة أو الملكية السابقة وعدمه. فلو تمّ بطلان هذا الأمر وامتناعه لم يثبت للانقلاب أساس.

فموضوع الكلام : هو تعلق الاعتبار فعلا بالملكية السابقة أو اللاحقة.

والّذي يبدو النّظر عدم إمكان ذلك عقلا ، وذلك : لأن الاعتبار الفعلي يتعلق بالملكية في الزمان المعين الخاصّ أو غيره من التقديرات ، بحيث تلحظ الملكية مرتبطة بالزمان الخاصّ. ومن الواضح ان كلا من الملكية والزمان مفهوم مستقل لا ارتباط بالآخر بما هو كذلك ، لأن كل مفهوم له تقرر خاص بحدّ واقعي ثابت.

وعليه ، فارتباط أحد المفهومين بالآخر بالنحو الّذي يصحح استعمال الحرف بينهما فيقال : « الملكية في الزمان المعين الكذائي » انما يكون بلحاظ وجود أحد المفهومين مرتبطا بوجود الآخر بنحو ارتباط ، كارتباط الظرفية بالنسبة إلى زمان المصحح لاستعمال « فيه » بمعنى أن يكون بين وجود كل منهما ووجود الآخر نحو إضافة ونسبة. وقد تقرّر ان مدلول الحرف ومعناه هو النسبة الذهنية بين المفهومين الناشئة عن لحاظ كل منهما مرتبطا بالآخر ، بحيث تكون النسبة من كيفيات اللحاظ ، فلحاظ زيد قائما يحقق النسبة الذهنية بين زيد والقيام. كما تقرر أن النسبة الذهنية بين المفهومين وضع لها الحرف لتكون مرآتا للخارج والنسبة الخارجية بين الوجودين الخارجيين ، فتحكي عنها حكاية المماثل عن المماثل ، لا بمعنى استلزامها لانتقال النسبة الخارجية إلى الذهن كما هو شأن سائر الاستعمالات لامتناع ذلك. فالنسبة الذهنية تطابق النسبة الخارجية ولو لم تكن متحققة حقيقة ، ولكن تؤخذ في عين الحال بنحو الفرض. فالنسبة بين القيام وزيد قد تتحقق في الذهن بلا أن يكون لها مطابق خارجي متحقق ، ولكنها تتحقق بالنحو الّذي يفرض به تحقق النسبة الخارجية وبكيفيته وهذا هو معنى المطابقة.

ص: 145

وبتعبير آخر : النسبة الذهنية بين زيد والقيام عبارة عن الصورة الذهنية لوجود زيد قائما. فالنسبة الذهنية صورة للنسبة الخارجية.

وإذا تقرر هذا ، فالملكية في الزمان الكذائي التي يراد اعتبارها فعلا قد لوحظ وجودها مرتبطا بوجود الزمان بنحو الظرفية ، فقولنا : « الملكية في يوم الجمعة » معناه الملكية المتحققة والموجودة في يوم الجمعة ، ومعه يمتنع اعتبارها ، إذ لا معنى لإيجاد الملكية الموجودة في يوم الجمعة. فمرجع اعتبار وإيجاد الملكية في الزمان اللاحق إلى إيجاد الملكية الموجودة في الزمان اللاحق لعدم إمكان فرض هذا العنوان ، أعني الملكية في الزمان اللاحق ، إلا بأخذ قيد الوجود في الملكية ، فيقال : « الملكية الموجودة في الزمان اللاحق » وبذلك يمتنع اعتبارها وإيجادها فعلا للخلف.

وبتعبير آخر : إذا توقف الاعتبار والإيجاد على أخذ قيد في المعتبر ناش منه ومعلول له وبلحاظ تحققه كان ذلك ممتنعا لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة سابقة عليه ، إذ المفروض أن الملكية في الزمان اللاحق يراد إيجادها فعلا ، فكيف يؤخذ وجودها في موضوع الاعتبار والإيجاد؟. فبذلك يتضح امتناع كون الاعتبار متعلقا بأمر على تقدير الّذي ورد مكررا في عبارات السيد الخوئي ، كما يتضح امتناع القول بالكشف الانقلابي ، وتمام تحقيق ذلك في محلّه من مبحث التجارة والبيع.

ثم ان المحقق النائيني تصحيحا للواجب المشروط التزم برجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، ببيان : ان القيد يرجع إلى المادة ، ولكن لا بمعنى كون القيد من قيود الواجب والوجوب يكون فعليا ، لأنه يرجع إلى الواجب المعلق الّذي التزم به صاحب الفصول (1) وهو باطل ، بل بمعنى ان القيد يطرأ على المادة من

ص: 146


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /79- الطبعة الأولى.

حيث ورود النسبة عليها ، بتقريب : ان الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد. وقد يكون متعلقا للنسبة الطلبية حين اتصافه بقيد في الخارج ، مثلا الحج المطلق لا يتصف بالوجوب ، بل المتصف به وهو الحج المقيد بالاستطاعة الخارجية ، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب به وكونه طرفا للنسبة الطلبية ، فالقيد راجع إلى المادة ولكن لا بما هي ، بل بما هي منتسبة إلى الفاعل.

هذا ما أفاده المحقق النائيني بنص عبارة التقريرات تقريبا (1).

ولكن الّذي يتوجه عليه : أن تقيد المادة بالقيد بحيث يكون الواجب هو الحصة الخاصة - أعني الفعل على تقدير القيد الخاصّ - أمر مشترك بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وانما الاختلاف في أن فعلية الوجوب في المعلق متحققة قبل تحقق القيد ، بخلاف الوجوب في الواجب المشروط ، فيقال : بأنه ما الوجه في هذا الأمر؟ ان كان وجهه رجوع القيد في الوجوب المشروط في الحقيقة إلى النسبة ، عاد المحذور الّذي يحاول الفرار منه ، وهو لزوم تقييد المعنى الحرفي غير القابل للتقييد. وان لم يرجع القيد إلى النسبة ، فلا وجه لتوقف فعلية الوجوب على حصول القيد.

والحقيقة ان ما ذكرناه لا يعدّ إشكالا على مطلب المحقق النائيني ، بل هو أشبه بالسؤال عن مراده فيما أفاده ، فانه لم يوضح بأكثر مما عرفت كما انتهى بمجرد الادعاء. فالذي ينبغي هو التساؤل عن مراده لا الإيراد عليه كما قد يظهر من السيد الخوئي (2).

هذا كله في المرحلة الأولى من البحث التي أشار إليها صاحب التقريرات بوجهه الأول - أعني مرحلة معرفة إمكان الواجب المشروط ورجوع القيد إلى

ص: 147


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

الهيئة وعدمه - وقد عرفت تصور رجوع القيد إلى أصل الوجوب.

يبقى الكلام في المرحلة الثانية التي أشار إليها بالوجه الثاني ، وهي رجوع القيد إلى المادة لبّا وان سلمنا إمكان رجوعه إلى الهيئة عقلا.

وقد عرفت تقريب ذلك : بأن الشيء إما أن لا يكون ذا مصلحة بجميع تقاديره ، فلا يتعلق به الإرادة. واما أن يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره ، فيتعلق به الإرادة الفعلي على ذلك التقدير ، لأن العلم بتحقق المصلحة فيه في ذلك التقدير موجب لانقداح الشوق فعلا إليه ، أي إلى الفعل على ذلك التقدير. فلا يتصور التعليق في الإرادة ، بل أمرها دائر بين الوجود والعدم أصلا.

وقد تصدى صاحب الكفاية رحمه اللّه إلى منع ذلك ، ببيان : ان الفعل قد يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره فيتعلق به الإرادة الفعلية ، إلا أنه يكون هناك مانع من طلبه فلا يبعث نحوه فعلا ، بل يبعث نحوه على تقدير زوال المانع (1).

ولا يخفى انه مرجع إيراد صاحب الكفاية إلى : أن الإرادة التشريعية هي الإرادة المستتبعة للبعث والطلب ، فمع وجود المانع عن البعث لا تكون الإرادة إرادة تشريعية التي هي ملاك الحكم ، بل الموجود ليس إلاّ الشوق وهو غير كاف في الحكم.

وبدون هذا الإرجاع لا يظهر لإيراد صاحب الكفاية ربط بكلام الشيخ ، بل ظاهره أنه من واد آخر.

وعلى كل فالتحقيق ان يقال : انه إذا التزمنا بان حقيقة الحكم ليس إلاّ الإرادة وإبرازها لا أكثر - كما قد يلتزم به المحقق العراقي (2) - كان ما أفاده

ص: 148


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /97- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول /106- الطبعة الأولى.

الشيخ هو المتعين (1) ، إذ مع كون الفعل ذا مصلحة على تقدير خاص أو مطلقا ، لا تتعلق به الإرادة ولا يتصور التعليق فيها ، لأنها فعل نفسي غير اختياري ينشأ عن العلم بالمصلحة ، فمع تصور المصلحة في الفعل يتحقق الشوق إليه فعلا بلا تعليق على شيء ، وأما الإبراز فالمفروض تحققه بالإنشاء. فالحكم بحقيقته ووجوده الواقعي ثابت متحقق بدون تعليق.

وان التزمنا بان حقيقة الحكم تختلف عن حقيقة الإرادة وانه أمر اعتباري مجعول مستتبع للإرادة كان ما ذكره صاحب الكفاية هو المتعين ، لأن الإرادة وان تحققت في النّفس بتصور المصلحة إلاّ أن الاعتبار والجعل يمكن ان يكون له مانع عن تحققه فيعلق تحققه على زوال المانع ، لأنه فعل اختياري قابل للتعليق ، فلا يتحقق الحكم الا عند تحقق القيد ، وان كانت الإرادة متحققة من السابق لعدم تصور التعليق في تحققها ، بل تتعلق بالأمر اللاحق لتصور المصلحة فيه فعلا الّذي هو ملاك تحقق الإرادة.

إذا عرفت التحقيق ، يبقى لدينا تشخيص أي الوجهين أصح ، وأن حقيقة الحكم هل هي عين الإرادة وإبرازها ، أو أنه امر جعلي اعتباري؟. الحق هو الثاني وانه أمر مجعول اعتباري ، فانه المرتكز بين الأصوليين ، بل بين الناس ، فان الإيجاب يرونه امرا غير محض الإرادة ، بل عبارة عن إلزام اعتباري.

ويدل عليه ورود الأدلة الرافعة للأحكام بلحاظ بعض العناوين الثانوية ، كالجهل والضرر والعسر والحرج وغيرها ، بضميمة ظهورها في الامتنان ، فان ذلك ظاهر في كون الحكم شيئا بيد الشارع يستطيع وضعه ويستطيع رفعه ، فرفعه امتنانا ، إذ لو كان الحكم عبارة عن الإرادة لم يكون رفعه ووضعه بيد الشارع لأنها غير اختيارية.

ص: 149


1- سيأتي منه ( دام ظله ) في مبحث استصحاب الحكم التعليقي العدول عن ذلك ، الالتزام بان الإرادة لا تحصل الا عند حصول القيد. ( منه عفي عنه ).

ولا معنى للتعبير : بان الرفع كان لأجل الامتنان ، بل الارتفاع يكون لعدم تحقق مبادئها خارجا.

نعم لو لم يكن لسان هذه الأدلة لسان امتنان لم يكن لها دلالة على المدعى إذ يمكن ان يكون الرفع لعدم الإرادة لا لأجل الامتنان ، وانه كان يتمكن من الوضع فرفعه منّة ، الظاهر في كونه امرا اختيارا بيد الشارع.

وبالجملة : كون الحكم من المجعولات لا يمكن لنا إنكاره وجدانا ودليلا.

ثمّ أن صاحب الكفاية أشار إلى سؤال قد يتجه ، محصله : ان تصور المانع عن الحكم أمر معقول لو كان الحكم تابعا للمصلحة فيه ، فانه يمكن ان يفرض وجود المانع عن تحقق المصلحة فيه واما بناء على ان الحكم تابع لوجود المصلحة في متعلقه فيشكل وجود المانع منه ، لفرض تحقق المصلحة في متعلقه ، ولذا تعلقت به الإرادة ، كما ان المفروض تبعيته للمصلحة ، فمقتضى ذلك تحققه بلا تعليق على شيء.

وأجاب عنه : بان تبعية الأحكام للمصالح في متعلقاتها إنما يلتزم به في الأحكام الإنشائية. اما الأحكام الفعلية والبعث الفعلي ، فهو تابع للمصالح فيه ، ومعه يتصور المانع عن تحقق المصلحة فيه فيعلق على تقدير زواله (1).

ولكنه لأجل عدم وضوح وجود مرتبة إنشائية للحكم يكون له فيها وجود حقيقي ، لأن الإنشاء لا بداعي البعث لا يكون وجودا حقيقيا له ، والإنشاء بداعي البعث هو معنى الحكم الفعلي إذ لا يتصور إلا في فرض يمكن تحقق البعث بدون مانع.

لأجل ذلك ، عدل المحقق الأصفهاني إلى الإجابة عن السؤال ، بان المقصود من تبعية الحكم للمصلحة في متعلقه ليس تبعيته بنحو تبعية المعلول

ص: 150


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /98- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

للعلة ، بل بنحو تبعية المقتضى للمقتضي ، وعليه فيمكن فرض المانع مع وجود المصلحة في المتعلق. فلاحظ وتدبر (1).

هذا تمام الكلام في الواجب المشروط ، وقد عرفت انه لا دليل على امتناعه ثبوتا ولا إثباتا.

ويبقى الكلام في بعض الجهات المرتبطة بالبحث :

الجهة الأولى : فيما أفادوه - لغرض ربط البحث بمبحث وجوب المقدمة - من ان وجوب المقدمة بما انه مترشح عن وجوب ذيها ، فهو تابع في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذيها ، فإذا كان وجوب ذي المقدمة مشروطا بشرط كان وجوبها كذلك (2).

ويتوجه على هذا : ان ما ينتهي إليه بعد إثبات الملازمة ليس وجوب المقدمة ، بمعنى ان يثبت لها وجوب مجعول مترشح عن وجوب ذيها ، بل ما ينتهي إليه هو كون المقدمة متعلقة للإرادة كذيها.

فالثابت هو الملازمة بين إرادة ذيها وإرادتها لا بين تعلق الحكم بذيها وتعلقه بها ، فوجوب المقدمة ليس امرا مجعولا. بل بمعنى تعلق الإرادة بها ، وحقيقته ذلك لا غير. - وبذلك يفرّ عن إشكال لغوية جعل الوجوب لها - وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون وجوب المقدمة تابعا في الاشتراط لوجوب ذيها ، إذا عرفت أن وجوب المقدمة حقيقته إرادة المقدمة ، وقد عرفت ان الإرادة غير قابلة للتعليق ، بل إما أن توجد أو لا توجد ، والوجوب المشروط في ذي المقدمة هو الحكم الجعلي لا الإرادة المتعلقة به ، بل هي مطلقة فتتعلق الإرادة الفعلية بالمقدمة وان كان وجوب ذي المقدمة مشروطا.

وهذا الإيراد قد كان يجول في الذهن منذ القديم ولم نر له حلا.

ص: 151


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 183 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /95- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 148 - الطبعة الأولى.

الجهة الثانية : فيما تعرض صاحب الكفاية في بيان الثمرة بين اختياره في الواجب المشروط واختيار الشيخ رحمه اللّه .

ومحصل ما أفاده قدس سره : ان الشرط الّذي يعلق عليه الوجوب في الخطاب خارج عن محل النزاع على المختار من رجوعه إلى الوجوب ، لأنه يكون مقدمة وجوبية ، وقد عرفت عدم تأتي النزاع فيها فلا نعيد.

واما على مختار الشيخ : فهو وان كان من قيود الواجب إلاّ انه أخذ بنحو لا يكون قابلا لترشح الوجوب عليه ، وذلك لأن الواجب هو الشيء على ذلك التقدير ، فالوجوب متعلق بذلك الشيء على تقدير الشرط ، فتعلق الوجوب به يكون من باب طلب الحاصل (1).

وتوضيح ذلك : أن الشرط قد أخذ قيدا للواجب على أن يكون حصوله طبعيا ومن دون تسبيب من المولى ، فالوجوب متعلق بالفعل على تقدير حصول ذلك الشرط من نفسه وبطبعه ، وحينئذ قبل حصوله يمتنع أن يتعلق به طلب المولى وبعثه لأنه خلف أخذه قيدا على ان يتحقق طبعيا ، وبعد حصوله يمتنع ان يتعلق به الطلب لأنه طلب الحاصل. فالضمير في قوله : « فمعه » يرجع إلى حصول ذلك الشرط.

ومن هنا يندفع الإيراد على صاحب الكفاية : بأنه إذا كان الوجوب فعليا والواجب بقيده استقباليا ، فتعلقه بالقيد لا يكون من طلب الحاصل لأنك عرفت ان مراد صاحب الكفاية ان تعلق الوجوب بالشرط بعد حصوله يكون من طلب الحاصل كما لو كان مقدمة وجوبية ، لا أنه كذلك قبل حصوله ، بل المحذور في تعلقه به قبل حصوله أمر آخر يعلم من طي الكلام. فالتفت.

واما المقدمات الوجودية للواجب المشروط غير المعلق عليها وجوبه :

ص: 152


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /99- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فهي على مختار صاحب الكفاية لا تكون متعلقة للطلب الا بعد حصول الشرط ، لتبعية وجوبها في الاشتراط لوجوب ذيها ، إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل حصول الشرط كي يترشح منه وجوب المقدمة.

واما على مختار الشيخ فهي تكون متعلقة للطلب قبل حصول الشرط ، لكون وجوب ذي المقدمة حاليا قابلا لأن يترشح منه وجوب المقدمات.

نعم ، الأمر في المعرفة والتعلّم يختلف عنه في غيرها من مقدمات الوجود ، فانه لا يبعد دعوى وجوبها قبل حصول الشرط حتى على المختار في الواجب المشروط ، ولكن لا من باب الملازمة ، بل من باب آخر ليس التعرض له محلّه هاهنا. هذا ملخص ما أفاده في الكفاية وقد ظهرت بذلك الثمرة بين القولين (1).

الجهة الثالثة : وهي ما أشار إليه في الكفاية تحت عنوان : « تذنيب » من ان إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل حصول شرطه مجاز على المختار ، لعدم التلبس فعلا بالوجوب. نعم إذا كان بلحاظ حال التلبس يكون حقيقة (2).

وهكذا بناء على مختار الشيخ ، ولو بدون لحاظ حال حصوله لفعلية التلبس على اختياره (3).

واما الصيغة مع الشرط : فاستعمالها حقيقي على القولين ، لأنها مستعملة على مختار الشيخ في الطلب المعلق أعني شخص الطلب الموضوعة له. وعلى المختار في الطلب المقيد ، ولكن نحو تعدد الدالّ والمدلول ، إذ الدلالة على التقيد بدال آخر وهو القيد.

وأنت إذا لاحظت ما جاء في الكفاية مما عرفته ، تعرف انه بيان لأمر لا أثر له أصلا لا عمليا ولا علميا ، فسواء كان الاستعمال حقيقيا أو مجازيا لا يختلف

ص: 153


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /99- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /100- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /45- 46 - الطبعة الأولى.

الأثر ، وليس هذا البحث بحث علمي. فتدبر.

التقسيم الثاني : انقسامه إلى المعلّق والمنجّز.

وهو الّذي ابتكره صاحب الفصول ، والّذي أفاده في بيان المراد من كل منهما هو : ان المنجز ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور ، كالمعرفة. والمعلق ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له ، كالحج ، فان الوجوب يتعلق به في أول أزمنة الاستطاعة أو خروج الرفقة ، لكن فعله يتوقف على مجيء وقته وهو غير مقدور للمكلف كما هو واضح (1).

وقد أنكر الشيخ رحمه اللّه هذا التقسيم (2).

ووجّه صاحب الكفاية إنكاره : بان الواجب المعلق الّذي ذكره صاحب الفصول هو بعينه الواجب المشروط بالمعنى الّذي اختاره الشيخ ، فليس للمعلق معنى معقول في قبال المشروط ، ثم ذكر قدس سره : ان إنكار الشيخ في الحقيقة يرجع إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور له الّذي اختاره صاحب الكفاية ، لا إلى إنكار الواجب المعلق بالمعنى الّذي فرضه صاحب الفصول.

وبتعبير آخر : انه لم ينكر واقع الواجب المعلق الّذي فرضه صاحب الفصول ، وانما أنكر تسميته بالمعلّق بعد ان أطلق عليه المشروط (3).

وقد تصدى البعض إلى بيان ان إنكار الشيخ يرجع واقعه إلى إنكار الواجب المعلق بواقعه لا بلفظه ، وأن ما ذهب إليه الشيخ من معنى الواجب المشروط يختلف عن معنى الواجب المعلق الّذي فرضه صاحب الفصول (4).

ص: 154


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /79- الطبعة الأولى.
2- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /51- 52 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /101- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
4- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.

وحيث انه لا يرجع إلى ثمرة عملية فلا ملزم لنا للبحث عن ذلك.

وانما نوقع الكلام في أصل الواجب المعلق ، وأنه هل يمكن تحققه أو لا يمكن.

وقبل ذلك لا بد ان تعرف ثمرة هذا التقسيم ، لأنه في الحقيقة تقسيم للواجب المطلق.

والّذي ادعاه صاحب الكفاية : عدم الثمرة ، وذلك لأن ما رتبه على وجود الواجب المعلق من فعلية وجوب المقدمة من آثار إطلاق الوجوب وحاليته لا من آثار استقبالية الواجب. وعليه فلا وقع لهذا التقسيم بعد ان كان بكلا قسميه من الواجب المطلق ، واختلاف أنحاء الواجب لا توجب التقسيم ما لم توجب الاختلاف في الأثر ، وإلاّ لكثرت تقسيماته إلى عدد كبير. وقد عرفت عدم الاختلاف في الأثر (1).

وأورد على صاحب الكفاية : بوجود الأثر المترتب على التقسيم ، وذلك تصحيح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان الواجب ، إذ قد يستشكل في ذلك ، فبدعوى وجود الواجب المعلق يصحح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان ذيها ، إذ مع امتناعه يمتنع وجوبها قبل زمان ذيها ، فالتقسيم لا يخلو من ثمرة تصحح التعرض لذكره والبحث عن خصوصيات اقسامه.

وبعد ذلك علينا ان نعرف امتناع الواجب المعلق وعدمه. فقد ادّعي امتناعه عقلا ، وذكر له وجوه :

الوجه الأول : - ما عن المحقق النهاوندي وقد ذكره في الكفاية - أن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات والآثار ، غير ان الأولى تتعلق بفعل الغير ، والثانية تتعلق بفعل نفس الشخص ، وبما أن الإرادة

ص: 155


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /101- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد ، لأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ، فكذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد وهو فعل الغير.

وعليه ، فيمتنع الواجب المعلق لامتناع تعلق الإرادة الفعلية بأمر متأخر ، لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة ، وهو ممتنع.

وقد تفصى عنه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة : -

الأول : إنكار امتناع انفكاك المراد عن الإرادة التكوينية ، وعدم امتناع تعلق الإرادة التكوينية بأمر استقبالي ، فانه من الواضح أنه قد يكون ما تعلق به الشوق مما يحتاج إلى مقدمات كثيرة كطي المسافات ونحوه ، ولا يخفى ان فعل هذه المقدمات لا يكون له إرادة استقلالية ، بل يتبع إرادة الوصول إلى المكان المقصود ، بحيث لو لا إرادته لما تعلقت بالمقدمات إرادة ، فقد تعلقت الإرادة بالأمر الاستقبالي بدليل الانبعاث نحو فعل المقدمات بلا أن تتعلق بها إرادة استقلالية ، بل إرادة تبعية مترشحة عن إرادة ذيها فعلا.

الثاني : ان المقصود من تعريف الإرادة بأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد الموهم لامتناع تعلقها بالمتأخر زمانا لامتناع تحريك العضلات نحوه ، ليس ما هو الظاهر من إرادة التحريك الفعلي ، بل المراد منه تحديد مرتبة الشوق الّذي يسمى بالإرادة ، وانه هو الحدّ الخاصّ الّذي يستتبع التحريك شأنا لا فعلا ، لإمكان ان يتعلق الشوق فعلا بأمر استقبالي غير محتاج إلى تمهيد مقدمة ، ويكون الشوق المتعلق به أقوى وآكد مما تعلق بأمر فعلي ، بحيث يستتبع التحريك فعلا.

الثالث : انه لو سلم عدم إمكان انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد ، فالحال في الإرادة التشريعية يختلف عنه في التكوينية ، إذ الطلب لا بد وان يتعلق بما هو متأخر ، وذلك لأن الطلب والأمر انما يكون لجعل الداعي وإحداثه في نفس

ص: 156

المكلف نحو المأمور به ، ولا يخفى ان حدوث الداعي يتوقف على بعض المقدمات ، كتصور العمل بما يترتب عليه من مثوبة وعلى مخالفته من عقوبة ، وهذا مما لا يمكن أن يتحقق إلا بعد البعث بزمان ولو قليلا جدا ، فالبعث يتعلق بالأمر المتأخر عنه دائما ، وإذا لم يستحل ذلك مع قصر الزمان فلا يستحيل أيضا مع طوله ، وذلك لأن ملاك الاستحالة والإمكان لا يختلف فيه الحال بين قصر المدة وطولها بعد انطباق الموضوع عليها ، وهو انفكاك المراد عن الإرادة التشريعية ، فإذا فرض ان الانفكاك قهري ولا يرى العقل مانعا فيه فطول الزمان وقصره لا يوجب اختلاف الحال فيه فتدبر (1).

وقد نوقش في الوجه الأول : بان ما ذكر شاهدا لتعلق الإرادة بما هو متأخر لا يصلح للاستشهاد به. وذلك لأن الشوق إلى المقدمة بما أنها مقدمة وان لم يحصل إلا بتبع الشوق المتعلق بذيها ، إلا أن الشوق المتعلق بذيها لم يبلغ حدّ الإرادة لعدم وصوله حدّ التحريك والباعثية لتوقف حصوله على المقدمات ، بخلاف الشوق إلى المقدمة فانه لا مانع من وصوله إلى حدّ التحريك والباعثية ولذا يكون إرادة ، فإرادة المقدمة غير تابعة لإرادة ذي المقدمة ، كيف؟ وإرادة ذي المقدمة غير متحققة ، بل الشوق إلى المقدمة تابع للشوق إلى ذي المقدمة ، وهو كاف في التحريك لعدم المانع. فالتبعية في أصل تعلق الشوق لا في حدّه ووصوله إلى مرحلة الباعثية (2).

كما انه نوقش الوجه الثاني : بان (3) المراد من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات ليس ما استظهره صاحب الكفاية ، من انه بيان لمرتبة الشوق وان لم يكن محركا بالفعل ، بل المراد هو الشوق المحرك فعلا وغيره لا يسمّى

ص: 157


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /102- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 186 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 185 - الطبعة الأولى.

إرادة وان بلغ ما بلغ ، وقد أقيم على ذلك البرهان من كلام أهل الفن ، والبحث فيه ومعرفة الحقيقة من كلامهم وأدلتهم خارج عن الأصول ، وانما الّذي نقوله دليلا على عدم تمامية كلام صاحب الكفاية ، وان الإرادة هي الشوق المحرك للعضلات فعلا هو ما يلمسه وجدان كل أحد من أنه قد يحصل الشوق إلى شيء فيستتبع تحريك عضلاته نحوه ويعدّ إرادة ، ويحصل شوق آكد منه بمراتب إلى شيء آخر من دون استتباع لتحريك العضلات لوجود المانع ولا يعدّ إرادة ، فالشوق إلى الاستجمام مثلا غير المحرك للعضلات لعدم وجود المال الكافي آكد بمراتب من الشوق إلى قراءة كلمة يستتبع تحريك العضلات. ومن الواضح أن الثاني يعدّ إرادة دون الأول ، وهذا دليل على عدم كون أخذ تحريك العضلات في تعريف الإرادة لتحديد مرتبة الشوق الّذي يكون إرادة ، ولا لكان إطلاق الإرادة على الشوق الأول أولى. فلاحظ.

واما الوجه الثالث : فقد نوقش بوجهين : أحدهما : ذكره المحقق الأصفهاني (1). والآخر : ذكره المحقق النائيني (2) ، إلا ان ما ذكراه لا يرجع في الحقيقة إلى منع ما أفاده صاحب الكفاية في نفسه ، وعدم توجهه على المحقق النهاوندي ، بل مرجع ما ذكراه إلى منع ورود كلام صاحب الكفاية وعدم تماميته على كل من الوجه الّذي أفاده كل منهما في بيان استحالة الواجب المعلق. فهو ليس في الحقيقة منعا لكلام صاحب الكفاية ، بل هو منع لتوجهه عليهما في ما يفيده كل منهما في بيان الاستحالة ، وانه أجنبي عن منع الاستحالة بالوجه الّذي يفيده كل منهما.

ولأجل ذلك نؤجل بيانه إلى ان تصل النوبة إلى ذكر ما أفاده كل منهما

ص: 158


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 186 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 136 - الطبعة الأولى.

في وجه استحالة الواجب المعلق.

هذا ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.

اما ما يربط بأصل الوجه الّذي ذكره المحقق النهاوندي في منع الواجب المعلق ، فالحق عدم تماميته فان الإرادة التشريعية ليس كالإرادة التكوينية مما يستحيل انفكاكها عن متعلقها ، لأن متعلقها فعل الغير وهو ليس بإرادي للمريد بل للغير ، وانفكاك فعل الغير عن الإرادة التشريعية أمر متحقق بالبداهة كموارد العصيان وعدم الإطاعة ، نعم الإرادة التشريعية إنما تستتبع طلب الفعل من الغير - الّذي هو فعل المريد - وهو غير منفك في الواجب المعلق لصدور الطلب والإيجاب من المولى.

وبالجملة : ما يمتنع انفكاكه عن الإرادة التشريعية إنما هو الطلب لا نفس فعل الغير ، فان انفكاكه بديهي التحقق ، والمفروض تحقق الطلب بلا انفكاك عن الإرادة التشريعية. فلا يتجه ما أفاده المحقق النهاوندي في وجه المنع.

الوجه الثاني : - وهو ما أفاده المحقق الأصفهاني - ان الأمر والطلب انما هو جعل ما يمكن ان يكون باعثا وداعيا ومحركا للمكلف نحو الفعل ، بحيث يصدر الفعل عن المكلف باختياره بداعي البعث الصادر من المولى ، إذ ما يترتب عليه المصلحة هو الفعل الاختياري للعبد والحصة الخاصة لا مطلق الفعل ولو كان بالقهر والجبر وإذا كانت حقيقة الطلب هو ما يمكن ان يكون باعثا امتنع تعلقه بالأمر الاستقبالي ، إذ مع تمامية جميع المقدمات وانقياد المكلف لأمر المولى لا يمكن انبعاثه نحو الفعل ، فلا يتحقق البعث بنحو الإمكان بالأمر أيضا.

وبتقريب آخر : نقول : ان البعث والانبعاث متضايفان - كالعلة والمعلول - فلا يصدق أحدهما بدون الآخر ، فلا بعث بدون انبعاث ، كما لا انبعاث بدون بعث ، وقد تقرر إن المتضايفين متكافئان في القوّة والفعليّة ، فإذا كان أحدهما فعلي التحقق كان الآخر كذلك ، ويمتنع ان يكون أحدهما متحققا بالفعل والآخر

ص: 159

بالقوة ، وعليه فإذا كان الأمر عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون باعثا فهو بعث بالإمكان ، فلا يتحقق واقعا إلا فيما يمكن تحقق الانبعاث.

وبتعبير آخر : أن الأمر إذا كان بعثا بالإمكان لزم تحقق الانبعاث بالإمكان عند تحققه لمكان التضايف. ففي المورد الّذي لا يتحقق الانبعاث الإمكاني لا يصدق البعث الإمكاني أيضا المساوق لعدم الأمر. وموردنا من هذا القبيل ، فانه مع تعلق الأمر بالفعل الاستقبالي لا يمكن الانبعاث نحوه في فرض حصول جميع مقدماته ، وإذا لم يتحقق الانبعاث إمكانا لم يتحقق البعث بالإمكان ، وهذا يرجع إلى عدم تحقق الأمر لأن حقيقته ليس إلا جعل ما يمكن أن يكون باعثا.

ومن هنا ينقدح : ان ما أورده صاحب الكفاية على المحقق النهاوندي من تحقق انفكاك المأمور به عن الأمر وتأخره في الوجود في مطلق الأوامر ، فلا محيص عن الالتزام بالواجب المعلق.

ليس بوارد على ما بيّن من وجه الاستحالة ، إذ ليس المحذور انفكاك تحقق الفعل خارجا عن الأمر ، بل المحذور هو انفكاك الانبعاث عن البعث ، وقد عرفت أن المراد من الانبعاث هو الانبعاث إمكانا لا خارجا ، فانه هو طرف التضايف لا الانبعاث الخارجي.

وعليه ، فإذا كان الأمر متعلقا بأمر فعلي كان الانبعاث ممكنا في كل وقت يفرض الانقياد فيه دون ما إذا تعلق بأمر استقبالي على ما عرفت ، وتأخر الانبعاث الخارجي عن الأمر غير ضائر ، لأنه ليس بطرف التضايف.

وعليه ، فلا يشترك الأمر بالفعل الحالي والأمر بالفعل الاستقبالي فيما هو ملاك الاستحالة ، لحصول الانبعاث إمكانا في الأول دون الثاني. فلا يتجه إيراد صاحب الكفاية (1).

ص: 160


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 186 - الطبعة الأولى.

ومن هنا يظهر ما ذكرناه سابقا من : أن مناقشة المحقق الأصفهاني لصاحب الكفاية في الوجه الثالث لا ترجع في الحقيقة إلى منعه في نفسه ، بل إلى بيان أنه غير مصحح ورافع لمحذور الواجب المعلق الّذي ذكره هو قدس سره ، لابتنائه على الالتزام بالتضايف بين البعث والانبعاث ، وكلام الكفاية أجنبي عنه.

والإنصاف ان ما التزم به من أن حقيقة الأمر جعل ما يمكن ان يكون باعثا وداعيا ، بلا وجه ملزم - وان تمّ ما رتبه عليه من استحالة الواجب المعلق - ، بل يمكننا الالتزام بأن حقيقة الأمر إنما هي جعل ما يقتضي الداعوية والبعث ، بمعنى جعل ما يمكن له اقتضاء الداعوية والتأثير فيها. ومن الواضح أن وجود المانع من تأثير المقتضى في مقتضاه سواء كان المانع من الخارج ، أو لأجل عدم قبول المحل ، لا ينافي كونه مقتضيا ، فالنار مقتض للإحراق ولو لم تكن فعلا مؤثرة فيه باعتبار وجود المانع. لأن معنى المقتضي هو ما يكون مؤثرا لو حصلت باقي اجزاء العلة من الشرط وعدم المانع ، فوجود المانع لا يرفع اقتضاء المقتضي ولا ينافيه.

وعليه ، فعدم إمكان الدعوة فعلا والانبعاث عن الأمر في الواجب المعلق لا ينافي كون الأمر مقتضيا للبعث والدعوة ، لأن عدم التمكن ناشئ من وجود المانع ، وعدم قابلية المورد للانبعاث ، وهذا لا يضير في اقتضاء الأمر فليس في مورد الواجب المعلق ما يتنافى مع حقيقة الأمر كي يلتزم بعدم الأمر.

ولعل نظر المحقق العراقي في ما ذكره في مقام الإجابة عن هذا الوجه : بان الأمر وان كانت حقيقته جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، لكنه لا يشترط ان يكون ممكن الدعوة فعلا ، بل يكفي فيه إمكانه ولو في المستقبل (1) ، لعل نظره في

ص: 161


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 310 - الطبعة الأولى.

ذلك إلى ما ذكرناه. فلاحظ.

وبالجملة : الّذي يبدو لنا هو عدم تمامية الوجه الّذي أفاده المحقق الأصفهاني في بيان استحالة الواجب المعلق.

الوجه الثالث : - وهو ما أفاده المحقق النائيني - ان كل قيد لا يكون واجب التحصيل لا بد وان يؤخذ مفروض الوجود بالنسبة إلى الحكم ، بمعنى أن يكون وجود الحكم مترتبا على وجوده كما مرّ تقريبه في مبحث الشرط المتأخر.

وعليه فإذا لم يكن قيد الواجب غير الاختياري كالزمان بواجب التحصيل فهو لا محالة يكون قيدا للحكم بنحو فرض الوجود - لأنه يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة - ، وإذا ثبت ذلك امتنع تحقق الوجوب فعلا قبل حصول ذلك القيد ، لكون المفروض ترتب ثبوت الحكم وتحققه على تحقق ذلك القيد - كما هو مقتضى فرض الوجود - فوجوده قبل وجود القيد يستلزم الخلف.

ويمكن تقريب امتناع الواجب المعلق على بناء المحقق النائيني في باب جعل الأحكام ، وانها مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، وان جميع القيود التي لا يجب تحصيلها تؤخذ بنحو فرض الوجود - يمكن تقريبه - بوجه آخر وهو ان يقال : ان القدرة على المأمور به من شرائط التكليف عقلا ، فإذا فرض تقيد الواجب بقيد غير مقدور كالزمان ، امتنع تعلق الوجوب به قبل حصول قيده ، لأن وجود الحكم يترتب على وجود القدرة على متعلقه لأنها شرطه فتكون مأخوذة بنحو فرض الوجود الّذي عرفت استلزامه لتأخر الحكم عن قيده. فقبل حصول قيد المتعلق وهو الزمان لا قدرة عليه ، ومعه يمتنع تعلق الوجوب به لاستلزامه تقدم الحكم على موضوعه وهو خلف باطل.

ثم انه تصدى لدفع إيراد صاحب الكفاية قدس سره السالف الذّكر بعد بيانه بما محصله : ان تأخر الفعل عن الحكم انما هو في الحكم المجعول بنحو القضية الخارجية ، إذ جعله يكون ابتدائيا وبلا سابقة ، لأنه يرتبط بتشخيص

ص: 162

المولى تحقق موضوع الحكم ، فعند جعل الحكم الفعلي يتصور المكلف ما يترتب على إطاعة الحكم ومعصيته من ثواب وعقاب ، وذلك يستلزم انفكاك الواجب عن الوجوب.

اما بالنسبة إلى الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية - الّذي عرفت ان جعل الأحكام الشرعية كلها بهذا النحو - فتأخر الفعل عن الحكم ليس من الأمور القهرية الضرورية - كي يدعى ان الالتزام بالواجب المعلق ليس بالشيء الجديد المستحدث ، فإن الأحكام كلها تتعلق بأمر متأخر - ، وذلك لأن إنشاء الحكم بنحو القضية الحقيقية يكون سابقا على فعليته ، لتوقف فعليته على حصول شرائطها وقيودها المأخوذة بنحو فرض الوجود ، فيمكن ان يهيئ المكلف نفسه للامتثال قبل فعلية الحكم ، وذلك بتصور ما يترتب على إطاعة الحكم الّذي سيتحقق عند تحقق شرطه من الثواب وعلى معصيته من العقاب إلى غير ذلك مما يكون مقربا للامتثال ، فلا ينتظر العبد بعد ذلك إلا صيرورة الحكم فعليا لينبعث نحو متعلقه بلا تأخر.

وبالجملة : ما يدعى : من ان انفكاك الفعل عن الحكم أمر سار في جميع الأحكام ، وانه امر تقتضيه طبيعة الحكم وواقعه ، فلا خصوصية للمتعلق من هذه الجهة كي يدعى امتناعه. مندفع : بما عرفت من عدم سرايته بعد فرض كون جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، لإمكان اتصال الحكم مع الفعل بلا انفكاك.

لا نقول : بان عدم الانفكاك بين الحكم ومتعلقه لا يتحقق دائما بناء على جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، إذ يمكن ان يتحقق الانفكاك بداهة ، إذ قد لا يكون الشخص عالما بالحكم قبل حصول الشرط وانما يعلم به بعد ذلك ، فيحدث في نفسه التهيؤ للامتثال بعد حصول الحكم وفعليته.

وانما الّذي نريد ان نقوله : هو ان الانفكاك الحاصل ليس امرا دائميا

ص: 163

تقتضيه طبيعة الحكم وملاك جعله ، بتقريب انه لجعل الداعي وهو متأخر قهرا عن جعل الحكم لكي ينتهي من ذلك إلى جواز الواجب المعلق. فالحكم بطبيعته لا يتعلق بالأمر المتأخر دائما ، بل التأخر ينشأ من العوارض الخارجية ، وهذا لا يعني تعلق الحكم بأمر متأخر عنه الّذي يحاول المدعي إثباته كي يصل إلى إثبات دعواه من عدم استحالة الواجب المعلق. فلاحظ (1).

ومن هنا يتضح لك ان ما أفاده لدفع الوجه الثالث الّذي ذكره صاحب الكفاية ، وان رجع إلى منعه في نفسه وبيان عدم تماميته ، وبه يختلف عن نحو مناقشة المحقق الأصفهاني فيه ، لأنها لا ترجع إلى منعه في نفسه بتاتا ، لكنه إنما يدفعه في نفسه مبنيا على تقدير خاص وبناء معين ، وهو تقدير الالتزام بكون جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقية ولا يرجع إلى منعه بتاتا على جميع التقادير.

وبتعبير آخر : ان هذا المنع لا يلزم به صاحب الكفاية ، لإمكان ان يدعي نفي كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية.

والّذي يتحصل ان ما ذكره صاحب الكفاية إيرادا على الوجه الّذي ذكره المحقق النهاوندي لم تظهر الخدشة فيه من كلام هذين العلمين ، فوروده محكم.

هذا بالنسبة إلى ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.

واما نفس الوجه الّذي أفاده في بيان استحالة الواجب المعلق من رجوع قيد المتعلق الّذي لا يجب تحصيله إلى الموضوع المأخوذ بنحو فرض الوجود ، فيمتنع وجود الحكم قبله.

فالخدشة فيه تظهر مما تقدم منا من إنكار هذه الكلية التي يتكرر ذكرها في كلامه ، فليس كل ما لا يجب تحصيله يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود ، بل قد عرفت أن القيود على أنحاء ثلاثة : منها : ما يرجع إلى المتعلق. ومنها : ما يكون

ص: 164


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 136 - الطبعة الأولى.

مرتبطا بالحكم بنفسه ، كالزمان فان نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف ومنها : ما لا ارتباط له بالحكم بنفسه أصلا. وعرفت ان ما يحتاج إلى أخذه مفروض الوجود هو النحو الثالث فقط دون مثل الزمان وقيود المتعلق ، إذ لا وجه يقتضي فرض الوجود فيهما ، وليس فرض الوجود امرا مدلولا لدليل شرعي كي يتمسك بإطلاقه.

وعليه ، فالقيد الّذي علق عليه الواجب - في الواجب المعلق - وان لم يجب تحصيله إلا أنه ليس مأخوذا في الموضوع بنحو فرض الوجود ، لأنه من قيود المتعلق التي لا تؤخذ كذلك ، على ما تحقق ، وإذا لم يتقيد بها الوجوب لم يمتنع أن يوجد قبلها ، فيكون الوجوب حاليا والوجوب استقباليا.

ودعوى : ان ما لا يجب تحصيله يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، فيكون ذلك ملاكا لأخذه في موضوع الحكم ومفروض الوجود (1).

مندفعة : فانه لا ملازمة بين ما لا يجب تحصيله وبين دخالته في الاتصاف بالمصلحة ، بل يمكن أن يكون الأمر غير الاختياري الّذي لا يجب تحصيله في وجود المصلحة وفعليتها ، كما لو كان الدواء غير نافع للمريض إلا في استعماله في وقت خاص كوقت النوم ونحوه. فان الوقت الخاصّ غير دخيل في الاتصاف بالمصلحة ، بل في وجودها وفعليتها ، فيكون ما تترتب عليه المصلحة هو الحصة المقيدة به ، فيتعلق به التكليف فعلا ، فالطبيب يأمر فعلا بشرب الدواء ليلا وعند النوم.

وعليه ، فيمكن ان يكون القيد المأخوذ في الواجب المعلق من هذا القبيل ، ويكون ما يترتب عليه المصلحة هو الحصة الخاصة المقيدة به ، مع عدم لزوم تحصيله لعدم اختياريته. فيتعلق به الوجوب فعلا لتحقق ملاكه. فلاحظ جيدا.

ص: 165


1- كما عن المحقق النائيني قدس سره .

الوجه الرابع : وهو ما أشار إليه في الكفاية ان القدرة على العمل من شرائط التكليف عقلا ، فيكون الوجوب معلقا على تحققها ، وهي في الواجب المعلق غير متحققة في ظرف الوجوب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه ، فيكون الوجوب قد تحقق قبل تحقق شرطه ، وأخذ الشرط القدرة في وقت الامتثال مرجعه إلى أخذها بنحو الشرط المتأخر. وهو ممنوع (1).

ومن هنا يظهر ان ما ذكره صاحب الكفاية في الجواب عن هذا الوجه : بان القدرة وان كان شرطا للتكليف ، لكنها القدرة في ظرف الامتثال لا في ظرف الأمر ، غاية الأمر تكون مأخوذة بنحو الشرط المتأخر.

لا يفي بالمطلوب على جميع التقادير ، لإنكار الشرط المتأخر من قبل بعض كما قرر في نفس الوجه ، فالالتزام بالشرط المتأخر لا يدفع الإيراد.

فالتحقيق ان يقال : ان إطلاق الشرط على القدرة لا يراد منه شرطية القدرة بالمعنى الفلسفي للشرط ، وهو ما كان دخيلا في تحقق المشروط ومن اجزاء العلة ، بل يراد منه شرطيتها بمعنى مصحح التكليف والموجب لخروجه عن اللغوية فلا يمتنع تأخرها عن الحكم ، نظير ما يقال : ان ترتب الأثر على الأصل شرط اعتباره وجريانه ، مع ان ترتب الأثر عليه متأخر رتبة عنه لا سابق عليه. وقد ذكرنا - هذا المعنى في مبحث التعبدي والتوصلي فراجع (2) -.

وعليه ، فإذا لم تكن القدرة دخيلة في التأثير كي تؤخذ في الموضوع ويمتنع تأخرها عن الحكم ، بل كانت دخيلة في تصحيح العمل من الحكيم بحيث يخرج عن اللغوية - ولذا كانت شرطا في التكليف الصادر من الحكيم لا غيره - يكتفى منها بالقدرة على الواجب في ظرف الامتثال ليمكن الانبعاث نحوه وإتيانه ، ولا

ص: 166


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /103- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- راجع 1 / 416 من هذا الكتاب.

يضير تأخرها عن أصل الوجوب لعدم أخذها في موضوعه ، وليست نسبتها إليه نسبة جزء العلة إلى المعلول.

والّذي يتحصل ان ما ذكر من الوجوه لبيان استحالة الواجب المعلق غير واف في إثبات استحالته ، فهو أمر ممكن ثبوتا ولا محذور فيه ظاهر. بل قيل : انه بالإضافة إلى إمكانه ثبوتا واقع إثباتا ، فلا يتجه إنكاره ، وذلك في موارد ثلاثة :

الأول : الواجبات التدريجية المقيدة بالزمان كالصوم ، فان الوجوب متعلق بالجزء الأخير من الإمساك ، وهو الإمساك في الجزء الأخير من النهار - متعلق به - من أول الفجر. ونظير الصلاة من أول الوقت ، فان الوجوب متعلق بآخر جزء منها المقيد بمضي زمان جميع الأجزاء السابقة عليه - متعلق به - من حين دخول الوقت ، لأن المفروض وحدة الوجوب والواجب في كلا الموردين فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب.

الثاني : الواجبات التدريجية غير المقيدة بزمان معين كالصلاة أثناء الوقت ، فان الوجوب يتعلق بالجزء الأخير منها من حين الابتداء بها.

الثالث : الواجبات التي يكون لها مقدمات يتوقف عليها حصولها ، إذ الوجوب متعلق بالواجب قبل الإتيان بمقدماته ، مع انه لا يمكن الإتيان به قبلها ، فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب وهو الواجب المعلق الّذي يدّعى امتناعه.

وهذه الأمور كما تذكر لبيان تحقق الواجب المعلق خارجا ، تذكر في مقام النقض على من يلتزم باستحالة الواجب المعلق ببيان : ان وقوع مثل ذلك خارجا ينافي دعوى استحالة الواجب المعلق.

وقد تصدى المحقق النائيني إلى التفصي عن هذه النقوض ، وبيان عدم المنافاة بين دعوى استحالة الواجب المعلق وتحقق مثل هذه الموارد ، بعد ان أوردها نقضا على دعوى استحالة الشرط المتأخر أيضا. ببيان : ان وجوب

ص: 167

الإمساك في أول الفجر مشروط ببقاء شرائط التكليف إلى آخر الوقت ، فإذا انتفى أحدها في الأثناء يكشف عن عدم تحقق الوجوب من أول الوقت.

وعليه ، فالتكليف بالإمساك من أول الوقت مشروط ببقاء شرائط التكليف إلى الغروب. فتحقق الشرائط في آخر الوقت متأخر زمانا عن تحقق التكليف مع انه شرطه ، وهكذا الحال في الصلاة أول الوقت ، لأن وجوبها أول الوقت مشروط ببقاء شروطها إلى مقدار أربع ركعات بعد أول الوقت ، وهو شرط متأخر.

هذا بالنسبة إلى النقض بالمورد الأول.

واما ما أفاده في مقام التفصي عن كلا النقضين فتوضيحه :

اما النقض بالمورد الأول على دعوى امتناع الشرط المتأخر ، فحلّه : انه بعد ان عرفت استحالة الشرط المتأخر عقلا ، فلا بد من الالتزام بان الشرط في مثل المورد الّذي دل الدليل فيه على أخذ المتأخر شرطا ليس هو نفس الأمر المتأخر ، بل العنوان المنتزع عن وجوده في ظرفه كعنوان التعقب ، إذ قد عرفت ان الالتزام بذلك في بعض الموارد لا محيص عنه ، فانه فيه جمعا بين الحكم العقلي باستحالة الشرط المتأخر وظاهر الدليل الّذي أخذ فيه المتأخر شرطا ، فيكون الشرط في الحقيقة في المورد هو بالنسبة إلى كل جزء من اجزاء العمل التدريجي هو الحياة المقارنة المسبوقة والملحوقة بمثلها ، فان عنوان السبق واللحوق أمر مقارن للجزء.

واما النقض به على دعوى امتناع الواجب المعلق فحلّه : ان الواجب وشرطه إذا كانا تدريجيين كانت فعلية الوجوب تدريجية أيضا ، وذلك لأن فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فبعد ان كان الشرط تدريجي الحصول كانت فعلية الحكم تدريجية أيضا بتدريجية الشرط. وعليه فلا يكون التكليف المتعلق بالجزء الأخير فعليا من أول الوقت ، بل يصير فعليا عند حصول الشرط في ظرفه ، ولا

ص: 168

منافاة بين تدريجية الحكم ووحدته ، كسائر الأمور التدريجية التي تتصف بالوحدة (1).

ثم انه قد يتساءل عن شيء وهو : ان المحقق النائيني رحمه اللّه ذهب إلى استحالة الواجب المعلق من جهة رجوعه في الحقيقة إلى الشرط المتأخر الّذي بنى على امتناعه.

وعليه ، فكان من السهل عليه ان يدفع النقض المذكور على كلتا دعوييه - أعني دعواه امتناع الشرط المتأخر ، ودعواه امتناع الواجب المعلق - بوجه واحد وهو : الالتزام بكون الشرط وما علق عليه الوجوب هو العنوان المنتزع ، فتنحل كلتا جهتي النقض. فما هو الوجه في العدول في مقام حل النقض على دعوى امتناع الواجب المعلق عن الوجه الّذي ذكره في حل النقض عن دعوى امتناع الشرط المتأخر وهو الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب المنتزع؟!.

والجواب عن هذا السؤال : بان الشرط المأخوذ في موضوع التكليف بالجزء الأخير ، بل غيره من الاجزاء ، هو القدرة عليه ، ومن الواضح ان العقل إنما يحكم بشرطيتها نفسها بملاك تقوم التكليف بها ، لأنه تحريك لقدرة العبد على الفعل ، دون العنوان المنتزع عن وجودها في ظرفها ، فوجوب الإمساك في آخر النهار مقيد بنفس القدرة عليه لا بالقدرة على غيره من الاجزاء اللاحقة للقدرة عليه. فان العقل يحكم بان متعلق الحكم لا بد وان يكون مقدورا ، فنفس القدرة مما يحكم بشرطيتها العقل.

فلا محيص في حل النقض إلا بما عرفت من دعوى عدم فعلية الحكم قبل فعلية القدرة على الجزء.

نعم القدرة على الاجزاء السابقة أو اللاحقة ليس مما يحكم العقل

ص: 169


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 145 - الطبعة الأولى.

بشرطيتها ، لتعلق التكليف بالجزء المسبوق والملحوق ، بل هي من الشرائط الشرعية - بمقتضى وحدة الواجب وارتباطيته - ، فيمكن أن يفرض كون الشرط هو العنوان المنتزع كما عرفت ، فيتخلص به عن محذور امتناع الشرط المتأخر.

وهكذا الحال في شرطية الحياة للتكليف بالجزء ، فان الحياة في وقت العمل شرط للتكليف لتقوّم التكليف بها لأنه توجه الخطاب إلى الحي ، فلا يكفي فيها العنوان المنتزع عن وجودها في الزمان اللاحق ، بل نفس الحياة في ظرف الجزء الأخير شرط تعلق التكليف.

واما ما ذكره في مقام التخلص عن النقض بالمورد الثاني فهو : ان العمل إذا لم يكن مقيدا بقيد غير مقدور كالزمان يكون مقدورا ولو بالواسطة ، وعليه فالجزء الأخير وان كان متأخرا في وجوده ، إلاّ انه لما كان مقدورا عليه فعلا بالقدرة على الإتيان بالاجزاء السابقة صح تعلق التكليف به فعلا لأنه مقدور عليه بالواسطة ، فمحذور الواجب المعلق وهو تعلق التكليف بما هو مقيد بغير المقدور كالزمان المستلزم لأخذ القدرة بنحو الشرط المتأخر غير متحقق هاهنا ، لأن التكليف متعلق بالمقدور فعلا.

ومن هنا يظهر التفصي عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة ، فانها مقدورة فعلا بالقدرة على مقدماتها ، فلا مانع من تعلق التكليف فعلا بها ، إذ الشرط وهو القدرة متحقق فعلا. كما أنه لم يقيد الواجب بقيد لا بد وأن يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود كالزمان - كما هو المفروض - فكلا المحذورين في الواجب المعلق منتفيان في كلا الموردين.

وقد تفصى المحقق الأصفهاني قدس سره عن النقض بالواجبات التدريجية مطلقا - المقيدة بالزمان وغيرها - بعين ما تفصى به المحقق النائيني عن النقض بالواجبات التدريجية المقيدة بالزمان من : الالتزام بتدريجية فعلية الحكم بتدريجية حصول الشرط من دون منافاة ذلك لوحدة الحكم والشرط ، كما هو

ص: 170

الحال في سائر الأمور التدريجية المتصفة بالوحدة.

ولكنه تفصى عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة بوجه آخر وهو : الالتزام بان التكليف بذي المقدمة قبل الإتيان بالمقدمة لا يكون فعليا وان تعلق به الشوق ، لوجود المانع عن فعليته ومحركيته. واما التكليف بالمقدمة فهو فعلي لترشح الشوق عليها من الشوق المتعلق بذيها ، والمفروض انه لا مانع من محركية الشوق المتعلق بها فيتعلق بها الطلب الفعلي.

وبالجملة : يلتزم المحقق الأصفهاني بفعلية البعث نحو المقدمة دون البعث نحو ذيها ، وانما التلازم بينهما في تعلق الشوق ، فان تعلقه بذي المقدمة ملازم لتعلقه بها (1).

والّذي يتحصل : ان هذه الموارد الثلاثة لا تصلح نقضا على من يلتزم باستحالة الواجب المعلق ، لإمكان حلّه بوجه معقول ثبوتا ، فيلتزم به إثباتا ، جمعا بين الحكم العقلي باستحالة الواجب المعلق ودلالة الدليل الشرعي على هذه الموارد.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان أنهى الكلام عن إمكان الواجب المعلق ، تعرض إلى تحديد الوجوب المقدمي والمقدار الواجب من المقدمات - بيانا لثمرة الواجب المعلق - ، وهذا كما لا يخفى يبتني على مقدمتين :

الأولى : بيان نحو الوجوب النفسيّ الّذي يكون قابلا لأن يترشح منه الوجوب الغيري فعلا.

الثانية : بيان المقدمة القابلة لترشح الوجوب.

فقوله قدس سره : « ثم لا وجه لتخصيص المعلق ... » لتحقيق المقدمة الأولى ، وتوضيح ما أفاده : ان الملاك في الواجب المعلق حيث كان فعلية الوجوب

ص: 171


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 187 - الطبعة الأولى.

وحاليته مع استقبالية الواجب الّذي يقصد منه ثبوت وجوب المقدمات فعلا ، لم يتجه تخصيص الواجب المعلق بما علق على أمر غير مقدور ، كما جاء في الفصول ، بل ينبغي تعميمه إلى كلما علق على أمر متأخر ، سواء كان مقدورا أو غير مقدور ، وسواء كان المقدور المتأخر مما يقبل لترشح الوجوب عليه في ظرف الواجب أو لا يقبل لاشتراك الجميع في كون الوجوب فعليا والواجب استقباليا.

وبذلك يختلف المعلق عن المشروط ، لعدم فعلية الوجوب في المشروط قبل وجود الشرط إلا في صورة واحدة ، وهي أن يكون الشرط مأخوذا بنحو الشرط المتأخر وفرض حصوله في ظرفه ، فيعلم بتحقق الوجوب فعلا فيترشح منه الوجوب الغيري (1).

وبذلك يكون الوجوب القابل لأن يترشح منه الوجوب الغيري فعلا أنواع ثلاثة :

الأول : الوجوب المنجّز.

الثاني : الوجوب المعلق بالنحو الّذي عمّمه صاحب الكفاية.

الثالث : الوجوب المشروط بالشرط المتأخر مع فرض حصول الشرط.

ولا يخفى أن ما ذكره استدراكا على تخصيص صاحب الفصول الواجب المعلق بما علق على أمر غير مقدور بتعميمه إلى كل ما يؤخذ قيدا للواجب في ظرف متأخر ولو كان مقدورا. لا وجه له.

وذلك لأن الأمر المقدور الّذي علّق عليه الواجب اما أن يعلق عليه الواجب بلا قيد تأخره ، بل مطلقا ولو كان فعلا ، فهذا لا يرجع إلى الواجب المعلق بل يكون واجبا منجزا. واما ان يقيد الأمر بالزمان المتأخر ويؤخذ قيدا للواجب بهذا القيد - كما هو ظاهر العبارة - ، فيخرج عن كونه مقدورا لتقيده بما

ص: 172


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /103- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هو غير مقدور وهو الزمان ، فيندرج في ما أفاده صاحب الفصول من ان الواجب المعلق ما علق على أمر غير مقدور إلا أن يكون الإيراد على صاحب الفصول لفظيا بان يقال له : بأنه ينبغي تعميم الواجب المعلق لما علق على أمر غير مقدور بنفسه أو بالواسطة ، وإلاّ فكل ما يعلق عليه الواجب بقيد التأخر يكون غير مقدور لتقيده بما هو غير مقدور. فتدبر.

واما ما أفاده في الواجب المشروط من أنه إذا علق على شرط متأخر وفرض حصوله في ظرفه كان الوجوب فعليا قبل حصول الشرط. فقد يدعى عدم خلوّه من المسامحة ، وذلك ببيان : ان صاحب الكفاية التزم بأن حقيقة شرط الحكم ليس إلاّ الوجود العلمي للأمر الخارجي من دون دخل لنفس الخارج في ثبوت الحكم ، لاستحالة ذلك بعد أن كان الحكم فعلا إراديا للحاكم.

وعليه ، فالحكم يدور مدار تصور المولى وإحرازه وجود الشرط خارجا ، سواء طابق إحرازه الواقع أو لم يطابق. فلا وجه حينئذ لتوقيف فعلية الوجوب المشروط على حصول الشرط المتأخر في ظرفه ، بل فعليته تدور مدار لحاظ المولى للشرط سواء تحقق خارجا أو لم يتحقق ، نعم في مثل شرائط المأمور به يتجه هذا الأمر ، باعتبار أنه جعل الأمر الخارجي طرفا للإضافة والتقيد ، فلا بد من فرض وجوده خارجا كي يعلم بتحقق الإضافة والتقيد.

وبالجملة : لما كان شرط الحكم حقيقة هو الوجود العلمي ، وهذا لا يتوقف على تحقق مطابقة خارجا ، لم يكن وجه لما أفاده صاحب الكفاية في المقام.

والإنصاف ان هذا لا يرد على صاحب الكفاية. كما لا يرد عليه ان الالتزام بالواجب المشروط مطلقا ينافي ما قرّره من ان شرط الحكم هو الإحراز لا نفس المحرز ، إذ بعد تبعية الحكم للصور الذهنية فلا معنى لتعليقه على تحقق شيء خارجا ، بل الأحكام اما موجودة من الأزل لتحقق لحاظ الشرط أزلا أو غير موجودة

ص: 173

من الأزل لعدم تحققه من الأزل. كما أشار إليه الشيخ (1) في تقريب رجوع الشرط إلى المادة لا الهيئة ، إذ امر الإرادة دائر بين الوجود والعدم لتبعيته للصور الذهنية واللحاظات.

وجه عدم ورود الإيراد الأول : أن الحكم المترتب على موضوع معين لا بد وان يحرز في موضوعه المعين وجود ملاكه والمصلحة الداعية إليه.

وعليه ، فإذا كان الحكم شخصيا مرتبا على فرد معين من الافراد كان جعل الحكم منوطا بإحراز المولى وجود الملاك في هذا الفرد الموضوع ، فإذا أحرز المولى ان زيدا محصل لما هو ملاك الحكم أمر بالشيء الكذائي ، ولا يضير في ذلك عدم مطابقة إحرازه لما هو الواقع ، إذ الحكم يناط بالإحراز والعلم بوجود شرط الملاك ، سواء طابق الواقع الخارجي أو لم يطابق. واما إذا كان الحكم كليا مرتبا على طبيعة بلا لحاظ خصوصية افرادها ، كان جعل الحكم منوطا بإحراز المولي وجود الملاك في الموضوع الكلي لا غير ، فعليه أن يحرز أن هذا الكلي مما يترتب عليه الملاك وليس عليه أن يحرز تحقق الملاك في افراده ، إذ الحكم ليس على كل فرد بعنوانه الخاصّ ، بل على كل فرد بعنوان الكلي. ولا فرق بين الحكم الشخصي والكلي في لزوم إحراز الملاك في موضوعه ، وانما الفرق ان الحكم الشخصي يستدعي إحراز تحققه في الفرد - لأنه موضوع الحكم - ، والحكم الكلي لا يستدعي إحراز تحققه في الفرد ، بل في الكلي فقط.

فعلى هذا فإذا أحرز المولى ان وجود شيء بعد حين دخيل في ثبوت الملاك فعلا في الشيء وكان هناك جماعة افراد أحرز المولى تحقق الشرط فيهم وجّه إليهم الخطاب شخصيا ، فيقول مثلا : « يجب عليكم كذا ». واما إذا لم يحرز وجود الملاك فيهم أجمع ، بل أحرزه في بعضهم ولم يحرزه في بعض آخر وأحرز عدمه في

ص: 174


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /52- الطبعة الأولى.

بعض ثالث ، فلا يمكن توجيه الخطاب إليهم شخصيا بإنشاء واحد ، بل لا يسعه إلا ان ينشئ الحكم على الموضوع الكلي ، وقد عرفت أنه لا يستدعي سوى إحراز كون العنوان محصلا للغرض وملاك الحكم بلا نظر إلى الافراد ، فإذا أحرز ان الاستطاعة بوجودها المتأخر محصلة للملاك ، ولم يحرز تحقق الاستطاعة في بعض الأشخاص ، أنشأ الحكم على الموضوع الكلي فيقول : « يجب الحج فعلا على المستطيع بعد حين » ، وبعد هذا يكون أمر تطبيق الموضوع على المكلفين بيدهم لا بيد المولى ، فان وظيفته ليس إلا جعل الحكم على موضوعه ، فمن علم انه يتحقق منه هذا الشرط فقد أحرز انه فرد الموضوع الكلي ، فيحرز ثبوت الحكم له ، وبدونه لا يحرز كونه فردا للموضوع كي يحرز ثبوت الحكم له.

فلا يقال : انه بعد أخذ الإحراز شرطا لا معنى لتقييد ثبوت الحكم بوجود الشرط في ظرفه.

فان هذا إنما يتم في الأحكام الشخصية دون الكلية ، لأنها لا تناط بإحراز تحقق الشرط خارجا ، إذ لا نظر للمولى إلى عالم الخارج ، بل تناط بإحراز دخالة الشرط في الملاك ، فالخطاء انما يتصور في هذا الفرض في دخالة الشرط في الملاك لا في أصل وجود الشرط.

ولا ينافي هذا الالتزام بكون الأحكام منشأة بنحو القضية الخارجية لا الحقيقية ، إذ المنفي هو أخذ الشرط بنحو فرض الوجود وترتيب وجود الحكم على وجوده اما جعل الحكم فعلا على الموضوع الكلي ، وكون أمر تطبيقه بيد المكلف لا بيد المولى ، فلا مانع من الالتزام به ، وهو لا ينافي القضية الخارجية كما في قول القائل : « كل من في الدار عالم » ، ولكنه إذا سئل عن : « أن زيدا كان في الدار أو لا » يجيب لا أدري. مع ان حكمه بنحو القضية الخارجية.

وبالجملة : كون الأحكام الشرعية بنحو الحكم الكلي لا الشخصي ، فلا يكون أمر تطبيق الموضوع بيد المولى بل بيد العبد ، مما يلتزم به صاحب الكفاية

ص: 175

وان رجع إلى القضية الحقيقية ، فانها بهذا المعنى لا ينكرها صاحب الكفاية ، بل المنكر هو أخذ الشيء مفروض الوجود.

ويشهد لما ذكرنا نفس التزامه بالواجب المشروط ، فانه لا يتلاءم الا مع ما ذكرناه.

ومن هنا يتضح الجواب عن الإيراد الثاني ، فان مقدمات الإرادة وان كانت تامة ، إلاّ انه قد يمنع مانع من جعل الحكم ، فإذا أحرز المولى تمامية المصلحة بعدم المانع ينشئ الحكم معلقا على عدم المانع بنحو كلي ويكون التطبيق بيد المكلفين. وقد أشار صاحب الكفاية فيما تقدم إلى هذا الجواب ، وانه قد تتحقق الإرادة بتحقق مقدماتها ، لكن يمنع مانع من جعل الحكم فيعلقه على زوال المانع.

ولا يخفى انه إنما يتم بالتوجيه الّذي عرفته من الحكم على الموضوع الكلي المفروض فيه زوال المانع وإلاّ فمجرد مانعية المانع لا تكفي في رفع الإشكال ، إذ للمستشكل ان يدعي بأنه كما كان إحراز الشرط دخيلا بنفسه دون نفس وجود الشرط ، فكذلك إحراز عدم المانع دون نفس عدم المانع ، لأنه من الخارجيات التي يمتنع تأثيرها في الإرادة ، فإذا أحرز المولى عدم المانع في المستقبل أنشأ الحكم فعلا بلا وجه لتعليقه على زواله.

فالجواب الصحيح ما عرفت من أن ما هو مرتبط بالمولى إحراز تمامية المصلحة بعدم المانع ، لا إحراز تحققه وعدم تحققه ، والملاك في إنشاء الحكم هو الأول دون الثاني. فتدبر جيدا.

هذا كله بالنسبة إلى المقدمة الأولى.

واما المقدمة الثانية : فقد تعرض إليها بقوله : « قد انقدح من مطاوي ... » ، وتوضيح ما أفاده : ان المقدمات بجميعها قابلة لترشح الوجوب عليها إلا أنواع ثلاثة :

الأول : مقدمة الوجوب ، والوجه في عدم قابليتها لترشح الوجوب عليها

ص: 176

ما عرفت من توقف حصول الوجوب على حصولها ، فلو ترشح الوجوب عليها والحال هذه لزم طلب الحاصل وهو محال.

الثاني : المقدمة الوجودية المأخوذة عنوانا للمكلف كالمسافر والحاضر ، فان السفر وان كان مقدمة وجودية لصلاة القصر ، لكنه يمتنع ترشح التكليف عليه ، لأن تعلق التكليف بالفعل لا يتحقق إلا عند تحققه ، لأنه أخذ في موضوع الحكم فلا بد من وجوده في وجود الحكم ، ومع ذلك يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه طلب الحاصل أيضا.

الثالث : المقدمة الوجودية المأخوذة في الواجب بقيد حصولها اتفاقا ، بمعنى ان يكون الواجب هو الفعل المقيد بهذا القيد الحاصل بنحو الاتفاق عن اختياره أو غير اختيار ، لا بالبعث والتحريك نحوه. فان ترشح التكليف عليه قبل حصوله خلف فرض أخذه قيدا إذا حصل بنحو الاتفاق. وبعد حصوله يكون طلبا للحاصل.

فغير هذه الأنواع الثلاثة من المقدمات الوجودية لا مانع من تعلق الوجوب به إذا كان فعليا.

ص: 177

ص: 178

المقدمة المفوتة

وبعد هذا كله يقع الكلام في ثمرة الواجب المعلق ، فقد ادعي : ان ثمرته تصحيح وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان الواجب (1).

ولأجل ذلك ننقل الكلام إلى أصل المقدمات المفوتة وما دار من البحث حولها ، ولو كان أجنبيا عن مبحث الواجب المعلق ، ولكنه يذكر في ذيله لمناسبة له معه كما ستعرفه من طيات الحديث فيها.

فنقول : أنه وقع التسالم على وجوب بعض المقدمات قبل تحقق وقت ذيها إذا لم يتمكن على الإتيان بها بعد حلول وقت ذيها ، وهي موارد :

منها : التسالم على وجوب حفظ الماء قبل الوقت لمن يعلم أنه لا يجده بعد الوقت ، بل قد أفتى البعض بلزوم تحصيل الماء قبل الوقت لو علم انه لا يتمكن منه بعد الوقت.

منها : التسالم على لزوم الغسل للصوم قبل الفجر. فان وقت الواجب متأخر عن وقت وجوب المقدمة.

ص: 179


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /104- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ومنها : الحكم بوجوب حفظ الاستطاعة في أشهر الحج ، مع أنها مقدمة وجوبية ، بل أفتى البعض بلزوم حفظها مطلقا ولو قبل أشهر الحج ، فلا يجوز صرف المال مثلا في غير الحج ، وهكذا الحكم بلزوم تحصيل المقدمات الوجودية قبل وقت الحج ، كالسير مع الرفقة ونحوه.

ومنها : الحكم بلزوم التعلم على الصبي قبل بلوغه إذا علم بفوت الواجب بعد البلوغ لو تركه.

وجهة الاستشكال في هذه الموارد ونظائرها هي : ان الوجوب المقدمي حيث انه وجوب تبعي مترشح عن الوجوب النفسيّ ، فإذا فرض تأخر فعلية الوجوب النفسيّ لتأخر زمان الواجب ، فبأي ملاك تجب المقدمات قبل ذلك مع عدم فعلية الوجوب؟. خصوصا في مثل المقدمات الوجوبية كالاستطاعة.

وبتقريب آخر نقول : ان هذه المقدمات لا بد وان لا تكون واجبة أبدا ، لأنه في حال تمكن منها قبل زمان ذيها لا تجب لعدم فعلية الوجوب النفسيّ ، وبعد زمان ذيها لا يتمكن عليها ، فيسقط الوجوب النفسيّ لعدم القدرة على الواجب. فبأي وجه تصحح الفتوى ويوجه التسالم على وجوب المقدمات في الموارد المذكورة؟.

وقد أطلق على هذا النحو من المقدمات ب- : « المقدمات المفوتة » بلحاظ فوات الواجب بتركها.

وقد تصدى صاحب الكفاية قدس سره إلى تصحيح الفتوى بالوجوب قبل الوقت بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول : الالتزام بالواجب المعلق في هذه الموارد ، فيكون الوجوب فعليا قبل وقت الواجب ، ويكون الواجب استقباليا.

وعليه ، فيصح الحكم بوجوب المقدمة المفوتة قبل الوقت لفعلية الوجوب النفسيّ الّذي هو المناط في الترشح ووجوب المقدمة وان تأخر زمان الواجب.

ص: 180

الوجه الثاني : الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر ، فيلتزم بان الوقت أو غير الوقت من الشروط شرط للوجوب ولكن بنحو الشرط المتأخر ، فإذا علم بحصوله في ظرفه يعلم بفعلية الحكم فعلا قبل حصول الشرط ، فلا مانع من ترشح الوجوب على المقدمات لفعلية الوجوب النفسيّ قبل حصول الشرط ووقت الواجب ، فلا يلزم على كلا الوجهين وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، بل اللازم ليس إلا الإتيان بالمقدمة قبل الإتيان بذيها وهو ليس بمحذور. كيف؟ وذلك شأن غالب المقدمات فانه يؤتى بها قبل ذيها.

وبالالتزام بالوجه الثاني أنكر ثمرة الواجب المعلق ، لأن الثمرة منه ليس إلاّ إمكان التفصي عن الإشكال المزبور والتخلص عن محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وقد عرفت انه ينحل الإشكال بالالتزام بالواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر ، وينتفي المحذور به فلا ملزم للالتزام بالواجب المعلق كما هو نظر صاحب الفصول ، فلو التزم باستحالة الواجب المعلق لم يترتب عليه الحيرة في التخلص عن محذور وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان ذيها.

ثم انه وان كان الالتزام بكل من الواجب المعلق والواجب المشروط بالشرط المتأخر ممكنا ثبوتا ، إلاّ انه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، بل قد يكون ظاهر الدليل هو تعليق فعلية الوجوب على حصول الشرط الّذي ينافى كلا من الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر ، نظير قوله علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور » (1).

وقد تنبه صاحب الكفاية إلى هذه الجهة ، وتصدى لحلّها بما محصله : انه إذا تم الدليل على وجوب المقدمة قبل زمان ذيها نستكشف من ذلك بطريق الإن

ص: 181


1- عن أبي جعفر علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. وسائل الشيعة 1 / 261 باب 4 من أبواب الوضوء ، حديث : 1.

سبق وجوب ذي المقدمة وكون المتأخر زمان إتيانه لا وجوبه ، لعدم طريق للتخلص إلاّ بذلك ، لأن وجوب المقدمة يستحيل ان يكون قبل وجوب ذيها.

الوجه الثالث : وهو الالتزام بوجوب هذه المقدمات بالوجوب النفسيّ التهيئي ، وذلك بعد العلم بعدم سبق وجوب ذي المقدمة اما لعدم تصوره ثبوتا أو لعدم مساعدة الدليل عليه إثباتا ، فانه لا محيص عن الالتزام بذلك إذ الوجوب الغيري محال لعدم وجوب ذي المقدمة. فيلتزم بالوجوب النفسيّ غاية الأمر انه ليس لغرض في نفس المقدمة ، بل لتحصيل غرض الواجب والتهيؤ للإتيان به في ظرفه (1).

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في التخلص عن إشكال وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان ذيها.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الثاني الّذي ادعى صاحب الكفاية أنه طريق للتخلص عن الإشكال غير طريق الالتزام بالواجب المعلق ، وانه ظهر به عدم انحصار التفصي عن العويصة بالتعلق بالتعليق.

وجهة الإشكال أنه لا فائدة في الالتزام بالشرط المتأخر ما لم يلتزم بتأخر زمان الواجب. ببيان : ان الغرض تصحيح وجوب المقدمة قبل زمان ذيها ، فلا بد من فرض تأخر زمان الواجب وتقيّده بوقت معين متأخر ، فالالتزام بالشرط المتأخر الملازم لفعلية الوجوب المصحح لوجوب المقدمة فعلا إنما يتعقل بناء على الالتزام بالواجب المعلق ، فحالية الوجوب وفعليته لتحقق شرطه في ظرفه لا تكفي ما لم يلتزم بالواجب المعلق ، لكون المفروض تأخر زمان الواجب عن زمان وجوبه.

وبالجملة : الفرض ان الواجب مقيد بزمان معين ، فالالتزام بفعلية

ص: 182


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /105- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الوجوب قبله لتصحيح وجوب مقدماته التزام بالواجب المعلق أيضا ، لأنه التزم بانفكاك زمان الوجوب عن الواجب ، فلا محيص عن الالتزام به وان التزم باشتراط الوجوب بالشرط المتأخر وحصول الشرط في ظرفه (1).

وعلى أي حال فالتفصي بالوجهين الأولين ، أعني الالتزام بالجواب المعلق وبالجواب المشروط بالشرط المتأخر ، يبتني على القول بإمكانها ثبوتا ، واما مع القول باستحالتهما فلا يتجه التفصي بهما عن الإشكال.

ومن هنا استشكل المحقق النائيني قدس سره في التفصي بهما لما عرفت من التزامه باستحالة كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر ، كما أضاف إلى وجه الاستشكال : ان الالتزام بهما لا ينفع في إثبات إيجاب التعلم قبل البلوغ وقبل الاستطاعة ، لعدم تحقق التكليف بذي المقدمة قبلهما جزما ، مع انه لو التزم بتحقق الوجوب قبلهما فلازمه إيجاب سائر المقدمات لا خصوص التعلّم ، مع انه لا يقول أحد بلزوم المسير إلى الحج على من يعلم بتحقق الاستطاعة فيما بعد. فما هو الفرق بينه وبين سائر المقدمات الوجودية؟ (2).

ولأجل ذلك سلك طريقا آخر للتفصي عن الإشكال.

وقد أشار أولا إلى وجه آخر للتفصي وهو : الالتزام بمتمم الجعل.

وبيانه : ان مصلحة الواجب إذا كانت تامة فعلا قبل فعلية الوجوب ، بحيث كان عدم التكليف به فعلا لعدم القدرة عليه لا لعدم تمامية ملاكه ، تعلق التكليف بمقدماته التي لا يتمكن منها بعد حصول زمانه ، ويعبر عنه بمتمم الجعل.

وضابطه : ان يكون غرض المولى يتحقق بفعل بنحو خاص لا يمكنه الأمر به كذلك ، كالفعل بقصد الأمر ، فيتصدى لإنشاء حكمين يتوصل بهما إلى

ص: 183


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 191 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 148 - الطبعة الأولى.

تحصيل غرضه. فما نحن فيه كذلك ، لأن التكليف مثلا بالصوم قبل الفجر ممتنع ، والمفروض انه بترك الغسل تفوت مصلحة الصوم لعدم القدرة عليه بدونه ، فيتعلق تكليف مستقل بالغسل فعلا يكون متمما للجعل وتكليف الصوم نفسه (1).

ولكنه لم يبين عليه في المقام ، لعدم اطراده في سائر الموارد ، إذ الالتزام بتمامية المصلحة قبل البلوغ أو قبل الاستطاعة مما لا يمكن ، فلا وجه حينئذ للأمر بالتعلم ، وعلى تقدير الالتزام بذلك فلازمه عدم التفريق بين التعليم وغيره من المقدمات الوجودية وهو مما لا يلتزم به أحد.

واما ما سلكه من الطريق للتفصي ، فهو يتضح ببيان جهات ثلاث :

الأولى : انه قد تقرر ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا وان خالف في ذلك بعض ، فذهب إلى عدم منافاته عقابا وخطابا - كما ينسب إلى أبي هاشم (2) -. وذهب بعض إلى منافاته خطابا وعقابا. ولكن الحق ما عرفته من منافاته خطابا وعدم منافاته عقابا.

وذلك اما منافاته خطابا : فلان التكليف انما هو بلحاظ جعل الداعي للمكلف نحو الفعل - اما بان نلتزم ان حقيقته ذلك ، أو ان ذلك لازمه الأخص وان حقيقته هو نفس الإرادة التشريعية ، أو جعل الفعل في العهدة ، فان إبراز الإرادة أو جعل الفعل في العهدة إنما هو بلحاظ ترتب الداعوية عليه - ، وفي مورد الامتناع يمتنع حصول الداعي نحو الفعل وتحقق التحرك والانبعاث إليه ، وهذا لا ينافي كونه اختياريا باختيارية سببه ، فان قوام صحة التكليف ليس اختيارية الفعل فقط ، بل إمكان الانبعاث وحصول الداعي نحوه.

نعم من يلتزم بان حقيقة التكليف ليس إلاّ جعل الفعل في عهدة المكلف

ص: 184


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 149 - الطبعة الأولى.
2- شرح مختصر الأصول / 96.

بلا شرط تحقق الداعوية نحوه - كما قد يظهر من بعض عبارات السيد الخوئي - (1) له ان يلتزم هاهنا بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، لأن التكليف يكون كسائر الأحكام الوضعيّة التي لا يعتبر فيها إمكان الانبعاث ، بل تتعلق بذمة المكلف وان لم يكن قادرا أصلا.

واما عدم منافاته عقابا : فلان الفعل وان خرج عن القدرة ، لكنه حيث كان ذلك بالاختيار كان امتناعه اختياريا ، فيستحق العقاب على تركه ، لأن ملاك العقاب اختيارية العمل ، ولأجل ذلك يتحقق العقاب على قتل شخص نفسه لو رمى جسمه من السطح ، فان الاصطدام بالأرض المحقق للموت لا يكون اختياريا بعد الرّمي ، ولذا يمتنع التكليف بتركه في تلك الحال ، ولكنه حيث ان كان منشؤه الاختيار لم يمتنع عقابه إذ يعدّ ذلك قتلا للنفس اختياريا وان كان حين حصوله غير اختياري.

الثانية : ان العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يتمكن من إيجاد الأمر على طبقه لعدم التفاته أو لغير ذلك ، كما لو رأى العبد ابن سيده في الحوض بحيث لو تركه يغرق ، ولم يكن سيده حاضرا ، فانه يجب عليه إنقاذه تحصيلا لغرض مولاه الملزم ، لأنه يعلم لو كان سيده حاضرا لأوجب عليه إنقاذ ابنه.

نعم لو كان المولى متمكنا من الأمر ولم يأمر لم يجب على العبد تحصيل غرضه في هذه الحال ، لأن عدم امره مع تمكنه يكشف عن عدم إرادته تحصيل هذا الغرض ولو كان ملزما في نفسه.

الثالثة : ان القدرة على العمل تارة : لا تكون دخيلة في الملاك ، بل تكون شرطا عقليا لتصحيح التكليف ، وإلاّ فالملاك بدونها حاصل وأخرى : تكون دخيلة

ص: 185


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 108 - الطبعة الأولى.

في الملاك ، فتكون شرطا شرعيا ، وهي في هذه الفرض تارة : تكون دخيلة في الملاك مطلقا في أي ظرف تحققت. وأخرى : تكون دخيلة فيه على تقدير خاص وظرف معين لا مطلقا. والثانية : تارة : تكون دخيلة فيه بعد حصول شرط الوجوب ، ولو قبل تحقق زمان الواجب. وأخرى : تكون دخيلة فيه بعد تحقق زمان الواجب ، فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصلة للملاك أصلا. فالاحتمالات أربعة. اما الأول والثاني : فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الإمكان. واما الثالث : فيفرق فيه بين المقدمات المفوتة قبل حصول شرط الوجوب والمقدمات المفوتة بعد حصوله ، فلا يحرم تفويتها على الأول دون الثاني. واما الرابع : فلا يجب الإتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب.

هذا محصل ما أفاده قدس سره وقد أطال فيه الكلام (1).

والتحقيق ان يقال : ان قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » تذكر لدفع توهم : عدم اختيارية الأفعال ، لأن كل فعل إرادي حين تعلق الإرادة به يكون واجبا ، وحين عدم تعلقها به يكون ممتنعا ، وذلك لأن الإرادة لما كانت هي الجزء الأخير للعلة التامة ، فعند تحققها يكون تحقق المعلول قهريا بحكم استحالة تخلف المعلول عن العلة - ومن هنا قيل : ما لم يجب لم يوجد - ، وعند عدم تحققها يكون انتفاء المعلول ضروريا ، لأن المعلول لا يوجد بدون علته ، فالفعل الإرادي يدور أمره بين الضرورة والامتناع فلا يكون اختياريا ، لأنه اما ان تتعلق به الإرادة فيكون ضروريا ، أو لا تتعلق به الإرادة فيكون ممتنعا ، لأن المعلول ضروري الوجود عند وجود علته كما انه عدم عند عدم علته.

فانه يقال في رده : ان الوجوب الناشئ عن الإرادة الّذي يعبّر عنه واجب بالغير لا بالذات ، لا يتنافى مع اختيارية الفعل ، كما ان الامتناع الناشئ

ص: 186


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 150 - الطبعة الأولى.

عن عدم الإرادة الّذي يقال عنه انه ممتنع بالغير ، لا يتنافى مع كون عدم الفعل كوجوده اختياريا ، فان الضرورة والامتناع الذين يتنافيان مع اختيارية الفعل هما الضرورة والامتناع السابقان على مرتبة الإرادة لا اللاحقان لها الناشئان منها. فالفعل وان كان ضروريا بالإرادة لكنه اختياري ، لأجل ان ضروريته بالإرادة. فالقاعدة المذكورة أساس بيانها والتنبيه عليها هو دفع هذا الوهم ، وقد طبقت على موارد :

المورد الأول : ما أشرنا إليه من كون الامتناع - في الفعل الإرادي - ناشئا من عدم الإرادة ، فانه قيل عنه : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

واما تحقيق صحة تعلق الخطاب بالفعل الممتنع لعدم الإرادة وعدم صحته فليس محله هاهنا ، وان كان الحق عدم صحته ، فلا يصح ان يتعلق الخطاب بعثا أو زجرا بالفعل على تقدير عدم تعلق الإرادة به ، لأن الفعل على هذا التقدير ممتنع الحصول ، والمفروض ان التكليف انما هو لإيجاد الداعي والمورد غير قابل لذلك.

المورد الثاني : المسببات التوليدية بعد حصول السبب ، فانها بعد حصول السبب وقبل تحققها لا تكون إرادية ، بل تكون ضرورية الحصول ، كما هو المقصود من المسبب التوليدي ، نظير القتل الحاصل بعد رمي السّهم أو بعد إلقاء الشخص بدنه من شاهق.

فقد يتوهم : انه يمتنع تحقق العقاب عليها ، لأنها في ظرف تحققها ليست اختيارية.

لكنه يندفع بالقاعدة المذكورة ، فان الامتناع في المسببات التوليدية إنما نشأ عن الإرادة والاختيار لتعلقها بالسبب ، وهذا يصحح ترتب آثار الفعل الاختياري على المسبب من صحة المؤاخذة عليه ونحوها ، لأن إرادة السبب إرادة للمسبب بنظر العقلاء ، فالفعل اختياري بنظرهم.

نعم يمتنع تعلق التكليف به في الحال المفروضة ، إذ التكليف لا يتقوم

ص: 187

بصدق اختيارية الفعل كصحة العقاب عليه ، بل يتوقف على إمكان التحريك والدعوة ، وهو غير متحقق لعدم القدرة على الفعل ولا على الترك بعد حصول السبب ، فلا يكون المورد موردا لإيجاد الداعي والبعث لعدم قابليته لذلك.

المورد الثالث : ان يكون الفعل في نفسه من الأفعال الإرادية التي تتعلق بها الإرادة بنفسها مباشرة - لا كالمسببات التوليدية - ، فيفعل المكلف فعلا يستلزم سلب إرادية ذلك الفعل ، فيكون ضروريا بلا ان تتعلق به الإرادة. نظير حركة المرتعش ، فانه من الموارد التي تطبق عليها القاعدة المزبورة ، فيدعى فيه بصحة العقاب على الفعل غير الإرادي ، لأنه وان كان فعلا غير اختياري إلا ان عدم الاختيار لما كان ناشئا عن الاختيار كان ذلك مصححا لترتب آثار الفعل الاختياري عليه - من صحة المؤاخذة عليه - بنظر العقلاء.

نعم يمتنع والحال هذه تعلق التكليف به ، لأنه ليس بمقدور ، فلا يتحقق الداعي المقصود إيجاده بالتكليف. فالامتناع بالاختيار في هذه الموارد لا ينافى الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا. لكنه ينبغي أن يقال : انه ان كان الفعل المسلوب عنه الإرادة مبغوضا للمولى بجميع افراده وأحواله كان تطبيق القاعدة على المورد في محله ، لأنه فعل باختياره ما ينتهي إلى فعل مبغوض للمولى وان كان غير مقدور عليه في ظرفه ، لكن عدم القدرة بعد ان كانت ناشئة عن الاختيار لا تنافي الاختيار. واما إذا كان الفعل المسلوب عنه الإرادة مبغوضا للمولى في بعض افراده وهو الفرد الإرادي ، بمعنى ما تتعلق به الإرادة مباشرة وما يقع عن اختيار في ظرفه فلا وجه للحكم بصحة العقاب على الفعل المزبور بمقتضى القاعدة ، لأنه فعل غير مبغوض للمولى ، إذ هو ليس بإرادي فعلا.

فالوجه التفصيل بين الصورتين ، وتشخيص كل منهما يتبع ما يستظهر من لسان دليل الحكم والحرمة والمبغوضية.

ولا يخفى ان الّذي يتناسب مع ما نحن فيه هو هذا المورد دون مورد

ص: 188

المسببات التوليدية ، إذ الواجب ذو المقدمة المفوتة من الأفعال الإرادية في نفسه ، وليست نسبة المقدمة المفوتة إليه نسبة السبب التوليدي إلى مسببه. وقد عرفت ان الحكم بصحة العقاب مطلقا في هذا المورد غير وجيه.

لكن المورد يختلف عما نحن فيه أيضا من جهتين :

الأولى : ان المورد الّذي نحن فيه يختص بالواجبات العبادية كالحج والصلاة والصوم مما يعتبر فيها الإرادة والقصد إليها ، فلا كلام فيها من هذه الجهة كما هو الحال في المورد الثالث.

الثانية : ان الإشكال فيما نحن فيه ليس من جهة مخالفة التكليف الفعلي المتعلق بالعمل ، كي يقال إنه هل أخذ الفعل الإرادي في متعلق الحكم أو مطلق الفعل ، بنحو ينسب إلى اختيار الفاعل ولو بالواسطة؟ ، فان الفرض ان الواجب مقيد بزمان متأخر فلا يتمكن منه فعلا ، لعدم اختيارية قيده. وانما الكلام في سلب القدرة عليه في ظرفه بترك بعض مقدماته ، فليس فيما نحن فيه تكليف بالفعل يتكلم بان مخالفته تتحقق بالنسبة إليه مع انسلاب الإرادة عنه بذلك ، أو لا تتحقق إلا باعمال الإرادة فيه بخصوصه ، كما هو الحال في مورد الثالث.

وعليه ، فأساس الإشكال والبحث فيما نحن فيه هو التساؤل عن الملزم للإتيان بالمقدمات المفوتة ، لأنه قبل حصول زمان الواجب لا وجوب يترشح عليها ، وبعد حصول زمانه لا تكليف بالواجب لعدم القدرة عليه بتركها ، فحالها من هذه الجهة حال المقدمات الوجوبية من عدم تعلق الإلزام بها.

وقد ذكر للجواب عنه - غير ما جاء في الكفاية (1) - وجهان :

الأول : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من ان الملاك في ظرفه إذا كان تاما لا قصور فيه يحكم العقل بحرمة تفويته ولزوم المحافظة عليه في زمانه ،

ص: 189


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /104- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه فهو يحكم بلزوم المقدمة المفوتة ، لأن بالإتيان بها محافظة على الغرض وبفواتها تفويت للغرض ، وبالملازمة بين حكم العقل والشرع يتعلق وجوب شرعي بالمقدمة ويعبر عنه بمتمم الجعل.

واستشهد على هذا المعنى بموارد الإرادة التكوينية ، فان الشخص إذا علم بأنه سيبتلى في سفره بالعطش ، وانه لا يجد الماء في الطريق ، يرى نفسه ملزما بحكم العقلاء بتهيئة الماء واستصحابه معه قبل الابتلاء به محافظة على تحصيل الغرض الملزم في ظرفه وهو رفع العطش ، ويعد مذموما عند العقلاء لو ترك أخذ الماء معه. والإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في سائر الجهات كما حقق في محله.

وبالجملة : وجوب المقدمة شرعا انما هو كحكم العقل بلزوم المحافظة على غرض المولى الملزم وقبح تفويته بترك مقدماته (1).

الثاني : ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من ان لزوم المقدمة المفوتة من باب وجوب المقدمة العلمية. بيان ذلك : ان العقل كما يحكم بصحة العقاب على مخالفة التكليف الّذي سيتحقق في المستقبل ولو بترك بعض ما يستلزم تركه مخالفته في ظرفه ، كذلك يحكم بصحة العقاب على تفويت غرض المولى الملزم للزوم تحصيله. فإذا علم المكلف ان للمولى غرضا ملزما يتحقق بالفعل في الزمان المستقبل ، حكم العقل بلزوم المحافظة عليه وصحة العقاب على تفويته في ظرفه ، فإذا توقف تحققه على الإتيان بفعل في هذا الزمان لزم ذلك بحكم العقل لأنه مقدمة علمية (2).

وهذان الوجهان وان كانا تامّين في أنفسهما ، إلا ان ربطهما بقاعدة :

ص: 190


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 151 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 361 - الطبعة الأولى.

« الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » لا وجه له محصل.

اما ما أفاده المحقق النائيني : فقد عرفت ان العقل والشرع يحكمان بلزوم المقدمة بملاك حرمة تفويت الغرض ولزوم المحافظة عليه. ومن الواضح ان تفويت الغرض وعدم المحافظة عليه يحصلان بمجرد ترك المقدمة المفوتة ، فتحقق المخالفة للتكليف بترك المقدمة نفسها ، فيكون العقاب عليه وهو فعل اختياري كما لا يخفى.

وعليه فتطبيق قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ناشئ عن المسامحة ، إذ العقاب على ترك المقدمة وتفويت الغرض به لا على ترك الواجب ، كي يقال انه ممتنع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار. وقد عرفت ان ترك المقدمة أمر اختياري لتعلق الإرادة به مباشرة ، فالعقاب عليه عقاب على ما هو بالاختيار.

واما ما أفاده السيد الخوئي : فهو وان ارتبط بالقاعدة المذكورة بنحو ارتباط ، لأن لزوم المقدمة كان بحكم العقل بصحة العقاب على تفويت الغرض الملزم في ظرفه ، وترك الواجب الّذي يترتب عليه الغرض وان كان استقباليا. فلقائل ان يقول : ان الواجب في ظرفه ممتنع ، فلا يصح العقاب عليه. فيجاب : بالقاعدة المزبورة ، وان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فالوجه مرتبط بالقاعدة بنحو ارتباط. إلا أن التنصيص عليها في خصوص المورد وجعلها من متممات الحكم بلزوم المقدمة غير وجيه ، لأن المفروض ان الحكم بلزوم المقدمة كان من باب حكم العقل بلزوم المقدمة العلمية فهو تام في نفسه ، والإشكال بان الواجب في ظرفه ممتنع إشكال عام يسري في كثير من الموارد ، ويدفع بما تكرر من أن اختيارية الامتناع لا تنافي الامتناع ، وليس هو إيرادا خاصا بالمورد حتى يفرض كون القاعدة من متممات وجه الحكم بلزوم المقدمة. وإلاّ كان اللازم التنصيص عليه فيما إذا التزم بالواجب المعلق في دفع الإشكال ، لأنه يقال أيضا : انه لا يصحح العقاب على ترك الواجب في ظرفه لأنه ممتنع بترك المقدمة ،

ص: 191

فلابد من بيان هذه القاعدة.

وبالجملة : الحكم باللزوم لا بد وان يفرض مفروغا عنه لوجه من الوجوه المذكورة التامة في نفسها ، ويكون ذكر القاعدة لدفع توهم يقال ، لا ان تكون القاعدة قواما لوجه الحكم باللزوم ومتمما له فتدبر ولاحظ.

ثم انه بعد ان تبين أن أساس الحكم بلزوم المقدمة المفوتة ، هو حرمة تفويت الغرض الملزم فقد يتوهم : ان هذا انما يتمّ فيما لم تكن القدرة دخيلة في تحقق الملاك ، بل كان الفعل بنفسه واجدا للملاك ولو لم يكن مقدورا نظير ترتب الغرض على الدواء عند تحقق المرض ولو لم يكن مقدورا ، إذ لو كانت القدرة دخيلة في تحقق الملاك لم يكن تحصيل القدرة لازما ، إذ قبل القدرة ليس هناك غرض ملزم يلزم المحافظة عليه ويحرم تفويته. ولا يلزم تحقيق هذا الأمر ، أعني واجدية الفعل للملاك.

إلاّ انه يندفع : بما مر من تصوير دخالة القدرة في الملاك بأنحاء ثلاثة الّذي ورد في كلام المحقق النائيني :

النحو الأول : ان تكون القدرة دخيلة في الملاك بوجودها المطلق ، بمعنى ان الملاك يتحقق بتحققها في أي ظرف كان. ومن الواضح ان المقدمة تجب في أول أزمنة إمكانها ، لحصول القدرة على الواجب بواسطتها ، فيكون الفعل واجدا للملاك في ظرفه ، فيحرم تفويته بترك المقدمة. فالقدرة وان كانت دخيلة في تحقق الملاك ، لكن دخالتها بنحو لا يمنع من وجوب المقدمة المفوتة.

النحو الثاني : ان تكون القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة على الواجب بعد حصول بعض مقدمات الوجوب التي يتوقف عليها الملاك ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

والحكم في هذا الفرض هو لزوم المقدمة الوجودية المفوتة بعد حصول شرط الوجوب ، لكون الفعل في ذلك الحين واجدا للملاك فيحرم تفويته ، وعدم

ص: 192

لزومها قبل حصول شرط الوجوب ، لعدم تمامية ملاك الواجب فلا يحرم تفويته ، إذ ليس فيه تفويت للغرض الملزم.

النحو الثالث : ان تكون القدرة الدخيلة هي القدرة على الواجب بعد دخول وقته ، ولا إشكال في عدم لزوم المقدمة المفوتة ، إذ الفعل وان كان مقدورا عليه في زمانه قبل زمانه ، لكنه غير واجد للملاك. فلا يحرم ترك المقدمة ، إذ ليس فيه تفويت للغرض الملزم. وقد عرفت عدم لزوم جعل الفعل واجدا للملاك في ظرفه ، وانما اللازم هو المحافظة على الملاك الفعلي الملزم.

فيتحصل : ان أخذ القدرة في الملاك لا يلازم عدم وجوب المقدمة المفوتة بقول مطلق ، بل هو ملازم له في الجملة.

والتحقيق : ما عرفته ، وقد أفاده المحقق النائيني قدس سره .

ثم انه قد يشكل : بأنه إذا فرض وجوب الملزم للإتيان بالمقدمات المفوتة ، لم يختلف الحال في مطلق المقدمات ، بل مقتضى ذلك وجوبها ، إذ ملاك الإلزام هو المقدمية وحصول التفويت بتركها ، وهو أمر مطّرد في جميع المقدمات المفوتة ، مع انه لا يلتزم بذلك في مطلق المقدمات ، ولذا يفتى بجواز إجناب الشخص نفسه قبل الوقت مع علمه بعدم تمكنه من الغسل في الوقت.

والجواب عن الإشكال : ما أفاده صاحب الكفاية : من انه يمكن اختلاف المقدمات في نحو دخالتها في الملاك فتارة : تكون القدرة على المقدمة دخيلة في الملاك بقول مطلق ، فيلزم تحصيل المقدمة قبل زمان ذيها. وأخرى : لا يكون الأمر كذلك ، بل يكون الدخيل في الملاك هي القدرة على المقدمة في زمان ذيها ، بحيث لا يكون للقدرة عليها قبل زمان ذيها أي تأثير في الملاك. فلا يلزم تحصيلها قبل زمان ذيها ، لعدم الملزم حينئذ (1) حتى على فرض كون وجوب المقدمة وجوبا

ص: 193


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /105- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

شرعيا مترشحا من وجوب ذيها ، وذلك بالالتزام بالواجب المعلق أو نحوه كما عليه صاحب الكفاية ، وذلك لأن القدرة على الواجب من قبل المقدمة في زمانه إذا كانت دخيلة في الملاك كانت شرطا للوجوب ، فلا يلزم تحصيلها قطعا ، إذ المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي فالتفت.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة غير التعلّم.

ولا بأس بالتعرض إلى أمرين أفادهما المحقق النائيني قدس سره :

الأمر الأول : ان اشتراط القدرة على الواجب في زمانه ودخالتها بخصوصها في الملاك دون مطلق القدرة ، انما يصح في التكليف العام إذا كان العجز عن المقدمة في زمانه اتفاقيا وفي بعض الأحيان. كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فان الغالب هو تمكن المكلفين من الوضوء بعد الوقت ، وتحقق العجز عنه في أثناء الوقت اتفاقي لا غالبي. واما إذا كان العجز من المقدمة في زمانه وتوقفه على تحققها قبل زمانه غالبيا أو دائميا. نظير المسير بالنسبة إلى الحج ، فان القدرة على الحج في زمانه تتوقف على المسير إليه قبل زمانه غالبا ، وعدم توقفه على ذلك وإمكان المسير إليه بعد زمانه اتفاقي ونادر جدا ، فلو كان الأمر كذلك ، ودلّ دليل بظاهره على كون الدخيل في الملاك هو القدرة على الواجب في زمانه ، فاللازم حمل الدليل على خلاف ظاهره ، اما بجعل الدخيل في الملاك هو القدرة المطلقة ، أو القدرة عليه بعد حصول شرط الوجوب ، وذلك لأن الالتزام بظاهره يستلزم تخصيص التكليف العام بالفرد النادر ، وهذا قبيح ومستهجن ، إذ قد عرفت ان المكلف القادر على الإتيان بالحج بعد زمانه بدون المسير إليه قبله نادر جدا.

نعم إذا جاء دليل يدل على اشتراط القدرة بعد زمان الواجب ، وكان نصا في مدلوله ، كان المتعين الالتزام به ولو استلزم اختصاص التكليف بالفرد النادر (1)

ص: 194


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 153 - الطبعة الأولى.

وأورد على التفرقة بين النص والظاهر : بان تخصيص التكليف العام بالفرد النادر ، اما ان يكون مستهجنا وقبيحا أو لا ، فان كان قبيحا لم يتجه الالتزام بالدليل المستلزم لذلك ولو كان نصا بل المتعين طرحه. وان لم يكن قبيحا لم يتجه التصرف بظاهر الدليل المستلزم لذلك ، إذ لا مانع من إبقائه على ظاهره. فالتفرقة بين النص والظاهر لم يظهر لها وجه (1).

والتحقيق : ان للتفصيل وجها وجيها وهو : ان تقدم ظهور المخصص على ظهور العام انما هو باعتبار أقوائية ظهوره من ظهور العام ، ففي المورد الّذي يكون فيه استبعاد للتخصيص أو استهجان وقبح يضعف ظهور المخصص ولا يكون مع ذلك مفيدا للظن النوعيّ الّذي هو الملاك في حجية الظهور عند العقلاء ، فلا يصلح ظهوره للتصرف في العام لعدم حجيته. اما إذا كان المخصص قطعيا لا يحتمل الخلاف ، فيكون قرينة - بعد فرض عدم إمكان الالتزام بالعموم لانتهائه إلى التخصيص بالأكثر المستهجن - على وجود قرينة لفظية أو نحوها على تعلق الحكم من أول الأمر بالعنوان الخاصّ النادر وهو غير مستهجن.

وبالجملة : الفرق هو ان المخصص القطعي يكون دليلا على كون بيان الحكم من أول الأمر على العنوان الخاصّ ، وليس كذلك الحال في المخصص الظني ، فانه ترتفع حجيته لضعف ظهوره وعدم صلاحيته لمزاحمة ظهور العام بواسطته للاستبعاد والاستهجان.

وهذا المعنى ثابت متقرر وينص عليه في مسألة تخصيص الأكثر ، فانه يلتزم بعدم الالتزام بالمخصص الظني المستلزم لخروج أكثر الافراد. بخلاف ما إذا كان المخصص قطعيا كالإجماع ، فانه يكون محكما ولو استلزم خروج أكثر الأفراد ، لكن يلتزم رفعا للاستهجان بكون ذلك قرينة على كون بيان الحكم من

ص: 195


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 153 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

أول الأمر على الموضوع الخاصّ النادر ، وهو مما لا استهجان فيه.

الأمر الثاني : ان القيود المأخوذة في واجب واحد قد تختلف ، فيكون الشرط في بعضها القدرة عليه في زمان الواجب فلا يجب فعله قبل الوقت ، وان ترتب على تركه فوات الواجب في ظرفه ، ويكون في بعضها الآخر هو مطلق القدرة عليه ولو قبل زمان الواجب ، فيلزم الإتيان به وتحقيقه قبل الوقت إذا علم بتفويت الواجب في ظرفه بتركه. وتعين أحد النحوين يتبع فيه دلالة الدليل الخاصّ.

وقد مثّل للأول : بالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فان ظاهر الآية الشريفة : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) الآية (1). هو تعليق وجوب الوضوء على القيام إلى الصلاة ، ومن الواضح ان المراد بالقيام دخول الوقت بنحو الاستعمال الكنائي ، لا نفس القيام ، إذ لا يقيد وجوب الوضوء بحال القيام إلى الصلاة.

وعليه ، فتكون مصلحة الوضوء اللزومية مقيدة بدخول الوقت. وعليه فيكون الشرط هو القدرة عليه بعد الوقت.

ومثل للثاني : بالماء الّذي هو مقدمة إعدادية ، فانه يستكشف من الرواية الصحيحة الدالة على لزوم إبقائه قبل الوقت ، ان الشرط هو القدرة المطلقة ولو قبل الوقت (2).

ولا يخفى انه قد أورد على المحقق النائيني قدس سره في المثال للثاني بالماء واستشهاده بوجود النص الصحيح - أورد عليه - : بأنه لا رواية صحيحة تتضمن هذا المعنى ، وقد نقل عنه ان أقرّ أخيرا بذلك واعترف (3).

واما تمثيله للأول بالوضوء واستشهاده بالآية ، ففيه ما لا يخفى : لأنه لو

ص: 196


1- سورة المائدة ، الآية : 5.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 153 - 154 - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 154 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

سلم كون القيام كناية عن دخول الوقت ، فغاية ما تدل عليه دخالة الوقت في تحقق الملاك الملزم للوضوء ، وان وجوبه مقيد بدخول الوقت كالواجب ، واما دخالة القدرة عليه بالنحو الخاصّ في تحقق الملاك فهو مما لا تتكفل الآية بيانه ، إذ لا تعرض لها إلى أصل دخالة القدرة وعدم دخالتها أو كيفية دخالتها في الملاك ، بل الآية ليست بأصرح من قوله علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور » (1) في تقييد الوجوب بالزوال.

وبالجملة : الكلام في دخالة القدرة ونحوها ، والآية إنما تتكلف دخالة الوقت في المصلحة ، وهو لا يدل على كون الدخيل هو القدرة بعد الوقت ، بل يمكن ان تكون القدرة المطلقة دخيلة في تحقق الملاك وان كان الوجوب بعد الوقت ، لأن الوقت دخيل أيضا في الملاك. فالتفت.

واما التعلم ومعرفة الأحكام : فقد ادعى المحقق النائيني : عدم اندراجها في المقدمات المفوتة ، لعدم انسلاب القدرة على الإتيان بالواجب بترك التعلم ، بل الواجب يكون مقدورا ، ولذا يصح تعلق التكليف به في حال الجهل كتعلقه به في حال العلم. وعلى هذا فلا يكون الوجه في إيجاب التعلم هو قاعدة : « عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار » لعدم تحقق موضوعها ، إذ لا يمتنع الفعل بترك التعلّم.

وعليه ، ففي فرض ترك التعلم ..

تارة : يكون المكلف متمكنا من الاحتياط وإحراز الإتيان بالواجب في ظرفه ، فلا إشكال في عدم وجوب التعلم حينئذ ، لعدم الوجه فيه بعد إمكان الإتيان بالواجب وإحراز الامتثال.

ص: 197


1- عن أبي جعفر علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. وسائل الشيعة 1 / 261 باب 4 من أبواب الوضوء : حديث : 1.

وأخرى : لا يكون المكلف متمكنا من الاحتياط في ظرف الامتثال وإحراز الامتثال ، بل غاية ما هنالك هو احتماله موافقة ما جاء به لما هو المأمور به واقعا ومصادفته للواقع ، كما في بعض موارد حصول السهو والشك ، وعدم العلم بحكمه ، فانه قد لا يتمكن من الاحتياط فيأتي بالعمل بنحو يحتمل موافقته للواقع كما يحتمل مخالفته للواقع. ففي مثل هذه الحال يجب التعلم بحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، وذلك لأن التكليف وان كان مجهولا إلا أنه لا يكون مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كي يطمئن العبد بعدم العقاب ، وذلك لأن العقل انما يحكم بمعذورية الجاهل وقبح عقابه فيما لم يكن هناك بيان أصلا ، أو كان ولكن لم يتمكن المكلف من العثور عليه وتحصيله بعد التصدي لذلك ، اما مع وجود البيان وعدم الفحص عنه وإهمال التصدي لمعرفة ما بينه المولى وانه هل يتكفل حكما إلزاميا أو لا؟ فلا يستقل العقل بقبح العقاب مع مخالفة الواقع جهلا.

وعليه ، فإذا استحق العبد - فيما نحن فيه - العقاب على المخالفة ، فمع احتمالها يحتمل العقاب ، فلا بد من دفعه لحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، ودفعه انما يكون بالتعلّم. فلزوم التعلّم ملاكه حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، لا قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » أو لزوم تحصيل غرض المولى.

وبهذا البيان يتضح انفراد التعلّم عن المقدمات المفوتة من جهتين :

الأولى : ان وجوب الإتيان بالمقدمات المفوتة انما يثبت في المورد الّذي يعلم بثبوت التكليف المتوقف على المقدمة في ظرفه علما وجدانيا أو تعبديا أو عاديا ، إذ بدون ذلك لا يعلم بوجود الملزم كي يجب تحصيله. وليس الأمر كذلك في وجوب التعلّم ، فانه يثبت مع احتمال التكليف احتمالا عقلائيا ، وان لم يتحقق العلم ، إذ باحتمال التكليف يحتمل العقاب بمخالفته ، فيحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

الثانية : ان استحقاق العقاب على المقدمات المفوتة يثبت من حين تركها ،

ص: 198

لأن فوات الواجب يكون بتركها.

واما العقاب في صورة ترك التعلم فهو منوط بالإتيان بالواجب فان خالف الواقع ثبت استحقاق العقاب في ذلك الحين ، لأن العقاب على ترك الواجب وهو لا يفوت بمجرد ترك التعلم.

هذا محصل ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في المقام (1).

وهو - مع غض النّظر عما أفاده أخيرا من ثبوت استحقاق العقاب بترك المقدمات المفوتة من حين تركها ، فانه لا يخلو من بحث ليس المقام محلّه فقد ناقشه المحقق الأصفهاني (2) - وجيه وتامّ. فان التعلم ليس من المقدمات المفوتة ، وملاك وجوبه يختلف عن ملاك وجوبها بالتقريب الّذي بينّاه.

إلا أن السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) ناقش في هذا الكلام على إطلاقه ، وذكر : ان ترك التعلم في بعض موارده يلازم سلب القدرة على الواجب في ظرفه ، فيندرج بذلك في المقدمات المفوتة ويترتب عليه حكمها من لزومه بملاك لزوم تحصيل غرض المولى وقاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ، لو لم تؤخذ القدرة في ظرف الواجب دخيلة في الملاك.

وذلك لأن ترك التعلم قد يستلزم الغفلة وعدم الالتفات إلى وجوب بعض الاجزاء أو الشرائط المعتبرة في الواجب ، فالإتيان بها مع الغفلة عنها خارج عن حيّز القدرة ، فيستلزم ترك التعلم عدم التمكن من الواجب وعدم توجه الخطاب به إلى المكلف. كما أنه قد يستلزم عدم تمكنه منه ، لتوقف القدرة عليه على تعلمه ، كترك تعلّم القراءة أو الذّكر لمن لا يعرف النطق بالعربية أصلا ، فانه بترك التعلم تنسلب القدرة على الواجب.

ص: 199


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 154 - 157 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 198 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : دعوى خروج التعلم عن المقدمات المفوتة ممنوعة على إطلاقها. نعم هي مسلمة في الجملة ، كما في موارد إمكان الاحتياط أو احتمال إدراك الواقع (1).

ولكن يمكن الدفاع عن المحقق النائيني : بان كلا من الموردين - اللذين ذكرهما السيد الخوئي - لا يصلح شاهدا على اندراج التعلّم - في بعض موارده - في المقدمة المفوتة.

اما مورد ترك تعلم مثل القراءة ونحوها من متعلقات الأحكام لا نفس الأحكام ، فتحقيق المناقشة فيه موكول إلى محلّه ، وانما نشير إلى جهة المناقشة فقط فنقول : ان تعلم القراءة ونحوها يكون دخيلا في إيجاد القدرة لا المحافظة على القدرة الموجودة ، وملاك وجوب المقدمات المفوتة موضوعه المحافظة على القدرة ، واما إلحاق إيجاد القدرة بالمحافظة عليها فتحقيقه موكول إلى محلّه كما عرفت.

واما مورد استلزام ترك التعلم لحصول الغفلة عن الحكم الملازم لامتناع امتثاله ، فمناقشته تظهر ببيان شيء : وهو انه قد استشكل في رفع المؤاخذة في حال النسيان الوارد في حديث الرفع ، بان الحكم مرتفع في حال النسيان جزما لاستحالة تكليف الناسي عقلا لغفلته ، فارتفاع الحكم ليس امرا مربوطا بيد الشارع كي يكون رفعه امتنانا على العباد.

وقد أجيب عنه : بان الغرض رفع المؤاخذة على ترك المقدمات الموجبة لعدم النسيان ، وذلك لأن الحكم وان ارتفع بالنسيان ، إلا ان النسيان قد ينشأ من أمر اختياري للعبد ، وهو ترك التحفظ ، فيمكن تصور ثبوت المؤاخذة على ترك التحفظ المؤدي للنسيان لا على مخالفة الحكم المنسي. فحديث الرفع

ص: 200


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 367 - الطبعة الأولى.

يتكفل رفع هذه المؤاخذة منة وتفضلا على العباد. فترك التحفظ المؤدي للغفلة لا يوجب العقاب وان انتهى إلى ترك الواجب الواقعي (1).

إذا عرفت هذا نقول : إن ترك التعلم المؤدي إلى الغفلة وان أوجب امتناع الواجب بالاختيار ، إلا أنه قام الدليل على عدم تحقق المؤاخذة عليه ، وهو حديث الرفع ، فلا يكون التعلم واجبا في هذا الفرض لرفع المؤاخذة على تركه الكاشف عن عدم لزوم تحصيله شرعا. وان شئت قلت : إن حديث الرفع يكشف عن دخل القدرة على الواجب من جهة التعلم في ظرف الواجب ، فالقدرة عليه من جهة التعلم قبل زمانه غير دخيلة في ملاك الواجب ، فلا يجب تحصيلها أو المحافظة عليها أصلا.

فالتعلم وان كان من المقدمات المفوتة في بعض موارده ، لكنه لا يشترك معها حكما لقيام الدليل الخاصّ على عدم لزوم تحصيله.

وبذلك يظهر : ان ما أفاده المحقق النائيني من خروج التعلم - الّذي يكون واجبا - عن المقدمات المفوتة ، لأن تركه لا يستلزم امتناع الواجب ، وانما يستلزم امتناع إحراز الواجب ، متين. فلاحظ وتدبّر.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة.

يبقى الكلام في أمر تعرض له صاحب الكفاية بعنوان : « تتمة » ، وهو انه لو دار الأمر في القيد الوارد في الخطاب بين رجوعه إلى الهيئة ، فيكون قيدا للوجوب. ورجوعه إلى المادة فيكون قيدا للواجب. فهل هناك قاعدة مطردة تعيّن رجوعه إلى خصوص أحدهما المعين أو لا توجد قاعدة مطردة ، فلا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه والحكم بما تقتضيه القرائن والمناسبات لو كانت؟.

ص: 201


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /197- الطبعة الأولى.

ذهب الشيخ إلى تعيين رجوعه إلى المادة (1). وخالفه صاحب الكفاية بذهابه إلى عدم الوجه في رجوعه إلى أحدهما ، بل المرجع القرائن الخاصة لو كانت وإلاّ فالأصول العملية (2).

وقبل الشروع في تحقيق المطلب لا بد من ذكر امرين :

الأمر الأول : في ثمرة البحث ، وهي واضحة ، وذلك لأن القيد إذا كان راجعا إلى الهيئة لم يجب تحصيله لأنه شرط للوجوب ، بخلاف ما إذا كان راجعا إلى المادة فانه يكون من القيود الوجودية للواجب فيجب تحصيله ، بل للبحث ثمرة ولو كان القيد مما لا يجب تحصيله لو رجع إلى الواجب ، كما لو أخذ قيدا إذا حصل من باب الصدفة والاتفاق ، وهي : وجوب المقدمات الوجودية للواجب التي يجب تحصيلها قبل حصول القيد لفعلية الوجوب قبله ، بخلاف ما لو كان راجعا إلى الهيئة ، فان الوجوب لا يكون فعليا قبل حصوله فلا يجب الإتيان بسائر المقدمات الوجودية ، ومن هنا صح ما جاء في الكفاية من قوله : « وان يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب » فلاحظ.

الأمر الثاني : انه قد تقدم من الشيخ إنكار إمكان رجوع القيد إلى الهيئة ، وبيان امتناع الواجب المشروط ، ومع ذلك لا يتجه له تحرير النزاع والحكم برجوع القيد إلى المادة من جهة الترجيح اللفظي. مع انه على مذهبه متعين عقلا.

ويندفع هذا الإيراد بوجهين :

الأول : انه يمكن ان يكون تحرير الشيخ للكلام في هذا الموضوع مبني على التنزل عن مذهبه مجاراة للخصم ، وهذا امر مألوف في طريقة المحققين مثل

ص: 202


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /49- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /105- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشيخ رحمه اللّه .

الثاني : ما ادعي من ان الشيخ لم ينكر الواجب المشروط ببعض المعاني في قبال رجوع القيد إلى صرف المادة ، كرجوعه إلى المادة المنتسبة كما نسبه إليه المحقق النائيني (1). أو كون الوجوب المشروط عبارة عن سنخ إرادة غير الإرادة المطلقة وهي الإرادة على تقدير ، كما ادعاه المحقق العراقي ، فانها كما ذكر سنخ إرادة تختلف بها عن الإرادة المطلقة حتى بعد حصول التقدير والقيد (2). فللكلام على هذه المباني مجال ، إذ يتكلم في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة أو الإرادة فتكون الإرادة الثابتة سنخ إرادة خاصة ، أو إلى ذات المادة.

وعلى كل حال فقد ادعى الشيخ رجحان تقييد المادة على تقييد الهيئة ، وان اللازم في مثل الفرض الالتزام برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة ، وقد ذكر لذلك وجهين :

الوجه الأول : ان إطلاق الهيئة يكون شموليا ، كما في شمول العام لافراده ، فان وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير التي يمكن ان يكون تقديرا له ، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة (3).

وقد أوقع الكلام في هذا الوجه في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق الكبرى الكلية التي فرضها الشيخ ، وهي ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، عند دوران الأمر بين رفع اليد عن إحداهما.

فقد أنكرها صاحب الكفاية بدعوى : انه لا وجه لترجيح أحدهما على

ص: 203


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 296 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /49- الطبعة الأولى.

الآخر بعد ان كان كل منهما ثابتا بمقدمات الحكمة والإطلاق ، فان مفاد مقدمات الحكمة يختلف باختلاف الموارد ، فكما تقتضي الشمولية في مورد قد تقتضي البدلية في غيره ، كما انها قد تقتضي التعيين في بعض الموارد ، وإذا كان منشأ ثبوت كل منهما متحدا لم يكن وجه لتقدم أحدهما على الآخر لتساويهما ظهورا ، ولعل منشأ الترجيح ما رأى من تقدم عموم العام على إطلاق المطلق وترجيحه عليه ، والغفلة عن ان مرد ذلك لا يرجع إلى شمولية العام ، بل إلى كون شموله بالوضع وشمول المطلق بالإطلاق ، فيكون العام أظهر منه ، لأن ظهوره وضعي وظهور المطلق إطلاقي (1).

ولكن خالفه المحقق النائيني ووافق الشيخ في لزوم ترجيح المطلق الشمولي على الإطلاق البدلي عند دوران الأمر بينهما ، فإذا ورد مثلا : « أكرم العالم » ثم ورد : « لا تكرم فاسقا » ، فانه يقيد المطلق البدلي بغير العالم ويبقى الإطلاق الشمولي على إطلاقه (2).

وقد تعرضنا لبيان وجه ما أفاده في الاستدلال على هذه الدعوى ، وبيان ما ذكر من المناقشة فيه ، كما ذكرنا وجها للدعوى بعنوان توجيه ما أفاده قدس سره أثبتنا به صحة الدعوى ، وان المتعين موافقته فيما ذهب إليه من ان الإطلاق الشمولي يرجح على الإطلاق البدلي ، كل ذلك ذكرناه في مبحث التعادل والترجيح (3).

فقد كانت النتيجة : هو أن المعارضة في باب الإطلاق الشمولي والإطلاق

ص: 204


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /106- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 160 - الطبعة الأولى.
3- وقد أعاده سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) بتفصيله إتماما للفائدة ، وحيث انه وافق التقرير المحرر سابقا كان إعادة تحريره تطويلا بلا طائل ، وانما المهم الإشارة إلى نتيجة الدعوى بعد توجيهها. فراجع ما أوضحناه تعرف. ( منه عفي عنه ).

البدلي ، بين الشمول في طرف المطلق الشمولي ونفس الإطلاق في طرف المطلق البدلي.

وبما ان الشمولية ليست من مفاد الإطلاق ومقدمات الحكمة ، بل مفاد دليل خارجي يختلف باختلاف الموارد ، كان الشمول مقدما على الإطلاق ، اما لأجل انهدام مقدمات الحكمة فيه ، بناء على كون مجراها هو المراد الجدي الملازم لأن تكون إحدى مقدماته عدم البيان إلى الأبد المنتفية بورود البيان بالشمول. أو لأجل أقوائية ظهور دليله على ظهور المطلق في الإطلاق ، بناء على كون مجراها هو المراد الاستعمالي ، فقد تقرر ان كل دليل يصادم الإطلاق ولم يكن من سنخه يكون مقدما عليه بلا كلام لأحد الوجهين المشار إليهما فعلا ، وبهذا الوجه الّذي أوضحناه بمقدمات ثلاث تعين علينا موافقة المحقق النائيني في أصل الكبرى الكلية ، وهي ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي فان نسبة دليل الشمول إلى مقدمات الحكمة نسبة الوارد إلى المورود.

المقام الثاني : في انطباق هذه الكبرى الكلية على موردنا الّذي نحن فيه ، وكون المقام من صغرياتها ، والّذي يظهر من الشيخ وصاحب الكفاية المفروغية عن هذه الجهة وانما الكلام في الكبرى فقط.

إلاّ انه استشكل في ذلك : بأنه لو سلمت الكبرى الكلية - أعنى ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي - فلا تنطبق على ما نحن فيه ، وعليه فلا تصلح دليلا على تعيين رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

وبيان ذلك : ان القيد الّذي يدور أمره بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة اما ان يكون متصلا أو منفصلا.

فان كان متصلا : لم ينعقد للهيئة ظهور في الإطلاق وكذا المادة ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية الموجب لإجماله فلا يبقى موضوع للترجيح ، إذ ليس هناك إطلاق شمولي وإطلاق بدلي كي يرجح أحدهما على الأخر.

ص: 205

وان كان منفصلا : فلأنه وان انعقد لكل من الدليلين ظهور في الإطلاق ، إلاّ ان تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي من جهة أقوائية ظهوره انما يكون فيما إذا كان التنافي بين الإطلاقين بحسب ذاتيهما ، بان كان مدلول كل منهما ينافي الآخر في نفسه. واما إذا لم يكن بينهما تناف ، بل علم بخطإ أحدهما من الخارج ، لم يكن وجه لتقديم الأقوى ظهورا على غيره. وما نحن فيه كذلك ، إذ ليس بين كل من الإطلاقين منافاة ذاتية ، إلاّ انه بعد ورود التقييد وتردد أمره بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة يعلم إجمالا بعدم موافقة أحدهما للواقع (1).

وفيه ما لا يخفى : اما حكمه بإجمال الدليلين فيما لو كان القيد متصلا ، فوجه الخدشة فيه : انه قد عرفت ان التصادم انما هو بين شمول أحد الإطلاقين والإطلاق الأخر ، ومن الواضح ان القيد المتصل إنما يوجب إجمال الإطلاق البدلي ، لأنه يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة ، وبوجودها يصلح للقرينية فلا تتم المقدمات ولكنه لا يوجب إجمال الشمول ، لأنه ليس بمدلول للدليل اللفظي كي يوجب إجماله وجود القيد المتصل المجمل ، بل هو مفاد قرينة عقلية لا ترتبط بعالم اللفظ ، فلا يوجب القيد المجمل إجمالها.

واما حكمه بعدم الترجيح في صورة انفصال القيد ، فلا يظهر وجهه : لأن التعارض البدوي بين الدليلين الّذي يرتفع بالجمع العرفي بينهما بما عرفت ، إنما هو عبارة عن تنافيهما وعدم إمكان اجتماعهما معا تحت دليل الحجية ، وهذا كما يتحقق بالتنافي الذاتي بين الدليلين كذلك يتحقق بالتنافي العرضي المتحقق بالعلم الخارجي بكذب أحدهما. وكما يجري وجه الجمع الّذي عرفته في صورة التنافي وبحسب ذاتهما كذلك يجري في صورة التنافي بالعرض ، ولا وجه للتفكيك بين الصورتين.

ص: 206


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 338 - الطبعة الأولى.

فالتحقيق ان يقال في وجه عدم انطباق الكبرى الكلية على المورد : ان أساس تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي على ما عرفت ، هو بيان ان لكل من الإطلاقين دالّين ومدلولين ، إطلاق وشمول وإطلاق وبدلية ، والدال على الإطلاق غير الدال على الشمول أو البدلية بضميمة ان المعارضة بين شمول أحدهما وإطلاق الآخر ، وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه ، فان الشمول بالمعنى المصطلح ليس هو مفاد الهيئة ، وإلا لما ثبت ذلك بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، بل كان في ثبوته محتاجا إلى جريان مقدمات عقلية أخرى غير مقدمات الحكمة. ولذلك عبّر عنه صاحب الكفاية بقوله : « فإن وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير ... » (1) ، فانه إشارة إلى ان الشمول ليس بمعناه المصطلح ، المراد به شمول افراد الطبيعة.

الوجه الثاني : ان تقييد إطلاق الهيئة يستلزم تقييد إطلاق المادة والتصرف فيه ، إذ يمتنع أخذ المادة بدون قيد الوجوب ، وتقييد المادة لا يستلزم تقييد إطلاق الهيئة وهو واضح. ومن الواضح انه إذا دار الأمر بين تقييد وتقييدين كان الترجيح للتقييد الواحد ، إذ الالتزام بالتقييدين ارتكاب لمخالفة الظاهر بأكثر من الالتزام بالتقييد الواحد ، لأن التقييد على خلاف الأصل. وعليه فيتعين إرجاع القيد إلى المادة لأنه يستلزم تقييدا واحدا (2).

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية ، والتزم بلزوم الالتزام بالتفصيل بين القيد المتصل والقيد المنفصل. ببيان : انه إذا كان القيد متصلا ورجع إلى الهيئة كان ذلك مانعا عن انعقاد الظهور الإطلاقي في المادة ، لانتفاء محل الإطلاق فيها بعد امتناع ثبوتها بدون قيد الوجوب ، فلا ظهور للمادة في الإطلاق كي يكون

ص: 207


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /106- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /49- الطبعة الأولى.

التصرف فيه مخالفة للظاهر ، بل تقييد الهيئة يرفع موضوع الظهور الإطلاقي ، لا انه يتصرف في الظهور الثابت ، والأول ليس فيه مخالفة للأصل ، إذ مخالفة التقييد للأصل باعتبار انه مناف لظهور الإطلاق وموجب لرفع اليد عنه والتقييد هاهنا ليس كذلك. واما إذا كان منفصلا ، فحيث أنه قد انعقد ظهور للمادة في الإطلاق ، فرجوع القيد إلى الهيئة يوجب رفع اليد عن هذا الظهور وهو خلاف الأصل.

وبالجملة : الوجه انما يتجه في ما كان القيد منفصلا ، اما إذا كان متصلا فلا يدور الأمر بين تقييد وتقييدين ، بل بين تقييد وتقييد ، لأن تقييد الهيئة يمنع من انعقاد ظهور المادة في الإطلاق ، لا انه يرفع ظهورها المنعقد ، كما هو الحال في القيد المنفصل ، والمخالف للأصل هو الثاني دون الأول (1).

ولكن المحقق النائيني قدس سره وافق الشيخ رحمه اللّه وخالف صاحب الكفاية في تفصيله ، بدعوى : انه مع دوران الأمر في رجوع القيد المتصل إلى الهيئة أو المادّة ، يكون تقييد المادة وعدم تمامية الإطلاق فيها متيقنا ، اما لرجوعه إليها واقعا أو لرجوعه إلى الهيئة.

وعليه ، فيكون تقييد الهيئة مشكوكا بدوا فينفي بأصالة الإطلاق فيها.

وبالجملة : انه مع وجود القدر المتيقن في التقييد يكون الباقي مشكوكا ينفي بأصالة الظهور في المطلق. فأصالة الظهور في طرف الهيئة بلا معارض لكون المتيقن تقييد المادة ، واما تقييدها فهو مشكوك ينفي بالأصل (2).

هذا ، ولكن حيث ان أساس هذه المناقشات والدعاوي هو استلزام تقييد الهيئة لتقييد المادة دون العكس التي أخذ في الكلمات مفروغا عنه ، لا بد لنا من معرفة مقدار صحة ذلك.

ص: 208


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /107- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 165 - الطبعة الأولى.

فقد ادعي : عدم الملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادة.

وقرب المحقق الأصفهاني ذلك بوجهين (1). ذكر ثانيهما السيد الخوئي كما في تقريرات بحثه ..

وهو : أن تقيد الهيئة معناه أخذ القيد مفروض الوجود غير داخل تحت الطلب ، سواء كان اختياريا أو لا ، فيكون تحقق الحكم معلقا على تحققه. واما تقييد المادة فمعناه أخذ المتقيد تحت الطلب الملازم لوجوب تحصيل القيد إذا كان اختياريا. ولا يخفى ان النسبة بين هذين التقييدين عموم من وجه ، فهما يجتمعان في مورد ، فيكون القيد قيدا للمادة والهيئة ، ويفترقان في مورد. اما اجتماعهما ففي مثل الوقت الخاصّ بالنسبة إلى الصلاة ، فانه قيد لوجوب الصلاة كما انه قيد لصحة الصلاة. واما مورد افتراق تقييد المادة عن تقييد الهيئة فكتقيد الصلاة بالطهارة ، فان وجوبها غير مقيدة بها. واما مورد افتراق تقيد الهيئة عن تقيد المادة فكاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة ، فان وجوبه لا يتحقق بدون الاستطاعة ، مع انه لا يعتبر في صحة الحج تحقق الاستطاعة ، فانه لو استطاع شخص ثم أزال الاستطاعة وحجّ متسكعا كان حجّة صحيحا. وإذا تبين ان بين التقييدين عموما من وجه لم يكن وجه لدعوى استلزام تقييد الهيئة لتقيد المادة ، لوجود بعض الموارد التي تتقيد فيها الهيئة دون المادة (2).

ولا يخفى ما فيه : فان القيد إذا أخذ قيدا للوجوب كان تقيد الواجب به بما انه واجب قهريا ، إذ يستحيل تحقق الواجب بدون الوجوب ، والمفروض توقف الوجوب على تحقق القيد. وعليه فيمتنع ان يؤخذ مع كونه قيدا للوجوب قيدا للواجب ، بحيث يكون التقيد به مطلوبا الملازم لطلب تحصيله - أي نفس

ص: 209


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 193 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 343 - الطبعة الأولى.

التقيد - لو كان اختياريا ، وذلك لأنه بعد أن أخذ قيدا للوجوب كان التقيد به قهريا لا ينفك عن الواجب فلا يتجه تعلق الطلب به وأخذه في حيز الطلب.

وبالجملة : ما يؤخذ قيدا للوجوب يستحيل ترشح الطلب عليه وعلى التقيد به ، وهذا امر واضح لا سترة عليه ، وعلى هذا فيمتنع ما ذكره من إمكان ان يكون القيد قيدا للوجوب والواجب ، وما ذكره من إمكان ان يكون القيد قيدا للوجوب بلا ان يتقيد به الواجب ، لما عرفت من قهرية التقييد واستحالة انفكاكه عن أخذ القيد قيدا للوجوب ، ومعه يمتنع تعلق الطلب به لأنه طلب الحاصل.

واما ما ذكره من المثال على الأول ، من قيدية الوقت الخاصّ للصلاة ولوجوبها ، إذ لا كلام في كون الوقت الخاصّ شرطا في الصحة ، كما انه قيد للوجوب ، فيمكن التفصي عنه بعد ان عرفت امتناع مثل هذا عقلا ، بان يقال : ان الوقت الخاصّ قيد للواجب فقط دون الوجوب ، وما يكون قيد الوجوب هو ما به ابتداء ذلك الوقت كالزوال والغروب ونحوهما. فحدوث الوجوب المتعلق بصلاة الظهر واستمراره قد أخذ الزوال شرطا له ولم يؤخذ الزوال قيدا للواجب ، واما الوقت من بعد الزوال إلى الغروب فهو قيد للواجب ، بمعنى ان تقيد الصلاة به قد أخذ في حيّز الطلب ، فالصلاة الواجبة هي الصلاة المأتي بها في الوقت الخاصّ المعين. وليس في هذا المعنى كبير مخالفة لظواهر الأدلة ، بل تمكن دعوى انه ظاهر الأدلة ، لأن الظاهر قيدية الزوال ونحوه للوجوب كما هو ظاهر الآية والرواية ، اما الآية فقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) ، واما الرواية فقوله علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجب الصلاة والطهور » (2).

ص: 210


1- سورة الإسراء ، الآية : 78.
2- عن أبي جعفر علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. وسائل الشيعة 1 / 291 باب : 4 من أبواب الوضوء ، حديث : 1.

واما ما ذكره شاهدا على الثاني ، من عدم قيدية الاستطاعة للحج مع كونها قيدا للوجوب ، ففيه ما لا يخفى : فان الاستطاعة التي تكون شرطا للوجوب هو مطلق الاستطاعة ولو حصلت في آن واحد لا الاستطاعة المستمرة. وبعبارة أخرى : الاستطاعة حدوثا شرط للوجوب لا الاستطاعة بقاء ، ومن الواضح ان تقيد الحج بالاستطاعة الحادثة المرتفعة أمر لا كلام فيه ، فالواجب قد تقيد قهرا بما هو شرط للوجوب وهو الاستطاعة الحدوثية ، والاستطاعة في حال العمل ليس شرطا للوجوب كي يكون عدم اعتبارها في صحة العمل كاشفا عن إمكان انفكاك الواجب عن قيد الوجوب ، وإلاّ امتنع صحة العمل بدونها لعدم تحقق الوجوب في حال العمل لعدم شرطه.

وبالجملة : ما أخذ من الاستطاعة شرطا للوجوب قد تقيد به الواجب قهرا ، وغيره لم يؤخذ شرطا للوجوب ، فتقيد الواجب به وعدمه يحتاج إلى دليل خاص ، وعدم تقيده لا يكون دليلا وشاهدا على ما ادعاه. فلاحظ.

واما الوجه الأول فهو : ان للمادة جهتين : إحداهما : جهة المطلوبية. والأخرى : جهة الوفاء بالملاك والمصلحة مع غض النّظر عن تعلق الطلب بها ، ورجوع القيد إلى الهيئة وان أوجب تقيد المادة من الجهة الأولى ، إذ يمتنع تحقق مطلوبية المادة بدون تحقق قيد الطلب لعدم الطلب بدونه. ولكنه لا نظر له إلى الجهة الثانية ، فان الوفاء بالملاك لا يلازم الطلب.

وعليه ، فإطلاق المادة من جهة الوفاء بالمصلحة وتحقق الملاك بها بدون القيد لا ينثلم بتقييد الهيئة ، إذ النّظر في التقييد إلى جهة الطلب لا غير. ونظير هذا ثابت في موارد التزاحم ، فانه يتمسك بإطلاق المادة لإثبات تحقق الملاك بها في صورة المزاحمة مع عدم تعلق الطلب بها للمزاحمة بما هو أهم (1).

ص: 211


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 193 - الطبعة الأولى.

وهذا الوجه متين ، لكنه يبتني على صحة التمسك بإطلاق المادة في إثبات تحقق الملاك في غير صورة الطلب. ولكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان عدم تمامية هذا الوجه في إثبات الملاك في غير صورة الطلب. وان هناك وجها آخر لإثباته وهو التمسك بالدلالة الالتزامية للظهور الإطلاقي. فانتظر.

والّذي يتحصل : ان الكبرى المذكورة في كلام الشيخ ، وهي ملازمة تقييد الهيئة لتقييد المادة مسلمة.

واما تحقيق المقام بعد تسليمها فقد عرفته مما تقدم ، وان ما ذكره المحقق النائيني هو المتجه. فلاحظ.

التقسيم الثالث : انقسامه إلى الواجب النفسيّ والغيري.

وقد اختلف في تعريفهما وبيان حقيقتهما.

فعرفهما المشهور : بان النفسيّ ما كان إيجابه لا لداعي التوصل به إلى واجب آخر. والغيري ما كان الداعي فيه هو التوصل إلى واجب آخر. وهو المراد من ان النفسيّ ما وجب لنفسه والغيري ما وجب لغيره.

ولكن أورد على هذا التعريف : بأنه يستلزم ان تكون أكثر الواجبات ، بل كلها سوى المعرفة باللّه ، واجبات غيرية ، لأن الأمر بها انما يكون لأجل ما يترتب عليها من الأثر والفائدة ، فان تحصيل هذا الأثر اما ان يكون لازما أو غير لازم ، فعلى الثاني لا وجه لإيجاب العمل الّذي يترتب عليه الأثر لأجله ، لعدم كون المصلحة لزومية ، وعلى الأول كان الواجب واجبا غيريا لأنه وجب للتوصل به إلى واجب آخر. نعم المعرفة باللّه واجبة لنفسها ، لأنها محبوبة بذاتها.

والإيراد عليه : بان الأثر المترتب لما كان خارجا عن قدرة المكلف ، لأنه من خواص العمل امتنع تعلق الوجوب به ، وان كانت محبوبيته بحد اللزوم.

مندفع - كما جاء في الكفاية - : بأنها داخلة تحت قدرة المكلف بالقدرة على أسبابها ، فتكون كسائر المسببات التوليدية التي يتعلق بها التكليف بلحاظ القدرة

ص: 212

عليها بالقدرة على أسبابها. كالتمليك والتطهير ونحوهما من المسببات التوليدية المتعلقة للتكاليف.

وقد أجاب صاحب الكفاية عن هذا الإيراد : بان الفعل وان كان يترتب عليه الأثر ، إلاّ أنه معنون بعنوان حسن في نفسه ، والإيجاب متعلق به بما انه كذلك ، وان كان في الواقع مقدمة لأمر مطلوب واقعا. وهذا بخلاف الوجوب الغيري ، فان جهة الوجوب متمحضة في كونها التوصل إلى واجب نفسي. فالواجب النفسيّ بنظر صاحب الكفاية ما امر به لتعنونه بعنوان حسن وان كان مقدمة لغيره. والواجب الغيري ما امر به لأجل المقدمية والتوصل إلى الغير وان كان معنونا بعنوان حسن في نفسه. وقد ذكر انه يمكن ان يكون هذا المعنى مراد المشهور من ان الواجب النفسيّ ما أمر به لنفسه والغيري ما أمر به لأجل غيره (1).

وقد تصدى المحقق النائيني لدفع الإيراد المذكور : بان نسبة الفعل الواجب إلى الأثر ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه كي يكون مقدورا بالواسطة ، بل نسبته إليه نسبة المعد إلى المعد له ، لأن الأثر لا يترتب على الفعل مباشرة أو بتوسط أمور اختيارية ، بل يتوسط بينه وبين الفعل أمر غير اختياري ، فيمتنع تعلق التكليف به ، لكونه غير مقدور حتى بالواسطة ، كما لو امره بشرب الدواء لأجل رفع المرض ، فان رفع المرض لا يترتب على شرب الدواء مباشرة ، بل تتوسط بينه وبين الشرط أمور غير اختبارية ، كمصادفة الدواء محل المرض ونحوها. وكما لو أمره بالإتيان بالماء ليشرب ، فان شرب المولى يتوقف على إرادته ، ولا يترتب على الإتيان بالماء فقط.

وبالجملة : الغايات المترتبة على الواجبات النفسيّة غير مقدورة ، ونسبة

ص: 213


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /107- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواجب إليها نسبة المعدّ إلى المعدّ له.

ثم استشكل فيما أفاده صاحب الكفاية في دفع الإيراد : بأنه يستلزم ان يكون في الواجب النفسيّ ملاكان ملاك الوجوب النفسيّ وملاك الوجوب الغيري وهو ممتنع (1).

وبما ان تحقيق هذا الأمر ليس بذي أثر عملي في المسألة أصلا لا يتجه لنا إطالة الكلام في سبر كلمات الاعلام وتحقيقها ، فالاكتفاء بهذا المقدار لمجرد الإشارة متعين ، والقدر المتيقن هو ان الواجب النفسيّ ما وجب من دون تقيد بوجوب شيء آخر أصلا ، وليس كذلك الغيري فانه مقيد بوجوب شيء آخر. واما حقيقة كل منهما فلا يهمنا معرفتها.

وانما المهم تحقيق الأصل عند الشك في كون واجب معلوم نفسيا أو غيريا.

والكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق مقتضى الأصل اللفظي.

وقد ادعى صاحب الكفاية : إمكان التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات كون الواجب نفسيا لا غيريا (2). خلافا للشيخ حيث أنكر صحة التمسك بالإطلاق. ببيان : ان مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، وهو لا يقبل الإطلاق والتقييد ، لأن الإطلاق والتقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، اما الواقع فهو غير قابل للسعة والضيق كما لا يخفى ، فيمتنع فيه الإطلاق والتقييد.

اما سرّ كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، فيتبين في ان الفعل يتصف بالمطلوبية بمجرد الإنشاء والأمر ، فيقال عنه انه مطلوب. ومن الواضح

ص: 214


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 167 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /108- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان اتصاف الشيء بالعرض انما يكون بطروّ واقع العرض عليه لا مفهومه ، فالجسم لا يتصف بالبياض الا بعروض حقيقة البياض عليه. وعليه فاتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر يكشف عن كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، إذ مفهوم الطلب لا يصحح اتصاف الفعل بالمطلوبية (1).

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية : بان واقع الطلب يمتنع ان يكون مدلولا للصيغة ، فان وجود واقع الطلب تابع لأسبابه التكوينية الخارجية ، لأنه من الصفات النفسانيّة الخارجية ، ولا يتحقق بالإنشاء ، فلا وجه لإنشائه لعدم وجوده بالإنشاء. فالمتعين ان يكون مدلول الصيغة مفهوم الطلب القابل لتعلق الإنشاء به ، فانه أحد أسباب وجوده ، فيوجد بوجود إنشائي وهو غير الوجود الخارجي والذهني كما تقدم تحقيقه.

واما وجه اتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر والإنشاء : فهو لأجل تعلق الطلب الإنشائي به ، والمقصود بوصف المطلوبية هو المطلوبية الإنشائية ، التي قد تلازم المطلوبية الحقيقية وقد تنفك عنها.

وبالجملة : الطلب العارض على الفعل والّذي يوصف به العمل المطلوب هو الطلب الإنشائي المتحقق بالإنشاء.

وإذا تبين ان مدلول الصيغة هو مفهوم الطلب ، فهو قابل للإطلاق والتقييد. وتقريب التمسك بالإطلاق في إثبات النفسيّة : هو ان مدلول الصيغة وان كان يعم الطلب النفسيّ والغيري ، لكنه قد تقدم ان الوجوب النفسيّ الوجوب الثابت سواء وجب شيء آخر أو لا ، والغيري هو الثابت عند وجوب شيء آخر فالذي يحتاج إلى التنبيه عرفا والمئونة الزائدة على أصل مدلول الكلام هو الوجوب الغيري لأنه مقيد ، فمع عدم التقييد يتمسك بإطلاق الهيئة في ثبوت

ص: 215


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /68- الطبعة الأولى.

الوجوب مطلقا ، سواء وجب شيء آخر أو لم يجب في قبال تقييده بثبوته عند وجوب غيره. وعليه فيثبت بالإطلاق كون الواجب نفسيا (1).

وقد أورد المحقق الأصفهاني على ما أفاده صاحب الكفاية إيرادات ثلاثة :

الأول : ان التفاوت بين النفسيّ والغيري لما كان من جهة ان النفسيّ ما كان الداعي إلى وجوبه حسن ذاته والغيري ما كان الداعي إلى وجوبه التوصل به إلى واجب نفسي ، وكان المحتاج إلى التنبيه عرفا هو المعنى الثاني - أعنى ما كان الداعي فيه التوصل إلى واجب آخر - كان اللازم جعل الإطلاق بمعنى عدم تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير نفس الواجب ، لا بمعنى عدم تقييده بوجوب شيء آخر كما هو ظاهر صاحب الكفاية ، فان الإطلاق بالمعنى الّذي ذكرناه هو المتناسب مع واقع النفسيّة دون ما أفاده صاحب الكفاية ، فانه ليس بمعنى النفسيّة ، بل هو لازم لها.

الثاني : ان التقييد بالمعنى الّذي عرفته ، أعنى كونه منبعثا عن داع غير الواجب لا يتنافى مع كون البعث المنشأ جزئيا حقيقيا. وعليه فلا مانع من التمسك بإطلاق الصيغة في نفيه وان التزم بان الموضوع له هو واقع الطلب ، إذ مرجع التمسك بالإطلاق إلى التمسك بظهور الصيغة في هذا الفرد دون ذلك ، لاحتياج أحدهما إلى مئونة دون الآخر.

الثالث : ان القيود تارة تكون من الشئون والأطوار. وأخرى تكون من قبيل الدواعي والأسباب ، فإذا كان من الأول أوجب تضييق المعنى المقيد ، بخلاف ما إذا كان من قبيل الثاني ، فان تقييد الشيء بداع خاص لا يوجب تضييق معناه ، وعليه فالتقييد بالداعي لا يوجب التضييق.

وعلى هذا فلا مانع من تقييد مدلول الصيغة بداع خاص ، وان التزم بأنه

ص: 216


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /109- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فرد الطلب وواقعه ، لعدم منافاة هذا التقييد للفردية ، لأنه لا يوجب التضييق ، كي يقال : ان التضييق من شأن المفاهيم لا الافراد ، ومع ذلك فلا مانع من التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات الفرد الخاصّ ، لأنه لا يحتاج إلى مزيد بيان (1).

وقد ذكر هذا المطلب في مبحث الواجب المشروط ، في مقام بيان إمكان رجوع القيد إلى الهيئة ، ولو التزم بان مدلولها الفرد لا المفهوم ، بتقرير : ان التقييد بمعنى التعليق لا يستلزم التضييق الممتنع في الافراد (2). وقد وافقه السيد الخوئي في ذلك ، وأورد هذا الأمر في مقام إيراده على المحقق النائيني كما تقدم ذكره فراجع.

والإنصاف ان هذه الوجوه مخدوشة كلها :

اما الأول : فلان إرجاع الإطلاق إلى نفي التقييد بكون الداعي في البعث هو واجب آخر ، وإثبات التقييد بانبعاث الوجوب عن حسن ذات الواجب يتنافى مع التمسك بالإطلاق ، لأن كلا من خصوصيتي النفسيّة والغيرية بالمعنى الّذي ذكره قيد زائد على أصل الوجوب ، سواء قلنا بان النفسيّة عبارة عن انبعاث الوجوب عن حسن نفسه فتكون قيدا وجوديا. أو انبعاثه لا عن داعي غيره فتكون قيدا عدميا. فالنفسية من هذه الجهة قيد زائد على أصل الوجوب يحتاج إلى بيان كالغيرية ، ولا وجه لدعوى أنه لا يحتاج إلى بيان زائد بعد ان كان قيدا كسائر القيود العدمية أو الوجودية. فالتمسك بالإطلاق من هذه الجهة غير صحيح. نعم في الواجب النفسيّ جهة أخرى تتلاءم مع الإطلاق ، وهي ثبوت وجوبه مطلقا وفي سائر الأحوال وجب هناك شيء آخر أو لا ، بخلاف الغيري فان وجوبه يكون في ظرف وجوب غيره ، والتمسك بالإطلاق من هذه الجهة لا

ص: 217


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 196 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 181 - الطبعة الأولى.

محذور فيه ويثبت به الوجوب النفسيّ ، فما أفاده صاحب الكفاية في جهة التمسك بالإطلاق مما لا محيص عنه.

وبالجملة : في الواجب النفسيّ جهتان :

إحداهما : كونه منبعثا عن حسن نفسه ، أو لا عن غيره.

ثانيتهما : كونه ثابتا على جميع التقادير وفي جميع الأحوال ، ولا يمكن التمسك بالإطلاق من الجهة الأولى ، لأنها قيد زائد تحتاج إلى بيان وان كان عدميا ، لأن ما لا يحتاج إلى البيان الزائد هو عدم القيد لا التقيد بالعدم ، فان التقيد بالعدم كالتقيد بالوجود قسيم الإطلاق وينفي به. نعم يمكن التمسك بالإطلاق من الجهة الثانية ، وبها يثبت الوجوب النفسيّ ، وإليها نظر صاحب الكفاية في كلامه ، فما أفاده متجه.

واما الثاني : فقد اتضحت الخدشة فيه ، لأنه متفرع على تمامية الأول ، فبعد ان عرفت أن موضوع الإطلاق لا يرتبط بداعي الوجوب ، بل بثبوت الوجوب مطلقا ، لا يبقى مجال لدعوى ان التقييد بالغيرية بهذا المعنى - أي بمعنى الانبعاث عن داع غير الواجب - لا يتنافى مع الجزئية الحقيقية ، إذ الإطلاق لا يثبت النفسيّة من هذه الجهة كي يدعى عدم منافاتها للجزئية الحقيقية ، والبحث أجنبي عنها.

واما الثالث : فلان موضوع التقييد بالداعي وما هو من قبيله مما كان في مرحلة سابقة عن وجود الشيء أو لاحقة له ، اما ان يفرض المفهوم أو المصداق. فإن فرض المفهوم فاستلزامه لتضييق دائرته أمر بديهي غير قابل للإنكار ، فان المفهوم بعد تقييده بداع خاص يتحدد صدقه على الافراد وتتضيق دائرة انطباقه ، فمفهوم الاحتراق - مثلا - ينطبق على كل فرد من افراده ، فإذا قيد بما كان ناشئا عن السبب الخاصّ كالنار تضيقت دائرة صدقه فلا ينطبق حينئذ على ما حصل من الكهرباء. وان فرض المصداق ، فهو غير قابل للتضييق ، كما هو المفروض ،

ص: 218

سواء كان القيد من قبيل الدواعي أو كان من الشئون والأطوار. فالتفريق بين القيود في استلزام نحو منها التضييق وعدم استلزام نحو آخر منه لا وجه له ، بل هي جميعها مستلزمة للتضييق ان قيد بها المفهوم ، وغير مستلزمة له ان قيد بها المصداق لعدم قابليته للتضييق.

وبعبارة أخرى : انه إذا كان الغرض من التفريق بين نحوي القيود هو بيان قابلية مدلول الهيئة التي هو الفرد الحقيقي للطلب للتقيد بالداعي الخاصّ ، لعدم كون التقييد به موجبا للتضييق الممتنع في الفرد كالتقييد بما هو من شئون الشيء ، فانه يمتنع طروّه على الفرد ، لأن مفاده التضييق وهو ممتنع في الفرد ، إذا كان الغرض ذلك فهو منتف ، لأن التقييد بكلا نحويه يؤدي إلى تضييق دائرة المقيد فيمتنع ان يتحقق فيما هو غير قابل للضيق.

وخلاصة الكلام : ان ما أفاده صاحب الكفاية في تقريب التمسك بالإطلاق ، وفي دفع ما قيل في منع الإطلاق ، وجيه من الجهة التي ينظر إليها صاحب الكفاية ، أعنى عموم الموضوع له وخصوصه.

والّذي يتحصل : انه ان التزم بكون مدلول الهيئة واقع الطلب ، أو انه النسبة الخاصة الطلبية ، كما هو التحقيق ، امتنع التمسك بإطلاق الهيئة في إثبات الوجوب النفسيّ لعدم قابليتها للتقييد.

واما بناء على ما التزم به صاحب الكفاية من كون مدلول الهيئة مفهوم الطلب القابل للتقييد ، كان التمسك بإطلاق الهيئة باعتبار هذه الجهة ممكنا.

إلا أنه يشكل من جهة أخرى تقدم ذكرها فيما مرّ ، وهي ان مدلول الهيئة بنظر صاحب الكفاية وان كان معنى عاما ، إلا أنه ملحوظ باللحاظ الآلي ، فانه هو الفارق بين معاني الأسماء والحروف في نظره قدس سره ، ولا يخفى ان الإطلاق يتنافى مع هذا الفرض ، إذ هو يستدعي تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمطلق ، كيف؟ والمفروض انه يكون في مقام البيان الملازم لتوجه المتكلم إلى

ص: 219

المعنى استقلالا.

وعليه ، فالتمسك بإطلاق الهيئة ممتنع ، لأن معناها ملحوظ آليا وهو لا يتلاءم مع الإطلاق. وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الإشكال في مبحث مفهوم الشرط (1) ، ولذا عدّ ما ذكره هناك مناقضا لما ذكره هنا ، وما ذكره في مبحث الواجب المشروط من صحة رجوع القيد إلى الهيئة.

وقد عرفت فيما تقدم التخلص عن إشكال التناقض : بأنه لم يصرح هنا بالتمسك بإطلاق الهيئة في إثبات الوجوب النفسيّ ، بل التزم بالتمسك بإطلاق الصيغة ، وهي كما لا يخفى تتألف من الهيئة والمادة ، فلعل مراده هو التمسك بإطلاق المادة - أعني نفس الواجب - في إثبات الوجوب النفسيّ ، وهي معنى اسمي ملحوظ بالاستقلال قابل للإطلاق والتقييد. وقد تقدم تقريب إطلاق المادة. وكلامه وان كان يظهر منه في بعض عباراته التمسك بإطلاق الهيئة ، لكنه يمكن ان يكون نظره إلى بيان نفي المانع من جهة خصوص الموضوع له لا في مقام اختيار هذا المعنى في نفسه والالتزام به ، بل في مقام دفع الإشكال فيه من بعض جهاته. فتأمل.

نعم ، ما جاء منه في الواجب المشروط من إمكان رجوع القيد إلى الهيئة يتنافى بحسب النّظر الأولي مع ما أفاده في مبحث مفهوم الشرط من عدم قابلية المعنى الحرفي للإطلاق لكونه ملحوظا آليا ، إذ التقييد أيضا يستدعي لحاظ المقيد استقلالا لأنه حكم على المقيد ، فيمتنع طروه على المعنى الحرفي لمنافاته لحرفيته.

ولكن قد أشرنا فيما تقدم إلى حلّ هذا التنافي البدوي. فلاحظ.

والنتيجة : ان التمسك بإطلاق الهيئة ممتنع ، لأن مدلولها هو النسبة غير القابلة للتضييق لأنه شأن المفاهيم. مضافا إلى تعلق اللحاظ الآلي بها المنافي

ص: 220


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /195- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

للإطلاق.

نعم ، لا مانع من التمسك بإطلاق المادة ومتعلق النسبة الطلبية ، فانها مفهوم اسمي ملحوظ استقلالا. فلاحظ.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي بعد عدم تمامية الأصل اللفظي.

والتحقيق : انه يختلف باختلاف الموارد ، فقد تتفق نتيجته مع النفسيّة في مورد ومع الغيرية في مورد آخر.

وقد ذكر المحقق النائيني لموارد الشك ثلاث صور :

الصورة الأولى : ان يعلم بوجوب أمرين تفصيلا وكان الوجوبان متماثلين في الإطلاق والاشتراط ، لكنه شك في كون أحدهما مقيدا بالآخر. كما لو علم بوجوب كل من الوضوء والصلاة بعد الزوال وشك في تقيد الصلاة بالوضوء فيكون وجوبه غيريا وعدم تقيده فيكون وجوبه نفسيا.

وبما ان الشك في هذه الصورة يتمحض في تقيد الصلاة بالوضوء ، إذ أصل وجوب كل منهما معلوم ، ولا بد من الإتيان بكل منهما ، فليس المشكوك الا تقيد الصلاة بالوضوء ، ومقتضى أصالة البراءة نفيه ، وعليه فيكون المكلف في سعة في إتيان الوضوء قبل الصلاة وبعدها. وهذا بالنتيجة يتفق مع كون وجوب الوضوء نفسيا فلاحظ (1).

واستشكل فيه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : بان جريان أصالة البراءة في تقيد الصلاة بالوضوء معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسيّ للعلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فلا وجه لإجراء البراءة في طرف مع إمكان جريانها في الآخر. ولأجل ذلك لا بد من الاحتياط بإتيان الوضوء قبل الصلاة (2).

ص: 221


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 170 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 170 - [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

ولا يخفى ان هذا المعنى الّذي ذكره السيد الخوئي مما يلتفت إليه من له قليل علم فضلا عن مثل المحقق النائيني قدس سره ، اذن فما هو الوجه في إجراءه البراءة في التقيد مع أنه طرف العلم الإجمالي؟.

والإجابة عن هذا السؤال هي : ان المحقق النائيني يذهب إلى انحلال العلم الإجمالي المزبور ، وعدم إمكان إجراء البراءة في أحد الطرفين ، فتكون البراءة في الآخر بلا معارض. بيان ذلك : ان وجوب الوضوء معلوم على كل حال نفسيا كان أو غيريا فهو لا يكون مجرى البراءة ، ووجوب التقيد محتمل ، فيكون مجرى البراءة ، لأن أصل البراءة فيه بلا معارض بعد ان امتنع جريانه في طرف الوضوء.

وعلى هذا فتمامية ما ذكره السيد الخوئي تتوقف على مقدمتين :

المقدمة الأولى : هو الالتزام بعدم جريان البراءة في الوجوب الغيري ، باعتبار أنه ليس من المجعولات الشرعية ، بل هو من الأمور اللازمة للوجوب النفسيّ ، فهو كالأمور التكوينية غير قابل للوضع ولا للرفع ، فلا معنى لإجراء البراءة الشرعية فيه. فالوجوب القابل لجريان البراءة هو الوجوب النفسيّ لأنه حكم مجعول قابل للرفع والجعل.

وعليه ، فتكون البراءة من وجوب التقيد معارضة بمثلها ، لجريان البراءة من الوجوب النفسيّ لأنه مشكوك ، واما أصل الوجوب فهو ليس بموضوع البراءة على تقديريه - كما هو المفروض - ، وما هو موضوع البراءة مشكوك وهو الوجوب النفسيّ ، فجريان البراءة فيه يعارض جريانها في وجوب التقيد.

المقدمة الثانية : انه قد يقال - في تقريب مدعى النائيني - : بان لزوم الوضوء واستحقاق العقاب على تركه معلوم على كل حال ، اما على تركه بنفسه لو كان واجبا نفسيا ، أو على ترك الواجب النفسيّ المقيد به لو كان واجبا غيريا ، فلا يكون العقاب عليه عقابا بدون بيان ، بخلاف التقيد فانه لا يعلم لزومه ولا

ص: 222

يعلم بثبوت العقاب على تركه ، فيكون مجرى البراءة العقلية. وان لم يكن مجرى للبراءة الشرعية بمقتضى ما قرّر في المقدمة الأولى.

ويشكل : بان ترتب العقاب على ترك الوضوء اما لتركه نفسه أو ترك الواجب المقيد به بتركه ، مرجعه إلى تقرير العلم الإجمالي المدعى المانع من إجراء البراءة في طرف التقيد ، فان تحقق العقاب على ترك الوضوء لترك الواجب المقيد به يرجع إلى تحقق العقاب على ترك التقيد الواجب ، فليس ترك التقيد طرفا لترك الوضوء بكلا احتماليه كي يكون مجرى البراءة ، بل هو أحد احتمالي ترك الوضوء ، ففي الحقيقة انه يعلم إجمالا بلزوم الوضوء نفسيا لو لزوم التقيد ، وان العقاب ثابت على ترك الوضوء اما من جهة وجوبه النفسيّ أو من جهة استلزامه لترك الواجب. وبعبارة أخرى : يعلم إجمالا بثبوت العقاب على ترك الوضوء أو ترك الصلاة المقيدة به ، وإجراء البراءة في كل طرف معارض بإجرائها في الطرف الآخر ، لأن كل طرف موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والحاصل : ان وجوب التقيد لا يكون مجرى للبراءة الشرعية كما هو مقتضى المقدمة الأولى ، ولا مجرى للبراءة العقلية كما هو مقتضى المقدمة الثانية.

ولكن التحقيق عدم تمامية كلتا المقدمتين ، وما ذكره المحقق النائيني من دعوى الانحلال وجيه ، وذلك :

اما المقدمة الأولى : فلان أساسها هو عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة فيه. وهذا مسلم في الجملة لا مطلقا ، وذلك لأن الوجوب الغيري المستفاد من الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة أمر ذاتي لازم له غير قابل للوضع والرفع ، ولكن قد يلتفت الآمر إلى المقدمات فينشئ حكما خاصا بها ، كما لو قال : « ادخل السوق واشتر اللحم » ، فان الأمر بالمقدمة في مثل الحال أمر مجعول قابل للجعل والرفع ، فيمكن إجراء البراءة فيه مع الشك.

وبالجملة : عدم جريان البراءة فيما لا إنشاء له مستقلا من الوجوبات

ص: 223

الغيرية مسلم لعدم كونه مجعولا شرعيا ، بل هو لازم تكويني - كما يأتي تحقيقه -. واما ما له إنشاء مستقل وجعل خاص ، فلا مانع من إجراء البراءة فيه ، لأنه حكم مجعول قابل للوضع والرفع. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ المفروض تعلق الأمر بالوضوء المردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، فعلى تقدير كونه غيريا يكون من النحو الّذي تجري فيه البراءة. وعليه فوجوب الوضوء - فيما نحن فيه - قابل لجريان البراءة بكلا نحويه ، لكنه لا يكون مجرى البراءة بعد العلم به على كل حال ، فينحل العلم الإجمالي ويكون أصل البراءة في طرف التقيد بلا معارض.

واما المقدمة الثانية : فنورد عليها فعلا بأنه لم يلتزم بعدم الانحلال في مثل هذه الصورة حكما ، بل التزم بالانحلال ، فالإيراد عليه فعلا جدلي.

هذا كله حول ما ذكره في تعليقته على : « أجود التقريرات » من تقريب عدم جريان البراءة بتشكيل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فطرفا العلم الإجمالي هما وجوب الوضوء النفسيّ ووجوب التقيد النفسيّ. ولكنه في تقريرات بحثه قرر العلم الإجمالي بنحو آخر ، وقد أشار إليه في ذيل تعليقته على أجود التقريرات ، وهو : انا نعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا ، أو وجوبه غيريا ، وجريان البراءة في الوجوب الغيري معارض بجريانها في الوجوب النفسيّ (1).

ومن الواضح ان هذا المقدار من البيان لا يرتبط بما هو محل الكلام ، من لزوم التقيد وعدمه ، فان مورد الشك هو لزوم تقيد الصلاة بالوضوء وعدمه ، وقد عرفت ان المحقق النائيني ادعى جريان البراءة فيه ولم يرتض السيد الخوئي ذلك ، وتقرير الإشكال بما عرفته لا ينفع في الإلزام بالإتيان بالتقيد ، وذلك لأن

ص: 224


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 170 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى. الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 392 - الطبعة الأولى.

مقتضى العلم المذكور ليس إلا الإتيان بالوضوء ، اما الإتيان بالصلاة مقيدة به فلا ، إذ ليس ذلك من آثار الوجوب الغيري - كي يلزم ترتيبه بمقتضى العلم الإجمالي - ، وانما هو من ملازماته والمفروض أنه غير معلوم كي يعلم بلازمه ، فهو نظير عدم ترتب نجاسة الملاقي لما هو محتمل النجاسة الّذي يكون طرفا للعلم الإجمالي.

فلا بد من تتميم هذا البيان بان يقال : ان هناك علما إجماليا آخر متعلق بالوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء والتقيد ، فلدينا علمان إجماليان ذو أطراف ثلاثة لاشتراك أحد الطرفين فيهما ، لأن أحدهما متعلق بوجوب الوضوء المردد بين النفسيّ والغيري ، والآخر متعلق بوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء والتقيد. فوجوب الوضوء النفسيّ طرف لكلا العلمين.

وعليه ، فيقال : ان جريان البراءة في كل من أطراف هذين العلمين معارض بجريانه في الطرف الآخر ، فيمتنع جريان البراءة في طرف التقيد لمعارضته بجريانها في الوجوب النفسيّ للوضوء. فلا ينحل العلم الإجمالي - كما ادعي -.

وأنت خبير : بان هذا الوجه إنما يجدي في إثبات الاحتياط والإتيان بالصلاة مقيدة بالوضوء لو فرض ان لكل من خصوصيتي النفسيّة والغيرية أثرا خاصا بها غير أصل الإلزام الّذي هو مقتضى أصل الوجوب الجامع. كي يكون إجراء البراءة فيه بلحاظ نفي ذلك الأثر. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس لكل منهما أي أثر إلزامي. وعليه فليست النفسيّة والغيرية موضوعا لأصل البراءة كي يدعى معارضتها بالبراءة في الطرف الآخر. واما أصل وجوب الوضوء فهو معلوم غير قابل لإجراء البراءة فيه ، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض ، إذ البراءة لا تجري في أصل وجوب الوضوء للعلم به ، ولا تجري في خصوصية النفسيّة والغيرية لعدم الأثر فيها. فلاحظ.

ص: 225

هذا ولكن الإنصاف : ان الاحتياط بالإتيان بالوضوء قبل الصلاة ليتحقق التقيد هو المتعين ، بيان ذلك : انه وقع الكلام في جريان البراءة الشرعية التي يتكفلها حديث الرفع في نفي الوجوب الغيري المشكوك.

والسّر في ذلك هو : الخلاف في كون المرفوع في حديث الرفع هل هو الحكم الشرعي المجعول ، أو أنه المؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي؟ فعلى تقدير كون المرفوع نفس الحكم المجعول أمكن القول بجريان البراءة في الوجوب الغيري إذا كان مجعولا ، لا الوجوب الغيري المبحوث عنه في علم الأصول وهو الملازم للوجوب النفسيّ ، لأن هذا غير قابل للوضع والرفع ، لأنه من الأمور التكوينية غير المجعولة شرعا.

نعم قد يتفق إنشاء البعث الغيري - كما ذكرنا ذلك - ، فهو المورد القابل لجريان البراءة لو التزم بان المرفوع هو الحكم المجعول ، فان مقتضى إطلاق حديث الرفع هو رفع الحكم المجعول مطلقا نفسيا كان أو غيريا.

وعلى تقدير كون المرفوع رأسا هو المؤاخذة لا الحكم نفسه - كما هو رأي الشيخ - فاما ان يقصد رفع المؤاخذة المترتبة على نفس العمل لأجل مخالفة الحكم المتعلق به ، أو يقصد به رفع المؤاخذة المتأتية منه ولو كانت على غيره مباشرة. وبعبارة أخرى : المؤاخذة على العمل اما ان تكون على نفسه مباشرة ، أو تكون على غيره ولكن كانت بواسطته وكان هو سببا لتحقق مخالفة الحكم الثابت على غيره ، فالكلام في حديث الرفع في أنه يرفع المؤاخذة المترتبة على العمل مباشرة أو الأعم منها ومن المؤاخذة المترتبة بواسطة هذا العمل. وبتعبير أوضح : هل حديث الرفع يرفع المؤاخذة على العمل ، أو المؤاخذة من جهة العمل ولو لم تكن عليه بل على غيره؟.

فعلى الأول : يمتنع جريان البراءة في نفي الوجوب الغيري ، إذ من الواضح انه لا مؤاخذة على ترك الواجب الغيري بما انه كذلك ، بل تتحقق

ص: 226

المؤاخذة عند تركه لترك الواجب النفسيّ بتركه ، فالمؤاخذة على ترك الواجب النفسيّ لا ترك الواجب الغيري. وعليه فلا معنى لشمول حديث الرفع للوجوب الغيري.

واما على الثاني : فالوجوب الغيري مشمول لحديث الرفع ، إذ بترك الواجب الغيري يترتب العقاب على ترك الواجب النفسيّ بتركه.

وبما ان المختار - كما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّه تعالى - هو كون المرفوع هو المؤاخذة على نفس العمل ، لا الحكم المجعول ، ولا المؤاخذة المترتبة عند تحقق العمل أعم من ان تكون على نفس العمل أو على غيره ، كان القول بعدم جريان البراءة الشرعية في الوجوب الغيري هو المتعين.

واما البراءة العقلية : فهي غير جارية بلا إشكال ، لأن ملاكها هو قبح العقاب بلا بيان ، ومرجع ذلك إلى أنه لو كان في الواقعة حكم واقعي تترتب على مخالفته في نفسه المؤاخذة ، بحيث يكون مقتضيا لها ، فلا تصح المؤاخذة على مخالفته بدون الوصول إلى المكلف والعلم به. فموضوع القاعدة وجود المقتضي للعقاب ، ولكنه لا يؤثر بدون البيان. ومن الواضح ان الوجوب الغيري لا يقتضي العقاب والمؤاخذة ، إذ ليس على مخالفته بنفسه عقاب ، فهو خارج عن موضوع ثبوت البراءة العقلية.

فالمتحصل : ان الوجوب الغيري غير قابل للبراءة العقلية ولا الشرعية.

وعليه ، فحيث يعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، كان جريان البراءة من وجوب التقيد النفسيّ معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسيّ.

ودعوى : الانحلال بالعلم بوجوب الوضوء الجامع بين النفسيّ والغيري ، فلا يكون مورد البراءة.

مندفعة : بان كلي الوجوب وطبيعيه ليس مجرى البراءة ، لأنه ليس بكلا

ص: 227

نحويه قابل لجريانها ، وما هو مجرى البراءة وهو خصوص الوجوب النفسيّ مشكوك وليس بمعلوم ، فالمقتضي للبراءة فيه ثابت ، فيعارض البراءة من وجوب التقيد. فالوجه في عدم جريان البراءة هو : عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة فيه.

ولأجل ذلك لا يتجه من السيد الخوئي إنكار الانحلال ، ودعوى لزوم الاحتياط ، لأن كلامه صريح في جريان البراءة في الوجوب الغيري ، ومعه تتجه دعوى الانحلال ، لأن وجوب الوضوء معلوم وغير قابل لجريان البراءة ، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض. إلاّ ان يشكّل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فان البراءة في كل منهما معارضة للآخر ، لكنه خلاف ظاهر كلامه في تعليقته وتقريرات بحثه كما أشرنا إليه. فتدبر.

الصورة الثانية : ان يعلم بوجوب شيء فعلا مردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، مع العلم بأنه لو كان غيريا كان وجوب ذي المقدمة فعليا ، لكن لم يصل إلينا ، نظير ما لو علم بأنه نذر اما الإتيان بالوضوء أو الصلاة ، بحيث لو كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا ، وان كان هو الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا ، فهو يعلم اما بوجوب الوضوء بخصوصه أو بوجوبه مع الصلاة.

وقد اختار المحقق النائيني لزوم الإتيان بالوضوء للعلم بترتب العقاب على تركه ، اما لأجل تركه نفسه أو لأجل ترك ذي المقدمة من ناحيته. واما ترك ذي المقدمة من ناحية غير الوضوء ، فهو مما لا يعلم بترتب العقاب عليه ، فاصل البراءة من الفعل لا مانع منه.

وقد نسب إلى صاحب الكفاية في هذه الصورة : القول بالبراءة بالنسبة إلى الوضوء أيضا ، واستشكل فيه : بأنه لا يتم بناء على إمكان التفكيك في تنجز المركب ، فيكون منجزا من جهة غير منجز من جهة أخرى ، إذ المقام من هذا القبيل ، فان وجوب الصلاة من جهة الوضوء منجز ومن جهة غيره ليس بمنجز ،

ص: 228

فجريان البراءة فيه من غير ناحية الوضوء لا ينافي عدم جريانها من ناحيته (1).

وبالجملة : مرجع كلام المحقق النائيني إلى دعوى انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيليّ بلزوم الوضوء واستحقاق العقاب على تركه ، وشك بدوي في لزوم الصلاة بسائر اجزائها وشرائطها ، فتكون مجرى البراءة بلا معارض.

وقد وافقه السيد الخوئي على ذلك ، فذهب إلى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بلزوم الوضوء ، وشك بدوي في وجوب الصلاة ، فيكون وجوبها مجرى البراءة بلا معارض لعدم جريانها في الوضوء بعد العلم بوجوبه (2).

وما أفاده المحقق النائيني مخدوش من جهات :

الأولى : ما أفاده من دعوى الانحلال للعلم التفصيليّ بوجوب الوضوء والشك في وجوب الصلاة.

وجهة الخدشة في ذلك : قد عرفتها بما تقدم من عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة ، فلا يكون طبيعي الوجوب مجرى البراءة ، بل مجراه خصوص الوجوب النفسيّ وهو مشكوك في الفرض ، فتكون البراءة من وجوب الصلاة معارضة بالبراءة من وجوب الوضوء نفسيا. فلا ينحل العلم الإجمالي بما ذكر ، لفرض تعارض الأصلين الّذي هو قوام منجزية العلم الإجمالي.

اللّهم إلا ان يقال ان المحقق النائيني يلتزم بكون الشرائط متعلقة للأمر النفسيّ الضمني كالأجزاء. وعليه فيكون الوجوب النفسيّ للوضوء معلوما على التقديرين إلا انه على تقدير استقلالي وعلى آخر ضمني. ومن الواضح قابلية الأمر الضمني لجريان البراءة. وعليه فيمتنع جريان البراءة من وجوب الوضوء حينئذ للعلم بكليّة المانع منها ، فتكون البراءة من وجوب الصلاة بلا معارض

ص: 229


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 171 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 389 - الطبعة الأولى.

فالتفت.

الثانية : ما أفاده من تطبيق الالتزام بالتفكيك في تنجز المركب على ما نحن فيه.

ولإيضاح وجه الخدشة فيه لا بأس بالإشارة إلى المقصود بالتفكيك في مقام التنجز فنقول : ان المركب بما انه عين اجزائه كان ترك كل جزء موجبا لترك المركب ، فترك المركب يمكن ان يكون بترك كل جزء على حده ، وإذا كان المركب واجبا كان تركه بترك أي جزء من اجزائه موجبا للمؤاخذة والعقاب. وقد ذكر في مبحث الأقل والأكثر انه يمكن عقلا التفكيك في اجزاء المركب ، فيكون ترك المركب بترك بعضها موجبا للمؤاخذة وتركه بترك البعض الآخر غير موجب للمؤاخذة.

وعلى هذا الأساس بني على إجراء البراءة العقلية من الزائد على الأقل المتيقن ، وانحلال العلم الإجمالي بالوجوب المردد بين الأقل والأكثر. بتقريب : ان المؤاخذة على ترك الواجب من جهة ترك الأقل معلومة فلا تجري فيها البراءة.

واما المؤاخذة على تركه من ترك الزائد المشكوك فهي غير معلومة فيكون الزائد مجرى البراءة وان استلزم نفي المؤاخذة على ترك الواجب - لو كان المشكوك جزء واقعا - ، إذ لا امتناع من نفي العقاب على ترك الواجب من جهة وإثباته من جهة أخرى.

وصاحب الكفاية حين أنكر جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر انما هو لأجل إنكاره إمكان التفكيك ، فلا ينحل العلم الإجمالي (1).

إذا عرفت هذا نقول : ان نظر المحقق النائيني إلى تطبيق هذه القاعدة على ما نحن فيه ، فان العقاب على ترك الصلاة من جهة ترك الوضوء معلوم ،

ص: 230


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /364- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والعقاب على تركها من غير ناحيته غير معلوم فتجري فيه البراءة بلا معارض.

ولكن الإنصاف ان هذا الوجه إنما يتم بالنسبة إلى خصوص اجزاء المركب دون الشرائط ، لأنها لا يتقوم بها المركب فلا يكون تركها تركا للمركب كالأجزاء ، بل يكون تركها سببا وملازما لترك المركب ، فليس هناك تروك متعددة للمركب بتعدد الشرائط كي يتصور التفكيك بينها في المؤاخذة وعدمها ، ووضوح هذا المعنى موكول إلى محلّه ، وانما القصد هو الإشارة إلى جهة الإشكال في كلامه من هذه الجهة ، وان إقحام ذلك المبحث فيما نحن فيه وتطبيقه عليه في غير محلّه.

الثالثة : ما أفاده من حمل كلام صاحب الكفاية على هذه الصورة واستشكاله في إجرائه البراءة من الوضوء.

وجهة الخدشة فيه : ان نظر صاحب الكفاية إلى صورة أخرى غير هذه الصورة ، وهي ما إذا علم إجمالا بوجوب شيء مردّد بين كونه نفسيا أو غيريا مع العلم بأنه لو كان غيريا فذي المقدمة ليس بفعلي ، كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها ، لكنها ترددت في كونه نفسيا أو غيريا لأجل الصلاة ، والمفروض - بحكم كونها حائضا - عدم وجوب الصلاة عليها فعلا. ومن الواضح ان إجراء البراءة في هذه الصورة لا إشكال فيه ، إذ مع العلم بعدم فعلية الواجب النفسيّ الّذي يحتمل كون الواجب المعلوم قيدا له ، لا يكون العلم الإجمالي بوجوب الشيء المردد بين كونه نفسيا وغيريا منجزا ، لأنه لو كان غيريا لا يكون فعليا ، فلا يكون أحد طرفيه فعليا ، فهو ليس بمنجز على كل تقدير ، فلا مانع من جريان البراءة فيه. فلاحظ.

ونتيجة الكلام : ان المتعين في هذه الصورة هو الاحتياط بإتيان الوضوء والصلاة المقيدة به للعلم الإجمالي بالوجوب النفسيّ المردد بينهما ، ولا وجه لانحلاله بناء على ما عرفت من عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة ،

ص: 231

لتعارض الأصلين حينئذ.

ولكنه انما يؤاخذ به من يلتزم بكون الشروط متعلقة للأمر الغيري - كما هو الحق - واما من يلتزم بكونها متعلقة للأمر الضمني كالأجزاء كالمحقق النائيني ، فالعلم الإجمالي منحل لجريان البراءة في طرف دون آخر كما عرفت.

الصورة الثالثة : ان يعلم تفصيلا بوجوب أمرين وشك في كون أحدهما المعين شرطا للآخر ، مع عدم العلم بتماثل الوجوب فيهما من حيث الشرائط ، كما إذا علمنا بوجوب الصلاة نفسيا في الوقت الخاصّ ، وعلمنا بوجوب الوضوء وشك في أنه نفسي أو غيري ، وإذا كان نفسيا فهو غير مقيد بالوقت الخاصّ ، وإذا كان غيريا فهو مقيد به لتبعيته لوجوب ذي المقدمة.

وقد ذكر المحقق النائيني ان الشك في هذه الجهة يتصور من جهات ، وهو في جميعها مجرى البراءة :

الأولى : الشك في وجوب تقيد الصلاة بالوضوء ، وقد تقدم ان الأصل فيه هو البراءة من وجوبه.

الثانية : الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت ، لاحتمال كونه نفسيا أو انه يختص بما بعد الوقت ، فتجري البراءة من وجوبه قبل الوقت.

الثالثة : الشك في ان الوضوء قبل الوقت هل يسقط وجوب الوضوء بعد الوقت أو لا؟ ومرجع هذا الشك إلى الشك في أن وجوب الوضوء بعد الوقت هل هو مطلق أو مختص بمن لم يتوضأ قبله ، ومقتضى البراءة عدم وجوبه بالنسبة إلى من توضأ قبل الوقت ، فأصالة البراءة عن تقيد الصلاة بالوضوء وعن وجوبه قبل الوقت وعن وجوبه لمن توضأ قبل الوقت بلا معارض.

وقد ذكر ان نتيجة البراءة في الجهة الأولى والثالثة نتيجة النفسيّة ، ونتيجتها في الجهة الثانية نتيجة الغيرية في تقيد الوجوب بما بعد الوقت ، لأنه

ص: 232

شرط لوجوب الصلاة أيضا (1).

وقد ذكر السيد الخوئي في مقام تحقيق هذه الصورة : انه يمكن ان تتصور على وجهين :

الأول : ان يكون هناك علم إجمالي بوجوب الوضوء المردد بين النفسيّ والغيري من دون علم بالتماثل مع الصلاة في الإطلاق والاشتراط ، لكن يعلم انه ان كان وجوب الوضوء نفسيا فهو ثابت قبل الوقت فقط ، وان كان غيريا فهو ثابت بعد الوقت ، فهنا علم إجمالي بوجوب الوضوء قبل الوقت أو وجوبه بعده ، وقد تقرر في محله ان العلم الإجمالي في التدريجيات منجز كغيره. وعليه فيمتنع إجراء البراءة من وجوب الوضوء النفسيّ قبل الوقت وإجرائها من تقيد الصلاة بالوضوء بعد الوقت ، لأنه يستلزم عدم لزوم الإتيان بالوضوء بالمرّة. وهو مخالفة عملية قطعية للعلم الإجمالي.

وعليه فمقتضى العلم الإجمالي الإتيان بالوضوء قبل الوقت والإتيان بالصلاة متقيدة به. نعم لا يلزم الوضوء بعد الوقت إذا أتى به قبله لكفاية الوضوء قبله وان لم يكن واجبا.

الثاني : ان يعلم إجمالا بوجوب الوضوء المردّد بين النفسيّ والغيري بلا علم بالتماثل ، لكنه يعلم انه ان كان غيريا فهو مقيد بالوقت وان كان نفسيا فهو غير مقيد به ، بل مطلق بالنسبة إلى ما قبل الوقت وبعده.

وما أفاده المحقق النائيني في الجهات الثلاث لا يخلو من خدشة :

اما ما أفاده من جريان البراءة في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء. فجهة الخدشة فيه : ما مر من عدم انحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء أو التقيد ، والبراءة في أحدهما معارضة بالبراءة في الآخر.

ص: 233


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 171 - الطبعة الأولى.

واما ما أفاده من جريان البراءة في الشك في الوجوب النفسيّ للوضوء قبل الوقت فيخدش : بعدم إمكان البراءة ، لأنها مستلزمة لتضييق دائرة الواجب وتقليل افراده التخييرية ، وهذا ينافي الامتنان المفروض انه ملاك البراءة. ولذا يمنع من جريان البراءة في كل مورد يوجب جريانها للتضييق على المكلف والكلفة عليه لا السعة.

واما ما أفاده من جريان البراءة من الوضوء بعد الوقت لو أتى به قبله على تقدير كونه غيريا. فهو في نفسه وان كان تاما ، إلاّ ان الّذي ينبغي ان يذكر في وجهه علميا هو : ان المعلوم على تقدير الغيرية هو أصل تقيد الواجب بالوضوء ، واما تقيده به على ان يؤتى به بعد دخول الوقت فهو غير معلوم ، فتنفى الخصوصية المذكورة بالبراءة.

واما ما ذكره في وجه ذلك : من كون المعلوم لزوم الإتيان بالوضوء لمن لم يأت به قبل الوقت ، اما من أتى به قبله فلا يعلم لزوم الإتيان به بعد الوقت ، فينفي وجوبه عليه بأصالة البراءة. فهو وجه ليس بعلمي (1).

والتحقيق : ان الوجه الأول الّذي ذكره السيد الخوئي وان كان وجها علميا لا خدشة فيه ، إلا انه لا يرتبط بما هو نظر المحقق النائيني ، فان نظره في كلامه إلى الوجه الثاني كما لا يخفى.

واما الإشكال على المحقق النائيني في ما أفاده من جريان البراءة في الجهات الثلاث للشك. فتحقيق الحال فيه :

اما لزوم الاحتياط في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء ، وان كان تاما في نفسه ، إلا انه قد عرفت أن المحقق النائيني لا بد له من الذهاب إلى البراءة ، لالتزامه بتعلق الأمر الضمني بالشرائط الموجب لانحلال العلم الإجمالي ، لكون

ص: 234


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 393 - الطبعة الأولى.

جريان البراءة في طرف التقيد بدون معارض ، كما تقدم بيانه وتوضيحه ، وقد عرفت ان التحقيق عدم الانحلال ولزوم الاحتياط لتعلق الأمر الغيري بالشرائط وعدم قابليته للبراءة.

واما الإشكال عليه بعدم صحة نفي الوجوب قبل الوقت مع الشك فيه ، لكون البراءة موجبة للتضييق ، وهو ينافي الامتنان ففيه :

أولا : ان هذا المعنى وان كان إشكالا على المحقق النائيني ، لكنه مما لا يتجه الالتزام به من قبل المستشكل ، لأن دليل البراءة في نظره لا يختص بحديث الرفع - كما يرى الشيخ ذلك - ، كي يقال باختصاص مجراها بما يكون في جريانها امتنانا على العباد ، لأنه لسان حديث الرفع. بل أنه التزم بان استصحاب عدم التكليف من أدلة البراءة أيضا ، وخالف في ذلك الشيخ رحمه اللّه حيث استشكل في تماميته دليلا على البراءة. ومن الواضح ان دليل الاستصحاب لا يختص بمورد الامتنان. وعليه فحديث الرفع ان لم يشمل الشك في الصورة المزبورة فاستصحاب عدم التكليف يكفي في إجراء البراءة فيه بنظر المستشكل.

وثانيا : ان ما ذكره لا يصلح إشكالا على المحقق النائيني أيضا ، وذلك لأن نفي الوجوب قبل الوقت ان لم يمكن بأدلة البراءة لمنافاتها الامتنان ، فهو ممكن بالاستصحاب ، إذ يمكن استصحاب عدم الوجوب إلى الوقت ولا مانع منه.

ولنا ان ندافع عن المحقق النائيني فنقول : ان نظره هو نفي التكليف قبل الوقت ، ولم يثبت أنه التزم به لجريان أصل البراءة ، وصدور التعبير بالبراءة لا صراحة فيه في كون الدليل هو أصل البراءة ، بل يمكن ان يكون تعبيرا عن نتيجة الاستصحاب المحكم في المقام. فتأمل.

واما ما أفاده من عدم علمية الوجه الّذي ساقه المحقق النائيني لبيان عدم وجوب الوضوء بعد الوقت لمن أتى به بعده ، وان الوجه العلمي ان يحرر بنحو آخر ، وهو ما تقدم. فهو غير سديد لأنه إنما يتم إذا التزم بلزوم الإتيان

ص: 235

بالتقيد لمكان العلم الإجمالي ، فانه يقال - كما أفاده المحقق الخوئي - ان أصل التقيد معلوم ، اما التقيد بالوضوء بالخصوصية المعينة - أعني كونه بعد الوقت - فهو غير معلوم فتجري فيه البراءة. ولكن المحقق النائيني لم يلتزم بلزوم التقيد ، بل عرفت انه أجرى البراءة منه ، فلا معنى أن يقال إن أصل التقيد معلوم والشك في خصوصية زائدة عليه ، بل المتعين هو تحرير الوجه بالنحو الّذي ذكره من ان المعلوم هو لزوم الوضوء على من لم يأت به قبل الوقت ، اما من أتى به قبله فلزومه عليه بعده غير معلوم فتجري فيه البراءة.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل وتحقيقه بمقامه.

وهاهنا تنبيهان ذكرهما صاحب الكفاية ، وتابعة في التعرض إليهما الأعلام ، وتبعا للاعلام ولما يترتب عليهما من أثر علمي وعملي نتعرض إليهما بالتفصيل.

التنبيه الأول : وموضوعه استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته.

وقد تعرض صاحب الكفاية فيه إلى جهات ثلاث :

الجهة الأولى : بيان عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته (1).

وقد ذكر لتقريبه وجوه :

الأول : ما جاء في الكفاية من : بناء العرف والعقلاء على عدم العقاب والثواب على المقدمات ، ولذا لا يرون من يترك واجبا ذا مقدمات متعددة انه مستحق لعقابات متعددة بعدد المقدمات ، كما لا يرون من يأتي بمثل هذا الواجب بمقدماته مستحقا لثوابات متعددة ، بل لا يرونه مستحقا لغير عقاب واحد أو

ص: 236


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ثواب واحد على ترك الواجب أو فعله (1).

الثاني : ما ذكره المحقق الأصفهاني في تعليقته على الكفاية ، وهو وجه برهاني لا عرفي كالأول ، ومحصله : ان الوجوب المقدمي بما انه معلول لوجوب ذي المقدمة ، لكون الغرض منه غرض تبعي لا استقلالي ، كانت محركيته وباعثيته تبعية أيضا بتبع باعثية ومحركية الأمر النفسيّ ، فان الانبعاث نحو امتثال الأمر النفسيّ لازم للانبعاث نحو امتثال الأمر الغيري ، كملازمة البعث الغيري للبعث النفسيّ ، وإذا كان الانبعاث عن الأمر الغيري تابعا للانبعاث عن الأمر النفسيّ كان أمرا ارتكازيا كنفس البعث الغيري قد لا يلتفت إليه بنحو التفصيل ، وكما أنه غير مستقل في مقام البعث والانبعاث كذلك هو غير مستقل في مقام عدم الانبعاث ، فان عدم الانبعاث عنه بتبع عدم الانبعاث عن الأمر النفسيّ ، وعليه فلا يكون الانبعاث عنه موجبا للقرب ، ولا عدمه موجبا للبعد ، فلا يكون امتثاله موجبا للثواب ولا عدمه موجبا للعقاب (2).

الثالث : وهو وجه برهاني آخر ، فان ما ذكره المحقق الأصفهاني بهذا المقدار لا يخرج عن كونه وجها صوريا لا يخلو عن خدشة عند التأمل.

ومحصل ما نريد ان نقوله بيانا لهذا الوجه هو : ان الثواب انما ينشأ عن إتيان العمل مرتبطا بالمولى بالإتيان به بداعي الأمر - الّذي هو معنى الامتثال - ، فترتب الثواب على موافقة الأمر الغيري انما تتصور بالإتيان بالمقدمة بداعي الأمر الغيري ، ومن الواضح ان الأمر الغيري لا يصلح للداعوية والتحريك

ص: 237


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . هذا ما أفاده سيدنا - دام ظله - في مجلس الدرس ، لكن ظاهر الكفاية ان الوجه برهاني لا عرفي ، لتعبيره باستقلال العقل ، وان لم يبين جهته. وعلى كل فهو وجه في نفسه وان لم يكن مراد صاحب الكفاية. هكذا تفضل سيدنا الأستاذ - دام ظله - أخيرا بعد عرض الأمر عليه. ( منه عفي عنه ).
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 197 - الطبعة الأولى.

أصلا ، فلا يمكن الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر الغيري. أما انه لا يصلح للداعوية والتحريك ، فلان المكلف عند الإتيان بالمقدمة اما ان يكون مصمما وعازما على الإتيان بذي المقدمة أو يكون عازما على عدم الإتيان به ، فان كان عازما على الإتيان به ، فإتيانه المقدمة - مع التفاته إلى مقدميتها كما هو المفروض - قهري لتوقف ذي المقدمة عليها ، سواء تعلق بها الأمر الغيري كي يدعى دعوته إليها أو لا ، فالإتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الأمر الغيري ، بل هو أمر قهري ضروري ومما لا محيص عنه. وان كان عازما على عدم الإتيان بذي المقدمة ، فلا يمكنه قصد الأمر الغيري بالإتيان بالمقدمة ، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها والوصول بها إلى الواجب النفسيّ ، لو لم نقل - إذ وقع الكلام في أن المقدميّة جهة تعليلية للوجوب الغيري أو جهة تقييدية - : بان موضوع الأمر الغيري هو المقدمة بما هي مقدمة لا ذات المقدمة.

ومن الواضح أنه مع قصد عدم الإتيان بذي المقدمة لا تكون جهة المقدمية وتوقف الواجب عليها ملحوظة عند الإتيان بالمقدمة ، ومعه لا معنى لقصد امتثال الأمر الغيري بالعمل ، إذ جهة تعلق الأمر الغيري غير ملحوظة أصلا.

ويتضح هذا الأمر على القول بكون الأمر الغيري متعلقا بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلى ترك الواجب النفسيّ لا يكون المأتي به واجبا بالوجوب الغيري ، فلا معنى لقصد امتثاله فيه لأنه ليس بمتعلق الوجوب.

وخلاصة الكلام : ان البرهان والعمل العرفي قائمان على عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته.

الجهة الثانية : انه بناء على عدم كون ترك الواجب الغيري موجبا لاستحقاق العقاب ، فلو ترك مقدمة لواجب استقبالي بحيث لا يتمكن من الواجب في ظرفه عند تركها ، كما لو ترك إحدى المقدمات المفوتة كالغسل قبل

ص: 238

الفجر للصوم ، إذ بتركه لا يتمكن من الصوم في ظرفه (1).

فهل يستحق العقاب على ترك الواجب النفسيّ من حين ترك المقدمة أو من زمان الواجب نفسه؟. وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها لكل من الاحتمالين :

اما وجه استحقاق العقاب من حين ترك المقدمة فهو : ان ملاك الثواب هو انقياد العبد للمولى وكونه بصدد امتثاله أمره ، كما ان مناط العقاب هو طغيان العبد وخروجه عن وظيفة العبودية والرقّية ، فانها هي الجهة التي يترتب عليها العقاب عند ترك الواجب أو فعل المحرّم ، لكشف ذلك عن عدم كون العبد في مقام الانقياد إلى المولى وطغيانه على المولى. ومن الواضح ان هذا المعنى ينكشف ويحصل بترك المقدمة ، إذ يتحقق الخروج عن مقام العبودية بتركها الملازم لترك ذيها في ظرفه ، فملاك العقاب متحقق بترك المقدمة.

واما وجه عدم استحقاقه العقاب قبل مجيء زمان الواجب وانتهائه فهو :

ان الانقياد للأمر النفسيّ انما يكون في ظرفه ، ولا يعقل تحققه قبل ظرفه ، فعدم الانقياد الّذي يكون عصيانا وموجبا للعقاب هو عدمه في ظرفه أيضا ، لأنه هو نقيض الانقياد والإطاعة - للزوم اتحاد الزمان في المتناقضين - ، وعليه فملاك العقاب لا يتحقق قبل ظرف الواجب (2).

والإنصاف ان ما ذكره المحقق الأصفهاني تبعيد للمسافة ونقل للبحث إلى جهة غير ما ينبغي تحريره.

فالذي ينبغي ان يقال هو : إحالة الالتزام بأحد الوجهين على ما يلتزم به في مسألة التجري من استحقاق المتجري للعقاب وعدمه ، فان البحث هناك يقع في أن ملاك الثواب والعقاب هل هو نفس مخالفة التكليف وموافقته. وبتعبير

ص: 239


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 198 - الطبعة الأولى.

آخر : ان العقاب يكون على نفس العمل الّذي يكون مخالفا للتكليف امرا أو نهيا ، أو ان ملاك الثواب والعقاب هو ما يتصف به العبد من كونه في مقام الإطاعة والامتثال ، أو كونه في مقام المعصية والمخالفة وان لم يتحقق منه المخالفة فعلا ، نعم يشترط فيه إظهار هذه الصفة النفسيّة ، فلا يتحقق العقاب على مجرد كون العبد في مقام المعصية - لو اطلع عليه المولى - مع عدم إظهار ذلك بمظهر.

فموضوع النزاع هو : ان العقاب والثواب يترتب على نفس المخالفة والموافقة للتكليف أو يترتب على الانقياد والتجري ، والأول كون العبد في مقام الإطاعة مع إظهار ذلك. والثاني كونه في مقام المعصية مع إظهاره أيضا ، لا مجرد الصفة النفسانيّة فانها لا تقتضي ثوابا ولا عقابا.

فمع الالتزام بان العقاب يترتب على نفس التجري ولو لم تحصل المخالفة للتكليف ، لأن ملاك العقاب هو طغيان العبد على المولى الموجب لبعده عنه والحاصل بالتجري - كما عليه المحقق الخراسانيّ (1) - ، لا بد من الالتزام بان العقاب يتحقق عند ترك المقدمة لتحقق التجري به ، وإظهار عدم المبالاة بأمر المولى ، ولأجل ذلك التزم صاحب الكفاية هاهنا بترتب العقاب عند ترك المقدمة.

ومع عدم الالتزام بذلك ، والالتزام بان موضوع العقاب نفس المخالفة فلا عقاب على التجري ما لم يصادف الواقع - كما يظهر من الشيخ رحمه اللّه (2) - ، كان الوجه الالتزام - فيما نحن فيه - بترتب العقاب في ظرف الواجب ، إذ لا يتحقق ترك الواجب ومخالفته بمجرد ترك المقدمة ، لتقيده بظرف خاص وهو بعد لم يأت.

وبالجملة : لا بد من بناء الحق في المقام على ما يحقق في مسألة التجري من

ص: 240


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /259- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /5- الطبعة الحجرية.

أحد الوجهين.

واما ما يظهر من المحقق الأصفهاني من نفي ترتب العقاب عند ترك المقدمة ، ولو التزم بان موضوع الثواب والعقاب هو الانقياد وعدمه ، فهو لا يخلو عن مسامحة.

الجهة الثالثة : في توجيه ما ورد في بعض النصوص من ترتب الثواب على بعض المقدمات ، كما روي أن في كل خطوة في زيارة الحسين علیه السلام كذا من الثواب (1) ، فانه بظاهره يتنافى مع نفي الثواب على المقدمة الّذي قرّر في الجهة الأولى (2).

وقد ذكر لذلك وجوه :

منها : انه من باب التفضّل لا الاستحقاق.

ومنها : ان الثواب يكون على ذي المقدمة لكنه بزيادة المقدمات أو بمشقتها يزيد الثواب عليه من باب ان أفضل الأعمال أحمزها ، فليس الثواب على نفس المقدمة ، بل على ذي المقدمة ، فانه يثاب عليه بثواب عظيم على قدر مقدماته المذكورة في النص. وبتعبير آخر : ان للواجب - ذي المقدمة - حصصا يكون مقتضى الروايات المزبورة زيادة الثواب على هذه الحصة المعينة وعدمه في غيرها.

وتوهم : ان الوعد بالثواب على المقدمات يكشف عن استحباب هذه المقدمات في أنفسها كما يستظهر ذلك من روايات : « من بلغ » (3) ، ويبنى على التسامح في أدلة السنن.

يندفع : بأنه - لو تم في نفسه - إنما يلتزم به لو لم يكن هناك وجه آخر

ص: 241


1- كامل الزيارات / 133 فيما ورد في زيارة أبي عبد اللّه الحسين علیه السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحاسن / 25 والكافي 2 / 87.

يوجه به الوعد بالثواب بحيث يحافظ على كونها واجبات غيرية ويجمع بين كلتا الجهتين ، اما مع إمكان حمل النصوص على ما لا ينافي المقدمية فلا تصل النوبة إلى الحمل على الاستحباب النفسيّ فلاحظ.

هذا تمام الكلام في جهات هذا الأمر الثلاثة.

يبقى الكلام في أمر تعرض إليه الأعلام جميعا ، وهو البحث في عبادية الطهارات الثلاث وترتب الثواب عليها ، فان فيها إشكالا ، وقد قرّره الشيخ قدس سره في كتاب الطهارة بلزوم الدور (1). وتقريبه يتوقف على مقدمتين :

الأولى : ان رفع الحدث المانع من الصلاة ، - وان شئت فقل : الطهارة - انما يتحقق بالوضوء إذا وقع الوضوء على وجه العبادية المتوقف على تعلق الأمر به كي يقصد الإتيان به بداعي ذلك الأمر فيكون عبادة. إذ من الواضح انه إذا جاء بافعال الوضوء من دون ان تتعنون بعنوان العبادية وبلا ان تكون على وجه العبادة لم يتحقق بها رفع الحدث ولا استباحة الصلاة.

الثانية : انه لا أمر بالوضوء لأجل الصلاة إلا الأمر الغيري الثابت له بملاك المقدمية.

وإذا تمت هاتان المقدمتان يأتي الإشكال ، وذلك لأن الأمر الغيري انما يتعلق بالوضوء بما أنه مقدمة - باعتبار أنه رافع للحدث المانع ، ورفع المانع من المقدمات - ، ومقدميته متوقفة على الإتيان به على وجه العبادة - إذ عرفت ان رفع الحدث المانع يتوقف على إتيانه بنحو العبادة - ، والإتيان به على وجه العبادة يتوقف على الأمر به ، فعليه يكون الأمر الغيري متوقف على مقدميته ومقدميته متوقفة على الأمر الغيري به فيلزم الدور. وعبّر عن هذا الإشكال بعبارة أخرى ومحصلها : ان إيجاب الوضوء الغيري يتوقف على كون الوضوء مقدمة في نفسه ،

ص: 242


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة /87- الطبعة الأولى.

وهذا يتنافى مع فرض كون مقدمية الوضوء تتوقف على الإتيان به بداعي امتثال الأمر ، إذ لا أمر هنا غير الأمر الغيري.

ومن هنا لا بد من رفع اليد عن إحدى المقدمتين ، فيلتزم :

اما بوجود أمر آخر متعلق بالوضوء غير الأمر الغيري ، يكون قصده مصححا لعباديته ومحصلا لمقدميته فيتعلق به بما هو كذلك الأمر الغيري ، فلا دور ، إذ الأمر الغيري وان توقف على عبادية الوضوء ، لكن عبادية الوضوء غير متقومة به ، بل بالأمر الآخر المفروض.

واما بتحقق رفع الحدث من دون التعبد بالوضوء ووقوعه بنحو العبادية ، بل يكون من لوازم الفعل كرفع الخبث ، فيرد الأمر الغيري على الوضوء لأنه مقدمة في نفسه.

ولكن الالتزام الأول خلاف فرض عدم وجود أمر غير الأمر الغيري.

والثاني مناف للإجماع المنعقد على توقف رفع الحدث بالوضوء على الإتيان به بنحو العبادة.

فالإشكال وارد ، إلاّ انه تصدي لدفعه بوجهين :

الوجه الأول : ان الوضوء في نفسه معنون بعنوان واقعي راجح في ذاته ، بذلك العنوان يكون الوضوء رافعا للحدث ، إلا أن العنوان من العناوين القصدية التي لا تتحقق إلا بالقصد إليها - نظير عنوان التعظيم -.

وعليه ، فالوضوء مع قطع النّظر عن الأمر الغيري مقدمة لتحقق رفع الحدث به بدونه بقصد ذلك العنوان الراجح في ذاته الموجب لوقوعه بنحو العبادة. فيتعلق به الأمر الغيري من دون إشكال ، لأن عبادية الوضوء لا تتوقف على الأمر الغيري - كي يلزم الدور - ، بل هو عبادة مع قطع النّظر عن الأمر الغيري. نعم هناك شيء ، وهو انه لما كان العنوان القصدي الّذي يتعنون به الوضوء مجهولا لدينا فلا طريق إلى قصده إلا بقصد امتثال الأمر الغيري

ص: 243

بالعمل ، إذ الأمر الغيري متعلق بالوضوء بلحاظ العنوان المتعنون به ، فيكون العنوان بذلك مقصودا إجمالا ، ويكون قصد امتثال الأمر الغيري طريقا إلى قصد العنوان القصدي.

وبالجملة : التقرب والعبادية الحاصلة بالوضوء ناشئة من رجحانه الذاتي بلحاظ العنوان المنطبق عليه ، وليست ناشئة من قصد الأمر الغيري.

ومن هنا يظهر ان استحقاق الثواب ليس من جهة قصد الأمر ، كي يقال بان الأمر الغيري مما لا يستحق على موافقته المثوبة ، بل من جهة رجحانه الذاتي ولكونه في نفسه عبادة.

هذا توضيح ما أفاده الشيخ من الإشكال ، والوجه الأول من الجواب.

ومنه تعرف ما في الكفاية من المسامحات وذلك بأمور ثلاثة :

الأول : ذكره هذا الوجه جوابا عما قرّره من الإشكال في الطهارات الثلاث ، ببيان انه قد أجيب به عنه ، وما قرّره من الإشكال يختلف عما - قرّره الشيخ من إشكال الدور - كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى - ، فالجواب المذكور لم يذكر جوابا عن إشكال صاحب الكفاية ، بل ذكر جوابا عن إشكال الدور الّذي ذكره الشيخ.

الثاني : ذكر الجواب بنحو ناقص ، فانه لم يذكر فيه كون العنوان الّذي يتعنون به الوضوء من العناوين الراجحة في ذاتها الّذي صرح به الشيخ ، بل غاية ما جاء في الكفاية انه من العناوين القصدية ، فتقصد إجمالا بقصد امتثال الأمر الغيري. وهذا التصرف تصرف مخل بالمقصود كما سيتضح.

الثالث : الإيراد عليه بأنه لا يفي بردّ إشكال ترتب المثوبة على الوضوء. ووضوح هذه المسامحة مما لا يخفى على من لاحظ جواب الشيخ ، فانه كيف لا يفي برد الإشكال المزبور؟ مع فرض أنه راجح في ذاته ، فتكون المثوبة على رجحانه ذاتا لا على امتثال الأمر الغيري ، وقد أشار الشيخ رحمه اللّه إلى هذا

ص: 244

الإشكال واندفاعه ، فلم يعلم وجه ذكره ، ولعله لأجل عدم فرض العنوان راجحا في ذاته في تقرير الجواب الّذي ذكره.

وخلاصة القول : ان ما جاء في الكفاية من المسامحات الغريبة التي كون صدورها من مثل صاحب الكفاية مورد العجب ، وغاية ما لدينا من الاعتذار عنه أنه لم يكن يحضره حين تحرير هذا المطلب كتاب طهارة الشيخ ليطلع على خصوصيات ما جاء فيها إشكالا وجوابا ، بل كان مطلب كتاب الطهارة في ذهنه فكان ذلك منشئا لفوات بعض خصوصياته عليه.

وبعد ذلك نعود إلى أصل المبحث ، فنذكر ما ذكر من الإشكالات على عبادية الطهارات الثلاث وما قيل في الجواب عنها.

والّذي يحضرنا من الإشكالات خمسة :

الأول : ما جاء في الكفاية من ان موافقة الأمر الغيري قد فرض انها لا تستلزم القرب ، والمفروض حصول التقرب بالإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة.

الثاني : ما جاء في الكفاية - أيضا - من أن موافقة الأمر الغيري لا تستوجب ثوابا كما فرض ، مع ترتب الثواب على الإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة بلا إشكال.

الثالث : ما جاء في الكفاية - أيضا - من ان الأمر الغيري أمر توصلي يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه ، مع أنه في الطهارات الثلاث ليس كذلك ، إذ لا بد من الإتيان بها بنحو العبادة وقصد امتثال الأمر الغيري (1).

الرابع : ما ذكره الشيخ من إشكال الدور ، وان الأمر الغيري يتوقف على عبادية الوضوء وأخويه ، فإذا كانت عبادية الوضوء تتوقف على الأمر الغيري

ص: 245


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لزم الدور. وقد مرّ توضيحه.

الخامس : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من ان الأمر الغيري يتعلق بما هو عبادة ، والعبادية تحتاج إلى الأمر ، فاما ان تكون عبادية الوضوء ناشئة من تعلق الأمر الغيري به ، أو من تعلق أمر نفسي آخر به استحبابي.

فعلى الأول يلزم الدور.

والثاني ممتنع من وجوه :

الأول : انه لو تم ، فهو إنما يتم بالنسبة إلى الوضوء والغسل مما قام الدليل على استحبابهما في أنفسهما ، واما التيمّم فلا دليل على استحبابه في نفسه.

الثاني : ان الأمر النفسيّ الاستحبابي ينعدم بعروض الوجوب ، لامتناع اجتماع المثلين.

الثالث : انه لو كانت العبادية ناشئة من تعلق الأمر النفسيّ بها لما صح الإتيان بها بقصد أمرها الغيري من دون التفات إلى أمرها النفسيّ الاستحبابي ، مع انه لا إشكال في صحتها لو أتي بها بداعي الأمر الغيري المترشح عن الأمر بذي المقدمة بلا التفات إلى الأمر النفسيّ المتعلق بها ، ويشهد لما ذكر عدم صحة الإتيان بصلاة الظهر بداعي الأمر الغيري المتعلق بها المترشح من الأمر النفسيّ المتعلق بصلاة العصر ، من دون قصد الأمر النفسيّ المتعلق بها بذاتها.

وهكذا الإتيان بالصوم الّذي هو مقدمة للاعتكاف بداعي أمره الغيري المترشح عن الأمر بالاعتكاف بلا قصد الأمر النفسيّ المتعلق به بخصوصه. وهذا يكشف عن أن الطهارات الثلاث ليست كالصوم للاعتكاف وصلاة الظهر من كونها متعلقة للأمر النفسيّ مع كونها مقدمة ، وإلاّ لجرى فيها ما جرى فيها من لزوم قصد الأمر النفسيّ في صحة العمل (1).

ص: 246


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 174 - الطبعة الأولى.

هذا مجموع ما ذكر من الإشكالات ، واما ما ذكر من وجوه الجواب فهو :

الوجه الأول : ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه من ان هذه الطهارات الثلاث مستحبة في أنفسها. وهي بما هي عبادة مقدمة للصلاة ، فالأمر الغيري متعلق بما هو عبادة في نفسه (1).

وبهذا الوجه تندفع الوجوه الأربعة الأولى للإشكال.

اما الأول : فلان التقرب لم يحصل من جهة موافقة الأمر الغيري ، كي يقال ان موافقته لا تستلزم القرب ، بل من جهة ان الفعل في نفسه عبادة ومأمور به نفسيا ، فالتقرب يحصل بلحاظ موافقته للأمر الاستحبابي.

واما الثاني : فلان استحقاق الثواب ليس لأجل موافقة الأمر الغيري ، بل من جهة موافقة الأمر الاستحبابي ، ولكون الفعل راجح في ذاته.

واما الثالث : فلان الأمر الغيري هاهنا لا يختلف عنه في سائر المقدمات في كونه توصليا ، إلا ان متعلقه هاهنا ما هو عبادة في نفسه ، فلا يتحقق الإتيان بمتعلقه إلا بالإتيان به بنحو العبادية ، إذ قد عرفت ان المقدمة ما هو عبادة ، فالعبادية ليست من جهة كون الأمر الغيري عباديا كي يتجه سؤال الفرق بينه هنا وبين غيره في سائر المقدمات ، بل من جهة ان الواجب النفسيّ يتوقف على ما هو عبادة ، فمتعلق الأمر الغيري ما هو عبادة في نفسه.

واما الرابع : فلان العبادية إذا كانت ناشئة من جهة الأمر النفسيّ المتعلق بها يرتفع الدور ، إذ الأمر الغيري وان توقف على العبادية لقوام المقدمية بها ، إلا ان العبادية لا تتوقف على الأمر الغيري فلا دور.

واما ما ذكره المحقق النائيني رحمه اللّه من وجوه الإشكال على هذا الوجه فهي مندفعة :

ص: 247


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اما الوجه الأول : فلأنه وان لم يقم دليل خارجي على استحباب التيمم في نفسه ، إلاّ ان الإجماع القائم على لزوم التعبد به مع عدم تعلق غير الأمر الغيري به ، إذا كان بنحو يصح الاعتماد عليه ودليلا على ما قام عليه كان بنفسه كاشفا عن استحبابه في نفسه ، إذ ذلك يلازم لزوم الإتيان به عبادة ، لأن لا طريق إلى ذلك غير هذا الوجه. وإذا لم يكن بنحو يصح الاستناد إليه لم يكن وجه للالتزام بلزوم الإتيان بالتيمم بنحو العبادية ، إذ لا وجه له غير الإجماع والمفروض انه غير صالح للنهوض على إثبات ما قام عليه.

واما الوجه الثاني : فلان الاستحباب وان كان يندك بالوجوب الغيري ، إلاّ ان المرتفع هو الأمر والإرادة بحدّها ، لاستلزام بقائه اجتماع المثلين ، اما واقع الإرادة الاستحبابية وذاتها فهي لا ترتفع بالوجوب الغيري ، بل تتداخل الإرادتان وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة كتداخل النورين ، وذلك يكفي في إمكان الإتيان به بنحو العبادة وفي تحقق التقرب كما سيتّضح.

واما الوجه الثالث : فلوجود الفرق بين الطهارات ومثل الصلاة الظهر والصوم للاعتكاف بحيث يصح قصد الأمر الغيري في الطهارات ولا يصح في مثل صلاة الظهر ، فلنا دعويان :

إحداهما : صحة قصد الأمر الغيري في الطهارات وتحقق التقرب بذلك.

وثانيتهما : عدم صحة قصد الأمر الغيري في مثل صلاة الظهر مما يكون واجبا نفسيا.

وتقريب الأولى : ان الطهارات وان كانت مستحبة في ذاتها ، إلاّ أنها إذا كانت مقدمة لا تكون موردا إلا للأمر الغيري ، سواء قلنا بان الأمر الغيري عبارة عن الإرادة الشديدة التبعية أو أنه عبارة عن حكم مجعول ، كما يقال في مثل : « أدخل السوق واشتر اللحم ».

ص: 248

اما إذا قلنا بأنه عبارة عن نفس الإرادة ، فتعلقها بالطهارات بحدّها مع تعلق الأمر الغيري الاستحبابية بها يستلزم اجتماع المثلين وهو محال ، بل الواقع هو اندكاك الإرادة الاستحبابية بالإرادة الوجوبية وخروج كل منهما عن حدّه الخاصّ ، وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة ، نظير اندكاك النور الضعيف بالنور القوي وانصهار أحدهما بالآخر ، فينشأ منهما نور واحد أقوى ، ولكن لا يكون لكل منهما وجود منحاز عن الآخر أصلا ، بل ليس هناك إلا وجود واحد للنور وهو النور الأقوى. فالحال في الإرادة كذلك فانه تنشأ من الإرادتين المندكتين إرادة واحدة مؤكدة يعبّر عنها بالوجوب الغيري ، إذ هو يغلب الاستحباب ، والمفروض ان الإرادة إلزامية. كما انه لا تكون إرادة نفسية كما لا يخفى ، فلا محيص عن ان تكون هذه الإرادة المؤكدة إرادة غيرية ، إلا انها ليست كسائر الإرادات الغيرية لأنها مشوبة بجهة راجحة نفسية ، ولأجل ذلك صح قصد الأمر الغيري دون الاستحبابي ، لعدم بقاء الأمر الاستحبابي ، بل لا يتصور سوى قصد الأمر الغيري ، إذ لا أمر غيره. ويحصل بقصده التقرب ، إذ هو يشتمل على جهة رجحان في ذاته ، فهو ليس على حد سائر الأوامر الغيرية كي يقال ان حصول التقرب به ينافي فرض عدم مقربية الأمر الغيري ، بل هو أمر غيري ، لكنه يختلف عن سائر الأوامر الغيرية ، لعدم تمحضه في الغيرية ، بل هو مشوب بجهة راجحة ذاتية ، فان الجهة الاستحبابية مؤثرة في تحقق التقرب وان لم يكن لها وجود بحدّها. نظير النور الضعيف فانه مؤثر في ذاته ، لكنه لا تميز له ولا انحياز.

وبالجملة : لا منافاة بين الالتزام بحصول التقرب بقصد الأمر الغيري هاهنا ، وبين ما تقدم من عدم مقربية الأمر الغيري ، إذ الأمر الغيري هاهنا يختلف عن سائر الأوامر الغيرية لاشتماله على جهة رجحان في ذاته.

واما إذا كان الأمر الغيري حكما مجعولا ، فالأمر فيه بالنسبة إلى

ص: 249

الاندكاك كذلك ، إذ بعد فرض حصول الاندكاك في منشأ الجعل وعدم وجود إرادتين ، بل ليس هناك إلا إرادة واحدة لا يعقل فرض تحقق حكمين مجعولين لخلوّهما عن منشأ الجعل ، فليس لدينا أيضا سوى حكم واحد مجعول هو الحكم الغيري المشوب بجهة رجحان نفسية.

وتقريب الدعوى الثانية : ان صلاة الظهر ونحوها مما كان واجبا في نفسه لم يثبت تعلق الأمر الغيري بها ، إذ هناك من يرى عدم صحة تعلقه لوجود المانع وهو الأمر النفسيّ ، فيرتفع موضوع الإيراد على هذا ولو سلم تعلق الأمر الغيري بها ، فهو مندك بالأمر النفسيّ. ومن الواضح ان المغلّب هو جانب الإرادة النفسيّة ، والأمر النفسيّ لأقوائيته ، فيمتنع قصد الأمر الغيري حينئذ لعدم وجوده ، فلا بد من قصد الأمر النفسيّ المتعلق بها.

واما الصوم للاعتكاف ، فموضوع البحث منه ما إذا كان الاعتكاف واجبا ولم يكن الصوم واجبا ، فيكون حاله حال الطهارات المشتملة على جهة استحباب نفسي ووجوب غيري.

ولا يخفى ان الالتزام بصحة قصد الأمر الغيري فيه وصحته بذلك لا محذور فيه ، ولم يثبت قيام الإجماع بنحو يكون حجة على خلافه ، إذ لا تصريح للكل بذلك ، فدعوى الإجماع ترجع إلى نسبة الحكم إليهم اجتهادا.

وبذلك تعرف اندفاع ما أفاده المحقق النائيني بحذافيره.

وقد تصدى صاحب الكفاية للجواب عن إشكال الاكتفاء بقصد الأمر الغيري وصحة الفعل بالإتيان به بهذا القصد ، بما توضيحه : ان الأمر الغيري حيث انه متعلق بالفعل العبادي ، فهو انما يدعو إليه ، لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به ، فيقصد التقرب بالفعل بتوسط قصد الأمر الغيري ، فمعنى الإتيان بالعمل بداعي أمره الغيري هو الإتيان به بالنحو العبادي ، لأنه هو الّذي يدعو

ص: 250

إليه الأمر الغيري (1).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الجواب : بان الأمر النفسيّ الاستحبابي أو الجهة الراجحة النفسيّة ، اما ان يكون ملتفتا إليها عند العمل ، أو مغفولا عنها بالمرّة ، فان كانت ملتفتا إليها كانت هي الداعية إلى العمل ، لا الأمر الغيري ، إذ لا حاجة حينئذ إلى توسيط دعوة الأمر الغيري. وان كانت مغفولا عنها لم يتحقق القصد إليها ولو إجمالا ، فلا تتحقق العبادية ، لكون المفروض قوامها بقصد الأمر النفسيّ (2).

وهذا الإشكال بظاهره سديد ، إلا أنه قد يخدش فيه عند التأمل.

فالأولى ان يقال : - إشكالا على صاحب الكفاية - : ان المقصود ..

اما ان يكون قصد الأمر الغيري بنحو داعي الداعي ، بلحاظ أنه يدعو إلى الإتيان بالفعل بداعي الاستحباب النفسيّ لأنه متعلقه ، فيكون الأمر الغيري داعيا إلى داعوية الأمر النفسيّ ، فيؤتى بالفعل بداعي الأمر النفسيّ ، والمجموع بداعي الأمر الغيري. فإذا كان المقصود هذا المعنى ، فهذا مما لا يستشكل فيه أحد ، لفرض قصد الأمر النفسيّ ، وكون الأمر الغيري بنحو داعي الداعي أمر لا محذور فيه ، بل له نظائر وأشباه في كثير من الفروع.

وبالجملة : هذا النحو خارج عن المفروض ، إذ المفروض كون المقصود خصوص الأمر الغيري.

واما ان يكون مقصوده قصد الأمر الغيري فقط بمعنى انه يؤتى بالعمل كالوضوء بداعي الأمر الغيري لا غير ، فهذا يتوقف على تعلق الأمر الغيري بذات الوضوء. وهو يتصور على نحوين :

ص: 251


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 201 - الطبعة الأولى.

أحدهما : ان يتعلق به أمر غيري استقلالي ، باعتبار ان المقدمة إذا كانت هي العمل بقصد القربة ، فكل من العمل وقصد القربة جزء المقدمة ، وجزء المقدمة يكون مقدمة أيضا ، فيكون العمل بنفسه مقدمة ويتعلق به الأمر الغيري بذاته.

ثانيهما : ان يتعلق به أمر غيري ضمني ، باعتبار تعلق أمر استقلالي واحد بالمركب من الوضوء وقصد القربة ، وهو ينحل إلى أمرين ضمنيين غيريين يتعلق أحدهما بذات الوضوء.

وعلى أي حال فالوضوء متعلق لأمر غيري يقصد امتثاله عند الإتيان به.

وهذا المعنى لو تمّ ، فهو لا يستلزم تحقق العبادية بالقصد الإجمالي ، بلحاظ أن الأمر الغيري يدعو إلى ما تعلق به ، فان المفروض انه إنما تعلق بذات الوضوء ، فهو أنما يدعو إلى ذات الوضوء لا إلى الوضوء بقصد القربة ، فمن أين تتحقق عبادية الوضوء؟

فالمتعين في جواب إشكال الاكتفاء بقصد الأمر الغيري ما ذكرناه.

ونتيجة ما تقدم هو : ان الوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية في رفع إشكال عبادية الطهارات وجه خال عن المحذور ، فهو ممكن ثبوتا.

إلا انه انما يتعين الالتزام به إثباتا لو لم يتم وجه آخر من الوجوه المذكورة في دفع الإشكال ، إذ ينحصر حلّ العويصة به ، ويكون هو طريق الجمع بين الإجماع على عبادية الطهارات وما يرد على العبادية من إيراد.

واما لو فرض تمامية بعض الوجوه الآتية ، فلا يتعين الالتزام بهذا الوجه ، إذ لا معين له في مقام الإثبات دون غيره.

ثم انه لا بد من التعرض - بعد إنهاء هذا المبحث - إلى بيان صحة قصد الأمر الاستحبابي في مورد تعلق الأمر الغيري بالوضوء ونحوه ، كما لو دخل الوقت أو عدمها ، فان الظاهر من تعبير صاحب الكفاية ب- : « الاكتفاء بقصد

ص: 252

امرها الغيري » هو عدم تعين قصده وجواز قصده الاستحباب كما لا يخفى ، مع انه قد يدعي عدم صحة قصد غير الأمر الغيري في مورده.

وهذا بحث تعرض إليه الأعلام 5 ، وان كان بحثا فقهيا وليس من مباحث الأصول. فانتظر.

الوجه الثاني : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه وقد تقدم بيانه وبعض الكلام حول عبارة الكفاية بالنسبة إليه ، ومحصله : الالتزام بان الوضوء معنون بعنوان قصدي راجح في ذاته ، يكون قصد الأمر الغيري طريقا إلى قصد ذلك العنوان إجمالا ، لأن الأمر الغيري يدعو إلى ما تعلق به.

ومن الواضح انه تندفع به جميع الإشكالات ، فان المقربية والثواب انما يكونان بلحاظ كون العمل بنفسه راجحا لتعنونه بالعنوان الراجح ، لا من جهة اقتضاء امتثال الأمر الغيري لذلك ، كما ان الأمر الغيري ليس تعبديا ، بل هو توصلي ، وقصده انما هو لأجل طريقيته إلى قصد العنوان الراجح.

كما ان محذور الدور يرتفع به - كما تقدم بيانه - إذ العبادية لم تنشأ من الأمر الغيري فتوقف الأمر الغيري على عباديته لا تستلزم الدّور.

واما الإشكالات المذكورة في كلام المحقق النائيني ، فقد عرفت اندفاعها ، إذ هذا الوجه كالوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية في النتيجة لكنه يؤاخذ :

أولا : بأنه لا ملزم للالتزام بان الوضوء متعنون بعنوان قصدي راجح في ذاته ، إذ ينحل الإشكال بالالتزام برجحان الوضوء بنفسه واستحبابه بذاته - كما ذكره صاحب الكفاية - بلا حاجة إلى فرض عنوان مجهول قصدي ، فان ذلك تبعيد للمسافة.

وثانيا : بما جاء في الكفاية من الإيراد على توجيه قصد الأمر الغيري ، بأنه لأجل تحقق قصد العنوان إجمالا للجهل به.

وتوضيحه : ان قصد العنوان المجهول بتوسط الأمر الغيري لا ينحصر

ص: 253

بأخذ الأمر الغيري داعيا إلى العمل ، بل يتحقق مع أخذه بنحو التوصيف ، وكون الداعي شيئا آخر ، فيقصد المكلف الإتيان بالوضوء المأمور به لا الوضوء بداعي الأمر. فان الوصف إشارة أيضا إلى ذلك العنوان (1).

وبمثل هذا الإيراد أورد الشيخ رحمه اللّه نفسه على من التزم بلزوم قصد الوجه في العبادات بتقريب : ان الأمر انما تعلق بهذه الأفعال بلحاظ انطباق عناوين واقعية راجحة عليها ، ولا يمكن قصد تلك العناوين تفضيلا للجهل بها ، فلا طريق إلاّ الإتيان بالفعل بداعي الوجوب ، لأنه متعلق بالفعل المعنون بذلك العنوان ، فيكون العنوان مقصودا إجمالا ، فقد أورد الشيخ على هذا التقريب ، انه لا يستلزم تعين قصد الوجه ، بحيث يكون الوجوب داعيا ، إذ قصد العنوان الواقعي الراجح يتحقق بالإتيان بالفعل المتصف بالوجوب ، بحيث يؤخذ الوجوب بنحو التوصيف لا الداعي. فتدبر.

الوجه الثالث : ما نسب صاحب الكفاية إلى الشيخ أيضا ، وهو : ان الغرض من ذي المقدمة كما لا يتحقق إلا بالإتيان به بنحو عبادي ، فكذلك بتوقف تحقق الغرض من الغاية - ذي المقدمة - على تحقق المقدمة ، والإتيان بها بنحو عبادي. فعبادية الطهارات لأجل توقف حصول الغرض من غاياتها عليها (2).

ومن الواضح : ان هذا لا يصلح حلا لأي إشكال من الإشكالات السابقة كيف؟ وهو بيان لموضوع الإشكال ، فان نتيجته ليست إلا إثبات ان الطهارات لا بد من الإتيان بها بنحو عبادي ، وهذه الجهة قد أخذت مفروغا عنها ، والمفروض ان الإشكالات مترتبة على الاعتراف بهذه الجهة ، فكيف تصلح

ص: 254


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /112- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

حلا للإشكالات ودفعا لها؟ فان موضوع البحث هو معرفة منشأ عبادية الطهارات الثلاث والسّر فيه ، بحيث تندفع به الإيرادات ، لا معرفة ان الطهارات عبادية أو غير عبادية.

ومن العجيب نسبته هذا الوجه إلى الشيخ رحمه اللّه مع ان الوجه المذكور في كلام الشيخ لا يرتبط به بالمرّة.

فان الشيخ في مقام دفع إشكال الدور المتقدم ذكره ذكر وجهين : أحدهما ما تقدم وتقدم الكلام حوله. وثانيهما هو : ان المقدمية إذا كانت متقومة بكون الفعل عباديا ، فلا محيص عن ان يلتجئ المولى إلى الأمر بذات العمل - بدون أخذ قصد الأمر فيه ، بناء على امتناع أخذه في متعلق الأمر كما تقدم البحث فيه - ، ثم إعلام المكلف بلزوم الإتيان بالفعل بداعي أمره ، وان الغرض منه لا يتحقق بدون ذلك ، وبذلك لا يحتاج إلى أمر آخر لتحقق غرض المولى بذلك ، فيكون الأمر مقوما للمقدمية ومغن عن أمر آخر ، وبذلك يرتفع الدور ، إذ عبادية الفعل وان نشأت من تعلق الأمر به ، لكن الأمر تعلق بذات العمل ، فهو لا يتوقف على الفعل العبادي كي يتحقق الدور (1).

ومن الواضح ان ما جاء في الكفاية لا ربط له بما ذكرناه عن كتاب الطهارة ، فان ما جاء في كتاب الطهارة حلّ للإشكال ، ومن العجيب ان المشكيني ادعى ان الوجه المذكور في الكفاية هو مختار التقريرات (2) ، فانه كما عرفت لا يحلّ إشكال الدور أصلا ، بل هو يمهّد موضوع الإشكال ، وقد عرفت ان الإشكال الّذي ذكره الشيخ هو إشكال الدّور فقط ، فكيف يجعل هذا الوجه جوابا له وردّا عليه؟ وبذلك نستطيع الجزم بعدم كونه مراد التقريرات وان لم

ص: 255


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة /88- الطبعة الأولى.
2- كما في حاشية كفاية الأصول 1 / 179 - طبعة المحشاة بحاشية المشكيني.

تحضرنا التقريرات فعلا (1).

وأعجب منه ما ذكره المحقق الأصفهاني من : ان الوجه الّذي في الكفاية هو نفس الوجه المذكور في كتاب الطهارة بأدنى تغيير (2) ، فانك قد عرفت البون الشاسع بينهما وعدم ارتباط أحدهما بالآخر.

ومجمل الكلام : ان الإنسان يقف موقف الحيرة والاستغراب تجاه هذه الاشتباهات المتكررة. فلاحظ.

الوجه الرابع - وهو ما نقله صاحب الكفاية - : انه يلتزم بوجود أمرين :

أحدهما يتعلق بذات العمل. وثانيهما يتعلق بالعمل بقصد الأمر الأول ، فيتمكن المولى بهذه الطريقة من تحقيق عبادية الطهارات ، إذ بدون ذلك لا يتمكن منه ، لعدم كون الطهارات بنفسها عبادة ، وعدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر الأول.

وأورد عليه في الكفاية بوجهين :

الأول : ان ذات العمل ليست بمقدمة ، إذ المفروض كون المقدمة هو العمل العبادي لا مجرد الحركات الخاصة. وعليه فيمتنع ان يتعلق بها أمر غيري مترشح من الأمر النفسيّ ، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالعمل كونه مقدمة للواجب النفسيّ ، فلا يتعلق بما ليس بمقدمة.

الثاني : انه قد مرّ امتناع تصحيح أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر شرعا بالالتزام بأمرين ، وانه لا محيص عن كونه مما يحكم به العقل لا الشرع.

فتصحيح عبادية الطهارات بأمرين لا يخلو عن المحذور (3).

ص: 256


1- ذكر سيدنا الأستاذ - دام ظله - في اليوم الثاني : بأنه راجع التقريرات ، فوجدها غير موافقة لما ذكره صاحب الكفاية كما جزم به أولا. ( منه عفي عنه ).
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 203 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 112 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والتحقيق ان الوجه الأول لا يخلو عن بحث ، وهو : ان الأمر الأول الّذي يتعلق بالطهارات الثلاث اما ان يكون غيريا ، أو نفسيا تهيئيا ، أو نفسيا استقلاليا.

اما إذا كان غيريا - كما هو مفروض إيراد صاحب الكفاية بحسب ما فهمه من كلام المستدل - فيصح تعلقه بذات العمل على بعض الوجوه.

بيان ذلك : ان العمل مع قصد القربة اما ان يلتزم بأنهما مأخوذان بنحو التركيب ، فيكون كل منهما جزء المقدمة ، أو يلتزم بان الأمر متعلق بالعمل القربي بنحو التوصيف والتقييد.

فعلى الأول : لا امتناع في تعلق الأمر الغيري بذات العمل ، لأنه يكون بنفسه مقدمة ، فان جزء المقدمة مقدمة ، كما لا يخفى.

وعلى الثاني : فاما ان يبنى على انحلال الواجب والمأمور به إلى جزءين ، ذات العمل والتقيد ، بحيث يختص كل منهما بأمر ضمني.

وعلى هذا الأساس يبنى على جريان البراءة في الأقل والأكثر عند الشك في شرطية شيء ، كما تقدمت الإشارة إليه في أول مبحث التعبدي والتوصلي.

أو يبنى على عدم انحلال المأمور به ، وان الواجب في الحقيقة امر بسيط ، وهو الحصة الخاصة.

وعلى هذا الأساس يبنى على عدم جريان البراءة مع الشك في شرطية شيء في باب الأقل والأكثر.

فان بني على انحلال المأمور به المقيد إلى جزءين ، يكون كل منهما قابلا لتعلق الأمر به ، فلا مانع حينئذ من تعلق الأمر الغيري بذات العمل لأنه جزء المأمور به.

نعم إذا لم يبن علي الانحلال لم يتجه تعلق الأمر بذات العمل ، لأنه ليس

ص: 257

بمأمور به ولا يمكن ان يكون مأمورا به لعدم توفر الملاك فيه. فإشكال صاحب الكفاية انما يتوجه على البناء الأخير ، وإلاّ فهو على البناءين الأولين غير متجه.

وتحقيق أحد هذه المباني ليس محله هاهنا ، بل له مجال آخر يأتي التعرض إليه.

فالمتعين من إيرادي الكفاية هو الثاني ، فقد مر بيان مراد الكفاية من الإشكال على تصحيح أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر بالالتزام بأمرين ، وانه مما لا محيص عن الالتزام به فيتوجه على هذا الوجه ويضاف إليه إيرادين آخرين :

أحدهما : ما تقدم من ان الأمر الغيري غير قابل للدعوة والتحريك نحو العمل المأمور به ، فلا وجه لأن يدعو الأمر الثاني إلى دعوة الأمر الأول.

وثانيهما : ان قصد امتثال الأمر الغيري الأول بتوسط الأمر الثاني لا يستوجب المقرّبية وترتب الثواب عليه كما تقدم ، وتعدد الأمر لا يصحح ترتب الثواب وحصول القرب كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى نقول : ان المقصود من الأمر الثاني انما هو الإتيان بالعمل بقصد الأمر الأول ليكون عباديا ، وهو غير متحقق ، إذ الأمر الأول لما كان غيريا لا يكون قصده محققا للعبادية ، إذ لا يوجب القرب ، فلا يتوصل إلى العبادية بتعدد الأمر.

هذا إذا كان الأمر المتعلق بذات العمل غيريا.

واما إذا كان نفسيا تهيئيا ، بمعنى انه أمر مستقل غير تابع لثبوت الأمر بالغاية ، ولكن الغرض منه التوصل إلى تحقق الغاية ، فهو وسط بين الأمر الغيري والنفسيّ المحض. وقد التزم بتعلقه بالمقدمات المفوتة عند عدم تمامية الوجوه المذكورة في تصحيح وجوبها قبل زمان وجوب ذيها.

فيرد عليه : انه يمتنع تعلق الأمر النفسيّ التهيئي في هذا الفرض ونحوه

ص: 258

مما كان وجوب ذي المقدمة فعليا ، وذلك لما ذكرناه في الأمر الغيري من عدم قابليته للدعوة والتحريك. ببيان : ان المكلف اما ان يكون في مقام امتثال الأمر النفسيّ بذي المقدمة أو لا يكون ، فان كان في مقام امتثال الأمر النفسيّ ، كان إتيانه بالمقدمة مما لا بد منه ، سواء قصد امتثال الأمر التهيئي أو لم يقصد. وان لم يكن في مقام امتثال الأمر النفسيّ لم يتحقق منه قصد الأمر التهيئي ، إذ قد عرفت انه بملاك التوصل إلى الواجب الآخر ، فإذا لم يقصد امتثال الواجب الآخر لم يتحقق التوصل قهرا ، فلا يلحظ ملاك الأمر التهيئي عند إتيان العمل ، فيمتنع قصد امتثاله.

نعم الأمر التهيئي المتعلق بالعمل قبل زمان الواجب الآخر المقصود التوصل به إليه ، كالمتعلق بالمقدمات المفوتة ، له قابلية الدعوة ، إذ لولاه لما أتي بالمقدمة المستلزم لترك الواجب ، فيمكن ان يكون الداعي للإتيان بالمقدمة ليس إلاّ تعلق الأمر به ، ولولاه لما أتى به وكان معذورا في ترك الواجب في ظرفه ، لعدم القدرة عليه ، وعدم الملزم لإيجادها أو المحافظة عليها قبل ظرفه.

واما إذا كان الأمر نفسيا محضا وذاتيا بلا ارتباط له بأمر آخر. فلا إشكال فيه ، إلا أنه خارج عما هو محل الكلام ، فان الغرض من هذا الوجه تصحيح عبادية الطهارات من طريق غير الأمر النفسيّ ، وإلاّ رجع هذا الوجه إلى الوجه الأول الّذي التزم فيه باستحباب الطهارات بذاتها. فالتفت.

الوجه الخامس : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من ان الشرائط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني النفسيّ ، فالإتيان بها بداعي أمرها النفسيّ الضمني كما يؤتى بالاجزاء كالركوع. وعليه فعبادية الطهارات باعتبار تعلق الأمر النفسيّ ، وبذلك تندفع الإيرادات ، إذ المقربية والثواب ناشئان من امتثال الأمر النفسيّ الضمني ، ولا أمر غيري في المقام كي يستشكل في عباديته ، وإشكال الدور يندفع بما يدفع به نفس الإشكال على تعلق الأمر بنفس العمل

ص: 259

وذي المقدمة المفروض كونه عباديا ، والمحاذير الأخرى التي ذكرها قدس سره واضحة الاندفاع (1).

وهذا الوجه - مع غض النّظر عن صحة ما التزم به من كون الشرائط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني ، وعدم صحته ، فانه محل كلام ، فقد ادعي امتناعه - غير سديد ، فانه لو سلم كون الأمر الضمني يتعلق بالشرائط ، فالشرط في ما نحن فيه هو الطهارة لا نفس الوضوء وهي مسببة عن الوضوء ، والإشكال في تصحيح عبادية نفس الأعمال المأتي بها ، وهي لا تكون متعلقة للأمر الضمني لأنها ليست شرطا ، كما ان الطهارة غير متعلقة للأمر الضمني ، إذ للشيخ رحمه اللّه بيان وجيه لعدم إمكان تعلق الأمر بالطهارة أصلا - يأتي ذكره في محله إن شاء اللّه تعالى - ، فالطهارة ليست على حد سائر الشرائط في كونها متعلقة للأمر الضمني النفسيّ. فتدبر.

الوجه السادس : ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من انه يمكن الإتيان بإحدى الطهارات بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ التي هي مقدمة له ، فانه محقق لعباديتها ، إذ يكفي في تحقق العبادية الإتيان بالفعل مضافا إلى المولى المتحقق بقصد التوصل ، وان لم نقل بوجوب المقدمة غيريا. فعبادية الطهارات الثلاث تتحقق - بنظر السيد الخوئي - بطريقين :

أحدهما : قصد أمرها النفسيّ لو دل الدليل الإثباتي على استحبابها في أنفسها كما هو مختاره.

ثانيهما : قصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ ، وان لم يلتفت إلى استحبابها النفسيّ (2).

ص: 260


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 175 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 401 - الطبعة الأولى.

ولتحقيق الحال في الطريق الثاني - إذ مرّ الكلام في الطريق الأول - لا بد ان نقول : انه مما لا إشكال فيه ان هناك فرقا بنظر العرف والعقلاء بين الإتيان بالمقدمة بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ ، والإتيان بها لا بهذا القصد ، بل بقصد دنيوي في حصول المثوبة والقرب في الأول دون الثاني. فانه إذا وجب الوصول إلى الكوفة ، وكان المشي مقدمة لتحققه ، فان إتيانه بالمشي بداعي الوصول إلى الكوفة الواجب يختلف أثره في مقام الإطاعة والقرب عما لو مشى لا بقصد الوصول ، بل بقصد الترويح عن النّفس أو ترويض الجسد.

فان مثل هذا لا يقبل الخلاف ، إلا ان تحقق القرب والثواب عند الإتيان بالمقدمة بداعي التوصل بها إلى الواجب النفسيّ يمكن أن يرجع سرّه إلى أحد وجوه ثلاثة :

الأول : أنه شروع في إطاعة الأمر النفسيّ المتعلق بذي المقدمة ، بلحاظ توقفه على المقدمة ، فالإتيان بالمقدمة شروع في إطاعة الأمر النفسيّ ، فيستحق الثواب على المقدمة من باب أنه إطاعة للأمر النفسيّ لا على ذات الإتيان بالمقدمة.

الثاني : ان الثواب على نفس العمل ، إلا أنه من جهة كشفه عن تحقق صفة حسنة لدى العبد ، وهي صفة الانقياد ، وقد تقدم ان حسن الانقياد حسن فاعلي لا فعلي ، فمدح المنقاد لا يكون على فعله بل على الصفة الحسنة التي يكشف عنها الفعل ، إذ قد يكون الفعل في نفسه مبغوضا ، كما لو قتل ابن سيده بتخيل انه عدوّه. وبالجملة : التقرب الحاصل في صورة الانقياد انما يتحقق بصفة الانقياد لا بالفعل المنقاد به.

الثالث : ان الثواب على ذات العمل لمقربيته بنفسه.

ولا يخفى ان العبادية المعتبرة في ما نحن فيه هي الإتيان بالفعل بنحو مقرب. وبتعبير أوضح : هو التقرب بالفعل بحيث يكون نفس الفعل سببا للقرب

ص: 261

لكونه محبوبا للمولى.

وعليه ، فقصد التوصل بالمقدمة إنما يجدي لو ثبت ان حكم العقلاء بترتب الثواب عليه - الّذي لا كلام فيه - يرجع سرّه إلى الوجه الثالث.

واما إذا كان مرجعه إلى أحد الوجهين الأولين ، فلا ينفع في العبادية المعتبرة ، إذ لا تقرب بنفس العمل على الوجهين الأولين كما لا يخفى.

ومن الواضح ان الجزم بكون مرجعه هو الوجه الثالث في غاية الإشكال - ان لم نقل في غاية البعد - ، إذ الاحتمال الأول لا دافع له ، ولو فرض تنزلا اندفاعه ، فلا نجد في أنفسنا دافعا للاحتمال الثاني ، فانه قريب إن لم نقل أنه متعين.

ويؤيد نفي كون قصد التوصل موجبا للعبادية : ان أغلب المقدمات في كثير من الموارد يؤتى بها بقصد التوصل ، إذ لا يكون غرض للعبد فيها غير الوصول بها إلى الواجب النفسيّ ، فلازم الوجه المذكور كون جميع هذه المقدمات تعبدية ، وهذا مما لا يلتزم به أحد.

كما يؤيده : انه لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل وجاء بذيها بداع غير قربي كالرياء ، لزم ان تكون المقدمة بما أنها مقدمة عبادية دون ذيها ، وهو مستبعد جدا.

ثم أنه قد يورد على قصد التوصل بالطهارات الثلاث وتحقق العبادية به بلزوم الدّور بتقريب : ان التوصل انما يكون بما هو مقدمة ، والمفروض ان المقدمة ما هو عبادة لا ذات العمل ، فإذا كانت العبادية ناشئة عن قصد التوصل يلزم الدور ، لأن قصد التوصل يتوقف على ان يكون العمل عبادة بنفسه ، والعبادية تتوقف على قصد التوصل ، وهو الدور.

والجواب عن هذا الإيراد : ان المراد من التوصل المقصود بالعمل ليس هو التوصل الفعلي المباشر ، بمعنى ترتب ذات الواجب على المقدمة مباشرة وفعلا. بل المراد به التوصل إلى الواجب من جهة هذه المقدمة فقط ، باعتبار انها

ص: 262

تقع في طريق الوصول إليه فيؤتى بها بقصد التوصل من جهتها ولو لم يتحقق التوصل الفعلي ، لإمكان توقف الواجب على مقدمات أخرى. فمثلا لو وجب الكون في الكوفة ، فكل خطوة في المشي مقدمة يمكن قصد التوصل بها إلى الواجب ، ومن الواضح انه لا يتحقق التوصل الفعلي إلا بآخر خطوة ، فان ما قبلها من الخطوات من قبيل المعدّ.

وبالجملة : المراد هو إيجاد القدرة على الواجب من جهة هذه المقدمة ورفع المانع من قبلها ، بحيث لو انضمت سائر المقدمات تحقق الواجب فعلا ، فالمراد من التوصل التوصل التقديري.

إذا اتضح هذا فنقول : ان المقدمة وان كان العمل العبادي إلا ان ذات العمل أيضا مقدمة باعتبار انه جزء المقدمة. وعليه فيمكن ان يقصد التوصل بذات العمل بلحاظ إيجاد القدرة على الواجب من جهته فقط ، لا القدرة الفعلية - كي يقال بتوقفها على العبادية فيمتنع حينئذ قصد التوصل - وتحقق العبادية بذلك فيوجد الجزء الآخر من المقدمة ، فقصد التوصل لا يتوقف على العبادية فتحقق العبادية به لا يستلزم الدور.

فالعمدة في الإيراد على الوجه المزبور ما ذكرناه.

والّذي ينتج من مجموع ما تقدم : ان جميع الوجوه المتقدمة غير خالية عن الإشكال سوى الوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية الّذي يرجع إلى استحباب الطهارات ذاتا وفي أنفسها. ومن الواضح انه يستطيع بنفس هذا الوجه إثبات استحباب الطهارات الثلاث النفسيّ من دون حاجة إلى البحث عن الدليل الخاصّ على ذلك ، وذلك لأن إذا قام الإجماع على لزوم الإتيان بها على نحو عبادي - كما هو المفروض - ولم يكن وجه مصحح لعباديتها سوى الالتزام بالأمر النفسيّ كشف ذلك عن تعلق الأمر النفسيّ بها ، فانه ملازم لتعلق الأمر الوجوبيّ بالواجب المقيد بها ، لعدم التمكن منه بدون تعلق الأمر النفسيّ بها ، كي يستطاع

ص: 263

الإتيان بها بنحو عبادي فيحصل التعبد المعتبر في الواجب.

وأنت خبير في ان هذا إنما يجدي في إثبات تعلق الأمر النفسيّ بها بعد دخول وقت الواجب للملازمة بين وجوب الواجب وبين استحبابها بالتقريب الّذي عرفته ، اما تعلق الأمر النفسيّ بها قبل دخول الوقت وتعلق الأمر بالواجب النفسيّ فلا يتكفل هذا الوجه إثباته ، فانه غاية ما يتكفل توقف عباديتها على الأمر النفسيّ ، وهذا انما يثبت الأمر النفسيّ في صورة تعلق الأمر الغيري بها ، لتوقف ذي المقدمة على الإتيان بها المتوقف على استحبابها فيكشف عن تعلق الأمر النفسيّ بها ، دون ما لم يتعلق الأمر الغيري بها ، لأنه لا يقتضي لزوم الاستحباب ، بل غاية ما يقتضي انه عند وجوبها والأمر بها لا بد وان يؤتى بها بنحو عبادي المتوقف على الاستحباب.

ولأجل ذلك وقع البحث من الأعلام في إثبات استحباب الطهارات النفسيّ في كل آن من الدليل الخارجي غير هذا الوجه.

والثمرة : انه لو ثبت استحبابها النفسيّ كان الإتيان بها قبل الوقت بداعي القربة ممكنا ، بخلاف الوجه الأول ، فانه انما يتكفل إثبات استحبابها النفسيّ بعد الوقت بالملازمة المذكورة.

وهذا البحث وان كان بحثا فقهيا لا يرتبط بالأصول ، إلا أنه يحسن التعرض إليه لمزيد الفائدة فيه وعدم تنقيحه كما ينبغي.

ولا بد قبل التعرض إلى هذا المطلب من التعرض إلى بحث آخر لم ينقح كما ينبغي ..

وهو معرفة كون الشك في اعتبار شيء في الطهارات الثلاث من جزء أو شرط مجرى للبراءة أو الاشتغال ، ويتفرع على ذلك تحقيق كون الطهارة امرا مسببا عن هذه الأفعال أو أنها عنوان لها.

وتحقيق ذلك : انه قد التزم بان الشك المذكور يكون مجرى للاشتغال لا البراءة

ص: 264

وذلك : لأن الأمر تعلق بالطهارة وهي امر بسيط ، وهذه الأفعال محققات ومحصلات للطهارة ، فيكون الشك في اعتبار جزء فيها شكا في المحصل ، والمقرر انه مجرى للاشتغال ، لأنه شك في تحقق الامتثال لا في التكليف.

وقد استشكل في هذا الوجه : بان الطهارة ليست امرا مغايرا لهذه الأفعال ، فانها عنوان لهذه الأفعال ، فوجودها عين وجود الأفعال. وعليه فيكون الشك في الحقيقة شكا في التكليف الزائد ، لأن الأمر متعلق بهذه الأفعال بعنوان كونها طهارة.

وهذا الوجه مما يشعر به كلام الفقيه الهمداني وحققه المحقق الأصفهاني وتابعة على ذلك السيد الخوئي (1).

ولتوضيحه نقول : ان الأمور الاعتبارية التي تتحقق بأمر من الأمور ..

تارة : تكون نسبتها إلى ما يحققها نسبة المسبّب إلى المسبّب ، فيكون لها وجود منحاز عن وجود سببها في عالم الاعتبار ، وتكون مغايرة له نظير الملكية بالنسبة إلى العقد ، فان الملكية غير العقد.

وأخرى : تكون نسبتها إلى المحقق نسبة العنوان إلى المعنون ، بحيث ينطبق الأمر الاعتباري على نفس محققه فلا تكون بينهما مغايرة وانفصال ، نظير التعظيم الحاصل بالقيام ، فان التعظيم من الأمور الاعتبارية التي تختلف باختلاف الأنظار. ومن الواضح انه ينطبق على نفس القيام ، فيقال للقيام انه تعظيم فليس التعظيم غير القيام وجودا.

إذا عرفت ذلك نقول : ان من يذهب إلى إجراء الاشتغال في الطهارات الثلاث ينظر إلى ان نسبة الأفعال إلى الطهارة نسبة السبب إلى المسبب ، نظير العقد والملكية الحاصلة به ، ومن يذهب إلى إجراء البراءة ينظر إلى ان نسبة

ص: 265


1- الغروي الميرزا علي. التنقيح في شرح العروة الوثقى3/ 515 - 517 - الطبعة الأولى.

الأفعال إلى الطهارة نسبة المعنون إلى عنوانه نظير القيام والتعظيم الحاصل به ، فلا بد ..

أولا : من معرفة ما هو الحق من كون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة المسبب إلى السبب أو نسبة العنوان إلى المعنون ، وان الاحتمال الثاني هل يمكن تعلقه أو لا؟.

وثانيا : معرفة انه إذا التزم بكون النسبة بينهما نسبة العنوان إلى المعنون ، فهل يجدي ذلك في إجراء أصالة البراءة عند الشك كما ادعي أو لا يجدي؟ ، بل لا يختلف الحال في لزوم إجراء قاعدة الاشتغال على كلا التقديرين؟.

والّذي نراه هو عدم معقولية التقدير الثاني - أعني كون النسبة بينهما نسبة العنوان إلى المعنون - ، وعلى تقدير معقوليته فهو لا ينفع في إجراء أصالة البراءة.

اما عدم معقوليته : فلان كون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون ترجع إلى اعتبار العنوان الاعتباري للفعل الخارجي عند تحققه ، يعني ان الفعل عند وجوده يعتبر كونه كذا كالقيام ، فانه عند وجوده يعتبر انه تعظيم ، فالتعظيم عنوان اعتباري للقيام الموجود. وبعبارة أخرى : العنوان يجعل ويعتبر بإزاء المعنون ، فلا بد ان يفرض المعنون موجودا كي يعنون بالعنوان اعتبارا. ومن الواضح انه ليس للوضوء وأخويه وجود استمراري كي يعتبر كونه طهارة مستمرا ، بل وجوده وقتي منقطع ، مع ان الطهارة أمر استمراري. فعليه نقول : ان اعتبار الطهارة في مرحلة البقاء اما ان يكون مع اعتبار وجود الأفعال ، فيعتبر كونها طهارة بعد ذلك. أو بدون ذلك ، بل لا يكون سوى اعتبار الطهارة.

والثاني غير معقول ، إذ لازمه اعتبار العنوان بدون معنونه ، إذ المفروض انه لا وجود للافعال بقاء لا حقيقة ولا اعتبارا ، فتكون الطهارة عنوانا لأمر معدوم وهو غير معقول ، إذ لا وجود للعنوان بدون المعنون لتقومه به.

ص: 266

والأول يستلزم ان يكون هناك اعتباران : أحدهما : اعتبار الأفعال وكون الإنسان غاسلا ماسحا. والآخر : اعتبار كون هذه الأفعال الاعتبارية طهارة.

من الواضح انه لو استطاع أحد ان يتفوه بهذا ، فهو لغو محض ، لأنه يتمكن من اعتبار الطهارة بنفسها من دون ملزم للاعتبار الثاني ، لكن لا على وجه تكون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون ، بل نسبة المسبب إلى السبب ، فاعتبار وجود الوضوء بقاء لا أثر فيه كما هو واضح.

وبالجملة : الالتزام بكون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة العنوان إلى المعنون مما لا يساعد عليه التأمل.

واما عدم تأثير الالتزام به في إجراء البراءة : فلان الأمر لم يتعلق بنفس الأفعال ، بل بالعنوان البسيط الاعتباري المنطبق عليها ، والأفعال تكون محققة لذلك العنوان البسيط المعلوم ، فالشك فيها شك في محصل المأمور به ، إذ يشك في تحقق الطهارة بدون الجزء المشكوك ، ولا يكون الشك شكا في التكليف كما تخيل. وعليه فقاعدة الاشتغال هي المحكمة فيما نحن فيه.

والمتحصل : انه لا بد من إجراء قاعدة الاشتغال سواء التزم بان النسبة بين الطهارة والأفعال نسبة السبب والمسبب أو نسبة العنوان والمعنون.

ثم ان هاهنا مذهب ثالث ، وهو ان الأمر لم يتعلق بالطهارة حتى يقع الكلام المتقدم ، بل هو متعلق بنفس الأفعال من الغسل والمسح. وعليه فمع الشك في اعتبار جزء أو شرط زائد يكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فانه شك في تكليف زائد على المتيقن ، والمقرر ان ذلك مجرى أصل البراءة.

ولا يخفى ان هذا أيضا لا ينفع في إجراء البراءة لأنه لو سلم فما يثبت به هو تعلق الأمر النفسيّ الندبي بالافعال لا الأمر النفسيّ الوجوبيّ ، فانه لا يحتمل ذلك إلا في الغسل وهو احتمال ضعيف لا يلتزم به.

والّذي بنينا عليه في بحث البراءة هو عدم جريان البراءة في الأوامر

ص: 267

الاستحبابية ، فلا فائدة في إثبات تعلق الأمر بنفس الأفعال من هذه الجهة.

نعم هناك طريق آخر لإجراء البراءة - على هذا الالتزام - وهو إجراؤها في تقيد الواجب النفسيّ بها. بيان ذلك : انه إذ فرض أخذ نفس هذه الأفعال شرطا وكان تقيد الواجب بها معتبرا والتزم بجريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر ، سواء كان المشكوك جزءا أو شرطا أمكن جريان البراءة عند اعتبار شيء في الوضوء زائد على الأجزاء والشرائط المعلومة ، وذلك فانه إذا التزم بجريان البراءة عند الشك في أصل الشرطية ، فلا بد من إجرائها مع الشك في اعتبار خصوصية في الشرط المعلوم ، لأن التقيد بما هو معلوم الجزئية والشرطية للشرط معلوم الوجوب ، والتقيد بالأكثر الزائد غير معلوم ، فتجري فيه أصالة البراءة لرجوع الشك في الحقيقة إلى الشك في الشرطية الزائدة وهو مجرى البراءة. ففيما نحن فيه حيث يعلم بوجوب التقيد بافعال الوضوء المعلومة الدخل فيه ، ولا يعلم بوجوب التقيد بالزائد المشكوك دخله كان ذلك مجرى البراءة.

ولا يخفى ان هذا الوجه انما ينفع في إجراء البراءة لو فرض ان الشرط نفس الأفعال لا الطهارة التي تتعنون بها الأفعال أو تكون مسببة عنها. واما إذا كان الشرط الّذي يعتبر التقيد به هو الطهارة ، فلا مجال لإجراء البراءة مع الشك في دخل شيء في الوضوء أو أحد أخويه ، لأن الشرط أمر بسيط ، وهو معلوم الشرطية ، والشك لا يرجع إلى دخالة شيء في نفس الشرط كي يكون الشك في الحقيقة شكا في اعتبار التقيد به ، بل يرجع إلى دخالة شيء فيما هو محقق ومحصل لهذا الشرط المعلوم ، ومعه لا تجري البراءة ، لأن الشك لا يكون شكا في تكليف زائد على ما هو المعلوم. فلاحظ.

وحيث انحصر طريق جريان البراءة عند الشك في دخالة شيء في هذه الأفعال الخاصة في الالتزام بكونها بذاتها شرطا للواجب النفسيّ ، وليس الشرط هو الطهارة ، فلا بد من معرفة الحق في هذا الأمر ..

ص: 268

وهو : وان كان ظاهر بعض الأدلة حيث ورد فيها الأمر بنفس الوضوء لأجل الصلاة كالآية الشريفة وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ) الآية (1) ، وكبعض الأخبار الواردة عن أهل البيت علیهم السلام (2) ، إلاّ أنه يتعين رفع اليد عن ظاهرها والالتزام بكون الشرط هو الطهارة لمجموع وجوه :

الأول : ورود التعبير عن الحدث بنقض الوضوء ، ومن الواضح ان النقض لا يتلاءم الا مع الاستمرار ، والوضوء بذاته غير قابل للاستمرار ، فانه افعال خاصة تتحقق وتتصرم لا استمرار فيه ، فلا يناسبه اسناد النقض إليه حقيقة ، فلا بد ان يكون اسناد النقض إليه مسامحيا بلحاظ انتقاض أثره الاستمراري بالحدث وهو الطهارة ، فانها قابلة للنقض لاستمراريتها.

ودعوى : انه لا ينحصر أثر الوضوء المستمر القابل للنقض بالطهارة ، بل له أثر آخر هو جواز الدخول في الصلاة واستباحة الصلاة به ، وهو حكم اعتباري مستمر يمكن ان يكون النقض بلحاظه ، فلا دلالة للتعبير بالنقض على كون الشرط هو الطهارة.

تندفع : بأنها خلاف الظاهر ، فان الظاهر ان التعبير بالنقض لبيان عدم تحقق الشرط الّذي يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة ، فالملحوظ في النقض مقام تحقق الشرط ليترتب عليه عدم جواز الدخول في العمل المشروط به لا نفس الحكم المترتب على تحقق الشرط ويشهد له ما جاء في بعض النصوص من بيان عدم جواز الدخول في الصلاة مرتبا على انتقاض الوضوء. فلاحظ.

ص: 269


1- سورة المائدة ، الآية : 6.
2- وسائل الشيعة 1 / 256. باب : 1 من أبواب الوضوء ، حديث : 4 و 7. وسائل الشيعة 1 / 256. باب : 2 من أبواب الوضوء ، حديث 1 و 2 و 4. وسائل الشيعة 1 / 256. باب : 3 من أبواب الوضوء ، حديث 2 و 3.

الثاني : التعبير عن الوضوء بالطهور الظاهر في كون جهة شرطيته هو ترتب الطهارة عليه. فتأمل.

الثالث : ما ورد من تعليل الأمر بالوضوء للصلاة بأنه مما يترتب عليه الطهارة.

الرابع : ما ورد من ان ثلث الصلاة الطهور ، فانه ظاهر في ان الشرط هو الوضوء ، ولكن لا بذاته ، بل بما انه مطهر ، فجهة ترتب الطهارة عليه ملحوظة في شرطيته.

الخامس : تسالم الفقهاء في تعبيراتهم عن شرط الصلاة بالطهارة ، فانه مؤيد لما استظهرناه من شرطية الطهارة.

وبالجملة : من مجموع هذه الوجوه - وان كان بعضها يقبل المناقشة - يحصل الجزم بان مفاد الأدلة شرطية الطهارة لا شرطية الوضوء بذاته.

وعلى هذا يمتنع إجراء أصالة البراءة في مورد الشك في اعتبار شيء في الوضوء.

وبعد هذا يقع الكلام في أصل المبحث وهو : معرفة تعلق الأمر النفسيّ الندبي بالوضوء وعدمه. فقد عرفت ان التفصي عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث ينحصر في الالتزام بثبوت الأمر النفسيّ بها ، ولذا أورد على صاحب الكفاية بعدم تمامية ما ذكره بالنسبة إلى التيمم ، لعدم استحبابه النفسيّ. وقد عرفت الجواب عن هذا الإيراد المأخوذ من كلام الشيخ رحمه اللّه بان استحباب التيمم يستكشف من تعلق الأمر بالصلاة بضميمة الإجماع على توقف حصول الشرط على العبادية المتوقفة على تعلق الأمر النفسيّ بالعمل.

إلاّ ان المحقق العراقي حاول الإجابة على الإيراد المزبور ببيان : وجود الدليل الإثباتي على استحباب التيمم وهو قوله علیه السلام : « التراب

ص: 270

أحد الطهورين » (1) ، بضميمة ما دل على استحباب الطهر في نفسه ، فانه يقتضي استحباب التيمم (2). وتابعة على ذلك السيد الخوئي (3).

والإنصاف عدم تمامية ما ذكراه من الجواب لوجهين :

الأول : بان الأمر الّذي يبحث عن ثبوته وتعلقه بالتيمم وغيره غير الأمر بالطهارة ، وذلك لأن الأمر المبحوث عنه أمر تعبدي ، بمعنى ان الغرض منه لا يتحقق إلا بإتيان متعلقه بقصد القربة وبنحو العبادية ، فتصحح عبادية هذه الأفعال به. وأمر الطهارة أمر توصلي لا تعبدي ، فان الغرض منه يتحقق بمجرد تحقق متعلقه ولو لم يأت به بقصد القربة ، فان الطهارة إذا تحققت يمتثل الأمر المتعلق به ولو لم يقصد بها القربة. نعم نفس تحقق الطهارة لا يكون إلا بقصد القربة بالافعال المحققة لها ، وهذا أجنبي عن كون الأمر المتعلق بها عباديا ، فان الأمر العبادي ما توقف امتثاله على الإتيان بمتعلقه بقصد القربة لا ما توقف تحقق متعلقه على قصد القربة.

وعليه ، فإثبات تعلق الأمر الثابت لعموم الطهارة بالتيمم لأنه أحد افرادها ، لا ينفع فيما نحن بصدده وإثباته من تعلق الأمر التعبدي بالتيمم لا الأمر التوصلي ، وقد نبه على هذا المعنى - أعني توصلية الأمر المتعلق بالطهارة - الشيخ رحمه اللّه في طهارته ولذلك يستغرب وقوع مثل هذا الأمر من هذين العلمين ، وبالأخص المحقق العراقي لمزاولته كتاب الطهارة.

الثاني : ان مفاد قوله : « التراب أحد الطهورين » كون التيمم محققا للطهارة ، فاستحباب الطهارة لا يجدي في إثبات استحباب ذات الأفعال ، بل

ص: 271


1- عن أبي جعفر علیه السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ». وسائل الشيعة 2 / 991 باب : 21 من أبواب التيمم حديث : 1.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 380 - الطبعة الأولى.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 298 - الطبعة الأولى.

غاية ما يقتضي تعلق الأمر الغيري بها كاقتضاء الأمر بالصلاة. والّذي نحن بصدده إثبات استحباب ذات الأفعال النفسيّ كي يصحح اعتبار العبادية فيها.

وبالجملة : الطهارة كسائر الغايات المترتبة على العمل لا يقتضي الأمر بها سوى ترشح الأمر الغيري على العمل ، وهو لا يجدي في العبادية ، والكلام في ثبوت الأمر النفسيّ بذات العمل الّذي يتوقف على قصد امتثاله تحقق الطهارة.

والمتحصل : ان ما ذكر لا ينهض دليلا على استحباب التيمم النفسيّ. ولا دليل عليه غير هذا.

واما الوضوء ، فقد ادعي استحبابه النفسيّ باستظهار ذلك من الأدلة ، وعمدتها ما ورد من ان : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (1).

وجهة الاستدلال به واضحة ، فان التعبير عن الوضوء بأنه نور يكشف عن كونه محبوبا في ذاته.

ولكن يشكل الاستدلال بها لوجهين :

الأول : ان النص لم يرد في مقام تشريع الوضوء وبيان تعلق الأمر به ، وانما هو وارد لدفع توهم أنه في فرض مشروعية الوضوء يمنع تعدد الوضوء وتجديده. ومن الواضح ان توهم امتناع الوضوء التجديدي انما يتلاءم مع كون المشروع هو الطهارة ، والوضوء مقدمة إليه لا ذات الوضوء ، وذلك لأنه لو كان ذات الوضوء مأمورا به فلا مجال لتوهم امتناع التجديد ، لأنه فرد آخر من المأمور به غير الفرد الأول ، اما لو كان المأمور به هو الطهارة فللتوهم مجال ، لاحتمال ان تكون الطهارة كالنظافة الخارجية لا تقبل التجديد ، إذ النظيف لا يقبل النظافة ثانيا. فدفع بالنص المذكور ببيان : ان الطهارة ليست كالنظافة ، بل كالنور القابل للشدة ، فيمكن ان يتأكد بنور آخر ، فالتعبير بان الوضوء نور يلحظ فيه الطهارة

ص: 272


1- وسائل الشيعة 1 / 265 باب : 8 من أبواب الوضوء ، حديث : 8.

وما هو نتيجة الوضوء ، فلا دلالة له على مشروعية الوضوء في نفسه.

الثاني : لو سلم ظهور النص في استحباب الوضوء في ذاته ، إلا انه ترفع اليد عن هذا الظهور بما ورد من الأمر بالطهارة بذاتها ، وما ورد من الأمر بالوضوء لأجل الطهارة ، فانه مع ثبوت مثل ذلك لا يبقى ظهور ما ظاهره الأمر بذات الوضوء على حاله.

ويتأكد هذا بملاحظة الأمثلة العرفية ، فلو أمر المولى عبده بشرب دواء ثم أمره بشربه لأجل رفع الحمى ثم أمره برفع الحمى ، فان الأمر بشرب الدواء وان كان ظاهرا في الأمر بنفسه ، إلا أنه بملاحظة الأمرين الآخرين لا يبقى ظهوره على حاله.

فالمتحصل : انه لا دليل على استحباب الوضوء في نفسه ، والثابت في الأدلة استحباب الطهارة. وعليه ، فنقول : ان اكتفي في تحقق الطهارة الإتيان بالوضوء بقصد الكون على الطهارة بداعي القربة فهو وإلاّ كان الدليل الدال على استحباب الطهارة في كل وقت دالا على استحباب الوضوء أيضا كذلك ، إذ لا تتحقق الطهارة إلاّ بقصد القربة بذات الأفعال ، وهو كما عرفت يتوقف على استحبابها النفسيّ ، فاستحباب الطهارة يلازم استحباب الوضوء بذاته. هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

ويقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : وهي :

التنبيه الثاني : الّذي ذكره صاحب الكفاية - في اعتبار قصد التوصل بها إلى ذيها في صحتها. فقد ادعي توقف صحتها وعباديتها على قصد التوصل بها إلى ذيها. ووجّه ذلك بأمور :

الأول : ان عبادية المقدمة لا تتحقق إلاّ بالإتيان بها بقصد التوصل إلى ذيها. وعليه فاعتبار قصد التوصل في الطهارات باعتبار توقف عباديتها على هذا

ص: 273

التوصل بها إلى ذيها ، ولا طريق تتحقق به العبادية غيره.

الثاني : ان الأفعال ذات عنوان قصدي راجح في ذاته ولا طريق إلى قصده إلا بقصد امتثال الأمر الغيري ، باعتبار انه يدعو إلى ما تعلق به ، فيكون العنوان مقصودا إجمالا ، وقد تقدم ان قصد امتثال الأمر الغيري لا يتصور إلاّ بقصد التوصل إلى الواجب وقصد امتثاله ، إذ بدونه لا داعوية للأمر الغيري.

الثالث : ان الأمر الغيري متعلق بالمقدمة بما هي مقدمة ، وبما ان متعلق التكليف هو الحصة الاختيارية دون غيرها ، فامتثال الأمر الغيري يتوقف على قصد المقدمة بما هي مقدمة ، لتحقق اختيارية المتعلق. ومن الواضح ان قصد المقدمية لا يكون إلاّ بقصد التوصل إلى ذي المقدمة وامتثال أمره.

وقد استشكل المحقق صاحب الكفاية في تصحيح قصد التوصل بهذا الوجه ، بناء على كون المصحح لاعتبار قصد القربة هو الأمر الغيري ، ووجه اشكاله : إنكار المقدمة الأولى ، وهي تعلق الأمر بالمقدمة بما انها مقدمة بدعوى : ان المقدمية جهة تعليلية ، والأمر متعلق بذات المقدمة ، لأنها هي التي يتوقف عليها الواجب لا عنوان المقدمة ، نعم العلة في تعلق الأمر بذات العمل كونه مقدمة للعمل الواجب النفسيّ.

وقد تقدم هذا المطلب من صاحب الكفاية (1).

وأورد عليه المحقق الأصفهاني : بان الجهات التعليلية تكون في الأحكام العقلية جهات تقييدية لموضوع أو متعلق الحكم ، فالحكم عقلا بوجوب شيء لأنه كذا يرجع إلى الحكم بوجوب عنوان العلّة. نعم يتصور التفكيك بين الجهة التعليلية والموضوع الّذي يرد عليه الحكم في الأحكام العرفية أو الشرعية ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل (2).

ص: 274


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /112- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 204 - الطبعة الأولى.

ولم يبين قدس سره الوجه في هذه الدعوى ، بل أوكله إلى ما تقرر في محله.

ولكن يرد عليه :

أولا : بان ما أفاده من رجوع الجهات التعليلية إلى التقييدية في الأحكام العقلية ليس من المسلمات في محله ، فقد ادعي خلافه ، ووجود الجهة التعليلية في الأحكام العقلية.

وثانيا : لو سلمت أصل الكبرى فانطباقها على ما نحن فيه محل منع وذلك :

أولا : لأنها تختص بالاحكام العقلية المرتبطة بباب الحسن والقبح - كما يقال ان مرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن التأديب ، بل في الحقيقة يرجع الحكم بحسن التأديب إلى الحكم بحسن الإحسان وتشخيص كون التأديب إحسانا - ، أو بباب الاستحالة والإمكان - كما يقال ان مرجع حكم العقل باستحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ، للزوم الدور إلى حكمه باستحالة الدور - ولم يثبت عمومها إلى مطلق الإدراكات والأحكام العقلية.

وثانيا : لو سلم عمومها لمطلق الأحكام العقلية ، فوجوب المقدمة من باب الملازمة ليس من الأحكام العقلية التي يفرضها العقل بطريق البرهان ، بل هي من الأمور الوجدانية التي يحسها بالوجدان والارتكاز كل أحد. وبعبارة أخرى : إرادة المقدمة عند إرادة ذيها من الأمور التكوينية التي يدركها الوجدان كما يدرك البصر المبصرات ، وليست من الأحكام العقلية النظرية أو العملية كما لا يخفى على المتأمل.

وعليه ، فلا طريق لنا إلى معرفة كون عنوان المقدمية مأخوذا بنحو الجهة التقييدية أو الجهة التعليلية إلا الوجدان ، وهو يحكم بالثاني ، لأنه يرى ان

ص: 275

الوجوب يطرأ على ذات العمل المقدمي لا على المقدمة بما هي كذلك ، فان الآمر الّذي يأمر بالمقدمة يرى انه يأمر بذات العمل كالدخول إلى السوق من دون ان يأخذ عنوان المقدمية في متعلق الأمر. فلاحظ.

كما يرد على كل من المحققين : انه لو سلمنا أصل الكبرى وانطباقها على ما نحن فيه ، فلا يلزم مع ذلك قصد التوصل بالمقدمة - كما هو ظاهر كلاميهما كما لا يخفى -. بيان ذلك : ان القصد يطلق ويراد به ..

تارة : ما يساوق الداعي والمحرك ، كما يقول من يأكل : « قصدي من الأكل الشبع » فان القصد هاهنا بمعنى الداعي.

وأخرى : يراد به إرادة العمل واختياره ووقوعه عن التفات في مقابل وقوعه عن غفلة ، كسائر الأفعال الاختيارية.

وافتراق المعنيين خارجا واضح ، فمثلا لو رمى شخص سهما وعلم بأنه يصيب شخصا فيقتله ، وكان رميه بداعي تجربة السهم. فانه من الواضح ان قتل الشخص واصابته يكون مقصودا للرامي ومرادا له ، لكنه ليس الداعي إلى الرمي ، بل داعيه هو تجربة السهم.

ولا يخفى ان المطلوب فيما نحن فيه هو القصد بمعنى الداعي ، يعني كون الداعي إلى الإتيان بالمقدمة هو التوصل إلى ذيها.

والوجه المذكور لا يفي بلزوم ذلك ، إذ غاية ما يتكفل - بعد الاعتراف بان المأمور به المقدمة بما هي مقدمة - هو الإتيان بها بما هي كذلك عن اختيار ، لأنها هي الحصة المأمور بها.

ومن الواضح ان هذا المعنى يتحقق بمجرد الالتفات إلى المقدمية والتوصل بالعمل إلى الواجب ، ولو كان الإتيان بالعمل لداع آخر غير التوصل ، فيصدق قصد التوصل بمعنى إرادته وإرادة الإتيان بما هو مقدمة ، وان لم يكن الإتيان بداع التوصل.

ص: 276

وعلى أي حال ، فهذه الوجوه غير مجدية في إثبات لزوم قصد التوصل بعد ان عرفت ان طريق العبادية ينحصر بالإلزام بتعلق الأمر النفسيّ بها ، ومعه لا يلزم قصد التوصل ، بل يكفي الإتيان بها بما انها محبوبة في أنفسها.

الجهة الثانية : في انه بعد الفراغ عن تعلق الأمر الاستحبابي النفسيّ بالطهارات ، فالإتيان بها بداعي الاستحباب قبل دخول وقت الصلاة الواجبة مما لا إشكال فيه ، وانما الإشكال في الإتيان بها كذلك بعد دخول وقت الصلاة وتعلق الأمر الغيري بها.

وقد ذكر المحقق النائيني : ان ذلك لا محذور فيه ويقع العمل صحيحا ، بتقريب : ان الأمر النفسيّ الاستحبابي وان اندك في الأمر النفسيّ الضمني المتعلق بها - بناء على ما ذهب إليه من ان الشرائط كالأجزاء تكون متعلقة للأمر الضمني النفسيّ - ، إلاّ ان المنعدم هو حدّ المرتبة الاستحبابية دون واقع الطلب والاستحباب ، فواقعه على ما هو عليه وان لم يبق بحدّه نظير اتصال خيطين أحدهما بالآخر ، فان واقع كل منهما موجود على حاله وانما المنعدم حدّ وجود كل منهما. وعليه فيمكن الإتيان بالعمل بقصد المحبوبية بواقعها لا بحدّها.

ثم أفاد : ان الاندكاك انما يتحقق بين الاستحباب والوجوب الضمني ، اما الوجوب الغيري فهو على حاله لا يتغير.

وأوضح ذلك ببيان : ان الوضوء ونحوه له بعد دخول وقت الواجب المشروط به جهات ثلاث :

الأولى : تعلق الطلب الاستحبابي النفسيّ به.

الثانية : تعلق الطلب الوجوبيّ النفسيّ الضمني به.

الثالثة : تعلق الطلب الغيري الوجوبيّ به.

ولا يخفى ان الاستحباب يندك في الوجوب الضمني ، فينشأ منهما حكم واحد ، واما الطلب الغيري فهو يبقى بحدّه لا يتبدل ، وذلك لأن الاندكاك

ص: 277

والتداخل انما يكون فيما لو كان كل من الحكمين واردا على موضوع واحد ، فيندك أحدهما بالآخر أو الضعيف بالقوي ، لأن في بقائهما بحديهما اجتماعا للمثلين أو الضدين في شيء واحد. اما لو اختلف موضوع كل من الحكمين فلا يتداخلان ، لعدم المحذور في بقائهما بحديهما.

وعليه ، فحيث ان متعلق الطلب الاستحبابي والطلب الضمني النفسيّ ذات الوضوء ، كانا واردين على موضوع واحد ، فيندك الاستحباب في الوجوب قهرا. اما الطلب الغيري ، فحيث ان موضوعه ليس ذات الوضوء ، بل موضوعه العمل المأتي به بقصد الأمر الاستحبابي أو الضمني ، كان في طول الأمر الأول ويتعدد موضوعهما فلا يتداخلان نظير الأمر المقدمي بصلاة الظهر المترشح من الأمر بصلاة العصر ، فانه في طول الأمر النفسيّ المتعلق بصلاة الظهر ، فلا يتبدل أحدهما بالآخر.

هذا ملخص ما أفاده (1) وينبغي التنبيه على موارد الكلام والبحث في ما أفاده من دون تحقيق الحال فيه ، بل نوكله إلى مجال آخر ، وهي جهات ثلاث :

الأولى : التعبير باندكاك الاستحباب في الوجوب الضمني ، فانه قد يكون مثار الإشكال على مبنى المحقق النائيني ، من انه لا فرق بين الوجوب والاستحباب من جهة واقع الطلب ، وكون الطلب الوجوبيّ والاستحبابي بحدّ واحد والاختلاف من ناحية أخرى ، وذلك لأن الاندكاك ظاهر في أضعفية المندك في المندك فيه ، وأقوائية الثاني من الأول ، بحيث يتغلب عليه فلا بد من معرفة صحة هذا المعنى من بطلانه.

الثانية : ما أفاده من كون الشرط موردا لأوامر ثلاثة أحدها الأمر الضمني المنحل من الأمر النفسيّ بالمشروط ، فقد أشرنا إلى الخدشة فيه ، وسيأتي

ص: 278


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 177 - الطبعة الأولى.

تحقيق الحال وبيان بطلان هذا المسلك في محل آخر إن شاء اللّه تعالى. فانتظر.

الثالثة : ما أفاده من كون الوجوب الغيري في طول الأمر الاستحبابي ، وعدم اندكاكه فيه. فانه مما يحتاج إلى تحقيق ، والّذي نراه حقا هو التفصيل بين ما إذا كان متعلق الأمر الغيري العمل المقيد بكونه بداعي الأمر بحيث تكون ذات المقيد متعلقا للأمر الغيري ، وما إذا لم يكن متعلقه كذلك ، بل ما يتعلق به الأمر الغيري هو نفس تقيد العمل بداعوية الأمر الأول ، من دون أن يؤخذ ذات العمل في موضوعه - نظير ما تقرب به الكراهة في العبادات من ان متعلق الأمر هو العمل ، ومتعلق الكراهة إيقاعه في المكان الخاصّ أو بالنحو المعين ، فمتعلق كل منهما غير متعلق الآخر - ، فيلتزم بحصول الاندكاك في الحالة الأولى دون الثانية وإثبات هذه الدعوى لها مجال آخر. فانها لا ترتبط بما نحن فيه ارتباطا كليا. فلاحظ.

الجهة الثالثة : إذا جاء المكلف بإحدى الطهارات الثلاث بقصد التوصل إلى بعض الغايات كالصلاة ، ثم لم يأت بالغاية ، فهل عدم تحقق الغاية خارجا يمنع من صحتها وعباديتها أو لا؟ قد يوجه عدم الصحة بعدم ترتيب الغاية بوجوه :

الأول : انه مع الالتزام بالمقدمة الموصلة ، بمعنى ان الواجب الغيري هو المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة ، يكشف عدم حصول الغاية عن عدم كون المأتي به مأمورا به واقعا - بل تخيلا -. وعليه فلا يكون مقربا لعدم الأمر به ، فقصده لا يكون موجبا لمقربية العمل.

الثاني : ان يلتزم بان العبادية لا تتحقق الا بإضافة العمل إلى المولى من الناحية التي هو مضاف بها إليه حقيقة وواقعا. وعليه فمع القول بالمقدمة الموصلة والالتزام باستحباب الطهارات ، لو قصد التوصل ولم يترتب الواجب لم يقع عبادة ، لأن الإضافة المقصودة غير ثابتة واقعا والإضافة الواقعية وهي إضافة

ص: 279

الاستحباب لم تقصد ، فلا يقع العمل عبادة لعدم قصد إضافته إلى المولى بالإضافة الواقعية. وهكذا لو لم نقل بالمقدمة الموصلة ، ولكن جاء بها قبل الوقت بتخيل دخوله وتعلق الأمر الغيري بها.

الثالث : انه بناء على كون الشرائط متعلقة للأمر الضمني ، وان عباديتها تتحقق بقصد امتثاله ، فإذا جاء بالعمل بداعي الأمر الضمني ، ولم يأت بالمشروط لم يكن العمل امتثالا لأمره الضمني ، لأن الأوامر الضمنية ارتباطية في مقام الامتثال ، فلا يتحقق امتثال أحدها بدون امتثال الآخر ، فيكشف عدم الإتيان بسائر الاجزاء والشرائط عن عدم كون الوضوء متعلقا للأمر الضمني.

هذا ، ولكن عرفت ان عبادية الطهارات لا تتحقق إلا بقصد الأمر الاستحبابي المتعلق بها. ومن الواضح انه مع قصده تكون صحيحة مطلقا جيء بالغاية أو لا ، لعدم تأتي أحد هذه الوجوه فيه. فلا مجال لهذا الكلام بناء على انحصار طريق العبادية بقصد الأمر النفسيّ ، فلاحظ وتدبّر واللّه ولي التوفيق.

ص: 280

« فصل »

اشارة

لا بد من إيقاع الكلام في جهتين :

الأولى : ان الوجوب الغيري هل يتعلق بمطلق المقدمة ، أو يختص بالمقدمة التي يقصد بها التوصل إلى ذيها؟.

الثانية : ان الوجوب الغيري هل يتعلق بخصوص المقدمة التي يترتب عليها الواجب ، فيكون عدم ترتبه كاشفا عن عدم وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، وهي المعبر عنها بالمقدمة الموصلة. أو يتعلق بمطلق المقدمة ، ولو لم يترتب عليها الواجب؟. فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في اعتبار قصد التوصل.

وقد نسب إلى الشيخ القول به ، وان المقدمة لا تكون واجبة ما لم يقصد بها التوصل إلى ذيها ، بمعنى ان الوجوب يتعلق بالمقدمة التي يقصد بها التوصل (1). كما وجه كلام صاحب المعالم (2) الظاهر في اعتبار التوصل قيدا للوجوب لا الواجب بما ذهب إليه الشيخ تصحيحا لكلامه.

ص: 281


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- الطبعة الأولى.
2- العاملي جمال الدين. معالم الدين في الأصول /74- الطبعة الأولى.

إذ يورد عليه : انه بعد البناء على وجوب المقدمة وترشح الوجوب الغيري من الوجوب النفسيّ ، لا إشكال في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا ، لعدم انفكاك الوجوبين ، وهو أمر وجداني يحسه كل أحد. وعليه فإذا قيد وجوب المقدمة بإرادة ذيها ، فاما ان يقيد وجوب ذيها بإرادته أو لا يقيد ، بل يكون مطلقا من هذه الجهة ، فإذا قيد وجوب ذي المقدمة بإرادته - التزاما بعدم التفكيك - كان ممنوعا لاستحالة حصول الوجوب مع تعلق الإرادة بالعمل الّذي يراد البعث نحوه ، فانه تحصيل الحاصل. وإذا لم يقيد لزم انفكاك وجوب ذي المقدمة عن وجوب المقدمة وهو باطل كما عرفت.

لأجل ذلك صحح كلام صاحب المعالم أخذه قيدا للواجب ، فيكون وجوب المقدمة فعليا كوجوب ذيها بدون قصد التوصل.

وعلى أي حال : فيقع الكلام في اعتبار قصد التوصل قيدا للواجب بالوجوب الغيري وعدم اعتباره.

ولا بد قبل ذلك من معرفة ثمرة البحث ، إذ قد يدعى عدم الثمرة فيه ، إذ لا إشكال في انه لو أتى بالعمل المقدمي لا بداعي التوصل بل بداع آخر غيره يترتب الأثر عليه ولا يلزم إعادته ثانيا بقصد التوصل - حتى على القول باعتباره - ، فلو أمر بشراء اللحم ، فذهب إلى السوق بداعي رؤية زيد لا بداعي شراء اللحم ، فانه يصح منه بعد ذلك شراء اللحم ولا يلزمه الخروج من السوق ثم العود إليه بداعي التوصل. أذن فما فائدة اعتباره والبحث فيه؟. وقد تعرض في التقريرات (1) إلى بيان ثمرتين :

إحداهما : وهي تظهر في خصوص المقدمات العبادية ، بناء على انحصار طريق العبادية بقصد الأمر الغيري. وذلك ببيان : انه بناء على اعتبار قصد

ص: 282


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- 73 - الطبعة الأولى.

التوصل ولزوم الإتيان بالمقدمة عبادة بقصد امتثال الأمر الغيري ، لو لم يقصد التوصل بالمقدمة لم تقع على وجه العبادية ، إذ يمتنع قصد امتثال الأمر الغيري مع عدم قصد التوصل لكونه قيدا للمتعلق ، فقصد التوصل دخيل في تحقق العبادية لأن امتثال الأمر يتوقف على الإتيان بمتعلقه وهو لا يكون إلاّ بقصد التوصل.

وقد فرع على ذلك عدم صحة الصلاة إلى جهة واحدة فقط - في فرض لزوم الصلاة إلى الجهات الأربع - ، إذ لم يقصد بها التوصل إلى الواجب وهو الصلاة إلى الجهات الأربع.

وأنت خبير بان هذه الثمرة لا تترتب على المسلك الّذي اخترناه ، وهو كون عبادية المقدمات بتعلق الأمر النفسيّ بها وقصد امتثاله ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية ، لأن الأمر النفسيّ لم يؤخذ في متعلقه قصد التوصل ، فيمكن قصد امتثال الأمر وتحقق العبادية بنفس العمل من دون قصد التوصل.

واما ما ذكره من التفريع فعجيب لوجهين :

الأول : ان الكلام فيما نحن فيه في مقدمة الوجود ، والصلاة إلى كل جهة مقدمة للعلم ، وهي ليست واجبة من باب الوجوب الغيري المقدمي ، بل من جهة حكم العقل من باب دفع الضرر المحتمل كما أشرنا إليه في أوائل المبحث ، فالمثال أجنبي عما نحن فيه بالمرّة.

الثاني : انه لو سلمنا كونها من باب مقدمة الوجود ، فعباديتها لا تنحصر في قصد امتثال أمرها الغيري كي يتوقف على قصد التوصل ، لأنها عبادة في نفسها. وما يدعى من لزوم قصد الأمر الغيري انما هو في ما لم تكن المقدمة بنفسها عبادية لا في مطلق المقدمات العبادية ، فانه من الواضح انه لا يعتبر في عبادية صلاة الظهر قصد التوصل بها إلى صلاة العصر ، فانها تصح ولو بني على عدم الإتيان بصلاة العصر مع انها مقدمة لصلاة العصر.

ص: 283

وبالجملة : لا ينحصر طريق العبادية في مطلق المقدمات بقصد الأمر الغيري ، بل ينحصر في المقدمات غير العبادية في أنفسها. فلاحظ.

الثانية : - وهي التي تعرض إليها في الكفاية (1) ، ولعله لم يتعرض للأولى لأجل ما ذكرناه - انه إذا كانت المقدمة مع قطع النّظر عن الوجوب الغيري محرمة في نفسها ، كالعبور في الأرض المغصوبة مقدمة لإنقاذ الغريق ، فانه بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة يكون العبور في الأرض غير حرام ولو لم يقصد به التوصل إلى الواجب ، لأنه واجب مطلقا فترتفع الحرمة بوجوبه. واما بناء على القول بوجوب المقدمة التي يقصد بها التوصل ، فيكون العبور مع عدم قصد التوصل حراما ، لأنه ليس بواجب فلا حكم يزاحم الحرمة.

إذا اتضح ذلك ، فقد استدل على اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب الغيري بوجهين :

الوجه الأول : ما ذكره في التقريرات وذكره المحقق الأصفهاني ببعض تغيير : ان الوجوب الغيري متعلق بعنوان المقدمة دون ذوات الأعمال ، فليس هو متعلق بالمشي بذاته ، بل بما انه مقدمة ، فعنوان المقدمة مأخوذ في معروض الوجوب الغيري ، لما حقق من ان الجهات التعليلية تكون تقييدية في الأحكام العقلية ، فمرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن التأديب ، وضرب اليتيم من مصاديقه فيكون محكوما بالحسن قهرا. وهكذا مرجع حكمه باستحالة أخذ الأمر في متعلقه للزوم الدور ، إلى حكمه باستحالة الدور وتطبيقه على المورد.

ثم انه قد تقرر أيضا ان متعلق الأمر هو الحصة الاختيارية ، إذ غير الاختيارية غير قابلة للبعث والدعوة. ومن الواضح ان الاختيار يتقوم بتحقق القصد إلى العمل إذ بدونه لا يكون اختياريا بل قهريا.

ص: 284


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /114- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فلا يتحقق الواجب الغيري إلا بالقصد إلى المقدمة وقصد المقدمية لا يفترق عن قصد التوصل حقيقة. فهذا الوجه يبتني على مقدمتين.

إحداهما : تعلق الوجوب الغيري بعنوان المقدمة.

والأخرى : توقف تحقق الواجب بما انه واجب على قصده ، فلا يتحقق الواجب الغيري إلا بقصد المقدمية ، وهو في الحقيقة قصد التوصل بها إلى ذيها.

الوجه الثاني : وهو وجه عرفي ، وهو انه لا ريب في إنّا نجد أن من يأتي بالمقدمة بدون قصد التوصل بها إلى ذيها ، بل بداع آخر ، لا يعدّ في العرف ممتثلا للوجوب الغيري وآتيا بمتعلقه ، مما يكشف عن كون معروضه هو المقدمة التي يقصد بها قصد التوصل (1).

بهذين الوجهين استدل في التقريرات على مدعاه ، ولكن قد عرفت ما في الوجه الأول بكلتا مقدمتيه ، فقد عرفت عدم تمامية الأولى وعدم إجراء الثانية ، إذ هي لا تستلزم القصد بمعنى الداعي فلا نعيد.

ثم ان المحقق النائيني قدس سره حكم بتشوش عبارة التقريرات ، وعدم ظهور المراد منها بوضوح وجلاء ، لذلك تصدى لبيان محتملات الكلام ، والبحث فيها ، فأفاد : انه ..

اما ان يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في تحقق العبادية والامتثال بالمقدمة فهو حق ، وقد تقدم البحث فيه.

واما ان يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب فهو ممنوع ، لعدم دخل قصد التوصل في مقدمية المقدمة فيستحيل تقيد الواجب به. ثم ذكر في تقريب اعتباره الوجه الأول بنحو الاختصار ، وأورد على المقدمة الأولى منه : بان جهة المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية.

واما ان يكون نظره إلى اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة ، بمعنى انه

ص: 285


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- الطبعة الأولى.

إذا كانت المقدمة في نفسها محرمة فلا تصير واجبة بالوجوب الغيري إلا بقصد التوصل. ببيان : ان المقدمة إذا كانت محرمة وتوقف عليها واجب فعلي - كتوقف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض الغير بدون إذنه - ، فلا ترتفع حرمة المقدمة ما لم يؤت بها بقصد التوصل ، وكون المكلف في مقام امتثال الواجب ، وإلاّ كانت الحرمة على حالها باقية ، ولا مقتضي لرفع اليد عنها. فيرد عليه : ان المزاحمة انما هي بين وجوب ذي المقدمة الموقوف على المقدمة المحرمة وبين حرمتها ولو لم نقل بوجوب المقدمة أصلا ، فالتزاحم إنما هو بين واقع الإنقاذ والتصرف في الأرض المغصوبة مثلا ، وقصد التوصل أجنبي عن ذلك رأسا. نعم يترتب على ذلك خطاب تحريمي على نحو الترتب كما في تمام الخطابات المتزاحمة ، ويظهر ذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى. هذا محصل ما أفاده قدس سره (1).

ويقع البحث معه في ما ذكره من الاحتمال الثالث ، أعني اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة وما أورده عليه. اما الاحتمالان الآخران فقد عرفت تحقيق البحث في الأول. واما الثاني فهو محل الكلام وستعرف ما هو الأقرب إلى الوجدان.

والكلام معه فيما أفاده في تقريب الاحتمال الثالث ودفعه من جهات :

الأولى : ما يظهر منه من تسليم كون المقام من باب المزاحمة. فقد تقدم في أول مبحث المقدمة انه مع الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد التعارض ، لتوارد الحكمين على موضوع واحد. نعم لو لم نقل بوجوب المقدمة تحقق التزاحم بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.

الثانية : انه لو سلم كون المقام من موارد التزاحم ، فحكمه هو ارتفاع الحكم المهم وبقاء الحكم الأهم من دون دخل لقصد امتثال الأهم وعدمه ، فان

ص: 286


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 235 - الطبعة الأولى.

التزاحم بين ذات الحكمين ، فوجود أحدهما يرفع الآخر قصد امتثاله أو لم يقصد ، فتخصيص ارتفاع الحرمة بخصوص صورة قصد التوصل ما لا يعرف له وجه. وعليه فلا وجه لإقراره هذه الجهة والإيراد عليه من جهة أخرى.

الثالثة : فيما أورد على كلام التقريرات من ان باب التزاحم أجنبي عن وجوب المقدمة وقصد التوصل.

إذ فيه : ان كون باب التزاحم أجنبيا عن وجوب المقدمة وقصد التوصل ، لا ينافي دعوى اختصاص المزاحمة هنا بصورة قصد التوصل ، إذ يمكن ان يتصادق البابان الأجنبيان في مورد واحد ويرتبط أحدهما بالآخر في ذلك المورد وان انفصلا في أنفسهما وملاكاتهما ، فأجنبية أحدهما عن الآخر لا تمنع من انطباقهما على المورد الواحد. فتدبر.

الرابعة : فيما أشار إليه من وجود خطاب تحريمي على الترتب ، فانه غير وجيه ، فان الترتب بين المقدمة وذيها غير معقول ، فانه انما يرفع غائلة التزاحم لا غائلة التضاد. وتحقيق ذلك وتوضيحه يوكل إلى محلّه. وعليه فلا مكان للمناقشة فيه بالتطويل كما جاء في تعليقة التقريرات للسيد الخوئي ( حفظه اللّه ) (1).

ونعود بعد هذا إلى ما استدل به في التقريرات على مدعاه ، وقد عرفت الإشكال في الوجه الأول البرهاني.

واما الوجه الوجداني ، فهو بالمقدار الّذي ذكرناه لا يفي بالمطلوب ، ويمكن إيضاحه : بان نفس الوجه الّذي يقام دليلا على أصل وجوب المقدمة يقتضي تعلق الوجوب بخصوص المقدمة التي يقصد بها التوصل. وذلك فان ما يذكر دليلا على أصل الملازمة هو بناء العرف على وجوب المقدمة ، ويكشف عنه وجود بعض الأوامر العرفية بالمقدمة كما يقول المولى لعبده : « ادخل السوق

ص: 287


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 236 - الطبعة الأولى.

واشتر اللحم » ، ونحن نرى ان العرف يرى ان من يؤمر بالمقدمة هو من كان في مقام امتثال الأمر بذيها ، واما من ليس في مقام امتثال الأمر النفسيّ فلا يؤمر بالمقدمة بنظر العرف ، ويعدّ أمره بها لغوا محضا ، إذ الغرض منه تحصيل الواجب ، وهو غير متحقق كما هو الفرض ، ولا يرد النقض بصحة تكليف من يعلم بعصيانه ، إذ يمكن ان يكون تكليفه لإلقاء الحجة عليه فيترتب عليه عقابه ومؤاخذته ، وهذا غير متحقق بالنسبة إلى الأمر الغيري إذ لا عقاب على مخالفته ، فالأثر المصحح له ليس إلاّ تحصيل الواجب والمفروض انتفاؤه.

وعلى هذا فدعوى اعتبار قصد التوصل في الواجب الغيري قريبة.

واما ما أفاده صاحب الكفاية من منع اعتباره وعدم معقوليته بتقريب : ان ملاك الوجوب الغيري والغرض منه هو توقف الواجب على المقدمة ومقدميتها له. ومن الواضح ان هذا يتوفر في سائر المقدمات بلا دخل لقصد التوصل فيه أصلا ، فقصد التوصل غير دخيل فيما هو ملاك الوجوب الغيري ، ومما يكشف عن حصول الغرض من مطلق المقدمة ولو لم يقصد بها التوصل هو سقوط الوجوب الغيري مع الإتيان بالمقدمة من دون قصد التوصل بها إلى ذيها ، فلا يجب عليه الإتيان بها مرّة أخرى بقصد التوصل ، ولو لم يكن الغرض حاصلا بمجرد المقدمة من دون دخل قصد التوصل فيه لم يسقط الأمر الغيري لعدم حصول غرضه.

وبالجملة : فالمقتضي للوجوب الغيري وهو المقدمية موجود في مطلق المقدمات ، والمانع من تعلق الوجوب مفقود ، إذ المانع الّذي يتصور ليس إلاّ تعلق الحرمة بالعمل فيمنع من البعث إليه وهو غير مفروض هاهنا. ومن هنا يظهر عدم صحة النقض بسقوط الوجوب الغيري لو أتى بالفرد المحرم من المقدمة - فيما كان لها فردان - ، مع عدم تعلق الوجوب به ، فسقوط الوجوب لا يقتضي كونه مأمورا به. ووجه عدم الصحة هو : ان عدم تعلق الوجوب بالفرد المحرم لمانعية

ص: 288

الحرمة من وجوبه ، فالمقتضي وان كان موجودا إلا أن تأثيره يتوقف على عدم المانع وهو غير متحقق لوجود المانع. فتتلخص دعوى الكفاية : بان المقتضي للوجوب الغيري موجود والمانع مفقود فيتحقق المقتضى - بالفتح - وهو الوجوب (1).

ففيه :

أولا : النقض عليه بما لو التزم بان عنوان المقدمية مأخوذ في متعلق الوجوب الغيري الملازم - كما عرفت - لأخذ قصد التوصل في الواجب الغيري - بنظره ، إذ استشكاله انما كان في المقدمة الأولى لا الثانية - ، فانه مما لا إشكال فيه سقوط الوجوب لو أتى بالمقدمة من دون قصد التوصل ، وعدم لزوم الإتيان بها ثانيا ، مع انه يلتزم بكون الواجب هو المقدمة بقصد التوصل.

وثانيا : الحلّ ، بان المعلول لا يتحقق بمجرد وجود المقتضي وثبوت عدم المانع ، فان للعلة اجزاء أخرى كالشرط والمعدّ ، فلعل قصد التوصل يكون شرطا لتأثير المقتضي ، ولم يثبت بنحو جزمي عدم شرطيته وعدم دخل غير المقدمية في الواجب ، ومجرد احتمال الشرطية تكفي في دفع البرهان على عدم أخذ قصد التوصل في الواجب الغيري ، فان مراد صاحب الكفاية الاستدلال على عدم أخذه لا بيان عدم الدليل على أخذه. فالاحتمال يكفي في إبطاله ، وهو احتمال عقلائي ان لم يجزم به خصوصا بعد ما عرفت من تقريب الوجه العرفي فتدبر ولاحظ.

المقام الثاني : في اعتبار ترتب الواجب على المقدمة.

وقد اختاره في الفصول واستدل عليه بوجوه (2). وخالفه في ذلك صاحب

ص: 289


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /114- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغررية /86- الطبعة الأولى.

الكفاية ، فذهب إلى تعلق الوجوب الغيري بعموم المقدمة ترتب عليها الواجب - المعبر عنها بالمقدمة الموصلة - أو لم يترتب. واستدل على مختاره بوجوه أربعة :

الأول : ان الملاك والغرض من الوجوب الغيري متوفر في مطلق المقدمات من دون اختصاص له بصنف دون آخر ، وذلك لأن الغرض هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، وليس هو ترتب ذي المقدمة. وذلك لأن الغرض هو ما يترتب على الشيء من اثره. ومن الواضح ان الّذي يترتب على المقدمة من أثر هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، اما ترتب الواجب - ذي المقدمة - فليس من الأمور التي يحصل بالمقدمة ، بل لا يحصل بمجموع المقدمات في غير المسببات التوليدية ، لتوقف حصول الواجب في الأفعال الاختيارية على إرادة المكلف له فلا يحصل بدون إرادته وان حصل جميع مقدماته. وعليه فلا يمكن ان يفرض ترتب الواجب غرضا من الوجوب الغيري كي يخصص الوجوب بخصوص ما يترتب عليه الغرض وهو المقدمة الموصلة. بل الغرض هو ما ذكر من كونه حصول ما بدونه لا يمكن ان يحصل ذو المقدمة. وبديهي ان هذا يترتب على مطلق المقدمات من دون اختصاص له بقسم خاص منها. وبما انه لا يعتبر في الواجب الا ما له دخل في غرضه كان الواجب الغيري هو مطلق المقدمة لاشتراك الجميع في الدخل في الغرض.

الثاني : انه بعد ان عرفت ان ترتب الواجب يختص بالمقدمة التوليدية ، لأنها التي يحصل بها المسبب من دون توسط إرادة الفاعل ، كحصول الإحراق بالإلقاء بالنار ، فلو فرض انه هو الغرض من الوجوب الغيري واختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لزم إنكار وجوب المقدمة في مطلق الواجبات غير الواجبات التوليدية ، فيلتزم بوجوب العلة التامة فيها ، لعدم تخلف المعلول عنها ، اما غيرها فقد عرفت ان الواجب لا يحصل بمجموع المقدمات لتوسط الإرادة بعد ان كان الفعل اختياريا.

ص: 290

وقد يورد عليه : ان كل فعل لا بد وان يكون له علة تامة لا يتخلف عنها ، ضرورة ان الممكن لا يوجد بدون علة. وعليه فكما يلتزم في الواجبات التوليدية بوجوب علتها التامة ، كذلك يلتزم بوجوب العلة التامة في سائر الواجبات ، لعدم تخلف الواجب عنها فتكون مما يترتب عليها الغرض.

وفيه : ان وجود العلة التامة لكل واجب مسلّم لكن من اجزاء العلة التامة في الأفعال الاختيارية إرادة الفاعل الفعل. ومن الواضح ان الإرادة ليست من الأمور الإرادية الاختيارية - وإلا لزم التسلسل - ، فيمتنع ان يكون متعلقا للتكليف. وعليه فيمتنع تعلق التكليف بالعلة التامة لأن من اجزائها ما لا يقبل تعلق التكليف به ، وهذا بخلاف الأفعال التوليدية فان جميع اجزاء العلة التامة من الأفعال الاختيارية ، لعدم توسط الإرادة ، فيصح تعلق الوجوب الغيري بالعلة التامة في موردها.

الثالث : انه من الواضح ان الوجوب الغيري يسقط بمجرد الإتيان بالمقدمة بلا انتظار لترتب الواجب عليها ، فانه يكشف عن عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة ، وإلاّ لما سقط الطلب بمجرد الإتيان بالمقدمة ، لعدم العلم بتحقق الواجب بمجرده.

الرابع : - وقد تخيل انه من الوجه الثالث لكن التحقيق انه وجه مستقل كما سيأتي بيانه - ان سقوط الأمر يكون بأحد أمور أربعة : الموافقة والمخالفة وارتفاع موضوع التكليف - كغرق الميت الرافع لموضوع التكليف بالتغسيل ، أو التكفين - وحصول الغرض من دون تعلق الأمر به لمانع ، كما يسقط الأمر التوصلي بفعل الغير للواجب أو بالفرد المحرم. ومن الواضح ان سقوط الأمر بالإتيان بالمقدمة ليس بالمخالفة ، كما انه ليس بارتفاع موضوع التكليف للإتيان بمتعلقه وليس من جهة حصول الغرض به من دون تعلق الأمر به ، لأنه لا مانع من تعلق الأمر به ، إذ المانع الّذي يتصور هو كونه حراما فعليا ، وليس ما نحن

ص: 291

فيه كذلك ، فإذا كانت المقدمة واجدة الملاك تعلق بها الأمر كما يتعلق بغيرها لعدم الفرق بينهما. فيتعين ان يكون السقوط من جهة الموافقة وهو المطلوب.

هذا توضيح ما جاء في الكفاية (1).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الأول وذكر : انه لا يمكن ان يكون الغرض غير ما هو مسلك صاحب الفصول. ببيان : ان الغرض المفروض لا يخلو ..

اما ان يكون هو الملازمة بين عدم المقدمة وعدم إمكان ذيها ، التي عبر عنها صاحب الكفاية بما لولاه لما أمكن ذي المقدمة ، وقد عبّر عنها المحقق الأصفهاني بالمعنى السلبي التعليقي تارة وبالاستلزام العدمي أخرى (2).

واما ان يكون إمكان ذي المقدمة ذاتا ووقوعيا.

واما ان يكون التمكن من ذي المقدمة والقدرة عليه.

اما الأول : فهو ليس بأثر لوجود المقدمة ، بل هو لازم أثرها ، فان أثر المقدمة انما يكون امرا وجوديا لا عدميا.

واما الثاني : فإمكان ذي المقدمة مطلقا ، وكذلك التمكن عليه ، متحقق بإمكان المقدمة والتمكن عليها لا بوجودها ، فهما من آثار إمكان المقدمة والتمكن عليها لا من آثار وجودها.

ثم أخذ في تقريب مسلك صاحب الفصول (3).

والّذي يهمنا البحث عنه فعلا هو القسم السلبي من كلامه - أعني ما نفي به مسلك صاحب الكفاية - لا القسم الإيجابي - أعني الّذي أثبت به مسلك صاحب الفصول -. فنقول : انه يمكن ان يفرض كون الغرض هو التمكن من

ص: 292


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /115- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- لاحظ حاشيته على شرحه المقام ، قد أوضح الإشكال فيها جيدا. ( منه عفي عنه ).
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 205 - الطبعة الأولى.

ذي المقدمة ، ولكن لا بالمعنى الاصطلاحي الفلسفي للتمكن ، كي يرد عليه ما عرفت ، بل بمعنى عرفي وبيان ذلك : ان التمكن على الشيء ذي المقدمات يتصور عرفا على نحوين :

أحدهما : التمكن بالواسطة ، وذلك قبل الإتيان بمقدماته التي يتمكن على الإتيان بها ، فانه يقال عرفا انه يتمكن على ذي المقدمة ولكن بواسطة ، لأنه لا يستطيع إعمال إرادته في ذي المقدمة بلا واسطة.

ثانيهما : التمكن عليه بدون واسطة ، بحيث يستطيع إعمال إرادته فيه بلا واسطة ، كما لو جاء بالمقدمة فانه يتمكن من إعمال إرادته في ذيها بلا واسطة المقدمة.

وعليه ، فيمكن ان يدعى كون الغرض من المقدمة هو حصول التمكن على الواجب بالمعنى الثاني وهو التمكن بلا واسطة ، وهو يتوقف على وجود المقدمة لا على التمكن منها كما عرفت.

وبالجملة : إمكان كون الغرض هو التمكن من ذي المقدمة بالمعنى الّذي ذكرناه ثابت لكن لا يتعين ذلك الا بنفي إمكان كون الغرض هو ترتب ذي المقدمة أو ما يلازمه ، وإلاّ احتاج ترجيح أحدهما على الآخر إلى دليل إثباتي. فالتفت.

واما الوجه الثاني : فقد عرفت الاستشكال فيه : بان كل واجب ممكن ، فلا يوجد الا بوجود علته التامة ، فالعلة التامة في كل واجب توليدي أو غيره مما يترتب عليها الواجب ، فتكون واجبة ، ولا يختص الوجوب الغيري بالأسباب التوليدية. كما عرفت ما أجاب صاحب الكفاية من ان الإرادة من اجزاء العلة التامة في الواجبات الاختيارية الإرادية ، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها ، لأنها ليست بالاختيار لاستلزام ذلك التسلسل.

وهذا الجواب مخدوش لوجهين :

ص: 293

الأول : ان المتقرر في محله - كما سيجيء في مبحث التجري - ان الإرادة لا يمتنع ان تكون بالاختيار ، وانما الّذي يمتنع هو تقوم الإرادة بالإرادة والاختيار ، فانه مما يستلزم التسلسل. وبعبارة أخرى : انه لا يجب ان تكون الإرادة بالإرادة للزوم التسلسل ، لا انه لا يمكن ان تنشأ الإرادة عن إرادة غيرها ، فانه لا محذور فيه ، بل وقوعه يشهد له الوجدان ، كما يتضح بملاحظة بعض الأمثلة العرفية. وعليه فلا يمتنع تعلق التكليف بالإرادة لأنها يمكن ان تكون اختيارية قابلة للبعث.

الثاني : انه لو تنزلنا وسلمنا امتناع اختيارية الإرادة مطلقا وامتناع تعلق البعث بها لأجل ذلك ، فهو لا يرتبط بما نحن فيه من فرض تعلق الوجوب الغيري بها ، لأن الوجوب الغيري الّذي يفرض ثبوته وتعلقه بالمقدمة ليس حكما مجعولا متكفلا للبعث على حد سائر الوجوبات ، وانما عبارة عن شوق نفساني يتعلق بالمقدمة بتبع تعلق الشوق بذيها ، فحقيقة الوجوب الغيري ليست إلاّ شوقا مترشحا عن الشوق النفسيّ المتعلق بذي المقدمة. ومن الواضح ان متعلق الشوق لا يعتبر فيه ان يكون اختياريا ، فكثيرا ما يتعلق الشوق بأمر غير اختياري ، ولا وجه لاعتبار كونه اختياريا كما لا يخفى.

فعليه ، لا مانع من تعلق الوجوب الغيري بالإرادة ، اما لأجل كونها اختيارية ، أو لأجل عدم اعتبار الاختيار في متعلق الوجوب الغيري.

واما الوجه الثالث : - ويتبعه الوجه الرابع ، لأنهما بملاك واحد ، ولذا تخيل وحدتهما وكونهما وجها واحدا لا وجهين - فيمكن دفعه : بان سقوط الأمر الغيري بالمقدمة عند الإتيان بها لا يكشف عن تعلق الأمر الغيري بذاتها ، فانه يمكن ان يكون من قبيل سقوط الأمر بالجزء عند الإتيان به ، مع انه لا يقطع بفراغ الذّمّة الا عند الإتيان بجميع اجزاء المركب الارتباطي ، فمع عدم الإتيان بها تبقى الذّمّة مشغولة. فالإتيان بالجزء مسقط لأمره - إذ لا يجب الإتيان به فعلا

ص: 294

ثانيا - ، لكن سقوطه مراعى بالإتيان بباقي الاجزاء وبدونه لا يستقر السقوط. وعليه فما نحن فيه يمكن ان يكون من هذا القبيل ، فان الأمر الغيري وان كان يسقط بمجرد الإتيان بالمقدمة ، لكنه سقوط مراعى بالإيصال وترتب الواجب ، وبدونه يلزم الإتيان بها ثانيا.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرنا : ان ما ذكره صاحب الكفاية من الإشكالات على القول بوجوب المقدمة الموصلة والمحاذير فيه غير تام في نفسه ، سوى الإشكال الأول الّذي يبتني على أخذ الغرض هو التمكن لا فعلية الترتب. ولا يخفى انه ليس بمحذور ثبوتي في القول بالمقدمة الموصلة فالقول بالمقدمة الموصلة ممكن في نفسه ، وانما الالتزام به أو بعدمه ينظر فيه ما تقتضيه الوجوه الإثباتية.

لكن المحقق النائيني قدس سره ذهب إلى استحالة الالتزام بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، لأنه يستلزم محاذير ثلاثة. وبيان ذلك - كما جاء في أجود التقريرات - : ان الإيصال المعتبر ليس من الصفات الخارجية التي تتنوع باعتبارها المقدمة وتنقسم إلى قسمين ، نظير الكفر والإيمان في الإنسان ، وانما هو من الصفات الانتزاعية المنتزعة عن الإتيان بذي المقدمة ، فإذا أخذ هذا القيد الانتزاعي المتوقف تحققه على الإتيان بذي المقدمة في الواجب المقدمي لزم :

أولا : ان يكون الواجب النفسيّ مقدمة للمقدمة لتوقف تحقق الإيصال على تحققه ، وهو باطل لاستلزامه الدور ، لأن الواجب النفسيّ يتوقف على تحقق المقدمة ، فإذا كان مقدمة لها كان تحققها منوطا بتحققه فيلزم الدور.

وثانيا : ان يكون الواجب النفسيّ واجبا بوجوب ناشئ من المقدمة ، لأنه يكون مقدمة لما هو واجب كما تقرر في الوجه الأول ، وهو باطل أيضا لمحذور الدور ، فان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها ، فهو معلول لوجوبه ، فإذا كان وجوب ذيها معلولا لوجوبها لزم الدور.

ص: 295

وثالثا : ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة وهو يستلزم الخلف أو التسلسل.

اما لزوم كونه مقدمة للمقدمة الواجبة : فلان المقدمة الواجبة على الفرض هي الذات بقيد الإيصال ، فكل من الذات والتقيد بالإيصال جزء المقدمة ، وجزء الشيء مقدمة له لتوقفه عليه ، فذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة.

واما لزوم الخلف أو التسلسل : فلأنه إذا كانت ذات المقدمة مقدمة للمقدمة وللواجب الغيري ، ترشح عليها الوجوب قهرا. وحينئذ نقول : ان الوجوب الآخر اما ان يتعلق بذات المقدمة من دون اعتبار الإيصال ، فهو خلف المدعى من اعتبار قيد الإيصال في الواجب الغيري وكرّ على ما فرّ منه ، واما ان يتعلق بالمقدمة الموصلة ، فهو يستلزم ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة إلى المقدمة الموصلة ، فيترشح عليها الوجوب الغيري ، وحينئذ اما ان يتعلق بها بذاتها فقط وهو خلف. أو بقيد الإيصال فيلزم ان تكون ذاتها مقدمة وهكذا يستمر هذا الكلام في الذات إلى غير نهاية.

والإنصاف ان هذه المحاذير الثلاثة غير تامة :

اما الأول : فلان قيد الإيصال لم يؤخذ مقوما للمقدمية ، وانما أخذ مقوما للواجب الغيري ، اما المقدمة فهي ذات العمل ، وعليه فلا دور ، لأن ما يتوقف على الواجب النفسيّ هو الواجب الغيري بما هو كذلك لا المقدمة ، وما يتوقف عليه الواجب النفسيّ هو ذات العمل بلا حيثية وجوبه الغيري.

واما الثاني : فلان الوجوب المترشح من قبل الواجب الغيري على الواجب النفسيّ غير الوجوب الّذي يترشح منه الوجوب الغيري ، فان ما يترشح منه الوجوب الغيري هو الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة. وأما ما يترشح من الواجب الغيري فهو وجوب غيري ، وهو غير الوجوب النفسيّ فلا دور. غاية الأمر أنه يلزم أن يترشح من قبل الوجوب النفسيّ وجوب غيري

ص: 296

يتعلق بما تعلق به ، وهو لا محذور فيه.

واما الثالث : فلان ذات المقدمة وان كانت مقدمة للمقدمة بقيد الإيصال ، باعتبار أنها جزؤها ، ولكنها مقدمة داخلية ، وقد تقدم أنها غير قابلة لتعلق الوجوب الغيري بها حتى بنحو التأكد ، فلا يتأتى فيها الكلام السابق لعدم موضوعه.

هذا مضافا إلى أنّه يمكن أن يدّعى : كون الواجب الغيري بنحو يلازم الإيصال وترتب الواجب ، لا بأن يؤخذ الإيصال قيدا في الواجب ، ومعه ترتفع جميع هذه المحاذير ، لكونها مبتنية على أخذ قصد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري. فلاحظ.

والمتحصل : هو عدم تمامية ما أفاده المحقق النائيني من المحاذير.

وتحقيق الكلام : ان البحث يقع في مقامين :

الأول : في بيان معقولية القول بالمقدمة الموصلة وإمكانه.

الثاني : - بعد الفراغ عن معقوليته - في بيان الدليل عليه إثباتا ، فإن مجرد المعقولية لا يكفي في الالتزام به بعد فرض معقولية القول الآخر. ومجرد دعوى اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لا يغني ولا يسمن من جوع.

اما المقام الأول ، فتحقيقه : انّه لا بدّ من ذكر بعض احتمالات القول بالمقدمة الموصلة. وبيان ما يدور حولها من كلام. فنقول : انه قد استقرب كون الواجب الغيري متعلقا بخصوص العلّة التامّة التي يترتب عليها الواجب قهرا ، فلا بدّ من النّظر إلى ما ذكر من المحاذير المتقدمة ، وبيان التفصّي عنها ان أمكن. وهي سبعة ، أربعة ذكرها صاحب الكفاية (1) ، وثلاثة ذكرها المحقق النائيني (2).

فاما ما ذكره صاحب الكفاية.

ص: 297


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /116- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 237 - الطبعة الأولى.

فالأوّل منها : لا يرتبط بالمرّة مع القول المزبور ، وذلك لأن حاصله هو : ان الغرض من الوجوب لو كان هو الترتب ، فهو ممّا لا يتحقق بمجموع المقدمات فضلا عن كلّ واحد منها.

ومن الواضح ان موضوع هذا الإيراد هو دعوى تعلق الوجوب بكلّ مقدمة ، فتنفى بان كلّ مقدّمة ممّا لا يترتب عليها الغرض ، وهذا أجنبي عن القول المزبور ، فان دعواه تعلق الوجوب بالعلّة التامّة لا بكلّ مقدّمة ، فالإيراد أجنبي موضوعا عن هذا القول.

وامّا الثاني : فحاصله دعوى اختصاص الوجوب الغيري بالأسباب التوليدية - لو قيل بالمقدّمة الموصلة - ، ولا يتعلق بالعلّة التامّة في غير المسببات التوليدية ، لأنّ أحد اجزائها هو الإرادة ، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها.

وهذا يرتبط بالقول المزبور ، لأنّه قول بتعلق الوجوب بالعلّة التامّة ، وصاحب الكفاية بوجهه الثاني ينفيه ، ويدّعي اختصاصه بالسبب التوليدي ، ولكنك عرفت الخدشة فيه :

أوّلا : بان الإرادة قابلة لتعلق التكليف بها ، لإمكان كونها إرادية ، والممتنع برهانا هو لزوم كونها إرادية.

وثانيا : بان الوجوب الغيري قابل لتعلقه بالإرادة وان كانت غير اختيارية ، لأنّه ليس عبارة عن بعث وانّما هو عبارة عن شوق نفسي. ومن الواضح إمكان تعلق الشوق النفسيّ بالأمر غير الاختياري.

ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم اختيارية الإرادة مطلقا ، وعدم صحة تعلق الوجوب الغيري بها. فهذا لا يمنع من القول بالمقدّمة الموصلة بهذا المعنى ، وذلك بان يلتزم بان متعلق الوجوب هو سائر المقدمات غير الإرادة ، نظير ما يقال في قصد القربة. فان وجود المانع من تعلق التكليف بقصد القربة لا يمنع من تعلق التكليف بغيرها ممّا هو دخيل في الغرض. فالوجوب الغيري متعلق بغير الإرادة

ص: 298

من المقدمات ، وعدم تعلقه بالإرادة لمانع عدم القدرة وان كانت دخيلة في الغرض.

وهذا وان لم يكن قولا بتعلق الوجوب بالعلّة التامّة لكنه حكما مثله فتدبر.

وامّا الثالث والرابع : فحاصلهما هو سقوط الوجوب الغيري عند الإتيان بالمقدّمة الكاشف عن تعلقه بها من دون اعتبار الإيصال. ولا يخفى أنّه ينافى الالتزام بوجوب خصوص العلّة التامّة.

لكنك عرفت الإشكال فيه.

وبيانه : أنّه كما أنّه إذا أتى بجزء المأمور به الارتباطي يسقط الأمر الضمني المتعلق بالجزء ، ولكنّه مراعى بالإتيان بسائر الاجزاء ، لأنّ سقوطه من دون مراعاة ينافي الارتباطية والأمر الضمني ، والسّر فيه ان الأمر الضمني له جانبان ، جانب الداعوية وجانب الامتثال وسقوطه بالموافقة ، فعند الإتيان بالجزء تنتفي داعوية الأمر الضمني ، ولكنه لا يسقط بمجرد ذلك ، بل امتثاله يتوقف على الإتيان بباقي الاجزاء المرتبطة به ، كذلك ما نحن فيه ، فانّه إذا فرض وجوب العلّة التامّة كانت كلّ مقدّمة واجبة بالوجوب الضمني لأنّها جزء الواجب ، فعند الإتيان بها ترتفع داعوية الأمر الضمني ، ولكنّه لا يسقط إلاّ بالإتيان بسائر اجزاء العلّة التامّة الملازم لترتب الواجب.

وامّا ما ذكره المحقق النائيني ، فقد عرفت الإشكال في كلّ واحد بنفسه. فلا ترد على هذا القول ، كما عرفت أنّها جميعها تبتني على أخذ قيد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري ، وهذا القول لا يتكفل ذلك ، فان واقعه تعلق الوجوب بذات العلّة التامّة ، من دون أخذ قيد الإيصال ، نعم هي ملازمة للإيصال لكنّه لا يترتب على ذلك آثاره ومحاذيره. فلاحظ.

وإذا ظهر انّ القول بالمقدّمة الموصلة بهذا المعنى معقول في نفسه ، فيقع الكلام في ..

ص: 299

المقام الثاني - أعني مرحلة الإثبات - :

وقد نسب صاحب الفصول الاستدلال على دعواه ، وهي اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، بأنه الإشكال في صحة منع المولى عن جميع مقدّمات الواجب غير التي يترتب عليها الواجب ، فيصرح بتحريم المقدّمة غير الموصلة ، فانّه يكشف عن عدم تعلق الوجوب بها ، وإلاّ لامتنع عنها ، فانّه من باب اجتماع المتضادين (1).

وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين :

الأول : وهو يتكفل منع دلالته على المدعى. وذلك ببيان : انّ الملازمة المدعاة لا تكون علّة تامة لتعلق الوجوب الغيري بالمقدّمة ، وانّما هي مؤثرة بنحو الاقتضاء ، وفعلية تأثيرها تتوقف على عدم وجود المانع ، فإذا كان هناك مانع من تعلق الوجوب الغيري كتعلق الحرمة بالمقدّمة ، فلا يثبت الوجوب لها ، فمانعية المنع لا تكشف عن اختصاص الوجوب الغيري بالموصلة ، إذ تعلق الوجوب بغيرها يمكن أن يكون لأجل وجود المانع لا لعدم المقتضي.

الثاني : وهو يتكفل نفي الاستدلال وبيان عدم إمكان المنع عن المقدّمة غير الموصلة لزوم المحذور من جهتين :

الأولى : انّه يلزم أن لا تتحقق مخالفة للواجب في تركه ، وذلك لأنّ وجوب الواجب معلق على القدرة عليه ، والقدرة عليه بالقدرة على مقدماته. ومن الواضح أنّه كما تعتبر القدرة على المقدمات عقلا تعتبر القدرة عليها شرعا ، بأنّ لا تكون ممنوعا عنها ومحرمة شرعا ، وإلاّ كانت غير مقدورة ، فإذا فرض المنع عن المقدّمة غير الموصلة واختصاص الجواز بالموصلة ، كان تحقق القدرة على المقدّمة شرعا منوطا بإتيان الواجب ، فمع عدم الإتيان به كانت المقدّمة محرمة لأنّها غير موصلة ،

ص: 300


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /87- الطبعة الأولى.

فكان غير مقدور فيسقط وجوبه ، فلا يكون تركه مخالفة.

الثانية : انّه إذا فرض كون ثبوت القدرة على المقدّمة منوطا بصورة الإتيان الواجب ، فتكون القدرة عليه منوطة بالإتيان به فيكون وجوبه مختصا بصورة الإتيان به ، وهو محال لأنّه من طلب الحاصل (1).

أقول : ورود الإيراد الأول يبتني على كون نظر صاحب الفصول في كلامه إلى الاستدلال على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ، فانّه يورد عليه بان ما ذكر لا دلالة له على ذلك ، وهذا المعنى هو الّذي فهمه صاحب الكفاية وتابعة المحقق النائيني (2) ، فحملا كلام الفصول على الاستدلال.

امّا لو كان نظره - كما فهمه المحقق الأصفهاني (3) - إلى نفي محالية القول بالمقدّمة الموصلة في قبال من ادعى محاليته ووجود المحاذير فيه. فالإيراد بعيد عن محط نظر المدعي ، إذ كلام الفصول يتضمن إمكان اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة كالفرض الّذي ذكره ، والإيراد لا يتكفل منع صحة الفرض ، بل غاية ما يتكفل منع دلالة الفرض على الاختصاص ، وهو غير ملحوظ في الاستشهاد بالفرض إذ الملحوظ فيه دلالته على إمكان الاختصاص لا ثبوت الاختصاص.

نعم الإيراد الثاني موجه ، فانّه يتكفل منع الفرض.

ولكن أورد عليه المحقق النائيني ان جواز المقدّمة غير مشروط بالإيصال ، ليتوقف تحققه على تحقق الإيصال خارجا ، بل المتوقف عليه انّما هو تحقق ما هو جائر شرعا ، إذ المفروض ان الإيصال قيد للواجب لا للوجوب ، وبما انّ المقدّمة الخاصة وهي الموصلة مقدورة للمكلف ، للقدرة على إيجاد قيده وهو الإيصال ، والمفروض جوازها شرعا ، فهو يكفي في تحقق القدرة على الواجب ، لكفاية جواز

ص: 301


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /120- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 237 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 209 - الطبعة الأولى.

المقدّمة في الجملة فيها ، وعليه فلا يلزم ان لا يكون ترك الواجب مخالفة وعصيانا (1).

وما ذكره من ان الإيصال ليس قيدا للجواز بل هو قيد لتحقق الجائز ، نظير أجزاء الصلاة ، فانّ كلا منها واجب بالوجوب الضمني ولو لم يأت بالآخر ، إلاّ أن اتصاف المأتي به بالوجوب يتوقف على الإتيان بغيره.

وقد يوجه كلام صاحب الكفاية ويدفع كلام النائيني بوجهين :

الوجه الأول : ان الجواز والمنع لما كانا واردين على ذات واحدة ، وهي ذات المقدّمة ولكن أخذ في المنع عدم الإيصال كما أخذ في الجواز الإيصال ، كان ذلك ملازم قهرا لتقييد أصل الجواز بالإيصال ، وذلك لأنّه عند تحقق المقدّمة وقبل تحقق الإيصال لا تكون المقدّمة متصفة فعلا بالجواز ولا بالمنع ، فإذا تحقق الإيصال اتصفت بالجواز. ومن الواضح ان تحقق الإيصال لا يلازم تحقق خصوصية تكوينية منوعة للمقدّمة ، كما لا يكشف عن وجود خصوصية يكون الفعل بها متصفا بالجواز ، فيكون الإيصال كاشفا عن سبق ثبوت الجواز للفعل ، إذن لا تأثير له في الفعل إلاّ اتصافه بالجواز ، فالفعل الجائز بما أنّه جائز لا يكون إلاّ بالإيصال فللمكلف ان لا يأتي بالفعل الواجب ، فلا تتحقق المقدّمة الجائزة فيتحقق الجواز باختيار المكلف ، وليس هناك حصة جائزة منحازة عن الحصة الممنوعة.

الوجه الثاني : ان الجواز الثابت هنا ليس هو الجواز بمعنى الإباحة ، بل الجواز بالمعنى الأعم - أعني عدم المنع - ، وهو ليس بحكم مجعول كي يعلق على شرط أو يتعلق بحصة خاصة ، وانّما المجعول ليس إلاّ المنع ، وهو متعلق بالمقدّمة بقيد عدم الإيصال. وعليه فإذا تحقق الإيصال كان رافعا للمنع ومانعا

ص: 302


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 240 - الطبعة الأولى.

منه ، فعدم المنع انما يتحقق بالمانع عن المنع ، وهو الإيصال. وعليه فيكون الجواز - وهو عدم المنع - مشروطا بالإيصال ، إذ مع عدم الإيصال يثبت المنع لثبوت قيده. فلاحظ.

والحقّ ان إيراد. المحقق النائيني وارد ، وكلا الوجهين مخدوشان :

امّا الأول : فلأنّ الجواز متعلق بالحصة المقيّدة ، أعني المقدّمة بقيد الإيصال ، بحيث كان قيد الإيصال قيدا للمتعلق لا الحكم. وعليه فقبل تحقق الإيصال لم يثبت متعلق الحكم ، لعدم حصول جزئه الآخر وهو التقيد ، فليس الإيصال دخيلا في الاتصاف بالجواز ، بل دخيل في تحقق متعلق الجواز ومصداق ما هو الجائز ، فانّه محقق لخصوصية التقيد المأخوذة في المتعلق ، فالجواز ثابت من أول الأمر على الحصّة المقيّدة كما أفاد المحقق النائيني ، نظير اجزاء الصلاة كما عرفت.

وعليه ، فالواجب مقدور عليه للقدرة على مقدّمته فتركه يكون مخالفة ، كما أن وجوبه لا يكون معلقا على الإتيان به كي يكون من طلب الحاصل المحال.

وامّا الثاني : فلأنّ المنع إذا كان متعلقا بالمقدّمة المقيّدة بعدم الإيصال ، كان عدمه قهرا متعلقا بالمقدّمة بقيد الإيصال ، فيكون الإيصال دخيلا في تحقيق الخصوصية المأخوذة في متعلق عدم المنع ، وثبوت الجزء الآخر لغير الممنوع وهو التقيد بالإيصال. لا دخيلا في ثبوت عدم المنع كي يجيء ما تقدم.

وعليه ، فيكون الواجب مقدورا للقدرة على مقدّمته ، فلا يكون وجوبه معلقا على الإتيان به ، فيكون تركه مخالفة وعصيانا كما لا يكون من طلب الحاصل.

وخلاصة الكلام : ان الإيراد الثاني على صاحب الفصول غير صحيح.

وامّا الأول فهو انّما يمنع الاستدلال على ثبوت اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة لا الاستدلال على إمكانه الّذي يمكن ان يكون نظر

ص: 303

القائل إليه.

واما إيراد المحقق النائيني على صاحب الفصول فمحصله : ان جواز المنع عن بعض المقدمات لا يلازم اختصاص ملاك الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لأن التوقف ان لم يكن هو ملاك الوجوب لزم عدم تعلق الوجوب بجميع المقدمات وإنكار وجوب المقدّمة وان كان هو الملاك ، فامّا ان يكون هو الملاك بقول مطلق من دون تقييده بشيء كان اللازم وجوب جميع المقدمات لاشتمالها على الملاك. وان كان الملاك هو الحصّة الخاصة من التوقف ، وهي ما يستحيل انفكاك الواجب عنه في الخارج ، لزم اختصاص الوجوب بالمقدمات التوليدية وهو ممّا لا يلتزم به (1).

ويمكن الجواب عنه بتصوير شق آخر للترديد وهو : كون الملاك هو التوقف على ما يلازم وجود ذي المقدّمة ، وليس لازمه تعلق الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، بل يمكن الالتزام بتعلق الوجوب بما يلازم المقدّمة الموصلة لا بعنوان المقدّمة الموصلة ، فلا يرد عليه أي محذور كما أشرنا إليه. امّا هذا العنوان الملازم فسيأتي تحقيقه.

ومن مجموع ما ذكرناه يتبين أن ما ذكره في الفصول يصلح وجها لبيان إمكان القول بالمقدّمة الموصلة.

والغريب من المحقق النائيني ما يظهر من كلامه من الاعتراف بصحة الفرض الّذي ذكره صاحب الفصول ، مع ان لازمه اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة الّذي ذهب إلى محاليته عقلا وثبوت المحاذير فيه.

امّا وجه اعترافه بصحة الفرض المزبور ، فلما جاء في تقريرات بحثه من قوله : « ان جواز المنع لا يدل ... » فانّه ظاهر في الاعتراف بجواز المنع الّذي

ص: 304


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 238 - الطبعة الأولى.

عرفت ان لازمه اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة. وفي كون الإشكال عليه من ناحية أخرى وهي عموم الملاك ونحوه.

وبالجملة : فظاهر كلامه هنا يتنافى مع ما تقدّم منه من عدم معقولية المقدّمة الموصلة.

والّذي صار بأيدينا من مجموع ما تقدّم هو : إمكان القول بالمقدّمة الموصلة ، وإمكان القول بوجوب مطلق المقدّمة ، فأيّها يتعين الالتزام به؟. استدل صاحب الفصول على الأول بوجوه ثلاثة ذكرها صاحب الكفاية :

الأول : ان طريق ثبوت وجوب المقدّمة ليس إلاّ حكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، والقدر المتيقن منه هو الملازمة بين وجوب شيء ووجوب خصوص مقدمته الموصلة.

الثاني : ان العقل والضرورة قاضيان بصحة تصريح الآمر بعدم إرادة المقدّمة غير الموصلة في الوقت الّذي يقضيان فيه بقبح تصريحه بعدم إرادة مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة.

الثالث : انّه لما كان الغرض من وجوب المقدّمة هو التوصل بها إلى الواجب ، فلا بدّ ان يكون حصوله مأخوذا في مطلوبيتها ، فان من يريد شيئا لأجل التوصل إلى آخر لا يريده إذا تجرد عنه بلا إشكال.

واستشكل في هذه الوجوه صاحب الكفاية ببيان : انّه بعد ان تقدّم منا بيان ثبوت حكم العقل بوجوب مطلق المقدّمة بلا تخصيص له بخصوص الموصلة ، فلا يبقى مجال لدعوى كون القدر المتيقن منه وجوب الخصوص الموصلة ، وبذلك يندفع الوجه الثاني ، فانّه ليس للآمر الحكيم التصريح بعد مطلوبية المقدّمة غير الموصلة لثبوت الملاك فيها كغيرها.

نعم ، له ان يصرح بعدم حصول المطلوب أصلا - مع حصولها فقط - لكون نظره الأصلي إلى المطلوب النفسيّ ، فحين عدم حصوله لا نظر له إلى

ص: 305

حصول المقدّمة وان كانت مطلوبة تبعا وهذا لا يعني عدم وجوبها ، لأن التصريح المزبور ناشئ من تبعية الوجوب الغيري لا عدمه.

وامّا الوجه الثالث ، فاندفاعه بما ثبت من ان الغرض والملاك في الوجوب الغيري ليس هو التوصل ، بل التمكن من ذي المقدّمة وهو متوفر في جميع المقدمات (1).

فأساس مناقشة صاحب الكفاية وارتباط كلامه بكلام صاحب الفصول هو : انّه بعد انّ تمّ الاستدلال على كون الغرض هو التمكن وعدم إمكان اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة ، لا وجه لما ذكر من عدم الدليل على وجوب غير الموصلة أو صحة تصريح الآمر بعدم إرادة غير الموصلة ونحو ذلك ، فانّه لا ينهض في قبال الاستدلال المتقدّم.

ومناقشته وجيهة لشق استدلاله المتقدّم ، إلاّ إنا ناقشنا كلامه المتقدم ولم يثبت لدينا من كلامه سوى إمكان القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا تعينه ، فلا بدّ لنا من الوقوف موقف المتأمل في أدلة الفصول لا الوقوف موقف المستظهر لها كما فهمه صاحب الكفاية.

والإنصاف ان الوجه الأول لا مناقشة فيه ، فانّه لا طريق لدينا إلى إحراز حكم العقل ، ومع عدم إحرازه من حيث المقدار وغيره لا نستطيع الجزم به ، وعدم الجزم في حكم العقل ملازم للجزم بعدم الحكم كما لا يخفى ، فالقدر المتيقن من حكم العقل ليس إلاّ وجوب خصوص المقدّمة الموصلة لا غير.

ومنشأ التردد المذكور وان كان هو التردد في كون الملاك هو التوصل إلى الواجب والتمكن منه ، فكان الأنسب تحقيق ما هو الملاك إلاّ إنّه حيث لا طريق لنا إلى ذلك وكان وجوب المقدّمة الموصلة محرزا على كل تقدير ، فالمحرز من حكم

ص: 306


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /118- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العقل هو دون غيره ، وان لم يعلم الملاك فيه تفصيلا ، إذ لا يعتبر حكم العقل معرفة ملاك ما يحكم به بنحو التفصيل ، بل يكفي العلم الإجمالي بثبوت ملاك الحكم في المورد.

وبالجملة : فالوجه الأول يكفي في الحكم بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، ومعه لا نحتاج إلى بعض الاستدلالات المذكورة ، فانّها لا تنهض على المدعى كما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من الاستدلال : بأنّ الغرض من المقدّمة لما كان تبعيا ، والغرض الأصلي انّما هو في ذي المقدّمة فمع حصول المقدّمة وعدم حصول ذي المقدّمة لا غرض من هذه المقدّمة (1). فانّه لا يخلو عن مصادرة ، فان المتجه هو البحث عن الغرض والملاك في وجوب المقدّمة وانّه هل هو التوصل إلى الواجب أو التمكن منه؟. امّا تبعية الغرض من المقدّمة ، فهو لا يعتبر في وجوبها مطلقا لو كان الغرض من وجوبها هو التمكن من ذيها. فكلامه قدس سره بعيد عن نقطة البحث.

ثمّ انّك قد عرفت تصوير القول بالمقدّمة الموصلة بالالتزام بتعلق الوجوب الغيري بالعلّة التامّة بلا ورود أي محذور فيه.

وبعد ان تبين نهوض الدليل على اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، يمكننا القول بكونه متعلقا بالعلّة التامّة ، فلا يكون لدينا إلاّ وجوب غيري واحد متعلق بالعلّة التامّة.

إلاّ أنّه يتنافى مع ما هو المتسالم عليه بين الاعلام ، والمفروغ منه لديهم ، من تعلق الوجوب بكل مقدّمة بنفسها ، بحيث تتعدد الوجوبات الغيرية بتعدد المقدّمات ، وانّما النزاع في اقتصار الوجوب على المقدّمات الموصلة أو عمومه لجميعها.

ص: 307


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 206 - الطبعة الأولى.

وقد حاول المحقق العراقي - كما جاء في تقريرات بحثه - نفي صحّة القول باختصاص الوجوب الغيري بالعلّة التامّة عن طريق البرهان والوجدان.

امّا البرهان فبيانه : انّ المقدمات يختلف نحو تأثيرها. فمنها : ما يكون تأثيره بنحو الاقتضاء والفاعلية ، وهو المعبر عنه بالمقتضي. ومنها : ما يكون تأثيره على نحو الشرطية ، وهو الشرط. ومنها : ما يكون تأثيره بنحو الإعداد ، وهو المعدّ. ومن الواضح ان اختلاف أنحاء المقدمات يستلزم اختلاف نحو تقييد الواجب النفسيّ بها ، فيتعدد التقيد بتعدد أنحاء التأثير ولا يرجع إلى نحو واحد ، وظاهر ان التقيد متعلق للأمر النفسيّ الضمني ، فيترشح منه أمر غيري مستقل متوجه إلى كل مقدّمة من المقدّمات ، فيتعدد الأمر الغيري بتعدد المقدّمات سنخا.

وامّا الوجدان فتقريبه : انّه لا إشكال في إمكان الإتيان بكل مقدّمة بقصد أمرها الاستقلالي كالوضوء في باب الصلاة وهذا لا يتلاءم مع كون الأمر المتعلق به ضمنيا ، إذ لو كان ذلك لما جاز قصد أمرها الاستقلالي ، بل يكون مصداقا للتشريع (1).

والإنصاف : انّ محاولة المحقق العراقي فاشلة ، للخدشة في برهانه من وجوه :

الأول : انّه أخص من المدعى ، فانّه إذا كان تعدد سنخ التأثير في المقدمات هو الموجب لتعدد التقيدات التي ينشأ منها الوجوب الغيري ، فمقتضى ذلك تعلق وجوب غيري واحد بالمقدمات المتحدة في نحو التأثير كالمعدات أو الشروط ، لأن التقيد بها واحد فيترشح منه وجوب غيري واحد. والمدعى غير ذلك ، فانّ المدعى تعلق الوجوب بكل مقدّمة مقدّمة.

الثاني : انّ الكلام لا يختص بالمقدّمة الشرعية التي أخذ التقيد بها جزء

ص: 308


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 390 - الطبعة الأولى.

للواجب النفسيّ ، بل هو في مطلق المقدّمة ولو كانت عقلية ، ومن الواضح انّ التقيد بالمقدّمة العقلية لم يؤخذ في الواجب النفسيّ كي يترشح منه وجوب غيري على المقدّمة ، فالوجوب الغيري لا يرتبط بالتقيد وإلاّ لاختص بالمقدّمة الشرعية.

الثالث : انّ الوجوب الغيري ليس معلولا للأمر الضمني والإرادة الضمنية المتعلق بالتقيدات ، وانّما هو معلول للغرض التبعي الناشئ من الغرض الأصيل ، وهو اما التمكن من الواجب أو حصوله ، والّذي يفرض غرضا على القول بالمقدّمة الموصلة هو حصول الواجب والوصول إليه ، وهو غرض واحد تنشأ ضمن إرادته إرادة المقدّمات ، وإرادته لا تستلزم ان تتعلق بكل مقدّمة إرادة ، بل يمكن ان تنشأ عنه إرادة واحدة تتعلق بمجموع المقدّمات. وهذا الغرض وان كان تبعيا لكنّه ناشئ من الغرض الأصيل المتوفر في ذي المقدّمة ولا ارتباط له بالأوامر الضمنية المتعلقة بالتقيدات.

وامّا ما استشهد به من الوجدان بإمكان الإتيان بالوضوء للصلاة بداعي أمره المستقل ، فهو غريب بعد ان عرفت فيما تقدم من النقض والإبرام في صحة قصد الأمر الغيري في الوضوء ، وان الأمر المقصود امتثاله ما هو؟ فكيف يتضح ذلك سريعا بالوجدان؟!.

والخلاصة ان ما أفاده المحقق العراقي لا يخلو عن خدشة. فلا دافع لدعوى تعلق الوجوب بالعلّة التامّة ، غير انّه خلاف المتسالم والمفروغ عنه بين الاعلام - ان صحّ كون هذا دافعا -.

ثمّ أنّه لو لم يلتزم بتعلق الوجوب الغيري بالعلّة التامّة والتزم بأنّه متعلق بكلّ مقدّمة مستقلا ..

فهل يمكن تصوير اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة بنحو معقول سالم عن كل محذور؟ تصدى الاعلام لتصويره بوجه معقول.

ص: 309

فذهب المحقق العراقي إلى تعلق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لكن لا بنحو أخذ الإيصال قيدا ، بل هو مأخوذ بنحو القضية الحينية نظير حمل النوع على الإنسان ، فانّه لا يصح إلاّ عند لحاظ الإنسان ، مع انّ الموضوع ليس هو الإنسان المقيّد باللحاظ ، لأنّه كذلك يكون جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا ، وانّما الموضوع هو الإنسان في ظرف اللحاظ وحينه ، ونظير تقيد الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء بعضها ببعض ، فانّ الأمر الضمني المتعلق بكل جزء لا يكون متعلقا به مستقلا ، بل عند تعلق مثله بالجزء الآخر ، لكن لا بنحو يكون مقيّدا به فهو غير مقيّد ولا مطلق.

وعليه ، فالواجب الغيري هو المقدّمة في حين الإيصال أو الحصة التوأم كما يعبر بها كثيرا بنحو لا يؤخذ الإيصال قيدا ، فلا يرد عليه أي محذور (1).

أقول : قد تكرر من المحقق العراقي (2) هذا المعنى في موارد متعددة وأصر عليه بنحو جديّ وجزمي ، ولكنّا لا نقرّ تطبيقه فيما نحن فيه.

بيان ذلك : انّ القضية الحينية انّما تكون معقولة في المورد الّذي لا يكون الإطلاق معقولا ، سواء كان التقييد معقولا أو غير معقول ، إذ لا لزوم للتقييد في حصر الحكم بالحصة الخاصة ، لأنّه بحكم طبعه لا يتعدى عنها - كما عرفت - والّذي يحضرنا بذلك موردان :

أحدهما : ما مثّل به من : « الإنسان نوع » ونحوه ممّا يعبر عنه بالمعقولات الثانوية التي يفرض كون موطن الحمل بها الذهن ولا واقع لها سواه ، وحينئذ فيمتنع ان يكون الموضوع مجردا عن اللحاظ ومطلقا من جهته ، إذ لا معنى للوجود الذهني سوى اللحاظ ، كما يمتنع هاهنا التقييد به ، لأنّ اللحاظ يوجب

ص: 310


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 340 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- قد مرّ ذلك في المعنى الحرفي في تفسير كلام صاحب الكفاية فراجع.

جزئية الملحوظ بما هو ملحوظ. وهو ينافي حمل مثل النوع عليه. وعليه فيقال : انّ الموضوع هو ذات الإنسان ونفس الماهية لا بقيد اللحاظ ، ولكن في حين اللحاظ وظرفه ، فليست الماهية المحمول عليها مطلقة ولا مقيدة.

ثانيهما : ما مثّل به من الأمر المتعلق باجزاء المركب ، وذلك لأن الإرادة المتعلقة بالمركب إرادة واحدة تضم جميع الأجزاء - ويشبهها قدس سره باللحاف - فكل جزء ليس متعلقا للإرادة بنفسه ومستقلا ، فالإرادة الضمنية المتعلقة بكل جزء لا تنفك عن الإرادة الضمنية المتعلقة بالجزء الآخر ، فهي ليست مطلقة من هذه الجهة ، وحينئذ يمكن أن يقال ان عدم انفكاك كل إرادة عن الأخرى لا يلازم تقييد متعلق كل منها بمتعلق الأخرى ، بل قد يقال أنّه لغو محض ، لحصول نتيجة التقييد وعدم انفكاك متعلق كل منها عن الآخر. فتحقق كل جزء مأخوذ في متعلق كلّ أمر ضمني بنحو القضية الحينية.

امّا في المورد الّذي يمكن تصور الإطلاق فيه من جهة القيد ، فتصور أخذ القيد بنحو القضية الحينية محل إشكال. وذلك كسائر قضايا الأحكام الاستقلالية بناء على كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، إذ يقال ان المولى إذ لاحظ متعلق الأمر ولاحظ القيد فامّا ان يقيده به أو لا يقيده به ، اما نفس جعل الحكم مع لحاظ القيد من دون تقييد ، فهذا لا يستلزم شيئا ، بل يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان ، فلا أثر له في ثبوت نتيجة التقييد.

وما نحن فيه كذلك ، فانّ الأمر الّذي يتعلق بالمقدّمة يتعلق بها استقلالا لا ضمنا والدعوى انّه يتعلق بالحصّة التي تلازم الإيصال. فنقول نفس لحاظ المقدّمة في ظرف الإيصال لا يستلزم تخصيص الحكم بها ما لم ينص المولى على تقييد متعلق الأمر ، وإلاّ فالامر متعلق بذات المقدّمة ، ولحاظ ظرف الإيصال معها لحاظ أجنبي لا أثر له في أي شيء ما دام لا يغير من واقع الأمر وكيفية الإرادة ، كما هو الحال في الأوامر الضمنية.

ص: 311

وبعبارة أخرى : ان الأمر إذا لم يكن بنحو يستلزم اختصاص متعلقه بحصة معينة ، فنفس لحاظ الحصة حال الأمر لا يستلزم ذلك ما لم يرجع إلى التقييد وإنشاء الحكم على المقيد ، بل يكون اللحاظ المزبور من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان لا ربط له بالأمر ، ومتعلقه بما هو متعلق الأمر.

بل عدم تصور القضية الحينية في قضايا الأحكام لا يختص بالبناء على كون جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، بل هو ثابت ولو كان جعلها بنحو القضية الخارجية ، إذ غاية ما يدعى في تصورها : انّ المولى إذا جعل الحكم على الموضوع الخارجي فهو غير مطلق بالإضافة إلى صفاته الفعلية كالقيام مثلا ، كما لا داعي إلى التقييد ، فانّ نتيجته حاصلة فيكون القيام مأخوذا بنحو القضية الحينية.

ومن الواضح : إنّ هذا إنّما يتم في الصفات اللازمة غير القابلة للتغير كاللون الخاصّ ، اما القابلة للتغيير كالأفعال ، نظير القيام ، فيأتي فيها الكلام السابق ، فان الإطلاق من جهتها غير ممتنع كما إذا زال القيام ، فيسأل عن موضوع أمر المولى وأنّه هل هو زيد مطلقا قائما كان أو قاعدا ، أو خصوص زيد القائم ، ولحاظ قيام زيد أو وجوده خارجا حال الحكم لا يستلزم تعلق الحكم به بنحو يختص بحال القيام ، إذ للآمر ان يصرح بالإطلاق ، فلا يختص الحكم بحال القيام إلاّ بالتقييد. وهذا بخلاف الموردين السابقين ، فانّ نحو الحكم فيهما يتنافى مع التصريح بالإطلاق ، فنتيجة التقييد حاصلة ، فلا وجه للتقييد ويمكن عدمه ولا منافاة لغرضه. فتدبر.

والمتحصل : ان تخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة بنحو القضية الحينية لا نعرف له توجيها سديدا.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تصوير المقدّمة الموصلة بلا أخذ الإيصال قيدا ، بدعوى : انّ الواجب هو المقدّمة بالفعل.

ص: 312

وتوضيح ذلك : انّ المقدمات بأنحائها لا تكون مقدمات فعلية ، إلاّ إذا ترتب الواجب عليها ، وبدون ذلك تكون مقدمات بالقوة ، فالمقتضي الموجود وحده من دون وجود سائر اجزاء العلّة فاعل بالقوة ، والموجود مع سائر اجزاء العلّة فاعل بالفعل ، والشرط الموجود فقط من دون اقتران بالمقتضي مصحح للفاعل بالقوّة. وامّا الموجود مع المقتضي فهو مصحّح بالفعل ، وهكذا الحال في غيرهما من أنحاء اجزاء العلّة ، فكلّ منها ان وجد من دون انضمام جميع اجزاء العلّة ينسب إليه أثره بالقوّة ، ومع انضمام الاجزاء الأخرى ينسب إليه الأثر بالفعل.

وحينئذ يقال : انّ متعلق الوجوب الغيري هو المقدمات الفعلية لا مطلق المقدمات ولو كانت بالقوّة ، وهذا المعنى ملازم للإيصال ، لأنّ الفعلية لا تتحقق إلاّ بتحقق الواجب ، من دون أن يؤخذ الإيصال قيدا (1).

وتابع السيّد الخوئي المحقق الأصفهاني في هذا التصوير (2).

ولكنّه تصوير قابل للمناقشة من جهتين :

الأولى : انّ الفرق الّذي جعله بين المقدّمة الموصلة وغير الموصلة هو تأثير المقدّمة في أثرها المترقب على اختلاف أنحائها ، فلا بدّ ان نلاحظ انّ هذا التأثير هل يوجب فرقا واقعيا بين المقدمات ، بحيث تختلف واقعا ، فيقال الحكم متعلق بهذا الصنف دون الأعم ، أو أنّه لا يوجب الفرق الواقعي أصلا؟ فيشكل التقريب المزبور.

والحقّ انّه لا يوجب فرقا واقعيا ، فالمقتضي في حال تأثيره عين المقتضي في حال عدم تأثيره من دون أي اختلاف بينهما ذاتا أصلا وانّما الاختلاف في أمر

ص: 313


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 206 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 420 - الطبعة الأولى.

خارج ، وهو تحقق التأثير بهذا الفرد دون ذلك. ومن الواضح ان التأثير ليس إلاّ عين وجود الأثر كما يصرح بذلك قدس سره ، فانّه كثيرا ما ينص على ان الإيجاد والوجود امر واحد لا أمران ، فأخذ التأثير في متعلق الأمر الغيري أخذ لوجود الواجب فيه ، وهو ما قصد الفرار منه ، وأمّا المؤثرية فهي عنوان انتزاعي عن تحقق التأثير والأثر نظير عنوان الإيصال ، فأخذه لا يختلف عن أخذ قيد الإيصال.

الثانية : - وهي المهمّة في المقام - ان المهم من المقدّمات الّذي يدور الكلام حوله ، لا يرتبط ترتب أثره فعلا بوجود سائر اجزاء العلّة وهو المعدات.

بيان ذلك : انّ الواجب تارة يكون من المسببات التوليدية التي لا يتوسط بينه وبين مقدماته الإرادة ، نظير الإحراق المترتب على النار. وأخرى يكون من الأفعال الإرادية الاختيارية التي لا تتحقق إلاّ بالإرادة المباشرة. ولا يخفى ان البحث انّما هو في القسم الثاني من الواجبات ، للمفروغية عن وجوب السبب التوليدي ، بل ذهب البعض إلى كونه متعلق الأمر النفسيّ حقيقة.

ومن الواضح انّ المقدمات التي تسبق الإرادة في الأفعال الاختيارية كلّها من قبيل المعدّ ، إذ المقتضي لتحقق الفعل ليس سوى الإرادة ، والفعل لا يتخلّف عنها ، وما يؤثر في فاعلية الإرادة وتأثيرها بحيث يكون دخيلا في حصول الفعل بنحو المباشرة فهو لا يعدو أفق النّفس بمقتضى قانون السنخية ، إذ الإرادة من افعال النّفس ، فلا يؤثر فيها ما هو خارج عن أفق النّفس. امّا المقدّمات الخارجية ، فكلّها من قبيل المعدّ شأنها تقريب المعلول لعلّته من دون أي تأثير مباشر في نفس حصول المعلول.

وعليه ، فنقول : إذا كان أثر المعد هو المقربية لا غير ، فهي متحققة بتحققه مطلقا ، وجد المعلول أو لم يوجد ، فالقرب من المكان المطلوب الكون فيه يحصل بنقل الخطي سواء أراد المكلّف تحقيق الفعل أو لم يرد. فلا يختلف الحال في المعد

ص: 314

من جهة ترتب أثره بين تحقق ذي المقدّمة وعدمه ، والمهم من المقدمات التي يقع البحث عنها هي من هذا القبيل ، فالإتيان بالماء للوضوء بل ونفس الوضوء ونحوه معد للصلاة مع الطهارة.

اما نفس الإرادة ، فالمفروض أنّه لا يتخلف عنها الواجب المراد ، ولو فرض تخلفه عنها فليس البحث في وجوبها وعدمه بذي أهمية أصلا.

وبالجملة : المقدمات المرغوبة لا يختلف حالها من حيث ترتب الأثر بين تحقق ذي المقدّمة وعدمه ، فالقول بان الواجب خصوص ما ترتب عليه أثره لا يلزمه اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة.

ومن الغريب ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من انّ المعد الّذي لا ينضم إليه سائر المقدمات مقرب بالقوة لا بالفعل.

وعلى هذا فما أفاده المحقق الأصفهاني في تصوير القول بالمقدّمة الموصلة لا يعرف له وجه سديد.

ونهاية الكلام : انّ أخذ عنوان المؤثرية أو الإيصال أو نحوهما في متعلق الوجوب الغيري ليس بمعقول ، لا لأجل ما تقدم ذكره من المحاذير ، فقد عرفت دفعه ، بل لأجل ان هذه العناوين لا تنتزع إلاّ عن ترتب الواجب وحصوله ، والمفروض انّ أخذها انّما هو لأجل كون الغرض حصول ذي المقدّمة ، فأخذ ما ينتزع عن حصوله فيما كان الغرض من وجوبه حصوله بديهي البطلان.

وامّا اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة لا بنحو أخذ قيد الإيصال ، بل بنحو يلازمه بالتقريبين اللذين عرفت أحدهما من المحقق العراقي والآخر من المحقق الأصفهاني ، فهو ممّا لا محصل له.

يبقى تصوير واحد ، وهو ما تقدّم الكلام فيه ، وهو ان يكون متعلق الحكم هو العلّة التامّة بمجموع أجزائها.

وهذا التصوير وان استحسناه فيما تقدم ، إلاّ انّه يمكن المناقشة فيه ممّا

ص: 315

عرفت من مناقشة كلام المحقق الأصفهاني.

وبيان ذلك : ان العلّة التامّة في الأفعال الاختيارية بمعنى ما يكون مؤثرا في حصول الواجب ، بحيث يكون حصول الواجب به ، ليس إلاّ الإرادة وتوابعها. امّا المقدمات الخارجية فوظيفتها ليس إلاّ الاعداد ومقربية الواجب للفاعل من دون ان يكون لها أي تأثير مباشر في حصول الواجب ، فانّها قد تحصل ولا يحصل الواجب أصلا.

وعليه ، فإذا فرض الالتزام بكون متعلق الوجوب هو العلّة التامّة لزم اختصاص الوجوب بالإرادة وشرائطها ، لأن المعدّ وان كان اصطلاحا من اجزاء العلّة التامّة ، ومقتضاه دخوله في ضمن الواجب الغيري ، إلاّ أنّه حيث كان الالتزام بوجوب العلّة التامّة انّما هو لأجل كون ملاك الوجوب الغيري حصول الواجب ، وقد عرفت انّ ما هو المحصل للواجب ليس إلاّ الإرادة وليس شأن المعد تحصيل الواجب وانّما شأنه مقربية الواجب ، فلا محالة يكون متعلق الوجوب ما به يحصل الغرض وهو الإرادة وشئونها.

ولا يخفى انّه لا يترتب أي أثر على وجوب الإرادة وعدمها ، وانّما الآثار العملية المفروضة انّما تفرض على تقدير وجوب المقدمات الخارجية ، وهي بهذا البيان خارجة عن دائرة متعلق الوجوب الغيري.

ومن هذا البيان تعرف السرّ في إصرار صاحب الكفاية على انّ ما يترتب على المقدّمة ليس إلاّ التمكن من الواجب دون حصول الواجب ، وان الغرض من وجوبها - على تقديره - لا بدّ وان يفرض التمكن لا الحصول لأنّه لا يترتب عليها.

فانّه قد اتضح انّ جميع المقدّمات لا تؤثر سوى المقربية والتمكن على الواجب لا غير.

ص: 316

وعليه ، فالمتعين الالتزام بوجوب مطلق المقدّمة.

وبهذا ينتهي تحقيق الحقّ في المقدّمة الموصلة.

يبقى شيء لا بأس بالإشارة إليه وهو : ما تعرض إليه المحقق النائيني قدس سره من بيان كلام صاحب الحاشية في المقدّمة الموصلة ، فانّه ذكر : انّه أنكر على صاحب الفصول الالتزام بأخذ قيد الإيصال في الوجوب الغيري ، وسلك طريقا آخر في تخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، وهو الالتزام بان الواجب هو المقدّمة من حيث الإيصال.

وقد أوضحه قدس سره بما ملخصه : ان الغرض من المقدّمة وملاك الوجوب الغيري لما كان التوصل إلى الواجب ، كان وجوب المقدّمة لأجل الإيصال ، وحينئذ فيختص الوجوب بصورة ترتب الواجب ووقوع المقدّمة في سلسلة العلّة التامّة ، لعدم توفر الملاك في غيرها ، ولكن لا بأن يؤخذ قيد الإيصال قيدا فيها لامتناعه كما عرفت. وان يكون الواجب هو المقدّمة في حال الإيصال. وبتعبير آخر : الواجب هو الحصّة التوأمة مع ذيها. فيكون القيد والتقييد خارجين. كما انّه لا يكون مطلقا من جهته ، لأنّ امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب ، كما ذهب إليه الشيخ رحمه اللّه . فالتزم بتعين الإطلاق في المورد الّذي يمتنع فيه التقييد. وانّما يكون مهملا ثبوتا من هذه الناحية ، لامتناع كلا الأمرين ، كما يمتنع ان تؤخذ الحيثية المزبورة بنحو نتيجة التقييد ، لأنّ الوجوب الغيري تابع للوجوب النفسيّ في شئونه وخصوصياته ، فكما لا يكون الوجوب النفسيّ بالنسبة إلى متعلقه إلاّ مهملا ولا تعرض لخطابه إلى حالتي وجوده وعدمه إطلاقا ولا تقييدا ولا بنحو نتيجة التقييد ، فكذلك الوجوب الغيري بالنسبة إلى ذي المقدّمة لا بدّ ان يكون مهملا كما هو مقتضى التبعية.

ص: 317

وهذا ملخص ما جاء في تقريرات الكاظمي (1). وقريب منه ما في أجود التقريرات (2).

والأمر الّذي لا بدّ من التنبيه عليه هو : انّ الظاهر من هذا البيان - مع غض النّظر عمّا في بعض جهاته من الإشكال - هو تصحيح كلام صاحب الحاشية الّذي نتيجته اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة. ولم يظهر منه الإشكال فيه. وهذا يتنافى مع التزامه بامتناع القول بالمقدّمة الموصلة ، وان الوجوب يتعلق بمطلق المقدّمة. فلاحظ.

ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة :

ثمّ انّه قد ذكر للنزاع المزبور ثمرة وهي : حرمة العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم ، لأن تركها يكون مقدمة للواجب فيكون واجبا فيحرم الفعل. هذا بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة. وامّا بناء على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فلا يكون الفعل حراما ، لأنّ الترك الواجب هو الترك الموصل لا مطلق الترك ، والفعل ليس نقيضا للترك الموصل لجواز ارتفاعهما معا والنقيضان لا يرتفعان.

وقد استشكل في هذه الثمرة بأنّ الفعل على كلا القولين لا يكون نقيضا للواجب لأنّ نقيض كل شيء رفعه فنقيض مطلق الترك هو عدمه ، وهو ينطبق على الفعل ، كما انّ نقيض الترك الموصل عدمه ، وهو ينطبق على الفعل وعلى الترك غير الموصل.

وعليه ، فكما يكون الفعل حراما على القول بوجوب مطلق الترك ، مع انّه

ص: 318


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1. 293 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2. 240 - الطبعة الأولى.

ليس بنقيض. وإنّما هو مصداق ما هو النقيض ، كذلك كونه حراما على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ، لأنه مصداق النقيض أيضا. وانّما النقيض على هذا القول له فردان ، وعلى القول الأول له فرد واحد ، وهو فرق غير فارق ، فالعبادة محرمة على كلا القولين في الفرض المزبور.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية بقوله : « وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فان الفعل في الأول لا يكون إلاّ مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، ولا يكاد يسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه أحيانا ، نعم لا بدّ ان لا يكون محكوما فعلا بحكم آخر خلاف حكمه ، لا ان يكون محكوما بحكمه ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني ، فانّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه ، لا ملازم لمعانده ومنافيه ، فان لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما ، لكنه متحد معه عينا وخارجا ، فإذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا. فتدبر جيدا » (1).

هذا محصل ما يذكر في إيضاح الثمرة ، ويقع الكلام في امرين :

الأول : في بيان مراد صاحب الكفاية من كلامه الّذي ساقه في تقريب الثمرة.

الثاني : في تحقيق الحال في صحة الثمرة وعدمها.

امّا كلام الكفاية ، فهو يختلف بتقريبه الثمرة عن التقريب الّذي أشرنا إليه بإجمال. كما أنّه يبدو غامضا لأول وهلة فقد قال قدس سره : « انّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب ، بناء على كون ترك الضد ممّا يتوقف عليه فعل ضده ، فان تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا ، ليكون فعلها محرما ، فتكون فاسدة ، بل فيما

ص: 319


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /121- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يترتب عليه الضد الواجب ، ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب ، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا ، فلا يكون فعلها منهيا عنه فلا تكون فاسدة » (1).

والّذي يظهر منه بدوا هو : كون قيد الإيصال مأخوذا للوجوب ، فبدونه لا وجوب. وعليه فمع الفعل لا يتحقق شرط الوجوب فلا يجب الترك.

ولكن هذا المعنى لا يمكن عادة ان ينسب إلى مثل صاحب الكفاية الّذي صرح بأنّ القائل بالمقدّمة الموصلة لا يقول بأنّ الإيصال قيد الوجوب بل هو قيد الواجب وهو بعد لم يبعد عن هذا المطلب كي يدعى إمكان الغفلة في حقه عن هذا الشيء. كما انّه لا يبقى مجال للإيراد وجوابه على هذا المعنى ، فانّه أجنبي عنه بالمرة كما لا يخفى على من له أدنى التفات.

وقد حمل المحقق الأصفهاني قدس سره عبارته على أخذ قيد الترتب والإيصال في النقيض ، فنقيض الترك الموصل لا بدّ وأن يؤخذ فيه الإيصال. فالفعل لا يكون نقيضا للترك الموصل لأنّه غير موصل.

وأورد عليه : بأنه لا يعتبر في النقيض أخذ القيد المأخوذ في بديله ، لأنّ نقيض كل شيء رفعه ، فليس نقيض الجسم الأبيض غير الجسم الأبيض ، بحيث يكون الأبيض قيدا للغير لا للجسم (2).

والتحقيق : انّه يمكن أنّ يكون مراد الكفاية معنى غير ما ذكر ، خال عن الإشكال ، وهو ان يقال : انّ الواجب إذا كان هو المقدّمة الموصلة والوجوب يتعلق بها ، فلا كلام انّ تأثير الوجوب في المقيد انما يكون عند تحقق قيده ، فبدونه لا يقع على صفة الوجوب ، فالصلاة بدون الطهارة لا تقع على صفة الوجوب وان كانت الطهارة قيدا للواجب.

ص: 320


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /121- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 210 - الطبعة الأولى.

وعليه ، ففي ظرف عدم الإيصال وهو ظرف الفعل لا يكون الترك على تقدير وقوعه واقعا على صفة الوجوب ، لعدم حصول قيده الّذي به يكون واجبا ، وإذا كان الترك في هذه الحال غير واجب كان نقيضه وهو الفعل غير حرام.

وبالجملة : بلحاظ ظرف عدم الإيصال لا يكون نقيض الفعل لو تحقق مكانه وبدله واجبا فلا يحرم الفعل. وهذا المعنى لا إشكال فيه.

واما تحقيق الحال في صحة الثمرة ، فقد استشكل فيها المحقق الأصفهاني - بعد تقريبها بما عرفته - أولا : بان القول بالمقدمة الموصلة يرجع اما إلى الالتزام بوجوب العلة التامة ، أو بوجوب ذات المقدمة ولكن بقيد تأثيرها.

وعليه ، فالواجب على الأول - فيما نحن فيه - هو الترك مع الإرادة فانه العلة التامة. ومن الواضح ان نقيض المركب الاعتباري انما يكون عبارة عن نقيضي الجزءين ، لأنه لا واقع له الا الجزءين ، إذ الاعتبار نقيضه عدمه. وعليه فنقيض الواجب فيما نحن فيه هو الفعل مع عدم الإرادة ، فيكون مجموع الفعل مع عدم الإرادة محرما. ومن الواضح انه مع الفعل لا يمكن تحقق الإرادة ، فيتحقق المحرم فيكون الفعل محرما ضمنا. وبنحو هذا البيان قرب تحريم الفعل على الالتزام الثاني (1).

وفيه - مع قطع النّظر عما أفاده في بيان نقيض المركب الاعتباري - :

أولا : ان هذا انما يتوجه على التقريب الّذي ذكره للثمرة. اما التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية بالبيان الّذي عرفته فلا يتوجه عليه ما ذكره ، فانا نقول : ان الفعل في ظرف عدم الإيصال لا يكون نقيضا لما هو واجب وهو الترك فلا يكون محرما.

ودعوى : ان الفعل مع عدم الإرادة نقيض ما هو الواجب فيكون محرما

ص: 321


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 210 - الطبعة الأولى.

كما جاء في الإشكال.

تندفع : بان الحرمة المتعلقة بأحد النقيضين من جهة وجوب الآخر - بتقريب أنها غير وجوب الآخر - انما تثبت في ظرف يكون النقيض فيه متصفا بالوجوب بحيث يؤثر فيه الحكم ، بحيث لو وقع النقيض بموقع الآخر لكان واجبا ، وقد عرفت ان الترك في ظرف عدم الإيصال لا يكون متصفا بالوجوب ، فلا يكون الفعل محرما لأن بديله في ظرفه غير واجب. فتدبر.

وثانيا : ان نقيض المركب إذا كان عبارة عن نقيضي الجزءين ذاتيهما. كان مقتضى ذلك تعلق الحرمة بذاتي النقيضين ، فأخذ وصف المجموع في متعلق الحرمة لم يعلم له وجه محصل.

وعلى تقدير تعلق الحرمة بذاتي الجزءين يأتي الكلام الّذي عرفته في تقريب عبارة الكفاية. فلاحظ.

وخلاصة الكلام : ان تقريب الثمرة بما جاء في الكفاية بالبيان الّذي ذكرناه لا نعرف فيه مناقشة.

إلاّ ان أصل الثمرة بجميع أنحاء تقريباتها تتوقف على مقدمة أشار إليها في الكفاية وهي : كون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر حتى يتصف بالوجوب ، وإلاّ لم يكن واجبا فلا يكون فعل الضد محرما.

والحق كما سيأتي هو عدم مقدمية ترك أحد الضدين للضد الآخر ، لكونهما في رتبة واحدة ، والمقدمية تتوقف على اختلاف الرتبة فانتظر لذلك مزيد تحقيق واللّه تعالى هو الموفق.

واعلم أن المحقق النائيني ذكره ثمرة الاختلاف بين مسلك صاحب الفصول وأخيه صاحب الحاشية في المقدمة الموصلة ، وذلك في المقدمة المحرمة :

فانها تقع محرمة على مسلك صاحب الفصول إذا لم يترتب عليها الواجب من دون احتياج إلى الالتزام بالترتب ، إذ المقدمة على مسلكه تنقسم إلى قسمين :

ص: 322

ما يكون موصلا وهو واجب ، وما لا يكون موصلا وهو محرم لعدم ما يرفع الحرمة لأنه ليس بواجب أصلا.

واما بناء على مسلك أخيه فلا تقع المقدمة على صفة الحرمة إلاّ بنحو الترتب ، لأن الواجب هو ذات المقدمة من دون تقييد له بقيد الإيصال ، بل عرفت أنه مهمل من ناحيته ، فليس هناك قسمان للمقدمة يتصف أحدهما بالوجوب دون الآخر. وعليه فلا تقع محرمة إلاّ بنحو الترتب وهو ان تعلق الحرمة على عصيان الوجوب ، فتكون الحرمة مشروطة بعصيان الوجوب - كما هو المقرر في باب الترتب من تعليق وجوب أحد الضدين على عصيان وجوب الضد الآخر الأهم لارتفاع المزاحمة -.

لكنه قدس سره استشكل في تقريب الترتب بهذا النحو ببيان : ان الترتب وان صححناه في بابه ، لكنه انما يصح بالنسبة إلى الحكمين الواردين على موضوعين ، فيكون الحكم المتعلق بهذا الموضوع ثابتا عند عصيان الحكم المتعلق بالموضوع الآخر ، كما في مثال مزاحمة وجوب أحد الضدين لوجوب الآخر ، كمزاحمة وجوب الإزالة لوجوب الصلاة ، فان موضوع الحكمين متعدد.

اما الحكمان المتعلقان بموضوع واحد فلا يصح الترتب فيهما.

وسرّه هو : ان عصيان أحد الحكمين يلازم الإتيان بمتعلق الآخر ، فلا معنى لثبوت الحكم الآخر لتحقق متعلقه ، فان عصيان الوجوب بالترك ، فلا معنى للحرمة حينئذ. كما ان عصيان الحرمة بالفعل ، فلا معنى حينئذ للوجوب. وسيأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّه تعالى. وما نحن فيه كذلك ، لأن الحرمة والوجوب يتعلقان بالمقدمة ، فلا معنى لفرض الترتب بينهما.

نعم يمكن فرض ترتب حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فتكون حرمة العبور في الأرض المغصوبة مشروطة بعصيان وجوب إنقاذ الغريق ، وهو لا مانع منه ، لتعدد متعلق الحكمين فيصح فرض الترتب.

ص: 323

هذا ملخص ما أفاده المحقق النائيني بتوضيح منا (1).

وقد أورد المحقق الخوئي على ما ذكره أخيرا من فرض الترتب بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة : بأنه يستلزم أولا طلب الحاصل. وثانيا عدم كون ترك الواجب مخالفة وعصيانا.

اما استلزامه لطلب الحاصل ، فلان وجوب الشيء يتوقف على القدرة عليه ، والقدرة عليه تتوقف على القدرة على مقدماته ، وهي تتوقف على جوازها شرعا ، فإذا فرض تعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة فلازمه فرض جواز المقدمة في صورة عدم عصيان وجوب ذي المقدمة وهي فرض الإتيان به ، وقد عرفت ان الأمر به يتوقف على جواز مقدمته ، لاعتبار القدرة عليه في صحة الأمر ، فيكون الأمر به في فرض الإتيان به وهو طلب للحاصل.

واما عدم كون تركه مخالفة وعصيانا ، فلأنه إذا فرض كون المقدمة محرمة على تقدير عصيان الأمر بذي المقدمة ، فمع ترك ذي المقدمة تكون المقدمة محرمة فيكون ذيها غير مقدور ، فلا يكون مأمورا به ، فلا يتحقق العصيان بتركه ، لعدم الأمر به لأجل عدم القدرة عليه (2).

والإنصاف : ان كلا من الوجهين غير وارد.

اما عدم ورود الوجه الأول ، فوضوحه يتوقف على ذكر أمرين :

الأول : ان موضوع الترتب ما إذا كان التنافي بين الحكمين في مقام امتثالهما ، لا ما إذا كان التنافي بينهما في أنفسهما. وذلك لأن تصحيح الترتب وفرضه إنما هو لأجل رفع المنافرة بين الحكمين في مقام الامتثال مع الالتزام بثبوتهما معا.

ولأجل ذلك لا يشمل ما إذا كانت المنافرة بين الحكمين ذاتية ، كالحرمة

ص: 324


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 242 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 424 - الطبعة الأولى.

والوجوب الواردين على موضوع واحد ، فانهما ضدان لا يجتمعان ، ولا يجدي الترتب في رفع المنافرة بينهما أصلا.

وهذا أمر مسلم لدى الملتزمين بالترتب ، وتحقيقه سيجيء في محله ان شاء اللّه تعالى.

الثاني : ان عدم القدرة على نحوين : عدم القدرة على الشيء في نفسه ، وعدم القدرة على الشيء من جهة المزاحم.

فالأولى : نظير عدم قدرة المشلول على الصعود إلى السطح.

والثانية : نظير عدم القدرة على إنقاذ أحد الغريقين ، فان القدرة على الإنقاذ في نفسه ثابتة ، لكن عدم القدرة عليه لأجل المزاحم ، لأن كلا من الحكمين بمقتضى دعوته إلى متعلقه وتحريكه نحوه يحاول صرف القدرة في متعلقه ، فيكون عدم القدرة على إنقاذ كل غريق لأجل مزاحمتها بحكم شرعي.

والقدرة المعتبرة في صحة التكليف هي القدرة عليه في نفسه لا من جهة عدم المزاحم ، فان أساس الالتزام بالترتب على ذلك. فعدم القدرة لأجل المزاحمة لا يمنع من الأمر.

وهذا أمر مسلم كسابقه ، وسيتضح في مبحث الترتب. فانتظر.

إذا عرفت ذلك نقول : ان الأمر بذي المقدمة في الفرض لا يتوقف على جواز مقدمته لأنه وان لم يكن مقدورا بدون جوازها إلاّ ان عدم القدرة عليه لأجل المزاحم وهو الحرمة ، وإلاّ فالقدرة عليه في نفسه حاصلة ، وقد عرفت ان عدم القدرة لأجل المزاحم لا يمنع من الأمر والبعث ، فما ذكر من ان الأمر بذي المقدمة يتوقف على جواز المقدمة المتوقف على الإتيان بذي المقدمة ، غريب جدا بعد ما عرفت من تسليم عدم مانعية عدم القدرة لأجل المزاحم للأمر.

وأشدّ منه غرابة هو الإيراد بالوجه الثاني : فان الحرمة - على الفرض - معلقة على العصيان ، فيستحيل ان يكون ذلك مستلزما لعدم تحقق العصيان ،

ص: 325

فان وجود الحرمة إذا كان فرع العصيان كان ذلك لازما لوجود الأمر ، إذ العصيان فرع وجود الأمر ، فكيف تكون حرمة المقدمة موجبة لعدم تحقق العصيان وعدم الأمر بالواجب؟ ، فانه خلف ، بل يستلزم ان يلزم من وجود الحرمة عدمها ، لأن وجود الحرمة انما يكون مترتبا على العصيان ، فإذا كان وجودها لازمه عدم الأمر فلا عصيان ، كان لازم ذلك ارتفاعها لعدم شرطها وهو العصيان ، فيلزم من وجودها عدمها.

ولعل الوجه في ذكر هذا الإيراد : ما تقدم من صاحب الكفاية من ذكره ردا على تجويز المنع عن المقدمة غير الموصلة. ولكنه غفلة عن ان المنع مقيد هناك بعدم الإيصال وهو امر تكويني خارجي لا يرتبط بالأمر ، والمنع هنا مقيد بالعصيان وقد عرفت انه لا يستلزم ما ذكر فما ذكرناه من الإيراد لا يرد على صاحب الكفاية. فتدبر.

هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة (1). ننتقل بعده إلى الكلام في.

ثمرة المسألة

وقد ذكر لها ثمرات متعددة. كبرء النذر بفعل المقدمة بناء على الوجوب لو نذر فعل الواجب. وحصول الإصرار على الحرام بترك واجب مع مقدماته الكثيرة بناء على وجوبها ، وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة لو قيل بوجوبها بناء على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات.

وقد نوقش فيها : بأنها لا تصلح ثمرة للمسألة الأصولية ، لأنها بذلك لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي. بل في مقام تطبيق الكبرى الكلية

ص: 326


1- ولم يتعرض سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) إلى البحث عن الأصلي والتبعي ، لأنه مما لا أثر له عملي أصلا ، ولم يعرف ربطه بجهة من جهات بحث المقدمة. فالتفت.

على مصاديقها.

كما ذكر صاحب الكفاية عن الوحيد البهبهاني رحمه اللّه بيان الثمرة بنحو آخر وهو : صيرورة المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي في المقدمة المحرمة بناء على الوجوب. وناقش فيه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة استشكل في بعضها (1).

ونحن بعد ان بينا سابقا ثمرة المسألة لا نرى حاجة إلى تحقيق هذه الثمرات ومعرفة صحتها وعدمها. فقد ذكرنا سابقا ان الثمرة هي صيرورة المورد من موارد التعارض بناء على الوجوب لو كانت المقدمة محرمة ، بمعنى انه يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة ، لأن وجوب ذي المقدمة لما كان لازما ذاتا لوجوب المقدمة المنافي لحرمتها ، بحيث لا يمكن التفكيك بين وجوبيهما ، كان دليل الحرمة منافيا لدليل وجوب ذي المقدمة لعدم إمكان الالتزام بهما معا لتنافي مدلوليهما ، إذ منافاة الحرمة لوجوب المقدمة ملازمة لمنافاتها لوجوب ذي المقدمة بعد فرض عدم إمكان التفكيك بينهما ، فيكون دليل الحرمة معارضا لدليل الوجوب.

واما بناء على عدم الوجوب ، فيكون المورد من موارد التزاحم ، بمعنى انه يقع التزاحم بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة ، لعدم إمكان امتثال كلا الحكمين من دون منافاة بينهما في أنفسها. فلاحظ وتدبر.

فأثر المبحث ، هو : تنقيح صغرى من صغريات باب التزاحم أو باب التعارض الّذي يترتب على كل منهما آثار عملية فقهية مهمة ، وسيأتي عن قريب إن شاء اللّه تعالى تحديد باب التزاحم وباب التعارض وفصل كل منهما عن الآخر. فانتظر.

ص: 327


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /124- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يبقى الكلام في أمرين :

أحدهما : البحث في الأصل للمسألة الّذي يرجع إليه مع الشك.

ثانيهما : البحث عن الدليل على وجوب المقدمة.

تأسيس الأصل في المسألة

اما البحث عن الأصل في المسألة فتحقيقه : ان موضوع الأصل تارة : يلحظ المسألة الأصولية أعني الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

وأخرى : يلحظ المسألة الفقهية أعني نفس وجوب المقدمة.

والأصل الّذي يمكن فرضه في المقام هو الاستصحاب.

وهو لا يجري في المسألة الأصولية ، وذلك لأن الملازمة بين الوجوبين - بأي معنى فسّرت من كونها أمرا واقعيا ، أو انتزاعيا ينتزع عن حصول أحد المتلازمين عند حصول الآخر ، أو كونها عبارة عن دوام حصول الجزاء عند حصول الشرط - ليست لها حالة سابقة لأنها أزلية ، فان كانت فهي أزلية الوجود وان لم تكن فهي أزلية العدم. وعليه فلا يقين في مرحلة الحدوث بأحد الطرفين كي يستصحب. ومن الواضح ان جريان الاستصحاب يتوقف على اليقين بالحدوث.

واما وجوب المقدمة ، فهو مسبوق بالعدم لعدم تحققه قبل وجوب ذي المقدمة ، فيستصحب عدمه بعد وجوب ذيها.

وقد استشكل في هذا الاستصحاب من وجوه :

الأول : ان وجوب المقدمة على تقدير ثبوته ليس مجعولا مستقلا ، بل هو من قبيل لوازم الماهية فلا تناله يد الجعل إثباتا ونفيا.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بأنه وان كان من لوازم الماهية إلا أنه يكون مجعولا يتبع جعل وجوب ذي المقدمة. وهذا الجعل التبعي يكفي في صحة كونه

ص: 328

امرا بيد الشارع ، إذ لا يعتبر كونه بيده مباشرة (1).

والكلام مع صاحب الكفاية في جوابه من جهتين :

الأولى : ما ذكره من تسليم كون وجوب المقدمة بالإضافة إلى وجوب ذيها من قبيل لوازم الماهية. فانه عجيب منه قدس سره ، فان لازم الماهية لا يكون له وجود مستقل منحاز عن وجود الماهية ، بل يكون امرا انتزاعيا ينتزع عن ذات الماهية في أي عالم وجدت من ذهن أو خارج. كالزوجية بالإضافة إلى الأربع.

ووجوب المقدمة ليس كذلك ، فان له وجودا منحازا عن وجوب ذي المقدمة ، غاية الأمر انه ينشأ منه. فان من يدعي وجوب المقدمة يدعي تعلق الإرادة الغيرية بالمقدمة ، فهناك إرادتان وشوقان : أحدهما يتعلق بالمقدمة. والآخر يتعلق بذيها.

الثانية : ما ذكره من كفاية الجعل بالعرض في صحة الاستصحاب.

والكلام في هذه الجهة موكول إلى محله في مبحث الاستصحاب ، في مقام تحقيق صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية والشرطية من الأمور الانتزاعية التي لا وجود لها الا منشأ انتزاعها ، وان نفيها هل يرجع إلى نفى منشأ انتزاعها أو لا يرجع إلى ذلك؟. فانتظر.

الثاني : ان وجوب المقدمة لو ثبت ، فهو غير اختياري للشارع ، لأنه لازم قهري لوجوب ذي المقدمة ، وإذا لم يكن اختياريا لم يجر الأصل فيه ، لأنه غير قابل للوضع والرفع.

وفيه : انه وان لم يكن اختياريا عند حصول وجوب ذي المقدمة ، لكنه قبل حصوله اختياري لأنه مقدور عليه بالواسطة ، فهو كالمسبب التوليدي بعد حصول سببه ، فانه لا مانع من جريان الأصل فيه لأنه اختياري باختيارية سببه.

الثالث : ان وجوب المقدمة لا يترتب عليه أي أثر عملي ، وجريان الأصل

ص: 329


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /125- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

انما يكون بلحاظ الأثر العملي.

وفيه : ان ما أشير إليه من الثمرات العملية المتعددة للمسألة يكفي في صحة جريان الأصل ، وان لم تكف في إثبات أصولية المسألة ، وهي الجهة التي يتركز النقاش فيها بلحاظها.

الرابع : ما ذكره في الكفاية من ان جريان الأصل يستلزم احتمال التفكيك بين المتلازمين ، لأن احتمال الملازمة موجود ، فالحكم بعدم وجوب المقدمة فيه احتمال التفكيك بين المتلازمين ، واحتمال التفكيك بينهما محال كنفس التفكيك.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان الدعوى ان كانت هي الملازمة بين الحكمين الإنشائيين فلا ورود للإشكال ، لأن الأصل لا نظر له إلى الحكم الإنشائي ولا يرتبط بمقام الإنشاء. وان كانت هي الملازمة بين الحكمين في مراتبهما - يعني ولو كانا فعليين - كان الإشكال في محله ، وحينئذ لا يصح التمسك بالأصل وصح التمسك بالإشكال في إثبات بطلان الأصل ، كما جاء في بعض النسخ الأخرى للكتاب (1).

أقول : من الغريب ما ذكره صاحب الكفاية من الترديد ، فان دعوى كون الملازمة بين الحكمين الفعليين لا مجال للترديد فيها ، إذ الفرض ان الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الإرادتين والشوقين الفعليين. وأين هذا من الملازمة بين الحكمين الإنشائيين.

وعلى كل ، فيمكن الجواب عن الإشكال المذكور : بان احتمال التفكيك لا يجدي في منع التمسك بالأصل بعد مساعدة الدليل عليه ، فان العقلاء لا يعتنون بمجرد الاحتمال.

كما أفاد هذا البيان الشيخ رحمه اللّه في دفع الإشكال على جواز التعبد

ص: 330


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /126- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالظن ، بأنه وان كان لا طريق إلى الجزم باستحالته إلاّ انه يحتمل ذلك ، واحتمال الاستحالة يكفي في الحكم بالمنع.

فقد دفعه : بان احتمال استحالة التعبد لا يضير ولا يعتنى به عقلائيا بعد مساعدة الدليل الإثباتي على التعبد. فلاحظ (1).

تحقيق أصل المبحث

واما تحقيق أصل المبحث وما هو مدار البحث بين الأعلام من وجوب المقدمة وعدمه. فقد وصلت النوبة إليه وقد اختلفت الأقوال في وجوب المقدمة وعدمه والتفصيل بين الواجب منها وغيره.

ولا يهمنا التعرض إلى التفصيلات سوى ما قد يقال من التفصيل بين السبب التوليدي فلا يجب ، وغيره من المقدمات فيجب. بتقرير : ان السبب التوليدي متعلق للأمر النفسيّ الثابت للمسبب ، لأن الأمر انما يكون لإحداث الداعي والإرادة للمأمور به ، والمسبب التوليدي لا يمكن فيه إعمال الإرادة مباشرة ، لأنه يخرج عن الاختيار بحصول سببه ، بل الإرادة تتعلق بسببه ، فالامر النفسيّ في الحقيقة يتعلق بالسبب. فإذا وجب القتل فقد وجب الرمي وهكذا.

وللمحقق النائيني رحمه اللّه كلام في المقام محصله : ان الأسباب والمسببات التوليدية على قسمين :

الأول : ما يكون لكل منهما وجود منحاز عن الآخر كالرمي والقتل ، والأكل والشبع ، فان وجود القتل والشبع غير وجود الرّمي والأكل.

الثاني : ما لا يكون للمسبب وجود غير وجود السبب ، فلا يكون الا وجود واحد يعبر عنه بعنوان السبب تارة والمسبب أخرى ، كالغسل والتطهير والإلقاء

ص: 331


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /24- الطبعة الأولى.

والإحراق. فان كلا منهما متحد وجودا مع مسببه.

اما القسم الأول ، فالامر انما يتعلق بالمسبب ، لأنه هو المحصل للملاك ، ولا معنى لصرف الأمر عنه إلى سببه لأنه اختياري بالواسطة وهو يكفي في صحة التكليف ، فيقع الكلام في وجوب السبب بالوجوب الغيري وعدمه.

واما القسم الثاني ، فهو خارج عن محل النزاع ، لأن الأمر إذا تعلق بأحدهما فقد تعلق بالآخر قهرا ، لأنهما واقعا امر واحد متعدد العنوان. وعليه فلا معنى للنزاع في انه إذا وجب المسبب هل يجب السبب بالوجوب الغيري أو لا يجب؟ (1).

أقول : ما ذكره من فصل القسمين وإدخال أحدهما في محل النزاع دون الآخر مسلم كبرويا كما أفاد قدس سره ، انما الإشكال فيما ساقه للقسم الثاني من الأمثلة كالغسل والتطهير والإلقاء والإحراق ، لأن هذه الأمثلة من القسم الأول ، لأن التطهير له وجود غير وجود الغسل ، كيف والتطهير موجود اعتباري والغسل موجود حقيقي واقعي؟! ، كما ان وجود الإحراق غير وجود الإلقاء ، لأن الإحراق عبارة عن إيجاد الحرقة ، وإيجاد الحرقة ووجودها متحدان واقعا وحقيقة ومتغايران اعتبارا ، كما هو شأن كل إيجاد شيء ووجوده. ومن الواضح ان وجود الحرقة غير وجود الإلقاء خارجا وحقيقة.

وبالجملة : لو وجد خارجا وجود واحد ذو عنوانين - كما قد نعثر له على مثال في مبحث اجتماع الأمر والنهي - تمّ فيه ما ذكره من خروجه عن محل الكلام واختصاص محل الكلام في القسم الأول.

وعليه ، فالكلام في وجوب المقدمة وعدمه يشمل الأسباب التوليدية كما يشمل غيرها.

ص: 332


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 219 - الطبعة الأولى.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى وجوب المقدمة ، واستشهد على ذلك بالوجدان ، فانه يشهد على ان من أراد شيئا أراد مقدماته ، واستشهد على هذا المعنى بوجود الأوامر الغيرية في الشرع والعرف ، كما يقول المولى لعبده : « ادخل السوق واشتر اللحم » فان الأمر بدخول السوق على حد الأمر بشراء اللحم ، فيكون امرا مولويا. ومن الواضح انه لا خصوصية لهذه المقدمة ، بل باعتبار وجود الملاك فيها ، وليس إلا المقدمية والتوقف. فيكشف ذلك عن وجوب جميع المقدمات بالوجوب المولوي الغيري. ثم تعرض قدس سره إلى ذكر دليل الحسن البصري على وجوب المقدمة الّذي هو كالأصل لأدلة القوم - كما ذكر قدس سره - ، وناقشه بعد إصلاحه بتعيين المراد من بعض اصطلاحاته (1).

ولكن الحق عدم وجوب المقدمة ، إذ الوجدان لا يشهد بذلك ، كما ان ما استشهد به من الأوامر العرفية المتعلقة بالمقدمة لا يصلح للشهادة على ما يحكم به الوجدان ، إذ ليست هذه الأوامر أوامر مولوية ، بل هي إرشادية ، وذلك لأن الأمر المولوي انما يجعل لجعل الداعي في نفس المكلف إلى العمل وتحريكه نحوه ، والأمر الغيري لا صلاحية له لذلك كما تقدم بيان ذلك. فان العبد ان كان بصدد امتثال امر ذي المقدمة جاء بالمقدمة كان هناك أمر بها أو لم يكن ، وان لم يكن بصدد امتثاله لم يكن الأمر الغيري داعيا للإتيان بها بما هو أمر غيري ، فلا صلاحية للأمر الغيري للدعوة والتحريك ، فلا بد ان تكون هذه الأوامر المفروض تعلقها بالمقدمة أوامر إرشادية تتكفل الإرشاد إلى مقدمية الشيء وتوقف الواجب عليه.

وخلاصة الكلام : انه لم يثبت لدينا وجوب المقدمة لعدم الدليل عليه. ولو ثبت فهو يشمل مطلق المقدمات الموصلة وغيرها والسبب التوليدي وغيره.

ص: 333


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /126- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تذنيب : لا يخفى انه لو التزم بوجوب مقدمة الواجب ، فلازمه الالتزام باستحباب مقدمة المستحب بعين الوجه القائم على وجوب مقدمة الواجب.

واما مقدمة الحرام ، فقد ادعي ان المحرم منها - على القول بالملازمة بين حكم الشيء وحكم مقدمته - هو ما لا يتوسط بينهما وبين ذيها اختيار وإرادة ، وهي الأسباب التوليدية في المحرمات التوليدية ، كالرمي بالنسبة إلى القتل المحرم ، والإرادة في المحرمات الإرادية - بناء على صحة تعلق التكليف بها -.

اما غير هذا النحو من المقدمات كالمعدات ونحوها فلا يكون محرما.

وقد قرب صاحب الكفاية خروجها عن دائرة التحريم : بان التحريم عبارة عن طلب الترك ، فيكون الترك واجبا ، فتكون مقدماته واجبة أيضا ، فكل مقدمة يكون تركها مما يتوقف عليه ترك الحرام تكون واجبة الترك ، ومن الواضح ان ترك الحرام لا يتوقف على ترك سائر المقدمات ، إذ الاختيار لا يسلب بفعلها ، فيتحقق الترك مع فعلها ، وهو دليل عدم التوقف ، فما يتوقف عليه ترك الحرام ليس إلاّ الإرادة في الأفعال الاختيارية والسبب التوليدي في الأفعال التوليدية (1).

ولكن هذا التقريب لا يجدي من يذهب إلى ان النهي ليس طلب الترك ، بل هو الزجر عن الفعل ، فلازمه الزجر عن مقدماته ، لأن متعلق النهي نفس الفعل.

وغاية ما يقرب به نفي حرمة سائر المقدمات - بناء على هذا المعنى - ان يقال : ان وجوب المقدمة أو حرمتها بما انه مترشح عن وجوب ذيها أو حرمته ، فثبوت الوجوب لها أو الحرمة فرع دخالتها في ثبوت ملاك الوجوب والحرمة بنحو دخالة ذيها فيهما. وبما ان حرمة الشيء تنشأ عن وجود المفسدة في فعله أو

ص: 334


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /128- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المصلحة الملزمة في تركه ، بحيث لو لا تركه لوجدت المفسدة أو فاتت المصلحة ، فمقدمة الحرام انما تحرم إذا كان لها هذا الأثر وهو منحصر بالمقدمة التوليدية. اما غيرها ففعله لا يلازم وجود الحرام ، كي يقال انه لو لا تركه لوجدت المفسدة أو فاتت المصلحة. وبنظير هذا البيان يثبت وجوب مقدمة الواجب ، إذ وجوب الواجب لأجل اشتماله على مصلحة ملزمة أو لأجل ان في تركه مفسدة ملزمة بحيث لو لا فعله لفاتت المصلحة أو وجدت المفسدة لأن تركها يلازم ترك الواجب. فلاحظ وتدبر فانه لا يخلو عن دقة.

ثم ان الكلام الجاري في مقدمة الحرام يجري بعينه في مقدمة المكروه حرفا بحرف. فاعرف.

هذا تمام الكلام في مبحث المقدمة ، وقد انتهى البحث فيه في يوم السبت المصادف الخامس من ذي القعدة سنة 1385 ه. نسأل اللّه تعالى التوفيق والهداية إلى سواء السبيل إنه حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 335

ص: 336

الضّد

اشارة

ص: 337

ص: 338

مبحث الضد

اشارة

موضوع البحث هو : أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا يقتضي؟ وهو من المباحث الأصولية والعقلية ، ولا نطيل في بيان ذلك لوضوحه من ملاحظة نحو البحث ونتيجته.

نعم لا بأس بالتنبيه على ما يراد من الاقتضاء ، وما يراد من الضد ، كما فعل صاحب الكفاية لتحديد محل البحث ومدار الكلام. فنقول :

المراد بالاقتضاء - كما ذكره صاحب الكفاية (1) وتابعة عليه غيره - : أعم من ان يكون بنحو العينية - كما ادعي في بعض الفروض - أو الجزئية - كما ادعي أيضا ذلك بلحاظ تركب الأمر - ، والالتزام أعم من كونه لزوما بينا بالمعنى الأخص وغيره وبتعبير آخر نقول : المراد بالاقتضاء هو اللابدّية من أي طريق كانت.

واما الضد ، فالمراد منه : مطلق المنافي والمعاند ، سواء كان امرا وجوديا - وهو المعبر عنه بالضد الخاصّ - أو كان امرا عدميا - وهو المعبر عنه بالضد

ص: 339


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /129- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العام ، ويعبر عنه أيضا بالترك - وليس المراد منه هو الضد بالمعنى الفلسفي المختص بالأمر الوجوديّ المعاند لغيره تمام المعاندة ، فلا يشمل الضد العام. وهناك معنى آخر للضد العام ، وهو الأمر الوجوديّ الجامع للأضداد الوجودية. وهذا لا كلام لنا فيه ، بل هو خارج عن موضوع الكلام.

وعلى هذا ، فينبغي إيقاع الكلام في مسألتين :

الأولى : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد الخاصّ.

والثانية : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام وهو الترك.

المسألة الأولى : في ان الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده الخاصّ أو لا؟.

وقد ادعي اقتضائه النهي عن ضده الخاصّ لوجوه :

أهمها وعمدتها - ما ذكره صاحب الكفاية - : من دعوى مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر.

بيان ذلك : ان عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، ومما يتوقف عليه الضد الآخر ، فإذا وجب أحدهما وجبت مقدماته ومنها عدم ضده ، فإذا وجب ترك ضده فقد حرم ضده قهرا.

اما تقريب مقدمية ترك أحد الضدين للآخر : فبان التمانع والتنافر بين الضدين مما لا شبهة فيه ، وإذا كان كل من الضدين مانعا عن حصول الآخر كان عدم كل منهما من أجزاء علة الآخر ، لأن عدم المانع من اجزاء العلة ، وقد فرض مانعية الضد فعدمه من اجزاء علة ضده ، وإذا كان من اجزاء العلة كان من المقدمات.

فهاتان المقدمتان هما أساس دعوى مقدمية عدم الضد للضد الآخر.

وعلى هذا فينبغي ان يكون البحث في مقدمية ترك أحد الضدين للضد الآخر. وقد ذكر فيها وجوه :

ص: 340

الأول : مقدمية عدم كل منهما للآخر مطلقا.

والثاني : عدم المقدمية مطلقا.

والثالث : التفصيل بين الضد الموجود والضد المعدوم ، فعدم الأول مقدمة دون عدم الثاني.

والرابع : مقدمية العدم للوجود دون مقدمية الوجود للعدم.

والخامس : مقدمية الوجود للعدم دون العكس.

والّذي ذهب إليه المتأخرون تبعا لسلطان العلماء هو عدم المقدمية بقول مطلق.

وقد ناقش صاحب الكفاية قدس سره القول بالمقدمية بوجوه ثلاثة :

الأول : انه يستلزم الدور ، وذلك لأن عدم أحد الضدين إذا كان مقدمة للآخر من باب انه عدم المانع فيكون من اجزاء علته ، كان وجود أحد الضدين مقدمة لعدم الآخر أيضا ، لتوقف عدم الشيء على مانعة كما يتوقف نفس الشيء على عدم مانعة ، فيكون عدم أحدهما متوقفا على وجود الآخر ، كما ان وجود الآخر يتوقف على عدم ضده ، فيلزم الدور الباطل.

الثاني : النقض بالمتناقضين ، وبيانه : انه لا إشكال في ان بين المتناقضين منافرة ومعاندة شديدة وأكيدة ، مع انه من المسلم كون أحدهما في رتبة عدم الآخر ، وليس عدم أحدهما مقدمة للآخر ، كيف؟ وهو يستلزم ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، لأن عدم أحدهما نفس الآخر.

وعليه ، فمجرد وجود المعاندة لا تستلزم مقدمية أحد المتمانعين للآخر ، وإلاّ لكان انطباق ذلك على المتناقضين أنسب لما بينهما من شدة المعاندة والممانعة.

الثالث : - وهو ما ذكره في الكفاية أولا ، وعبارة الكفاية لا تخلو عن تشويش ، وقد حملها المحقق الأصفهاني على إرادة ما بيانه : - انه لا إشكال في كون كل من الضدين مع الآخر في رتبة واحدة ، فليس أحدهما متقدما على الآخر ، ومن

ص: 341

المسلمات أيضا ان وجود كل ضد وعدمه في رتبة واحدة ، فانهما يتواردان على محل واحد ، فعدم الشيء في رتبة وجوده بلا إشكال. وعليه فيكون عدم كل ضد في رتبة الضد الآخر قهرا ، لأنه في رتبة نفس الضد ، والمفروض بالمقدمة الأولى ان نفس الضد في رتبة ضده الآخر (1).

وهذا الوجه لا يصلح ان يكون بيانا لعبارة الكفاية ، فانها بعيدة جدا ، بل أجنبية عن هذا المعنى وتأبى الحمل عليه بأي وجه من الوجوه ، وهو يظهر بأدنى ملاحظة. وعليه فكان الأولى ان يذكر وجها مستقلا في دفع دعوى المقدمية ، ينظر في صحته وسقمه ، لا ان يذكر ويسند لصاحب الكفاية ثم يستشكل فيه.

والّذي يبدو لنا ان مراد صاحب الكفاية من عبارته هو : انه ليس بين الضدين الا التمانع والمعاندة في مقام التحقق ، فكل منهما يمنع الآخر عن التحقق ، فالتمانع في مرتبة وجوديهما لا في مرتبة عليتهما.

وعليه ، فهما متحدان رتبة من دون ان يكون أحدهما سابقا على الآخر ، وإذا كان كذلك فالشيء الّذي يرفع هذا التمانع ، بمعنى يرفع المانع عن وجود أحد الضدين من جهة الضد الآخر ، لا بد ان يكون في رتبة الضد ، لأنه يرفع المانع في مرحلة وجوده ورتبته لا في مرحلة علته ورتبتها. وعدم الضد له هذا الشأن ، فانه انما يرفع المانع في هذا المقام فهو في رتبة الضد الآخر وليس سابقا عليه. فنظر صاحب الكفاية إلى ان العدم لا يؤثر إلاّ في رفع ما أثر فيه الوجود ، والمفروض ان ما يؤثر فيه الوجود هو المانعية في رتبة نفس الشيء لا في رتبة علته واجزائها.

وهذا المعنى يمكن تطبيقه على عبارة الكفاية ، وان كانت العبارة لا تخلو من تشويش ، فيمكن ان يكون مقصوده : « وحيث لا منافاة أصلا بين أحد

ص: 342


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 219 - الطبعة الأولى.

العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ... » هو ان العدم لما كان يرفع التمانع الثابت بالضد وكان بينه وبين الضد كمال الملاءمة ، فبه يرتفع تلك الممانعة ، فكان في رتبة الضد قهرا.

وبالجملة : فما يريده صاحب الكفاية هو ما ذكرناه ، وسيتضح ذلك جدا من كلامه في ضمن البحث ، فتدبر.

وقد أورد على الدور : بان توقف كل من الضدين على عدم الضد الآخر فعلي ، وتوقف عدم الضد على الضد الآخر تقديري ، فيرتفع الدور.

بيان ذلك : ان عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع عن الشيء الا في صورة وجود المقتضي والشرط ، وإلاّ فلو لم يكن المقتضي موجودا استند العدم إليه ، فيعلل عدم تحقق الحرقة - عند عدم وجود النار - بعدم وجود النار لا بوجود الرطوبة ، كما يعلل أيضا بعدم الملاقاة عند وجود النار ، والرطوبة بدون الملاقاة ، نعم يعلل بوجود الرطوبة لو تحققت ملاقاة النار للجسم.

واما وجود الشيء فهو يستند إلى جميع اجزاء علته فعلا.

وعليه ، فوجود الضد يستند فعلا إلى عدم الضد الآخر لأنه من اجزاء علته. واما عدم الضد فهو لا يستند إلى وجود الضد الآخر الا في صورة وجود مقتضية وشرطه فاستناده إليه تقديري ، بمعنى أنه معلق على وجود المقتضي والشرط ، وهو لا يتحقق دائما. وذلك لأن وجود الضدين اما ان يلحظا بالإضافة إلى إرادة شخص واحد أو بالإضافة إلى شخصين.

فعلى الأول : لا يمكن تحقق المقتضي ، وذلك لأنه مع إرادة المانع عن الضد وهو الضد الآخر - كما هو الفرض - لا يمكن ان تكون هناك إرادة أخرى متعلقة بالضد ، فمع إرادة السواد لا يمكن إرادة البياض. وعليه ففي فرض وجود أحد الضدين لا بد ان يفرض انتفاء مقتضي الضد الآخر - وهو الإرادة - ، فيستند عدم الضد الآخر إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الضد المانع.

ص: 343

وعلى الثاني : فالمقتضي لكلا الضدين وان أمكن فرض وجوده ، لعدم امتناع تعلق إرادة أحد الشخصين بإيجاد أحد الضدين وتعلق إرادة الشخص الآخر بإيجاد الضد الآخر ، إلاّ ان وجود أحدهما يستند إلى أقوائية قدرة أحد الشخصين على الآخر بحيث يتغلب عليه. فيكون عدم الضد الآخر لأجل عدم حصول شرطه ، وهو القدرة لا لأجل وجود المانع وهو الضد. فلا يستند عدم الضد إلى وجود الضد الآخر إلاّ بنحو التعليق والتقدير.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية : بأنه وان رفع إشكال الدور ونفي التوقف الفعلي من الطرفين ، إلاّ ان محذور الدور موجود بحاله وهو لزوم الخلف ، لأن الاعتراف بصلاحية استناد العدم إلى وجود الضد - عند فرض وجود المقتضي والشرط - اعتراف بكون وجود الضد في رتبة سابقة على عدم الضد الآخر - لأنه في رتبة المانع - فيمتنع ان يستند وجود الضد إلى عدم الآخر ، لأنه يستلزم تقدم ما هو المتأخر وهو خلف.

وربما يقال : بان استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر معلق على وجود المقتضي والشرط ، فالاستناد إليه مأخوذ بنحو القضية الشرطية. ومن الواضح ان صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، كما يشهد له قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1) ، وقد عرفت امتناع تحقق المقتضي أو الشرط لأحد الضدين مع الضد الآخر. ومعه لا يكون وجود أحد الضدين صالحا للمانعية في حال من الأحوال لامتناع صدق المقدم. فينتفي محذور الخلف أيضا.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان هذا القول يساوق نفي مانعية كل من الضدين للآخر ، ومعه لا يكون عدم أحدهما مقدمة للآخر ، لأن أساس ذلك

ص: 344


1- سورة الأنبياء ، الآية : 22.

هو مانعية كل منهما للآخر.

ومن هنا يثار سؤال أو إشكال : بان نفي التمانع بين الضدين ينافى الوجدان والبديهة ، فان التمانع بينهما كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار - كما قال في الكفاية - كما ان عدم المانع من المقدمات بلا إشكال ، فما قيل ممّا ينافى ذلك شبهة في مقابل البديهة ، وهي لا تكون مورد القبول.

وأجاب عنه في الكفاية : ان التمانع بين الضدين وان سلم بلا تردد ، لكنه بمعنى يختلف عن المعنى الّذي يكون عدمه من المقدمات ، فدعوى المقدمية ناشئة من الخلط بين المعنيين.

بيان ذلك : ان التمانع بين الأمرين تارة : يكون في مرتبة الوجود ، بمعنى انه لا يمكن اجتماعهما في الوجود. وأخرى : يكون في مقام التأثير بمعنى ان يكون أحد الأمرين مانعا عن تأثير مقتضي الآخر فيه ، فالمانع الّذي يكون عدمه من المقدمات هو المانع بالمعنى الثاني نظير الرطوبة المانعة من تأثير النار في الحرقة. ومانعية الضد الآخر من قبيل الأول. فان التمانع بينهما ليس إلاّ بمعنى التمانع في الوجود وعدم إمكان وجود أحدهما مع وجود الآخر من دون أن يؤثر أحدهما في مقتضي الضد الآخر ويمنع من تأثيره ، فلا يكون عدمه من المقدمات.

وهذا المعنى هو الّذي كان ينظر إليه صاحب الكفاية في الوجه الثالث من وجوه اشكاله على المقدمية (1). وسيتضح جيدا في مطاوي البحث.

هذا خلاصة ما أفاده في الكفاية بتوضيح (2).

ولكن المحقق الأصفهاني قدس سره لم يرتض إنكار المقدمية ، وحاول تصحيحها بلا ورود أي إشكال.

ص: 345


1- أعني : بالترتيب الّذي ذكرناه ، اما بالترتيب الكفاية فهو الوجه الأول. ( منه عفي عنه ).
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /130- 132 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد أوضح قبل الدخول في أصل المبحث المقصود بالتقدم الرتبي بالطبع ، ببيان : ان ملاك التقدم والتأخر بالطبع هو ان لا يكون لأحد الشيئين وجود الا وللآخر وجود ولا عكس ، بمعنى انه يمكن فرض وجود الآخر بدون وجود ذلك الشيء كالواحد والكثير فانه لا يمكن ان يفرض للكثير وجود الا ويكون للواحد وجود ، مع انه يمكن ان يوجد الواحد بدون وجود الكثير ، فالمتقدم هو الواحد والمتأخر هو الكثير.

ثم ذكر ان منشأ هذا التقدم أحد أمور أربعة :

الأول : ان يكون الشيء المتقدم من علل قوام الآخر كالجزء والكل ، فان الكل يتقوم باجزائه ، ولذا لا يمكن ان يفرض له وجود الا ويكون لأجزائه وجود ، مع انه يمكن ان يفرض لجزئه وجود بلا ان يكون له وجود.

الثاني : ان يكون المتقدم مؤثرا في المتأخر كالمقتضي والمقتضى.

الثالث : ان يكون المتقدم مصححا لفاعلية الفاعل وهو المعبر عنه بالشرط.

الرابع : ان يكون المتقدم متمما لقابلية القابل ، وهو المعبر عنه بعدم المانع أو الشرط العدمي ، كعدم الرطوبة المتمم لقابلية المحل للاحتراق.

وبعد هذا البيان أفاد : ان عدم الضد متقدم بالطبع على الضد الآخر ، لأنه لا يمكن ان يفرض للضد وجود الا ويكون الضد الآخر غير موجود ، بخلاف العكس فانه يمكن ان يكون أحد الضدين غير موجود وليس للآخر وجود ، لإمكان عدم كلا الضدين ، فمثلا لا يمكن فرض السواد الا ويثبت عدم البياض ، ولكن يمكن ان يفرض عدم البياض من دون ثبوت السواد.

ومنشأ التقدم الطبعي لعدم الضد على الضد الآخر هو : كون عدم الضد متمما لقابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، إذ بدونه لا يكون المحل قابلا ، فلا يكون المحل قابلا للبياض إلا في صورة عدم السواد.

ص: 346

اما دعوى : توقف عدم أحد الضدين على الضد الآخر ، التي هي أساس الدور الّذي ذكره صاحب الكفاية.

فقد دفعها قدس سره : بان العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، فليس هو شيئا قابلا للتأثر وعليه فلا يحتاج إلى ما يكون مصححا لفاعلية الفاعل أو متمما لقابلية القابل بالنسبة إليه ، فينتفي توقف عدم أحد الضدين على وجود الآخر.

هذا مجمل ما يتعلق بالمقام ونخبة كلامه الّذي أسس عليه مقدمية عدم الضد للضد الآخر بلا ورود إشكال الدور (1).

والكلام معه ينبغي ان يكون في جهتين :

الجهة الأولى : فيما ذكره ملاكا للتقدم بالطبع مع حصر منشئه بالأمور الأربعة المزبورة. فانه مما لا نعرف له وجها صحيحا ، إذ يرد عليه : انه اما ان يكون المقصود من ملاك التقدم بالطبع هو عدم تحقق نفس وجود المتأخر الا والمتقدم موجود دون العكس ، أو عدم إمكان وجود المتأخر الا وللمتقدم وجود ولا عكس.

فعلى الأول : لا يصح هذا ملاكا للتقدم بالطبع ، لتخلفه في بعض الموارد ، كما لو كان هناك ماءان أحدهما كثير والآخر قليل وجعل أحدهما في عرض الآخر وجنبه ، ولم يكن هناك إلا ماكينتان للحرارة إحداهما ضعيفة النار لا تؤثر إلا في حرارة القليل والأخرى قوية تؤثر في حرارة كليهما ، ووضع الماء بنحو ينحصر إيجاد حرارتهما من غير طريق هاتين الماكنتين ، فانه حينئذ لا توجد حرارة الماء الكثير الا وحرارة القليل موجودة دون العكس إذ قد توجد حرارة القليل بالماكنة الضعيفة النار ولا توجد بها حرارة الكثيرة.

ومن الواضح جدا انه لا تقدم وتأخر بين حرارة القليل والكثير.

ص: 347


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 219 - 220 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : يتخلف المورد فيما لو كانت هناك علتان إحداهما تؤثر في شيئين والأخرى تؤثر في شيء واحد ، وفرض انحصار العلتين صدفة. فانه لا يوجد أحد الشيئين المعين إلا والآخر موجود دون العكس. وبدون ان يكون في البين تقدم وتأخر رتبي.

وعلى الثاني : فكذلك لتخلفه أيضا في بعض الموارد ، كما لو فرض ان علة شيء منحصرة تكوينا في أمر واحد ، وهذه العلة كما تؤثر في ذلك الشيء تؤثر في شيء آخر ، وكان لذلك الشيء الآخر علة أخرى تؤثر فيه وحده. فحينئذ لا يمكن وجود ذلك الشيء الا وللآخر وجود ، لأنه لا يوجد إلاّ بالعلة المشتركة وهي تؤثر في كلا الشيئين ، ولكن يمكن أن يوجد الآخر بدون أن يوجد ذلك الشيء كما وجد بعلته الخاصة لا بالعلة المشتركة.

فضابط النقض : ان يكون هناك معلولان لعلة واحدة وكان لأحدهما علة تؤثر فيه خاصة وليس للآخر مثل ذلك.

ومن الواضح : انه لا يكون بين هذين الشيئين تقدم وتأخر.

وعلى هذا فما ذكر ضابطا للتقدم بالطبع غير وجيه.

الجهة الثانية : فيما ذكره من نفي الدور بان العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، إذ فيه :

أولا : انه يتنافى مع ما عليه الوجدان والعرف من تعليل عدم الشيء بوجود المانع ، بحيث يكون المانع موردا للمناقشة ونحو ذلك ، فيقال لمن لم يحرق الجسم : « لم لم يحترق ». فيجيب : ان عدم الإحراق لوجود الرطوبة. ومن الواضح ان لم سؤال عن العلة.

وثانيا : انه يتنافى مع تصريح أهل الفن بان عدم العلة علة العدم ، فيسند العدم إلى عدم العلة في كلماتهم.

وعليه ، نقول : إذا كان علة العدم عدم العلة. فعدم السواد إذا كان علة

ص: 348

لوجود البياض فعدمه علة عدم البياض. ومن الواضح ان عدمه ليس إلاّ السواد - لأن نفي النفي إثبات - فيكون السواد علة عدم البياض ، والمفروض ان عدم البياض علة للسواد بملاك المقدمية فيلزم الدور ، ويكون وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر في الوقت الّذي يكون عدم الآخر علة لوجود ذلك الضد.

وقد يدفع هذا التقريب للدور بما ذكره قدس سره دفعا لتقريب آخر للدور ذكره هو. وهو وجهان :

الأول : ان العدم لا علة له لأنه غير قابل للتأثر فلا يحتاج إلى فاعل وقابل.

الثاني : انه لو سلم ان العدم له علة ، فعلة عدم الضد عدم عدم الضد الآخر ، وهو ليس نفس الضد ، إذ عدم العدم مفهوم سلبي لا يصلح للانطباق على الأمر الوجوديّ ، وإلاّ لزم انقلاب ما حيثية ذاته طرد العدم إلى ما ليس كذلك (1).

والتحقيق ان كلا الوجهين لا ينهضان على رفع الدور.

اما الأول : فلما عرفت من انه يتنافى مع ما عليه الوجدان وتصريحات أهل الفن من تعليل العدم بوجود المانع. بل هو قدس سره اعترف بذلك ، لكنه ادعى ان هذا علة تقريبية لا علة واقعية حقيقية ، لأن العدم لا يقبل التأثر. فاستناد العدم إلى عدم العلة استناد حقيقي لا تشوبه شائبة المسامحة والتجوز ، لكنه لا بنحو استناد المعلول إلى العلة ، فليكن كذلك فانه يكفينا صحة كون منشأ العدم عدم العلة ولو لم يكن بنحو العلية ، لأنه يكفي في تحقق التقدم الرتبي لعدم العلة على عدم المعلول. فيلزم الدور.

ص: 349


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 220 - الطبعة الأولى.

واما الثاني : فلان ما ذكره وان كان له صورة برهان وتحقيق ، لكنه يتنافى مع البداهة ، وذلك لأن عدم العدم اما ان يكون صرف مفهوم لا واقع له أصلا أو يكون له واقع. فان كان صرف مفهوم لا واقع له أصلا ، فهو لا يصلح للتأثير في عدم المعلوم ، إذ المفهوم ليس له قابلية التأثير والسببية ، بل ذلك من شأن الوجودات. وان كان له واقع ، فلا بد من فرضه هو الوجود ، وإلاّ للزم ان يفرض واقع ثالث غير واقع المتناقضين وهما الوجود والعدم ، وهذا مما يحيله الوجدان والبرهان ، إذ ليس هناك واقع ثالث ليس هو بواقع لأحد المتناقضين.

وهذا مضافا إلى ان مقدمية عدم المانع ليست من جهة ان له نحو تأثير في المعلول أو في قابلية المحل لعروض المعلول ، بل انما هو لأجل ارتفاع ما يكون سببا في عدم قابلية المحل ومنشئا لمنع تأثير المقتضي في مقتضاه ، فليس لعدم الرطوبة خصوصية الا كونه ارتفاعا لما يكون موجبا لحجز النار عن التأثير والوقوف في قبال تأثيرها في الاحتراق لسلبه قابلية المحل له.

فعلى هذا يكون فرض عدم الضد من المقدمات مساوقا لفرض نفس الضد مانعا عن التأثير وسببا في عدم تأثير المقتضي ، لأن مرجع مقدمية عدم الشيء ليس إلاّ إلى مانعية نفس ذلك الشيء.

وعليه ، فلا نحتاج في إثبات الدور إلى ان نقول ان عدم العدم هو نفس الوجود ، فيكون هو المانع ، بل نفس فرض مقدمية عدم الضد مساوق لفرض مانعية نفس الضد ، فيلزم الدّور. وهذا هو الّذي ينظر إليه صاحب الكفاية في كلامه في تقريب إشكال الدور.

وخلاصة الكلام : ان ما أفاده المحقق الأصفهاني في المقام لا يمكن الالتزام به ، فيتعين القول بإنكار المقدمية. كما اعترف قدس سره أخيرا بعدمها وقرب إنكارها.

وهذا كله بالنسبة إلى إشكال الدور.

ص: 350

واما إشكال النقض بالمتناقضين ، فقد خدش فيه المحقق الأصفهاني وتابعة السيد الخوئي : بان ارتفاع الوجود لما كان عين العدم البديل له لم يعقل ان يكون عدم الوجود مقدمة للعدم ، لأنه يلزم ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، فعدم المقدمية لعدم المتناقضين للآخر من جهة المحذور المزبور ، فلا يقاس عليه الضدان لأنه قياس مع الفارق (1).

ومن العجيب جدا ان تصدر من المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي هذه المناقشة ، فقد عرفت تقريب كلام الكفاية بما لا يبقى مجال لورود هذا الإشكال ، كيف؟ وهذه المناقشة مأخوذة متممة لإشكال صاحب الكفاية.

وليس نظر صاحب الكفاية الا إلى بيان ان مجرد المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تستلزم مقدمية عدم أحدهما للآخر ، وإلاّ لجرى ذلك في المتناقضين مع انه محال ، فيكشف ذلك ان مجرد المعاندة غير مستلزمة للمقدمية. فمحالية مقدمية عدم النقيض لنقيضه قد أخذت في إيراد صاحب الكفاية فلا يحسن ان تكون ردا عليه.

واما الإشكال الأول فقد عرفت تقريبه.

وملخص ما يريد ان يقوله صاحب الكفاية : ان التمانع بين الضدين لما كان بمعنى عدم جواز اجتماعهما وامتناع وجودهما معا في محل واحد وآن واحد ، ففي مرتبة وجود الضد يمتنع ان يوجد الضد الآخر ، فالعقل لا يحكم بأزيد من لزوم ثبوت عدم الضد في مرتبة وجود الآخر ، من دون ان يقتضي ذلك تقدّم العدم على الوجود. وليست مانعية الضد بمعنى مزاحمتها لتأثير المقتضي للضد الآخر كي يلزم عدمها في مرحلة المؤثر ورتبته وهي سابقة على الأثر.

ص: 351


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 224 - الطبعة الأولى. الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 24 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : لما كان التمانع بين الضدين بمعنى امتناع اجتماعهما ، فالعقل لا يرى سوى لزوم ثبوت عدم أحدهما عند وجود الآخر كي لا يلزم المحال ، وهذا لا يستدعي تقدم عدم أحدهما على الآخر.

وخلاصة الكلام : ان الوجوه التي ذكرها صاحب الكفاية في المقدمية خالية عن الإشكال ، فيتعين بها نفي المقدمية.

ثم ان المحقق النائيني نفي المقدمية بوجه استلّه من الإشكال الّذي ذكره الكفاية على الدور. ومحصل ما أفاده قدس سره : ان مانعية المانع في رتبة متأخرة عن وجود المقتضي بشرطه ، فما لم يوجد المقتضي لا تتحقق المانعية ، لأن معنى المانعية هي المانعية عن تأثير المقتضي ، فيلزم ان يكون المقتضي موجودا. وبما ان المقتضي بشرطه لا يمكن ان يتحقق لكلا الضدين - كما مرّ تقريبه - لم يكن الضد مانعا عن ضده أصلا. وعلى هذا البيان بنى انه لو كان أحد الضدين مأخوذا شرطا في المأمور به امتنع أخذ الآخر مانعا. وبذلك حلّ مشكلة اللباس المشكوك التي تضاربت النصوص في نحو اعتباره. فمنها ما ظاهره كون لبس ما يؤكل لحمه شرطا. ومنها ما ظاهره كون لبس ما لا يؤكل لحمه مانعا. وبيانه في محله من الفقه (1).

وقد أورد على هذا الوجه ، ولا نرى ملزما لذكر الإيراد ودفعه بعد تقريب نفي المقدمية بما عرفت. فلاحظ.

ثم انه قد أشرنا إلى وجود القول بالتفصيل بين عدم الضد المعدوم وعدم الضد الموجود ، فالثاني مقدمة دون الأول. وهو المنسوب إلى المحقق الخوانساري قدس سره .

ص: 352


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 255 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 307 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وتقريبه : - كما قرره المحقق النائيني قدس سره - : ان وجود أحد الضدين يمنع من قابلية المحل لعروض الضد الآخر ، فيكون عدمه وارتفاعه دخيلا في تحقق قابلية المحل ، بخلاف ما إذا لم يكن أحد الضدين موجودا ، فان المحل قابل لعروض كلا الضدين من دون توقف على عدم أحدهما الآخر.

وناقشه المحقق النائيني : بان هذا إنما يتم لو التزم بان بقاء الأكوان لا يحتاج إلى مؤثر ، فالضد الموجود لا مؤثر فيه في مرحلة بقائه ، وهو مانع من تحقق الضد الآخر لسلبه قابلية المحل.

اما لو التزم كما هو الحق باحتياج البقاء إلى مؤثر كالحدوث لاشتراكهما في ملاك الاحتياج إلى المؤثر وهو الإمكان ، فان الشيء الممكن ممكن في بقائه كما هو ممكن في حدوثه. لم يتم ما ذكره فان المحل بقاء وفي الآن الآخر قابل لعروض كلا الضدين ، وبما انه يمتنع تحقق مقتضي كلا الضدين لأن اجتماعهما لما كان محالا كان تحقق مقتضيهما محالا أيضا ، لأن اقتضاء المحال محال. وعليه ففي فرض وجود أحد الضدين ، يكون عدم الآخر مستندا إلى عدم مقتضية لا إلى وجود المانع فلا تصل النوبة إلى مانعية الضد الموجود أصلا كي يكون عدمه مقدمة ، إذ عدم ضده يستند مع وجوده إلى عدم مقتضية (1).

وخدش في هذا الكلام السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بان تحقق مقتضي كلا الضدين في نفسه لا محالية فيه ، فيجوز ان يتحقق لكل من الضدين مقتضية في نفسه ولكن الممتنع تأثير كلا المقتضيين.

وحديث « اقتضاء المحال محال » لا يتأتى فيما نحن فيه ، وانما يتأتى فيما إذا تعلق المقتضي الواحد بالمتنافيين.

ص: 353


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1/ 310 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 259 - الطبعة الأولى.

ولكنه لم يسلم للمحقق الخوانساري التفصيل المزبور ، فقد ناقشه : بأنه لا يخلو الحال اما ان لا يكون مقتضي الضد المعدوم موجودا ، أو يكون مقتضي كلا الضدين موجودا ، فعلى الأول يستند عدم الضد إلى عدم مقتضية لا إلى المانع وعلى الثاني يستند عدم الضد إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضيه وغلبته عليه لأقوائيته ، فيرجع العدم إلى ضعف مقتضية وقصوره عن التأثير لوجود المزاحم الأقوى ، فلا يستند عدم الضد في كلتا الحالتين إلى نفس وجود ضده ، بل اما ان يستند إلى عدم مقتضية أو إلى مزاحمة مقتضي الضد الآخر الموجود لمقتضيه ، فلا يكون الضد الموجود مانعا في حال من الأحوال كي يكون عدمه مقدمة (1).

أقول : الّذي يقتضيه الإنصاف هو تسليم القول بالتفصيل.

واما ما ذكره السيد الخوئي من استناد عدم الضد - عند وجود كلا المقتضيين - إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضي الضد المعدوم وغلبته عليه ، هو أمر يتنافى مع ما عليه البديهة والوجدان من ان المزاحم والمانع هو نفس الضد الموجود ، فلا يتوقف أحد من الحكم باستناد عدم وجود الماء في الإناء الّذي فيه الثلج بعد إجرائه فيه ، إلى نفس وجود الثلج وانه لو لا الثلج لدخل الماء في الإناء. فالمانع بنظر كل أحد هو نفس الضد فيقال انه لولاه لتحقق الضد الآخر.

والسرّ فيه هو : ان وجود الضد يسلب قابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، فيمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه ، فبارتفاعه تتحقق قابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، وهذا هو المقصود بعدم المانع ، نظير عدم الرطوبة الرافع لتأثير الرطوبة في عدم مؤثرية النار في الإحراق.

إلاّ ان هذا التفصيل لا ينفع في ما نحن فيه من متعلقات الأحكام

ص: 354


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 30 - الطبعة الأولى.

الشرعية.

بيان ذلك : ان الضدين :

تارة : يكونان من الأعيان التي لها وجود قار بحيث لا ترتفع بعد وجودها بعدم الإرادة فقط.

وأخرى : يكون من الأفعال التي يكون لها وجود تدريجي فتنعدم بمجرد عدم الإرادة ، لأن المقتضي المباشر لها هو إرادة الفاعل المختار.

اما النحو الأول ، وهو ما كان من الموجودات القارة فيتصور فيه الحدوث والبقاء ، فيدعى ان الضد بقاء مانع عن ضده الآخر كما قربناه. ولا يكون عدم الإرادة رافعا له ، لأن المقتضي المباشر له بقاء ليس هو الإرادة ، فالسواد إذا وجد يبقى ولو لم تستمر إرادة بقائه.

واما النحو الثاني ، وهو ما كان الأفعال التي هي موجودات تدريجية لا قرار لها ، بل ما يتحقق منها يتصرم وينعدم بانعدام اجزاء الزمان الّذي تحقق فيها ، فبقاؤه منوط بالإرادة ، فان المختار إذا أراد فعل وإذا لم تتحقق منه الإرادة لا يتحقق منه الفعل قهرا. وعليه نقول : ان الفعل الموجود بالنسبة إلى ضده المأمور به لا يكون من قبيل الضد الموجود ، بل من قبيل الضد المعدوم ، لأن الجزء الّذي تحقق منه قد انعدم وما سيتحقق منه معدوم فعلا ولا يتحقق إلاّ بإرادة فعله. فمثلا إذا شرع المكلف في الصلاة ثم تنجس المسجد ، فليس هنا شيء قار له وجود يكون مضادا للتطهير وإزالة النجاسة ، وانما الّذي يمنع من الإزالة ولا يجتمع معها هو الجزء الّذي سيتحقق وهو معدوم فعلا ، فيكون من الضد المعدوم لا الموجود ، اما ما تحقق فقد انعدم وتصرم.

وبالجملة : لما كانت متعلقات الأحكام من الأفعال التدريجية الحصول بلا ان يكون لها وجود قار لم ينفع التفصيل المزبور ، لأنها دائما تكون من الضد المعدوم بالبيان الّذي عرفته ، وقد عرفت عدم المقدمية في الضد المعدوم. فلا يكون

ص: 355

التفصيل سوى تفصيل علمي خال عن الثمرة العملية.

وخلاصة البحث : ان تقريب اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده بدعوى المقدمية لا محصل له.

وهناك تقريب آخر للاقتضاء ذكره صاحب الكفاية وهو : يتقوم بدعوى الملازمة بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر فيستلزم النهي عنه ببيانين :

البيان الأول : ان المتلازمين لا يصح اختلافهما في الحكم ، فلا يجوز ان يكون أحدهما واجبا والآخر محرما ، لعدم إمكان امتثال الحكمين بعد فرض تلازم متعلقيهما وجودا. وعليه فلما كان وجود الضد ملازما لعدم ضده كان طلبه ملازما لطلب ترك ضده لعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

والإشكال في هذا البيان واضح كما جاء في الكفاية : فان عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم لا يستلزم توافقها فيه ، بمعنى ان يكون كل منهما محكوما بما يحكم به الآخر. بل هناك شق ثالث وهو خلو أحد المتلازمين من الحكم ، وهو يحقق عدم اختلاف المتلازمين في الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فليكن ما نحن فيه كذلك ، فيكون أحد الضدين واجبا من دون ان يكون ترك ضده محكوما بحكم من وجوب أو غيره.

البيان الثاني : - وقد أشار إليه صاحب الكفاية - ما تقدم من عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم بضميمة ما هو المسلم من عدم خلو الواقعة من الحكم ، فيلزم ان يكون ترك الضد محكوما بحكم غير مخالف لحكم ضده وليس هو إلاّ الوجوب (1).

ولا يرد الإشكال السابق على هذا البيان كما لا يخفى.

ولكن يرد عليه : ان عدم خلو الواقعة عن الحكم انما يسلم بالنسبة إلى

ص: 356


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /312- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأشياء بلحاظ عناوينها الأولية ، بملاك ان المكلف لا بد ان تعين وظيفته العملية ولا يبقى متحيرا في مقام العمل ، اما إذا طرأ على الشيء ما يوجب ارتفاع هذا الملاك ، فلا يلزم ان يكون له حكم مجعول شرعا ، كما فيما نحن فيه ، فانه بعد وجوب أحد المتلازمين لا يبقى المكلف متحيرا بالنسبة إلى الآخر لتحققه قهرا بتحقق الواجب ونظيره مقدمة الواجب.

وبالجملة : إذا طرأ على الشيء عنوان ثانوي يوجب ارتفاع تحير المكلف بلحاظ وظيفته العملية بالنسبة إليه ، لا دليل على امتناع خلو الواقعة المذكورة عن حكم شرعي. إذ الملاك المزبور مرتفع كما هو الفرض ، وليس غيره ملاك للزوم وجود الحكم في الواقعة.

المسألة الثانية : في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام ، أعني الترك.

وقد يتوهم اقتضاؤه بالدلالة التضمنيّة ، لأن حقيقة الوجوب مركبة من طلب الشيء والمنع من تركه ، فالمنع عن الترك جزء الوجوب فيقتضيه الأمر بنحو التضمن كما لا يخفى.

ويندفع هذا التوهم بما ذكره صاحب الكفاية من : ان حقيقة الوجوب ليست مركبة من جزءين ، وانما هي عبارة عن مرتبة أكيدة من الإرادة الملازمة للمنع من الترك ، فالتعبير عن الوجوب بأنه المنع من الترك تعبير عنه بلازمه ، لأجل تحديد تلك المرتبة الأكيدة من الإرادة ، وليس هو لأجل كونه جزء حقيقة الوجوب. ومن هذا البيان توصل صاحب الكفاية إلى نفي دعوى العينية ، فانه بعد ان كان المنع من الترك من لوازم الأمر امتنع ان يكون عينه ، لأن الملازمة بين الشيئين تقتضي المغايرة الاثنينية وهو يتنافى مع دعوى العينية. إلاّ ان يراد من العينية هو وجود طلب واحد منسوب حقيقة إلى الوجود ، فيكون بعثا إليه وينسب مجازا وبالعرض إلى الترك فيكون زجرا عنه.

ص: 357

وبالجملة : الّذي يظهر من كلام صاحب الكفاية هو دعوى الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الترك (1).

وللمحقق النائيني في المقام كلام محصّله : انه إذا فسرنا النهي بطلب الترك ، فمعنى النهي عن الترك هو طلب تركه ، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل واقعا وان تغاير عنه مفهوما ، لأن ترك الترك لا واقع له غير الفعل وإلاّ لزم ان يكون هناك واقع وراء المتناقضين وهو محال ، ولأجل ذلك اشتهر ان نفي النفي إثبات.

فعليه ، يكون الأمر بالشيء عين النهي عن الترك.

إلاّ ان هذا لا يرتبط بما نحن فيه ، فانه انما يرتبط بما إذا كان هناك إنشاءان أحدهما يتضمن طلب الفعل والآخر يتضمن النهي عن الترك ، فنقول :

ان أحدهما يرجع إلى الآخر وكل منهما عين الآخر حقيقة. اما إذا كان هناك إنشاء واحد يتضمن طلب الفعل فلا يتأتى فيه ما ذكر ، إذ قد يغفل الآمر عن ترك تركه كي يطلبه ، فيقال انه عين طلب الفعل ، وما نحن فيه من هذا القبيل. هذا ملخص كلامه (2).

وفيه : ما لا يخفى ، فانه ان أريد من الأمر والنهي نفس الإنشاء اللفظي بان كانا اسمين للفظ الّذي ينشأ به المفهوم ، كان من الواضح تغاير الأمر بالفعل والنهي عن الترك ، فانه قوله : « صلّ » - مثلا - يغاير قوله : « لا تترك الصلاة » بالبداهة ، سواء ذلك في صورة وجود الأمر والنهي خارجا وصورة وجود أحدهما. وان أريد من الأمر والنهي واقع الإنشاء ، أعني به الطلب النفسيّ ، كان طلب الشيء عين النهي عن ضده العام بعد ان كان المنهي عبارة عن طلب الترك ، سواء تعدد الإنشاء فكان إنشاء للنهي وإنشاء للأمر أم اتحد الإنشاء فكان للأمر

ص: 358


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /133- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 251 - الطبعة الأولى.

فقط ، لأن حقيقة الأمر لا تختلف عن حقيقة النهي ، فاللفظ الكاشف عن أحدهما يكشف عن كليهما ، بل هو يكشف عن حقيقة واحدة هي امر بلحاظ الفعل ونهي بلحاظ الترك.

ومن العجيب جدا ما أورده السيد الخوئي من : ان النهي إذا كان عبارة عن طلب الترك وكان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لا معنى لأن يقال ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الترك ، فانه عينه ، فلا محصل له ، فانه بمثابة ان يقال ان الأمر بالشيء يقتضي الأمر بالشيء (1).

ووجه الغرابة : ان كلامه ان كان يرجع إلى بيان ان المراد بالاقتضاء ما يساوق العلية لا ما هو أعم منها ومن العينية والتضمن ، فلا يصح التعبير بالاقتضاء في مورد العينية ، فيكون إشكالا على أخذ الاقتضاء بمعنى أعم ، فليس محله هاهنا ، وقد سبق منه تقرير ما فرضه النائيني من عموم المراد بالاقتضاء ، بل صرح به في تقريرات بحثه للفياض (2).

وان كان يرجع إلى عدم صحة التعبير بالاقتضاء في مورد العينية مع غض النّظر عما سبق. فهو لا يتوجه على المحقق النائيني بعد ما فرض هو وغيره من الاعلام عموم المراد بالاقتضاء ، وانه بمعنى يصح إطلاقه في مورد العينية. فالمراد بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه مع انه عينه هو ان أحدهما يرجع إلى الآخر ، لا بمعنى علية الأمر للنهي الّذي يتنافى مع فرض العينية.

وبالجملة : لم يظهر محصل لهذا الإيراد.

وتحقيق المقال في هذه المسألة :

ان الأمر والنهي ان كانا اسمين للفظ الّذي يتحقق به إنشاء الطلب ،

ص: 359


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 251 - [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 8 - الطبعة الأولى.

فالامر اسم لصيغة : « افعل » والنهي اسم لصيغة : « لا تفعل » - ان كانا كذلك - فلا يكون الأمر بشيء مقتضيا للنهي عن تركه بنحو من أنحاء الاقتضاء لا بنحو العينية ولا التضمن ولا الملازمة. فان كلا منهما وجود مستقل حقيقي فلا يكون عين الآخر ، كما انه لا يلزم عن تحقق الأمر بشيء بهذا المعنى تحقق النهي عن تركه كذلك لا باللزوم البين بالمعنى الأخص ولا البيّن بالمعنى الأعم.

وان كانا اسمين لواقع الإنشاء ، فان قلنا ان النهي عبارة عن طلب الترك فيكون النهي عن الترك عبارة عن طلب تركه ، كان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لأن طلب ترك الترك يرجع في واقعه إلى طلب الفعل. وان قلنا ان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل ومبغوضية المنهي عنه ، لم يكن الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لأن محبوبية العمل وإرادته تغاير مبغوضية الترك وكراهته ، فان كلا منهما وجود مستقل وصفة من صفات النّفس تغاير في واقعها الأخرى.

كما انه لم يكن الأمر ملازما للنهي عن الترك ، لأن المحبوبية تنشأ من وجود المصلحة ، والمبغوضية تنشأ من وجود المفسدة ، فتعلق المحبوبية بالفعل لوجود مصلحة فيه لا تلازم تعلق المبغوضية في الترك ، إذ لا يلزم ان يكون في الترك مفسدة إذا كان في الفعل مصلحة ، بل غاية ما يكون في الترك هو عدم المصلحة وهو لا يكون منشئا للمبغوضية.

ثمرة المسألة

ذكر صاحب الكفاية : ان ثمرة البحث تظهر فيما كان ضد المأمور به عباديا كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة ، فانه بناء على اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده بضميمة ان النهي عن العبادة يستلزم فسادها تقع العبادة فاسدة للنهي عنها ، وبناء على عدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده تقع صحيحة لعدم النهي عنها.

ص: 360

وأنكر البهائي قدس سره هذه الثمرة ، والّذي ذكره صاحب الكفاية عنه في تقريب الإنكار هو : ان العبادية والتقرب يتوقف على تعلق الأمر بالعمل. ومن الواضح ان الضد العبادي لا امر به لارتفاع الأمر به بمزاحمته مع الواجب الأهم ، فلا يقع صحيحا سواء قلنا بأنه منهي عنه أو لم نقل بذلك. فلا يترتب على الالتزام بتعلق النهي بالضد الأثر المذكور - أعني فساد العبادة -.

وأورد عليه صاحب الكفاية : بان الأمر وان ارتفع بالمزاحمة إلاّ ان ملاك الأمر ثابت وموجود وهو المحبوبية الذاتيّة ، إذ لا مقتضي لارتفاعه. والمزاحمة انما تقتضي ارتفاع الأمر لا غير. وعليه فالتقرب بالملاك يكفي في تحقق العبادية ولا يتوقف على وجود الأمر ، وهو انما يصح لو لم يكن منهيا عنه ، لأن النهي يستلزم الفساد ، فتظهر الثمرة (1).

لكن المحقق النائيني قرب دعوى البهائي بنحو لا يكون لما أورده صاحب الكفاية مجال.

ومحصل ما أفاده : انه اما ان يشترط في صحة العبادة تعلق الأمر بها فعلا.

أو لا يشترط ذلك ويلتزم بكفاية الملاك في صحة العبادة.

فعلى الأول : يقع الضد العبادي فاسدا ، سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده أو بعدم اقتضائه ، لأن الأمر بالضد مرتفع لأجل مزاحمته للأمر بالأهم ، لأنه يستحيل طلب الضدين.

وعلى الثاني : يقع صحيحا على القولين اما بناء على عدم الاقتضاء فواضح.

واما بناء على الاقتضاء ، فان العبادة وان كانت منهيا عنها إلاّ ان النهي المتعلق بها نهي غيري ناشئ عن مقدمية تركها للمأمور به أو ملازمته له ، وليس

ص: 361


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /133- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هو ناشئا عن مفسدة في نفس متعلقه كي يكون مزاحما لما فيه من المصلحة وموجبا لاضمحلالها. فيرتفع موجب التقرب ، فالمصلحة في الضد العبادي تصحح التقرب ولا رافع لها ولا مزاحم (1).

ولا يخفى ان هذا التقريب أوجه علميا مما ذكره صاحب الكفاية ، كما انه لا يرد عليه إيراد صاحب الكفاية من كفاية التقرب بالملاك ، فان التقريب يشير إلى هذه الجهة ويعطيها حكمها فتدبر.

وتحقيق الحال فيه ؛ ان المقصود بالملاك تارة يكون هو المحبوبية الذاتيّة. وأخرى يكون هو المصلحة المترتبة على المتعلق. والظاهر ان مقصود المحقق النائيني بالملاك المصحح للعبادية هو المصلحة ، ويدل عليه وجهان :

الأول : تصريحه بعدم نشوء النهي عن مفسدة في المتعلق كي تزاحم ملاك الأمر وتوجب اضمحلاله ، فانه ظاهر في كون نظره بالملاك إلى المصلحة.

الثاني : انه لو كان المنظور بالملاك هو المحبوبية لما صح التقرب بالعمل بناء على النهي عنه ولو كان نهيا غيريا ، لأن النهي يستلزم مبغوضية العمل ولو لمفسدة في غيره ، ومع كونه مبغوضا كيف يصح التقرب به لامتناع كونه محبوبا حينئذ؟ فكلامه لا يتم إلاّ بفرض كون مراده من الملاك هو المصلحة ، الّذي لا يرتفع بالمبغوضية الغيرية.

إلاّ انه يرد عليه :

أولا : ان قصد المصلحة لا يمكن تحققه هنا.

وذلك : لأن العمل إذا فرض كونه عباديا كانت المصلحة مما يترتب على العمل بقيد كونه عباديا. اما ذات العمل فلا تترتب عليه المصلحة.

وعليه ، فلا يصلح ترتب المصلحة لأن يكون داعيا إلى الإتيان بالعمل ،

ص: 362


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 262 - الطبعة الأولى.

لعدم ترتبه عليه ، والداعي ما كان بوجوده العلمي سابقا وبوجوده العيني لاحقا.

وبالجملة : لا يمكن ان يؤتى بالعمل بداعي المصلحة ، إذ لا مصلحة فيه ، بل المصلحة تترتب على العمل العبادي فقصد المصلحة في طول تحقق العبادية لا محقق لها ، فهو نظير الإتيان بالعمل بداعي ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، فانه في طول العبادة لا محقق لها ، كما تقدم بيان ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي.

وثانيا : لو فرض إمكان تحقق قصد المصلحة ، فهو لا يكون مقربا ، لما تقدم من انه يعتبر في المقربية ارتباط العمل بالمولى بنحو ارتباط ، والإتيان بالعمل لأجل ترتب المصلحة عليه لا يرتبط بالمولى فلا يكون العمل مقربا لعدم ربطه بالمولى.

وعلى هذا لا يستقيم ما أفاده المحقق النائيني من إنكار الثمرة ، إذ الملاك المصحح ليس إلاّ المحبوبية ، وهو لا يتحقق مع تعلق النهي بالعمل.

ولكن الّذي يسهل الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده ، اما لأجل إنكار دعوى المقدمية التي هي عمدة أساس القول بالاقتضاء. واما من جهة إنكار وجوب المقدمة.

هذا مع ان النهي على تقدير الالتزام به بمعنى طلب ترك الضد ، أعني وجوب تركه اما لأجل المقدمية أو لأجل التلازم ، ووجوب الترك لا يتنافى مع محبوبية الفعل في نفسه ، إذ ليس النهي الّذي ينافيها الا الزجر عن الفعل وليس هو طلب الترك ، فالنهي الثابت هاهنا على تقديره لا يتنافى مع مقربية الفعل لإمكان ان يكون كل من الترك والفعل محبوبا في نفسه ، إلاّ ان محبوبية أحدهما تغلب الأخرى فتكون منشئا للأمر ، وهو لا يلازم مبغوضية غير المأمور به ، ولذلك قلنا ان الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام. فلاحظ.

ص: 363

ثم انه بناء على عدم الاقتضاء لا شبهة في ارتفاع الأمر بالضد عند تعلق الأمر بضده الآخر ، لعدم إمكان الجمع بين الضدين فالامر بكليهما محال ، فإذا تعلق الأمر بالضد الأهم ارتفع الأمر بضده ولو لم يكن منهيا عنه.

وعليه ، فيقع البحث في مصحح الضد العبادي مع ارتفاع الأمر به ، وهو أحد وجوه يقع البحث في كل منها وهي :

أولا : الالتزام بتعلق الأمر به بنحو الترتب.

وثانيا : الالتزام بمصححية قصد الملاك. والمهم في البحث عن هذا الوجه هو البحث عن طريقة إحراز الملاك بعد ارتفاع الأمر.

وثالثا : الالتزام بصحة قصد الأمر بالضد المزاحم ، ولو لم يكن مأمورا به كما ذهب إليه المحقق الكركي ( وهو المحقق الثاني ) في خصوص تزاحم العبادة الموسعة مع واجب مضيق كتزاحم صلاة الظهر مع إزالة النجاسة.

ولنبدأ بالوجه الأخير ، فنقول : حكي عن المحقق الثاني صحة الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر في الواجب الموسع المزاحم لواجب مضيق.

وقد اختلف في تقريب كلامه صاحب الكفاية مع المحقق النائيني.

فالذي ذكره صاحب الكفاية في تقريب كلامه هو : ان هذا الفرد المزاحم بالواجب الأهم وان كان خارجا بالمزاحمة عن دائرة الأمر وليس مصداقا للمأمور به ، وانما هو مصداق للطبيعة بما هي لا بما هي مأمور به ، إلاّ انه حيث يكون كسائر الافراد في الوفاء بالغرض الباعث للأمر ، وعدم افتراقه معها في ذلك ، لم ير العقل المحكم في باب الامتثال ، فرقا بينه وبين غيره من الافراد في تحقق الامتثال به ، فإذا جاء به العبد قاصدا امتثال الأمر يتحقق الامتثال به ويسقط الأمر بالامتثال ويعد العبد ممتثلا ومطيعا بنظر العقل.

هذا ما جاء في الكفاية في مقام تقريب الوجه المذكور ، وقد قرره صاحب

ص: 364

الكفاية (1).

والّذي ذكره المحقق النائيني هو : ان الفرد المزاحم لا يكون مأمورا به ، لأنه لا يكون مقدورا.

إلاّ انه لما كان الأمر متعلقا بصرف وجود الطبيعة لا بخصوصية الافراد ، ولذلك كان التخيير بين الافراد عقليا لا شرعيا. وبما ان القدرة على بعض افراد الطبيعة تحقق القدرة على نفس الطبيعة.

وعليه ، فالامر فيما نحن فيه متعلق بصرف وجود الطبيعة للقدرة على بعض افرادها وهي غير المزاحمة للواجب.

ومن الواضح ان انطباق الطبيعة على الفرد المزاحم قهري ، فإذا جاء به العبد تحقق به الامتثال ، لأن ملاك الامتثال انطباق المأمور به على المأتي به ، فكما يتحقق الامتثال بغير المزاحم من الافراد للانطباق ، كذلك يتحقق بالفرد المزاحم للانطباق. فالفرد المزاحم وان لم يكن مأمورا به بنفسه لكنه مصداق المأمور به.

هذا محصل ما جاء في تقريرات المحقق النائيني قدس سره (2).

وجهة الفرق بين التقريبين : ان الفرد المزاحم في تقريب صاحب الكفاية قد فرض كونه خارجا عن دائرة المأمور به ، وانه ليس فردا للطبيعة بما هي مأمور به.

واما في تقريب المحقق النائيني فقد فرض كونه مصداقا للطبيعة بما هي مأمور بها.

وعلى أي حال فنحن نوقع الكلام في كلا التقريبين.

اما تقريب الكفاية فقد أورد عليه - كما أشار إليه في الكفاية - بان الأمر

ص: 365


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /136- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1/ 313 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 263 - الطبعة الأولى.

لا يدعو إلاّ إلى ما تعلق به ، فيستحيل أن يؤتى بالفرد المزاحم بداعي الأمر ، مع انه خارج عن دائرة المأمور به ، إذ الأمر لا يدعو إليه والحال هذه (1).

وتحقيق الكلام ان يقال : ان المقصود من داعي الأمر ليس ما هو ظاهره وهو داعي نفس الأمر لأن الداعي ما يكون بوجوده الخارجي متأخرا عن العمل وهو المعبر عنه بالعلة الغائية. ومن الواضح ان الأمر لا يترتب في الخارج على العمل بل هو سابق عليه. فالمقصود من داعي الأمر هو داعي موافقة الأمر ، لا بمعنى موافقة نفس الأمر فانه تعبير مسامحي ، بل موافقة المأمور به ، أو المقصود داعي الجري على طبق الأمر وامتثاله.

ومن الواضح انه بهذا المعنى الأخير يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر ، لأن الأمر لما كان ناشئا عن ثبوت غرض ملزم في متعلقه وكان الأمر لأجل تحصيل هذا الغرض ، وبما ان الفرد المزاحم محصل للغرض الباعث نحو الأمر ، صح أن يؤتى به بداعي الجري على طبق الأمر. وبتعبير آخر يؤتى بالفرد المزاحم بداعي تحصيل الغرض الداعي إلى الأمر لغرض إسقاط ذلك الأمر ، بحيث لو لم يكن الأمر ثابتا لما جيء بالعمل.

وبهذا التقريب يصح ان يقال : انه يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر.

إلاّ انه - كما عرفت - يبتني على ان يكون الفرد المزاحم محصلا للغرض ، وطريق معرفة ذلك سيأتي تحقيقه في الكلام على الوجه الثاني ، الّذي نبحث فيه عن طريق إحراز الملاك بعد ارتفاع الأمر.

واما تقريب المحقق النائيني فقد أورد عليه قدس سره : بأنه انما يتم بناء على كون أخذ القدرة شرطا للتكليف من باب حكم العقل بقبح تكليف

ص: 366


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /136- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العاجز.

وذلك لأن الطبيعة لما كانت مقدورة بالقدرة على بعض افرادها ، صح تعلق التكليف بها من دون تقييد ، لأن الجامع بما هو جامع مقدور فيصح تعلق الحكم به.

واما بناء على كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء نفس التكليف لذلك وهو الحق ، فان التكليف انما هو

لأجل إعمال إرادة المكلف في الفعل ، وتحريك العبد نحو الإتيان بالعمل بإرادته ، فطبيعة التكليف تقتضي تعلقه رأسا بما هو مقدور ، إذ لا قابلية لغير المقدور لتعلق التكليف في نفسه.

بناء على هذا البناء لا يتم ما ذكره المحقق الكركي ، لأن متعلق التكليف ليس هو الطبيعة بما هي هي ، بل الطبيعة المقدورة. ومن الواضح ان الفرد المزاحم ليس فردا لطبيعة المقدورة فلا يكون فردا للطبيعة بما هي مأمور به بل بما هي هي ، وهو لا ينفع في صحة الإتيان بها بداعي الأمر. هذا محصل ما أورده المحقق النائيني (1).

وهو لا يخلو عن ضعف بكلا شقيه ..

أعني : ما ذكره من عدم تقيد المتعلق بالقدرة بناء على كون اشتراط التكليف بالقدرة بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز.

وما ذكره من كون الحق تقيد المتعلق بالقدرة لأجل كون اشتراط القدرة مما يقتضيه نفس التكليف وطبيعته.

اما ما اختاره من كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء طبيعة التكليف ذلك ، سواء حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو لم يحكم. فالحق فيه : انه لا وجه لاشتراط القدرة سوى حكم العقل بقبح تكليف العاجز وكون التكليف انما هو

ص: 367


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 263 - الطبعة الأولى.

لجعل الداعي لا ينافي ذلك.

بيان ذلك : ان ارتباط التكليف بإرادة المكلف يتصور على أنحاء ثلاثة : لأنه ..

اما ان يكون ارتباطا تكوينيا ، نظير ارتباط تحريك الآلة في تشغيل الماكنة المنتجة لبعض المصنوعات كالأسباب التوليدية لمسبباتها ، فيكون حدوث التكليف محركا للإرادة وموجدا لها فينتج العمل المطلوب.

واما ان يكون ارتباطا جعليا يتوقف على الاعتبار والبناء.

ثم ان هذا يتصور على نحوين :

الأول : ان يكون التكليف عبارة عن اعتبار الداعوية الفعلية وجعل ما يكون داعيا بالفعل نحو العمل.

الثاني : ان يكون عبارة عن اعتبار ما يمكن ان يكون داعيا وجعل ما له اقتضاء الداعوية ولو لم يكن داعيا بالفعل.

وما ذكره المحقق النائيني انما يتم بناء على الوجهين الأولين ، فانه لا يكون قابلا في نفسه لتعلقه بغير المقدور ، إذ المفروض انه مرتبط تكوينا بالإرادة ، فلا يتصور تعلقه بغير المقدور ، أو انه يدعو فعلا نحو الفعل ، والدعوة الفعلية لا تتصور لغير المقدور.

واما بناء على الوجه الثالث ، فالتكليف قابل في نفسه للتعلق بغير المقدور ، لأن حقيقته جعل ما يقتضي الداعوية ، ولا يمتنع وجود المقتضي مع عدم حصول شرطه أو مع وجود مانعة. وبعبارة أخرى : لا يمتنع وجود المقتضي مع عدم فعلية تأثيره ، فيمكن ان يتعلق التكليف في نفسه بغير المقدور - فيكون نظير وجود النار بدون الإحراق - ، إلا انه حيث كان جعل مقتضى الداعوية لغوا بالنسبة إلى غير المقدور لعدم ترتب الأثر عليه ، كان ذلك قبيحا. فمرجع اشتراط القدرة على هذا الوجه إلى قبح تكليف العاجز لأجل كونه لغوا لا إلى عدم

ص: 368

إمكانه.

ومن الواضح ان حقيقة التكليف ليست إلاّ جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهي أجنبية عن الوجهين الأولين.

وعليه ، فاشتراط القدرة لا يكون إلاّ من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز لأنه لغو محض ، وكون التكليف انما هو لجعل الداعي لا ينافي ذلك بعد ان عرفت ان المقصود جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وقد عرفت انه قابل في نفسه لأن يتعلق بغير المقدور ، ولكن المانع منه ليس إلاّ كونه عملا لغوا لا يصدر من الحكيم.

واما ما التزم به - بناء على كون اشتراط القدرة من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز - من تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، لأن الجامع مقدور بالقدرة على بعض افراده.

فالحق انه لا يمكن الالتزام به ، وذلك لأن تعلق الأمر بالجامع بحيث يسري إلى جميع افراده المقدور منها وغير المقدور انما يتم بالإطلاق ، فينطبق المأمور به على غير المقدور لأنه أخذ بنحو يشمله. وتعلقه بالجامع المطلق بحيث يسري إلى جميع افراده غير معقول ، لأنه قد مرّ بيان ان استحالة التقييد تارة تلازم استحالة الإطلاق وأخرى تلازم ضرورة الإطلاق ، لأن امتناع التقييد تارة يكون لأجل استحالة الحكم على المقيد ، فيستحيل الإطلاق أيضا ، لأن معنى الإطلاق يرجع إلى الحكم على جميع افراد المطلق ومنها المقيد ، والمفروض استحالة ثبوت الحكم له. وأخرى يكون لأجل استحالة نفس التقييد وقصر الحكم على بعض الافراد ، فيجب الإطلاق لامتناع ثبوت الحكم لخصوص بعض الافراد.

وما نحن فيه من قبيل الأول ، فان استحالة ثبوت الحكم لغير المقدور ليس لأجل امتناع قصر الحكم على بعض الافراد ، بل لأجل امتناع ثبوت

ص: 369

الحكم له بخصوصه ، وإذا استحال ثبوت الحكم لغير المقدور فهو ممتنع مطلقا ، سواء كان بعنوانه الخاصّ أو بعنوان مطلق. فالإطلاق ممتنع كالتقييد.

وبالجملة : الجامع وان كان مقدورا ، إلاّ ان هذا لا أثر له بعد ان كان الملاك الموجب لامتناع ثبوت التكليف بغير المقدور بعنوانه الخاصّ - وهو قبح تكليف العاجز - موجودا في ثبوت الحكم لمطلق الافراد ، بحيث تندرج الافراد غير المقدورة فيه.

وعلى هذا ، فالفرد غير المقدور وان كان فردا للطبيعة بما هي هي ، إلاّ انه ليس فردا لها بما هي مأمور به.

والمتحصل ان التقريب الّذي ذكره المحقق النائيني لا يسلم عن الإشكال ، بخلاف التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية ، لكنه كما عرفت يتوقف على إحراز وجود الملاك في الفرد المزاحم.

ثم ان المحقق الأصفهاني أورد على المحقق النائيني - وأوضح الإيراد مفصلا السيد الخوئي (1) -.

وخلاصة الإيراد : ان الواجب الموسع ، له نحوان من الافراد ، طولية وعرضية.

والالتزام بكون اشتراط القدرة من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، انما ينفع في تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره فيما لو كان التزاحم بين بعض الافراد العرضية للموسع ونفس الواجب المضيق ، إذ يقال حينئذ : ان الجامع مقدور للقدرة على بعض افراده ، وهي الافراد العرضية الأخرى ، فيصح تعلق الوجوب بالجامع.

اما لو كان التزاحم بين الفرد الطولي والواجب المضيق ، بحيث كانت

ص: 370


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 58 - الطبعة الأولى.

جميع الافراد العرضية في آن من الآنات مزاحمة لواجب مضيق ، نظير مزاحمة الإزالة للصلاة ، فلا ينفع ما ذكره إلاّ بالالتزام بالواجب المعلق ، وذلك لأن الجامع في آن المزاحمة غير مقدور لعدم القدرة على أي فرد من افراده ، لكون المفروض مزاحمة كل منها للواجب الأهم. فإذا كان الجامع غير مقدور امتنع تعلق التكليف بالجامع فعلا. نعم بناء على الواجب المعلق يلتزم بأنه فعلا متعلق بالجامع في الآن الّذي يلي آن المزاحمة ، لأنه مقدور في ذلك الآن ، لكنه قدس سره لا يلتزم بالواجب المعلق ويرى انه مستحيل كما تقدم. هذا إيضاح ما أفاده المحقق الأصفهاني (1) وهو وجه لطيف. لكنه لا يخلو عن مناقشة سيأتي التعرض لها في غير هذا المقام فانتظر.

وقد ذهب السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) إلى : ان القدرة ليست شرطا للتكليف وانما هي شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.

وقد قرب هذه الدعوى : بان الإنشاء لما لم يكن عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، إذ اللفظ ليس وجودا تكوينيا للمعنى ، كما انه لا يصلح ان يكون وجودا اعتباريا له ، لأن الاعتبار فعل نفساني يقوم بالنفس ، ولا يحتاج فيه إلى اللفظ ، وانما كان عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ وإظهاره ، لم يكن التكليف عبارة عن إنشاء البعث والتحريك نحو العمل ، وانما كان عبارة عن جعل الفعل في عهدة المكلف ، وهذا يستتبع حكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة.

وإذا كانت حقيقة التكليف ذلك لم يمتنع تعلقها بغير المقدور ، إذ هو كسائر الأحكام الوضعيّة التي لا شك في صحة تعلقها بغير المقدور. فيصح جعل الفعل في عهدة المكلف غير القادر.

نعم هي شرط في حكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة ومأخوذة في

ص: 371


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 247 - الطبعة الأولى.

موضوعه ، فحكمه بوجوب الإطاعة لا يتعلق بغير القادر.

وعلى هذا ، فلا يمتنع تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، لأن حقيقة التكليف لا تتنافى مع عدم القدرة ، بل تعلق التكليف بالجامع ضروري ، لأن التقييد إذا كان ممتنعا كان الإطلاق ضروريا ، لأن التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب - لا تقابل العدم والملكة - ، فإذا امتنع أحدهما وجب الآخر.

وتوهم : ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يسري إلى غير المقدور يستلزم اللغوية ، لأن المفروض ان حكم العقل بلزوم الإطاعة قد أخذ في موضوعه القدرة ، فلا فرق في لغوية التكليف بين تعلقه بغير المقدور منفردا أو في ضمن الجامع.

يندفع : بأنه يكفي في رفع لغوية تعلق التكليف بالجامع صحة الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر لو بنى على عصيان الأمر بالأهم ولولاه لما صح ، وهذا المقدار من الأثر رافع للغوية ومصحح للعمل (1).

ويتخلص مما أفاده أمور :

الأول : كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في عهدة المكلف والانتهاء إلى هذا الرّأي بواسطة نفي كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ.

الثاني : ان القدرة ليست شرطا للتكليف ، وانما هي شرط لمنجزيته أو بعبارة أخرى : شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.

الثالث : ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الإطلاق.

الرابع : ارتفاع اللغوية بقصد الأمر بالفرد المزاحم.

ولنا في جميع هذه الأمور كلام ومؤاخذات :

اما الأمر الأول : فالكلام الّذي لنا فيه ليس في بيان حقيقة التكليف وانها

ص: 372


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 66 - الطبعة الأولى.

ما هي فلهذا مجال آخر ، وانما الكلام في طريقة استدلاله على ذلك وانتهائه إليه ، فان صدوره منه غريب جدا.

بيان ذلك : ان هناك أمرين وقع كل منهما محل النزاع.

أحدهما : حقيقة التكليف ، وانها هل هي جعل الفعل في عهدة المكلف ، أو انها إنشاء التحريك والبعث وجعل الداعي.

ثانيهما : حقيقة الإنشاء ، وانها هل هي إيجاد المعنى باللفظ أو إبراز الاعتبار النفسانيّ.

ومن الواضح ان النزاع في الثاني يجري على كلا القولين في الأول ، فيقع الكلام بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في العهدة في ان الإنشاء هل هو إيجاد المعنى باللفظ أو إبراز الاعتبار النفسانيّ. وهكذا يقع نفس الكلام بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الداعي.

كما ان النزاع في الأول يجري على كلا القولين في الثاني فيقع النزاع في حقيقة التكليف وانها ما هي ، بناء على كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، كما يقع بناء على كون الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، إذ يقال ان المبرز هل هو جعل الفعل في عهدة المكلف أو جعل البعث والداعي؟.

وبالجملة : كل من الأمرين يقع فيه البحث مستقلا عن الآخر ، ويجري فيه النزاع بناء على كلا القولين في الآخر ، فلا يكون اختيار أحد القولين في أحدهما مستلزما لاختيار أحدهما المعين في الآخر ، إذ انه يتلاءم مع كليهما في الآخر.

وعليه ، فالالتزام بان الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ لا ينتهي منه رأسا إلى كون التكليف جعل الفعل في عهدة المكلف.

وكلام السيد الخوئي ظاهر في ذلك بل صريح ، فلا وجه له.

واما الأمر الثاني : فليس الوجه فيه الا ما ذكره من ان حقيقة التكليف انما هي جعل الفعل في عهدة المكلف ، فتعلقه بغير المقدور لا مانع عنه ، ولا

ص: 373

يشترط بلحاظ حقيقته ان يتعلق بالحصة المقدورة.

وهذا لا ينفع فيما اراده ، وذلك لأنه ..

ان أراد ان حقيقة التكليف لا تختلف عن سائر الأحكام الوضعيّة أصلا ، فجعل الفعل في العهدة الناشئ من التكليف نظير صيرورة الفعل في العهدة الناشئ من الإجارة ، فكما يصح تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور يصح تعلق التكليف به.

ففيه : ان لازم ذلك صحة تعلق التكليف بغير المقدور رأسا وبنفسه فقط ، إذ من الواضح إمكان تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور كالنائم ونحوه. وهذا مما لا يقول به أحد ولا يلتزم به القائل ، إذ لا يلتزم القائل ولا غيره بصحة تكليف العاجز عن القيام بالصلاة قائما. مع ان الكل يلتزمون بصحة الحكم باشتغال ذمة من لا يجد عند عروض بعض أسباب اشتغالها.

وان أراد انها تختلف عن سائر الأحكام الوضعيّة ، فليس اختلافها الا من ناحية الغرض من جعل التكليف ، فان الغرض منه إيجاد الداعي نحو الفعل.

فحقيقته : جعل الفعل في العهدة بغرض إيجاد الداعي نحو العمل. بخلاف سائر الأحكام الوضعيّة ، فليس الغرض منها ذلك. وإذا كان الغرض من التكليف ذلك امتنع شموله لغير المقدور ، لحكم العقل بقبح تكليف العاجز للغويته ، فالقدرة شرط لنفس التكليف ، ولو التزم بان حقيقته جعل الفعل في العهدة. وليست شرطا لحكم العقل بلزوم الامتثال.

واما حديث رفع اللغوية بتحقق الامتثال وسقوط الأمر لو جيء بالعمل من دون إرادة ، لأنه أحد افراد المأمور به.

فيدفعه : ان لغوية العمل انما هي بلحاظ عدم ترتب الأثر المرغوب عليه ، لا بلحاظ عدم ترتب مطلق الأثر. وبما انك عرفت ان الأثر المرغوب من التكليف انما هو إيجاد الداعي نحو العمل ، كان التكليف بغير المقدور ممتنعا ، لأنه

ص: 374

لغو لعدم ترتب الأثر المرغوب عليه.

ثم ان الّذي يظهر منه ( حفظه اللّه ) - بناء على ان حقيقة التكليف جعل الداعي وإنشاء البعث هو - تسليم ما ذكره المحقق النائيني من ان اشتراط القدرة في التكليف إذا كان من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز صح تعلق التكليف بالجامع.

وهذا وان لم يصرح به ، لكنه يستفاد من طي كلماته.

وأنت قد عرفت الإشكال في ذلك ، وبيان امتناع سراية الحكم للحصة غير المقدورة ، وان الملاك في منع تعلق التكليف بالحصة غير المقدورة رأسا موجود في سراية التكليف إلى الحصة غير المقدورة. فالتفت.

واما الأمر الثالث : ففيه :

أولا : ما عرفت من ان امتناع التقييد إذا كان لأجل امتناع ثبوت الحكم للمقيد - كما هو الحال فيما نحن فيه - كان الإطلاق ممتنعا لاستلزامه ثبوت الحكم للمقيد وقد فرض امتناعه. نعم إذا كان امتناع التقييد لأجل امتناع قصر الحكم على بعض الافراد كان الإطلاق ضروريا ، ولكنّ الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو من القسم الأول.

وثانيا : ان امتناع التقييد انما يستلزم ضرورة الإطلاق إذا كان الممتنع تقييد الحكم بأي حصة كانت ، اما إذا امتنع تقييد الحكم بخصوص هذه الحصة لم يجب الإطلاق ، إذ هناك شق ثالث غير ممتنع ، وهو تقييد الحكم بخصوص الحصة الأخرى المعاكسة للحصة الممتنعة.

وما نحن فيه كذلك : فان الممتنع ثبوت الحكم للحصة غير المقدورة ، اما خصوص الحصة المقدورة فلا يمتنع ثبوت الحكم لها. فامتناع تقييد الحكم بالحصة غير المقدورة لا يلازم ثبوت الإطلاق ، إذ يمكن ثبوت الحكم لخصوص الحصة المقدورة وهو مما لا محذور فيه.

ص: 375

وثالثا : - وهو العمدة - ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يشمل المقدور وغير المقدور يتنافى مع فرض التزاحم ، لأن التزاحم يكون لأجل تنافي الحكمين بحيث لا يمكن اجتماعهما ، فيرتفع أحدهما ويبقى الآخر وهو الأهم.

وعليه ، ففرض ثبوت التزاحم بين فرد الواجب الموسع والواجب المضيق وتقديم الواجب المضيق لازمه ارتفاع الأمر بالفرد المزاحم وعدم شموله له وإلاّ لعاد التزاحم.

وبالجملة : فرض التزاحم ينافي الالتزام بتعلق الأمر بالجامع.

وهذا الإيراد لم نعرف الوجه في غفلة الاعلام عنه ، فانه لا يرد على خصوص السيد الخوئي ، بل يرد على المحقق النائيني ، لأنه قرر تعلق الأمر بالجامع على تقدير دون آخر. بل يرد على أصل تقريب المحقق النائيني لكلام الكركي ، فانه تقريب غير علمي.

والّذي تحصل : ان القدرة شرط للتكليف بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز على جميع المسالك.

ونتيجة البحث : ان التقريب الّذي ذكره المحقق النائيني لكلام المحقق الكركي لا يخلو عن خدشة وإشكال ، فلا يمكن الالتزام به.

واما التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية ، فقد عرفت وجاهته ، لكنه يبتني على إحراز الملاك في الفرد المزاحم ، فهو لا ينهض وجها مستقلا لتصحيح العبادة ما لم ينضم إليه الوجه الآخر الّذي يبين فيه طريقة إحراز الملاك ومع إحرازه لا حاجة إلى ذلك الوجه إلاّ بناء على توقف العبادة على قصد الأمر وعدم كفاية غيره.

ثم ان كلام المحقق الكركي لو تم ، فهو انما ينفع في مورد تزاحم الواجب الموسع والواجب المضيق ، دون مورد تزاحم الواجبين المضيقين كما لا يخفى.

هذا مع انه لا تزاحم بين الواجب الموسع والواجب المضيق لما سيأتي في

ص: 376

مبحث التزاحم من بيان ذلك ، فقد ذكر المحقق النائيني وجها لتقديم الواجب المضيق على الواجب الموسع عند تزاحمهما ، وهذا الوجه ينتهي إلى بيان عدم ثبوت التزاحم بينهما بالمرّة وسيجيء تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.

وعليه ، فالوجه الّذي ذكره المحقق الكركي لا ينفع في تصحيح العبادة فيما نحن فيه أصلا ، لأن موضوعه خارج عن باب التزاحم.

ويقع الكلام بعد ذلك في الوجه الثاني والبحث فيه عن طريق إحراز الملاك وقد ذكر لذلك وجهان :

الأول : ما التزم به المحقق النائيني قدس سره ، وهو التمسك بإطلاق المادة. بتقريب : ان متعلق الأمر إذا كان مطلقا كشف ذلك عن ثبوت الملاك في مطلق الافراد لاعتبار وجود الملاك في متعلق الأمر.

وقد استشكل رحمه اللّه في ذلك من وجوه عديدة :

الأول : انه بناء على ما ذهب إليه من ان اشتراط القدرة في متعلق التكليف ، انما هو لأجل اقتضاء نفس الخطاب ذلك ، فنفس ورود الأمر يكون موجبا لتقييد متعلق الأمر بالقدرة فلا يكون مطلقا لوجود الدليل على التقييد.

الثاني : انه لو أنكر استلزام الأمر تقييد متعلقه بالقدرة ، فلا أقل من كونه صالحا للقرينية على التقييد ، ومع وجود ما يصلح للقرينية لا يصلح التمسك بإطلاق الكلام بل يكون الكلام مجملا من تلك الناحية.

الثالث : ان استكشاف عدم التقييد والإطلاق من عدم ورود القيد ، انما هو لأجل استلزام التقييد مع عدم بيانه نقض الغرض ، لإمكان ان يأتي العبد بغير واجد القيد من الافراد اعتمادا على الإطلاق فيستلزم نقض الغرض من الأمر ، إذ لا يتوصل بذلك إلى ما هو الغرض من الأمر.

وهذا المعنى غير تام فيما نحن فيه ، فان عدم التقييد بالقدرة لفظا مع تقيده واقعا بها لا يستلزم نقض الغرض ، إذ لا يمكن الإتيان بغير المقدور كما هو

ص: 377

الفرض ، فعدم الدليل على التقييد بالقدرة لا يستكشف منه الإطلاق.

الرابع : ان التمسك بالإطلاق في إثبات واجدية المتعلق للملاك يتوقف على كون الآمر في مقام بيان ما هو واجد للملاك - فان التمسك بالإطلاق يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان -. ومن الواضح ان الآمر ليس إلاّ في مقام بيان ما يرد عليه الأمر ، وما هو مطلوب من المكلف ، دون ما هو واجد للملاك ، فانه غير منظور في الكلام كما لا يخفى على كل أحد.

وقد أجاب قدس سره عن الوجه الأول : بان التقييد بالقدرة إذا كان في مرتبة سابقة على تعلق الأمر ، بحيث ورد الأمر على المقيد ، كان ذلك كاشفا عن دخل القدرة في الملاك. واما إذا كان المتعلق في المرتبة السابقة مطلقا غير مقيد ، وانما تقيد بعروض الطلب عليه ، فالتقييد نشأ من نفس عروض الطلب ، بحيث ورد الطلب على المطلق وانما تقيد في مرحلة عروضه ، لم تكن القدرة دخيلة في الملاك ، لأن إطلاق المتعلق في المرحلة السابقة هو الكاشف عن وجود الملاك في مطلق الافراد ، والأمر لا يقتضي تقييد متعلقه في المرحلة السابقة عليه. فهو مطلق غير مقيد.

ومن هنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني : فان الأمر كما لا يقتضي تقييد المتعلق لا يصلح لتقييده.

وأجاب عن الوجه الثالث : بان استكشاف الإطلاق من عدم ذكر القيد ليس من جهة استلزام التقييد بدون ذكر القيد نقض الغرض ، بل من جهة لزوم الخلف ، فان المتكلم إذا كان في مقام البيان فلا بد ان يبين التقييد لو كان مراده واقعا ، وإلاّ لزم خلف فرض كونه في مقام البيان ، وهو يتنافى مع كون المتكلم حكيما.

وفي هذا لا يختلف الحال بين ما نحن فيه وغيره. وهذا المعنى هو المقصود من التعبير بتبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت. فتدبر.

ص: 378

وأجاب عن الوجه الرابع بما نصه : « قلت : التمسك بالإطلاق تارة : يكون لأجل الكشف عما هو مراد المتكلم من الكلام ، ومن المعلوم انه يتوقف على إحراز كونه في مقام البيان ، وإلاّ لما كان الإطلاق كاشفا عن تعلق إرادته بالمطلق. وأخرى : يكون لأجل كشف المعلول عن علته بطريق الإن ، وهذا لا يتوقف على كون المولى ملتفتا إلى ذلك فضلا عن كونه في مقام بيانه. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانا إذا فرضنا ان ما يرد عليه طلب المتكلم في ظاهر كلامه هو مطلق الفعل دون المقدور منه ، والمفروض ان ما يرد عليه الطلب لا بد ان يكون ذا ملاك ومصلحة على مذهب العدلية ، فيكشف ذلك عن ان الواجد للملاك هو مطلق الفعل ، دون المقدور منه ، وهذا الكشف قهري لا يدور مدار كون المولى في مقام بيانه وعدمه ... » (1).

أقول : ما ذكره أولا في ابتداء كلامه من ان التمسك بالإطلاق تارة يكون لأجل الكشف عن مراد المتكلم من كلامه. وأخرى يكون من باب كشف المعلول عن علته. والأول هو الّذي يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان دون الثاني ، فانه يصح التمسك به وان كان المتكلم غافلا ، فان الّذي يقول : « وجدت الحرارة » يدل كلامه على وجود النار ، سواء كان ملتفتا أو غافلا من باب الانتقال من المعلول إلى العلة.

ما ذكره من ذلك وجيه كبرويا ، لكن تطبيقه على ما نحن فيه لم يؤد في الكلام كما ينبغي ، بل كان بيانه بنحو مجمل لا يفي بالمطلوب.

إذ يرد عليه : ان المقصود ..

ان كان هو التمسك بإطلاق الكلام في إثبات ان المتعلق في المرحلة السابقة على الأمر هو مطلق الفعل ، وينتقل من ذلك إلى وجود الملاك في مطلق

ص: 379


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 269 - الطبعة الأولى.

الفعل للملازمة ، فيكون ذلك من باب كشف المعلول عن العلة ، لا ما توهم في الإشكال من التمسك بالإطلاق في إثبات وجود الملاك في المطلق رأسا. ان كان المقصود ذلك كما هو ظاهر تقريرات الكاظمي ، فيرد عليه : ان إثبات إطلاق المتعلق في المرحلة السابقة على الأمر يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان ، وهو ليس كذلك ، إذ ما أثر بيان المتعلق في المرتبة السابقة مع قطع النّظر عن الملاك ، كي يكون المتكلم في مقام بيانه ، فهو أبعد من كون المتكلم في مقام بيان ما هو واجد للملاك.

وان كان المقصود هو التمسك بإطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال ، وانه لم يرد عليه قيد في ظاهر التعبير. ففيه : ان إطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال لا يلازم وجود الملاك في المطلق ما لم يحرز ان المراد الواقعي هو المطلق ، ولا طريق إلى إحرازه الا مقدمات الحكمة. فيعود الإشكال.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام ، بحيث يكون له صورة علمية ويخرج عن بداهة البطلان هو : ان واقع الأمر ليس إلاّ بالخطاب المتكفل لإنشائه ، وليس له واقع يكون الكلام حكاية عنه ، وانما واقعه وواقع متعلقه ليس إلاّ نفس الإنشاء والكلام. وحيث ان المتعلق في الكلام خال عن القيد فهو مطلق ، فيكشف ذلك عن توفر الملاك فيه من دون تقييد ، فليس هو من باب التمسك بالإطلاق ، بل نفس عدم التقييد لفظا يكشف عن ذلك ، لأن المتعلق مطلق لفظا والمفروض ان واقعه هو اللفظ والإنشاء.

وهذا الوجه وان لم يخل عن مناقشات ، لكن لا مجال لذكرها. والعمدة في المناقشة هو : ان الدليل الدال على تبعية الأحكام للمصالح من إجماع أو عدم اللغوية والحكمة لا يقتضي سوى توفر الملاك في ما انبسط عليه الأمر وبعث نحوه ، وان كان قد تعلق في ظاهر الخطاب بالمطلق ، ولا ملازمة بين وجود الملاك وأخذ الشيء في متعلق الأمر خطابا ، والمفروض فيما نحن فيه ان الأمر وان كان

ص: 380

يرد على المطلق لا على المقيد ولكن انما ينبسط في مرحلة عروضه على الحصة المقدورة دون الأعم. فتدبر جيدا.

الثاني : التمسك بالدلالة الالتزامية. ببيان : ان الكلام إذا كان له دلالتان دلالة مطابقية ودلالة التزامية وسقطت الدلالة المطابقية عن الحجية كانت الدلالة الالتزامية حجة في مدلولها ، لأن الدلالة الالتزامية انما تتبع الدلالة المطابقية في الوجود والتحقق ، فلا يمكن حصولها بدون الدلالة المطابقية ، ولا تتبعها في الحجية فيمكن التفكيك بينهما في مقام الحجية.

وهذا المعنى فرضه البعض من الواضحات التي لا تحتاج إلى مزيد برهان ، ولأجل ذلك أطلق الشيخ رحمه اللّه في مبحث تعارض الخبرين ان نفي الثالث يكون بهما (1). من دون ان يستدل عليه فكأنه من الواضحات.

والوجه فيه هو : ان بناء العقلاء انعقد على حجية الظهور ، فكل ظاهر حجة ، فإذا كان الكلام له ظهوران وانتفت حجية أحدهما بقي الآخر مشمولا لدليل الحجية ، فسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الالتزامية عنها ، لأن الكلام ظاهر في المدلول الالتزامي ، والظاهر حجة ببناء العرف والعقلاء.

وإذا تم ذلك نقول : ان الدليل الدال بالمطابقة على ثبوت الأمر وتعلقه بشيء يدل بالالتزام على ثبوت الملاك فيه ، لعدم ثبوت الأمر بدون ملاك ، فإذا علمنا بعدم تعلق الأمر فيه في مورد المزاحمة انتفت حجية الدلالة المطابقية للعلم بخلافها ، ولكن الدلالة الالتزامية تبقى على الحجية لتوفر ملاك الحجية فيها من دون رافع ، والمفروض انها لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية.

هذا محصل ما يقال في تقريب الوجه الثاني ، وقد تبين ان أساسه هو

ص: 381


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 441 و453- الطبعة الأولى.

الالتزام بإمكان انفكاك الدلالة الالتزامية عن الدلالة المطابقية في الحجية وهذه المسألة وقعت محل الكلام ولم تتفق فيها كلمات الأعلام.

وممن لم يلتزم بإمكان التفكيك بين الدلالتين في الحجية ، والتزم بتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الوجود والحجية ، السيد الخوئي ( حفظه اللّه ).

وأورد على الالتزام بالتفكيك بإيرادين : أحدهما نقضي ، والآخر حلي.

اما النقض : فبموارد لا يلتزم فيها بالمدلول الالتزامي مع سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية ، وقد ذكرها أربعة :

الأول : ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول وعلمنا من الخارج بكذب البينة وعدم الملاقاة ، ولكن احتملنا تنجس الثوب من جهة أخرى لملاقاته للدم ، فانه لا يلتزم أحد بنجاسة الثوب في الفرض أخذا بالمدلول الالتزامي للبينة - وهو النجاسة ، لأن الإخبار عن الملاقاة للبول اخبار عن نجاسته لملازمتها للملاقاة - ، إذ الساقط عن الحجية ليس إلاّ الدلالة المطابقية ، وهي الدلالة على الملاقاة للبول ، والمفروض هو إمكان التفكيك بين الدلالتين في مقام الحجية.

الثاني : ما إذا كانت الدار - مثلا - في يد زيد وقامت بينة على أنها لعمرو وأخرى على أنها لبكر ، فتساقطت البينتان في المدلول المطابقي للمعارضة ، فانه لا يلتزم أحد بمدلولهما الالتزامي الّذي تشتركان فيه وهو عدم كون الدار لزيد بحيث يجري على هذه الدار حكم مجهول المالك.

الثالث : ما إذا شهد واحد على ان هذه الدار - التي في يد زيد - لعمرو وأخر على انها لبكر ، فانه لا تكفي شهادة الواحد في إثبات المدعى ، لكنهما يشكلان بينة على المدلول الالتزامي وهو عدم كون الدار لزيد ، ولكن لا يلتزم أحد بنزع الدار من زيد وإجراء حكم مجهول المالك.

ص: 382

الرابع : إذا كانت دار في يد عمرو وقامت بينة على انها لزيد. وأقر زيد بأنها ليست له ، فان البينة تسقط في مدلولها المطابقي لمعارضته للإقرار وهو مقدم عليها ، ولا يلتزم أحد بمدلولها الالتزامي وهو عدم كون الدار لعمرو مع انه لا يعارض الإقرار.

واما الحل : فبتقريبين :

أحدهما : ان الدلالة الالتزامية ترتكز على أمرين : الأول : ثبوت الملزوم. والثاني : ثبوت الملازمة بينه وبين اللاّزم ، فمع انتفاء أحدهما تنتفي الدلالة الالتزامية ، وعليه فمع عدم ثبوت المدلول المطابقي الّذي هو عبارة أخرى عن عدم ثبوت الملزوم ، تنتفي الدلالة الالتزامية ، ولا يختلف الحال في ذلك بين مرحلة الحدوث والبقاء.

ثانيهما : ان ظهور الكلام في المدلول الالتزامي ليس بنحو الإطلاق ، وانما هو الحصة الخاصة الملازمة للمدلول المطابقي ، فالاخبار عن ملاقاة الثوب للبول اخبار عن نجاسته البولية لا مطلق النجاسة. وعليه فمع العلم بانتفاء المدلول المطابقي يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي وهو الحصة الخاصة ، واما احتمال ثبوت غير الحصة الخاصة فهو مما لا دليل عليه ، لأنه خارج عن المدلول الالتزامي. فلا يكون حجة فيه بارتفاع الدلالة المطابقية لأنه ليس بمدلوله (1).

والتحقيق ان يقال : ان دلالة الكلام على المدلول الالتزامي تارة : تكون عقلية تنشأ من كون ثبوت الملازمة بمقدمات عقلية برهانية ، لا تصل إليها أذهان العامة والعرف. وأخرى : تكون عرفية بمعنى ان يكون للكلام ظهور عرفي في المدلول الالتزامي ، كما إذا كانت الملازمة عرفية واضحة لدى العرف.

والدلالة الالتزامية العرفية على صور : لأن المدلول الالتزامي ..

ص: 383


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 74 - الطبعة الأولى.

تارة : يكون حكما والمدلول المطابقي موضوع الحكم. فالملازمة بينهما جعلية تعبدية لا عقلية ولا شرعية.

وأخرى : يكون المدلول الالتزامي معلولا والمطابقي علة.

وثالثة : بالعكس ، فيكون المدلول الالتزامي علة والمطابقي معلولا.

ورابعة : يكون المدلولان متلازمين من دون ان يكون بينهما علية ومعلولية. كدلالة ما يدل على وجود زيد في الغرفة على عدم وجوده في صحن الدار.

ولا يخفى ان محل الكلام هو الدلالة الالتزامية العرفية لا العقلية ، لأن العقلية وان عبّر عنها بالدلالة إلاّ انها خارجة حقيقة عن باب دلالات الألفاظ الناشئة من الظهور. فليس للكلام ظهور في اللازم العقلي ، وانما يحصل العلم به من العلم بثبوت الملزوم حقيقة أو تعبدا. والكلام انما يقال أنه دال على اللازم العقلي باعتبار دلالته على ثبوت الملزوم فيثبت اللازم بحكم العقل للملازمة ، لا ان نفس الكلام دال عليه وظاهر فيه. بل لا ظهور للكلام الا في المدلول المطابقي.

ومن هنا يظهر وجه خروج هذه الدلالة عن موضوع النزاع ، لأن موضوع النزاع هو حجية الدلالة الالتزامية وظهور الكلام في المدلول الالتزامي ، بعد سقوط حجية ظهوره في المدلول المطابقي ، وقد تبين ان لا ظهور للكلام في اللازم العقلي فلا دلالة التزامية كي يبحث عن حجيتها وعدمها.

هذا مع ان الدلالة العقلية والحكم العقلي بثبوت اللازم انما يكون مع إحراز ثبوت الملزوم - كما عرفت - ، فمع العلم بانتفاء المدلول المطابقي أو التشكيك في ثبوته لا تكون هناك دلالة عقلية ولا يثبت الحكم العقلي بثبوت اللازم.

فيتضح بذلك كون موضوع الكلام هو خصوص الدلالة العرفية ، وهي بجميع اقسامها غير داخلة في موضوع الكلام ، فان الصورة الأولى والثانية

ص: 384

خارجتان عنه.

اما الأولى : فلان الحكم لا جعل له مستقل بنفسه ، بل هو مرتبط بموضوعه ، فالمجعول هو الحكم على هذا الموضوع الخاصّ ، فمع العلم بانتفاء الموضوع يعلم بانتفاء الحكم ، كما انه مع الشك في ثبوت الموضوع وعدم إحرازه ولو تعبدا لا يمكن التعبد بالحكم لعدم إمكان جعل الحكم بدون موضوع ، فكما يشك في ثبوت الموضوع يشك في ثبوت الحكم ، فنفس ما يقتضي سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية وعدم ثبوت المدلول المطابقي يقتضي سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية لارتباط المدلول الالتزامي بالمدلول المطابقي في الثبوت.

واما الثانية : فلإمكان دعوى ان الإخبار عن العلة إخبار عن الحصة الخاصة من المعلول ، لتحصص المعلول من جهة العلة ، فالإحراق من النار غير الإحراق من غيرها ، فالمدلول الالتزامي هو الحصة الخاصة ، فمع العلم بعدم العلة يعلم بعدم المعلول الخاصّ ، فانتفاء المدلول المطابقي يلازم انتفاء المدلول الالتزامي.

واما الصورة الثالثة والرابعة : فهما موضوع البحث ، إذ الاخبار عن المعلول لا يكون إخبارا عن حصة خاصة من العلة ، بل عن العلة بقول مطلق لعدم تحصص العلة من جهة المعلول ، فان النار المحرقة وغيرها واحدة ، ولا يختلف الحال فيها بين صورتي الإحراق وغيرها ، فلا يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي عند العلم بانتفاء المدلول المطابقي ، فيبحث في حجية الدلالة الالتزامية في مدلولها. وهكذا الإخبار بالملازم يكون اخبارا عن الملازم بقول مطلق ، لأنه لا يتحصص بوجود ملازمه ، كالإخبار عن الوجوب فانه إخبار بالملازمة عن عدم الإباحة.

ثم ان محل الكلام في هاتين الصورتين صورة عدم إحراز ثبوت المدلول المطابقي وجدانا أو تعبدا ، فمع إحراز عدم ثبوته واقعا وجدانا أو تعبدا فهي خارجة عن محل الكلام.

ص: 385

والوجه في ذلك هو : ان ثبوت المدلول الالتزامي عند انتفاء المدلول المطابقي واقعا انما هو بإطلاق الدلالة الالتزامية ودلالتها على ثبوت اللازم مطلقا ، سواء وجد المدلول المطابقي أو لم يوجد ، والإطلاق هاهنا غير ثابت ، لأن الدلالة الالتزامية ليست مما يساق لها الكلام ، فليس المتكلم في مقام البيان من جهتها. مع انه لا يعقل ثبوت الدلالة بقول مطلق لتفرع الدلالة الالتزامية عن المطابقية. فلا يعقل ان يكون المدلول الالتزامي هو اللازم سواء وجد الملزوم أو لم يوجد. فالقدر المتيقن من الدلالة الالتزامية هو ثبوت المدلول الالتزامي عند وجود المطابقي.

إذا عرفت ذلك تعرف الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي نقضا وحلا.

اما النقض : فبعض موارده مختص بصورة العلم ، كمثال إخبار البينة بملاقاة الثوب للبول ، وقد عرفت خروجه عن محل الكلام.

هذا مع ان المورد من موارد العلم بخطاء المستند في الإخبار ، لأن المستند في الاخبار عن المدلول الالتزامي هو العلم بالملاقاة للبول ، والمفروض العلم بعدمه ، والعلم بخطاء مستند الاخبار يوجب سقوطه عن الحجية ولو بالنسبة إلى الدلالة المطابقية. فلو أخبر عن الهلال وعلمنا ان منشأ خبره هو رؤيته لخيط في السماء تخيل انه هلال مع احتمال وجود الهلال لم يكن خبره حجة ، فسقوط الدلالة الالتزامية هاهنا لا لأجل تبعيتها للدلالة المطابقية بل لأجل العلم بكذب المستند.

والبعض الآخر كالمورد الثاني لا مانع من الالتزام به وليس فيه مخالفة لضرورة الفقه ، بل هناك من يلتزم بها من دون تردد (1).

هذا مع ان مثال الإخبار عن الملاقاة والنجاسة خارج عن محل الكلام

ص: 386


1- كالمحقق العراقي قدس سره هكذا أفاد سيدنا الأستاذ ( دام ظله ). ( منه عفي عنه ).

لوجهين آخرين :

الأول : ان الإخبار عن النجاسة ليس من سنخ الدلالة الالتزامية ، والشاهد عليه ثبوت النجاسة لو كان ما يتكفل إثبات الموضوع هو الأصل ، مع ان الأصل لا دلالة له التزامية كما قرر في محله. فتأمل.

الثاني : ان المورد من موارد ما كان المدلول المطابقي موضوعا والمدلول الالتزامي حكما ، وقد عرفت خروجه عن محل البحث ، لأن الاخبار عن الموضوع اخبار عن حصة خاصة من الحكم ، لأن النجاسة - مثلا - لم تجعل بقول مطلق بل جعلت للملاقي ، فالمخبر به التزاما نجاسة الملاقي ، فإذا علم بعدم الملاقاة للبول فقد علم بعدم نجاسة الملاقي ، فانتفى المدلول الالتزامي للعلم بخلافه.

واما الحل : فالوجه الثاني يخدش بوجهين :

أحدهما : ان يكون الإخبار عن الملزوم اخبارا عن حصة خاصة من اللازم - على تقدير تسليمه - ، قد عرفت اختصاصه ببعض الموارد دون بعض.

الثاني : انه ما المانع من دعوى حجية الدلالة الالتزامية في ذات الحصة الخاصة على تقدير التشكيك في ثبوت المدلول المطابقي لا ثبوت عدمه وإحراز انتفائه ، كي يقال باستلزامه ثبوت عدم المدلول الالتزامي؟.

والوجه الأول انما يتم في الدلالة العقلية ، لأن الحكم بثبوت اللازم لا يكون إلاّ بعد العلم بثبوت الملزوم ، وقد عرفت خروجها ، اما الدلالة العرفية فلا تتوقف على ثبوت الملزوم ، بل منشأ تحققها دلالة الكلام على ثبوت الملزوم ، وهي متحققة ، إذ الدلالة المطابقية انما تسقط عن الحجية لا عن الثبوت. ويشهد لما ذكرنا ان الدلالة الالتزامية تثبت للكلام مع العلم بانتفاء الملزوم وعدم إرادة المدلول المطابقي جدا ، كما في الاستعمالات الكنائية. فتدبر.

فالذي ينبغي ان يقال في نفي حجية الدلالة الالتزامية عند انتفاء حجية

ص: 387

الدلالة المطابقية هو : ان الدلالة الالتزامية وان كانت من مصاديق الظهور - الّذي هو ملاك حجيتها - ، إلاّ ان حجية الظهور انما هي بعمل العقلاء وبنائهم على التمسك به وتقرير الشارع لهم ، فالطريق إلى إحراز حجية الظهور في المدلول الالتزامي شرعا بعد سقوط الدلالة المطابقية ، ليس إلاّ بناء العقلاء ، وهو لم يثبت على ذلك لعدم توفر شاهد عرفي لدينا ، والتشكيك يكفي في نفيه لأنه دليل لبي لا لفظي كي يتمسك بإطلاقه ، إذ لم يرد في لسان دليل : « ان الظاهر حجة » ، والدليل اللبي يقتصر فيه على القدر المتيقن. فعدم حجية الدلالة الالتزامية لعدم الدليل لا لما ذكر.

هذا ولكن الإنصاف ان بناء العقلاء قائم على الأخذ بالمدلول الالتزامي ولو لم يكن المدلول المطابقي حجة ، لعدم تعلق أثر عملي به أو نحوه كما يشهد لذلك ملاحظة سيرتهم في الإقرارات والدعاوي. فتدبر.

هذا ولكن لو سلم ان الدلالة الالتزامية حجة ، فهو لا ينفع في محل الكلام وإثبات الملاك بالدلالة الالتزامية لوجهين :

الأول : ان المورد من موارد العلم بانتفاء المدلول المطابقي - الّذي هو المستند للاخبار عن الملاك - للعلم بعدم الأمر عند المزاحمة.

الثاني : ان الدلالة هاهنا عقلية لا عرفية ، لأن ملازمة الأمر لثبوت الملاك في متعلقه ليس مما يستوضحه العرف ويدركه ، كيف؟ وقد أنكره قسم كبير ، فاكتفوا بوجود الملاك في نفس الحكم دون متعلقه ، بل أنكر البعض ضرورة نشوء الحكم عن مصلحة فيه أو في متعلقه كالأشاعرة.

وقد عرفت خروج كلتا الصورتين عن مبحث حجية الدلالة الالتزامية.

ونتيجة ما تقدم : انه لا دليل على ثبوت الملاك في متعلق الحكم عند ارتفاع الحكم.

وعلى هذا لم يثبت لدينا فعلا ما يصحح الضد العبادي ، لأن ما ذكره

ص: 388

المحقق الثاني قد عرفت الإشكال فيه ، مع انه يتوقف على إحراز الملاك في الفرد المزاحم ، وقد عرفت انه لا طريق إليه ، ودعوى العلم بثبوته فيه وعدم الفرق بينه وبين سائر الافراد جزافية ، لاحتمال ان يكون ارتفاع الحكم لارتفاع المقتضي بالمزاحمة لا لوجود المانع فقط.

فيقع الكلام في الوجه الثالث المذكور لتصحيح العبادة وهو : الالتزام بتعلق الأمر بها بنحو الترتب. فالكلام فعلا في ..

الترتب

ومسألة الترتب ليست من مسائل الأصول العريفة في القدم ، بل لم يرد لها في كتب القدماء ذكر ولا أثر ، والمعروف ان أول من انتبه للترتب هو المرحوم صاحب كشف الغطاء ، ولكن جاء في أجود التقريرات نسبة الالتزام به إلى المحقق الكركي الّذي هو أسبق من كاشف الغطاء زمانا (1).

وعلى أي تقدير ، فمهمة الترتب هو تصحيح الأمر بالضدين المتزاحمين بنحو يكون كلا الأمرين في زمان واحد من دون ترتب محذور عليه. وقد اختلف الاعلام فيه نفيا وإثباتا وكثر النقض والإبرام فيه ، والّذي أسس أركانه هو السيد المجدد الشيرازي قدس سره . والّذي نقح البحث فيه ورتبه من المتأخرين هو المحقق النائيني قدس سره .

وقد قدم السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) على أصل البحث في إثبات الترتب ونفيه بعض التنبيهات المتعلقة به.

ولكنه يتنافى مع أصول فن ترتيب المباحث ، فلا معنى للبحث عن ان الترتب هل يجري في هذا المورد أو لا؟ قبل البحث عن نفس الترتب ومعرفة

ص: 389


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 286 - الطبعة الأولى.

حقيقته ، فالأولى تأخيرها عن أصل المبحث وأساسه.

وكيف كان ، فدعوى الترتب بنحو الإجمال تمهيدا للدخول فيه هي : ان الضد المهم يكون متعلقا للأمر بشرط عصيان الأمر بالأهم أو ترك الأهم ، بحيث يجتمعان في زمان واحد.

وقد سلك للاستدلال لصحته مسلكان : أحدهما عرفي والآخر برهاني.

اما الوجه العرفي فتقريبه : ان ثبوت الترتب ووقوعه في الأوامر العرفية والشرعية مما لا إشكال فيه ، فنرى ان الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة ، ثم يقول له إذا لم تذهب إلى المدرسة فابق في البيت ، فالأمر بالبقاء في البيت مشروط بترك الذهاب إلى المدرسة مع عدم سقوط الأمر به.

ومن المعلوم انه لا يرى بذلك أي محذور واستحالة. هذا في العرفيات.

واما في الشرعيات ، فكما لو وجب على المكلف قصد الإقامة في البلد الّذي سافر إليه ، فانه يجب عليه الإفطار والقصر لو لم يقصد الإقامة ، فالأمر بالإفطار مشروط بعدم قصد الإقامة مع تعلق الأمر بها فعلا ، فالأمران يجتمعان في زمان واحد.

وإذا ثبت وقوع الترتب فهو خير دليل على الإمكان وعدم الاستحالة.

والتحقيق : ان هذا المثال العرفي ونحوه وان كان ظاهرا في وقوع الترتب ، إلاّ انه لو فرض قيام الدليل الجزمي على استحالة الترتب وامتناع وقوعه فلا بد من صرف هذه الموارد عن ظاهرها ، بدعوى ان الأمر بالبقاء في البيت في المثال المزبور يرجع في الحقيقة إلى النهي عن الكون خارج الدار والمدرسة ، أو أنه يرجع إلى الإرشاد إلى وجود المصلحة في البقاء فيكون امرا إرشاديا ، أو انه ثابت بعد سقوط الأمر بالذهاب إلى المدرسة لفوات وقته ، فالأمثلة العرفية لا تصلح دليلا في قبال برهان الاستحالة.

واما المثال الشرعي المذكور والّذي فرع عليه فروعا متعددة جعلها

ص: 390

شاهدا على الترتب ، فهو أجنبي عما نحن فيه وبعيد عنه ، فان ما نحن فيه ما يكون بين متعلق الأمرين تضاد في أنفسهما بحيث لا يمكن اجتماعهما معا كإنقاذ غريقين وليس قصد الإقامة والإفطار من هذا القبيل ، فانه لا تضاد بينهما في أنفسهما إذ يمكن الجمع بينهما ، وانما لم يمكن الجمع بينهما خارجا لأجل النهي عن الصوم بدون قصد الإقامة ، فالتضاد بينهما عارضي ناشئ من نحو جعل حكميهما وعدم جعل حكم أحدهما في مورد الآخر ، فالمثال المزبور لا يرتبط بما نحن فيه فلا يصلح شاهدا على وقوع الترتب.

واما المسلك البرهاني : فقد عرفت ان المحقق النائيني هو أفضل من نقح الاستدلال عليه.

وقد الف استدلاله من مقدمات :

المقدمة الأولى : أوضح فيها أمرين :

الأمر الأول : ان منشأ التزاحم والتنافي بين الحكمين هو الّذي لا بد من ارتفاعه دون غيره لعدم الموجب لارتفاع غيره ، والسقوط بدون موجب محال.

وعليه فان كان منشأ التزاحم هو إطلاق كل من الخطابين فيرتفع بتقييد إطلاق المهم ، لارتفاع منشئه. واما إذا كان منشأ التزاحم هو نفس فعلية الخطابين فاللازم سقوط أصل الخطاب بالمهم لا إطلاقه.

ثم عقب هذا الأمر بالتعرض إلى ما جاء من الشيخ الملتزم باستحالة الترتب وسقوط أصل الخطاب بالمهم - ما جاء منه - من الالتزام في مورد تعارض الخبرين بناء على السببية بتقييد وجوب العمل بكل منهما بترك العمل بالآخر ، بدعوى ان المحذور ناشئ من إطلاق وجوب العمل بكل منهما فيرتفع برفع منشئه وهو يكون بالتقييد ، وهذا يرجع إلى كون خطاب كل منهما مترتبا على ترك العمل بالآخر.

واستشكل فيه بما نصه : « وليت شعري إذا كان الالتزام بالترتب من طرف

ص: 391

واحد ممتنعا كما فيما نحن فيه ، فهل ضمّ ترتب آخر والالتزام بترتبين يوجب ارتفاع المحذور؟ » (1).

أقول : لا يخفى ان ما ذكره أولا من الترديد في منشأ التزاحم وأثر كل من طرفي الترديد ، ليس دخيلا في تصحيح الترتب ، وانما هو بيان لموضوع النزاع ونقطة الخلاف ومنشئه ، فإيراده في مقدمات تصحيح الترتب الظاهر في دخله في معرفة إمكانه ليس بجيد.

واما إيراده على الشيخ قدس سره بما عرفت ، فيمكن دفعه بما أشار إليه في الكفاية من الإشكال في الترتب : بان التكليف بالمهم وان كان مشروطا بعصيان الأهم فلا يطارد الأمر بالأهم ، إلاّ ان الأمر بالأهم مطلق فهو يطارد الأمر بالمهم (2).

ومن الواضح ان هذا الإشكال يرتفع بتقييد كل من الأمرين بعصيان الآخر.

وعليه ، فالتزام الشيخ باستحالة الترتب من جانب واحد لا يلازم الالتزام باستحالته من جانبين ، إذ يمكن ان يكون وجه استشكاله في صحة الترتب من جانب واحد ما ذكره صاحب الكفاية الّذي عرفت انه لا يتأتى في مورد كون الترتب من الجانبين. فتدبر.

الأمر الثاني : ان المحذور من تعلق الأمر بكلا الضدين الّذي يحاول تصحيحه بوجه من الوجوه بالترتب ، ليس إلاّ طلب الجمع بين الضدين ، وهو ليس بمقدور ، ولا يخفى ان هذا المعنى يرتفع بالترتب ، لأن التكليف بالمهم يكون في طول التكليف بالأهم لا في عرضه ، ويشهد له انه لو فرض إمكان الجمع بين

ص: 392


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 287 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /134- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

متعلقي الخطابين المترتب أحدهما على ترك متعلق الآخر لم يقعا على صفة المطلوبية ، فانه يكشف عن ان المطلوب ليس الجمع بين الضدين وإلاّ لوقع كل من الفعلين على صفة المطلوبية. مثال ذلك : إذا أوجب الكون في المسجد وأوجب قراءة القرآن عند ترك الكون في المسجد ، فانه إذا دخل المسجد وقرأ القرآن لا تقع القراءة على صفة المطلوبية ، فانه يكشف ان نفس الترتب يمنع من تحقق طلب الجمع بين الضدين المحال (1).

أقول : ان هذا الأمر كسابقه ليس من مقدمات تصحيح الترتب ، وانما هو وجه مستقل تام إجمالي لتصحيح الترتب ، لأنه يتكفل بيان ارتفاع محذور طلب الضدين بالترتب ، وهذا مصحح له بنفسه من دون احتياج إلى ضم مقدمات أخرى.

هذا مع ان كلامه في نفسه لا يخلو عن مناقشة ، فان ما ذكره من ان المحذور في تعلق الأمر بكل من الضدين هو كونه طلبا للجمع بين الضدين ، وهذا المحذور يرتفع بالترتب. ليس بوجيه ، بيان ذلك : انه سيأتي إن شاء اللّه تعالى في مبحث المطلق والمقيد البحث في أن الإطلاق هل هو عبارة عن الجمع بين القيود أو هو عبارة عن رفض القيد؟ ، فهل إطلاق : « العالم » في دليل : « أكرم العالم » معناه دخالة كل ما يتصور قيديته للطبيعة في الحكم ، فالعدالة دخيلة والفسق دخيل والبياض دخيل والسواد كذلك وهكذا ، أو معناه عدم دخالة أي قيد من القيود ، ولم يؤخذ في الموضوع سوى ذات الطبيعة؟. والّذي يقتضيه النّظر هو الثاني. وعليه فإطلاق الأمر بكل من الضدين يرجع إلى الأمر بالضد سواء وجد الضد الآخر أو لم يوجد ، فالمطلوب ليس إلا نفس الضد دون الجمع بينهما.

نعم ، لو كان الإطلاق معناه الجمع بين القيود ، كان مقتضى إطلاق الأمر

ص: 393


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 286 - الطبعة الأولى.

بكل من الضدين. إرادة كل من الضدين مع الآخر (1) ، إذ وجود الضد الآخر دخيل في الموضوع فالمطلوب هو الضد مع وجود ضده. ولكن عرفت ان التحقيق خلافه.

وبالجملة : ليس المطلوب ومتعلق الأمر الا ذات الضد ، وليس هناك امر آخر متعلق بكلا الضدين.

نعم طلب الجمع بين الضدين ينتزع من طلب كل منهما لا على ان يكون هناك طلب حقيقي بالجمع.

وقد يقال : ان غرض القائل ليس وجود طلب متعلق بالجمع بين الضدين ، وانما غرضه تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين لا عنوانه ، وهو مستحيل ، وقد نبه المحقق النائيني قدس سره على إرادة ذلك في بعض كلماته.

ولكن يرد عليه - بعد توجيهه بان مقتضى الإطلاق ثبوت طلب كل من الضدين ولو في حال الاشتغال بالضد الآخر ، ففي هذه الحال يتحقق واقع طلب الجمع بين الضدين - : بان هذا المحذور لا يرتفع بالالتزام بالترتب ، وذلك لأنه في حال الاشتغال بفعل الضد المهم اما ان يلتزم بعدم الأمر بالأهم ، وهو خلف المفروض ، إذ المفروض اجتماع الأمرين في زمان واحد. واما ان يلتزم بثبوت الأمر بالأهم كما هو المفروض ، فيلزم تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين. فتدبر جيدا.

واما ما ذكره شاهدا على كون الترتب مانعا من طلب الجمع بين الضدين ، وهو ما لو أتى بكلا المتعلقين لو فرض إمكان اجتماعهما ، فهو لا يصلح لما اراده. فانه انما يصلح لو فرض فعلية كلا الحكمين ومع هذا لا يكون متعلقهما واقعين

ص: 394


1- ليس ذلك من طلب الجمع ، بل من طلب أحد الضدين عند وجود الآخر ، لا ان الطلب متوجه لهما معا ، فالفرق ليس إلا في ان وجود الآخر على هذا الاحتمال دخيل في الملاك دون احتمال رفض القيود. وإلا فالأمر في فرض وجود الآخر ثابت على كلا القولين. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

على صفة المطلوبية ، فانه يكشف عن عدم طلب الجمع بين الضدين ، وليس الأمر كذلك ، لأنه مع الإتيان بالأهم يرتفع الأمر بالمهم لفقدان شرطه وهو ترك الأهم.

فعدم وقوع المهم على صفة المطلوبية لأجل عدم الأمر. وهذا أجنبي عما نحن فيه. فلاحظ.

المقدمة الثانية : ان الواجب المشروط لا ينقلب مطلقا عند حصول شرطه ، بل يبقى كما كان قبل حصوله مشروطا به.

والوجه فيه : ان كل شرط يقيد به الحكم يرجع إلى الموضوع ويكون قيدا لموضوع الحكم فيلزم أخذه مفروض الوجود حين التكليف ، بمعنى ان التكليف يرد عليها بعد تحققها خارجا. فكل شرط موضوع كما ان كل موضوع شرط.

ومن المعلوم ان كل موضوع لا ينسلخ عن موضوعيته عند وجوده ، فلا يكون الحكم بدون موضوع. فدعوى انقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه تساوق دعوى خروج الموضوع عن موضوعيته بعد وجوده خارجا.

ثم أخذ قدس سره في بيان منشأ التوهم المزبور ، وانه ناشئ عن الخلط بين ما هو موضوع الحكم وما هو داعي الجعل ، بتخيل رجوع الشرط إلى كونه داعيا للجعل ، فلا يتقيد به الجعل ولا المجعول بعد وجوده ، بل يكون الحكم مطلقا وان تخلف الداعي خارجا. فان الحكم يرد بإكرام زيد بداعي تشجيعه على الاشتغال والتحصيل ، فلا يتقيد الحكم بالداعي ، ولذا يثبت الحكم وان لم يحصل التشجيع على الاشتغال.

وذكر قدس سره ان هذا التخيل فاسد ، إذ رجوع الشرط إلى كونه داعيا للجعل يستلزم كون الإنشاءات المقيدة ببعض الشروط من قبيل الإخبار. بيان ذلك : ان الشرط إذا كان داعيا للجعل ، فمعناه ارتباط الجعل به فلا يتحقق الجعل الا بعد حصوله لأنه هو الّذي يدعو إليه.

وعليه ، فمرجع الإنشاء المقيد بالشرط إلى الاخبار عن تحقق الجعل لكل

ص: 395

مكلف عند تحقق الشرط. وهذا باطل ضرورة.

وبالجملة : ان الشرط قيد الموضوع وليس من دواعي الجعل ، والتعبير عنه بالشرط تارة وبالسبب أخرى ليس إلاّ اصطلاح صرف يختلف البناء عليه باختلاف موارده. وإلاّ فهما حقيقة من قيود الموضوع. وعليه فلا ينقلب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه ، ويترتب على هذا بقاء اشتراط الأمر بالمهم عند حصول شرطه وهو عصيان الأمر بالأهم. فارتباط هذه المقدمة بتصحيح الترتب هو انه لو التزم بانقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه لزم ان يكون الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم مطلقا فيكون في عرضه فيعود التمانع. بخلاف ما لو التزم بأنه يبقى مقيدا ولا ينقلب عن اشتراطه فانه يكون في طوله فلا تمانع.

هذا خلاصة المقدمة الثانية بتوضيح منا (1).

وقد أورد عليها إيرادات متعددة رأينا إهمالها أولى ، لعدم ارتباطها بما هو المهم في المقام.

والّذي ينبغي ان نوقع البحث فيه حول هذه المقدمة هو : تفهم المقصود بما جعل موضوع الخلاف في هذه المقدمة ، وهو ان الواجب المشروط هل ينقلب مطلقا عند حصول شرطه أو لا؟ فان إدراك المقصود منه بنحو يكون له صورة معقولة يبدو لنا صعبا ، وذلك لأن الشرط المأخوذ قيدا للحكم اما ان يؤخذ قيدا حدوثا وبقاء. واما ان يؤخذ قيدا حدوثا فقط.

فان أخذ قيدا حدوثا وبقاء ، فمعناه ارتباط الحكم به في حدوثه وبقائه ، وهذا يتنافى مع إطلاق الحكم عند حصوله ، فانه خلف فرض تقيد الحكم به بقاء ، إلاّ ان شخصا لا يدعي صيرورته مطلقا بمجرد حصول شرطه سواء كان الشرط

ص: 396


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 287 - الطبعة الأولى.

من قيود الموضوع أو لا.

وان أخذ قيدا حدوثا فقط ، الّذي معناه ثبوت الحكم في مرحلة بقائه ولو لم يكن هذا الشرط موجودا ، فهذا يرجع إلى إطلاق الحكم في مرحلة بقائه وعدم تقييده ، وهو مما لا إشكال فيه ولا يختلف فيه اثنان سواء كان الشرط من قيود الموضوع أو لا.

فبقاء التقيد في الفرض الأول وعدم بقائه في الفرض الثاني من باب الضرورة بشرط المحمول ومما لا يختلف فيه أصلا. وليس لدينا فرض ثالث غيرهما. اذن فما معنى النزاع في ان الواجب المشروط هل ينقلب مطلقا عند حصول شرطه أو لا ينقلب؟ ، وما هو المقصود منه؟ بعد ان كان الأمر دائرا بين فرضين لا ثالث لهما ، والالتزام في أحدهما ببقاء التقييد وفي الآخر بارتفاعه بلا خلاف ولا شبهة ، فانه مقتضى دليل الاشتراط.

ودعوى : انه يمكن ان يكون المقصود هو النزاع في ان الحكم في الآن الّذي يفرض حصول الشرط فيه بوصف كونه شرطا - سواء أخذ شرطا حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء - ، هل يبقى مقيدا بذلك الشرط أو يكون مطلقا بالنسبة إليه؟ ، فالنزاع بلحاظ زمان حصول الشرط مع فرض شرطيته لا بلحاظ زمان ما بعد حصوله كي يأتي التشقيق السابق.

غير مجدية في تصحيح النزاع ، إذ إطلاق الحكم بالنسبة إلى الشرط عند حصوله بلحاظ آن حصوله غير معقول ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه فلا يتصور الخلو عن الشرط في زمان حصوله. فلا يتصور للإطلاق معنى معقول كي يكون موضوع النفي والإثبات.

هذا مع ان نفي الإطلاق والالتزام ببقاء التقييد في ذلك الآن يثبت سواء كان الشرط راجعا إلى الموضوع أو ليس براجع إليه بل له حقيقة أخرى غير الموضوع ، لأن الحكم مرتبط به على كل تقدير كما هو مقتضى دليل الشرطية ،

ص: 397

فنفي ارتباطه به ينافي دليل الشرطية.

فلم يظهر الوجه في الاهتمام لإثبات كون الشرط من قيود الموضوع وراجعا إليه حقيقة.

هذا ان كان المقصود بالإطلاق المعنى المصطلح وهو ثبوت الحكم في حالتي وجود الشرط وعدمه.

وان أريد بالإطلاق معنى آخر وهو : شمول الحكم للشرط وسرايته إليه بان يكون داعيا إليه باعثا نحوه ، نظير داعوية وجوب الصلاة نحو الطهارة ، فيقصد بالتقييد عدم دعوة الحكم إلى الشرط وانه عند وجوده لا يكون الحكم مطلقا بمعنى داعيا إليه. فهذا المعنى وان كان معقولا في نفسه إلاّ أنه سيأتي منه قدس سره بيان عدم نظر الحكم إلى شروطه وانه لا يكون داعيا إليها ، فتقديم الكلام فيه بالعنوان المذكور في المقدمة ، وهو عنوان ان المشروط لا ينقلب مطلقا عند تحقق شرطه ، لا وجه له.

مضافا إلى ان عدم الانقلاب وبقائه على التقييد لا يختص بالالتزام برجوع الشرط إلى الموضوع ، بل يتأتى ولو كان للشرط حقيقة أخرى ، ولذلك التزم صاحب الكفاية وغيره بان مقدمة الوجوب لا يترشح عليها الوجوب من الواجب لأنها شرط الحكم لا الواجب (1) ، مع العلم بان صاحب الكفاية لا يلتزم برجوع الشروط إلى الموضوع.

والمتحصل : ان إهمال ذكر هذه المقدمة هو الّذي كان يتعين على المحقق النائيني رحمه اللّه . فالتفت.

المقدمة الثالثة : ان فعلية الحكم مساوقة لحصول الجزء الأخير من الموضوع ، بمعنى انه لا يكون هناك فصل زماني بين الحكم وموضوعه ، بل التقدم

ص: 398


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /99- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والتأخر بينهما رتبي ، فان الفصل الزماني بين الحكم وموضوعه خلف فرض كون الموضوع موضوعا ، فلو فرض في بعض الواجبات ثبوت لزوم تخلل آن ما بين الموضوع والحكم يكشف ذلك عن دخل الآن المزبور في الموضوع ، بحيث يكون هو الجزء الأخير لموضوع الحكم. وعلى هذا الأساس بنى على بطلان الشرط المتأخر لاستلزامه تقدم الحكم على شرطه.

وكما انه لا فصل بين الحكم وموضوعه في الزمان - لأن نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول. ومن الواضح انه لا انفكاك بين العلة والمعلول زمانا ، بل الاختلاف بينهما في المرتبة - كذلك لا فصل بين الحكم وامتثاله زمانا ، بل التقدم والتأخر بينهما رتبي ، لأن نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلة إلى المعلول.

واما دعوى لزوم الانفكاك بين الحكم والامتثال زمانا في المضيقات ، واعتبار مضي زمان ما للحكم على وقت الامتثال. بتقريب : ان وجود الإمساك - مثلا - إذا لم يكن متقدما على الإمساك أول الفجر آناً ما. فاما ان يكون المكلف مقارنا لحدوث الخطاب أول الفجر متلبسا بالإمساك ، أو متلبسا بالإفطار ، فان كان متلبسا بالإمساك لزم تعلق الطلب بالحاصل وهو محال. وان كان متلبسا بالإفطار امتنع تعلق الطلب بالإمساك في ذلك الحين لأنه غير مقدور ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، والمفروض انه كان متلبسا بالإفطار في ذلك الحين فكيف ينقلب ويصير إمساكا؟.

فهي مندفعة :

أولا : بالنقض بالعلة والمعلول التكوينيين ، فانه يقال : انه عند وجود العلة اما ان يكون المعلول موجودا أو معدوما فان كان موجودا لزم ان تكون علة للحاصل ، وان كان معدوما استحال وجوده في زمان عدمه - سواء كان مع عدمه أو بتبدل العدم إلى الوجود - فتكون العلة علة للمستحيل. وكل من علة الحاصل

ص: 399

والمستحيل محال. فعلية يلزم تقدم العلة على المعلول زمانا ولا يلتزم به أحد.

وثانيا : بالحل في الجميع ، بان وجود المعلول والامتثال في الآن الّذي تتحقق فيه العلة والخطاب إذا كان من غير ناحيتهما وبسبب آخر غيرهما تأتى ما ذكر ، اما إذا كان من ناحيتهما ومستندا إليهما فلا محذور فيه وان تقارنا في الزمان.

وثالثا : ان تقدم الخطاب على زمان الامتثال لا يترتب عليه الأثر المطلوب ، فيكون لغوا. بيان ذلك : ان المكلف ان كان عالما بأنه يتعلق به الخطاب حال الفجر كفى ذلك في امتثاله الخطاب حين الفجر ، وفرضه قبل الفجر لا أثر له لأن المحرّك هو الخطاب المقارن وان لم يكن عاملا بثبوت الخطاب في حقه قبل الفجر فلا يجدي ألف خطاب في محركيته.

ورابعا : ان الخطاب لو كان متقدما على الامتثال ولو آناً ما لزم تعلق الفعلي بما هو متأخر ، وهذا يرجع إلى الالتزام بالواجب المعلق وهو محال كما حقق في محله.

وخامسا : ان هذا الإشكال لو تم ، فهو يسري إلى الموسعات ولا يختص بالمضيقات ، مع انهم لا يلتزمون بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله في الموسعات ولذلك يلتزم بصحة العمل الموسع إذا فرض مقارنة أول جزء منه لآخر جزء من الموضوع في الوجود.

والمهم من تحرير هذه المقدمة هو بيان ان الأمر بالأهم وعصيانه الّذي هو بديل امتثاله والأمر بالمهم المشروط بعصيان الأهم متحدة زمانا من دون ان يكون بينهما سوى التقدم والتأخر الرتبي ، وهذا واضح مما تقدم ، وبه يندفع جملة من الإشكالات الموردة على الترتب ، وقد ذكر منها اثنين :

أحدهما : ان عصيان الأمر بالأهم متحد مع زمان امتثال خطاب المهم ، فلا بد من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله ، وهو مستلزم للالتزام

ص: 400

بالشرط المتأخر والواجب التعليقي وكلاهما باطلان.

ثانيهما : ان الأمر بالمهم إذا كان مترتبا على عصيان الأهم فلا يثبت إلا بعد تحقق العصيان ومضي زمان امتثال الأمر بالأهم ، فيكون حدوث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، لتأخر الأمر بالمهم عن عصيان الأهم ، فلا يلزم اجتماع الأمرين في زمان واحد ، وهذا خلف فرض الترتب لأنه لتصحيح اجتماع الأمرين في زمان واحد.

وهذا الإشكال وان لم يذكره بهذا الترتيب ، بل ذكره بنحو التشقيق ، إلاّ ان الّذي يعنينا أمره هذا المقدار.

وعلى كل ، فقد أجاب عن الإشكال الأول بوجهين :

أحدهما : انه قد يتبين بالمقدمة المذكورة ان زمان الامتثال لا ينفك ولا يتأخر عن زمان الخطاب ، فزمان الخطاب بالمهم وزمان امتثاله وزمان عصيان الأمر بالأهم متحد.

ثانيهما : انه إشكال لا يختص بمسألة الترتب ، بل يعم جميع الواجبات ، فما يتفصى به عن المحذور فيها يتفصى به عنه فيما نحن فيه.

وأجاب عن الإشكال الثاني : بان الالتزام بتأخر خطاب المهم عن العصيان زمانا يبتني على القول بلزوم تأخر الحكم عن شرطه. واما على التحقيق من مقارنة الخطاب بشرطه ، فيكون الأمر بالمهم في زمان عصيان الأهم ، وهو زمان الأمر بالأهم - لما عرفت من اتحاد زمان الأمر وزمان عصيانه أو امتثاله - ، فيجتمع الأمران في زمان واحد.

ثم بين غرابة التزام الشيخ رحمه اللّه بلزوم تأخر الخطاب بالمهم عن العصيان - في المقام - ، مع انه لا يقول بذلك في مطلق الشرائط.

مع انه لا يعقل الفرق بين ما نحن فيه وبين سائر الشرائط.

ص: 401

هذا خلاصة ما حرره في المقدمة الثالثة (1).

وهو لا يخلو عن إشكال. بيان ذلك : ان المستشكل على الترتب باستلزامه الشرط المتأخر ، وانه يبتني على القول بإمكانه أخذ جهة انفصال الخطاب عن امتثاله زمانا امرا مفروغا عنه ومما لا بد منه ، وعليه فرع الإشكال المذكور ، فالالتزام بالواجب المعلق عند المستشكل أمر مسلم وانما الإشكال من جهة ابتناء إمكان الترتب على الالتزام بالشرط المتأخر.

وعليه ، فتحرير الإشكال بالنحو الأول الوارد في كلام المحقق النائيني ليس تحريرا علميا صحيحا ، فانه أخذ انتهاء القول بالترتب إلى الالتزام بالواجب التعليقي محذورا كانتهائه إلى الالتزام بالشرط المتأخر ، وأورد عليه بسراية هذا الإشكال إلى جميع الواجبات ، وقد عرفت انه ليس محذورا في نظر المستشكل بل هو أمر مفروغ عنه في محله ، وانما هو مبنى الإشكال بالشرط المتأخر ، فليس استشكاله من جهة استلزام الترتب للقول بالواجب التعليقي ، لأنه يقول به بل استشكاله من جهة استلزامه الترتب للشرط المتأخر فيمتنع عند من يقول به وذلك بتقريبين :

الأول : ان عصيان الأمر بالأهم كامتثاله منفصل زمانا عنه ، فإذا رتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم لزم ان يكون الأمر بالمهم في غير زمان الأمر بالأهم لفرض انفصاله عن عصيانه زمانا. فلا بد ان يؤخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يكون الأمر بالمهم سابقا عليه زمانا ، فيجتمع الأمران في زمان واحد الّذي هو محط نظر دعوى الترتب.

الثاني : ان زمان الامتثال إذا كان متأخرا عن زمان الأمر ، فالامر بالمهم متعلق بفعل متأخر زمانا ، ففي حال وجود الأمرين - أعني حال العصيان الّذي

ص: 402


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 288 - الطبعة الأولى.

هو شرط المهم - لا مزاحمة ، لعدم محركية المهم لمتعلقه في تلك الحال ، وبعد العصيان يسقط الأمر بالأهم ، فيكون الأمر بالمهم وحده من دون مزاحم ، وهذا خلف الترتب ، فلا بد من أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يكون الأمر سابقا عليه ، فيكون محركا نحو متعلقه في حال وجود الأمر بالأهم.

فالقول بالترتب لا يصح ما لم يلتزم بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر على القول بكون الواجبات تعليقية - ولأجل ذلك ذكر صاحب الكفاية شرطية العصيان بنحو الشرط المتأخر ، بنحو كأنه مفروغ عنه لو سلم شرطيته فلاحظ عبارته (1) -.

ويشهد لما ذكرناه - مضافا إلى اعتراف المحقق المزبور به ، والتصريح بان هذين الإشكالين يردان ممن يلتزم بلزوم تقدير آن ما بين الحكم وامتثاله - ان الإشكال بالشرط المتأخر على الترتب بالنحو الّذي عرفته وبالنحو الّذي ذكره هو لا يتأتى إلا على هذا التقدير ، فلو لم يلتزم بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله لم يكن الترتب مبتنيا على القول بالشرط المتأخر ، كي تبتني صحته على صحة الشرط المتأخر.

وبالجملة : فما ذكره في تحرير الإشكال والجواب عنه ليس نحوا علميا.

وخلاصة الجواب عن الإشكال المذكور بتقريبيه هو : إنكار مبنى الإشكال وهو ضرورة انفكاك الحكم عن متعلقه زمانا التي ادعاها صاحب الكفاية في مبحث الواجب المعلق فينحل الإشكال المزبور.

وكما يرد ما عرفت على هذه الجهة من كلامه يرد على ما أفاده في الجواب عن الإشكال الثاني الّذي ذكره من انه يبتني على القول بلزوم انفكاك الحكم عن شرطه ، بان الالتزام بلزوم انفكاك الحكم عن شرطه ولزوم تقدم الشرط على

ص: 403


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /134- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الحكم زمانا مما لا يقول به أحد ، فانه يرجع إلى إنكار الشرط المقارن وإرجاع جميع الشروط إلى الشرط المتقدم ، وهذا مما لا يظن التزام أحد به ، كيف؟ والمفروض ان الإشكال انما هو في تقدم الشرط وتأخره لا في مقارنته ، فنسبة هذا القول إلى أحد عجيبة جدا ، وأعجب منها نسبتها إلى الشيخ الأنصاري قدس سره كما يظهر من استشكاله عليه في التزامه بلزوم تقدم العصيان على الحكم بالمهم بان ملاكه موجود في جميع الشروط فلا وجه للتفكيك بين الشرائط ، مما يكشف عن كون ملاكه أمر سار في جميع الشرائط ، وليس هو إلاّ دعوى لزوم انفكاك الشرط عن المشروط زمانا وضرورة تقدمه عليه.

وخلاصة ما تقدم : ان كلام المحقق النائيني في هذا المقام خال عن التنقيح ولا يخلو عن بعض خلط.

واما الإيراد على صحة الترتب وانه يبتني على الشرط المتأخر : بان تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأهم يستلزم ثبوت الأمر بالمهم في حال عصيان الأمر بالأهم ، وهو حال سقوطه ، لأن العصيان علة لسقوط الأمر ، فلا يجتمع الأمران في زمان واحد ، إذ العصيان كما يكون علة لثبوت الأمر بالمهم يكون علة لسقوط الأمر بالأهم ، فلا بد من أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يسبقه الأمر بالمهم فيجتمع الأمران في زمان واحد.

فقد تعرض له المحقق النائيني وأشار إلى جوابه (1).

وتحقيق الكلام في جوابه - كما أوضحه الأصفهاني - هو : انه لا إشكال في ان العصيان سبب لسقوط الأمر وارتفاعه ، وإلاّ لم يتحقق العصيان كما في ترك الواجب الموسع في أول وقته. كما انه لا إشكال في ان تحقق العصيان يلزم وجود الأمر في حاله كي يضاف إليه العصيان والمخالفة ، وإلا فلا موضوع للعصيان كي

ص: 404


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 291 - الطبعة الأولى.

يقال أنه عصى الأمر إذ لا امر. فهو نظير امتثال الأمر في لزوم ثبوت الأمر في حاله ، وإلاّ فلا موضوع للامتثال.

والجمع بين هذين الأمرين البديهيين وهما سببية العصيان للسقوط وضرورة وجود الأمر حال العصيان هو ان يقال : ان سقوط الأمر بالعصيان المتحقق الّذي لا يصدق - أعني العصيان المتحقق - إلا بمضي آن ما عن زمان الامتثال ، والأمر انما يثبت في الحال الّذي يتحقق فيه العصيان.

وتوضيح ذلك : انه في الآن الّذي يتحقق فيه العصيان والمخالفة يكون الأمر ثابتا وهو آن الامتثال ، وبمضيّ آن ما على ذلك الحال وزمان الامتثال يسقط الأمر لعدم إمكان امتثاله ، فمثلا في الآن الأول من النهار يكون الأمر بالإمساك ثابتا ، فإذا لم يمسك المكلف ومضي ذلك الآن فقد مضى زمان الامتثال فيسقط الأمر في الآن اللاحق لآن الامتثال.

فان شئت قلت : المسقط للأمر هو مضي زمان الامتثال ولو آناً ما ، أو المسقط له هو العصيان المتحقق ، وقد عرفت عدم تحقق هذا العنوان الا بمضي آن ما من زمان الامتثال. فمن يقول بان العصيان مسقط للأمر غرضه هذا المعنى ، لا انه حال العصيان يسقط الأمر ، فان ذلك محال كما عرفت.

وعليه ، ففي حال العصيان يكون الأمر بالأهم ثابتا ، فيجتمع مع الأمر بالمهم زمانا لثبوته في ذلك الحال أيضا ، وبعد مضي زمان العصيان والامتثال يسقط الأمر بالأهم فلا يكون زمان ثبوت الأمر بالمهم هو زمان سقوط الأمر بالأهم. فتدبر (1).

ثم انه قد اتضح ان مهمة هذه المقدمة ليست إلا دفع بعض الإشكالات على الترتب ، فليست هي من مقدمات تصحيح الترتب وبيان صحته من الجهة

ص: 405


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 231 - الطبعة الأولى.

المقصودة من الترتب ، وهي رفع محذور اجتماع الأمرين بالضدين في زمن واحد.

فجعلها من مقدمات الترتب لا يخلو عن مسامحة. واعلم ان السيد الخوئي ذكر جهتين :

إحداهما : ان القول بإمكان الترتب وعدمه لا يبتني على القول بإمكان الواجب المعلق وعدمه ، لأن ملاك أحدهما يختلف عن ملاك الآخر ولا يرتبط به ، فيمكن القول بالترتب على القولين في الواجب المعلق.

ثانيتهما : بيان ان إمكان الترتب لا يتوقف على القول باستحالة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، فمع القول بإمكانهما لا يكون الترتب ممكنا (1).

ولا يخفى ما في كلتا الجهتين :

اما الأولى : فالإشكال فيها من وجهين :

الأول : ان أساس الإشكال في الترتب في فرض أخذ العصيان شرطا هو انتهاؤه إلى الالتزام بالشرط المتأخر لا الواجب المعلق ، فانه قد عرفت أخذه مفروغا عنه في مقام الإشكال ، فإغفال الإشكال في الترتب من جهة الشرط المتأخر وقصر النّظر على خصوص جهة الواجب المعلق فيه نحو من المسامحة.

الثاني : ان الاستشكال في الترتب باستلزامه الشرط المتأخر أو الواجب المعلق ليس استشكالا عليه بقول مطلق وبجميع صوره ، بل على خصوص صورة أخذ العصيان شرطا دون البناء على العصيان أو نفس الترك ، فلا يتخيل أحد بان الترتب بجميع صوره يترتب على إمكان الواجب المعلق ، حتى يدفع ذلك ويبين ان الترتب بقول مطلق لا يرتبط بالواجب المعلق إمكانا واستحالة. فتدبر.

واما الثانية : فوجه الغرابة فيها هو انه لم نعهد من يدعي أو يتخيل توقف

ص: 406


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 109 - الطبعة الأولى.

القول بالترتب على القول باستحالة الشرط المتأخر والواجب المعلق ، فالتعرض لهذا التخيل ودفعه خارج عن حدود البحث العلمي فانه تطويل بلا طائل.

واما الوجه الّذي ذكره للتخيل المزبور : فهو وجه واضح الإشكال لأول وهلة ، وليس له صورة برهان قوية بحيث يولد هذه الشبهة لدى البعض ، فلاحظه في تقريرات الفياض تعرف ما قلناه.

ثم أنه تعرض في بعض كلماته إلى ما يقال : من تأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم برتبتين ، لأن الأمر بالمهم متأخر عن عصيان الأمر بالأهم لأنه شرطه ، وهو - أي العصيان - متأخر رتبة عن نفس الأمر بالأهم ، فيتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبتين.

وناقشه : بان التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع منوط بملاك كامن في صميم ذات المتقدم أو المتأخر ، وليس امرا خارجا عن ذاته ، ولذا يختص هذا التقدم أو التأخر بما فيه ملاكهما فلا يسري منه إلى ما هو متحد معه في الرتبة فضلا عن غيره ، ولذا قلنا بتقدم العلة على المعلول لوجود ملاك التقدم فيها ، واما عدمها فلا يتقدم عليه مع أنه في مرتبتها. وعلى هذا الضوء ففيما نحن فيه وان كان الأمر بالأهم مقدما على عصيانه بملاك أنه علة له ، إلا انه لا يوجب تقدم على الأمر بالمهم لانتفاء ملاكه. « انتهى » (1).

وأنت خبير بان ما ذكره لا يرجع إلى محصل ، فان الملاك الّذي يذكر للتقدم والتأخر الطبعي موجود في الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وهو ان لا يوجد المتأخر إلا والمتقدم موجود ولا عكس ، فان الأمر بالمهم لا يوجد إلا والأمر بالأهم موجود ولا عكس. فيكون الأمر بالأهم متقدما رتبة قهرا.

وببيان آخر : ان الأمر بالأهم إذا كان علة للعصيان وكان العصيان علة

ص: 407


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 111 - الطبعة الأولى.

للأمر بالمهم لأنه موضوعه أو شرطه ، كان الأمر بالأهم علة العلة. ومن الواضح ان علة العلة متقدمة على المعلول رتبة وتقدمها برتبتين. فان الوجه الّذي يوجّه به التقدم برتبة أو برتبتين في سائر الموارد ويتلقى بالقبول ليس إلا مثيل هذا الوجه الّذي وجه به التقدم برتبتين فيما نحن فيه. فتدبر جيدا. وهذا الأمر الّذي تعرضنا إليه وان كان أجنبيا عن هذه المقدمة ، لكن رأينا التعرض إليه إتماما للفائدة وتنبيها على بعض موارد التسامح في هذه الكلمات.

المقدمة الرابعة : - وهي أهم مقدمات الترتب وأساسه الّذي يرتكز عليه - ومحصلها بتوضيح : ان ثبوت التكليف وانحفاظه في تقدير من التقديرات يكون بأحد طرق ثلاثة :

الأول : ان يكون مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه ، كثبوت التكليف بوجود إكرام العالم في ظرف العدالة ، لأجل أخذها في موضوعه أو أخذ الموضوع مطلق العالم الشامل للعادل.

وهذا انما يتصور في الانقسامات السابقة على الخطاب ، بمعنى الثابتة من دون ثبوت الخطاب والحكم.

ويكون كل من التقييد والإطلاق فيها لحاظيا. لأن الحكم إما ان يلحظ بالإضافة إليها مقيدا أو مطلقا.

الثاني : ان يكون الحكم مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه ، ولكن لا بالإطلاق أو التقييد اللحاظيين ، بل بنتيجة الإطلاق والتقييد ، وهذا انما يكون في الانقسامات اللاحقة وهي المتفرعة في ثبوت على ثبوت الحكم كالعلم والجهل بالحكم ، فانه يمتنع فيها التقييد اللحاظي لامتناع تقييد ثبوت الحكم بالعلم به ، لأن لحاظ العلم به فرع ثبوت الحكم فلا يتفرع ثبوت الحكم عليه ، إلا ان الغرض إذا فرض تقيده بصورة العلم بالحكم ، فيعلم بواسطة الدليل الخارجي ، كما ثبت من الأدلة انحفاظ الخطابات في حال العلم والجهل في غير الجهر

ص: 408

والإخفات والقصر والإتمام ، واما في موردهما فالخطاب غير محفوظ في ظرف الجهل. فنفس الخطاب المثبت للحكم يمتنع ان يقيد بالتقييد اللحاظي بالانقسامات اللاحقة للحكم. نعم يقيد بدليل آخر بذلك المعبّر عنه بمتمم الجعل. ويصطلح على هذا الإطلاق بالإطلاق الذاتي والملاكي في قبال الإطلاق اللحاظي.

الثالث : ان يكون منشأ انحفاظ الحكم في التقدير هو نفس الحكم ، لاقتضائه وضع هذا التقدير أو رفعه ، فيكون محفوظا في كلتا الصورتين لا محالة ، وهذا كما في كل خطاب بالنسبة إلى وجود متعلقه وعدمه. فان الإطلاق والتقييد بقسميهما - يعني الذاتي واللحاظي - مستحيلان بالنسبة إلى تقدير وجود المتعلق وعدمه.

اما استحالة التقييد اللحاظي ، فلان وجوب الفعل بقيد وجوده يستلزم اختصاص وجوبه بصورة وجوده ، وهو يستلزم طلب الحاصل ، ووجوبه بقيد عدمه يستلزم اختصاص وجوبه بصورة عدمه وهو طلب المحال ، لأن تحقق الفعل في ظرف الترك محال لانتهائه إلى اجتماع النقيضين. وإذا ثبت امتناع التقييد ثبت امتناع الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

واما استحالة التقييد الذاتي ، فلما تقدم أيضا.

ومنه يعلم استحالة الإطلاق الذاتي ، لأن الإطلاق في قوة التصريح بكلا التقديرين ، فيلزم منه طلب المحال والحاصل.

وعليه ، فلا وجه لدعوى ان انقسام المكلف إلى المطيع والعاصي من الانقسامات اللاحقة ، فيثبت الإطلاق بالإضافة إليها بنتيجة الإطلاق.

وذلك لأن المفروض إثبات انحفاظ الحكم في تقدير الفعل والترك اللذين هما منشأ الإطاعة والمعصية. ومن الواضح ان تقدير الفعل والترك ليس من الانقسامات اللاحقة ، لأنه يمكن لحاظ الفعل والترك حال الأمر ، بل لا بد من

ص: 409

لحاظهما كي يكون الأمر بعثا نحو الفعل وزجرا عن الترك ، فليس منشأ عدم الإطلاق اللحاظي هو عدم إمكان لحاظهما كي يقال بثبوت نتيجته ، بل منشؤه محذور آخر ثابت في كلا القسمين من الإطلاق والتقييد.

ويظهر مما بيناه : ان انحفاظ الحكم في القسم الثالث من جهة انه من لوازم ذاته ، فان ثبوت الحكم وتعلقه بشيء يقتضي وضع تقدير وهدم تقدير آخر ، فالوجوب يقتضي وضع تقدير الوجود وهدم تقدير العدم والتحريم بعكسه. واما انحفاظ الحكم في القسمين الأولين فهو من جهة التقييد بالتقدير أو الإطلاق بالإضافة إليه ، وإلاّ فذات الحكم لا يقتضي انحفاظه في ذاك التقدير.

وبذلك يحصل الفرق بين انحفاظ الحكم في القسم الثالث وانحفاظه في القسمين الأولين من جهتين :

الأولى : ان نسبة الحكم إلى التقدير في القسمين الأولين نسبة المعلول إلى العلة ، لأن تقييد الحكم بأمر مرجعه إلى أخذه في موضوعه ، وقد ثبت ان نسبة الموضوع إلى حكمه من سنخ نسبة العلة إلى معلولها ، هذا في صورة التقييد.

واما في صورة الإطلاق ، فلأنه في رتبة التقييد ، فإذا كانت مرتبة التقييد مرتبة العلية كانت مرتبة الإطلاق كذلك. واما نسبة الحكم إلى التقدير في القسم الثالث ، فهي نسبة العلة إلى المعلول ، لأن الخطاب له نحو علية بالإضافة إلى الامتثال ، لأنه يقتضي وضع أحد التقديرين وهدم الآخر ، فتكون نسبته إلى التقدير المحفوظ فيه نسبة العلية.

الثانية : ان الحكم في القسمين الأولين لا يكون متعرضا لحال التقدير وضعا ولا رفعا ، لأن نسبته إليه نسبة الموضوع إلى الحكم. ومن الواضح ان الحكم لا يكون متعرضا لحال موضوعه ، بل هو مترتب على وجوده. بخلاف الحكم في القسم الثالث ، فانه متعرض لحال التقدير المحفوظ فيه وضعا ورفعا ، فانه يقتضي وضع تقدير وهدم آخر.

ص: 410

وعلى ضوء هذا البيان يتضح : عدم التنافي والتزاحم بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم المقيد بالعصيان ، وذلك فان الأمر بالأهم محفوظ في تقدير عصيانه لاقتضائه هدمه ، إلاّ انه لا يتعرض لأكثر من هدم تقدير العصيان من دون ان يكون له نظر على تقدير ثبوت هذا التقدير.

والأمر بالمهم لا يتعرض لحال هذا التقدير ، لأنه مأخوذ في موضوعه ، وقد عرفت استحالة تعرض الحكم لحال موضوعه ، نعم هو يقتضي إيجاد متعلقه على تقدير العصيان. فالامر بالمهم لا يترقى ويصعد إلى مرتبة الأهم ويكون فيه اقتضاء لموضوعه ، والأمر بالأهم لا يتنزل ويقتضي شيئا ما وراء رفع موضوع الأمر بالمهم حتى يكون في عرض المهم ، فالخطابان وان كانا محفوظين في ظرف العصيان ، إلاّ انهما لا يتمانعان لأنهما في مرتبتين طوليتين.

هذا توضيح ما جاء في أجود التقريرات لبيان هذه المقدمة (1).

وقد أشرنا إلى ان على هذه المقدمة يرتكز الترتب وينهض القول به.

إلاّ ان هذا المقدار والنحو من البيان لا يفي بما هو الغرض الأساسي والنكتة الأصلية منه ، بل ظاهره لا يخلو عن إيرادات ، ولذا تناولتها أقلام الأعلام فأورد عليها :

أولا : بأنّ امتناع التقييد لا يستلزم امتناع الإطلاق ، بل يستلزم ضرورته ، لأن التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب لا العدم والملكة (2).

وثانيا : بان كون الإطلاق في مرتبة التقييد لا يقتضي تأخر الحكم عما يكون مطلقا بالنسبة إليه ، كما كان يقتضي ذلك تقييد الحكم ، فان التقديم والتأخير لا يكون إلا بملاك ، وملاك التأخر في التقييد والحكم موجود. واما في

ص: 411


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 293 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 114 - الطبعة الأولى.

الإطلاق - المفروض كونه في مرتبة التقييد - والحكم فلا. فان العلة متقدمة رتبة على المعلول. واما عدم العلة فهو وان كان في رتبة العلة فلا موجب لتقدمه على المعلول.

وثالثا : بان نسبة الحكم إلى العصيان ليست نسبة العلة إلى المعلول كما هو واضح ، بل نسبة المعروض إلى العارض ، لأن العصيان يضاف إلى الأمر فيقال عصيان الأمر فهو مترتب عليه ومتقدم به ، لكن بنحو تقدم العارض بالمعروض لا المعلول بالعلة ، فيختلف العصيان عن الامتثال في ذلك.

ورابعا : بالعجب عن إهماله الإطلاق والتقييد في متعلق الحكم ، وقصر الكلام في الإطلاق والتقييد في موضوعه ، مع تأتي ما ذكر من الإطلاق الذاتي واللحاظي في المتعلق كما يتأتى في الموضوع (1).

وخامسا : بان الأساس الّذي من أجله يلتزم بالترتب هو ارتفاع طلب الجمع بين الضدين بالترتب وهذا لا يتم بالبيان المذكور.

بهذه الإيرادات التي نقلناها بنحو مختصر جدا أورد على البيان السابق.

ولكن أعود فأكرر : ان هذه المقدمة هي الأساس الّذي يبتنى عليه الترتب وما ذكره المحقق الأصفهاني في تصحيحه نستطيع ان نقول انه مستقى منه كما سيتضح. إلاّ ان المنشأ الّذي سبب توجه هذه الإيرادات هو عدم أداء النكتة الأساسية المقصودة بيانها في مثل البيان السابق ، بل يضاف إلى هذه الإيرادات إيراد آخر وهو التنافي الظاهر بين دعوى عدم إطلاق الأمر بالنسبة إلى وجود متعلقه ، مع ان المطلوب به ليس إلا وجود الطبيعة والملحوظ في متعلقه هو وجودها. وهذا كغيره ناشئ من عدم التنبيه على الغرض الأصلي الّذي كان

ص: 412


1- هذا الإيراد وتاليه للمحقق الأصفهاني ، وهما أكثر واقعية ومساسا بواقع المطلب من سوابقهما ، لأنها أشبه بالإيرادات اللفظية. هكذا تفضل سيدنا الأستاذ ( دام ظله ). فالتفت ( منه عفي عنه ).

المرحوم النائيني بصدد بيانه.

ولأجل ذلك يلزمنا توضيح المقصود وبيان روح المطلب وحذف ما أضيف إليها من زوائد. لكي يتضح لك صدق ما قلناه من ان الوجه الّذي يصحح به الترتب هو هذا البيان ، فنقول : ان المدعى هو ان الترتب يرفع التنافي بين الأمرين في مرحلة التأثير الفعلي والداعوية الفعلية ، فهو يتكفل منع اجتماع تأثيرهما في زمان واحد ، بمعنى أنه بالترتب يمتنع ان يفرض حصول تأثير كل منهما الفعلي في زمان واحد ، وان اجتمع كلاهما في زمان واحد ، وهذا المعنى الّذي يقتضيه الترتب ناشئ عن وجود خصوصية تكون حدا لتأثير أحدهما وبداية لتأثير الآخر. هذه الخصوصية هي العصيان بتعبير ، ومخالفة الأمر وعدم تأثيره بتعبير آخر ( وهو الّذي نواظب على تكراره ).

ووضوح ما ادعيناه يكون ببيان ان الأمر لا إطلاق له ولا تقييد بالنسبة إلى عدم مؤثريته ، سواء لوحظ الإطلاق أو التقييد في الموضوع أو في المتعلق ، وذلك لأن معنى التقييد في الموضوع هو ترتب الحكم على الخصوصية المأخوذة قيدا وأخذها مفروضة الوجود بحيث يكون ثبوت الحكم مرتبطا بتحقق تلك الحصة المقيدة ، واما الإطلاق في الموضوع فمرجعه إلى نفي دخالة الخصوصيات ، وهو يعني ثبوت الحكم بثبوت أي فرد من الافراد ، لتعليق الحكم فيه على نفس الطبيعة الموجودة في ضمن افرادها. والتقييد في المتعلق معناه تعلق الحكم بالحصة الخاصة وداعويته إليها بالخصوص فلا تتصف الطبيعة بالطلب إلاّ إذا كانت الخصوصية المأخوذة قيدا منضمة إليها ، والإطلاق فيه يعني نفي دخالة الخصوصية في مرحلة تعلق الحكم ، ومرجعه إلى ثبوت الحكم لكل فرد من افراد الطبيعة واتصاف كل فرد بالطلب.

وجملة القول : ان مرجع التقييد والإطلاق إلى التوسعة والتضييق في الموضوع الّذي يترتب عليه الحكم أو في المتعلق الّذي يرد عليه الحكم ويتصف

ص: 413

به.

وهما لا يتأتيان بالنسبة إلى خصوصية عدم مؤثرية الأمر ، فانه لا يتصور الإطلاق فيها ولا التقييد لا بلحاظ الموضوع ولا بلحاظ الحكم.

وذلك لأن مؤثرية الأمر وعدم مؤثريته من الأمور اللاحقة لتحقق الأمر والمتفرعة عليه ، بحيث لا يتصور وجودها من دون وجود الأمر ، ففي الظرف الّذي يفرض فيه وجود المؤثرية أو عدمها لا بد ان يفرض فيه وجود الأمر نفسه.

وعليه ، فيتضح الحال في نفي إمكان الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى عدم المؤثرية بوجهين.

الأول : ان عدم مؤثرية الأمر لا تفرض إلاّ بفرض وجود الأمر وتقومه بالمتعلق وتفرعه على الموضوع المفروض له ، فلا معنى لأن يؤخذ في متعلق الأمر أو موضوعه ، لأن فرضها مستلزم لفرض ثبوت الأمر ومتعلقه وموضوعه وتمامية هذه الجهة ، كما لا معنى لأن ينفي أخذه في متعلقه وموضوعه بالإطلاق ، لأن مرجعه إلى بيان ان متعلق الأمر أو موضوعه هو الطبيعة سواء انضم إليها عدم المؤثرية أو لم ينضم وقد عرفت انه لا معنى لذلك بعد فرض ثبوت المتعلق والموضوع للأمر كل بحده ، بفرض عدم مؤثرية الأمر. - وهذا الوجه عرفي وجداني -.

الثاني : ان عدم المؤثرية إذا كان متفرعا على الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر ممتنع للزوم الخلف ، مع لزوم داعوية الشيء لداعوية نفسه ، لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به ، وذلك يساوق علية الشيء لعلية نفسه. كما يمتنع أخذه في موضوع الأمر ، لأن مرجعه إلى فرض تفرع وجود الأمر عليه وكون ثبوته منوطا به. وقد عرفت ان الأمر بالعكس. وهكذا الحال في الإطلاق في المتعلق والموضوع ، فان مرجع الإطلاق وان كان إلى نفي دخالة الخصوصية وكون الحكم مرتبا على الذات أو متعلقا بالذات انضم إليها القيد أو لم ينضم ، إلا انه بعد ان كان فرض عدم المؤثرية ملازم لفرض ثبوت الحكم كان ثبوت الحكم وتعلقه بالذات أو ترتبه

ص: 414

على ذات الموضوع في ظرف عدم المؤثرية امر معلوم لا يحتاج إلى بيان ، كي يتكفله الإطلاق ببيان عدم دخل أي خصوصية في المتعلق أو الموضوع ، فإطلاق الحكم بالنسبة إلى مؤثرية نفسه كإطلاقه بالنسبة إلى نفسه مما لا معنى له.

ويتضح من ذلك : ان الحكم في حال عصيان الأمر ومخالفته ثابت ، لكنه لا بالتقييد ولا بالإطلاق ، بل نفس فرض عصيان الأمر ملازم لفرض الأمر في ذلك الحال ، بل نستطيع ان نقول ان إطلاق الموضوع من جهة عدم مؤثرية الأمر غير معقول بعد فرض ان الحصة المقيدة به متفرعة على الأمر ، وذلك لأن معنى الإطلاق وان كان نفي تأثير الخصوصية إلا ان مرجعه إلى سراية الحكم إلى جميع الافراد ، فالإطلاق في الموضوع مرجعه إلى كون الحكم مترتبا على كل فرد فرد وان لم يكن لخصوصية فرديته ، بمعنى ان حصول أي فرد موجب لتحقق الحكم ، وقد عرفت انه لا معنى لأن يكون حصول الفرد المقيد بالعصيان موجبا لتحقق الأمر ، بل حصوله متفرع على تحقق الأمر ، فلا يتصور الإطلاق بالإضافة إلى هذا الفرد.

وبعبارة أخرى : ان الموضوع - بالإطلاق - وان كان هو ذات الطبيعة السارية في جميع افرادها. إلاّ ان من الواضح ان المأخوذ هو الذات التي يمكن فرض ترتب الحكم عليها ، فهي لا تشمل الذات المقيدة بعدم مؤثرية الأمر ، لأنها مما لا يمكن فرض ترتب الحكم عليها ، فهي ليست من افراد الموضوع ، فلا ينفع الإطلاق في إثبات تعلق الحكم على عدم مؤثريته.

وإذا تبين ذلك تعرف ما رمينا نحوه من تصحيح الترتب ، وذلك لأن المفروض ان الأمر بالمهم معلق على عصيان الأمر بالأهم ، فمرحلة داعويته انما هي بتحقق عصيان الأهم ، وظرف عصيان الأهم ظرف لانتهاء داعوية الأهم ، لما عرفت من عدم كونه ناظرا إلى عصيانه إطلاقا أو تقييدا ، ولا يتكفل أمرا وراء العصيان ومترتبا عليه ، فالعصيان نهاية داعوية الأهم وتأثيره ، كما انه ابتداء تأثير

ص: 415

المهم ، وبذلك لا تتحقق أي مزاحمة بين الأمرين في مقام الداعوية والتأثير ، فلا مانع من وجودهما في زمان واحد.

وقد أوضح المحقق الأصفهاني هذا المعنى ببيان مختصر. أجمع ، فأفاد قدس سره : بان التنافي بين الأمرين انما هو ناشئ من تزاحمهما في مقام المؤثرية الفعلية ، لأن كلا منهما يحاول التأثير الفعلي لإتيان متعلقه ، فان الغرض من الأمر هو ذلك ، والمفروض عدم القدرة على أكثر من واحد ، وبالترتب ترتفع هذه المنافاة وينتهي التزاحم في مقام الدعوة الفعلية بحيث لا يتصور فعلية دعوة أحدهما مع فعلية دعوة الآخر ، وذلك لأن الأمر بالمهم إذا علق على عصيان الأهم ، ففي فرض فعلية تأثير الأهم لا موضوع للأمر بالمهم فلا وجود له كي يتخيل مزاحمته للأهم. وفي فرض فعلية تأثير المهم يستحيل تصور مزاحمته لفعلية تأثير الأهم ومانعيته عنه ، لأن المفروض ان اقتضاء المهم منوط بعدم فعلية تأثير الأهم ، فكيف يتصور ان تكون فعلية تأثيره اللاحقة لاقتضائه مانعة عن فعلية تأثير الأهم؟.

وبالجملة : لا يتصور فعلية تأثير المهم مع وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير ، لأنه بوصوله إلى ذلك ترتفع فعلية تأثير المهم بارتفاع نفس الأمر ، فلا يعقل ان يصل كلا الأمرين الترتبيين إلى مرحلة الفعلية في التأثير في زمان واحد ، بل الفرض الّذي يصل فيه أحدهما - أيهما كان - إلى مرحلة الفعلية في التأثير مساوق لفرض عدم وصول الآخر إلى حد التأثير الفعلي ، وإذا تبين ارتفاع التزاحم في التأثير ظهر صحة الترتب ، إذ لا محذور في جعل كلا الأمرين ما لم ينته إلى التزاحم في التأثير الفعلي (1).

وهذا البيان وان كان يختلف بحسب الصورة عن البيان السابق الّذي

ص: 416


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 243 - الطبعة الأولى.

وجهنا به كلام المحقق النائيني ، لكنه في الحقيقة مستقى منه ومستوحى عنه.

والاختلاف بين المحققين في ان المحقق الأصفهاني فرض المحذور في اجتماع طلب الضدين هو التنافي بينهما في مرحلة تأثيرهما الفعلي ومحاولة كل منهما صرف القدرة إلى متعلقه ، وهو يرتفع بالترتب بالتقريب الّذي عرفته. واما المحقق النائيني فقد فرض المحذور هو طلب الجمع بين الضدين ، وجعل مصب كلامه نفي ذلك ، ولكن كلامه - على ما قربناه - لا يرتبط برفع هذا المحذور ، ولعله عدل عن ذلك أو ان نظره من أول الأمر إلى ما ينظر إليه المحقق الأصفهاني من ان طلب الجمع يعني تحقيق التزاحم بين الأمرين في مقام تأثيرهما الفعلي ، ولأجل ذلك أغفله بالمرة في هذه المقدمة.

وعلى أي حال فقد تحصل لدينا في تصحيح الترتب وجهان :

أحدهما : ما ذكرناه توجيها لكلام المحقق النائيني من ان داعوية كل منهما تفترق زمانا عن داعوية الآخر ، فداعوية الأهم محدودة بالعصيان لعدم نظر الأمر إلى ما وراء العصيان ، لأنه مما لا يقبل النّظر لا بالإطلاق ولا بالتقييد ، وداعوية المهم تبتدي بالعصيان لتعليقه عليه ، فأي تزاحم بين الأمرين حينئذ.

ثانيهما : ما ذكره المحقق الأصفهاني من ان الترتب يستلزم نفي فرض وصول كل من الأمرين إلى مرحلة التأثير الفعلي في ظرف واحد ، بل فرض فعلية تأثير أحدهما مساوق لفرض عدم وصول الآخر إلى حد التأثير الفعلي ، فيرتفع به أساس المحذور وهو التزاحم في مقام التأثير الفعلي. فانه انما يتصور لو فرض إمكان وصول كل منهما إلى حد التأثير الفعلي في زمان واحد.

وبكلا هذين الوجهين يرتفع إشكال صاحب الكفاية على الترتب : بان الأمر بالمهم وان كان لا يزاحم الأمر بالأهم لأنه في طوله ، لكنّ الأمر بالأهم بإطلاقه يطارد المهم ويزاحمه.

فانه يدفع : بان المقصود ان المحذور ان كان ناشئا عن إطلاق الأهم

ص: 417

بخصوصية ، فقد عرفت بالوجه الأول ان الأمر بالأهم لا إطلاق له بلحاظ ظرف العصيان. وان كان المقصود ان المحذور في ثبوت الأمر بالأهم في زمان المهم لاستلزامه مطاردته ومزاحمته في مرتبته - أي مرتبة المهم - فقد عرفت اندفاعه بالوجه الثاني ، فان الأمر بالأهم وان كان موجودا في زمان الأمر بالمهم ، إلاّ انه لا يزاحمه ، إذ المزاحمة انما تنشأ من فعلية تأثير كل من الأمرين. ومن الواضح انه مع فعلية تأثير الأهم لا تأثير للمهم ، فكيف يتصور وقوع التزاحم بينهما ، بعد تفرعه على وصول كل من الأمرين إلى حد التأثير الفعلي؟!.

وغريب من السيد الخوئي أمران :

أحدهما : ان يكرر في عباراته : طلب الجمع ، وبيان ارتفاعه بالترتب ، مع ما عرفت من إن المحذور ليس هو إلاّ الجمع بين التأثيرين الفعليين مع عدم ارتفاع طلب الجمع بالترتب ، لاجتماع الأمرين في زمان واحد.

ثانيهما : أن يكون قصده هو نفي مزاحمة المهم للأهم ، وليس في كلامه لنفي مزاحمة الأهم للمهم عين ولا أثر ، مع ما عرفت انهما عمدة إشكال الكفاية على الترتب. فانتبه.

واما ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه اللّه في باب تعارض الأمارتين من الالتزام - بناء على السببية - بالترتب من الجانبين ، فيجب الإتيان بمؤدى كل منهما عند ترك الآخر (1) ، وأورد عليه المحقق النائيني بما تقدم من أن استحالة الترتب من جانب واحد تستدعي استحالته من الجانبين بطريق أولى.

فيمكن ان يكون نظره إلى دفع محذور صاحب الكفاية حيث رآه صحيحا ، وهو لا يندفع إلاّ باشتراط الأمر بكل منهما بترك الآخر لارتفاع

ص: 418


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /438- الطبعة الأولى.

المطاردة بينهما بذلك ، كما لا يطارد المهم الأهم ، وقد ذكرنا هذا التوجيه فيما تقدم. واما ارتباط ما ذكره الشيخ بالترتب - حيث ان ظاهره التخيير بين الضدين - فهو يظهر عند ترك كل من المتعلقين ، إذ لازمه اجتماع الأمرين في زمان واحد ، ولا محذور فيه بعد ان كان كل منهما مشروطا بترك متعلق الآخر لارتفاع المطاردة بينهما فلا مانع من اجتماعهما في ظرف واحد.

ومن العجيب ما نقل عن بعض من إنكاره ارتباط ما ذكره الشيخ بالترتب ورجوعه إلى التخيير بين الضدين ولزوم الإتيان بأحدهما ، وهو لا مساس له بالترتب. فان هذا ناشئ عن عدم التأمل في نظر الشيخ ومقصده.

ومما ينبغي ان ينتبه إليه ان الوجهين المزبورين المذكورين لتصحيح الترتب انما يرتبطان ببعض صور الترتب ، وهو تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم ومخالفته ، دون ما لو علق الأمر بالمهم على ترك الأهم ، إذ حديث عدم الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى عدم مؤثرية الأمر وعصيانه أجنبي عنه بالمرة ، كما ان حديث عدم التزاحم بين تأثير الأمرين الفعلي لتعليق المهم على عدم فعلية تأثير الأهم لا يرتبط به كما لا يخفى.

ولأجل ذلك رأينا ان نسلك في تقريب الترتب وتصحيحه مسلكا آخر غير هذين المسلكين ، وان كان في الحقيقة مستقى منهما غير مبتكر.

وهو ان نقول : ان ارتفاع التزاحم في مقام التأثير الفعلي يتحقق بمجرد تعليق الأمر بأحدهما على عدم متعلق الآخر ، الملازم لصورة كون فعليه تأثير أحدهما في ظرف عدم تحقق متعلق الآخر ، فان الأمر إذا كان كذلك امتنع تحقق التزاحم بين الأمرين في مقام فعلية التأثير ، إذ مع فعلية الأمر بالأهم لا يتحقق ترك متعلقه فلا يثبت الأمر بالمهم لعدم موضوعه ، ومع فعلية تأثير الأمر بالمهم يمتنع ان تفرض فعلية تأثير الأمر بالأهم ، لأن فعلية تأثير المهم مرتبة على ترك

ص: 419

متعلق الأهم الملازم لعدم وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير - إذ لو أثر فعلا لتحقق المتعلق - ، فكيف يفرض في هذا الحال - أعنى حال الفعلية تأثير لمهم - وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير؟.

وبالجملة : ارتفاع التزاحم لا يتوقف على تعليق المهم على عدم مؤثرية الأهم الفعلية ، بل يتحقق ارتفاعه بتعليقه على عدم تحقق متعلق الأهم كما عرفت.

وعليه ، فيصح الترتب سواء علق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم أو على ترك متعلقه.

بهذه البيانات الثلاثة يصح الترتب في الجملة أو مطلقا.

وقد قرب المحقق العراقي صحة الترتب بوجه آخر يختلف عن الوجه الّذي ذكرناه ببياناته الثلاثة.

وإيضاحه - على ما ذكره المحقق الأصفهاني - : هو ان طلب وجود الشيء مرجعه إلى طلب طرد عدم الشيء من جميع الجهات التي يتحقق بها عدمه ، كعدم مقدماته ووجود أضداده ، فطلب البياض مرجعه إلى طلب طرد عدمه من جهة عدم مقدماته ، فيعني ذلك ان له اقتضاء وجودها ، ومن جهة وجود السواد ، فيعني ذلك ان له اقتضاء عدمه. ومن الواضح امتناع اجتماع طلب كل من الضدين لاستلزامه اجتماع المقتضيين المتنافيين في شيء واحد.

ولكن ذلك إذا أخذ الأمر بقول مطلق ، وقد تخرج إحدى جهات العدم عن حيّز الأمر بحيث لا يكون للأمر اقتضاء بالنسبة إليها ، كما لو أخذ المطلوب طرد العدم من جميع جهاته سوى جهة وجود الضد ، فانها أخذت من باب الاتفاق والمصادفة ، ففي الفرض لا يكون للأمر اقتضاء لعدم ضد متعلقه.

وعليه ، فتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم يرفع التنافي بين

ص: 420

الأمرين ، لأن مرجع الأمر بالمهم إلى طلب سدّ باب العدم من جميع الجهات غير جهة وجود الأهم ، لأخذ عدم الأمر بالأهم في موضوع الأمر بالمهم ، ولا تنافي بين قيام المولى بصدد سدّ باب العدم في طرف الأهم من جميع الجهات حتى جهة وجود ضده المهم ، وقيامه بصدد سدّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح عدم الأهم اتفاقا ، إذ لا محركية له نحو طرد عدم المهم إلا في ظرف عدم الأهم من باب الاتفاق.

وقد أفاد رحمه اللّه بان صحة الترتب - بهذا البيان - لا تتوقف على كونه بنحو الواجب المشروط ، بل يصح بنحو الواجب المعلق ، فيكون الأمر بالمهم فعليا ، لكنه بالفعل على تقدير العصيان وعدم الأهم اتفاقا ، إذ لا اقتضاء له في هذا الحال نحو عدم الأهم فلا منافاة بين الأمرين (1).

ولكن هذا البيان لا يخلو عن مناقشة من وجهين :

الأول : ان تصحيح الترتب بنحو الواجب المعلق يبتني على الالتزام بالواجب المعلق ، وقد عرفت ما فيه من الكلام ، فلا يلزم بهذا القول من يرى امتناع الواجب المعلق.

الثاني : ان الترتب وان رفع اجتماع المقتضيين المتنافيين في طرف الأهم لتعليق الأمر بالمهم على عدم الأهم من باب الاتفاق ، فلا اقتضاء له نحو عدمه كي ينافي الأمر بالأهم الّذي له اقتضاء نحو وجوده ، إلا انه لا يرتفع به اجتماعهما في طرف المهم ، لأن الأمر به على تقدير العصيان يكون فعليا ، فله اقتضاء نحو وجوده ، والمفروض ان الأمر بالأهم في هذا الحال فعلي لإطلاقه ، فله اقتضاء عدمه ، فيلزم المحذور من طلب الضدين.

هذا إذا لوحظ ما هو ظاهر البيان من أن المحذور في طلب الضدين هو

ص: 421


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 234 - الطبعة الأولى.

اجتماع المقتضيين المتنافيين في شيء واحد ، لأن الأمر بأحدهما يقتضي وجوده والأمر بالآخر يقتضي عدمه ، وان هذا المحذور يرتفع بالترتب.

اما إذا كان المقصود كون المحذور هو التنافي في مقام المحركية الفعلية ، وانه يرتفع بالترتب ، لأن تعليق أحدهما على عصيان الآخر يرفع إمكان وصول الأمر معا إلى مرحلة الفعلية في التأثير فلا يقع التزاحم - ان كان المقصود ذلك - ، فهذا راجع إلى ما تقدم وليس وجها مستقلا في قبال ما تقدم.

وبالجملة : هذا البيان ما لم يرجع إلى ما قربناه لا يخلو عن مناقشة.

وعليه ، فالوجه الصحيح الّذي يقال في تصحيح الترتب ما عرفته ، وحاصله : ان تعليق الأمر بأحدهما على عدم فعلية تأثير الآخر ، أو عدم متعلق الآخر ، يستحيل معه فرض تنافي الأمرين في مقام المحركية الفعلية وهو محذور طلب الضدين.

وجوه الإشكال على الترتب

وفي قبال هذه الوجوه المذكورة في تصحيح الترتب وجوه أخرى ذكرت لبيان استحالة الترتب وهي :

أولا : انه من المقرر امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ، بحيث يكون أحدهما محكوما بغير ما حكم به الآخر ، بل اما ان يكونا متوافقين في الحكم أو يكون الآخر غير محكوم بحكم أصلا. والالتزام بالترتب يتنافى مع هذه القاعدة المسلمة ، وذلك لأن ترك الأهم ملازم للفعل المهم. ومن الواضح ان ترك الأهم حرام ، لأنه نقيض الواجب ، ووجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه. فيلزم ان يكون أحد المتلازمين حراما والآخر واجبا. وهو خلاف القاعدة المقررة (1).

ص: 422


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 243 - الطبعة الأولى.

وفيه : ان مفروض الكلام الضدان اللذان لهما ثالث ، اما الضدان اللذان لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فهما خارجان عن مسألة الترتب لأن عدم أحدهما يلازم وجود الآخر قهرا ، فلا معنى للأمر به عند عدم الآخر.

وعليه ، فالقاعدة المقررة وان كانت مسلمة لكنها لا تتنافى مع الترتب ، لأن ملاك امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ليس إلا استحالة امتثال الحكمين بعد فرض التلازم بين متعلقيهما ، بل اما ان يمتثل هذا أو يمتثل ذلك.

وهذا المحذور غير جار فيما نحن فيه ، لأنه بعدم ترك الأهم - يعني امتثال الحرمة - يرتفع موضوع الأمر بالمهم ، فلا تنافي بينهما في مقام التحريك الفعلي.

وبعبارة جامعة : ليس المحذور في اختلاف المتلازمين في الحكم سوى محذور طلب الضدين ، وقد عرفت ارتفاعه بالترتب ، فلا يكون ذلك إشكالا على الترتب ونفيا لصحته.

وثانيا : - ما ينسب إلى المحقق الشيرازي قدس سره - ان المهم إذا كان واجبا كان نقيضه وهو الترك محرما ، وحينئذ نقول : ان المحرم اما ان يكون هو الترك المطلق حتى الموصل إلى فعل الأهم. أو هو خصوص الترك المقارن لترك الأهم - وهو غير الموصل -. فان كان المحرم هو الترك المطلق كان ذلك منافيا لوجوب الأهم ، وفرض أهميته وارتفاع وجوب المهم بوجوده ، إذ كيف يتلاءم فرض حرمة ترك المهم عند وجود الأهم ، مع فرض ارتفاع وجوب المهم عند وجود الأهم؟. وان كان المحرم هو خصوص الترك غير الموصل ، فليس هذا نقيض الفعل ، بل نقيضه هو تركه ، وهو ملازم لأمرين أحدهما الفعل والآخر الترك الموصل.

ومن الواضح ان الحكم لا يسري من الملازم إلى ملازمه ، وعلى تقدير فرض كونه مصداقا للنقيض وسراية الحكم إليه ، فهو انما يستلزم ثبوت الوجوب التخييري له ، لفرض ان للنقيض فردين أحدهما الفعل والآخر هو الترك

ص: 423

الموصل.

فمحصل الإشكال : ان الالتزام بحرمة الترك غير الموصل من جهة وجوب الفعل تستلزم اما إنكار وجوب الفعل أو كون الوجوب المتعلق بالفعل وجوبا تخييريا لا تعيينا وهو مما لا يلتزم به ، وذلك لأن الترك غير الموصل ليس نقيض الفعل ، بل الفعل لازم نقيض الترك غير الموصل. فتدبر (1).

ويرد عليه وجهان :

الأول : هو إنا نلتزم بان متعلق الحرمة هو ذات الترك ، إلاّ ان هذه الحرمة لما كانت ناشئة عن وجوب الفعل وليست بدليل مستقل ، والمفروض ان وجوب الفعل مقيد بصورة ترك الأهم ، كانت حرمة الترك مقيدة بحال ترك الأهم ، فمتعلق الحرمة هو ذات الترك ، لكن زمان التحريم هو حال ترك الأهم. ومن الواضح ان ذلك الترك في هذا الحال ينحصر بالترك غير الموصل ، فلا يتصور فيه الإطلاق والسراية للترك الموصل كي يستلزم الخلف المدعى.

الثاني : ان هذا الوجه لو سلم ولم يتمكن من مناقشته ، فهو لا يستلزم إنكار الترتب ونفي صحته ، بل غاية ما يستلزم أحد أمرين اما دعوى عدم تشخيص نقيض الفعل الّذي يتعلق به التحريم ، وإمكان ان يكون امرا ثالثا غير مطلق الترك والترك غير الموصل لا تصل إليه أذهاننا فعلا. واما الالتزام بعدم تأتي قاعدة استلزام وجوب الشيء حرمة ضده العام في هذا المقام ، لأن حرمة الضد يستلزم من وجودها عدمها كما عرفت. وكل من هذين الأمرين لا ينفي صحة الترتب ولا يستلزم إنكاره. فتدبر.

وثالثا : ما ذكره في الكفاية بعنوان الجواب عن دعوى عدم المطاردة بين الأمرين ، لأن الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم من : انه وان انتفت المطاردة

ص: 424


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 244 - الطبعة الأولى.

بينهما في مرتبة الأهم ، إلاّ انها ثابتة في مرتبة المهم ، لأن الأمر بالمهم فعلي فهو يقتضي متعلقه ، والأمر بالأهم فعلي كذلك فهو يقتضي متعلقه أيضا ، وليس محذور طلب الضدين في عرض واحد سوى ان أحدهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر ومعاندة ، مع انه يكفي في المحذور ثبوت المطاردة من طرف الأهم ، لأنه على هذا الحال يكون طاردا للضد كما لو لم يكن ترتب أو عصيان فيلزم المحذور (1).

وفيه : ما تقدم من ان محذور طلب الضدين في عرض واحد ليس هو اقتضاء أحدهما ما ينافي مقتضى الآخر ، كي يدعى عدم ارتفاعه بالترتب ، بل المحذور هو تزاحم المقتضيين في مقام التأثير والمحركية الفعلية ولولاه لما امتنع طلب الضدين وان اقتضى أحدهما ضد ما يقتضيه الآخر ، كما لم يمتنع اجتماع نارين في آن واحد إحداهما تقتضي ضد ما تقتضيه الأخرى إذا لم يصلا إلى مرحلة فعلية التأثير.

وقد عرفت ان الترتب يرفع تنافي الأمرين في مقام الفعلية ، بل يستحيل تحقق تنافيهما في صورة الترتب.

وقد تعرض السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - على ما في المحاضرات - إلى نقل كلام صاحب الكفاية ، والإيراد عليه بنحو مفصل (2). ولا موجب لنقل مناقشته ولكن نشير إلى امرين في كلامه لا يخلوان عن غرابة :

أحدهما : حكمه على صدور إشكال صاحب الكفاية منه بالغرابة. فان ما ذكره صاحب الكفاية ليس إلا تلخيصا لروح الإشكال على الترتب ، وليس الإشكال على الترتب بذلك قبل تصدي من تأخر لدفعه وحلّه ، امرا يعد غريبا ، فانه هو الإشكال المتداول المعروف لخّصه صاحب الكفاية بما ذكر ، فالحكم بغرابة

ص: 425


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /135- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 137 - الطبعة الأولى.

صدوره عن صاحب الكفاية مساوق لحكمه بغرابة التزامه بعدم صحة الترتب.

ثانيهما : ما ذكره في بيان عدم تحقق الطرد من طرف الأهم فقط ، من ان الأمر بالأهم انما يكون طاردا للأمر بالمهم لو كان ناظرا إلى متعلقه ومستدعيا لهدمه ، ولكن الفرض أنه غير ناظر إليه وانما هو ناظر إلى موضوعه ومقتض لدفعه.

ووجه غرابته : ان المطاردة لا تتوقف على ان يكون أحدهما مستدعيا لهدم متعلق الآخر ، وإلاّ لم يكن بين طلب الضدين في عرض واحد مطاردة لعدم تعرض أحدهما لمتعلق الآخر ، بل كل ناظر إلى متعلقه ، وانما هي تتحقق باعتبار مطالبة كل من الأمرين صرف القدرة في متعلقه والمفروض انها قدرة واحدة ، فيقع التزاحم بينهما.

والخلاصة : ليس إشكال صاحب الكفاية سوى الإشكال البدوي المعهود ، فجوابه هو التقريب الّذي يقال في تصحيح الترتب ، فلا حاجة إلى تكلف الجواب عنه بنحو آخر. فلاحظ.

ورابعا : ما ذكره في الكفاية أيضا ، من ان الالتزام بتعدد الأمر بنحو الترتب هو ترتب العقاب على مخالفة كل من الأمرين ، فيستحق التارك لكلا الضدين عقابين لتعدد المعصية بعد فرض تعدد الأمر ، مع ان استحقاقه عقابين غير معقول ، إذ الجمع بين الضدين ممتنع ، فلا معنى لترتب العقاب على ترك الضدين لأنه عقاب على ما ليس بمقدور.

وبالجملة : فلازم الترتب تعدد العقاب في صورة ترك كلا الضدين وهو يستلزم العقاب على ترك غير المقدور ، وهو عدم فعل الضدين في زمان واحد وهو محال. فالترتب مما يستلزم المحال (1).

وأجيب عن هذا الإشكال بما ملخصه : ان العقاب ليس على ترك

ص: 426


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /135- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الضدين وعدم فعلهما ، فلا يقال له لم لم تفعل الضدين كي يدعى ان فعلهما غير مقدور فكيف يعاقب على تركه؟ ، بل العقاب على الجمع بين ترك الضدين ، فيعاقب على تركه كلاهما ، بمعنى انه يقال له لم تركت كلا الضدين ، ومن الواضح ان ترك الضدين أمر مقدور له. فان ترك الأهم كان مقدورا له للقدرة على فعله ، فتركه يستلزم استحقاق العقاب ، وفي حال تركه يكون فعل المهم مأمورا به وهو مقدور عليه ، فتركه في حال ترك الأهم مقدور ، فيصح العقاب عليه.

وبالجملة : فكل من الضدين في حال الأمر به مقدور فيكون تركه مستلزما للعقاب فمع تركه كليهما فقد عصى كلا الأمرين فيعاقب على عصيانهما بعقابين ولا يلزم عن ذلك ترتب العقاب على أمر غير مقدور (1). فالتفت.

هذا تمام الكلام في أصل الترتب إثباتا ونفيا وقد نتج مما ذكرناه صحة الترتب وعدم ثبوت استحالته.

ويقع الكلام بعد ذلك في بعض ما يتعلق به من مسائل وجهات في ضمن تنبيهات خمسة.

ص: 427


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 142 - الطبعة الأولى.

تنبيهات الترتب

التنبيه الأول : قد يتساءل متسائل ، بأن غاية ما ثبت مما تقدم هو صحة وقوع الترتب وإمكانه ثبوتا ، ولكنه مما لا دليل عليه إثباتا ، إذ لم يرد في لسان أي دليل ثبوت حكم بنحو الترتب ، فلا أثر له لهذا البحث المطنب خارجا.

وقد تنبه لذلك صاحب الكفاية وتابعة غيره ، فتصدى للإجابة عن هذا السؤال بان الترتب لا يحتاج إلى دليل إثباتي خاص ، فإمكان ثبوته مساوق لوقوعه لمساعدة مقام الإثبات عليه (1).

وتلخص الدعوى : بان العقدة في مسألة الترتب هو إمكانه وتصحيحه ثبوتا ، وإلاّ فمقام الإثبات لا يحتاج إلى دليل خاص ، بل نفس دليلي الأمرين يكفي في ذلك. بيان ذلك : ان التنافي بين الأمرين انما ينشأ من إطلاق دليل كل منهما ، بحيث يثبت الأمر في زمان داعوية الآخر. وإذا ثبت ان هذا المعنى غير معقول فلا بد من علاجه ، فاما ان يرفع اليد عن أصل دليل أحدهما ، أو يرفع اليد عن إطلاقه فيقيد ثبوت الأمر بحال عصيان الآخر أو ترك متعلقه - كما هي دعوى الترتب -.

والثاني هو المتعين ، إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الدليل مع ارتفاع التنافي بالتقييد. لأن الدليل يتكفل ثبوت الحكم مطلقا. غاية الأمر ان ذلك غير معقول ، فيرفع اليد عن الإطلاق لا أصل الحكم ، إذ دليل أصل الحكم موجود ولا وجه لرفع اليد عنه.

وبالجملة : الترتب عملية للجمع بين الحكمين اللذين دل الدليل عليهما

ص: 428


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /137- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

معا ، لعدم إمكان الالتزام بهما معا من دون الترتب ، فيتعين الالتزام به بمجرد تصور إمكانه ، إذ لا وجه لطرح أحد الحكمين مع تصور الوجه المعقول لثبوته وقيام الدليل على ثبوته.

وبعبارة أخرى : ان دليل الأمر بالمهم يتكفل ثبوته مطلقا ، وبما انه ثبت استحالة ثبوته مع فعلية الأهم يرفع اليد عن الدليل في خصوص ذلك الفرض للقطع بخلافه ، فيبقى الدليل متكفلا للأمر بالمهم في غير ذلك الفرض ، إذ لا وجه يقتضي رفع اليد عنه مع حجيته في نفسه. فلا يحتاج الترتب إلى دليل ، بل هو عملية تجري على الدليل الثابت خارجا ، ويتعين إجراؤها حيث لا يتصور غيرها مع المحافظة على نفس الدليل.

التنبيه الثاني : ان الواجبين المتزاحمين يتصوران على أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون كل منهما مضيقا ، كالإزالة والصلاة في آخر وقتها.

الثاني : ان يكون كل منهما موسعا ، كصلاة اليومية وصلاة الآيات.

الثالث : ان يكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا ، كصلاة الظهر وإزالة النجاسة عن المسجد. ولا إشكال في دخول الصورة الأولى في مبحث الترتب ، فانها محط نظر الأصحاب.

كما لا إشكال في خروج الصورة الثانية عنه ، لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من بيان خروج هذا النحو عن كبرى التزاحم.

وانما الكلام في الصورة الثالثة :

فقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى جريان الترتب فيها ودخولها في مبحثه (1). ووجّه هذا الحكم السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - كما في المحاضرات - بأنه مبني على التزامه بان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ،

ص: 429


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 314 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 373 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فإذا امتنع التقييد في مورد يمتنع الإطلاق فيه ، وبما انه يمتنع تقييد الواجب الموسع بصورة الإتيان بالفرد المزاحم - لمكان التضاد بينهما - امتنع إطلاقه بالنسبة إليه. وعليه فيقع التزاحم بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق ، فلا يمكن الجمع بينهما ، بل لا بد من رفع اليد عن أحدهما اما إطلاق الموسع أو خطاب المضيق.

وأورد عليه : بأنه قد عرفت ان التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة ، بل تقابل التضاد ، فإذا امتنع التقييد كان الإطلاق ضروريا ، لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت.

ويرجع سرّ ذلك إلى كون الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها فحقيقته بيان عدم دخل القيد في الموضوع أو المتعلق.

ومن الواضح انه لا مانع من الإطلاق بالنسبة إلى الفرد المزاحم ، إذ معناه عدم دخله في الموضوع كعدم دخل الفرد غير المزاحم وهو مما لا محذور فيه.

وعليه ، فلا منافاة بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق (1).

وفي هذا البيان بحث من جهات - مع موافقتنا له في أصل الدعوى ، وهو عدم كون المورد من موارد التزاحم - :

الأولى : في إيراده وبيان ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الإطلاق.

إذ فيه : ما تقدم من ان امتناع التقييد تارة يكون لامتناع الحكم على الحصة الخاصة. وأخرى يكون الامتناع ثبوت الحكم لخصوصها.

فعلى الأول يمتنع الإطلاق أيضا ، لأن نتيجته سراية الحكم إلى جميع الحصص ومنها هذه الحصة.

ص: 430


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 114 - الطبعة الأولى.

نعم على الثاني يكون ضروريا. مع انه يكون ضروريا إذا لم يمكن الحكم على الحصة المقابلة للحصة التي يمتنع ثبوت الحكم لها ، وإلاّ لم يكن الإطلاق ضروريا إذ ثبوت الحكم يتصور على أنحاء ثلاثة : ان يثبت لمطلق الحصص. وان يثبت لخصوص حصة معينة. وان يثبت لخصوص غير تلك الحصة. فإذا امتنع ثبوته لخصوص تلك الحصة ، كان الأمر دائرا بين الاحتمالين الآخرين ولم يكن الإطلاق ضروريا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان تقييد الحكم بصورة غير الفرد المزاحم لا محذور فيه.

وبالجملة : فما ذكره في الإيراد لا يخلو عن خدشة ، وهو ناشئ عن تخيل كون حقيقة الإطلاق مجرد رفض القيود ، مع انه ليس كذلك ، بل هو تسرية الحكم إلى مطلق الافراد وجميعها الملازم لنفي دخالة خصوصية كل فرد في الحكم. وعليه فلا يكون امتناع التقييد مساوقا لضرورة الإطلاق وشمول الحكم للفرض الّذي يمتنع تقييده به.

الثانية : ان امتناع ثبوت الإطلاق والمحذور فيه ليس إلاّ عدم توفر القدرة على متعلقه عند الفرد المزاحم ، فالمحذور فيه هو عدم القدرة من جهة المزاحم.

ومن البيّن انه قد مرّ الكلام في ذلك مفصلا عند التعرض لكلام المحقق الكركي ، وقد تعرض القائل لحل الإشكال هناك ، فلا يظهر لنا الوجه في عدم تنبيهه هنا على ذلك وعدم إحالة الأمر في هذه الصورة إلى ما تقدم.

الثالثة : - وهي المهمة في المقام - ان المحقق النائيني قدس سره أكد مرارا على ان المحذور المستلزم لتزاحم الواجبين إنما هو من إطلاق كل من الواجبين وهو يرتفع بالترتب ، فلا معنى بعد تأكيده على ذلك لتوجيه ذهابه إلى جريان الترتب في هذه الصورة بكون المحذور في التقييد وهو يستلزم المحذور في الإطلاق.

وبعبارة أخرى : المقصود تطبيق مسألة الترتب على هذه الصورة ،

ص: 431

والمفروض ان نظره في إجراء عملية الترتب هو رفع التزاحم بين الحكمين الناشئ من الإطلاقين ، فامتناع الإطلاقين من جهة أدائهما إلى التزاحم ، فلا معنى لتوجيه انطباق الترتب في هذه الصورة بان امتناع الإطلاق من جهة امتناع التقييد ، إذ لو كان نظره إلى هذه الجهة لتأتي نفس البيان بالنسبة إلى المضيقين ، فيقال : انه يمتنع تقييد كل منهما بصورة وجود الآخر ، فيمتنع الإطلاق ، فيقع التزاحم بين الإطلاقين.

وبالجملة : لا وجه لتركيز كون المحذور في التقييد. فتدبر.

التنبيه الثالث : ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى عدم جريان الترتب بين الواجبين المقيد أحدهما بالقدرة شرعا.

ووجّهه في بعض كلماته : بان الترتب يتوقف على إحراز الملاك في الواجب المهم حال المزاحمة ، وإذا كان أحد الواجبين مقيدا بالقدرة الشرعية - ومعناه القدرة العرفية على الشيء التي هي أخص من القدرة العقلية ، فانها القدرة على الشيء من دون مشقة - يرتفع موضوعه بالواجب الآخر ، لعدم القدرة عليه بواسطة المزاحمة. وعليه فلا يكون واجدا للملاك حال المزاحمة لعدم حصول شرط وجوبه الدخيل في ثبوت ملاكه.

اما وجه لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة ، فهو لأجل إثبات الأمر بمجرد ارتفاع المزاحمة بالعصيان ، لأن المقتضي موجود والمانع وهو المزاحم مفقود. فلا يحتاج ثبوت الأمر إلى دليل آخر. ومن هنا التزم بان إمكان الترتب مساوق لوقوعه من دون احتياج إلى دليل الإثبات ، لتمامية جهات ثبوت الأمر على الترتب.

وأورد على هذا الوجه بإنكار لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة إذ لا وجه له. اما توجيهه بان ذلك لأجل ثبوت الأمر بمجرد ارتفاع المزاحمة. فهو يندفع : بأنه قد عرفت ان طريق ثبوت الأمر الترتبي هو نفس دليل كل من

ص: 432

الواجبين كما تقدم توضيحه. بل ادعى انه بناء على انه لا طريق لإحراز الملاك سوى الأمر يمتنع توقف الترتب على وجود الملاك حال المزاحمة لاستلزامه الدور ، لأن تعلق الأمر يتوقف على ثبوت الملاك وثبوت الملاك يتوقف على تعلق الأمر فيلزم الدور (1).

ولا يخفى انه قدس سره وان اقتصر في بعض كلماته على توجيه المقام بما عرفت ، لكنه ذكر في موضع آخر ما يمكن توجيه المقام به بنحو لا يرد عليه ما عرفت.

بيان ذلك : ان الواجب إذا أخذ في موضوع وجوبه القدرة ، فيراد بها القدرة العرفية - كسائر ما يؤخذ في موضوع الحكم في لسان الدليل ، فانه يراد به المعنى العرفي -. ومن الواضح انه إذا ورد المنع الشرعي عن الفعل لا يكون مقدورا عرفا ، وان كان مقدورا عقلا ، إذ القدرة العرفية هي التمكن على الشيء من دون مشقة ودون منع شرعي. وعليه يكون المنع الشرعي رافعا لموضوع الوجوب فلا يثبت.

وبما ان أحد الواجبين المتزاحمين - فيما نحن فيه - يكون مقيدا بالقدرة شرعا ، وهو الوضوء عند تزاحمه بوجوب حفظ النّفس المحترمة ، كان وجوب الآخر المطلق رافعا لموضوعه ونافيا له بذلك ، فلا يبقى موضوع الحكم المقيد عند وجود الوجوب الآخر كي يدعى التمسك بالإطلاق في إثباته حال العصيان لوجود الوجوب الآخر.

فملخص البيانين : ان ثبوت الأمر بالمهم في حال العصيان اما ان يكون بالملاك أو بالإطلاق وكلاهما منتف.

لعدم الملاك بعد ارتفاع موضوعه.

ص: 433


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 272 - الطبعة الأولى.

وتوقف شمول الإطلاق على إحراز الموضوع. وهو منتف لأن الأمر بوجوده مانع عن القدرة عرفا.

وقد وقع هذا البيان - أعني الثاني - موقع الإشكال ، ومحصله : ان الأمر بأحدهما المطلق لا يكون مانعا عن القدرة على الآخر المقيد بها بوجوده ، بل انما يكون مانعا إذا وصل إلى مرحلة الداعوية والتأثير ، وهي منتفية في حال العصيان ، فيكون الموضوع حال العصيان موجودا ، فيشمله الإطلاق بناء على الترتب فلا مانع من الالتزام بالترتب هاهنا.

ولكنه يمكن المناقشة فيه ومنع جريان الترتب في مثل الفرض وموافقة المحقق النائيني في ذلك. وذلك بتقريب : ان فرض الترتب يختلف عن هذا الفرض ، فان الترتب انما يفرض فيما إذا كان كل من الواجبين تام الموضوع بحيث يثبت وجوبه لو لا المزاحم ، فليس المحذور سوى تزاحم الوجوبين فيعالج بالترتب ، وليس الأمر كذلك في الفرض ، إذ ليس الموضوع تاما في كلا الوجوبين ، لأن وجود الأمر بنفسه يكون رافعا للقدرة العرفية - فيكون الأمر المطلق رافعا لموضوع الأمر المقيد بالقدرة ، فتكون نسبته إليه نسبة الوارد إلى المورود - فلا يقال عرفا لمن هو منهي عن العمل أنه قادر عليه وان كان عاصيا له بحيث لو أقدم يقال انه أقدم مع عدم تمكنه للنهي.

ويشهد لذلك : انه لو جاء بالتيمم قبل ان يصرف الماء في الواجب الآخر - أعني حفظ النّفس المحترمة - كان مشروعا ، ولا يلتزم أحد ببطلانه. وهذا يعني صدق عنوان غير الواجد للماء على المكلف ، فلو أريد تصحيح الوضوء والحال هذه - بالترتب - لزم ان يفرض تحقق عنوان الواجد كي يكون موضوعا للوجوب.

ومن الواضح ان صدق عنوان الواجد وغير الواجد في زمان واحد غير معقول.

ص: 434

ولعل النكتة في توهم كون المقام كسائر موارد الترتب هو الخلط بين القدرة على متعلق الحكم والقدرة على استعمال الماء المفروض أنها موضوع وجوب الوضوء.

ويمكن ان يقرب عدم جريان الترتب في خصوص مسألة الوضوء بنحو آخر : وهو ان يقال ان موضوع وجوب التيمم غير الواجد. ومن الواضح ان الوضوء لا يكون واجبا في المورد الّذي يجب فيه التيمم ، سواء كان موضوعه الواجد أو لم يكن موضوعه ذلك. وعليه فبالأمر الشرعي باستعمال الماء في غير الوضوء يصدق عنوان غير الواجد فيثبت وجوب التيمم ، وبثبوته يثبت عدم وجوب الوضوء فالدليل الدال على لزوم استعمال الماء في سبيل حفظ النّفس المحترمة يكشف بالملازمة عن عدم وجوب الوضوء لإثباته وجوب التيمم بإثبات موضوعه ، والمفروض ان دليل وجوب الوضوء مقيد بمورد لا يثبت فيه وجوب التيمم ، فلا مزاحمة بين وجوب صرف الماء في سبيل حفظ النّفس المحترمة ووجوب الوضوء ، لأن دليله دال بالملازمة على نفي وجوب الوضوء ، فلا تصل النوبة إلى المزاحمة بين الوجوبين.

واعلم ان المستشكل على نفي الترتب في الفرض المذكور ذكر فيما لو تزاحم وجوب الحج مع وجوب أداء الدّين : انه لو كان المعتبر في موضوع وجوب الحج هو التمكن من أداء فريضة الحج كان وجوب الدّين رافعا لموضوعه ، فلا يجب الحجّ لارتفاع موضوعه ، كما انه لا مجال للترتب حينئذ. وان كان المعتبر في موضوع وجوب الحج هو التمكن من الزاد والراحلة فقط ، فيقع التزاحم بين الوجوبين ، لأن التمكن من الزاد والراحلة حاصل فعلا فيثبت موضوع وجوب الحج ويجري الترتب حينئذ. ثم اختار ان الأقوى الثاني لدلالة النصوص عليه.

وهذا الكلام غير واضح ، لأن التفرقة بين الصورتين غير وجيهة ، إذ المعتبر في كلتا الصورتين هو التمكن ، غاية الأمر انه معتبر بقول مطلق في إحداهما

ص: 435

ومعتبر بخصوص نوع معين - وهو التمكن من الزاد والراحلة - في الأخرى. وعليه نقول : اما ان يؤخذ التمكن بالمعنى العقلي ، فالموضوع في كلا الفرضين ثابت. واما ان يؤخذ بالمعنى العرفي فهو في كليهما غير ثابت ، إذ مع وجوب أداء الدين لا تمكن عرفا من الزاد والراحلة. ثم لنا سؤال الفرق بين مثال الحج لو كان موضوع وجوبه التمكن على أداء الفريضة ، ومثال الوضوء المأخوذ في موضوعه وجدان الماء ، حيث التزم بعدم جريان الترتب في الأول وجريانه في الثاني ، مع ان نسبة الأمر الآخر إلى موضوع كل منهما على حد سواء في كلا الموردين ، فان كان الأمر بوجوده رافعا للموضوع لزم إنكار الترتب في مسألة الوضوء ، وان كان بداعويته رافعا للموضوع لزم إثبات الترتب في مسألة الحج. فالتفت ولا تغفل.

التنبيه الرابع : لا يخفى ان الترتب انما يجري فيما إذا تعلق الأمران بالضدين اللذين لهما ثالث ، كالصلاة وإزالة النجاسة وكإنقاذ غريقين. اما إذا تعلق الأمران بالضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فلا يتأتى الترتب بينهما ، لأن ترك أو عصيان أحدهما يتحقق بفعل الآخر فلا معنى لتعلق الأمر به في ذلك الحال.

وهذا الأمر كبرويا واضح لا غبار عليه ولا شبهة فيه. وانما الإشكال في بعض الموارد التي وقع الخلاف في أنها من صغريات ذلك أو لا؟ وذلك كمسألة ما إذا أخفت في موضوع الجهر وجهر في موضع الإخفات ، فانه قد ورد بان ذلك إذا كان عن جهل تقصيري كان عاصيا وصحت صلاته (1) ، فوقع الكلام في الجمع بين ثبوت العصيان وتعلق الأمر بما أتى به من الصلاة ، ويحقق الكلام في ذلك في مسألة البراءة والاشتغال.

ص: 436


1- وسائل الشيعة باب 26 من أبواب القراءة ، حديث : 1.

وقد ذكر من جملة وجوه الجمع ما ذكره كاشف الغطاء رحمه اللّه من : تخريج هذا الحكم على الترتب ، فالتزم بان الأمر متعلق بالإخفات عند عصيان الأمر بالجهر (1).

ولهذه الجهة تعرضنا للبحث في هذه المسألة ، لكن بالمقدار المرتبط بمبحث الترتب دون سائر الجهات فان تحقيقها موكول إلى محله.

وعلى كل : فقد عرفت ان كاشف الغطاء أفاد ان المسألة من مصاديق الترتب.

وأورد عليه الشيخ في رسائله : بأنا لا نتعقل الترتب. واكتفي بهذا المقدار من البيان (2).

وأورد المحقق النائيني على الشيخ : بالنقض فيما ذكره في مسألة تعارض الخبرين بناء على السببية من الالتزام بالترتب من الطرفين.

وقد تقدم منّا الدفاع عن الشيخ ، وبيان وجهة نظره في تلك المسألة بنحو لا يتنافى مع إنكاره الترتب في مثل ما نحن فيه فراجع (3).

كما أورد المحقق النائيني رحمه اللّه على كاشف الغطاء بوجوه :

منها : ان المسألة ليست من مصاديق الترتب كي يدعى تقرره فيها ، لأن الجهر والإخفات عن الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ القارئ لا يخلو عن أحدهما ، وقد ثبت ان الترتب لا يجري في الواجبين المتضادين اللذين لا ثالث لهما لامتناعه (4).

وأورد عليه في المحاضرات : بان متعلق الأمر ليس هو الجهر أو الإخفات ،

ص: 437


1- كاشف الغطاء الشيخ محمد جعفر. كشف الغطاء /27- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /309- الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /438- الطبعة الأولى.
4- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 311 - الطبعة الأولى.

بحيث يفرض في موضوع الأمرين هو القراءة كي لا يتخلف القارئ عن أحدهما ، بل متعلق الأمر هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية. ومن الواضح انهما ليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ المكلف قادر على تركهما معا بترك أصل القراءة (1).

وهذا الإيراد غير متوجه ، إذ الفرض الّذي يبحث فيه في المقام فرض معين يقصد إثبات الأمر فيه ، وهو فرض تحقق القراءة الإخفاتية ، فالمأخوذ في الموضوع هو القارئ بنحو إخفاتي ، وليس الموضوع مطلق المكلف فيؤمر بالصلاة الجهرية والإخفاتية بنحو الترتب ، إذ لا يلتزم أحد بلزوم الصلاة الإخفاتية بمجرد ترك الجهرية ، كما لا يلتزم أحد بثبوت عقابين على ترك كلتا الصلاتين كما انه ليس الموضوع هو المصلي فيؤمر بالقراءة الجهرية والإخفاتية بنحو الترتب ، إذ لو ترك أصل القراءة في الصلاة لا يلتزم أحد بأنه مكلف بالقراءة الإخفاتية لتحقق موضوع الأمر بها. إذن فالكلام موضوعه القارئ الّذي قرأ إخفاتا بدل الجهر. ومن الواضح ان القارئ لا يخلو حاله عن أحد الوصفين كما اعترف به نفس المستشكل ، فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما فلا يتأتى الترتب.

وبالجملة : المفروض هو الجاهل المقصر الّذي جاء بالقراءة الإخفاتية لا الّذي ترك القراءة الجهرية ، فقد أخذ في الفرض موضوعية القارئ إخفاتا لا تارك القراءة جهرا - فتدبر - وليس المقصود تطبيق الترتب بين القراءتين في سائر الصور كي يتأتى الإيراد المذكور.

ومنها : ان الأمر انما يصير فعليا بإحراز موضوعه وبدونه لا يكون فعليا كما لا يخفى. وعليه فإذا كان موضوعه مما لا يقبل الإحراز بان كان إحرازه

ص: 438


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 167 - الطبعة الأولى.

مساوقا لانعدامه لم يعقل ترتيب الحكم عليه للغوية جعله بعد ان كان بما لا يصل إلى مرحلة الفعلية ، ولأجل ذلك يمتنع أخذ النسيان والغفلة موضوعا لحكم من الأحكام ، لأن إحراز نسيان الشيء والالتفات إليه يلازم ارتفاع النسيان وانعدامه كما لا يخفى ، فلا يصل الحكم المرتب عليه إلى مرحلة الفعلية في حال من الأحوال فيكون جعله لغوا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن العلم بعصيان الأمر بالجهر مساوق لارتفاع الجهل ومعرفة لزوم الجهر عليه فلا يتحقق منه العصيان ، فيمتنع تعليق الحكم على العصيان في الفرض لعدم صيرورته فعليا أصلا فيكون لغوا (1).

ويمكن المناقشة في هذا الوجه : بأنه انما يلزم ويتم لو كان المأخوذ في الأمر بالإخفات عصيان الأمر بالجهر. اما إذا أخذ في موضوعه ترك الجهر فلا يتم ما ذكر ، لإمكان العلم بترك الجهر والالتفات إليه مع الجهل بوجوبه فيكون الحكم فعليا.

وقد عرفت ان تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم بلا ملزم ، بل يمكن تقييده بترك الأهم لارتفاع التزاحم به ، فليلتزم فيما نحن فيه بذلك.

وعليه ، فالإيراد الأول هو المتوجه دون الثاني. ونضيف إليه محذورا آخر في جريان الترتب ، وهو : ان عصيان الأمر بالجهر أو تركه لا يكون في الفرض إلاّ بالإتيان بالإخفات. وعليه فيمتنع ان يتعلق به الأمر معلقا على عصيان الأمر بالجهر أو تركه ، لكون المفروض ان العصيان معلول القراءة الإخفاتية ، فكيف تتفرع القراءة الإخفاتية على العصيان لتفرع الأمر بها عليه وهي متفرعة على الأمر؟!.

بيان ذلك : ان توجيه صحة الصلاة الإخفاتية مع تحقق العصيان انما

ص: 439


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 311 - الطبعة الأولى.

يكون ببيان ان الصلاة الإخفاتية تفي بمقدار من المصلحة الملزمة بنحو لا مجال حينئذ لتدارك الباقي من مصلحة الجهر مع لزومه ، وإلاّ فيؤمر بالجهر حينئذ ، فالحال فيهما نظير أكل الشخص المأمور بالأكل الجيّد ، للنوع الرديء الموجب للشبع فلا يبقى معه مجال للأكل الجيد فيسقط الأمر به مع مؤاخذته لتفويته مصلحة الجيد الملزمة.

وعليه ، فثبوت الأمر بالإخفات انما يكون في الفرض الّذي لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الجهر ، وإلاّ فيؤمر به لا بالإخفات. وليس ذلك إلاّ حال الإتيان بالإخفات ، إذ قبل الإتيان به إما ان يترك الجهر آناً ما أو يترك الصلاة بالمرة إلى آخر الوقت. اما تركه الجهر في بعض الوقت فلا يكون موضوعا لوجوب الإخفات ، إذ لا يلتزم أحد بأنه متى ما أخر المكلف صلاته الجهرية عن أول الوقت كلف بالإخفات ، كما انه لا معنى للأمر به مع إمكان استيفاء مصلحة الجهر. واما لو ترك الصلاة بالمرة فكذلك لا يكون مكلفا بالصلاة الإخفاتية لخروج الوقت ولا يكشف ذلك عنه ، فموضوع الأمر بالإخفات هو الترك أو العصيان المساوق لاستيفاء بعض المصلحة وعدم إمكان استيفاء الباقي منها ، وذلك لا يكون إلا بالإتيان بالصلاة إخفاتا. فيلزم ان يعلق الأمر بالشيء على الترك المتحقق بذلك الشيء وهو مما لا إشكال بامتناعه. ومن الواضح ان هذا المحذور لا يبتني على ان يكون الجهر والإخفات من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ هو يتأتى حتى بناء على ان الأمر يتعلق بالقراءة الجهرية والإخفاتية ، أو بالصلاة الجهرية والإخفاتية ، لأنه ينشأ من تقييد الأمر بالإخفات بالترك الخاصّ لا بمطلق الترك. فالتفت.

التنبيه الخامس : لا يخفى ان الترتب انما يجري لرفع محذور التزاحم بين الحكمين ، فلو كان في اجتماع الحكمين محذور آخر غير التزاحم فلا يرفعه الترتب ، كما لو لزم من اجتماع الحكمين اجتماع الضدين في شيء واحد. مثاله :

ص: 440

ما لو التزم باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاصّ ، فيكون الأمر بكل من الضدين مقتضيا لتعلق النهي بالضد الآخر ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين. ومن الواضح انه لا يرتفع ذلك بالترتب ، لأن الأمر بكل منهما في حال عصيان الأهم ثابت ، فيثبت منه نهي عن كل منهما. فيجتمع الضدان في شيء واحد.

إلاّ انه ذكر المثال بنحو آخر وهو : اجتماع الوجوب والحرمة في ترك المهم ، لأن الترك مقدمة للواجب الأهم ، فهو واجب كما انه نقيض الواجب فيكون محرما. وهو غير مهم في المقام. فانتبه.

وقد تعرض إلى بيان هذه الجهة المحقق الأصفهاني رحمه اللّه (1).

وهو في نفسه متين. إلاّ ان لنا مناقشة مع المحقق المذكور ترجع إلى عالم الاصطلاح والتعبير ، فانها وان لم تكن أساسية دخيلة في أصل المطلب ، إلاّ انه قدس سره لالتزامه بالتعبير عن المطالب بالألفاظ المناسبة لها بنحو الدقة ، ولذا يستشكل كثيرا على التعبير عن بعض المطالب ببعض الألفاظ ويبني على إبدالها بلفظ آخر - لأجل ذلك - كان موردا لما سنبينه من المناقشة. وبيان ذلك : ان الثابت أن الأحكام بما انها أمور اعتبارية لا تضاد بينها بأنفسها - مع الغض عن المبدأ والمنتهى - ، لأن الاعتبار خفيف المئونة فلا محذور في اعتبار الأحكام الخمسة في شيء واحد ، إلاّ انه يقع التضاد بين الأحكام من جهة المبدأ ، فان اعتبار الوجوب حيث ينشأ من تعلق الإرادة بالفعل يكون مضادا لاعتبار الحرمة. حيث انه ينشأ من تعلق الكراهة بالعمل ، فالحرمة والوجوب متضادان من جهة مبدئهما.

وقد أنكر البعض وقوع التضاد من جهة مبدأ الأحكام وحصره من جهة

ص: 441


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 244 - الطبعة الأولى.

مقام الامتثال ، فذكر : ان التضاد بين الحرمة والوجوب من جهة ان الحرمة تقتضي زجر المكلف عن العمل وردعه ، والوجوب يقتضي بعثه ومحركيته نحو العمل ، والزجر والبعث لا يجتمعان ، فهما إذن ضدان من جهة مقام الامتثال المعبر عنه بحيثية المنتهى.

وقد ذهب إلى ذلك المحقق الأصفهاني وهو المتفرد بذلك من الأصوليين (1).

وعليه ، فليس محذور اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين سوى تزاحمهما في مقام الداعوية والمحركية ، إلا ان الترتب لا يرفع هذا التزاحم لامتناعه ، لأن ترك أو عصيان أحد الأمرين مساوق للإتيان بمتعلق الحكم الآخر ، فعصيان الحرمة مساوق لنفس الفعل كما ان عصيان الوجوب مساوق للترك. فيمتنع الترتب حينئذ لاستلزامه طلب الحاصل.

فكان ينبغي على المحقق الأصفهاني ان يذكر : ان الترتب لا يجري في مثل هذا التزاحم ، وهو التزاحم في فعل واحد بملاك عدم جريانه في مورد التزاحم في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لا ان الترتب انما يرفع محذور التزاحم دون غيره. فلاحظ وانتبه.

التنبيه السادس : إذا كان أحد المتزاحمين أسبق زمانا من الآخر ، كما إذا فرض عدم قدرة المكلف الا على قيام واحد يصرفه في صلاة الظهر أو صلاة العصر ، فيتزاحم وجوب القيام في كل منهما مع وجوبه في الأخرى.

وقد مثّل المحقق النائيني قدس سره لذلك بمثال آخر ، وهو : فرض عدم قدرة المكلف الا على القيام في الركعة الأولى أو الثانية (2).

ص: 442


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 42 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 318 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 380 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبما ان هذا المثال خارج عن موارد التزاحم كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى في ضابط التزاحم ، نقتصر في موضوع الحديث على المثال الأول.

فنقول : انه إذا كان الواجب المتأخر أهم من الواجب الفعلي ، فهل يمكن الالتزام بالترتب أو لا؟. بمعنى انه يلتزم بكون وجوب القيام في الواجب الفعلي كالظهر في المثال مترتبا على عصيان الأمر بالقيام في الواجب المتأخر كالعصر.

ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى امتناع الترتب في المقام لوجهين :

الأول : ان تعليق الأمر الفعلي على عصيان الأمر المتأخر لا بد وان يكون بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر - كما هو واضح جدا - وهو ممتنع كما قرر في محله. نعم تعليق الأمر الفعلي على تعقب العصيان ، فيكون الشرط هو عنوان التعقب لا نفس العصيان ، أمر معقول لكنه يحتاج إلى دليل خاص ، وإلاّ فنفس إمكان الترتب لا يقتضيه ، وليس لدينا ما يدل على شرطية التعقب.

الثاني : ان أساس جواز الترتب هو كون المهم في ظرف عصيان الأهم مقدورا وقابلا لتعلق الخطاب به ، وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه ، فان عصيان الأمر المتأخر لا يوجب مقدورية المهم فعلا ، لحكم العقل فعلا بحفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم ، فلا يرتفع محذور المزاحمة وعدم القدرة بالترتب بعد وجود حكم العقل الفعلي بحفظ القدرة وهو رافع للقدرة على القيام فعلا ومزاحم للأمر بالمهم.

ويمكننا ان نقول : ان نظر المحقق النائيني قدس سره في هذا الوجه إلى أن طرف المزاحمة في الحقيقة ليس هو الوجوب المتأخر كي تدفع بإجراء عملية الترتب ، لأن داعويته متأخرة فلا تزاحم داعوية الأمر بالمهم الفعلي. وانما طرف المزاحمة هو الوجوب العقلي الفعلي المتعلق بحفظ القدرة للواجب المتأخر ، فليس مقصوده ان طرف المزاحمة كلا الوجوبين ، فإجراء الترتب بين المهم وأحدهما لا ينفع بعد وجود المزاحم الآخر.

ص: 443

وقد يقال : بإجراء عملية الترتب بين وجوب المهم ووجوب حفظ القدرة ، فيلتزم بتعليق وجوب الظهر قائما - مثلا - على عصيان وجوب حفظ القدرة على القيام للعصر. فيرتفع التزاحم بين هذين الحكمين.

ومنعه قدس سره : بان المهم - كالقيام للظهر - من افراد عصيان الحكم بلزوم حفظ القدرة ، فيمتنع ان يعلق الخطاب به على عصيان وجوب حفظ القدرة ، لأن عصيان وجوب حفظ القدرة انما يتحقق بصرفها ، اما في نفس القيام للظهر أو في فعل وجودي آخر كحمل الثقيل.

وعليه نقول : ان شرط الخطاب بالمهم اما ان يكون صرف القدرة في نفس القيام ، فيلزم منه تعلق الحكم بشيء على تقدير وجوده وهو محال. واما ان يكون صرف القدرة في فعل آخر ، فلا يكون المهم مقدورا حينئذ ، فيستحيل تعلق الطلب به على هذا التقدير.

وهذا الأمر مطرد في كل ما كان المهم من افراد عصيان الأهم. فتدبر (1).

فتحصل : ان في إجراء الترتب في ما نحن فيه جهات من الإشكال :

اما الجهة الأولى : وهي كون الترتب مستلزما للشرط المتأخر وهو ممتنع ، وشرطية عنوان التعقب تحتاج إلى دليل. فهي قابلة للمناقشة بأن شرطية عنوان التعقب لا تحتاج إلى دليل خاص كشرطية نفس العصيان ، فانه مقتضى دليل الحكمين ، لأنه بعد ان امتنع الالتزام بإطلاق كلا الدليلين بالنسبة إلى حال تعقب أحدهما بعصيان الآخر وعدم تعقبه ، وكان تقييد أحدهما بتعقبه بعصيان الآخر رافعا للمحذور ، تعين الالتزام بذلك ، إذ لا موجب لطرح الدليل المطلق رأسا إذا أمكن الالتزام به في بعض موارده.

ص: 444


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 318 - 320 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 380 - 383 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبالجملة : التقريب الّذي يذكر لأخذ العصيان شرطا من دون دليل خاص عينه يأتي في أخذ عنوان التعقب فلا حاجة بنا إلى الإطالة.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى ذلك في بعض كلماته في مكان آخر. وذكره السيد الخوئي (1) أيضا.

ومن العجيب ما ورد في تعليقة أجود التقريرات للسيد الخوئي من : انتهائه إلى جواز الترتب في المقام بعد دفعه الجهة الأولى من الإشكال ، مما يظهر منه انه فهم من كلام أستاذه النائيني انحصار المحذور في هذه الجهة ، فاندفاعه يستلزم الالتزام بالجواز ، مع انك عرفت ان عمدة المحذور هو الجهة الثانية كما لا يخفى على من لاحظ « أجود التقريرات » (2).

واما الجهة الثانية : فقد يورد على التقرير الأول لها ، بان تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأهم يرفع مزاحمة وجوب حفظ القدرة للأمر بالمهم ، لأن وجوب حفظ القدرة وجوب طريقي للتمكن من امتثال الأمر بالأهم ، فهو نظير الوجوب الغيري المقدمي ينشأ بمقتضى وجود الأمر بالأهم. وعليه فهو يتبعه في الداعوية الفعلية ، فإذا لم يكن الأمر بالأهم ذا داعوية فعلية في ظرفه لم يكن وجوب حفظ القدرة ذا داعوية فعلية نحو متعلقه ، فإذا قيد الأمر بالمهم بعصيان الأهم في وقته ، فقد قيد بعدم داعوية الأهم ، فإذا علم المكلف بتحقق العصيان منه لم يكن وجوب حفظ القدرة فعلا ذا داعوية فعلية ، فيثبت الأمر بالمهم من دون مزاحم.

وبالجملة : بإجراء عملية الترتب بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ترتفع المزاحمة بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة للأهم من دون تقييد للأمر بالمهم

ص: 445


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 322 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 318 - الطبعة الأولى.

بعصيان الأمر بحفظ القدرة ، بل يبقى على ما هو عليه من الإطلاق من هذه الجهة ، إلا ان نتيجة تقييده بالعصيان متحققة ، لعدم داعويته الفعلية مع عصيان الأمر بالأهم.

ولكنه يخدش بوجهين :

الأول : ان أساس عملية الترتب على انه مع امتثال الأمر الأهم والإتيان بمتعلقه يرتفع الأمر بالمهم ، لأن ذلك هو الّذي يرفع التزاحم بين الأمرين. وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه بين الأمر بحفظ القدرة والأمر بالمهم ، فان الأمر بالمهم موجود مع الإتيان بمتعلق الأمر بحفظ القدرة فيما لو بنى على عصيان الأمر بالأهم لتحقق شرط الأمر بالمهم. فيقع التزاحم بينهما ، فلا يترتب أثر الترتب المرغوب ونتيجته المطلوب بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة ، بإجراء عملية الترتب بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم.

نعم لو كان الأمر بالمهم يرتفع بالإتيان بمتعلق الأمر بحفظ القدرة من دون تقييده بعصيانه كان لما ذكر وجه ، ولكن الأمر ليس كذلك كما عرفت.

الثاني : ان ما ذكر من ارتباط وتبعية داعوية الأمر بحفظ القدرة لداعوية الأمر بالأهم في ظرفه غير وجيهة ، فانه من الممكن عقلا ان يكون الأمر بحفظ القدرة داعيا مع عدم داعوية الأمر بالأهم. نعم ذلك غير واقع لمنافاته لسيرة العقلاء لأنه عمل غير عقلائي لا انه غير ممكن ، وقد عرفت ان ذلك لا يدفع محذور اجتماع الأمرين بالضدين ، وانما الّذي يدفعه هو فرض داعوية أحدهما في فرض لا يمكن ان يكون الآخر داعيا ، لا انه لا يكون الآخر داعيا مع إمكانه ، إذ مع إمكان داعويته يمكن ان يصل كل منهما إلى مرحلة الفعلية في مقام التأثير فيقع التزاحم.

وبالجملة : الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة يمكن ان يكون كل منهما داعيا فعلا إلى متعلقه في زمان واحد ، وذلك هو محذور التزاحم.

ص: 446

ولا يخفى ان الإيراد المذكور لا يتوجه على التقرير الثاني لكلام النائيني قدس سره لعدم فرض المزاحمة فيه بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وانما هي بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة رأسا ، فلا يتجه تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم المتأخر.

والّذي يظهر من « المحاضرات » - بالنظرة العاجلة - ان نظر المحقق النائيني في الجهة الثانية من الإشكال هو فرض المحذور في لزوم اجتماع الحكمين - أعني الحكم بوجوب المهم والحكم بوجوب حفظ القدرة للأهم - في زمان واحد ، فأورد عليه : بان هذا لازم عملية الترتب في سائر الموارد ، بل أساس الترتب لتصحيح اجتماع الحكمين في زمان واحد. فالالتزام بامتناع الترتب هنا لأجل هذا اللازم يستدعي الالتزام بامتناعه مطلقا لأجل هذا اللازم أيضا (1).

وهذا عجيب جدا ، فان نظر المحقق النائيني ليس إلى مجرد اجتماع الحكمين كي ينقض عليه بمطلق موارد الترتب ، بل إلى التزاحم الواقع بينهما لإطلاق كل منهما بالإضافة إلى الآخر ، وهذا المعنى لا يوجد في مطلق موارد الترتب لارتفاع التزاحم بين الحكمين بواسطة عملية الترتب ، وهذا ظاهر بأدنى ملاحظة لكلام المحقق النائيني. فراجع.

واما الجهة الثالثة : فقد أورد عليها السيد الخوئي كما في « المحاضرات » - بعد الإسهاب في بيانها - ، بأنه إنما يتم ذلك لو فرض ان عدم حفظ القدرة انما يكون بنفس القيام وعينه ، بحيث تكون نسبتهما نسبة المتناقضين ، فمع ارتفاع أحدهما وعدمه يتحقق الآخر ويكون تقدير عدم أحدهما عين تقدير الآخر ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان عدم حفظ القدرة وتركه يلازم القيام لا عينه. ومن الواضح صحة الأمر بأحد افراد اللازم على تقدير تحقق ملازمه ، فيصح

ص: 447


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 348 - الطبعة الأولى.

الأمر بالقيام بصلاة الظهر على تقدير ترك حفظ القدرة ، إذ لا يكون ذلك من الأمر بشيء على تقدير حصوله ووجوده ، لما عرفت من ان ترك حفظ القدرة ليس عين القيام. فحال القيام لصلاة الظهر حال الصلاة على تقدير ترك الإزالة ، إذ المكلف على تقدير تركها لا يخلو عن حال اما فعل الصلاة أو فعل آخر ولا أقل من السكون. هذا ملخص ما جاء في المحاضرات (1).

وهو غير سديد ، فان حفظ القدرة وإبقاءها وان كان عنوانا ثبوتيا ، لكنه لا واقع له غير العدم ، فواقعه عدم صرف القدرة في شيء آخر ، فهو نظير العصيان الّذي واقعه عدم امتثال المأمور به مع انه عنوان ثبوتي ، ونظير الفوت الّذي واقعه عدم الإتيان بالمأمور به مع جهة استقراره عليه ، مع انه عنوان ثبوتي ، ولذلك لا يثبت بالأصل الجاري في عدم الإتيان. فليس واقع هذه العناوين الثبوتية سوى العدم ليس إلاّ. وإذا تبين ان حفظ القدرة من الأمور التي واقعها العدم ، وهو عدم صرف القدرة في شيء آخر ، لا ان لها واقعا وجوديا كسائر الأمور الوجودية ، ولأجل ذلك لا يعبّر عنه إلاّ بالمعنى العدمي الّذي عرفته - كما لا يعبر عن العصيان والفوت إلا به -.

إذا تبين ذلك تعرف ان عدم حفظ القدرة يتحقق بنفس صرفها في فعل آخر لا انه لازم للعدم ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع تعليق الأمر بالقيام لصلاة الظهر على ترك حفظ القدرة عليه لصلاة العصر ، لأن مرجع ذلك إلى تعليق الأمر بالقيام على تحقق القيام لصلاة الظهر أو في غيرها من الأفعال ، وعلى كلا الحالين يمتنع تعلق الأمر به ، فلاحظ.

التنبيه السابع : في جريان الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها. كما لو كانت هناك مقدمة محرمة لواجب أهم ، كالاجتياز في الأرض المغصوبة لإنقاذ

ص: 448


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 350 - الطبعة الأولى.

الغريق ، فانه لا إشكال في ارتفاع الحرمة لو جاء بالواجب بعد تحقق المقدمة واتصاف المقدمة بالوجوب الغيري - على القول به - ، كما انه لا إشكال بينهم فتوى في حرمة المقدمة لو لم يتحقق الواجب بعد المقدمة ، فيرون ان الدخول إلى الأرض المغصوبة محرم إذا لم يكن لأجل ان يترتب الواجب عليه ، وقد وقع البحث في تعليل ذلك ، مع أن الدخول في الأرض المغصوبة لا يخرج بذلك عن كونه مقدمة والمفروض انها واجبة.

فذهب الشيخ إلى : ان حرمتها لأجل اعتبار قصد التوصل إلى الواجب في وجوب المقدمة ، وهو منتف في الفرض فتكون المقدمة على حكمها الأول (1).

كما ذهب صاحب الفصول إلى : اعتبار الإيصال في وجوب المقدمة ، وهو منتف فيما نحن فيه ، فتكون المقدمة على حكمها الأول.

وقد مرّ الكلام في كلا القولين مفصلا.

وبما ان المحقق النائيني ممن تبع صاحب الكفاية في الالتزام بوجوب مطلق المقدمة وعدم اختصاصه بحصة منها دون أخرى ، خرّج هذا الفرض على مسألة الترتب ، فذهب إلى : ان حرمة المقدمة مترتبة على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فعند عدم الإتيان بذي المقدمة تكون المقدمة محرمة بحكم الترتب.

إلا ان إجراء الترتب في المقام يرد عليه لأول وهلة إيرادان :

أحدهما : استلزامه اما الالتزام بالشرط المتأخر الممتنع لو فرض ان المرتب عليه حرمة المقدمة فعلا هو عصيان وجوب ذي المقدمة. واما الالتزام بما يحتاج إلى دليل خاص وهو غير موجود لو فرض ان المعلق عليه حرمة المقدمة هو عنوان التعقب بعصيان وجوب ذيها.

ثانيهما : استلزامه اجتماع الحكمين المتضادين وهما الوجوب والحرمة ، لأن

ص: 449


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- الطبعة الأولى.

المقدمة على الفرض محرمة لتحقق المعلق عليه في الخارج وهو التعقب لو فرض أخذه شرطا ، كما انها واجبة بالوجوب الغيري لأن الوجوب النفسيّ قبل تحقق العصيان موجود فيترشح منه وجوب غيري على المقدمة ، فيجتمع الحكمان المتضادان في المقدمة في زمان واحد. وهو محال.

وقد تخلص المحقق النائيني من هذين الإيرادين بعد تقديم مقدمتين :

إحداهما : ان الوجوب الغيري وان كان حكما آخر غير الوجوب النفسيّ ، إلاّ انه في مرتبة الوجوب النفسيّ ، بمعنى انه يقتضي ما يقتضيه الأمر النفسيّ ، فكما ان الأمر النفسيّ بصدد تحصيل متعلقه في الخارج بوضع تقدير الطاعة وهدم تقدير المعصية كذلك الأمر الغيري ، فانه أيضا بصدد تحصيل الواجب النفسيّ فيقتضي تقدير الطاعة ويهدم تقدير المعصية ، وهذا المعنى هو المراد من عبارة صاحب الحاشية بان المقدمة واجبة من حيث الإيصال ، وليس مراده تقييد وجوب المقدمة بالإيصال كما توهّم (1).

ثانيتهما : ان الوجوب الغيري حيث انه وجوب تبعي مترشح عن الوجوب النفسيّ ، فهو تابع له اشتراطا وإطلاقا ، وبما انك قد عرفت عدم معقولية إطلاق الخطاب النفسيّ ولا تقييده بالإضافة إلى فرض طاعته ومعصيته ، فلا يعقل أيضا الإطلاق والتقييد في الوجوب الغيري بالإضافة إلى فرض إطاعة الأمر النفسيّ وعصيانه.

ومن هذين المقدمتين انتهى إلى دفع المحذورين.

اما المحذور الأول : فقد التزم بان الشرط هو عنوان التعقب ، وهو لا يحتاج إلى دليل خاص ، بل هو مقتضى حكم العقل كما في موارد الاشتراط بالقدرة. ببيان : ان المقدمة بعد ان فرض كونها محرمة في حد ذاتها ورفع اليد عن

ص: 450


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين /207- الطبعة الأولى.

حرمتها لأجل مقدميتها للواجب ، وبما ان خطابها في مرتبة خطاب ذيها - كما هو مقتضى المقدمة الأولى - فلا محالة يكون وجوبها في تلك المرتبة ، فإذا فرض عدم وقوعها في طريق التوصل إلى ذيها فلا إشكال في تعلق الحرمة بها حينئذ ، وهذا في الحقيقة يعنى شرطية التعقب بالعصيان للحرمة.

واما المحذور الثاني فيدفعه : ان عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين انما هو لأجل وقوع التزاحم بينهما في مقام الامتثال ، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه ، لأن حرمة المقدمة انما هي في فرض عصيان ذي المقدمة ، وقد عرفت ان الوجوب المقدمي لا نظر له إلى ما بعد العصيان والطاعة ، فداعوية كل منهما في فرض غير فرض داعوية الآخر ، وأحد الخطابين هادم لتقدير أخذه موضوعا للخطاب الآخر ، فلا تزاحم بينهما في مقام الداعوية.

وبالجملة : البيان الّذي يصحح به الترتب بين الواجبين النفسيين يصحح به نفسه الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.

هذا ما أفاده المحقق النائيني في المقام (1).

وقد أورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في تعليقته على التقرير ، بما تعرضنا إليه في مبحث المقدمة الموصلة من استلزام القول بالترتب محذورين مهمين : أحدهما : طلب الحاصل. وثانيهما : خروج الواجب النفسيّ عن كونه واجبا. ببيان : ان وجوب الشيء يتوقف على القدرة عليه ، وهي تتوقف على القدرة على مقدماته المتوقفة على جوازها شرعا ، فإذا فرض تعليق الحرمة على عصيان ذي المقدمة ، فلازمه فرض اختصاص جواز المقدمة بتقدير عدم عصيانه وهو فرض الإتيان به ، وقد عرفت ان الأمر به يتوقف على جواز مقدميته ، فيكون الأمر به متوقفا على الإتيان به وهو طلب الحاصل. هذا مع أن عدم جواز المقدمة

ص: 451


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 321 - الطبعة الأولى.

إذا علق على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فمع فرض عصيانه تحرم المقدمة ، فيكون الواجب النفسيّ غير مقدور فيرتفع وجوبه ، إذ التكليف بغير المقدور ممتنع (1).

وهذا البيان غريب جدا ، فان مفروض كلام المحقق النائيني هو الجمع بين الحكمين في زمان واحد بحيث تكون المقدمة في حال العصيان واجبة كما انها محرمة - فانه مقصود الترتب - فكيف يفرض استلزام تعليق الحرمة على العصيان لتعليق الجواز على عدم العصيان؟!. وهذا البيان أخذه السيد الخوئي من إيراد صاحب الكفاية (2) على من ادعى جواز تصريح الآمر بحرمة المقدمة غير الموصلة دون الموصلة. ولكنه فرق كبير بين المقامين ، إذ لم يفرض في ذلك المورد سوى حرمة المقدمة غير الموصلة وجواز الموصلة. والمفروض هنا هو جواز مطلق المقدمة وانما الغرض تصحيح تعلق الحرمة بنحو الترتب الملازم للمحافظة على بقاء الجواز في حال الحرمة.

هذا مع ما تقدم من الإشكال على أصل الكلام في نفسه وحل جهة المغالطة فيه. فراجع.

فالعمدة في الإيراد على المحقق النائيني ان يقال : ان ما ذكره يبتني على عدم الالتزام بتضاد الأحكام ، وانما لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد لتزاحمها في مقام الامتثال وعدم القدرة على امتثال جميعها ، لأنه قد عرفت ارتفاع التزاحم بالترتب ، إلا أنه قدس سره لا يلتزم بذلك ، وقد أشرنا إلى انه قد تفرد المحقق الأصفهاني من بين الأصوليين إلى نفي التضاد من حيث المبدأ (3).

اما المحقق النائيني وسائر الأصوليين فهم يلتزمون بتحقق التضاد من

ص: 452


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 236 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /118- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 42 - الطبعة الأولى.

جهة المبدأ ، فتضاد الحرمة والوجوب لأجل انبعاث الحرمة عن الكراهة والوجوب عن الإرادة وهما متضادان. ومن الواضح ان هذا المحذور لا يرتفع بالترتب كما أشرنا إليه سابقا ، فان الترتب انما يرفع محذور التزاحم لا غير.

وعليه ، فالالتزام بالترتب هنا يلزمه الالتزام بجواز اجتماع الحكمين في زمان واحد في مورد واحد ، وهو ممتنع لكونه من اجتماع الضدين.

ونتيجة ما ذكرناه هو : انه بناء على الالتزام بوجوب المقدمة يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة ، لأنه يقتضي وجوب المقدمة ، فيقع التكاذب بينهما ، لاقتضاء أحدهما ضد ما يقتضي الآخر ، وبناء على عدم الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد تزاحم حرمة المقدمة ووجوب ذي المقدمة لعدم إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ولا مانع من الالتزام بالترتب حينئذ بتعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذيها. وإلى هذا المعنى أشرنا في أول مبحث مقدمة الواجب في بيان ثمرة البحث فراجع.

التنبيه الثامن : في إجراء الترتب بين التدريجيين.

لا يخفى ان الواجبين المتزاحمين ..

تارة : يكونان آنيين كانقاذي الغريقين ، فلا يكون عصيان أحدهما إلا آنيا ، إذ بمجرده يسقط الأمر لفوات موضوعه.

وأخرى : يكون أحدهما تدريجيا والآخر آنيا كإنقاذ الغريق والصلاة.

وثالثة : يكون كل منهما تدريجيا ، لكن عصيان كل منهما يتحقق بمجرد ترك جزء منه ، فلا يكون عصيانه إلا آنيا ، نظير الصوم الّذي يتحقق تركه بمجرد تركه في جزء من النهار فيسقط الأمر بذلك ، ونظير صلاة الآيات مع صلاة الوقت المضيقة.

ورابعة : يكون كل منهما تدريجيا ، وكان عصيان أحدهما وهو الأهم تدريجيا أيضا ، بمعنى ان الأمر به لا يسقط بمجرد العصيان ، بل يجب آناً فآنا فيستمر

ص: 453

عصيانه باستمرار الأمر به ، نظير الإزالة والصلاة ، فان وجوب الإزالة مستمر فإذا عصاه في الآن الأول وجب في الآن الثاني وهكذا.

ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم دون الأقسام الأخرى ، فيبحث في صحة الترتب فيه بأن يؤخذ خطاب الصلاة معلقا على عصيان خطاب الإزالة.

وجهة الإشكال فيه : ان الأمر بالصلاة امر ارتباطي ، بمعنى ان امتثاله انما يتحقق بالإتيان بجميع اجزائه ، وإلاّ فلا يقع أحدها على صفة المطلوبية. فوقوع التكبيرة على صفة المطلوبية مشروط بالإتيان بالتسليم ، فإذا زاحمها واجب أهم كالإزالة ، فحيث انه لا يكفي مجرد عصيان الأمر بالإزالة في الأمر بالصلاة لغرض تجدد الأمر بالإزالة واستمراره في جميع آنات الصلاة وعدم سقوطه بمجرد العصيان كي يبقى الأمر بالصلاة بدون مزاحم فلا بد في تصحيح الأمر بالصلاة من تعليقه على عصيان الأمر بالإزالة مستقرا ، ولازم ذلك الالتزام بالشرط المتأخر ، إذ لازمه تقييد الأمر بالصلاة بعصيان الأمر بالإزالة في ظرف التسليم وغيره من أجزاء الصلاة ، فيمتنع الترتب في المقام عند من يرى استحالة الشرط المتأخر.

ودعوى : الالتزام بشرطية التعقب بالعصيان وهو شرط مقارن.

تندفع : بان ذلك يحتاج إلى دليل خاص ، وهو غير موجود ، ولا يكفي في الالتزام به بمجرد إمكانه كشرطية العصيان.

هذا محصل الإشكال في جريان الترتب في هذا القسم على ما ذكره المحقق النائيني. ولازمه كما قال : كون مبحث الترتب قليل الجدوى لكثرة هذا القسم في موارد التزاحم وقلة سائر الأقسام.

وقد دفعه المحقق النائيني قدس سره بدعوى : عدم احتياج شرطية التعقب هاهنا إلى دليل خاص ، بل مجرد إمكانه يكفي بملاك شرطية القدرة. بيان

ص: 454

ذلك : انه بعد ان كان اشتراط الأمر بالفعل التدريجي الارتباطي بالقدرة على جميع اجزائه بحيث تكون القدرة على آخر جزء دخيلة في وجوب أول جزء من الأمور المسلمة ، وقد عرفت ان ذلك لا يتوجه إلا بالالتزام بشرطية عنوان التعقب بالقدرة المتأخرة لامتناع شرطية نفس القدرة المتأخرة لاستلزامه الشرط المتأخر وهو محال. فشرطية عنوان التعقب مما يفرضها العقل بدلالة الاقتضاء تصحيحا لتعلق الأمر بالفعل التدريجي الارتباطي الّذي لا ينكره أحد.

ومن الواضح ان شرطية العصيان في سائر موارد الترتب إنما هي من باب شرطية القدرة ، إذ الواجب المهم لا يكون مقدورا إلا في ظرف عصيان الأمر بالأهم.

وعليه ، فدخالة عصيان الأمر بالإزالة في ظرف التسليم في وجوب التكبيرة انما يكون من جهة ان القدرة على التسليم لا تكون إلا بالعصيان المذكور ، وقد عرفت ان دخالة القدرة على الجزء الأخير في وجوب الجزء الأول لا توجّه إلا بأخذ الشرط عنوان التعقب. فالدليل الثابت الّذي يقضي بأخذ الشرط في التدريجيات عنوان التعقب بالقدرة المتأخرة نفسه يقضي بأخذ الشرط عنوان التعقب بالعصيان المتأخر ، لأن التعقب بالعصيان حقيقته التعقب بالقدرة وليس شيئا آخر وراء التعقب بالقدرة ، فلا يحتاج إلى دليل خاص ، لتوفر الدليل على اشتراط التعقب بالقدرة في التدريجيات.

هذا بيان ما أفاده المحقق النائيني في دفع الإيراد المزبور (1).

ويرد عليه : ان قياس المقام على شرطية القدرة غير وجيه لوجوه ثلاثة :

الأول : ان موضوع اشتراط القدرة وعدم العجز انما هو الفعل القابل لطروّ العجز والقدرة عليه ، بحيث يكون مقسما للعجز والتمكن ، ويمكن تحديده

ص: 455


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 315 - الطبعة الأولى.

بما يرجع عدم قدرة عليه إلى قصور في المكلف لا في نفسه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فان عدم القدرة على امتثال كلا التكليفين والإتيان بمتعلق أحدهما عند الإتيان بمتعلق الآخر من جهة قصور في نفس العمل لأن ذلك جمع بين الضدين وهو محال في نفسه وخارج عن مقسم العجز والتمكن ، فالتكليف فيما نحن فيه من باب التكليف بالمحال - وهو الجمع بين الضدين - لا من باب التكليف بغير المقدور ، فهما يختلفان موضوعا فلا يتجه قياس ما نحن فيه على باب اشتراط القدرة.

الثاني : لو تنزلنا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وانهما من باب واحد وهو التكليف بغير المقدور بإرجاع التكليف بالمحال إليه فهما يختلفان ملاكا ، بمعنى ان الملاك في استحالة التكليف بما يعجز عنه المكلف في نفسه غير الملاك في استحالة التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم ، وهو ما نحن فيه ، لأن متعلق كل منهما مقدور في نفسه لا قصور فيه ، وانما ينشأ عدم القدرة من جهة المزاحم.

وذلك لأن ملاك عدم التكليف بغير المقدور في نفسه اما قبح تكليف العاجز - بنظر العقل - كما هو المشهور. واما دعوى اقتضاء التكليف نفسه الاختصاص بالمقدور ، لأنه لإيجاد الداعي وتحريك المكلف نحو العمل وهو يتصور بالنسبة إلى الفعل المقدور كما عليه المحقق النائيني على ما سبق بيانه مفصلا.

اما ملاك عدم التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم فهو يتقوم بأمرين :

أحدهما : عدم إمكان وجود الأمرين بالضدين بعد فرض عدم قدرة المكلف إلا على أحدهما ، فبقاء كل من الأمرين ممتنع.

ثانيهما : انه مع لزوم رفع اليد عن أحدهما وكان أحدهما أرجح من الآخر ، فرفع اليد عن الأرجح لازمه ترجيح المرجوح على الراجح وهو ممتنع ، فيتعين سقوط المرجوح فسقوط المرجوح ملاكه هذان الأمران وهما أجنبيان عن ملاك

ص: 456

سقوط التكليف بغير المقدور في نفسه كما لا يخفى. ومن الواضح عدم تأتي ملاك الاستحالة في ذلك القسم هنا ، لأن المفروض ان متعلق كل تكليف مقدور في نفسه ، فلا محذور في محركيته نحوه ، ولا قبح في تكليفه به بالنظر إليه خاصة ، كما ان كلا التكليفين لا يرجعان إلى تكليف واحد متعلق بالضدين كي يقبح ذلك بنظر العقل وتمتنع محركية التكليف نحو متعلقه. فليس المحذور الا في الجمع بين التكليفين مع لزوم ترجيح المرجوح على الراجح فيسقط المرجوح لذلك ، ومع هذا لا يصح قياس ما نحن فيه بباب اشتراط التكليف بالقدرة وجعلها من واد واحد ملاكا. فتدبر.

الثالث : لو تنزلنا عن هذا أيضا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وملاكا ، فلا نسلم جريان ما أفاده قدس سره فيما نحن فيه مما كان توقف التكليف فيه على القدرة اتفاقيا لا دائميا.

بيان ذلك : ان الالتزام بشرطية التعقب بالقدرة على الجزء المتأخر في الواجبات التدريجية انما كان من جهة وضوح وجود الواجبات التدريجية الارتباطية وانحصار المصحح لها بأخذ عنوان التعقب شرطا. ومن الواضح ان توقف وجوب الجزء السابق على الإتيان بالجزء اللاحق أمر دائمي في الواجبات الارتباطية لا ينفك عنها لو لم نقل بأنه مقوم لواقع الارتباطية المفروضة ، فيلتزم فيها بشرطية التعقب وان كان ذا مئونة زائدة. اما توقف وجوب المهم على القدرة عليه من جهة عدم الأهم المزاحم له فهو امر اتفاقي لا دائمي ، وبما ان هذه القدرة لا تتحقق إلا في ظرف عصيان الأهم ، تعين قهرا أخذ العصيان شرطا من باب أنه ظرف القدرة على العمل ، نظير ما لو ورد تكليف بشيء ولم يكن مقدورا عليه إلا في زمان خاص تعين تقييده بذلك الزمان من باب انه زمان القدرة عليه ، فشرطية العصيان أمر قهري لا محيص عنه ، لأنه من باب شرطية نفس القدرة كما عرفت. اما عنوان التعقب فهو غير مقوم للقدرة كما لا يخفى ، فأخذه شرطا

ص: 457

يحتاج إلى دليل خاص ، والدليل الدال على أخذه في المورد المتوقف فيه الجزء السابق على القدرة المتأخرة توقفا دائميا لا معنى لإعماله في المورد الّذي يكون التوقف فيه على القدرة المتأخرة اتفاقيا ، فان عدم الالتزام به في الواجبات التدريجية لازمه إنكار وجود الواجبات التدريجية مع أنها ضرورية الوجود ، وهذا المحذور لا يلزم بعدم الالتزام بشرطيته فيما نحن فيه كما لا يخفى ، إذ غاية ما يلزم عدم صحة الترتب في الواجبات التدريجية وهو ليس بمحذور. فلاحظ.

فالوجه الّذي يصحح به أخذ عنوان التعقب هنا ما أشرنا إليه ، ويمكن استفادته من كلامه قدس سره في بعض المواقع ، من ان إطلاق الدليل الدال على وجوب المهم يكفي في إثبات الوجوب مقيدا بعنوان التعقب بالعصيان ، بالبيان الّذي ذكرناه لتصحيح أخذ عصيان الأهم شرطا في وجوب المهم - الّذي هو أساس الترتب - من دون حاجة إلى دليل خاص إثباتي ، وذلك بان نقول : ان مقتضى إطلاق دليل المهم ثبوت الحكم مطلقا سواء تعنون متعلقه بعنوان التعقب بعصيان الأهم في الآن المتأخر أو لم يتعنون بهذا العنوان ، وحيث ان ثبوت الحكم في الصورة الثانية - أعني صورة عدم التعنون بعنوان التعقب - يلزم منه محذور حصول التزاحم بين الحكمين في الزمان المتأخر الموجب لسقوط الأمر بالمهم في ظرفه الملازم لسقوطه من أول الأمر ومن حين الشروع بالعمل ، فيرفع اليد عن الإطلاق في هذه الصورة لامتناع الأخذ به لمحذور التزاحم المانع من الجمع بين الحكمين. ويبقى دليله بالنسبة إلى صورة التعقب بالعصيان على ما كان عليه لعدم الموجب لرفع اليد عنه لانحصار محذور التزاحم بتلك الصورة دون هذه. فالتفت وتدبر واللّه وليّ التوفيق.

انتهى مبحث الضد والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان تاريخ الانتهاء منه يوم الأحد الثاني عشر من ربيع الثاني سنة 1386 ه.

ص: 458

فصل : أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

هذا البحث مما لا ثمرة له أصلا من حيث العمل ، وان ذكرت له ثمرة وهي تصحيح وجوب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان ولم يبق على شرائط الوجوب إلى آخر النهار.

ولكن ناقشها المحقق النائيني رحمه اللّه بظهور عدم ارتباط ذلك بهذا البحث في باب الصوم من الفقه (1).

ولأجل ذلك نكتفي بنقل ما أفاده في الكفاية في هذا المبحث لمجرد الاطلاع على صورة الخطاب من دون تحقيق وتمحيص.

فنقول : انه وقع الكلام في انه هل يجوز امر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا يجوز. ومن الواضح أنه يراد من الجواز الإمكان لا الجواز بمعنى الإباحة والترخيص.

ذهب صاحب الكفاية إلى عدم الجواز. ويظهر وجه اختياره بوضوح

ص: 459


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 209 - الطبعة الأولى.

أمرين أشار إليهما في كتابه.

الأول : ان المراد بالجواز في عنوان البحث هو الإمكان الوقوعي لا الإمكان الذاتي.

ومجمل الفرق بينهما هو : ان الإمكان الذاتي يرجع إلى كون الذات في حد نفسها ممكنة غير ممتنعة الوجود من حيث هي ، كاجتماع النقيضين الّذي يكون محالا في نفسه. اما الإمكان الوقوعي فهو يرجع إلى عدم استلزام وجود الذات للمحال بحيث لا يترتب على وجودها محذور من لزوم خلف أو دور أو نحو ذلك ، فالإمكان الوقوعي ما لا يستلزم المحال ، والذاتي ما ليس بمحال في نفسه. فالمقصود من الإمكان هنا الإمكان الوقوعي دون الذاتي ، إذ لا يتعلق غرض للأصولي في تحقيق ذلك ، فان غرضه يتعلق بوقوع الأشياء وما يترتب عليها من أثر ، مع بعد إنكار الإمكان الذاتي فيما نحن فيه ، إذ لا يدعى كونه محالا في نفسه كاجتماع الضدين.

الثاني : ان المراد من الضمير في : « شرطه » هو : تارة يكون مرتبة أخرى للأمر غير المرتبة التي هو فيها ، كأن يأمر إنشاء مع علمه بانتفاء شرط فعلية الأمر. وأخرى : يكون المراد نفس المرتبة فيأمر إنشاء مع علمه بانتفاء شرط الإنشاء وهكذا. اما الأول فليس هو موضوع البحث ، إذ لا إشكال في جوازه كالأوامر الامتحانية ونحوها ، إذ قد يأمر الآمر من دون ان يكون له داعي للبعث حقيقة.

وعليه ، فموضوع البحث هو الإمكان الوقوعي لأمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط مرتبة الأمر التي يقصدها الآمر من الأمر. ومن الواضح أنه غير جائز وقوعا لاستلزامه حصول المعلول من دون علته وهو خلف ، وذلك لأن الشرط من اجزاء العلة فحصول الأمر مع عدم الشرط يكون من وجود المعلول بدون علة وهو خلف فرض العلية.

ص: 460

هذا بيان ما أفاده في الكفاية (1).

ولا بد من التنبيه إلى لزوم البحث في نقطتين من كلامه :

إحداهما : في بيان وجود الفرق بين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي ، وتحقيق ذلك إثباتا أو نفيا في غير هذا المقام. وقد تعرض له المحقق الأصفهاني مفصلا في مباحث القطع (2).

ثانيتهما : في تصور الأمر الإنشائي مع علمه بانتفاء شرط الفعلية كالأوامر الامتحانية ، وان مثل ذلك هل هو إنشاء للطلب حقيقة أو صورة إنشاء وحقيقته معنى آخر ، ولذا لا يطلق عليها لفظ الأمر إلاّ مجازا كما اعترف به قدس سره ؟. وتحقيق ذلك موكول إلى غير هذا المجال ، لعدم الثمرة العلمية في تحقيقه فعلا.

وقد حاول المحقق النائيني إنكار الموضوع لهذا المبحث ببيان : ان الحكم ان كان مجعولا بنحو القضية الحقيقية فهو مرتبط بواقع الشرط وليس لعلم المولى وعدمه أي أثر في ثبوته وعدمه ، وانما التشخيص بيد المكلف. وان كان مجعولا بنحو القضية الخارجية فلا إشكال في ان الحكم يدور مدار علم الحاكم من دون دخل لوجود الموضوع خارجا وعدمه ، لأن الإرادة تنبعث عن الصور الذهنية وما يكون في أفق النّفس دون ما يكون في خارجها. فلا موضوع للنزاع المذكور ، إذ على تقدير لا دخل للعلم وعدمه في ثبوت الحكم لموضوعه ، وعلى تقدير لا إشكال في ارتباط الحكم بالعلم (3).

وتحقيق صحة هذا البيان وعدم صحته مما لا يهمنا كثيرا بعد ان عرفت انتفاء الثمرة في البحث المذكور ، وانما المقصود هو الإشارة لا غير.

ص: 461


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /137- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 41 و 1 / 62 - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 209 - الطبعة الأولى.

ص: 462

فصل : متعلق الأوامر

وقع الكلام بين الأعلام في أن متعلق الأوامر والنواهي هل هو الطبائع أو الأفراد؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الأول. وقد تعرض في هذا المبحث إلى بيان جهات أربع :

الأولى : ان متعلق الأمر هو وجود الطبيعة لانفسها.

الثانية : بيان المقصود من الطبيعة والفرد في محل النزاع.

الثالثة : في بيان المقصود من طلب الوجود بعد ان كان الوجود مسقطا للطلب.

الرابعة : الإشارة إلى عدم ارتباط البحث بمبحث أصالة الماهية أو الوجود.

اما الجهة الأولى : فتحقيقها ، ان الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي لا تكون مقسما لتعلق الأمر وعدمه ، فهي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، ولذا قيل ان ارتفاع النقيضين جائز في هذه المرتبة ، فمتعلق الأمر انما هو وجود الطبيعة لا ذات الطبيعة.

ص: 463

واما الجهة الثانية : فالفرق بين الطبيعة والفرد هو : ان المراد بالطبيعة ذات الماهية مع قطع النّظر عن العوارض اللازمة لوجودها من زمان ومكان ونحوهما ، والمراد بالفرد هو الماهية المقيدة بهذه العوارض اللازمة. فمن يدعي ان متعلق الأمر هو الطبيعة يريد ان الأمر هو طلب وجود الطبيعة بذاتها من دون نظر إلى العوارض والمشخصات اللازمة لها في الوجود ، بحيث لو تصور - محالا - انفكاكها عن الطبيعة لم يلزم تحقيقها. ومن يدعي ان متعلق الأمر هو الفرد يريد ان متعلق الأمر هو وجود الطبيعة المتقيدة بهذه العوارض ، فهي دخيلة في متعلق الأمر ومقومة له.

وقد أوكل صاحب الكفاية معرفة صحة اختياره ، وهو تعلق الأمر بالطبيعة لا الفرد إلى مراجعة الوجدان فانه يقضي بذلك ، فان الآمر لا يجد في نفسه إلاّ إرادة ذات العمل من الغير مع غض النّظر عن العوارض اللازمة ومن دون تعلق غرض له بها أصلا ، بل ليس مطلوبه سوى الطبيعة بذاتها.

وبالجملة : فقضايا الأحكام في نظر صاحب الكفاية كالقضايا الطبيعية في غيرها في كون الحكم على نفس الطبيعة بما هي من دون ملاحظة دخل الخصوصيات اللازمة لوجودها فيها ، بل كالقضايا المحصورة فان الحكم فيها أيضا على الطبيعة ، لكن لوحظ فيها سرايتها في جميع افرادها أو بعضها.

وخلاصة رأي الكفاية هو : ان الأمر يتعلق بوجود الطبيعة من دون لحاظ تقييدها بالعوارض اللازمة من مكان وزمان وغيرهما. وإثباته لا يحتاج إلى برهان بل في مراجعة الوجدان كفاية (1).

ووضوح تمامية هذا الرأي بشئونه وعدم تماميته تظهر بالتعرض إلى كلمات غيره من الاعلام وتمييز صحيحها من سقيمها.

ص: 464


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /138- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والّذي ذكره المحقق النائيني قدس سره في هذا المقام بعد ان تعرض إلى نقل ما ذهب إليه بعض الأعاظم من رجوع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع في كون التخيير بين الافراد عقليا أو شرعيا ، لأنه ان كان متعلق الأمر هو الطبيعة كان التخيير بين افرادها عقليا. وان كان الافراد كان الفرد متعلقا للأمر بنفسه فيكون التخيير فيها شرعيا. ومناقشته : بان التخيير الشرعي يستلزم تقدير كلمة : « أو » بالنسبة إلى كل فرد ، لأنها هي التي تؤدي التخيير فيكون الواجب هذا أو ذاك أو ذاك وهكذا. ومن الواضح ان افراد الطبيعة بحسب الغالب لا نهاية لها فيمتنع التقدير المذكور. هذا مع ان التخيير العقلي في الجملة مسلم لا نزاع فيه ، فلا وجه لتوجيه النزاع وإرجاعه إلى ما ذكر للتنافي بين التسالم المطلق على وقوع التخيير العقلي وذهاب البعض إلى تعلق الأوامر بالافراد الّذي حقيقته هو التخيير الشرعي كما عرفت : الّذي أفاده قدس سره بعد هذا البيان - : ان أساس النزاع في الحقيقة على النزاع في إمكان وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده. وتوضيح ذلك : ان المراد من وجود الطبيعي ليس وجوده بما هو كلي يقبل الانطباق على كثيرين ، فان هذا يتنافى مع ما هو مسلم من ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد. بل المقصود ان الوجود الطارئ هل يطرأ على ذات الطبيعة مع قطع النّظر عن اللوازم القهرية والمشخصات من زمان ومكان ونحوهما ، وانما هي توجد قهرا من باب امتناع وجود الشيء بدون تشخص ، أو انه يطرأ على الطبيعة المتشخصة بهذه المشخصات والمتقيدة بهذه العوارض؟. وبتعبير آخر : ان المشخصات هل تكون في مرتبة الوجود فيكون معروض الوجود - كالتشخصات - هو الماهية. أو انها في مرتبة سابقة على الوجود فيكون معروضه هو الماهية المتشخصة؟. فمن يقول بوجود الطبيعي يقصد الرّأي الأول وان الوجود يتعلق بالطبيعي ذاته. ومن يقول بامتناعه يرى الرّأي الثاني وان الوجود يطرأ على الطبيعة المتشخصة لا نفس الطبيعة.

ص: 465

وعليه ، فالبحث فيما نحن فيه يبتني على النزاع المذكور ، فمن يرى تعلق الوجود بالطبيعة ذاتها يذهب إلى ان متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية نفس الطبيعة مع قطع النّظر عن التشخصات. ومن يرى تعلق الوجود بالطبيعة المتشخصة يذهب إلى ان متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية الطبيعة المتقيدة بالمشخصات.

واختار قدس سره الأول مستشهدا عليه بالوجدان ، وان متعلق الإرادة في أفق النّفس ليس إلاّ ذات الطبيعة ، وبما ان الإرادة التشريعية على حد الإرادة التكوينية كان متعلقها نفس الطبيعة.

ثم انه رتب على هذا المبحث ثمرة عملية مهمة وهي : انه بناء على تعلق الأوامر بالطبائع وإثبات ان نسبة كل من الكليين في مورد الاجتماع إلى الآخر من قبيل المشخص وهو خارجة عن دائرة الحكم - بناء عليه - ، فيكون جواز الاجتماع من الواضحات.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره في المقام (1).

ولا يخفى انه يختلف عن التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية.

والجهة التي يشتركان فيها معا هي : جعل المقصود بالفرد الطبيعة المتقيدة باللوازم والمشخصات ، فقوام الفردية بنظرهما 0 عن النحو الّذي سلكه صاحب الكفاية في تقريب المطلب ونهجه مسلكا آخر ، فيمكن ان يكون فيما بيانه : ان صاحب الكفاية فرض أمرين مفروغا عنهما وهما :

أولا : كون متعلق الغرض هو ذات الطبيعة مع قطع النّظر عن عوارضها

ص: 466


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 210 - الطبعة الأولى.

اللازمة.

وثانيا : إمكان وجود الطبيعي.

ومن الواضح انه بعد فرض هذين الأمرين لا مجال لتحقق النزاع في أن متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد ، بل لا محيص عن الالتزام بتعلقه بالطبيعة لوجود المقتضي وقابلية المحل. فكلام الكفاية في تحرير النزاع واختيار أحد القولين أشبه بالقضية بشرط المحمول ، وهو لا يتناسب مع النزاع العلمي الّذي لا بد ان يتجه فيه أحد القولين.

وبالجملة : لا وجه لأخذ الأمرين المذكورين مفروغا عنهما ، ثم تحرير النزاع ، إذ لا نزاع بعد المفروغية عنهما. إذن فيتجه النزاع المذكور لو تحقق النزاع في أحد الأمرين المذكورين ، والأول منهما لا يشك فيه اثنان ، بخلاف الثاني ، فيتعين ان يبنى النزاع في تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد على النزاع في إمكان وجود الطبيعي فيكون متعلق الطلب لوجود المقتضي وقابلية المحل ، وعدم إمكان وجوده فيكون متعلق الطلب هو الفرد لعدم قابلية الطبيعي للوجود كي يتعلق به الطلب ، لأن المطلوب هو الوجود. فلا يكتسب النزاع صورة معقولة الا على هذا الأساس دون النحو الّذي سلكه صاحب الكفاية ، وهذا هو نظر المحقق النائيني في تغيير نحو تحرير المبحث وان لم يصرح به.

اما ما ذكره المحقق النائيني من القول برجوع البحث في المسألة إلى البحث عن ان التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي ومناقشته بوجهين ، فسيأتي التعرض لذلك في آخر المبحث في ضمن تنبيه ، وفيه تعرض صحة القول المذكور وعدمه كما تعرف وجاهة المناقشة التي ذكرها المحقق النائيني وعدمها. كما تعرف ان النّظر في هذا القول هو بيان ثمرة المسألة أو بيان رجوع النزاع إلى ذلك كما فهمه منه المحقق النائيني فانتظر.

يبقى الكلام في جهتين من كلامه قدس سره جهة اختص بها وجهة

ص: 467

اشترك فيها مع صاحب الكفاية.

اما ما اختص بذكرها فهي : ما ذكره في بيان المراد من وجود الفرد والطبيعي من ان المشخصات هل تكون عارضة على الطبيعة في مرتبة الوجود وفي عرضه - وهو المراد من وجود الطبيعي - ، أو تكون عارضة في رتبة سابقة على الوجود ، فيكون الوجود عارضا على الطبيعة المتشخصة - وهو المراد من وجود الفرد -؟. ولا يخفى ان هذا الترديد لا منشأ له ولا يظهر من كلمات المختلفين في وجود الطبيعي والفرد ، فانه لا خلاف لديهم ولا إشكال عندهم في ان هذه المشخصات من آثار الوجود ولوازمه لاحتياجه إلى زمان ومكان ونحوهما ، فلا معنى لأن ينسب إليهم كونها في رتبة سابقة على الوجود وان الوجود يطرأ على الماهية المتشخصة ، وتفسير وجود الفرد بذلك. فانتبه.

واما ما اشترك فيه مع صاحب الكفاية فهو : ما عرفته من بيان تقوم الفردية بالمشخصات والعوارض اللازمة.

وهذا أمر لا يخلو عن مناقشة ، فان التفرد إنما يكون بالوجود نفسه لا باللوازم العارضة ، فان كل عارض موجود فرد لطبيعي وفرديته بوجوده ، ويمتنع ان يكون تفرد الطبيعة بالعوارض اللازمة لأجل ذلك.

وعلى هذا فيتحصل لدينا فعلا على صاحب الكفاية إيرادان :

أحدهما : في كيفية تحريره النزاع وفرضه.

ثانيهما : في جعله العوارض اللازمة قوام الفردية وما به تفرد الطبيعة.

ويرد عليه ثالثا : انه خرج عن موضوع النزاع ، فان ظاهر النزاع في ان متعلق الأوامر هو الطبيعة أو الفرد المغايرة بين القولين والتباين بينهما ، وليس هذا ظاهر الكفاية ، فقد أفاد ان متعلق الأمر هو الطبيعة وليس هو الطبيعة مع العوارض اللازمة.

وهذا نزاع آخر غير الأول ، فان النزاع الأول في ان متعلق الأمر ما هو؟.

ص: 468

والنزاع الآخر في سراية الأمر من الطبيعة إلى العوارض اللازمة ووجهه أحد الأمرين : أحدهما : اتفاق المتلازمين في الحكم. ثانيهما : مقدمية الفرد لوجود الطبيعي على قول ، فيجب بالوجوب المقدمي.

وقد مر البحث في كل من الوجهين وبيان عدم تمامية دعوى وجوب المقدمة ، ودعوى لزوم اتفاق المتلازمين في الحكم وان الثابت ليس إلا عدم جواز اختلافهما فيه.

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية خروج عن عنوان النزاع المفروض وانتقال منه إلى معنى آخر. فالتفت.

وعلى أي حال ، فقد اتضح ان النزاع في ان متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد - بعد فرض كون متعلق الغرض هو الطبيعة - يبتني على النزاع في وجود الطبيعة ، فإذا ثبت وجود الطبيعي ثبت تعلق الأمر به.

والّذي ينبغي ان يقال في تحقيق الكلام : انه مما لا إشكال في ان افراد الطبيعة الموجودة متباينة ، فكل فرد يباين الآخر مباينة تامة ، ولذا لا يصح حمل أحدهما على الآخر ، كما انه مما لا إشكال فيه انتزاع مفهوم الوجود من هذه الخصوصيات والوجودات المتعددة ، ومن المقرر امتناع انتزاع مفهوم واحد من الأمور المتباينة ، فلا بد اذن من وجود جهة مشتركة بين هذه الوجودات تصحح انتزاع مفهوم واحد منها ، فكل وجود يشتمل على جهتين جهة خصوصيته التي بها يباين غيره. وجهة مشتركة بينه وبين غيره - ولأجل ذلك قيل ان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك وهو الوجود - ، فبملاحظة الجهة الخاصة يكون الوجود وجود الفرد ، وبملاحظة الجهة المشتركة يكون وجودا للطبيعي ، فهو وجود واحد يكون وجودا للفرد وللطبيعي من جهتين ، فيلتزم بوجود الطبيعي بهذا التقريب وهو يعين ان يكون متعلق الأمر هو الطبيعة لتمامية المقتضي وهو تعلق الغرض به وتوقفه على قابلية المحل ، وقد ثبتت بالبيان المذكور فالمطلوب هو

ص: 469

الوجود بلحاظ الجهة المشتركة بين سائر الوجودات من دون إرادة خصوصيات الوجودات. فالتفت (1).

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

اما الجهة الأولى التي تتكفل بيان ان متعلق الطلب ليس ذات الطبيعة وانما هو وجودها ، وقد عرفت تعليل صاحب الكفاية لذلك بان الطبيعة بما هي ليست إلاّ هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، لا موجود ولا غير موجودة فلا تصلح لتعلق الطلب. وهذا المعنى مسلم في الطبيعة بما هي ، ولأجل ذلك قيل ان ارتفاع النقيضين ممكن في هذه المرحلة ، ببيان : ان المقصود بالطبيعة بما هي هي الطبيعة التي قصر النّظر على ذاتها وذاتياتها فقط من دون لحاظ أي أمر خارج عن ذاتها وذاتياتها ، فإذا وصفت بالمطلوبة أو بعدم المطلوبة في هذه الحال لزم ان تكون المطلوبية أو عدمها من ذاتياتها ، وإلاّ لكان خلف قصر النّظر على الذات والذاتيات. ومن الواضح خروج الطلب وعدمه والوجود وعدمه عن قوام ذات الطبيعة.

والإنصاف ان هذا المعنى لا ينفي صحة تعلق الطلب بالطبيعة بما هي ، ولا يستلزم امتناعه كما حاول صاحب الكفاية به ، فان الممتنع بالبيان المزبور انما هو حمل شيء على الماهية في تلك المرحلة ومع المحافظة على هذه الجهة ، اما عروض شيء خارج عن ذات الماهية على ذاتها بما هي فلا يأباه البرهان المزبور ، لعدم استلزامه فرض ذاتية ما ليس من الذاتيات ولا استلزامه الخلف فالطبيعة بما هي لا تأبى عروض أمر خارج عليها. والمفروض في ما نحن فيه هو عروض الطلب على الطبيعة بما هي ، وهو لا يرتبط بنفي حمل الطلب عليها. فاستدلال صاحب الكفاية بذلك منشؤه الخلط بين حمل شيء خارج على الطبيعة بما هي

ص: 470


1- ذكر سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) : ان هذا البيان مبني على الالتزام بأصالة الوجود ( منه عفي عنه ).

وعروض شيء عليها بما هي هي ، والممتنع هو الأول ، دون الثاني ، ومحل الكلام هو الثاني دون الأول.

فالذي ينبغي ان يقال في توجيه تعلق الأمر بوجود الطبيعة لا بذاتها بما هي هو : ان تعلق الأمر يتبع ما فيه تحقق الغرض ووجوده. ومن الواضح ان الغرض لا يترتب على الماهية بما هي ، بل يترتب على وجود الماهية خارجا ، فمن الطبيعي ان يكون هو متعلق الأمر دون ذات الماهية.

وهذا أمر واضح لا غبار عليه.

اما الجهة الثالثة من الكلام : وهي البحث عن تصحيح تعلق الأمر بالوجود. فان هذا يبدو مشكلا لأول وهلة.

وبيان الإشكال : ان الوجود يوجب سقوط الأمر فكيف يكون متعلقا للأمر ، مع ان متعلق الأمر ما به قوام الأمر ووجوده؟. هذا مع ان تعلق الطلب بالوجود يلزمه طلب الحاصل وهو محال لكونه لغوا فلا يصدر من الحكيم.

وقد تفصى صاحب الكفاية عن الإشكال : بان المطلوب ليس هو وجود الفعل ، بل متعلق الطلب صدور الوجود وجعله البسيط وإفاضته. وبعبارة أخرى : المطلوب هو الإيجاد لا الوجود (1).

وفي هذا الجواب ما لا يخفى : فانه قد تقرر ان الإيجاد والوجود والجعل والمجعول شيء واحد في الحقيقة والتغاير بينهما اعتباري ، فان الوجود بملاحظة صدوره من الفاعل يعبر عنه بالإيجاد وبملاحظة وروده على الفعل القابل يعبر عنه بالوجود. وإذا كانا امرا واحدا حقيقة فيمتنع تعلق الطلب بالإيجاد لعين الوجه في امتناع تعلقه بالوجود وهو طلب الحاصل. والتغاير الاعتباري اللحاظي لا يرفع المحذور ، إذ لا يغير الواقع والمحذور بلحاظه كما لا يخفى.

ص: 471


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهناك وجه آخر لحلّ هذا الإشكال نقله في الكفاية وهو : الالتزام بان متعلق الطلب هو نفس الماهية والغاية منه وجودها ، فلا يلزم تعلق الطلب بما هو حاصل كما لا يخفى.

وأورد عليه في الكفاية : ان الطبيعة بما هي هي ليست إلاّ هي فلا يعقل تعلق الطلب بها (1).

وقد تقدم منا توضيح هذا القول والمناقشة فيه.

فالذي ينبغي ان يقال في الإشكال على هذا الوجه وبيان بطلانه هو : ان الإشكال المذكور - أعني استلزام تعلق الطلب بالوجود لطلب الحاصل - لا يختص بالطلب فقط ، بل يتأتى في غيره وهو الإرادة التكوينية لسائر الأفعال ، فانها عبارة عن الشوق الواصل إلى حد التأثير وعدم وجود الموانع في الخارج ، فتعلق الشوق بالوجود يستلزم تعلقه بما هو حاصل ، وهو مما لا معنى له لأنه يستلزم تحصيل الحاصل.

بل في الحقيقة ان الإشكال في باب الطلب انما هو لأجل تأتي الإشكال في باب الإرادة والشوق ، لأن الطلب ينشأ في الحقيقة عن وجود الإرادة التشريعية وتعلقها بفعل المكلف المستتبعة لطلبه منه ، كما ان الطلب انما هو لأجل دعوة المكلف وتحريكه نحو متعلقه ، فهو يستتبع تعلق الإرادة التكوينية من المكلف بما تعلق به.

وعليه ، فالتصدي إلى حلّ الإشكال في خصوص الطلب لا يجدي بعد ان كان الإشكال متأتيا في الإرادة والشوق ، وهما من مستلزمات وجود الطلب ، فان الطلب تابع للإرادة التشريعية ومستتبع للإرادة التكوينية المتعلقتين بما تعلق به ، فلا بد من بيان الوجه الّذي به يصحح تعلق الجميع بالوجود.

ص: 472


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وجملة القول : ان عمدة الإشكال في متعلق الإرادة في مورد الطلب وغيره ، وإلاّ فالطلب أمر اعتباري خفيف المئونة يمكن حلّ الإشكال فيه بسهولة ، ولكن لا ينفع في دفع الإيراد عن تعلق الإرادة. فالمهم هو التصدي لحلّ الإشكال في متعلق الإرادة ، ومنه يظهر اندفاعه في متعلق نفس الطلب فانه خفيف المئونة.

فنقول حينئذ : قد عرفت ان الإرادة عبارة عن الشوق الواصل إلى حد التأثير في متعلقه دون مطلق الشوق ، فلذا لا يعد الشوق إلى الممتنعات إرادة. ومن الواضح انه لا يمكن فرض متعلق الشوق هو الطبيعة بداعي وجودها ، إذ الشوق من الصفات النفسيّة غير الاختيارية فلا معنى لوجود الداعي لها وعدمه ، بل هي اما ان توجد أو لا توجد. هذا أولا.

وثانيا : ان الشوق قد يتعلق بما يعلم بعدم تحققه عقلا أو عادة كالشوق إلى اجتماع النقيضين أو الطيران إلى السماء ، ولا معنى لأن يقال ان متعلق الشوق هنا هو الطبيعة بداعي وجودها للعلم بعدم وجودها. اذن فالوجه المزبور وان دفع الإيراد من جهة الطلب لتأتيه فيه لأنه خفيف المئونة بعد كونه اعتباريا ، لكنه لا يدفع الإيراد من جهة الإرادة. وقد عرفت ان الإشكال في مورد الطلب لا يختص بمتعلق الطلب ، بل هو ثابت في متعلق الإرادة.

فيتلخص : ان متعلق الإرادة والشوق لا يمكن ان يكون هو الوجود الخارجي للشيء لأنه تحصيل الحاصل ، كما لا يمكن ان يكون هو ذات الفعل بداعي الوجود لخروج باب تعلق الشوق عن عالم الدواعي ، كما انه قد يتعلق بما لا يقبل الوجود. وتعلقه بالوجود الذهني لا معنى له ، لأنه ليس مورد الأثر ومصدر الغرض بلا كلام فلا يتعلق به الشوق والإرادة.

وهذا من جهة ، ومن جهة أخرى ان وجود الإرادة والشوق في النّفس أمر لا يقبل الإنكار والمكابرة. اذن فما هو الحل؟!.

التحقيق ان يقال : ان متعلق الشوق هو الوجود الخارجي ، لكن ليس

ص: 473

الفعلي بل الفرضي والتقديري. بيان ذلك : ان النّفس عند لحاظها وجود الشيء قد تتعلق به الرغبة والشوق لملاءمته للطبع ولترتب بعض الآثار المرغوبة عليه ، ومرجع ذلك ليس إلى تعلق الشوق بالوجود الذهني اللحاظي لعدم كونه مورد الأثر ، ولا إلى تعلقه بالوجود الخارجي الفعلي لامتناعه في بعض الأحيان كتعلق الشوق بالطيران إلى السماء ، وانما مرجعه إلى ان النّفس تفرض الوجود الخارجي وتزعم ثبوته وتخلقه في عالمها ، فتراه مورد الأثر فيتعلق به الشوق ، فحين يلحظ الشخص الوجود الخارجي للشيء ويراه مورد الأثر لو ثبت فعلا ، تعلق به شوقه قبل تحققه فعلا ويكون متعلق شوقه هو الوجود الخارجي الفرضي المخلوق للنفس ، وبما ان هذا الوجود له جهة فقدان وهي الفعلية فيتحرك المشتاق إلى تحقيق الفعلية في فرض إمكانها ، فالوجود الخارجي بجهة خلقه وفرضه متعلق الشوق ، وإعمال الإرادة فيه بلحاظ إخراجه من عالم الفرض إلى عالم الفعلية فله جهتان : جهة وجدان وهي بالفرض ، وبها يكون متعلق الإرادة. وجهة فقدان وهي الفعلية ، وهي مورد إعمال الإرادة وتحريك العضلات وهي مما لا بد منها إذ لا تتعلق الإرادة بما هو موجود من جميع الجهات وهذا المعنى الّذي ذكرناه امر ارتكازي وان كان مغفولا عنه ، فهو مضافا إلى كونه برهاني لانحصار حل الإشكال فيه امر عرفي.

ولعل هذا هو مراد المحقق العراقي على ما يحكى عنه من : ان متعلق الإرادة هو الوجود الزعمي ، يعني ما تزعم النّفس ثبوته وتحققه بتقريب : ان النّفس لها قوة الخلق والإيجاد في عالم النّفس. فللشيء أنحاء من الوجود ، كالوجود الذهني والوجود الفرضي الزعمي الّذي تخلقه النّفس والوجود الخارجي. وهو بنحو الثاني متعلق للشوق ولا محذور فيه (1).

ص: 474


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 383 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

اما الجهة الرابعة في كلام صاحب الكفاية : فهي ما أفاده من نفي ارتباط الكلام بالقول بأصالة الوجود. وتوضيح ذلك : انه قد تقرر ان كل ممكن مركب من زوجين أحدهما الذات والآخر الوجود. فزيد الخارجي مركب من أمرين الزيدية والوجود. وتقرر أيضا امتناع ان يكون كل من هذين الأمرين أصيلا في عالم الثبوت والتقرر وعدم معقولية ذلك ، فوقع النزاع في ان الأصيل منهما ما هو؟ هل هو الوجود والماهية امر انتزاعي لا تقرر له واقعا ولا أصالة له؟. أو انه الماهية والوجود ينتزع عنهما؟. فقد يقال : ان البحث المزبور في تعلق الأمر بالوجود وان المطلوب وجود الطبيعة انما يتأتى بناء على الالتزام بأصالة الوجود. اما بناء على أصالة الماهية فلا مجال له ، إذ لا واقعية للوجود ولا يكون مورد الغرض فلا معنى لتعلق الأمر به بل الأمر يتعلق بالطبيعة.

ولكنه يندفع : بأنه بناء على أصالة الماهية وان لم يكن الوجود متعلقا للأمر لكن الطبيعة بما هي لا تكون أيضا متعلقة للأمر وانما متعلق الأمر الماهية الخارجية ، لأن ما يكون متعلقا للغرض هو الأمر الخارجي دون ذات المفهوم ، فاما ان يتعلق الطلب بالوجود ان كان هو الأصيل أو بالماهية الخارجية ان كانت هي الأصيل. فتدبر.

يبقى شيء في كلام الكفاية وهو : انه بعد ان ذكر ان متعلق الطلب هو وجود الطبيعة لا الطبيعة بما هي هي ، لأنها ليست إلاّ هي غير قابلة لتعلق الطلب وعدمه. قال : « نعم هي كذلك ( يعني الطبيعة بما هي هي ) تكون متعلقة للأمر لأنه طلب الوجود ، فافهم » (1).

وتوضيح ذلك : انه وقع الكلام في ان حقيقة النهي هل هي غير حقيقة الأمر ، أو انها حقيقة واحدة. ولكن الاختلاف في المتعلق - ويأتي التعرض لذلك

ص: 475


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

في أول مبحث النواهي إن شاء اللّه تعالى -؟ فالأوّل يراد به ان حقيقة النهي هي الزجر عن العمل وحقيقة الأمر هي البعث نحو العمل ، والمتعلق لكليهما واحد والاختلاف في حقيقتهما. والثاني يراد به ان حقيقة كل من الأمر والنهي هي الطلب ، إلاّ ان الأمر طلب الوجود والنهي طلب الترك وأخذ الوجود والترك في حقيقة الأمر والنهي أخذ لهما في مدلول الهيئة ، فان مدلول المادة في كليهما واحد لا يتغير ، فان مادة : « صل » و: « لا تصل » يؤديان معنى واحد وهو الصلاة. اذن فالاختلاف لا بد وان يرجع إلى الهيئة ، فيتعين ان يكون مدلول الهيئة في الأمر هو طلب الوجود ومدلول الهيئة في النهي طلب الترك ، كي يحصل التمييز بين الأمر والنهي. وهذا لا يحتاج إليه القائل بالأول ، إذ الاختلاف والتمييز بين الحقيقتين حاصل بأخذ الأمر بمعنى البعث وأخذ النهي بمعنى الزجر ، فلا يحتاج إلى تقدير الوجود والترك. وصاحب الكفاية ممن يلتزم بالثاني ، فيتعين عليه ان يقول بان مدلول الهيئة في الأمر هو طلب الوجود ، وبما ان الهيئة من مصاديق الأمر فالامر على هذا اسم لطلب الوجود ، والمفروض ان الوجود وارد على الطبيعة بما هي فيكون الأمر بذلك واردا عليها بما هي هي.

ولكن الّذي يظهر من صاحب الكفاية بقوله : « فافهم » انه يتوقف في صحة هذا البيان. والوجه الّذي به يظهر عدم صحة هذا البيان هو : ان مقتضى هذا البيان ان لفظ الأمر اسم للمركب من طلب الوجود ، فلا واقع له سوى هذا المركب. ومن الواضح ان هذا المركب بما هو غير عارض على الماهية بما هي ، فليس متعلق طلب الوجود هو الماهية ، بل الماهية متعلق نفس الوجود وهو متعلق لنفس الطلب. فليس للأمر واقع بسيط يكون متعلقا بالطبيعة بما هي ، وانما واقعه المركب المذكور وهو بمجموعه غير عارض على الماهية ، بل العارض عليها أحد جزئيه وهو الوجود. فلا يقال ان طلب الوجود متعلق بالطبيعة بما هي هي. فلاحظ.

ص: 476

واما ما ذكره قدس سره في مقام بيان ان متعلق الأمر هو الطبيعة من : ان متعلق الأمر هو الطبيعة بوجودها السّعي لا وجودها الخاصّ (1).

فلا يتوجه عليه : ان الوجود يلازم التفرد والتخصص فلا معنى للتعبير بالوجود السعي فانه غير معقول ، لمنافاة الفردية للسعة.

وذلك لأن الفردية في نظر صاحب الكفاية على ما عرفت ليست بالوجود ، بل باللوازم والمشخصات. وعليه فيصح له فرض السعة في الوجود. اما ان هذا الوجود السعي المتعلق للأمر هل يكتفي فيه بواحد أو لا بد من الإتيان بجميع الوجودات؟ فبيان ذلك محله في أول مبحث النواهي. فانتظر.

تنبيه : قد تقدم ان ذكرنا ان المحقق النائيني نسب إلى بعض الأعاظم إرجاع النزاع في المسألة إلى ان التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي ، وتقدم منه قدس سره الإيراد عليه بوجهين :

أحدهما : احتياج التخيير الشرعي إلى تقدير كلمة : « أو » بعدد الافراد وهي غير متناهية غالبا.

وثانيهما : مسلمية وجود التخيير العقلي في الجملة من قبل الكل ، وهو ينافى الاختلاف في ان متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد لأن مرجع دعوى تعلقه إلى الفرد إلى امتناع تعلقه بالطبيعة وهو ينافي الالتزام بجوازه في بعض الأحيان الظاهر من الالتزام بالتخيير العقلي (2).

وتحقيق الحال على وجه يرتفع به الغموض عن أصل الدعوى والإيراد ، ان التخيير الشرعي :

تارة : يلتزم بأنه تعلق الحكم بكل فرد وخصوصية بنفسها ، بمعنى ان كل

ص: 477


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 210 - الطبعة الأولى.

خصوصية لوحظت بنفسها وأخذت في متعلق الوجوب التخييري.

وأخرى : يلتزم بان مرجعه إلى تعلق الحكم بعنوان انتزاعي ينطبق على كلتا الخصوصيّتين - مثلا - ، وهو عنوان : « أحدهما » فيكون الفرق بينه وبين التخيير العقلي هو ان متعلق الحكم في التخيير العقلي هو الجامع الحقيقي بين الافراد ، وفيه يكون هو الجامع الانتزاعي.

فعلى الأول : لا تكون مسألتنا راجعة إلى ما ادعى من كون التخيير عقليا أو شرعيا ، إذ من يدعي كون متعلق الأمر هو الافراد لا يلتزم بملاحظة كل فرد بخصوصيته المباينة لخصوصية الفرد الآخر ، بل يلتزم بملاحظة الجهة الجامعة والمشتركة بين سائر الافراد بما هي افراد ، وهي مثلا الطبيعة المتشخصة أو الطبيعة الموجودة ، فخصوصيات الافراد غير ملحوظة ، والمفروض توقف الوجوب التخييري على هذا المبنى على لحاظ خصوصيات الأفراد.

وعلى الثاني : لا يتوقف الوجوب التخييري على ملاحظة الخصوصيات ، كما لا يتوقف على تقدير كلمة : « أو » لكون المتعلق شيئا واحدا ينطبق على الخصوصيات وهو العنوان الانتزاعي ، فيكون القول بكون متعلق الأمر هو الافراد قولا بكون التخيير شرعيا لأن الفرد جامع انتزاعي عن الافراد بما هي افراد لا حقيقي ، والقول بكون المتعلق هو الطبيعة قولا بكون التخيير عقليا لأن الطبيعة جامع حقيقي.

فيتلخص : ان رجوع المسألة إلى كون التخيير شرعيا أو عقليا انما يتم بناء على الالتزام في الوجوب التخييري بان المتعلق هو عنوان انتزاعي عن الافراد بما هي افراد كعنوان : « أحدهما ». والمحقق النائيني يرى هذا الرّأي ، فلم يظهر وجه إيراده باحتياج التخيير إلى تقدير كلمة : « أو ».

اما الوجه الثاني من الإيراد فوضوح اندفاعه في مجال آخر. فالتفت وتدبر واللّه سبحانه الموفق.

ص: 478

فصل : نسخ الوجوب

إذا وجب شيء ثم نسخ وجوبه بدليل ، فهل للدليل المنسوخ أو الناسخ دلالة على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو لا؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني (1) ، وهو الصحيح.

وتقريبه : ان الدليل الناسخ لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو الوجوب من دون تعرض إلى حال الجواز وغيره ، فعدم دلالته واضح جدا. واما الدليل المنسوخ الدال على الوجوب ، فإذا التزمنا بان الوجوب أمر بسيط لا تركب في حقيقته فعدم دلالته على الجواز واضح ، إذ ما كان يدل عليه وهو الوجوب قد ارتفع بالفرض ولا دلالة له على غيره أصلا. وان التزم بان الوجوب مركب من جزءين جواز الفعل والمنع من تركه. فقد يدعى دلالة المنسوخ على الجواز بالدلالة التضمنية ، إذ هو قبل النسخ كان يدل بالمطابقة على الوجوب وبالتضمن على الجواز ، لأنه جزء الوجوب ، فإذا ارتفعت دلالته المطابقية عن الحجية بواسطة الناسخ تبقى دلالته التضمنية على حالها لعدم تبعية الدلالة

ص: 479


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية. ولكن هذا غير صحيح :

لإنكار المقدمة الأولى أولا. وهي : دعوى تركب الوجوب ، فان الوجوب أمر بسيط لا تركب فيه ، والتعبير عنه بالمضمون المركب تعبير عنه باللازم.

وإنكار المقدمة الثانية ثانيا ، وهي : دعوى عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية ، وتحقيق ذلك وان كان ينبغي ان يكون فيما تقدم من مبحث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية ، لكن جرت السيرة على التعرض إليه في مبحث التعادل والترجيح فهو موكول إلى محله. ولو تنزلنا وسلمنا عدم التبعية فهو انما نسلمه في المركبات الاعتبارية التي يكون لكل جزء منها وجود مستقل عن وجود الآخر نظير الدار. دون المركبات الحقيقية التي لا يكون لها الا وجود واحد بسيط.

والسر فيه : ان انتفاء وجود المركب الاعتباري لا يساوق انتفاء وجود اجزائه ، لفرض ان لها وجودا مستقلا ، فيمكن ان يقال بقاء دلالة الدليل الدال على وجود الجزء بالتضمن اما انتفاء وجود المركب الحقيقي فهو مساوق لانتفاء وجود اجزائه ، لفرض ان الوجود واحد فقط فليس هناك وجودان أحدهما للجزء والآخر للكل ، فلا معنى لبقاء الدلالة التضمنية بعد انتفاء الدلالة المطابقية لعدم المدلول التضمني بعد انتفاء المدلول المطابقي لأن المدلول المطابقي هو وجود المركب الملازم لوجود جزئه. وقد عرفت انه وجود واحد لا تعدد فيه ، فانتفاؤه ملازم لانتفاء وجود جزئه.

وبعبارة أخرى نقول : مع وحدة وجود المركب لا ثبوت للدلالة التضمنية للجملة ، إذ دلالتها التضمنية عبارة عن كشفها عن ثبوت الجزء ووجوده بتبع كشفها عن وجود الكل ، والمفروض انه لا وجود للجزء بنفسه كي يكون مدلولا للكلام. بخلاف ما إذا كان المركب اعتباريا ، فان الجزء له وجود مستقل في نفسه ، فدلالة اللفظ على وجود المركب يكون موجبا للكشف عن وجود الجزء أيضا.

ص: 480

نعم هناك دلالة تصورية على مفهوم الجزء في كلا المقامين ، ولكنه لا ينفع ، فان المقصود ثبوت الجزء ووجوده. وقد عرفت انه لا دلالة تضمنية عليه في المركب الحقيقي لعدم وجود الجزء مستقلا.

وما نحن فيه من هذا القبيل - أي من قبيل المركب الحقيقي - ، إذ لا يدعي أحد ان الوجوب مركب من أمرين مستقلين وإنشاءين متعددين ، بحيث يكون لكل منهما وجود مستقل كي لا ملازمة بين انتفاء وجود الكل وانتفاء وجود الجزء. بل وجود الوجوب بجزئية وجود واحد. فلا تبقى دلالة الدليل التضمنية بانتفاء المدلول بالدلالة المطابقية. فلاحظ.

وإذا لم يثبت الدليل على بقاء الجواز فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي.

وعليه ، فقد يدعى إجراء استصحاب الجواز لليقين به سابقا والشك فيه لاحقا فيثبت الجواز بالأصل.

وناقشه صاحب الكفاية : بان هذا الاستصحاب من استصحاب الكلي القسم الثالث ، وضابطه الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد للشك في حدوث فرد آخر مساوق لارتفاع الفرد السابق. وهو لا يجري كما حقق في محله.

نعم يستثنى منه ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه ليس فردا مغايرا للأول في نظر العرف كما إذا كان من نظير الشك في بقاء كلّي السواد الموجود سابقا في ضمن مرتبة قوية منه للشك في بقاء ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة بحيث يعدّ في العرف انه من تغير الحالات لا من تعدد الافراد. فانه لا مانع من إجراء الاستصحاب هنا ، ولكن الأحكام ليست كذلك بل هي متغايرة عرفا.

ومن هنا قد يرد عليه : بان الوجوب والاستحباب من هذا القبيل ، لأن الاختلاف بينهما في المرتبة ، فإذا شك في بقاء الجواز في ضمن الاستصحاب صح إجراء استصحاب الكلي.

ص: 481

ولكنه دفعه : بان الاختلاف بينهما حقيقة وان كان من حيث المرتبة ، إلاّ انهما بنظر العرف فردان متغايران ، ومن الواضح ان المحكم في باب الاستصحاب هو نظر العرف والمدار عليه لا على النّظر الدّقّي (1).

هذا ما أفاده في الكفاية. ولكن ناقشه المحقق الأصفهاني : بان المراد من الوجوب والاستحباب ان كان هو الأمر الاعتباري المجعول من قبل الشارع ، فهما متباينان وليس الاختلاف بينهما في الشدة والضعف. وان كان هو الإرادة ، فالاختلاف بينهما من حيث الشدة والضعف ، ولا يكون كل منهما بنظر العرف مغايرا للآخر. ولكن هذا لا يعني الالتزام بإجراء الاستصحاب ، بل لا بد من التفصيل بين الالتزام في باب الاستصحاب بان المجعول بأدلته الحكم المماثل للحكم المستصحب أو الحكم المستصحب كما يظهر من صاحب الكفاية (2) والشيخ (3) رحمه اللّه . والالتزام بان المجعول بأدلته هو منجزية الواقع أو الطريقية إليه وفرض الشاك متيقنا بالواقع. فعلى الأول لا يجري استصحاب الإرادة لأنها ليست من المجعولات الشرعية وليست موضوعا لحكم شرعي فلا معنى للتعبد ببقائها وجعلها من قبل الشارع. وعلى الثاني يجري استصحاب الإرادة لأنها قابلة للتنجيز أو يترتب عليها الحكم العقلي بالجري على طبقها كما لو كان متيقنا بها (4).

هذا ملخص ما أفاده المحقق الأصفهاني نقلناه لأجل التنبيه على عدم كون الإرادة من المجعولات الشرعية وليست من موضوعات الأحكام الشرعية. فالتفت فانه ينفعك في بعض الموارد.

ص: 482


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /140- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /383- الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 251 - الطبعة الأولى.

فصل : الوجوب التخييري

اشارة

لا إشكال في وقوع الوجوب التخييري في الشرعيات والعرفيات ، وانما الكلام في تصويره بنحو لا يتنافى مع حقيقة الوجوب ، فان جهة الإشكال فيه هي منافاته لحقيقة الوجوب ، إذ أساس الوجوب عدم جواز ترك متعلقه ، والوجوب التخييري يجوز ترك متعلقه ، والمذكور في تصويره وجوه أشار إلى بعضها صاحب الكفاية.

الاحتمال الأول : - وقد اختاره صاحب الكفاية - كونه سنخ وجوب مشوبا بجواز الترك.

ببيان : ان الغرض المترتب على الأمرين ان كان واحدا ، فيكشف عن وجود جامع حقيقي بين الفعلين يكون هو المؤثر في ذلك الغرض ، لأن الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد ، ويكون الجامع هو متعلق الأمر واقعا لأنه متعلق الغرض ، ويكون التخيير عقليا لا شرعيا ، وان كان الغرض متعددا ، فلا بد ان يفرض ان حصول أحدهما يمنع من حصول الآخر بحيث لا يمكن اجتماع كل من الغرضين - إذ لو أمكن حصولهما معا تعين الأمر التعييني بكل من الفعلين - ، فيتعلق الوجوب بكل منهما. لكن يجوز تركه إلى بدله وهو الآخر لا مطلقا ، فهو

ص: 483

وجوب وسط بين الوجوب التعييني والاستحباب. فملخص دعوى صاحب الكفاية : ان الوجوب التخييري سنخ وجوب يعرف بآثاره ولوازمه كوحدة العقاب على ترك الفعلين وعدم جواز ترك كل منهما لا إلى بدل (1).

ويمكن ان نوضحه : بأنه إرادة وسط بين الإرادة الاستحبابية والإرادة الوجوبية ، فهي أقوى من إرادة الاستحباب ولذا لا يجوز ترك متعلقها مطلقا وأضعف من إرادة الوجوب ولذا يجوز ترك متعلقها إلى بدل ، بخلاف إرادة الوجوب فانه لا يجوز ترك متعلقها أصلا.

وهذا الاختيار وان كنا قد قربناه وقويناه سابقا ودفعنا ما يخدش به ، حتى قيل أنه ناش عن عدم تصور الوجوب التخييري ، وإلاّ فما هو ذلك السنخ من الوجوب وما تحديده؟ - ونظير ذلك ما ورد منه قدس سره في تعريف الوضع من انه نحو اختصاص ، فكان مورد الاعتراض لعدم تحديده ذلك النحو - لكن الّذي يبدو لنا فعلا انه لا يخلو من مناقشة وذلك لوجهين :

الأول : انه يتنافى مع ما يراه الوجدان في الواجبات التخييرية العرفية من ثبوت وجوب واحد لا وجوبين.

الثاني : انه لو فرض تعدد الوجوب وانه سنخ خاص منه ينشأ عن مرتبة معينة من الإرادة ، فما هو الوجه في سقوطه عن أحدهما عند الإتيان بالآخر؟.

وبتعبير آخر نقول : انه بعد فرض تعدد الوجوب وتعلقه بكل من الفردين معينا ، فلو جاء المكلف بأحد الأمرين اما ان لا يسقط الوجوب المتعلق بالآخر أو يسقط؟ ، فان التزم بعدم سقوطه كان ذلك منافيا لما هو الثابت الّذي لا إشكال فيه من سقوط الوجوب وعدم بقائه عند الإتيان بأحد الأمرين. وان التزم بسقوطه كان ذلك التزاما بتقييد وجوب أحدهما بترك الآخر وعدمه ، وهو غير

ص: 484


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /140- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

خال عن المحذور كما سيأتي بيانه في الاحتمال التالي إن شاء اللّه تعالى.

فما ذكره صاحب الكفاية لا تمكننا المساعدة عليه ، ولو لا تصريحه بامتناع تعلق الوجوب التخييري بالفرد على البدل لاستظهرنا من كلامه إرادة ذلك بالمعنى الّذي سنوضحه فانتظر.

ثم ان ما ذكره في صورة وحدة الغرض المترتب على الأمرين من رجوع التكليف إلى الجامع ، لأنه هو المؤثر في الغرض لقاعدة ان الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد.

لا يخلو من خدشة وان ذكره في غير هذا المقام (1) أيضا ، وذلك لأن هذه القاعدة تنطبق على الواحد الشخصي. اما الواحد النوعيّ فيمكن صدوره عن متعدد ، إذ لا برهان على امتناعه ، لاختصاص برهان الامتناع بالواحد الشخصي ، بل الوجدان على خلافه لأن صدور الواحد النوعيّ عن المتعدد لا شبهة فيه كالحرارة الصادرة عن الشمس وعن الكهرباء وعن الحركة ، ولا جامع حقيقي بين هذه الأمور كما لا يخفى.

وبالجملة : فكلام صاحب الكفاية بجهتيه لا يخلو عن مناقشة فتدبر.

الاحتمال الثاني : ان الوجوب التخييري في الحقيقة وجوب تعييني متعلق بكل من الفعلين ، لكنه مشروط بترك الآخر.

وأورد عليه المحقق النائيني بإيرادات أربعة - بعد ان بناه على تعدد الغرض ، ولكن بنحو لا يمكن الجمع بينهما ، إذ مع إمكان الجمع بينهما يتعين الأمر بكل منهما مطلقا. كما انه مع وحدة الغرض لا معنى لتعين أحدهما عند ترك الآخر ويؤمر به نفسه ، بل الأمر مطلقا لا بد ان يكون بنحو التخيير -.

الأول : ان فرض تعدد الغرض فرض لا غير كفرض أنياب الأغوال.

ص: 485


1- راجع ما أفاده في تصوير الجامع الصحيحي.

ولعله يقصد انه لا شاهد عليه من العرف ، فان موارد التخيير في العرف لا تنشأ عن تعدد الغرض ، بل الغرض فيها واحد ، فمن أي طريق يعلم تعدده ويبنى التخيير على فرض التعدد.

الثاني : ان الإطلاق ينفي اشتراط الوجوب على كل منهما بترك الآخر ، إذ التقييد خلاف الأصل.

الثالث : انه يبتني على صحة القول بالترتب لأنه التزام به. وهو مما لا يمكن فرضه على من يقول بامتناع الترتب ، مع ان الوجوب التخييري مما يلتزم به الجميع.

الرابع : ان المورد خارج عن مورد التزاحم بين الخطابين كي يرفع بالتقييد المدعى ، إذ التزاحم بين الملاكين في الملاكية ، فان ملاكية أحد الغرضين انما تفرض عند ترك الآخر ، بمعنى انه لا يمكن ان يكون كل منهما ملاكا للحكم ، بل أحدهما الغالب هو الملاك ، لأن الملاك المزاحم بملاك آخر لا يصلح للداعوية إلى التكليف ، فلا مناص من كون أحد الملاكين على البدل ملاكا فعليا ، فينتج خطابا واحدا بأحد الشيئين على البدل لا خطابين مشروطين (1).

أقول : لا يخفى ان الملتزم بهذا القول تارة يلتزم به من باب انحصار تصوير الوجوب التخييري بهذا النحو وعدم تعقل غيره ، فلا يرد عليه الإيراد الأول والثاني ، إذ نفس الدليل الإثباتي على التخيير كاف في تعين الالتزام به ، وأخرى يلتزم به من باب انه وجه من وجوه تصوير الواجب التخييري فللإيرادين مجال ، فانه لا شاهد عرفا عليه كي تحمل عليه الأدلة الشرعية ، بل يمكن ان يدعى ان غالبية وحدة الغرض قرينة عامة على عدم كونه بهذا النحو مع اندفاعه بالإطلاق. ولكنه انما ينفي بهذين الوجهين لو فرض تصور معنى عرفي

ص: 486


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 185 - الطبعة الأولى.

يمكن حمل الأدلة عليه ، اما لو لم يتصور إلا معنى بعيد أيضا عن فهم العرف فيتردد الوجوب التخييري بين الوجهين وتختلف الآثار العملية والعلمية على كلا القولين ، ولا يمكن الجزم بأحدهما.

اما الإيراد الثالث ، فلا يرد لما عرفت من انه لا تنافي بين الالتزام بالترتب من كلا الطرفين - كما هو الحال فيما نحن فيه - وبين إنكار الترتب من طرف واحد. وعليه فالالتزام بهذا الوجه لا يتنافى مع إنكار الترتب.

واما الإيراد الرابع ، فلو تم لجرى في مطلق موارد التزاحم ، لأن استيفاء أحدهما يمنع من استيفاء الآخر.

والحل في الجميع : انه لا فرق بين هذا المورد وسائر الموارد في تمامية الملاك والتزاحم بين استيفائي الملاكين لا بين الملاكين في الملاكية ، فيكون التزاحم بين الخطابين لكون المقصود بهما هو استيفاء الملاكين كما لا يخفى.

فالمتوجه من هذه الإيرادات هو الإيرادان الأولان بالمقدار الّذي ينفيان تعينه لا معقوليته.

ويرد عليه ثالثا ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس سره : من ان الغرضين ان فرض كون استيفاء أحدهما سابقا يمنع من استيفاء الآخر ، فاللازم الأمر بالفعلين دفعة لتحصيل كلا الغرضين. وان فرض كون استيفاء أحدهما مطلقا يمنع من استيفاء الآخر ، فاللازم انه مع إيجاد كلا الفعلين لا يترتب كل من الغرضين ، فانه نظير اجتماع المقتضيين للضدين فانه لا يتحقق أحدهما كما لا يخفى ، وهذا مما لا يلتزم به أحد. وان فرض كون وجود كليهما موجبا لحصول غرض ثالث ، فاللازم فرض التخيير بين أطراف ثلاثة كل من الفعلين ومجموعهما وهو خلف الفرض (1).

ص: 487


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 254 - الطبعة الأولى.

ونقول : انه ليس خلف الفرض فقط بل غير معقول ، لأن الأطراف إذا كانت ثلاثة كان وجوب أحدهما مشروطا بترك كلا العدلين لا أحدهما ، إذ مع ترك أحدهما لا يتعين وجوب غيره ، بل يجوز الإتيان بكل من الآخرين.

وعليه ، ففيما نحن فيه يلزم ان يكون الأمر بكلا الفعلين مشروطا بتركهما - لأن كلا منهما عدل كليهما كما هو الفرض - ، وهو غير معقول ، بل الالتزام بثبوت التخيير بين الأقل والأكثر يكشف عن عدم كونه بهذا النحو ، لأنه لو كان بهذا النحو لم يكن التخييريين الأقل والأكثر معقولا ، إذ لا معنى لتقييد وجوب الأكثر بترك الأقل. كما لا يخفى.

ويرد عليه رابعا : ان تقييد وجوب أحدهما بترك الآخر يلزمه عدم وقوع كل منهما على صفة الوجوب لو جاء بهما معا ، لعدم تحقق شرطه وهما مما ثبت خلافه - وهذا الوجه يرد حتى لو فرض وحدة الغرض فهو لا يرتبط بعالم تعدد الغرض والتضاد بينهما -.

ويرد عليه خامسا : لزوم تعدد العقاب لو ترك كلا الأمرين لوجوب كل منهما في حقه.

ولا يرد عليه : انه لا مانع من الالتزام به إذ لم يثبت خلافه. إذ ثبوت خلافه في العرفيات مما لا إشكال فيه وهي شاهد على ما نحن فيه.

الاحتمال الثالث : تعلق الوجوب بكل منهما تعيينا مطلقا لكنه يسقط بفعل الآخر.

وقد ادعى المحقق النائيني : انه مما لا يصح ان يتفوه به أحد ، ولذلك حمله على الوجه السابق. والوجه في ذلك : ان سقوط الوجوب انما يكون باعتبار عدم إمكان استيفاء الغرض الثابت في متعلقه ، وهذا انما يتصور في مورد تزاحم الغرضين بحيث يكون كل منهما مع وجوده مانعا من وجود الآخر ، وإذا كان كذلك رجع إلى الوجه السابق ، إذ مع وجود أحدهما لا معنى للأمر بالآخر لعدم إمكان

ص: 488

استيفاء غرضه ، فيتقيد الأمر بكل منهما بترك الآخر ، وقد عرفت الإشكال فيه (1).

ولا يمكن حمله على صورة وحدة الغرض لما ذكرناه من عدم الوجه حينئذ في وجوب كل منهما تعيينا لعدم ملاك التعيينية فيه.

الاحتمال الرابع : وجوب المعين عند اللّه تعالى شأنه وهو ما يختاره المكلف في علمه عزّ وجل.

وفيه :

أولا : ان الوجوب التخييري في العرفيات لا يمكن حمله على ذلك ، لعدم كون المولى العرفي ممن يعلم الغيب كي يتعلق امره بما يختاره المأمور في علمه.

وثانيا : انه إذا فرض تساوي الفعلين في الوفاء بالغرض ، فلا وجه للأمر التعييني بأحدهما المعين ، فانه لغو لا يصدر من عاقل إلاّ إذا انحصر تصور التخيير ومعقوليته بذلك.

وثالثا : انه يلزم اختلاف المكلفين في الواجب لاختلافهم في الاختيار ، فيتعدد الواجب بتعدد الأطراف ، وهو مما يعلم خلافه ، إذ من المعلوم كون الواجب في حق جميع المكلفين واحدا لا يختلف.

الاحتمال الخامس : ان يكون الواجب أحدهما. وهو مذهبان :

أحدهما : ان يراد منه مفهوم أحدهما وعنوانه المنطبق على كل من الأمرين في نفسه ، فان كلا منهما يصدق عليه انه أحد الأمرين ، نظير مفهوم : « من يسكن الدار » المنطبق على كل من زيد وعمرو بخصوصه إذا كانا يسكنانها.

ثانيهما : ان يراد منه واقع أحدهما وهو الصوم والعتق - مثلا -. وهو تارة يقصد به أحدهما المعين كالصوم بعينه وأخرى يقصد به أحدهما غير المعين كالصوم أو العتق ، المعبر عنه بالفرد على سبيل البدل ، فالتقسيم إلى المعين وغير

ص: 489


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 182 - الطبعة الأولى.

المعين انما هو بلحاظ واقع أحدهما لا مفهومه ، فان مفهوم أحدهما لا ينقسم إلى بعينه وإلى لا بعينه فانه معين دائما. ومحل الكلام في أحدهما مصداقا هو أحدهما لا بعينه فلدينا احتمالان :

الأول : كون الواجب مفهوم أحدهما.

الثاني : كون الواجب واقع أحدهما غير المعين.

ولا يخفى ان أحد الافراد لا بعينه تارة يقصد به عدم دخل الخصوصية الشخصية ، فيساوق الإطلاق. وأخرى يراد به الفرد المردد وإحدى الخصوصيّتين من دون تعيين والمقصود به : « لا بعينه » هنا هو المعنى الثاني فانتبه.

اما احتمال وجوب أحدهما مفهوما ، فهو تارة يلتجئ إليه بعد إبطال جميع احتمالات الوجوب التخييري بحيث ينحصر الاحتمال المعقول فيه ، فلا محيص عن الالتزام به وان كان خلاف الظاهر. وأخرى يلتزم به كوجه مستقل في قبال غيره ، فلا إشكال في بطلانه ، إذ متعلق الأمر ما يكون مورد الأثر والغرض ومن الواضح ان الغرض لا يترتب على مفهوم أحدهما ، بل انما يترتب على كل من الأمرين بواقعه.

واما احتمال وجوب أحدهما لا بعينه - مصداقا - ، فقد التزم به المحقق النائيني قدس سره وأطال الكلام في بيانه بما لا أثر له في تحقيق الدعوى. ومحصل ما جاء من كلامه هو بيان عدم المانع من تعلق الإرادة التشريعية بأحدهما لا بعينه ، والمقتضي موجود لترتب الغرض على كل منهما وتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجح ، وبيان انحصار المانع في تعلق الإرادة التكوينية بالمردد (1).

وهذا غريب من مثل المحقق المزبور ، فان اللازم عليه كان بيان ما يحتمل ان يكون محذورا ودفعه لا مجرد دعوى عدم وجود المانع لا أكثر من دون بيان

ص: 490


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 183 - الطبعة الأولى.

وجه ذلك فان ذلك لا يتناسب مع علمية البحث.

ثم انه قدس سره أنكر دعوى تعلق الوجوب بأحدهما مفهوما بدعوى انه لا حاجة إلى توسيط الجامع بعد إمكان تعلق الحكم بالواقع رأسا. ومن الغريب ما جاء في التعليقة للسيد الخوئي من تقرير تعلق الحكم بأحدهما لا بعينه واختياره ، ثم إرجاعه بعد ذلك إلى القول بكون المطلوب مفهوم أحدهما ، مع ما عرفت من تبيانهما وإنكار المحقق النائيني للثاني (1). فالتفت ولا تغفل.

وعلى كل حال فعلينا ان نذكر ما قيل في وجه امتناع تعلق التكليف بالفرد المردد أو الفرد على البدل. وهو وجوه :

الأول : ما يذكره الشيخ الأعظم في مسألة بيع الصاع من صبرة - حيث وقع الإشكال في متعلق البيع والتمليك ، فادعى انه الصاع المردد - من : ان الفرد المردد لا وجود له في الخارج فيمتنع تعلق الملكية به. وأجاب عنه الشيخ : بان ذلك يتنافى مع تعلق الصفات الواقعية به دون الأمور الاعتبارية كالملكية ونحوها ، لأن الاعتبار خفيف المئونة (2).

الثاني : ما ذكره في الكفاية في حاشية له في المقام من : ان الصفات الاعتبارية وان تعلقت بالفرد المردد ، بل وكذا الصفات الحقيقية كالعلم الإجمالي المتعلق بنجاسة أحد الإناءين ، إلاّ ان في البعث خصوصية تمنع من تعلقه بالفرد المردد ، فان البعث انما هو لإيجاد الداعي وتحريك المكلف نحو إتيان العمل المتعلق للأمر اختيارا وعن إرادة. ومن الواضح ان الإرادة لا تتعلق بالفرد على البدل ، إذ لا وجود له ولا واقع ، وهي انما تتعلق بالخارجيات فلا يكون التكليف المتعلق بالفرد المردد قابلا للتحريك فيكون ممتنعا (3).

ص: 491


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 183 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب /195- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /141- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره : من ان العرض حقيقيا كان أو اعتباريا لا بد وان يتقوم بمحل ، ومن الواضح ان الفرد على البدل والمردد لا واقع له أصلا لا خارجا ولا مفهوما ، فان كل ما يوجد في الذهن أو في الخارج معين لا تردد فيه ، فان الوجود مساوق للتشخص والتعين ويتنافى مع التردد - وعلى حد بيان صاحب الكفاية : ان كل موجود هو هو لا هو أو غيره (1) - ، وإذا لم يكن للمردد واقع امتنع ان يكون معروضا لغرض اعتباري أو حقيقي كما لا يخفى جدا (2).

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني أيضا : من ان الصفات التعلقية كالعلم والتصور والبعث قوامها بمتعلقها ، بمعنى ان وجودها بوجود متعلقها وليس لها وجود وواقع منحاز عن واقع متعلقها ، فوجود التصور عين وجود المتصور بما هو كذلك.

وعليه ، فتعلق البعث بالفرد المردد يلزم منه اما انقلاب المعين - وهو البعث - إلى المردد. أو انقلاب المردد - وهو المتعلق - إلى المعين لأن وجودهما واحد ، وكلا الأمرين خلف محال (3).

هذا محصل الإيرادات على تعلق التكليف بالفرد المردد وهي في الحقيقة ثلاثة ، إذ الأول يرجع إلى الثالث كما لا يخفى.

وشيء منها لا ينهض مانعا عن تعلق التكليف بالفرد المردد ، ولأجل ذلك يمكننا ان ندعي ان متعلق الوجوب التخييري هو أحد الأمرين على سبيل

ص: 492


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /246- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 255 و 3 / 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 255 و 3 / 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.

البدل في الوقت الّذي لا ننكر فيه ان الفرد المردد لا واقع له ، وان كل موجود في الخارج معين لا مردد.

وبتعبير آخر نقول : ان المدعى كون متعلق الحكم مفهوم الفرد على البدل ، أو فقل هذا أو ذاك ، بمعنى ان كلا من الأمرين يكون مورد الحكم الواحد ، لكن بنحو البدل في قبال أحدهما المعين ، وكلاهما معا بنحو المجموع.

ووضوح ذلك يتوقف على ذكر مقدمتين :

الأولى : ان مفهوم الفرد على البدل أو الفرد المردد الّذي يعبر عنه بالتعبير العرفي ب- : « هذا أو ذاك » من المفاهيم المتعينة في أنفسها ، فان المردد مردد بالحمل الأولي لكنه معين بالحمل الشائع ، نظير مفهوم الجزئي الّذي هو جزئي بالحمل الأولي كلي بالحمل الشائع فالفرد على البدل مفهوم متعين ، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه وتصوره في الذهن كمفهوم من المفاهيم فهو على هذا قابل لتعلق الصفات الحقيقية والاعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.

الثانية : ان الصفات النفسيّة كالعلم ونحوه لا تتعلق بالخارجيات ، بل لا بد وان يكون معروضها في أفق النّفس دون الخارج ، وإلاّ لزم انقلاب الخارج ذهنا أو الذهن خارجا وهو خلف فمتعلق العلم ونحوه ليس إلاّ المفاهيم الذهنية لا الوجودات الخارجية.

وإذا تمت هاتان المقدمتان تعرف صحة ما ندعيه من كون متعلق العلم الإجمالي في مورده والملكية في صورة بيع الصاع من صبرة والبعث في الواجب التخييري هو الفرد على البدل ومفهوم هذا أو ذاك. فانه مفهوم متعين في نفسه كسائر المفاهيم المتعينة ولا يلزم منه انقلاب المعين مرددا ، إذ المتعلق له تعين وتقرر ، كما لا يلزم كون الصفة بلا مقوم ، إذ المفهوم المذكور له واقع.

يبقى شيء ، وهو : ان الصفات المذكورة وان تعلقت بالمفاهيم ، لكنها مرتبطة بالواقع الخارجي بنحو ارتباط ومأخوذة مرآة للواقع ، والمفروض انه لا

ص: 493

واقع لمفهوم الفرد المردد فكيف يتعلق به العلم؟!. وحلّ هذا الإشكال سهل ، فان ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجي ليس ارتباطا حقيقيا واقعيا ، ويشهد له انه قد لا يكون العلم مطابقا للواقع ، فكيف يتحقق الربط بين المفهوم والخارج؟ ، إذ لا وجود له كي يكون طرف الربط ، ولأجل ذلك يعبر عن الخارج بالمعلوم بالعرض. اذن فارتباطه بنحو ارتباط لا يستدعي ان يكون له وجود خارجي كي يشكل على ذلك بعدم الواقع الخارجي لمفهوم الفرد المردد.

ومما يؤيد ما ذكرناه من إمكان طروّ الصفات على الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرين ، كمجيء زيد أو مجيء عمرو ، فانه من الواضح انه خبر واحد عن المردد ، ولذا لو لم يأت كل منهما لا يقال انه كذب كذبتين ، مع انه لو رجع إلى الإخبار التعليقي لزم ذلك ولا تخريج لصحة الإخبار إلاّ بذلك.

يبقى إشكال صاحب الكفاية وهو : ان التكليف لتحريك الإرادة ، والإرادة ترتبط بالخارج ارتباطا تكوينيا ، فيمتنع التكليف بالمردد ، إذ لا واقع له كي يكون متعلق الإرادة (1).

والجواب عنه : أنّه لا ملزم لأن نقول بان التكليف لأجل التحريك والبعث والدعوة نحو متعلقه بجميع خصوصياته وقيوده ، بل غاية ما هو ثابت ان التكليف لأجل التحريك نحو ما لا يتحرك العبد نحوه من دون التكليف المزبور بحيث تكون جهة التحريك وسببه هو التكليف المعين وان اختلف عن متعلقه بالخصوصيات.

ومن الواضح ان تعلق التكليف بالفرد المردد يستلزم الحركة نحو كل من الفعلين على سبيل البدل ، فيأتي العبد بأحدهما منبعثا عن التكليف المزبور ، وهذا يكفي في صحة التكليف وكونه عملا صادرا من حكيم عاقل.

ص: 494


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 141 [ هامش رقم (1)] - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ونتيجة ما تقدم : انه لا مانع من تعلق التكليف بالفرد على البدل وبأحدهما لا بعينه ، بمعنى كون كل منهما

متعلقا للتكليف الواحد ، ولكن على البدل لا أحدهما المردد ولا كلاهما معا. وبذلك يتعين الالتزام به فيما نحن فيه لفرض ثبوت الغرض في كل من الفعلين على حد سواء ومن دون مرجح ، فلا بد من كون الواجب في كل منهما بنحو البدلية والتردد.

وهذا المعنى لا محيص عنه في كثير من الموارد ولا وجه للالتزام ببعض الوجوه في العلم الإجمالي ، كدعوى ان المتعلق هو الجامع والترديد في الخصوصيات. وفي مسألة بيع صاع من صبرة ، كدعوى ان المبيع هو الكلي في الذّمّة ولكن مع بعض القيود ، أو دعوى أخرى لا ترجع إلى محصل. وتحقيق الكلام في كل منهما موكول إلى محله.

فالمختار على هذا في الواجب التخييري كون الواجب أحدهما لا بعينه ، كما التزم به المحقق النائيني ، وان خالفناه في طريقة إثباته.

تتمة في التخيير بين الأقل والأكثر وتصحيحه :

قد ورد في الشريعة التخيير بين الأقل والأكثر ، كالتخيير في التسبيح الواجب في الركعتين الأخيرتين بين التسبيحة الواحدة والثلاث - على قول -.

وهو بظاهره مورد الإشكال ، إذ لقائل ان يقول : ان الغرض ان كان يحصل بالأقل فلا مجال للامتثال بالأكثر أصلا ، إذ الغرض إذا كان يحصل بالأقل فيسقط الأمر بمجرد الإتيان به. وان كان لا يحصل بالأقل ، فلا وجه لجعله طرف التخيير والاكتفاء به في مقام الامتثال.

وقد تصدى صاحب الكفاية لدفع هذا الإشكال وتصحيح التخيير بين الأقل والأكثر ببيان : انه يمكن ان يكون المحصل للغرض عند وجود الأكثر هو الأكثر دون الأقل الّذي في ضمنه وبعبارة أخرى : يكون الأقل محصلا للغرض

ص: 495

إذا وجد بحده ولا يكون محصلا للغرض إذا وجد في ضمن الأكثر ، بل المحصل حينئذ للغرض هو الأكثر ، وإذا كان الأمر كذلك تعين التخيير بين الأقل والأكثر ، لأن كلا منهما محصل للغرض ولا مرجح يقتضي تعيين أحدهما دون الآخر.

وقد يشكل : بان هذا انما يتم في المورد الّذي لا يكون للأقل وجود مستقل لو وجد الأكثر نظير الخطّ الطويل والخطّ القصير ، فانه لا وجود للقصير مستقل عند وجود الخطّ الطويل. اما لو كان للأقل وجود مستقل مع وجود الأكثر نظير التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث فلا يتم ما ذكر ، إذ الأقل موجود بحده دائما فيتحقق به الغرض فلا تصل النوبة إلى الأكثر أبدا.

وأجاب عنه في الكفاية : بأنه يمكن ان يكون ترتب الغرض على الأقل بشرط عدم الانضمام ، ومع الانضمام يكون الغرض مترتبا على الأكثر ، فيكون الأقل مأخوذا بشرط لا. فيصح التخيير حينئذ. هذا محصل ما جاء في الكفاية (1). وبه يصحح التخيير بين الأقل والأكثر ، وان كانت النتيجة إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، لإرجاعه إلى التخيير بين المأخوذ بشرط لا والمأخوذ بشرط شيء ، فهو تصحيح للتخيير بين الأقل والأكثر بتخريجه على التخيير بين المتباينين لا التزام بالتخيير بين الأقل والأكثر.

وللمحقق الأصفهاني هاهنا كلام طويل في مقام الفرق بين مثالي الكفاية ، والإيراد عليه أخيرا ، ولكن لا يهمنا التعرض إليه إذ لا جدوى فيه (2).

ص: 496


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /142- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 255 - الطبعة الأولى.

فصل : الوجوب الكفائي

قد يظهر من الكفاية ان البحث فيه على حدّ البحث في الوجوب التخييري ، إلا ان موضوع البحث هناك كان متعلق الحكم ، وهاهنا موضوع الحكم وهو المكلف (1).

ولكن سيظهر إن شاء اللّه تعالى الاختلاف بينهما من بعض الجهات.

وتحقيق الكلام فيه : انه بناء على كون التكليف عبارة عن إرادة الفعل وإبرازها ، يمكن ان يدعى عدم تعلق الوجوب الكفائي بمكلف أصلا - كي يبحث عن حقيقته - بدعوى إمكان عدم تعلق التكليف بمكلف على هذا المبنى ، إذ يمكن ان تتعلق الإرادة بالعمل من دون ان تتوجه النّفس إلى الشخص المراد منه العمل ، وانما يلزم على العبد تحصيل مراد المولى بحكم العقل لإبراز المولى إرادته بالإنشاء.

اما لو لم يلتزم بذلك ، بل التزم بان التكليف عبارة عن البعث ، وهو كما يتقوم بالمبعوث إليه يتقوم بالمبعوث ، أو انه إرادة فعل للغير ، أو انه اشتغال ذمة

ص: 497


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /143- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الغير بالعمل ، فالتكليف لا بد فيه من مكلف ، فيقع البحث في تحقيق المراد منه في الوجوب الكفائي.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنه سنخ وجوب يتعلق بكل مكلف ، وهو يعرف بآثاره ولوازمه من عقاب الكل لو أخلّوا بامتثاله جميعا وسقوطه بامتثال البعض (1).

وقد تقدم الإشكال فيه فلا نعيد.

وهناك احتمالات أخرى تعرض إليها المحقق الأصفهاني (2) - بعد ان أبان عن لزوم وجود موضوع للتكليف ونفي دعوى عدم ضرورة ذلك التي قد عرفتها - نذكرها وغيرها ، وهي : ان يكون الموضوع والمكلف هو الواحد المعين. أو المردد.

أو صرف الوجود. أو المجموع. أو الجميع. أو كل واحد واحد مشروطا بترك الآخر.

اما كون المكلف هو الواحد المعين فهو خلف الفرض في المقام.

واما كونه الواحد المردد ، فقد نفاه المحقق الأصفهاني بما تقدم من الإيرادين على تقوم التكليف بالمردد (3). وقد عرفت اندفاعهما وانه لا محذور في تقوم التكليف بالمردد.

واما كونه صرف الوجود ، فهو يطلق في اصطلاح الأصوليين على أول الوجود المعبر عنه بناقض العدم الكلي ، كما يطلق على الوجود المبهم من حيث الخصوصيات ، كما انه يطلق أيضا على اللابشرط القسمي المساوق للإطلاق

ص: 498


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /143- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.

الملازم للانطباق على كل فرد فرد. اما اصطلاح الفلسفة ، فالمراد به ما لا تكون فيه جهة عدم فلا ينطبق إلا على الواجب جلّ اسمه.

فان أريد منه المعنى الأول - أعني أول الوجود - فلا معنى له ، إذ مقتضاه كون المكلف هو أول وجود المكلفين ، وهو أسهم - على حد تعبير الأصفهانيّ (1) - ، وإرادة أول من قام بالعمل غير صحيحة ، إذ موضوع التكليف لا بد وان يؤخذ مفروض الثبوت فيلزم ان يكون الفعل مفروض الثبوت وهو يتنافى مع طلب تحصيله.

ومن العجيب التزام المحقق النائيني بان المكلف هو صرف الوجود بهذا المعنى (2). وتقرير السيد الخوئي له (3) مع ما عرفت ما فيه.

وقد ناقش المحقق الأصفهاني في إطلاق صرف الوجود على أول وجود ونفي صحة هذا الإطلاق ولا يهمنا التعرض إليه (4).

وان أريد منه المعنى الثاني - أعني الوجود المبهم - فهو محال ، إذ لا إهمال في مقام الثبوت والواقع ، فانه ممتنع كما أشير إليه مكررا.

وان أريد به المعنى الثالث - أعني اللابشرط القسمي - ، فمرجعه إلى تعلق الحكم بكل فرد فرد ، وهو راجع إلى الجميع وسيأتي البحث فيه. ومنه يظهر انه يمتنع تعلق التكليف بالجامع الانتزاعي بين المكلفين كعنوان أحدهم لأن المراد به ان كان صرف الوجود فقد عرفت ما فيه وان كان مطلق الوجودات سيأتي ما فيه.

واما كونه مجموع المكلفين :

ص: 499


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 187 - الطبعة الأولى.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 203 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 - الطبعة الأولى.

فأورد عليه المحقق الأصفهاني بإيرادين :

أحدهما : ان تعلق التكليف الواحد بمجموع أشخاص غير معقول ، لأنه لجعل الداعي وانقداح الداعي في نفس كل فرد فرد مع وحدة البعث غير معقول. بل لا بد من تعدد البعث. وليس المجموع شخصا واحدا كي ينقدح الداعي في نفسه.

ودعوى : حصول ذلك خارجا كأمر مجموع اشخاص برفع حجر لا يرفعه إلاّ المجموع.

مندفعة : بان مرجع ذلك إلى أمر كل واحد باعمال قدرته في رفع الحجر لو انضم إليه الآخر ، إذ أثر قدرته لا يظهر إلا مع الانضمام.

ثانيهما : ان لازمه عدم حصول امتثال الواجب الكفائي بفعل البعض ، بل لا بد من الإتيان به من قبل جميع المكلفين. وهو خلف الفرض في الواجب الكفائي (1).

واما كونه كل واحد مشروطا بترك الآخر. فيدفعه : ان لازمه عدم امتثال أحدهم لو جاءوا به دفعة واحدة لعدم تحقق شرط الوجوب بالنسبة إلى كل منهم وهو ترك الآخر بلا فرق بين الأفعال القابلة للتعدد كالصلاة على الميت أو غير القابلة كالتكفين والدفن. وهو مما لا يلتزم به أحد ، بل يعد الجميع ممتثلين.

واما كونه جميع المكلفين ، فقد ذهب إليه المحقق الأصفهاني (2).

ويرد عليه : أولا : - ما ذكره قدس سره - من ان لازمه عدم حصول الامتثال لو اشترك جماعة في الفعل كدفن الميت ، إذ لم يتحقق من كل منهم المأمور به ، وهو دفن الميت ولا امر بغيره ، مع ان الملتزم به تحقق الامتثال من كل

ص: 500


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.

منهم.

وثانيا : ان هذا التكليف المنبعث عن غرض واحد لا بد ان لا يكون ذا غرض عند إتيان الفعل من قبل أحد المكلفين ، ولذلك يسقط التكليف به.

وعليه ، فلا بد من تقييده بصورة عدم إتيان الغير بالفعل ، فيرجع إلى القول بالاشتراط وقد عرفت ما فيه.

فالمتعين علينا الالتزام بكون المكلف هو الفرد المردد ، بمعنى ان الوجوب تعلق بكل منهم على سبيل البدل.

ومن مجموع ما ذكرناه يظهر لنا : اختلاف الوجوب الكفائي والوجوب التخييري في موارد :

الأول : تأتي احتمال تعلق الوجوب التخييري بالجامع الانتزاعي وإرادة صرف الوجود منه ، فانه لا مانع من إرادة أول وجود الطبيعة كما هو الحال في كثير من متعلقات الأوامر. وعدم تأتي احتمال تعلق الوجوب الكفائي بصرف وجود المكلفين فانه مما لا معنى له.

الثاني : الإشكال على الالتزام بان الوجوب بنحو الوجوب المشروط من جهة واحدة في الواجب الكفائي. ومن جهتين في الوجوب التخييري.

الثالث : إمكان دعوى إنكار احتياج التكليف إلى موضوع ومكلف - على بعض المباني -. وعدم إمكان هذه الدعوى بالنسبة إلى احتياجه إلى متعلق وهو الفعل فلاحظ وتدبر.

تذييل : قد عرفت ان المحقق النائيني قدس سره التزم بتعلق الوجوب الكفائي بصرف وجود المكلف ، لكنه استثنى من ذلك صورة ما إذا كانت هناك ملاكات متعددة ولم يمكن استيفائها جميعا ، بل كان استيفاء أحدها مانعا من استيفاء الباقي. ففي مثل هذه الصورة لا مانع من تعلق التكليف بكل منهم مشروطا بعدم تحقق الفعل من الآخر ، كما لو فرض ان شخصين فاقدين للماء

ص: 501

وجدا ماء يكفي لأحدهما فقط ، فان الأمر بحيازة الماء يتوجه إلى كل منهما مشروطا بعدم حيازة الآخر.

وبعد ان ذكر ذلك تعرض الذّكر فرع وهو : ما إذا كان واجدا الماء في الفرض متيممين ، فهل يبطل تيمم كل منهما ، أو لا يبطل تيممهما ، أو يبطل تيمم أحدهما على البدل؟. اختار بطلان تيممهما معا مع كون وجوب الحيازة مشروطا بترك الآخر. ببيان : ان لدينا أمورا ثلاثة ، الأمر بالوضوء ، والأمر بالحيازة ، والقدرة على الحيازة. لا إشكال في ان الأمر بالوضوء مترتب على الحيازة الخارجية. واما الأمر بالحيازة فقد عرفت انه مشروط بعدم سبق الآخر. واما القدرة على الحيازة فهي فعلية بالنسبة إلى كلا الشخصين ، إذ كل منهما يتمكن في نفسه من حيازة ماء ، وبما ان بطلان التيمم مرتب على القدرة. فهو يتحقق بالنسبة إلى كل منهما. فيبطل تيمم كل منهما (1).

وأورد عليه السيد الخوئي في الحاشية : بان موضوع بطلان التيمم كما انه وجدان الماء كذلك موضوع الأمر بالوضوء ، فإذا فرض تحقق الموضوع للبطلان فقد تحقق موضوع الأمر بالوضوء. فهناك ملازمة بين بطلان التيمم والأمر بالوضوء ، لأن موضوع التيمم عدم الوجدان وموضوع الوضوء هو الوجدان. كما انه التزم ببطلان تيمم السابق منهما في صورة سبق أحدهما إلى الحيازة دون الآخر لكشفه عن عدم قدرة الآخر على الوضوء فلا يبطل تيممه (2).

وتحقيق الحال ان يقال : ان الأمر بالتيمم لما كان موضوعه عدم وجدان الماء ، فبمجرد القدرة على استعمال الماء يرتفع موضوعه فينتقض التيمم ، والقدرة على استعمال الماء بالنسبة إلى كل منهم موجودة ، إذ يتمكن كل منهم من السبق إليه واستعماله ، فيرتفع تيمم كل منهم. اما الأمر بالوضوء فموضوعه وان كان

ص: 502


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 189 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2. 189 - الطبعة الأولى.

وجدان الماء إلا انه حيث كان مرجعه إلى إلزام كل منهم بصرف الماء وإعمال قدرته في استعمال الماء ، والمفروض ان الجميع لا يتمكنون من صرف قدرتهم دفعة واحدة وفي عرض واحد في ذلك ، كان أمر الكل في عرض واحد محالا لوقوع التزاحم في مقام الامتثال ، فلا محالة من توجه التكليف بالوضوء إلى كل منهم عند ترك الآخرين استعمال الماء. فلا منافاة بين بطلان تيمم الجميع في عرض واحد وتعلق الأمر بكل منهم مشروطا بترك الآخر ، وان كان موضوعهما واحدا وهو وجدان الماء.

واما ما ذكره المحقق النائيني من حديث الأمر بالحيازة ، فلا نعلم ارتباطه بما نحن فيه ، فان الحيازة ليست شرطا من شروط الوضوء ، بل هي مقدمة من مقدماته الوجودية فتكون واجبة بالوجوب الغيري لتحصيل الوضوء.

فنحن في المدعى نتفق مع المحقق النائيني ، لكن نختلف عنه في طريقة الإثبات. واما ما ذكره السيد الخوئي من الملازمة بين بطلان التيمم والأمر بالوضوء لوحدة موضوعهما. فلا وجه له ، إذ قد عرفت ان هذا مسلم إلا أن في الوضوء خصوصية تقضي بعدم الأمر به إلا بنحو الاشتراط.

واما ما ذكره من عدم بطلان تيمم غير السابق في صورة السبق لكشفه عن عدم قدرته. ففيه ما لا يخفى ، فان الفرض ما إذا كان كل منهما قادرا على الحيازة من أول الأمر ولم يقدم عليها ، فسبق أحدهما انما يرفع القدرة بقاء لا حدوثا. نعم لو لم يكن مجال أصلا للحيازة قبل السابق كان السبق مانعا من تحقق القدرة ، لكنه خلاف الفرض.

وقد يستشكل على المحقق النائيني في حكمه ببطلان التيمم بأنه قدس سره التزم في مسألة ما لو أباح شخص لجماعة مالا يكفي لحج واحد منهم فقط ، بأنه لا يجب على كل منهم الحج مع ان الاستطاعة تصدق في حقهم جميعا كصدق وجدان الماء في حق المتيممين جميعا ولزوم الوضوء على كل منهم مشروطا بترك

ص: 503

الآخرين.

والحل : ان نظره قدس سره إلى ان إباحة المال بالنحو المذكور لا تكون محققة لاستطاعة كل منهم فعلا ، وذلك لأن الإباحة كانت لواحد منهم بنحو الجامع ، وهو لا يحقق استطاعة كل منهم التي هي موضوع الوجوب ، بل لا يستطيع أحدهم الا بعد الاستيلاء على المال وتطبيق الجامع على نفسه ، وبما ان ذلك يعد تحصيلا للاستطاعة لم يجب لعدم وجوب تحصيل ما هو شرط الوجوب ، وبعبارة أخرى : الفرق بين مسألة التيمم ومسألة الحج : ان المراد من القدرة في باب التيمم مطلق التمكن. والمراد بها في باب الحج هو الاستيلاء على الزّاد والرّاحلة أو ملكيتهما ، وكلاهما لا يحصل بإباحة المال لواحد من الجماعة ما لم يستول عليه فعلا ويطبق الجامع عليه.

ولكن قد ذكرنا في باب الحج : ان وجوب الحج يتحقق بإباحة المال للجميع ، ويكون واجبا على كل منهم ، فإذا استولى عليه أحدهم ارتفع الوجوب عن الآخرين ، نظير وجوب الوضوء في هذا الفرع ، وقد أوضحنا نكتة المناقشة هناك فراجع.

ص: 504

فصل : الموسع والمضيق

المراد من الواجب الموسع : ما أخذ فيه الوقت بمقدار أوسع من الزمان الّذي يستدعيه الفعل. كصلاة الظهر ونحوها.

والمراد من الواجب المضيق : ما أخذ فيه الوقت بمقدار الزمان الّذي يستدعيه الفعل كالصوم المقيد بما بين طلوع الفجر وغروب الشمس.

وقد استشكل في صحة كلا النحوين :

اما الإشكال في صحة المضيق ، فبان الانبعاث لا بد من تأخره عن البعث آناً ما ، لأن الإرادة تتوقف على حصول مقدماتها من تصور الفعل والجزم بالمصلحة العائدة ونحو ذلك ، وهذا يستلزم زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب.

وعليه ، فلو فرض تحقق الوجوب قبل زمان الواجب ، مع أنه مشروط به ، استلزم ذلك تقدم المشروط على شرطه وهو محال ، لأنه من تقدم المعلول على علته. وان فرض تحقق الوجوب في أول زمان الواجب تأخر الانبعاث عنه آناً ما وهو خلف الفرض لاستلزامه خلوّ بعض الزمان عن الواجب فيه. فعليه لا بد من الالتزام بتقدم الوجوب على وقت الواجب ، مع عدم اشتراطه به ، كي يكون

ص: 505

الانبعاث في أول وقت الواجب ولا يلزم تقدم المعلول على علته وهذا ملازم لنفي المضيق.

وأجاب عنه المحقق النائيني قدس سره : بان تقدم البعث على الانبعاث وان كان بديهيا ، لكنه تقدم رتبي لا زماني ، لأنه لا يزيد على تقدم العلل التكوينية على معلولاتها ، وهو تقدم رتبي لا زماني فلا مانع من كون زمان البعث والانبعاث واحدا (1).

أقول : هذا الجواب وان كان صحيحا لكنه مما لا تصل النوبة إليه.

وذلك لأن أساس الإشكال في صحة الواجب المضيق هو فرض شرطية الوجوب بزمان الواجب ، وهذا لا نعرف له وجها ظاهرا. فان المفروض في المضيق كون الزمان بمقدار الواجب. اما ان الوجوب في ذلك الحال كي يكون تمديد الوقت وجعل وقت الوجوب قبل الوقت المفروض خلف التضييق فهذا مما لا يلتزم به القائل بالمضيق ، وليس في تحديد المضيق إشعار به ، فيمكن ان يفرض تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب في مطلق الواجبات - كما عليه صاحب الكفاية (2) - ، وهو لا ينافي التضييق كما لا يخفى. وما ذكرناه هو الأساس في حل الإشكال لا ما أفاده المحقق النائيني فانه جواب مبنائي.

واما الإشكال في صحة الموسع ، فبان الواجب في الآن الأول اما ان يجوز تركه إلى غير بدل ، فهو يتنافى مع وجوب الواجب ، إذ لازمه كونه غير لازما.

واما ان لا يجوز تركه إلى غير بدل ، فمعناه كون سائر الأبدال وهي الأفعال في الآنات الأخرى أعدال تخييرية ، فيكون وجوبه تخييريا وهو خلف الفرض.

ص: 506


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 190 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /103- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والجواب عنه - كما في حاشية الأصفهاني (1) بتوضيح منا - : ان الواجب هو طبيعي الفعل في طبيعي الوقت ، فان للوقت حركتين توسطية وهي حركة من المبدأ إلى المنتهى ، وقطعية وهي كل آن آن ، فالمتوهم توهم ان الواجب هو الفعل الملحوظ مع الحركة القطعية ، بمعنى ان الفعل في كل آن ، فيرد الإشكال المذكور حينئذ. ولكن الأمر ليس كذلك ، بل الواجب هو الفعل المقيد بطبيعي الوقت بنحو الحركة التوسطية ، فيكون وجوب الفعل في كل آن وجوبا عقليا تخييريا لتطبيق طبيعي الفعل المقيد بطبيعي الوقت على كل فرد فرد عقلا ، والتخيير العقلي ليس خلف الفرض ، فانه لا يتنافى مع كون الوجوب الشرعي تعيينيا.

وبعد ذلك يقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : في دلالة الدليل الدال على الواجب الموقّت - موسعا كان أو مضيقا - على وجوب الفعل خارج الوقت.

والتحقيق : عدم دلالة الدليل عليه - كما عليه صاحب الكفاية (2) - ، إذ لا وجه للدلالة لو لم يلتزم بالدلالة على عدم الوجوب عملا بمفهوم الغاية ، فان المدعى في التوقيت بغاية دلالته على نفي الحكم بعد حصول الغاية ، وغاية ما يذكر هناك هو إنكار هذه الدلالة ودعوى سكوت الدليل عما بعد الغاية. اما دلالته على ثبوت الحكم بعد الغاية فلا يدعيه أحد.

وقد ادعى الفرق بين كون التقييد بالوقت بدليل متصل وكونه بدليل منفصل. فلا دلالة في الأول واما في الصورة الثانية فيدل الدليل على ثبوت الحكم بعد الوقت لظهور التقييد المنفصل في كون التقييد بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر على حاله.

ص: 507


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 257 و 3 / 286 - الطبعة الأولى. الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث - 43.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهذه الدعوى واضحة الفساد ، فانه لا فرق بين الزمان وغيره من القيود ، فكما لا يلتزم في غيره بكون القيد مأخوذا بنحو تعدد المطلوب ، بل يرجع إلى تقييد أصل المطلوب فكذلك في الزمان والتفرقة بينهما لا وجه لهما مع وحدة الملاك في المقامين ، والالتزام في غير الزمان بما يلتزم به في الزمان يستلزم سدّ باب حمل المطلق على المقيد وهو خلاف الضرورة العرفية ومما لا يبني عليه أحد.

فالمتعين : الالتزام بعدم دلالة الدليل على ثبوت الواجب خارج الوقت سواء كان التقييد بمتصل أو بمنفصل.

نعم يستثنى من ذلك صورة واحدة أشار إليها في الكفاية وهي : ما إذا كان دليل الواجب مطلقا وكان دليل التقييد بالوقت منفصلا مجملا ، فانه إذا كان مجملا من حيث صورة التمكن من الإتيان بالعمل في الوقت وعدمه ولا إطلاق له يثبت التوقيت في كلا الحالين ، كان القدر المتيقن التقييد بالوقت في صورة التمكن ، وفي صورة عدمه لا يعلم التقييد ، فيرجع إلى إطلاق دليل الواجب المتكفل لإثبات الوجوب في مطلق الزمان ، وبعبارة أخرى : يكون الحال في هذه الصورة كما لو ورد رأسا التقييد بالوقت مع التمكن بالخصوص. فيثبت الواجب بعد الوقت بإطلاق الدليل (1).

الجهة الثانية : إذا دل دليل آخر على ثبوت القضاء ولزوم الفعل بعد الوقت ، فهل يكشف ذلك عن تبعية القضاء للأداء - بمعنى كون التقييد بالوقت بنحو تعدد المطلوب - أو لا يكشف ، بل هو أمر مستقل؟.

وهذا المعنى مما يترتب عليه آثار عملية في كثير من موارد الفقه تعرف في محالها.

وقد أفاد المحقق النائيني ان الاحتمالات الثبوتية ثلاثة :

ص: 508


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أحدها : ان يكون هناك امران : أحدهما متعلق بذات العمل. والآخر بإيقاعه في الوقت الخاصّ. فإذا انتفى الثاني لتعذر متعلقه بقي الأول على حاله.

ثانيها : ان يكون التقييد بالوقت مختصا بحال الاختيار ، فهناك امر واحد بذات العمل المقيد للمختار ، وبذاته من دون تقييد ، لغيره ، نظير الأمر بالتمام للحاضر وبالقصر للمسافر.

ثالثها : ان يكون امرا جديدا مستقلا ، موضوعه فوت الواجب الأول.

هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت. اما بالنسبة إلى مقام الإثبات ، فقد اختار قدس سره الوجه الثالث لوجوه ثلاثة :

الأول : ان الظاهر من لفظ القضاء هو تدارك ما فات في وقته. ومن الواضح انه لا معنى للتدارك على كلا الوجهين الأولين ، لأن ثبوت الفعل خارج الوقت بنفس الأمر الأول. وبعبارة أوضح نقول : ان خصوصية الوقت غير قابلة للتدارك ، وذات الفعل لم تفت حتى تتدارك ، إذ هو ثابت بالأمر الأول ولم يسقط بخروج الوقت.

الثاني : ثبوت القضاء شرعا في الحج والصوم المنذورين في وقت معين ، مع انه من الواضح ان النذر يتبع قصد الناذر ، وقصده انما تعلق بالعمل المقيد بالوقت الخاصّ بنحو الوحدة ، ومعه لا يبقى الأمر بذات العمل بعد الوقت لعدم موافقته للقصد ، فيكشف ذلك عن القضاء فيهما بأمر جديد ، وظاهر انه لا يختلف الحال في ثبوت القضاء بين الموارد ، بل هو في جميعها بنحو واحد.

الثالث : ان مقتضى الوجهين الأولين اتصال الأمر بالفاقد بالأمر بالواجد زمانا كما لا يخفى ، مع ان زمان القضاء منفصل عن زمان الأمر بالأداء بحسب الغالب ، نظير الأمر بقضاء الصوم ، فانه لا يتوجه الأمر به - على بعض المباني وهو استحالة الواجب المعلق - الا مقارنا للفجر ، مع ان فواته يكون من أول الليل - على أقل تقدير ، إذ يمكن ان يكون في أثناء النهار ، كما لو أكل أول النهار - ،

ص: 509

فيفصل الليل بين الأمر الأدائي والأمر القضائي وكالأمر بقضاء الصلاة ، فانه يتوجه بعد خروج الوقت ، ففي فرض عدم التمكن الا من أقل من ركعة واحدة في الوقت يسقط الأمر الأدائي مع عدم توجه الأمر بالقضاء إلا خارج الوقت ، فيفصل هذا الزمان بين الأمرين (1).

وللمناقشة في كلام المحقق النائيني قدس سره بكلا جهتيه الثبوتية والإثباتية مجال واسع.

اما المناقشة في الجهة الثبوتية ، فبجعله الاحتمالات الثبوتية ثلاثة ، مع ان المعقول منها اثنان هما الأول والثالث. واما الثاني فهو غير صحيح ، إذ مقتضاه جواز التأخير اختيارا نظير جواز السفر والصلاة قصرا ، إذ المكلف على هذا الاحتمال صنفان : صنف مكلف بالصلاة في الوقت وهو المتمكن. وآخر مكلف بالصلاة في خارجه وهو غير المتمكن. نظير انقسام المكلف إلى المكلف بالتمام وهو الحاضر والمكلف بالقصر وهو المسافر. وهو مما لا يقول به ولا يحتمله أحد.

واما المناقشة في الجهة الإثباتية ، فهي بالخدشة في جميع الوجوه :

اما الأول : فلان القضاء لغة عبارة عن الإتيان بالعمل ، لكنه عرفا اما ملازم أو مطابق للتدارك ، فلا يعبر في العرف بالقضاء الا عن العمل الّذي يتدارك به ما فات من المصلحة دون مجرد الإتيان بالعمل ومقتضى ذلك تبعية القضاء للأداء لا عدمها كما ادعاه قدس سره ، إذ لا معنى للتدارك لو كان واجبا مستقلا ذا مصلحة مستقلة أجنبية. فان معنى التدارك بدلية أحد العملين للآخر وكونه عوضا منه ، وهو لا يعم في اختلافهما من حيث المصلحة. فالتدارك ظاهر في ان هذا الفرد تدارك عن الصحة التي كان يلزم ان تكون في الوقت. اما الفوت فهو لا يصدق حقيقة ، إذ الطبيعة لم تفت ، لكنه يصدق مسامحة باعتبار فوت

ص: 510


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 191 - الطبعة الأولى.

الحصة الخاصة ، فيقال ان الطبيعة فاتت في الوقت.

واما الثاني : فينقض عليه بمسألة بيع العبد المكاتب وتخلف الوصف ، فانه يلتزم بصحة البيع وعدم بطلانه ، مع ان العقود تابعة للقصود وما وقع لم يقصد. ومسألة الوقت لو تعذر الموقوف عليهم ، فانه يلاحظ الأقرب مكانا أو نحوه مع انه غير مقصود. يوجه ذلك بان المقصود في معاملة البيع أمران العبد وخصوصية الكتابة بنحو تعدد المطلوب ، فتخلف أحدهما لا يبطل الآخر ، وهكذا في مسألة الوقف. فيمكن ان ندعي ذلك في مسألة النذر ، فنقول : ان النذر وان كان بظاهره متعلقا بالمقيد بما هو مقيد ، لكنه منحل في الحقيقة إلى قصدين نظير العقود. ويظهر ذلك من عدم ظهور السؤال في النصوص عن ثبوت أمر جديد ذي مصلحة مستقلة ، بل عما هو من شأن النذر السابق وتوابعه نفسه ، فالسائل كأنه يسأل الإمام علیه السلام عن النذر هل هو كسائر العقود أو لا؟ ، فالجواب اما ان يكون تخطئة لنظر الناذر ببيان ان الواقع ينحل إلى قصدين ونذرين : أحدهما بذات العمل والثاني بإيقاعه في الوقت الخاصّ. أو يكون حكما تعبديا بالانحلال ، فيكون حاكما على ما هو الظاهر من وحدة القصد والمنذور والظاهر هو الأول ولا ظهور له في الثاني ، ولا أقل من الإجمال فلا دلالة للمورد المذكور على المدعى.

واما الثالث : فالانفكاك ليس في زمان الأمر ، بل في زمان فعلية الأمر ، ففعلية الأمر مقيدة بوقت خاص لا نفس الأمر ، ووحدة الأمر مع تعدد فعليته شيء لا يقبل الإنكار ، نظير ما لو نذر صوم يوم ما أو وجب عليه قضاء يوم ما ، فان فعلية الحكم تكون عند كل فجر مع ان الحكم واحد ، ولا ينشأ عند كل فجر امر كما لا يخفى. فالدليل الدالّ على كون القضاء في الصلاة بعد انتهاء الوقت الّذي هو الإجماع - لو سلم ولم ينكر - ، فغاية ما يقتضي تقييد الدليل الأول في هذه القطعة الزمانية ، فلا يكون الأمر فعليا فيها وان كان موجودا.

ص: 511

والمتحصل : ان ظهور القضاء في التدارك يقتضي التبعية وكون التقييد بنحو تعدد المطلوب وليس فيه إشكال.

الجهة الثالثة : لو شك في كون التقييد بنحو وحدة المطلوب ، فلا يثبت القضاء إلاّ بدليل خاص ، أو تعدده فيثبت بنفس الدليل الأول فما هو مقتضى الأصل؟.

قد يتوهم ان مقتضى الاستصحاب ثبوت القضاء لاستصحاب وجوب العمل الثابت أولا.

لكن نفاه صاحب الكفاية (1) ، ولم يبين وجهه ولعله لأجل وضوحه. فان المعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ، والزمان إذا كان مأخوذا في المتعلق يكون مقوما لا حالة بنظر العرف. بخلاف ما يؤخذ في الموضوع. والمفروض انتفاء الزمان فلا تتحد القضيتان فلا يجري الاستصحاب.

وهذا المعنى يحقق في محله من مسألة الاستصحاب.

وقد أطال المحقق الأصفهاني - هنا - في بيان الاستصحاب فيما نحن فيه بشقوقه من الشخصي والكلي بأقسامه ، وإنكار جميعها ، ثم توجيه الاستصحاب ببعض التوجيهات الراجعة إلى جعل الزمان حالة لا قواما (2). وهو خلاف التحقيق.

ولكن الحق : جريان الاستصحاب في كلي الوجوب المردد بين الوجوب الضمني والنفسيّ الاستقلالي الثابت أولا ، فيكون من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، وذلك بناء على انحلال الأمر بالمشروط لا وحدته الّذي هو مبنى جريان البراءة في الشروط ، فان الوجوب الثابت للعمل بذاته في السابق

ص: 512


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 286 - الطبعة الأولى.

مردد بين الضمني ، بناء على وحدة المطلوب ، والاستقلالي بناء على تعدده. فيستصحب الكلي الثابت أولا ويترتب عليه أثره من الدعوة والتحريك.

الجهة الرابعة : في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، بمعنى انه لو ثبت القضاء وشك في عدم الإتيان بالعمل في الوقت ..

فهل يجري استصحاب عدم الإتيان بالفعل في الوقت وينفع في إثبات القضاء أو لا؟.

الحق هو : انه إذا كان موضوع القضاء عدم الإتيان بالعمل في الوقت ، فيجري الاستصحاب ويثبت به موضوع القضاء مباشرة. واما إذا كان موضوعه امرا وجوديا ملازما لعدم الإتيان ، وهو فوت العمل ، فلا ينفع الاستصحاب ، لأن إثبات الموضوع يكون بالملازمة ، فيكون من الأصول المثبتة كما لا يخفى. وهذا المعنى أشار إليه صاحب الكفاية في ذيل مبحث الإجزاء (1) ، وتعرض إليه المحقق النائيني في هذا المبحث (2) (3) ونحن تعرضنا إليه هنا مع سبق مروره تبعا للمحقق النائيني ، فالتفت.

لفت نظر : لا يخفى ان هذا الترديد لا يتأتى بناء على ان القضاء في مورد ثبوته بالأمر الأول ، إذ الشك في امتثاله يكفي في لزوم الإتيان بالعمل لقاعدة الاشتغال ، مع ان استصحاب عدم الإتيان بالواجب يجري بلا إشكال ، ولا يكون موضوع القضاء هو الفوت أو غيره. فالتفت. وليكن هذا من ثمرات الخلاف في تبعية الأداء للقضاء وعدمها. فتدبر واعلم.

ص: 513


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - 87 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 - 192 - الطبعة الأولى.
3- ظاهر الكفاية وأجود التقريرات : المفروغية عن كون الموضوع هو الفوت ، وانما الكلام في تشخيص مفهومه ، وهل انه امر عدمي أو وجودي؟. فانتبه ( منه عفي عنه ).

ص: 514

فصل : الأمر بالأمر

إذا أمر المولى شخصا بان يأمر آخر بشيء ، فهل يكون ذلك امرا للآخر ، بحيث يجب عليه الإتيان بالشيء مع اطلاعه ولو لم يأمره الواسطة ، أو لا يكون أمرا له؟.

وثمرة ذلك تظهر في موارد من الفقه. ومنها : الأمر بأمر الصبيان بالصلاة كقوله : « مروا صبيانكم بالصلاة » (1) فانه على الأول تثبت مشروعية عبادة الصبي وتعلق الغرض بها ، فتكون مجزية عن الواجب لو صلاّها وبلغ في أثناء الوقت.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل - وهو الحق - بين صورة ما إذا كان الغرض من الأمر بالأمر هو حصول ذلك الشيء ، وليس الغرض من توسيط أمر الغير سوى تبليغ امره كما هو المتعارف في أمر الرّسل بالأمر ، وصورة ما إذا كان الغرض يحصل بنفس الأمر من دون تعلق غرض بالفعل أو مع تعلقه ولكن بقيد تعلق أمر الغير به. فيكون الأمر بالأمر امرا بالشيء في الصورة الأولى ، إذ المفروض علم العبد بكون الفعل متعلق غرض المولى وكون المولى بصدد

ص: 515


1- وسائل الشيعة 3 / 12. باب 3، حديث : 5.

تحصيله ، فيحكم العقل بلزوم الإتيان بالعمل تحصيلا لغرض المولى ويستحق الذم لو ترك. وعدم أمره مباشرة مع تمكنه منه لا يمنع من ذلك بعد صيرورته بصدد تحصيله ، فانه كاف في حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى. واما الصورة الثانية فلا يلزم الإتيان بالعمل قبل أمر الغير ، إذ ليس نفس الفعل محصلا لغرض المولى كي يلزمه الإتيان به بحكم العقل (1).

ص: 516


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فصل : الأمر بعد الأمر

إذا ورد امر بشيء ولم يمتثله العبد فورد أمر آخر بنفس ذلك الشيء ، فهل يلزمه تكرار العمل ، أو يكون الأمر الثاني تأكيدا للأمر الأول؟.

وهذا الشيء كثيرا ما نراه في النصوص والروايات.

وموضوع البحث ما إذا كان المتعلق طبيعة واحدة ولم يذكر لأحدهما أو لكليهما سبب ، وإلا فالظاهر التكرار ، كما لو قال : « إذا جاء زيد فتصدق وإذا جاء عمرو فتصدق » ، أو قال : « تصدق » ثم قال : « إذا جاء عمرو فتصدق ». فالتفت.

وبالجملة : فالأمر الثاني يدور حاله بين التأسيس والتأكيد.

ويقتضي التأكيد إطلاق المادة ، إذ الطلب تأسيسا لا يتعلق بطبيعة واحدة مرتين من دون تقييد ، بل كان متعلق الأول عين متعلق الثاني ، لاستلزامه اجتماع المثلين في واحد.

ويقتضي التأسيس انصراف الهيئة ، فان الظاهر منها هو الطلب التأسيسي.

ومقتضى القاعدة وان كان تقديم الثاني على الأول ، لأن ظهور الأول تعليقي ، والثاني تنجيزي فيرفع موضوع الأول.

ص: 517

لكن مفروض الكلام بنحو لا يكون هناك ظهور انصرافي في التأسيس في نفسه ، فان الظاهر في مثله انصراف التأكيد لا التأسيس. فالتفت. وتدبر واللّه ولي التوفيق.

انتهى مبحث الأوامر تحريرا في يوم 16 - 7 - 86 ه.

ص: 518

الفهرس

ص: 519

ص: 520

الفهرس

الاجزاء... 5

تعريف الأجزاء ... 5

إجزاء الاتيان بالمأمور به بالنسبة إلى امره... 11

جواز تبديل الامتثال بالامتثال... 12

وجوه ثلاثة لجواز الاتيان بالفعل ثانيا بنحو عبادي... 14

إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي... 19

كلام صاحب الكفاية في المقام... 22

توضيح وتوجيه كلام صاحب الكفاية... 25

مناقشة مع صاحب الكفاية... 29

الوجه الثاني في بيان اجزاء الأمر الاضطراري والمناقشة فيه... 31

كلام المحقق النائيني في بيان اجزاء الأمر الاضطراري والمناقشة فيه... 34

الوجه الرابع في بيان اجزاء الأمر الاضطراري ( المختص بالأوامر الضمنية )... 37

الإجزاء من حيث القضاء... 41

إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي... 45

تحديد موضوع البحث... 45

توجيه وتصحيح كلام صاحب الكفاية في إجزاء الأمر الظاهري في بعض الأصول... 47

إيراد المحقق النائيني على كلام صاحب الكفاية والمناقشة فيه... 56

عدم إجزاء الأمر الظاهري الثابت بالامارة... 64

وجوه استدل بها لاجزاء الأمر الظاهري... 68

ص: 521

تصحيح ايراد المحقق النائيني على الكفاية في التزامه بالاجزاء في موارد الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق بناء على السببية 70

توجيه تفصيل صاحب الكفاية بين الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق والقائمة على الحكم 73

مناقشة مع الكفاية في التزام بعدم الاجزاء عند الشك في كون حجية الأمارات بنحو الطريقية أو السببية 75

تنبيهات الاجزاء التنبيه الأول : موضوع الكلام في اجزاء الأمر الظاهري... 81

التنبيه الثاني : عدم ملازمة الاجزاء للتصويب... 82

التنبيه الثالث : اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين... 85

مقدمة الواجب... 95

المباحث التي يبحث عنها في هذا الباب... 95

مسألة مقدمة الواجب مسألة أصولية أم فقهية... 97

مسألة مقدمة الواجب مسألة عقلية أم لفظية... 101

تقسيم المقدمة إلى الداخلية والخارجية... 102

تقسيم المقدمة إلى العقلية والشرعية والعادية... 106

تقسيم المقدمة إلى الصحة والوجود والوجوب والعلم... 107

تقسيم المقدمة إلى المتقدمة والمقارنة والمتأخرة... 108

كلام صاحب الكفاية في تصحيح الشرط المتأخر... 109

مناقشة المحقق النائيني مع صاحب الكفاية في المقام... 113

تحقيق كلام المحقق النائيني وما يدور حوله من كلام... 116

ايراد المحقق الأصفهاني على كلام صاحب الكفاية في المقام والمناقشة فيه... 125

تصحيح المحقق العراقي للشرط المتأخر والمناقشة فيه... 126

اشتراط أمرين في الالتزام بأن الشرط هو العنوان الانتزاعي... 127

هل ان كل قيد أخذ في الخطاب ولم يكن لازم التحصيل لا بد ان يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود 129

ص: 522

تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط... 133

كلام الشيخ في عدم امكان رجوع القيد إلى الهيئة... 135

تحقيق الكلام في معقولية الواجب المشروط... 136

عدم معقولية تعلق الاعتبار بأمر على تقدير... 142

التزام المحقق النائيني برجوع القيد إلى المادة المنتسبة في تصحيح الواجب المشروط... 146

كلام الشيخ في رجوع القيد إلى المادة لبا... 148

تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط... 151

ثمرة الفرق بين اختيار الكفاية واختيار الشيخ في الواجب المشروط... 152

مجازية اطلاق الواجب على الواجب المشروط على رأي صاحب الكفاية... 153

تقسيم الواجب إلى المعلق والمنجز... 154

دعوى المحقق النهاوندي في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 155

دعوى المحقق الأصفهاني في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 159

دعوى المحقق النائيني في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 162

دعوى المحقق الخراساني في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 166

نقوض ثلاثة على دعوى استحالة الواجب المعلق وتمام الكلام فيها... 167

تحديد الوجوب المقدمي والمقدار الواجب من المقدمات... 171

المقدمة المفوتة... 179

موارد وجوب المقدمة قبل ذيها... 179

تصحيح صاحب الكفاية لوجوب المقدمة المفوتة... 180

تصحيح المحقق النائيني لوجوب المقدمة المفوتة... 183

تحقيق الحال في المسألة... 186

حكم التعلم ومعرفة الأحكام... 197

دوران امر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة... 201

دعوى الشيخ في رجحان تقييد المادة على الهيئة... 203

تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري... 212

ص: 523

تعريف الواجب النفسي والغيري... 212

اقتضاء الأصل اللفظي عند دوران الواجب بين النفسي والغيري... 214

اقتضاء الأصل العملي عند دوران الواجب بين النفسي والغيري... 221

استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته... 236

تصحيح عبادية الطهارات الثلاث... 242

اشكالات خمس في عبادية الطهارات الثلاث... 245

وجوه في دفع الاشكالات... 247

مقتضي الأصل العملي عند الشك في اعتبار شئ في الطهارات الثلاث... 264

عدم اعتبار قصد التوصل بالطهارات الثلاث إلى غاياتها في صحتها... 273

تصحيح الاتيان بالوضوء بعد دخول الوقت بداعي الاستحباب... 277

تصحيح الاتيان بالوضوء بقصد التوصل إلى غاية لم يأت بها... 279

فصل : في اعتبار قصد التوصل في الواجب الغيري... 281

اشتراط الايصال في الواجب الغيري ( المقدمة الموصلة )... 289

تحقيق في معقولية القول بالمقدمة الموصلة... 297

عدم اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة... 309

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة... 318

ثمرة القول بوجوب المقدمة... 326

حكم الشك في وجوب المقدمة ( تأسيس الأصل )... 328

أدلة وجوب المقدمة... 331

مقدمة المستحب والحرام والمكروه... 334

مبحث الضد... 339

تعريف الضد والاقتضاء... 339

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص... 340

مقدمية عدم أحد الضدين للضد الآخر... 340

تفصيل في مقدمية عدم الضد بين الضد المعدوم والموجود... 352

مبنى التلازم في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص... 356

ص: 524

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام... 357

ثمرة القول بالاقتضاء... 370

تصحيح الضد العبادي مع قصد الأمر بالضد المزاحم... 374

تصحيح الضد العبادي مع قصد الملاك... 377

تصحيح الضد العبادي بالقول بالترتب... 385

بيان ونقد المقدمات التي أقامها المحقق النائيني لصحة الترتب... 391

البرهان المختار لاثبات الترتب... 413

تقريب المحقق العراقي لصحة الترتب والمناقشة فيه... 420

وجوه الاشكال على الترتب... 422

تنبيهات الترتب... 428

التنبيه الأول : امكان الترتب مساوق لوقوعه... 428

التنبيه الثاني : جريان الترتب في بعض الصدر من الواجبين المتزاحمين... 429

التنبيه الثالث : عدم جريان الترتب بين الواجبين المقيد أحدهما بالقدرة شرعا... 432

التنبيه الرابع : جريان الترتب في الضدين اللذين لهما ثالث... 436

التنبيه الخامس : عدم رفع محذور اجتماع الحكمين من غير التزاحم بالترتب... 440

التنبيه السادس : تزاحم حكمين أحدهما أسبق زمانا من الآخر... 442

التنبيه السابع : جريان الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها... 448

التنبيه الثامن : اجراء الترتب بين التدريجيين... 453

فصل : أمر الأمر مع علمه بانتفاء شرطه... 459

فصل : متعلق الأوامر... 463

التحقيق في أن الأمر متعلق بالفرد أو الطبيعة... 469

فصل : نسخ الوجوب... 479

فصل : حقيقة الوجوب التمييزي... 483

ص: 525

المختار في حقيقة الوجوب التمييزي... 489

التميز بين الأقل والأكثر... 495

فصل : حقيقة الوجوب الكفائي... 497

فصل : الواجب الموسع والمضيق... 505

تبعية القضاء للأداء... 508

فصل : الأمر بالأمر... 515

فصل : الأمر بعد الأمر... 517

الفهرس ... 521

ص: 526

المجلد 3

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 480

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء الثالث

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 3

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

النواهي

اشارة

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

النواهي الكلام في جهات :

الجهة الأولى : في مفاد صيغة النهي ومادّته.

والّذي أفاده صاحب الكفاية عن ذلك : أنّها كصيغة الأمر ومادّته في الدّلالة على الطلب ، والاختلاف بينهما في المتعلّق ، فمتعلّق الأمر هو نفس الفعل ومتعلّق النّهي التّرك ، وإلاّ فالمستفاد من النهي والأمر مادّة وصيغة شيء واحد وهو الطلب ، ومن هنا اعتبر في صدق النّهي ما اعتبره في صدق الأمر من لزوم صدوره من العالي (1).

ولكن هذا الرّأي لم يتّفق عليه الأعلام ، بل خالفه بعضهم فذهب إلى اختلاف النّهي بمادّته وصيغته مع الأمر مفهوما ، وان ما ذهب إليه صاحب الكفاية يتنافى مع الوجدان لوجهين :

الأوّل : انتقاضه ببعض الواجبات المطلوب فيها التّرك كالصّوم ، مع أنّها لا تعدّ من المحرّمات بل من الواجبات.

الثّاني : إنّ مراجعة الوجدان تشهد أنّ النّهي ينشأ عن مفسدة في الفعل يكون بها مبغوضا للمولى ومتعلّقا لكراهته فيزجر عبده عنه ، فواقع النهي يختلف

ص: 5


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عن واقع الأمر ، فانه كراهة الفعل والأمر إرادة الفعل ، كما أنّ المنشأ في النّهي هو الزّجر عن الفعل والمنشأ في الأمر طلبه والبعث إليه فيختلف الأمر والنّهي مفهوما مادّة وصيغة ، ومتعلّقهما واحد وهو الفعل (1).

والتّحقيق : موافقة صاحب الكفاية في ما ذهب إليه من الرّأي.

والّذي ندّعيه : أنّ المنشأ في مورد النّهي ليس إلاّ البعث نحو التّرك مع الالتزام بأنّ مفهوم النّهي يساوق عرفا مفهوم المنع والزّجر لا البعث والطّلب.

والوجه فيما ادّعيناه : هو أنّ التكليف أعمّ من الوجوب والتّحريم - على جميع المباني في حقيقته - إنّما هو لجعل الدّاعي وللتحريك نحو المتعلّق بحيث يصدر المتعلّق عن إرادة المكلّف ، ومن الواضح أنّ ما يقصد إعمال الإرادة فيه في باب النّهي هو التّرك وعدم الفعل ولا نظر إلى إعمال الإرادة في الفعل كما لا يخفى جدّاً ، وهذا يقتضي أن يكون المولى في مقام تحريك المكلّف نحو ما يتعلّق به اختياره وهو التّرك ، ويكون في مقام جعل ما يكون سببا لاعمال إرادة المكلّف في التّرك ، فواقع النّهي ليس إلاّ هذا المعنى وهو قصد المولى وإرادته تحريك المكلّف وإعمال إرادته في التّرك.

وهذا كما يمكن أن ينشأ بمدلوله المطابقي وهو طلب الترك ، كذلك يمكن أن ينشأ بمدلوله الالتزامي وهو الانزجار عن الفعل فانّه لازم إرادة ترك العمل ، وهو في باب النّهي منشأ بمدلوله الالتزامي بعكسه في باب الأمر فانّه منشأ بمدلوله المطابقي ، فالمنشأ في باب النّهي إرادة الترك بمفهوم المنع والنّهي ، وليس المنشأ هو نفس المنع عن الفعل ، لأنّه غير المقصود الأولي وأجنبي عمّا عليه واقع المولى.

وأمّا دعوى : أنه ليس في الواقع سوى كراهة الفعل تبعا لوجود المفسدة

ص: 6


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 327 هامش رقم 2 - الطبعة الأولى.

فيه دون إرادة التّرك. فهي باطلة ، فانه كما هناك كراهة للفعل كذلك هناك إرادة ومحبوبيّة للتّرك ، ويشهد لذلك الأفعال المبغوضة بالبغض الشّديد ، فانّ تعلّق المحبوبيّة بتركها ظاهر واضح لا إنكار فيه كمحبوبيّة الصحة التي هي في الحقيقة عدم المرض ونحو ذلك.

وأمّا تمييز الواجب عن الحرام فليس الضّابط فيه ما هو المنشأ وما هو متعلّق الإرادة أو الكراهة ، بل الضّابط فيه ملاحظة ما فيه المفسدة والمصلحة ، فان كان الفعل ذا مفسدة كان حراما وإن كان المنشأ طلب الترك ، وان كانت المصلحة في الفعل أو في الترك كان الفعل أو الترك واجبا ، ومثل الصّوم تكون المصلحة في نفس التّرك فيكون واجبا.

وبالجملة : فما ذكر من الوجهين لا ينهض لإنكار رأي صاحب الكفاية ، فهو المتّجه لما عرفت من البرهان عليه.

الجهة الثانية : في البحث عن أنّ متعلّق الطلب في النّهي هل هو التّرك وعدم الفعل ، أو الكفّ الّذي هو إيجاد ما يكون سببا في المنع عن تأثير الرغبة في الفعل عند حدوث الميل إليه؟ ، وهذا المعنى يمكن أن يحرّر بنحوين :

النّحو الأوّل : ما ذكره في الكفاية من : أنّ متعلّق الطلب في باب النّهي هل هو التّرك أو الكفّ لأجل انّ التّرك غير اختياري فانّ الإرادة انما تؤثر في الفعل لا في عدمه ، فان العدم ينشأ من عدم إرادة الوجود لا إرادة العدم.

والجواب عن هذا الإشكال : ما أشار إليه في الكفاية من : أنّ القدرة على الفعل تعني القدرة على التّرك ، فانّ معنى كون الشّيء مقدورا هو كون كل من وجوده وعدمه تحت حيز الإمكان والاختيار ، وإلاّ فلو لم يكن العدم مقدورا لم يكن الفعل كذلك ، بل كان امّا ضروريا أو ممتنعا ، وكل من الحالتين خلف (1).

ص: 7


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يبقى سؤال وهو : أنّ هذا المعنى انّما يستلزم إمكان تعلّق النّهي بالتّرك لا تعيينه ، فما هو الوجه في اختيار تعلقه بالترك دون الكفّ؟.

والجواب عنه واضح : فان تعلّقه بالتّرك لا يحتاج إلى برهان فانّه ما تقتضيه القاعدة ، والالتزام بتعلّقه بالكفّ من جهة الالتزام بامتناع تعلّقه بالتّرك ، فلا محيص عنه ، فإذا ثبت جوازه تعين بلا إشكال.

اما انّ ذلك مقتضى القاعدة ، فلأجل انّ التّكليف إذا كان يرتبط بالأمور الخارجية لترتّب المصلحة والمفسدة عليها ، فلا وجه لتعلّقه بأمر نفسي ، بل هو يتعلّق رأسا بأمر خارجي من فعل أو ترك ، ولأجل ذلك لم يتوهّم متوهّم أنّ الأمر متعلّق بإرادة الفعل لا بنفسه إذ لا معنى له ، والمفروض معقوليّة تعلّقه بالفعل نفسه. فالتفت.

النّحو الثانيّ : انّ متعلق النهي وإن كان هو التّرك ، لكنه هل هو مطلق التّرك أو انّه ترك خاص وهو المساوق لصورة الكفّ؟ والوجه في هذا الكلام هو انّ النّهي انّما هو لجعل الدّاعي نحو الترك ، وهذا انّما يتعقّل في صورة وجود المقتضي للفعل ، بحيث يكون المكلّف في مقام العمل فينهى ، امّا إذا لم يكن في مقام العمل فلا معنى للنهي عنه لتحقّق الانتهاء والانزجار في نفسه بدون نهي فيكون النّهي لغوا. وهذا المعنى تظهر ثمرته في مورد العلم الإجمالي الّذي يكون أحد طرفيه مصروف النّظر عنه بالمرّة ، فانّه لا يكون منجّزا على هذا الرّأي ، فينحصر النّهي بصورة الكفّ قهرا وإن تعلق بالتّرك. وحلّ هذا الإشكال أو إقراره ليس محله هنا ، بل له مقام آخر وانّما كان قصدنا الإشارة إليه فالتفت.

الجهة الثالثة : في اتّفاق كيفية امتثال النهي والأمر أو اختلافهما.

وتوضيح الحال : انّ هناك شيئا ملحوظا يختلف فيه النّهي والأمر ، وهو : انّ الأمر إذا تعلّق بطبيعة يكتفي في امتثاله بإتيان فرد واحد ، بخلاف النّهي فانّه إذا تعلّق بطبيعة فلا يمثل إلاّ بترك جميع افرادها ، وقد اختلف في بيان الوجه في ذلك.

ص: 8

فذهب صاحب الكفاية رحمه اللّه إلى : انّ هذا الاختلاف يرجع إلى حكم العقل في مقام الامتثال ، حيث انّ المطلوب في باب الأمر إيجاد الطّبيعة ، وهو يتحقق بإيجاد فرد منها ، لأن وجود الفرد وجود للطّبيعة ، والمطلوب في باب النّهي ترك الطّبيعة وهو لا يتحقق إلاّ بترك جميع الافراد ، إذ مع وجود أيّ فرد توجد الطّبيعة فلا يتحقق التّرك المطلوب (1).

وقد ناقش في هذا المفاد المحقّق الأصفهاني ببيان إليك نصّه (2) : « لا يخفى عليك انّ الطّبيعة توجد بوجودات متعدّدة ولكلّ وجود وعدم هو بديله ونقيضه ، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطّبيعة المهملة الّتي كان النّظر مقصورا على ذاتها وذاتيّاتها فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ونتيجة المهملة جزئية ، فكما ان مثل هذه الطبيعة تتحقق بوجود واحد كذلك عدم مثلها ، وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطّبيعة بنحو الكثرة ، فلكلّ وجود منها عدم هو بديله ، فهناك وجودات وإعدام. وقد يلاحظ الوجود بنحو السّعة أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذّ عنه وجود - يعني بنحو العموم المجموعي - ، فيقابله عدم مثله ، وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثّرة ، أي الطبيعيّ العدم بحيث لا يشذّ عنه عدم ، ولا يعقل ان يلاحظ الوجود المضاف إلى الماهيّة على نحو يتحقّق بفرد ما ، فيكون عدم البديل له بحيث لا يكون إلا بعدم الماهيّة بجميع افرادها. واما ما يتوهّم من ملاحظة الوجود بنحو آخر غير ما ذكر ، وهو ناقض العدم الكلّي وطارد العدم الأزليّ بحيث ينطبق على أوّل الوجودات - ويعبّر عنه بصرف الوجود - ، ونقيضه عدم ناقض العدم ، وهو بقاء العدم الكلّي على حاله ، فلازم مثل هذا الوجود تحقّق الطبيعة بفرد ، ولازم نقيضه انتفاء الطّبيعة بانتفاء جميع افرادها

ص: 9


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- ذكرنا ما ينصه ، لوضوحه فلا يحتاج إلى توضيح. ( منه عفي عنه ).

فمدفوع : بأنّ طارد العدم الكلّي لا مطابق له في الخارج ، لأنّ كل وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره ، فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم ، ونقيضه عدم هذا الأوّل ، ولازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الاعدام على حالها ، فانّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثّاني والثّالث وهكذا لا انّه عينها ، فما اشتهر من ان تحقّق الطّبيعة بتحقّق فرد وانتفائها بانتفاء جميع افرادها لا أصل له ، حيث لا مقابلة بين الطّبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها ، والطّبيعة على نحو تنتفي بانتفاء جميع افرادها ... ». انتهى (1).

أقول : يمكن أن يدّعى ان نظر صاحب الكفاية إلى اختلاف الأمر والنّهي في مقام الامتثال بحسب القضيّة العقليّة فيما إذا كان متعلّق كلّ منهما صرف الوجود ، فهو يذهب إلى ان الأمر إذا تعلق بصرف وجود الطّبيعة فيكتفى في امتثاله بإتيان فرد واحد لتحقّق صرف الوجود به. وامّا النّهي فانّه إذا تعلّق بصرف وجود الطّبيعة فلا يتحقّق امتثاله إلاّ بترك جميع افرادها ، إذ المنهيّ عنه إيجاد أوّل وجود الطّبيعة ، وتركه لا يتحقّق إلاّ بترك جميع الأفراد ، إذ أي فرد يوجد فهو أوّل وجودها فلا بدّ من تركه حتّى يتحقّق امتثال النّهي وهذا المعنى اعترف به المحقّق الأصفهاني رحمه اللّه في كلامه أخيرا كما لا يخفى على الملاحظ ، لكنّه ناقشه بان عدم صرف الوجود ملازم لترك جميع الافراد لا انه عينها ، وهذه مناقشة لفظيّة ترجع إلى التخطئة في التّعبير لا المدّعي من أنّ امتثال النّهي لا يتحقّق إلاّ بترك جميع افرادها بمقتضى حكم العقل ، إذ عرفت انّ الزّجر عن صرف الوجود والنّهي عن تحقيقه لا يمتثل إلاّ بترك جميع الافراد ، إذ كلّ فرد يفرض وجوده يكون أوّل الوجود وينطبق عليه عنوان صرف الوجود وقد عرفت النّهي عنه. فما ذكره صاحب الكفاية لا إشكال فيه.

ص: 10


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 260 - الطبعة الأولى.

وقد يتخيّل : أنّ ما أفاده في الكفاية انّما يتمّ لو كان النّهي عبارة عن الزّجر عن الفعل ، إذ يقال انّ متعلّقه صرف الوجود. امّا بناء على انّ النّهي عبارة عن طلب التّرك - الّذي عليه صاحب الكفاية وهو المختار - فلا يتمّ ما ذكر ، إذ متعلّق الطلب هو صرف ترك الفعل ، وهو كصرف الوجود يتحقّق بأوّل ترك فلا يتوقف امتثال النهي على ترك جميع الافراد لتحقق صرف الترك بدونه (1).

ولكن هذا التخيل فاسد ، فان النّهي وان كان بواقعه عبارة عن طلب التّرك ، إلاّ انّك عرفت انّ هذا الواقع يبيّن وينشأ بمفهوم الزّجر عن الفعل للملازمة بينهما.

وعليه ، فالمنشأ هو طلب التّرك الّذي يكون لازم الزّجر عن الفعل ، وهو ليس صرف وجود التّرك بل جميع التّروك.

وبالجملة : ما يقصد إنشاؤه وهو لازم المعنى المطابقي للفظ الّذي هو الزجر والمنع عن صرف وجود الفعل ، وقد عرفت ان لازمه هو جميع التروك لا صرف الترك ، فالمنشأ هو طلب جميع التروك لا طلب صرف الترك.

فالمتحصّل : ان النهي لا يكون امتثاله إلا بترك جميع الافراد ، سواء قلنا انه واقعا طلب الترك أو انه الزجر عن الفعل. فافهم جيّدا وتدبّر فان المقام لا يخلو عن دقّة.

ثمّ ان صاحب الكفاية أشار في ضمن كلامه وبقوله : « ومن ذلك يظهر ان الدوام والاستمرار انما يكون ... إلى آخره » (2) إلى شيء :

وهو : ان الجزم بتوقّف امتثال النهي على ترك جميع الافراد انما يكون بإحراز كون مدخول النهي هو الطبيعة المطلقة ، وذلك انما يكون بإجراء مقدمات

ص: 11


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه4/ 90 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الحكمة فيها كي يثبت إرادة الإطلاق منها ، إذ لو كانت مقيّدة بزمان خاصّ اقتضى النهي ترك جميع افراد الطبيعة المقيدة ، كما انه لو لم يكن المقام مقام بيان كان المقصود مهملا ولا يثبت لزوم ترك جميع الافراد لعدم إحراز المقصود بالطبيعة.

وبالجملة : القضية العقلية في النهي مفادها لزوم ترك جميع افراد ما أريد من المدخول. امّا إحراز المقصود بالمدخول وانه الطبيعة المطلقة أو غيرها فهو أجنبي عن مفاد القضية العقلية ، بل إحراز الإطلاق لا بدّ له من دالّ آخر وهو مقدّمات الحكمة.

وهذا المعنى تنبيه على اندفاع ما يتوهّم أو يقال من : ان النكرة إذا وقعت في سياق النفي أو النهي تفيد العموم لحكم العقل بذلك ، بحيث جعل منشأ استفادة الإطلاق والعموم من الطبيعة المدخولة للنهي هو حكم العقل المزبور ومفاد القضيّة العقليّة. ولا يخفى ترتب الأثر على هذا الاختلاف في الرّأي في مسألة تعارض دليل النهي مع دليل آخر يتكفّل بيان مفاده بمقتضى الوضع لا الإطلاق. نظير العموم الوضعي ، فانه بناء على ان إطلاق الطبيعة في مورد النهي يستفاد من مقدّمات الحكمة يكون الدليل الآخر مقدما على دليل النهي ، لتقدّم الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي كما تقرّر في محلّه ، من جهة ان الأول تنجيزي والثاني تعليقي. واما بناء على ان إطلاق الطبيعة في مورد النهي يستفاد بحكم العقل تعارض الدليلان ، ولم يقدّم الدليل الآخر على دليل النهي لكون ظهور كلّ منهما تنجيزي فتدبر.

الجهة الرابعة : في النهي لو خولف وأتي بالعمل المنهي عنه ، فهل مقتضاه استمرار النهي بعد المخالفة أو لا؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى عدم دلالة النهي على إرادة الترك لو خولف ، ولا على عدم إرادته ، بل لا بد في إحراز ذلك من دلالة أخرى ، ولو كانت إطلاق

ص: 12

المتعلّق من هذه الجهة ، يعني التمسك بإطلاق المتعلّق من جهة العصيان ، فيقال ان مقتضاه ثبوت النهي له مطلقا عصي النهي أو لم يعص. ويكون مقتضى هذا الإطلاق ثبوت النهي وتعلّقه بالفعل بنحو العموم الاستغراقي ، فينحلّ إلى افراد متعددة بتعدد افراد الفعل ، فإذا عصي أحدها بقي الآخر على حاله (1).

ويدور حول مطلب الكفاية تساؤلان :

أحدهما : انه ذكر في صدر المبحث ان متعلّق النهي صرف الوجود والمطلوب ترك صرف الوجود ، ومن الواضح ان صرف الوجود قسيم لجميع الوجودات ، فكيف يتصوّر ان يكون متعلق النهي جميع الوجودات المستلزم للانحلال ، بخلاف الأوّل فانه يستلزم وحدة النهي ، لعدم التعدّد في صرف الوجود فإذا حصل سقط النهي لا محالة؟.

والآخر : ان الاستغراق لا يثبت بالإطلاق بنظر صاحب الكفاية فانه يذهب إلى ان استفادة هذه الخصوصيّات من الاستغراق أو البدليّة أو غيرهما تنشأ من قرينة خاصّة في المقام ، وليست هي مفاد الإطلاق ، فانّ مفاد مقدّمات الحكمة ليس إلا إرادة ذات الطبيعة من غير تقييد ، فلاحظ مبحث المطلق والمقيّد من الكفاية (2).

وعليه ، فكيف يحاول قدس سره إثبات الاستغراق في النهي بإطلاق المتعلّق؟. والتساؤل الثاني حق لا نعرف له جوابا. لكن الأوّل تمكنا الإجابة عنه : بأنه لم يفرض في صدر المبحث كون متعلّق النهي صرف الوجود ، وانما بحثه ثبوتي تقديري ، ومرجعه إلى انه لو كان متعلّق النهي صرف الوجود كمتعلّق الأمر كانت قضية امتثالهما عقلا مختلفة ، ونظره في قوله : « ثمّ انه لا دلالة ... » (3) إلى تحقيق

ص: 13


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /150- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /247- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مقام الإثبات ومعرفة ما هو مفاد دليل النهي ، وانه هل هو متعلّق بصرف الوجود أو بجميع الوجودات أو مجموعها؟ فتدبّر.

وتحقيق المقام : ان المتعيّن هو الالتزام باستمرار النهي وعدم سقوطه بالمخالفة ، وذلك لوجود القرينة العامّة على ذلك ، وهي كون النهي ناشئا عن مفسدة في متعلّقه. ومن الواضح ترتّب المفسدة نوعا على كلّ فرد من افراد الفعل لا على مجرّد صرف وجوده أو مجموع الافراد. فكلّ فرد يقصد تركه ، فإذا لم يترك أحد الافراد لزم ترك غيره لوجود المفسدة فيه.

وبالجملة : هذه القرينة تعيّن احتمال الاستغراق والانحلال في النهي ، وتنفي سائر الاحتمالات ، فهي بضميمة الإطلاق تثبت المدّعي.

وقد استدلّ السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في حاشيته على أجود التقريرات بهذا البيان على : ان امتثال النهي لا يكون إلا بترك جميع الافراد ، وهذا الشيء هو الفارق بين الأمر والنهي (1).

ومن الواضح انّه خلط بين الجهتين الثالثة والرابعة ، إذ عرفت ارتباط هذا البيان بالجهة الرابعة من الكلام دون الثالثة ، فان ملاكها يختلف عن هذا البيان على ما عرفت.

ثمّ ان للمحقّق النائيني قدس سره بيانا طويلا تكفل تقسيم النهي ، وانه تارة يتعلق بترك الطبيعة بنحو المعنى الاسمي. وأخرى يتعلق بترك الافراد ويلزمه ترك الطبيعة ، والثمرة في انّه لو خالف على الأوّل يسقط النهي بخلاف الثاني لانحلال الحكم ، ثم رجّح انه بالنحو الثاني ، وتعرض بعد ذلك إلى بيان ان انحلال النهي بالنسبة إلى الافراد الطوليّة يكون بأحد وجهين. ثم اختار الثاني منهما إثباتا (2).

ص: 14


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 328 [ هامش رقم 1 ] - الطبعة الأولى.
2- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 329 - الطبعة الأولى.

وبما ان في كلامه جهات من الإشكال ، كالتفرقة بين الافراد العرضيّة والطولية وغيرها ، ولأجل ان التعرّض لها مفصّلا يطيل المقام من دون أثر عملي مهمّ ، اكتفينا بالإشارة إلى كلامه وانه غير خال عن الإشكال فانتبه.

ص: 15

ص: 16

« اجتماع الأمر والنّهي »

ويقع الكلام قبل الخوض في أصل المبحث في جهات عديدة :

الجهة الأولى : فيما هو المناسب جعله عنوان البحث : وقد ورد في كلمات المتقدمين بهذا النحو : « هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين أولا؟ » تبعهم صاحب الكفاية (1) ، وناقشه المحقق النائيني وذهب إلى ان الأنسب تغييره وجعله بهذا النحو : « الأمر والنهي المتعلّقان بشيئين متّحدين خارجا وجودا وإيجادا هل يسري أحدهما إلى متعلق الآخر أو لا؟ » (2).

والّذي يقتضيه الإنصاف صحة عنوان البحث بالنحو المشهور ، وأولويّته من النحو الّذي عنونه به المحقق النائيني. فلنا دعويان :

الأولى : صحّة عنوان البحث بالنحو المشهور. فان ما ذكره من الإشكال فيه بأنه : « يوهم ان القائل بالجواز لا يعترف بتضاد الحكمين ، فلذا يقول بجواز اجتماعهما مع ان الأمر ليس كذلك ، بل هو يدعي عدم لزوم الاجتماع مع اتحاد المتعلقين خارجا ، لا انه يدعي جوازه بعد تسليمه الاجتماع ، إذ استحالة الاجتماع

ص: 17


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /150- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 331 - الطبعة الأولى.

بعد وضوح التّضاد بين الحكمين ممّا لا تكاد تخفى » (1).

من دفع : ان اجتماع الشيئين المتنافيين في شيء واحد قد يكون على نحوين أحدهما ممتنع والآخر جائز ، مثال ذلك : إذا كان في الدار نار في طرف وماء في طرف آخر ، فانه يصدق اجتماع النار والماء في الدار حقيقة ومن دون مسامحة وهو جائز لا امتناع فيه ، كما ان اجتماعهما في نقطة واحدة من الدار يستلزم صدق اجتماعهما في الدار حقيقة ولكنّه ممتنع ، فاجتماع النار والماء في الدار يتصوّر على نحوين أحدهما ممتنع والآخر جائز.

وعليه فالبحث في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وعدمه لا يرجع إلى الالتزام بعدم تضادّ الحكمين ، بل مرجعه إلى ان متعلّق الأمر والنهي في الحقيقة واحد فيمتنع اجتماعهما لأنه من قبيل الاجتماع النار والماء في نقطة واحدة ، أو ان المتعلق متعدّد فيجوز اجتماعهما في ذلك الواحد ، لأنه من قبيل النار والماء في نقطتين.

وبالجملة : فيصح ان يبحث في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين وعدمه ، ويكون منشأ الخلاف هو ان هذا الواحد ذي الوجهين واحد حقيقة أو متعدّد ، فيمتنع اجتماعهما فيه على الأول ويجوز على الثاني من دون إيهام رجوعه إلى إنكار تضاد الحكمين.

الثانية : أولويّة عنوان المشهور من عنوانه قدس سره .

والوجه فيها : ان المحقّق النائيني وغيره يخرج في بحثه عن العنوان بالنحو الّذي حرّره ، فانه ركز البحث في ان الجهتين تقييديتان ، فيكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي أو تعليليتان فيتّحد متعلّق الأمر والنهي ، فالبحث أساسه في هذه الصغرى وعليه بني السراية وعدمها ، وإلاّ فهو لم يبحث أصلا فيما هو

ص: 18


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 331 - الطبعة الأولى.

عنوان البحث.

الجهة الثانية : في بيان المراد بالواحد في عنوان النزاع.

إذ قد يتساءل بان المراد منه إذا كان الواحد الشخصيّ خرج الواحد الجنسي ، كالصلاة والغصب ، فانهما واحد جنسا وهو الحركة. ولا وجه لخروجه ، إذ النزاع يقع فيه بلا كلام ، وإذا كان المراد منه ما يعمّ الواحد الجنسي دخل في محل النزاع ، مثل السجود لله والسجود للصنم ، لأنهما يندرجان تحت كلي السجود ، مع انه لا نزاع فيه ولا إشكال في ان الأوّل متعلّق الأمر والثاني متعلّق النهي في آن واحد.

وللإجابة عن هذا التساؤل يرجع إلى ما أفاده صاحب الكفاية في بيان المراد بالواحدة من : ان المراد منه هو الواحد في الوجود سواء كان واحدا شخصيّا أو واحدا جنسيا كالصلاة والغصب المتحدين في الوجود فيخرج مثل السجود لله والسجود للصنم ، لأنهما متعددان وجودا وان اتّحدا جنسا ، ولا يكاد يكون وجود واحد للسجود يضاف إلى كليهما معا على ان يكون كلّ منهما متفرّدا بالإضافة ، لا ان يكون بنحو التشريك كما لا يخفى (1).

ولكن يتوجه على ما ذكره صاحب الكفاية : انه لا يمكن ان يفرض الواحد في موضوع النزاع هو الواحد في الوجود ، إذ ان القول بالامتناع يبتني على وحدة الوجود والقول بالجواز يبتني على تعدّده ، فكيف يفرض إرادة الواحد في الوجود في العنوان الّذي يكون موضوع النفي والإثبات وموضوع القول بالجواز والقول بعدمه؟!.

وقد التزم المحقق النائيني قدس سره : بان المراد بالواحد الواحد في الإيجاد ، وهو لا يستلزم وحدة الوجود ، إذ يمكن ان يتحقّق وجودان بإيجاد واحد ،

ص: 19


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /150- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كإيجاد الحركة الغصبية الصلاتية ، فانه يحقّق وجود الصلاة ووجود الغصب ، فيقع البحث في انه في مورد يوجد متعلق الأمر والنهي بإيجاد واحد ، هل الوجود واحد فيمتنع الاجتماع أو متعدّد فيجوز؟ (1).

ويتوجّه عليه : ما تقرر في محله من وحدة الإيجاد والوجود ذاتا واختلافهما اعتبارا ، فيمتنع ان يفرض وحدة الإيجاد وتعدّد الوجود.

فالمتّجه : الالتزام بان المراد بالواحد هو الواحد في الوجود ، لكنّه ما كان كذلك بحسب الصورة والنّظر العرفي ، وأساس البحث يكون في ان هذا الواحد في الوجود عرفا هل هو كذلك حقيقة ، فيمتنع اجتماع الأمر والنّهي فيه أو انه متعدّد حقيقة فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيه؟. فالقول بالجواز وان كان منشؤه الالتزام بتعدّد الوجود ، لكنّه لا يتنافى مع فرض وحدة الوجود في موضوع البحث ومدار النفي والإثبات ، فان التعدّد بحسب الدّقة لا ينافي الوحدة بحسب الصّورة والنّظر العرفي. فتدبّر جيّدا.

الجهة الثالثة : في بيان جهة الفرق بين هذه المسألة ومسألة استلزام النهي للفساد.

والّذي أفاده في الكفاية ان الاختلاف بينهما باختلاف جهة البحث في كل من المسألتين ، فان البحث في مسألة استلزام النهي للفساد عن ان تعلّق النّهي بالعمل هل يقتضي فساده أو لا؟ والبحث في هذه المسألة عن ان تعدّد العنوان هل يوجب تعدد المعنون فلا يسري كل من الحكمين إلى متعلق الآخر أو انه لا يوجب فيكون متعلق كل منهما واحدا؟ فلا جهة جامعة بين جهتي البحث في المسألتين ، نعم لو بني على الامتناع وتقديم جانب الحرمة كان المورد من صغريات تلك المسألة.

ص: 20


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 340 - الطبعة الأولى.

ثم انه نقل وجهين آخرين للفرق :

أحدهما : ما في الفصول من بيان ان جهة الفرق هي الاختلاف الموضوعي بينهما ، فموضوع كل منهما غير موضوع الأخرى (1).

وناقشه قدس سره : بان اختلاف الموضوع لا يوجب تعدّد المسألة مع وحدة الجهة ، ومع تعدّدها تعدد المسألة وان اتّحد الموضوع.

ثانيهما : ما ذكر من ان الفارق كون البحث هنا عقليا وفي تلك المسألة عن دلالة اللفظ.

وناقشه : بان البحث في تلك المسألة عقلي أيضا ، مع ان هذا الاختلاف لا يستلزم عقد مسألتين ، لأنه تفصيل في المسألة الواحدة كما نراه في بعض المسائل (2).

ولا يخفى : ان هذه الجهة من البحث وبعض الجهات التالية التي ذكرها في الكفاية لا يترتب على تحقيقها أثر عملي ، ولأجل ذلك أهملنا فيها ذكر المناقشات ، بل نقتصر فيها وفي غيرها على مطلب الكفاية والإشارة إلى جهات الإشكال الواضحة فيه. فانتبه.

الجهة الرابعة : في ان المسألة أصولية أو لا؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى كونها أصولية : لأنها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، وانها كما تشتمل على جهة المسألة الأصوليّة تشتمل على جهة المسألة الكلامية والفقهية والمبادئ التصديقية (3).

والّذي يبدو للنظر انها غير أصولية ، إذ احتمالاتها ثلاثة وكلّ منها لا يقع في طريق استنباط الحكم مباشرة ولا يكون كبرى لقياس الاستنباط ، وذلك لأنه

ص: 21


1- الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /140- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /151- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /152- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اما ان يلتزم بالامتناع لأجل التضاد ، فيقع التعارض بين الدليلين. واما ان يلتزم بالجواز من هذه الجهة لكن يمتنع اجتماع الحكمين لأجل التزاحم ، فتكون النتيجة عدم جواز التمسك بكلا إطلاقي الدليلين ولا بدّ من تقييد أحدهما. واما ان يلتزم بالجواز من كلتا الجهتين ، فتكون النتيجة جواز التمسك بكلا الإطلاقين من دون تقييد أحدهما.

وبالجملة : البحث من هذه الجهة يرتبط بمسألة التزاحم ، فهي على بعض الاحتمالات من المبادئ التصديقيّة لمسألة التعارض ، وعلى الاحتمالات الأخرى من المبادئ التصديقية لمسألة التزاحم.

الجهة الخامسة : في كون المسألة عقليّة.

وهذا واضح ، إذ لا يرتبط باللفظ ، فانّه ليس هناك ما يدلّ على الجواز وعدمه بل تشخيص أحدهما ممّا يحكم فيه العقل.

واما ذهاب البعض إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ، فهو لا يعني دلالة اللفظ على الامتناع ، بل مرجعه إلى ان الواحد بالنظر العقلي اثنان ، وبالنظر العرفي المسامحي واحد ذو وجهين ، هذا ما أفاده صاحب الكفاية ثمّ قال : « غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع » (1).

أقول : لا يظهر الوجه في قوله هذا ، فانه ان أراد وجود لفظ مخصوص يدلّ على عدم الوقوع فهو واضح البطلان ، إذ لا وجود لمثل هذا اللفظ كما لا وجود للفظ الدال على الامتناع. وان أراد عدم شمول الإطلاقين للمورد لوحدته بنظر العرف ، فغايته عدم الدلالة على الوقوع لا الدلالة على عدم الوقوع فالتفت.

الجهة السادسة : لا يخفى ان الكلام في اجتماع الأمر والنهي يعمّ جميع

ص: 22


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /152- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أقسام الوجوب والتحريم لعموم ملاكه ، وتأتي النقض والإبرام في جميع الأقسام.

وقد ذكر ذلك صاحب الكفاية ، كما تعرّض إلى أنه قد يدّعى انصراف لفظ الأمر والنهي المأخوذين في عنوان المبحث إلى خصوص النفسيين التعيينيين العينيين ثم حكم عليها بأنها دعوى تعسفية في مادة الأمر والنهي ، نعم هي غير بعيدة في صيغة الأمر والنّهي ، ثمّ منعها فيها أيضا وذكر ان الثابت ظهور الصيغة في ذلك بالإطلاق وهو غير منعقد هنا لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة ، إذ القرينة على العموم ثابتة وهي عموم الملاك وجريان النقض والإبرام في جميع الأقسام (1).

أقول : ظاهر كلامه الأخير ان إطلاق المادّة يقتضي في نفسه إرادة الوجوب النفسيّ التعييني العيني لو لا قيام القرينة على الخلاف ، إذ جعل المانع عدم تماميّة المقدّمات باعتبار وجود القرينة بحيث لولاها لالتزم بإرادة خصوص النفسيّ التعييني العيني.

وهو - مضافا إلى منافاته لما في صدر كلامه من ان قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنهي العموم - باطل ، فان إطلاق المادّة في نفسه لا يقتضي خصوص نحو من الوجوب ، وانما ذلك ثابت في إطلاق الصيغة. والسّر فيه : ان مادّة الأمر تارة تستعمل في مقام الإنشاء وأخرى في مقام الاخبار. والالتزام بأنها تدلّ على الطلب النفسيّ التعييني العيني بمقتضى الإطلاق إذا كانت مستعملة في مقام الإنشاء لا يلازم الالتزام بان مقتضاه ذلك في باب الاخبار ، إذ ليس المقصود في باب الإنشاء إلاّ إيجاد فرد من افراد الوجوب ، وقد عرفت فيما تقدّم ان مقتضى الإطلاق يلازم إرادة النفسيّ التعييني العيني. اما باب الإخبار فيمكن أن يقصد الحكم على الطبيعة بلحاظ جميع افرادها - كما فيما نحن فيه - ، فمع عدم القرينة يحمل الكلام على إرادة جميع الأفراد ، كما هو الحال في سائر الألفاظ الموضوعة للطبائع

ص: 23


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /152- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فتدبّر.

الجهة السّابعة : في أخذ قيد المندوحة.

ذكر صاحب الكفاية قدس سره : ان البعض قيد عنوان النزاع بوجود المندوحة ، إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا إشكال في الامتناع ولا خلاف. ومحل الخلاف مورد وجود المندوحة. وذكر انه ربما قيل ان إطلاق العنوان وعدم تقييده انما هو لأجل وضوح ذلك.

ولكنّه لم يرتض ذلك ، فقد أفاد قدس سره : ان المهمّ في المقام هو بيان ان هل يلزم اجتماع الحكمين المتضادّين الّذي هو محال أو لا يلزم المحال؟ وعمدته معرفة ان تعدّد الوجه يجدي في تعدّد ذي الوجه فلا يلزم المحال أو لا فيلزم المحال؟. ومن الواضح ان هذا المعنى لا يختلف الحال فيه بين وجود المندوحة وعدم وجودها كما لا يخفى. نعم ، وجود المندوحة دخيل في الحكم الفعلي بالجواز عند من يرى امتناع التكليف بالمحال كما قد تعتبر بعض الشروط الأخرى (1).

وقد أورد المحقّق الأصفهاني على صاحب الكفاية إيرادين :

الأوّل : ان حيثيّة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدمه ليست حيثية تقييدية لعنوان النزاع من الجواز وعدمه ، كي يدعى عدم احتياج تقييد العنوان بوجود المندوحة ، إذ لا دخل له فيما هو محلّ النزاع من الجواز وعدمه من جهة التضادّ وعدمه ، وانما هي جهة تعليلية للعنوان ، فنفس العنوان هو البحث في الجواز وعدمه بقول مطلق ، فيحتاج إلى تقييده بوجود المندوحة. ولا وجه لجعل البحث جهتيا بعد عدم مساعدة العنوان عليه.

الثاني : ان الغرض الأصولي انما يترتب على الجواز الفعلي - إذ البحث الأصولي ليس كمباحث الفلسفة يكون الغرض منه نفس العلم والمعرفة من دون

ص: 24


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /153- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لحاظ ترتب أثر عملي عليه - ، فلا بدّ على هذا من تعميم البحث وإثبات الجواز من جميع الوجوه اللازمة من تعلّق الأمر والنهي بواحد ذي وجهين من تضادّ ومزاحمة ، لا الوجوه المعارضة اتّفاقا ، فلا وجه لقياس عدم المندوحة بغيرها من الجهات الاتفاقيّة المانعة من الحكم بالجواز فعلا.

ثم انه ذكر - بعد ذلك - وجها لإنكار لزوم التقييد بالمندوحة ، وإليك نصّه : « انه لو كان تعدّد الوجه مجديا في تعدّد المعنون لكان مجديا في التقرب به من حيث رجحانه في نفسه ، فان عدم المندوحة يمنع عن الأمر لعدم القدرة على الامتثال ، ولا يمنع من الرجحان الذاتي الصالح للتقرّب به ، فكما ان تعدّد الجهة يكفي من حيث التضاد كذلك يكفي من حيث ترتّب الثمرة ، وهي صحّة الصلاة فلا موجب للتقييد بعدم المندوحة لا على القول بالتضادّ ، لما عرفت من لكفاية الاستحالة من جهة التّضاد في عدم الصحّة ، ولا على القول بعدم التضادّ ، لما عرفت من كفاية تعدد الجهة من حيث التقرب أيضا » (1).

وتحقيق الحال : انه إن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي من جهة التضاد لوحدة الوجود ، فلا أثر لوجود المندوحة وعدمها في ذلك وهكذا لو قيل بالجواز من جهة التضادّ باعتبار تعدّد الوجود ، فانّه لا دخل للمندوحة فيه أيضا.

وحينئذ لو قلنا بعدم الجواز للتزاحم في مقام الامتثال ، فبما ان الملاك موجود والمرتفع هو الأمر فقط ، فان قيل بكفاية قصد الملاك في حصول التقرب ، فلا دخل للمندوحة وعدمها في صحة العبادة ، وان لم يلتزم بكفاية الملاك باعتبار وحدة الإيجاد وان تعدّد الوجود ، فلا يختلف الحال أيضا.

وحينئذ فان التزم بما التزم به المحقّق الكركي رحمه اللّه من إمكان الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة ، كان لوجود المندوحة أثر ظاهر ، إذ

ص: 25


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 264 - الطبعة الأولى.

مع عدمها لا أمر بالطبيعة كي يقصد لانحصارها بالفرد المزاحم.

وهكذا يختلف الحال لو التزم بما التزم به بعض المتأخّرين من عدم التزاحم بين الموسّع والمضيق (1) - خلافا لما هو المعروف بين المتقدّمين ، فان مثالهم للتزاحم غالبا ما يكون بتزاحم الأمر بالصلاة والأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، مع انّهما من الموسّع والمضيق - ، إذ مع وجود المندوحة لا يتحقّق التزاحم ، ومع عدمها يقع التزاحم لعدم كون الأمر أمرا بالموسّع ، بل بخصوص الفرد المزاحم لانحصار الواجب به.

فظهر ممّا ذكرنا ان التقييد بالمندوحة انما يظهر أثره على الوجهين الأخيرين ، فأثره على الوجه الّذي تبنّاه الكركي تصحيح العبادة بقصد الأمر ، وعلى الوجه الآخر تعلّق الأمر بها واجتماعه مع النهي لعدم التزاحم. وهذان الوجهان خصوصا الأخير ممّا لا أثر لهما في كلمات الأقدمين ، فكيف يفرض أخذ المندوحة في عنوان النزاع الّذي نحن فيه وكون إهماله اعتمادا على وضوحه؟!. فالحقّ إذن في جانب الكفاية ، ولكن بالبيان الّذي ذكرناه لا ببيانه المزبور ، فانّه لا يخلو عن مناقشة كما عرفت.

الجهة الثامنة : في بيان ارتباط المسألة بمسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد.

ذكر صاحب الكفاية رحمه اللّه : انه قد ادعي انه لا نزاع على القول بتعلّق الأحكام بالافراد. وانما النزاع يبتني على الالتزام بتعلّقها بالطبائع. كما انه ادّعى بان القول بالجواز يبتني على الالتزام بتعلّق الأحكام بالطبائع والقول بالامتناع يبتني على الالتزام بتعلقها بالافراد. ومنشأ كلا الدعويين ان الفرد عبارة عن الوجود الواحد الشخصي. ومن الواضح ان تعلّق الحكمين بواحد شخصي

ص: 26


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 65 - الطبعة الأولى.

محال ، لأنه من اجتماع الضدّين.

ولكن استشكل في ذلك صاحب الكفاية ، فأفاد : ان أساس النزاع على ان تعدد الوجه يكفي في رفع الغائلة أو لا؟. فمع الالتزام بكفايته وانه يستلزم تعدّد المعنون ، فمتعلّق الحكم وان كان هو الفرد بهذا المعنى إلاّ انه حيث كان ذا وجهين كان مجمعا لفردين من طبيعتين ، أحدهما متعلّق الأمر والآخر متعلّق النهي ، فلا يلزم اجتماع الضدّين. ومع الالتزام بعدم كفايته وانه لا يستلزم تعدّد المعنون ، فالاجتماع محال حتى على القول بتعلّقه بالطبيعة ، لأن وجود كل من الطبيعتين عين وجود الأخرى ، والمطلوب هو وجود الطبيعة - كما تقدّم - فيلتزم اجتماع الأمر والنهي في واحد وهو محال (1).

وقد قرّبت الدعوى المزبورة بنحو يتّفق مع مسلك صاحب الكفاية من الفرد ، وهو الطبيعة المقيّدة بلوازمها من زمان ومكان ونحوهما. بيان ذلك ، ان الأمر إذا فرض تعلّقه بالفرد ، فهو يعني تعلّقه بالطبيعة مع عوارضها اللازمة ، فيكون تقيّدها بالمكان متعلّقا للأمر ، وهذا ينافي مع تعلّق النهي به - في مثل الصلاة في المكان المغصوب - لأنه يلزم تعلّق الحكمين في شيء واحد لوجه واحد.

وأجيب عن هذا الإشكال : بان الفرد عبارة عن الطبيعة مقيدة بكلي المكان وكلي الزمان ونحوهما ، لا بخصوص هذا المكان ونحوه ، فهذا المكان الخاصّ لم يتعلّق به الأمر. ولو أنكر ذلك بدعوى ان كلّي المكان لا يوجب التفرد ، فان ضم كلي إلى كلي لا يستلزم الفرديّة وان أوجب تضييق دائرة الصدق. فنقول : ان الفرد وان كان عبارة عن الطبيعة مقيّدة بالمكان الخاصّ ، لكن القيد ذات المكان لا بعنوان انه غصب - مثلا - ، فهو مأمور به بعنوان انه لازم الطبيعة ، ومنهي عنه باعتبار انه غصب ، فيكون من اجتماع الأمر والنهي في واحد بوجهين وهو

ص: 27


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /154- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

محلّ الكلام (1).

وأنت خبير انه كان على صاحب الكفاية ان يقرّب الدعوى على هذا المسلك ، لأنه مسلكه لا على تقريب الفرد بما اخترناه سابقا من انه وجود الطبيعة بملاحظة جهة الخصوصية التي بها يباين غيره. وعلى أيّ حال فقد عرفت بطلان الدعوى على كلا المسلكين. فالتفت.

الجهة التاسعة : فيما يرتبط بملاك باب الاجتماع.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان المورد لا يكون من موارد اجتماع الأمر والنهي إلا إذا كان في كل من متعلّقي الأمر والنهي مناط الحكم مطلقا حتى في مورد التصادق.

والوجه فيه هو : ان أحكام باب الاجتماع لا تترتّب إلاّ في مورد وجود الملاكين ، وهي الحكم فعلا بكونه محكوما بكلا الحكمين بناء على الجواز ، وبكونه محكوما بما هو أقوى مناطا من الحكمين ، أو بحكم آخر غيرهما لو تساوى المناطان ، بناء على الامتناع. ولو لم يكن في المورد مناط كلا الحكمين فلا يكون من باب الاجتماع ، ولأجل ذلك لا تترتّب أحكامه ، بل يكون محكوما بأحد الحكمين إذا كان له مناطه ، أو بغيرهما إذا لم يكن لكلا الحكمين مناط سواء قيل بالامتناع أو الجواز. هذا فيما يرجع إلى مقام الثبوت اما مقام الإثبات فإذا أحرز ان المناط من قبيل الثاني - يعني لم يكن لكلا الحكمين مناط - فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان ، فالمحكم حينئذ قواعد المعارضة من ترجيح أو تخيير. وان لم يحرز ذلك ، بل أحرز وجود الملاكين ، فلا يكون تعارض ، بل يكون المورد من موارد تزاحم المقتضيين. فالمقدّم هو الأقوى منهما ولو كان أضعف دليلا. نعم ، إذا كان كلّ منهما متكفّلا للحكم الفعلي كانت المعارضة ثابتة ، فلا بد من

ص: 28


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 265 - الطبعة الأولى.

ملاحظة قواعد المعارضة ، إلاّ إذا جمع بينهما عرفا بحمل أحدهما - وهو الأضعف ملاكا - على بيان الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة.

ثم انه قدس سره تعرّض في الأمر التاسع لبيان كيفيّة إحراز الملاك ، فأفاد قدس سره : انه لو كان هناك دليل خاص على ثبوت الملاك من إجماع أو غيره فهو. ولو لم يكن سوى إطلاق دليلي الحكمين فان كان الإطلاق لبيان الحكم الاقتضائي لكان دليلا على ثبوت المقتضي في مورد الاجتماع فيكون المورد من باب الاجتماع. وان كان لبيان الحكم الفعلي فان قيل بجواز اجتماع الأمر والنهي فيستكشف ثبوت المقتضي في الحكمين إلا إذا علم إجمالا يكذب أحد الدليلين ، فيكونان متعارضين. وان قيل بالامتناع فالإطلاقان متنافيان من دون ان تكون لهما دلالة على ثبوت مقتضى الحكمين ، لأن ارتفاع أحد الحكمين كما يمكن ان يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي كذلك يمكن ان يكون لأجل عدم المقتضي ، إلاّ ان يجمع بينهما بما تقدمت الإشارة إليه. ثم قال : « فتلخّص انه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع وكلما لم يكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقا ... » (1).

هذا كلامه قدس سره في الأمرين الثامن والتاسع.

وقد تخيل البعض - كما كنّا نتخيل سابقا - انه حدّد بذلك ضابط باب التزاحم ، وانه بنظره المورد الّذي يكون فيه ملاكا الحكمين موجودين ، ونسب إليه ذلك فقيل ان التزاحم على رأيه تنافي الحكمين مع وجود ملاكيهما (2).

إلا ان الّذي يبدو لنا فعلا ان كلامه غير ظاهر في ذلك أصلا ، إذ لم يرد في كلامه ما يشير إلى التزاحم سوى قوله : « تزاحم المقتضيين » ، وهو غير ظاهر في

ص: 29


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /154- 156 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه4/ 203 - الطبعة الأولى.

ما نسب إليه ، فانه لا ظهور له في اعتبار وجود الملاكين في التزاحم ، وقد عبر في غير هذا الموضع بتحقق التزاحم بين الحكمين ، فلا دليل على تخصيصه مورد التزاحم بمورد وجود المقتضيين ووقوع التزاحم بينهما.

وعلى كلّ فنقول : ان قصد ذلك - أعني تحديد باب التزاحم - فهو ينافى ما فرضه من كون بعض صور المقام من موارد التعارض وهي صورة كون الدليلين لبيان الحكم الفعلي. وان لم يقصد ذلك ، بل كان نظره إلى تحديد مسألة الاجتماع ، فيكون اعتباره وجود الملاك في كون المورد من موارد باب الاجتماع ، كاعتبار المندوحة في محلّ النزاع من قبل بعض ، وهو غير وجيه لأن وجود الملاك وعدمه أجنبي أيضا عن الحكم بالجواز أو الامتناع لأجل التضادّ.

كما ان الأثر العملي لا يتوقف ترتّبه على ذلك ، إذ على القول بالجواز لا يلزم لأجل الحكم بثبوت الحكمين فعلا إحراز الملاك ، بل إطلاق الدليلين يكفى في ذلك. ومنه يستكشف ثبوت الملاك - كما صرّح به هو قدس سره -. وعلى القول بالامتناع لا ملزم لترتيب ما ذكره من الأثر المتوقّف على إحراز الملاك.

فليكن المقام من موارد التعارض لو لم يكن الملاك ثابتا.

ثم انه يرد عليه أيضا : انه ذكر في صدر كلامه انه ان أحرز عدم وجود الملاك في أحد الحكمين كان المورد من موارد التعارض ، وان لم يحرز ذلك كان من موارد تزاحم المقتضيين. وذكر في ذيل كلامه بقوله : « فتلخّص ... » هذا المعنى بنحو عكسي ، إذ ذكر انه كلّما أحرز وجود الملاكين كان المورد من موارد باب الاجتماع ، وكلّما لم يحرز ذلك كان من باب التعارض فالتفت.

ثم ان في كلامه بعض موارد للبحث والنقض والإبرام نتعرّض إليها بعد حين إن شاء اللّه تعالى. وحيث جرى حديث ضابط التزاحم والتعارض فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى تحديد ضابط التزاحم وتمييزه عن التعارض فنقول ومن اللّه نستمد العون :

ص: 30

« ضابط التزاحم »

أن من تعرّض لهذا البحث مفصّلا وخاض في شئونه هو المحقّق النائيني قدس سره .

ولأجل ذلك نتعرّض لكلامه وإبداء رأينا فيه.

فقد أفاد قدس سره : ان التزاحم تارة : يكون في الملاك ، بمعنى ان يكون في فعل واحد جهة توجب وجوبه وأخرى توجب حرمته. وأخرى : يكون في مقام الامتثال وتأثير كلا الحكمين في مرحلة الداعويّة الفعليّة.

وذكر : ان الفرق بين الأوّل والثّاني يرجع إلى ان التزاحم في مقام الملاك يرتبط بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الأخرى ، وملاحظة حصول الكسر والانكسار بينهما ، ولأجل ذلك يكون هذا الأمر بيد نفس المولى ولا يرتبط بعلم المكلّف وجهله بخلاف التزاحم في مقام الامتثال فانه يرجع إلى عالم الامتثال بعد جعل الحكم على موضوعه ولأجل ذلك يكون تعيين الوظيفة بيد المكلّف ، فهو الّذي يعيّن وظيفته بمقتضى عقله وإدراكه من ترجيح أو تخيير.

وقد أفاد قدس سره : ان محلّ الكلام هو التزاحم في مقام الامتثال دون التزاحم في مقام الملاك ، وان وقع الاشتباه بينهما لأجل الاشتراك في الاسم.

ثمّ شرع قدس سره في المطلوب من بيان الفرق بين التزاحم

ص: 31

والتعارض فذكر : ان الفرق بين البابين كبعد المشرقين ، ولأجل ذلك كان البحث في ان الأصل عند الشكّ في كون مورد من موارد التزاحم أو موارد التعارض ، هل هو التزاحم أو التعارض؟. ناشئ عن الخلط بينهما وعدم ملاحظة جهة الفرق بينهما ، فانه كالبحث في حصول أصل في الأشياء هل هو الطهارة أو بطلان بيع الفضولي ، فان باب التزاحم يفترق عن باب التعارض من وجوه ثلاثة توجب حصول الفصل البعيد بينهما وهي : افتراقه عنه في مورد التصادم ، وفي الحاكم بالترجيح أو التخيير ، وفي جهة التقديم.

اما افتراقهما في مورد التصادم فبيانه : ان التنافي بين الحكمين :

تارة : يكون في مقام الجعل والإنشاء بحيث كان من المحال جعل كلا الحكمين كالحكمين المتضادين في المورد الواحد ، فانه لا يمكن جعل الوجوب والحرمة على فعل واحد.

وأخرى : يكون في مقام الفعليّة ، بان لا يكون هناك مانع من جعل كلا الحكمين على موضوعهما المقدّر ، إلاّ ان التمانع يكون في مقام فعلية هذين الحكمين وتحقّق موضوعيهما ، كالتمانع الحاصل بين الحكمين الثابتين على موضوعين إذا لم يمكن امتثالهما معا ، كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الغريق.

فالنحو الأوّل من التنافي هو التعارض والنحو الثاني هو التزاحم.

ونكتة الفرق بينهما ترجع إلى ان ثبوت أحد الحكمين المتنافيين بالنحو الأول يستلزم تضييق دائرة جعل الحكم الآخر ، فمثلا لو ورد وجوب إكرام العالم وحرمة إكرام الهاشميّ ، فاجتمع الوصفان في شخص ، فانه يمتنع ثبوت الحكمين له ويستحيل شمول جعلهما لمورد التصادق فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما في ثبوت الآخر ، فتضيق دائرة جعله.

وأمّا ثبوت أحد الحكمين المتنافيين بالنّحو الثاني ، فهو لا يلزم منه تضييق دائرة جعل الآخر ، بل دائرة جعله على حالها لا يمسّها شيء ، وانما يكون نفى

ص: 32

ثبوت الآخر لانتفاء موضوعه لا لتضييق دائرة جعله.

بيان ذلك : ان التنافي في مقام الفعليّة والامتثال حيث فرض لأجل التنافي في تحقّق موضوع كلا الحكمين ، بمعنى ان امتثال أحدهما يستلزم ارتفاع موضوع الآخر ، فلا محالة يكون تقديم أحدهما ومتابعته موجبا لنفي الآخر ، ولكنه ينتفي لعدم موضوعه من دون ان تتضيق دائرة جعله ، وهي جعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده.

فمثلا إذا تزاحم وجوبا إنقاذ الغريقين ، فان إنقاذ أحدهما يستلزم ارتفاع القدرة عن إنقاذ الآخر ، فيرتفع الحكم لكن لأجل عدم موضوعه ، اما أصل الجعل وهو جعل وجوب إنقاذ كل غريق فلم يمسّ بشيء بل هو على حاله.

ومن الواضح أيضا ان الحكم لا نظر له إلى موضوعه لا حدوثا ولا بقاء ، فما يوجب رفع موضوع الحكم لا يتنافى مع الحكم وكيفيّة جعله.

وعليه ، فإذا قدّم أحد الحكمين - في مسألة الغريقين - وكان موجبا لرفع موضوع الغير لم يناف الحكم الآخر ، إذ الحكم الآخر لو كان في هذا الحال ناظرا إلى متعلّقه وداعيا إليه لكان مستلزما للنظر إلى حفظ موضوعه ، لأن دعوته إلى متعلّقه وصرف القدرة فيه ملازمة لدعوته إلى عدم صرف القدرة في متعلّق الآخر الملازم لحفظ موضوعه بقاء ، لأن صرف القدرة في متعلّق الآخر ترفع موضوعه على ما عرفت. وقد عرفت ان الحكم لا ينظر إلى موضوعه بقاء وحدوثا.

وبالجملة : فعدم تحقّق الحكمين في الفرض لأجل عدم تحقّق موضوعيهما معا لا لأجل قصور جعلهما ، وكلّ من الحكمين لا يتنافى مع الآخر ، لأنه وان استلزم ارتفاعه لكن لأجل انه استلزم ارتفاع موضوعه ، فدائرة جعل كلّ منهما على حاله والتنافي في مقام الفعلية وثبوت الحكم لموضوعه المقدّر ، لأن كلا منهما يستلزم نفي الآخر بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة مع وجود الموضوع كما هو الحال في التعارض.

ص: 33

فأساس نكتة التزاحم هي استلزام كل من الحكمين رفع موضوع الآخر ، مع كون الحكم لا نظر له إلى إبقاء موضوع نفسه ، فلا يتنافى كل حكم مع ما يستلزم رفع موضوعه ، وعليه فإذا قدّم أحدهما لا يكون الآخر داعيا إلى صرف القدرة في متعلّقه لأنه يستلزم نظره إلى حفظ موضوعه وهو خلف.

هذا تقريب ما أفاده المحقّق النائيني في بيان جهة التنافي في باب التزاحم (1).

وقد ظهر أنه لا تنافي في مقام الجعل ولا المجعول.

فلا وجه لما قرّب بعضهم كلامه قدس سره من : ان التعارض هو التنافي في مقام الجعل ، والتزاحم هو التنافي في المجعول. وأورد عليه : بعدم الفرق بين مقامي الجعل والمجعول إذ عرفت انه لا تنافي بين الحكمين أصلا لأن أحدهما يرفع موضوع الآخر فلا تنافي إلا بمعنى عدم إمكان اجتماعهما في عرض واحد ، لا ان أحدهما ينفي الآخر ويرفعه ، فان كلا منهما لا نظر له إلى الآخر نفسه بل إلى موضوعه.

هذا ولكنّ الإنصاف يقتضي ان المنافاة بين الحكمين في مورد التزاحم تسري إلى عالم الجعل كالتعارض.

وامّا ما أفاده قدس سره فهو مخدوش فان أساسه كما عرفت على ان كلا من الحكمين يرفع موضوع الآخر بضميمة ان الحكم لا نظر له إلى حفظ موضوعه وإبقائه فلا منافاة بينهما. وهذا ممّا لا نقرّه ولا نعترف به.

بيان ذلك : ان عدم إمكان نظر الحكم إلى موضوعه حدوثا وبقاء لم يرد في آية أو رواية كي يتمسك بعمومها أو إطلاقها. ونظر الحكم إلى حفظ موضوعه ثابت في بعض الموارد نظير لزوم حفظ الماء للوضوء الّذي ينظر إليه الأمر

ص: 34


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 270 - الطبعة الأولى.

بالوضوء مع ان الماء موضوع وجوب الوضوء.

وهذا ممّا لا إشكال فيه. ولو سلّم عدم جواز نظر الحكم إلى موضوعه ، فما نحن فيه مستثنى عن هذه القاعدة الكليّة ، لأن موضوع الحكم فيه بنحو ينظر إليه الحكم.

وذلك لأن الحكم يدعو إلى متعلّقه ويطالب بصرف القدرة فيه ، فتأثيره في صرف القدرة مما لا إشكال فيه ، فيمنع قهرا عن صرفها في متعلّق الحكم الآخر - لغرض ان القدرة واحدة - فيحتفظ بموضوعه. فكلا الحكمين ينظر إلى صرفهما في متعلّقه وهو ملازم للاحتفاظ بموضوعه ، لأن صرفها في غيره يقتضي إعدام موضوعه. فنظر الحكم إلى موضوعه فيما نحن فيه من جهة اقتضائه الدعوة إلى متعلّقه وهو امر لازم لكلّ حكم.

وإذا ثبت ان كلا من الحكمين يقتضي صرف القدرة في متعلّقه ، والمفروض ان القدرة واحدة فلا يتمكن العبد من امتثال كلا الحكمين.

وعليه فيمتنع جعل كلا الحكمين ، فان التكليف بالمحال محال في نفسه ، لأن حقيقة الحكم والتكليف بنحو لا بد من إمكان ترتّب الداعويّة عليه ، سواء قلنا انه عبارة عمّا يقتضي تحريك إرادة العبد - نظير ماكنة السّاعة - ، ولذا كان أخذ القدرة في موضوعه لأجل اقتضاء التكليف له لا بحكم العقل ، أو قلنا انه عبارة عن امر اعتباري لأجل داعويّة المكلّف نحو العمل ، أو انه جعل الفعل في العهدة ، فان إمكان الداعويّة مأخوذ في قوامه على الأوّل ومن لوازمه على الثاني بحيث يكون عدمه كاشفا عن عدم الحكم ، وهكذا على الثالث ، لأن القائل به لا يلتزم بان حقيقة الحكم التكليفي كالحكم الوضعي بلا اختلاف ، بل يرى الفرق بينهما في ان الغرض من الحكم التكليفي إمكان الداعوية وتحريك العبد نحو العمل. وعليه ففي المورد الّذي لا يمكن ان يترتب على الجعل الدعوة والتحريك لا يكون المجعول هو الحكم ، إذ الحكم ما يمكن ان يكون داعيا.

ص: 35

وعليه ، فاعتبار القدرة في متعلّق الحكم انما هو لأجل استحالة تحقق الحكم بدونها لا لأجل لغويته وقبحه من الحكيم فقط ، كما هو المشتهر على الألسنة وفي الكتب.

وإذا ثبتت محالية التكليف بغير المقدور في نفسه ، فإذا امتنع امتثال كلا الحكمين لعدم القدرة على متعلقيهما امتنع جعلهما لا محالة لامتناع المجعول ، إذ يمتنع ثبوت الحكمين بعد ان لا يمكن تحقّق داعويّتهما معا. فتتضيق دائرة جعل أحدهما قهرا.

بل لو التزمنا بان امتناع التكليف بغير المقدور لأجل لغويته وقبحه على الحكيم كان الأمر كذلك ، إذ يمتنع ثبوت كلا الحكمين لعدم القدرة على متعلقيهما ، فثبوتهما معا لغو قبيح على الحكيم. فلا بد من رفع اليد عن أحدهما فتتضيق دائرة الجعل في أحدهما ، فيكون التنافي في مقام الجعل ، بمعنى انه يمتنع جعل كلا الحكمين المتزاحمين كما يمتنع جعل الحكمين في مقام التعارض فتدبّر جيّدا.

ومن هنا يتّضح انه لا فرق في امتناع جعل مثل هذين الحكمين بين ما إذا كان إنشاؤهما بدليل عام أو دليل خاص.

فانه قد ادعي : عدم امتناع الأوّل ، مثل ما إذا قال : « أنقذ كل غريق ، ولا تغصب » ، فتوقف إنقاذ بعض الغرقى على الغصب فانه لا مانع من جعل هذين الحكمين في تلك الحال. بخلاف ما إذا قال في تلك الحال : « أنقذ هذا الغريق ولا تغصب هذا المكان » ، فانه لغو فيكون محالا.

ولا يخفى ما في هذه الدعوى ، فانه إذا كان جعل هذين الحكمين محالا لأنه لغو أو لأنه محال في نفسه ، فشمول الدليل العام لهذه الصورة بحيث يكون الجعل فيها متحقّقا لغو أيضا فيكون ممتنعا. وبعبارة أخرى : عموم الدليل لا يرفع اللغويّة في هذه الصورة ، فإرادتها تكون ممتنعة بنفس الملاك الّذي يمتنع فيه الجعل

ص: 36

بدليل خاص. فتدبّر.

فظهر ممّا تقدم ان ما أفاده قدس سره لا يخلو عن خدشة ، فان أساسه - وهو عدم نظر الحكم إلى موضوعه حدوثا وبقاء ، مع كون كل من الحكمين رافعا لموضوع الآخر - ممنوع ، إذ عرفت ان الحكم يمكن ان ينظر إلى موضوعه وبالخصوص فيما نحن فيه هذا أوّلا.

وثانيا : ان إعدام موضوع الحكم على قسمين : قسم يكون جائزا ، نظير السفر في رمضان الرافع لموضوع وجوب الصوم فانه لا مانع منه. وقسم لا يكون جائزا ، نظير رمي الإنسان نفسه من شاهق ، فانه بالرمي يرتفع اختياره عن السقوط على الأرض والموت ، فلا يكون قادرا على حفظ نفسه مع أنه غير جائز.

فإعدام الموضوع ليس بجائز دائما بل هو جائز في بعض صوره وغير جائز في صور أخرى.

وعليه ، فامتثال أحد الحكمين وان كان رافعا لموضوع الآخر ، إلا انه لا بدّ من إيقاع البحث عن ان رفع موضوع الحكم الآخر جائز أو لا؟ وما هو السّر في جوازه. فالبحث لا بد ان يكون في مرتبة سابقة على إعدامه بحيث يكون عدمه جائزا فلا يتنافى الرافع مع الحكم الآخر.

وثالثا : انه قدس سره أفاد كما عليه غيره : انه لا علاج للتزاحم وهذا التنافي المقرّر إلاّ بتقييد أحد الحكمين بترك امتثال الآخر أو عصيانه ، وهو المصطلح عليه في هذا الفنّ بالترتب. ومن الواضح ان التقييد المزبور يرجع إلى تضييق دائرة الجعل والإنشاء ، فيكشف عن كون التنافي في مقام الجعل ، وإلاّ لم يكن وجه للتصرف فيه بعد ان كان التنافي في مقام غيره.

ولعلّ السّر في اختياره قدس سره الفرق بين المقامين بالنحو المتقدّم هو انه لا إشكال في وجود الفارق بين المقامين في نظر كل مكلّف ، فالمكلّف يجد فرقا بين ما إذا قال له المولى : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم الفسّاق » وتردد

ص: 37

في حكم المولى في العالم الفاسق انه الأول أو الثاني. وما إذا قال له : « كلما جاءك زيد فأعطه درهما ». وقال له : « كلما جاءك عمرو فأعطه درهما » فجاءا معا ولم يكن لديه سوى درهم واحد. ووجود الفرق بين المثالين مما لا ينكره أحد فأراد تحديده بما عرفت الخدشة فيه.

ويمكننا ان نحدّد باب التزاحم بلحاظ هذين المثالين ، بأنه المورد الّذي يكون التنافي فيه بين الحكمين من جهة عدم التمكن من امتثالهما وعدم القدرة عليه ، بحيث لا يرى المكلف مانعا من ثبوت كل من الحكمين سوى وجود الحكم الآخر وداعويته إلى امتثال متعلّقه المانع من امتثال ذلك الحكم ، وإلاّ فالمقتضي لكلا الحكمين موجود بنظره ولا نقصد بالمقتضي المصلحة أو المفسدة كي يرد انه تخصيص للبحث على رأي العدليّة ، بل مقصودنا ما يكون منشأ للحكم ولو كان هو الإرادة أو الكراهية ، فان الحكم لا يتحقق من دون منشأ وبنحو جزاف حتى على رأي الأشاعرة. ولعلنا نتوفّق إلى توضيح هذا الاختيار فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ ان هذا التزاحم المبحوث عنه هل يختصّ بصورة توارد الحكمين على موضوعين ، أو يعمّ صورة تواردهما على موضوع واحد ، كما لو اشتمل الفعل على جهة توجب وجوبه وجهة توجب حرمته؟.

ذهب المحقّق النائيني قدس سره إلى اختصاصه بالصورة الأولى دون الثانية وهي التي عبّر عنها بالتزاحم في مقام الملاك - على ما تقدّم في صدر الكلام - ووجه خروجها عن محل البحث بوجهين :

أحدهما : ان علاج التزاحم في هذه الصورة يرتبط بالمولى نفسه ويكون بيده ، لأنه يرتبط بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الأخرى وملاحظة حصول الكسر والانكسار بينهما ولا يرتبط بحكم العبد نفسه.

وثانيهما : انه يبتني على قول العدليّة بضرورة وجود الملاك للحكم ، مع ان

ص: 38

التزاحم المبحوث عنه لا يختص البحث عنه بطائفة دون أخرى ولا يبتني على رأي دون آخر ، فكما نبحث على رأي العدليّة نبحث على رأي الأشاعرة أيضا (1).

وفي كلا الوجهين نظر ..

اما الأوّل : فلان علاج التزاحم في صورة توارد الحكمين على موضوعين بيد المولى أيضا ، والعقل طريق لتشخيص ما يحكم به المولى في هذه الصورة ، فليس العقل هو المرجّح لأحد الحكمين على الآخر ، بل هو يستكشف رجحان أحدهما عند المولى فلا فرق بين الصورتين من هذه الجهة.

واما الثاني : فلأنه إنما يتم لو أريد بالملاك المصلحة والمفسدة ، فان الأشاعرة ينكرون ضرورة وجودها ، ولكن المراد ليس ذلك ، بل المراد ما يكون منشأ للحكم وهو الإرادة والكراهة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة وهو ممّا لا ينكره الأشعري كما عرفت.

هذا ولكن التحقيق خروج هذه الصورة عن موضوع البحث ، إلاّ انه ليس لما أفاده المحقّق النائيني قدس سره ، إذ عرفت ما فيه ، بل لوجه آخر توضيحه : ان لفظ التزاحم لم يرد في آية أو رواية كي يبحث في تحقيق معنونه العرفي ، وانما هو اصطلاح أصولي يطلقه الأصوليّون على بعض موارد تنافي الحكمين بلحاظ ترتّب آثار خاصة فيها ، فلتحديد مورد تلك الآثار وتمييزه عن غيره من موارد تنافي الحكمين وفصله عنه يعبر عنه بالتزاحم إشارة إليه.

وهذه الآثار هي تقديم الأهمّ أمّا بنحو الترتب - لو قيل بإمكانه - أو بدونه. والتخيير مع عدم الأهمّ ، بمعنى الإلزام بأحدهما بنحو التخيير نظير الواجب التخييري ، بمعنى ان أحدهما يكون واجبا بنحو التخيير لا التعيين.

ص: 39


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 283 - الطبعة الأولى.

وهذه الآثار لا تترتب فيما نحن فيه.

إذ الترتب فيه ممتنع عند من يلتزم بإمكانه في غيره ، لما تقدم من أن ترك الأهم - في هذه الصورة - مساوق الإتيان المهمّ ، فيمتنع الأمر به حينئذ. مضافا إلى امتناع اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد في آن واحد عند من يرى تضاد الأحكام في أنفسها لا من جهة عدم القدرة على امتثالها.

واما التخيير ، فهو انما يكون بملاك التساوي بين الحكمين ملاكا.

ومن الواضح ان المقصود بالملاك هاهنا ليس هو الملاك الملزم فعلا ، إذ يمتنع ان يجتمع ملاكا الحكمين في شيء واحد مع كونهما ملزمين معا ، فلا يتصور التزاحم بينهما حينئذ وانما المقصود الملاك الملزم لو لا المانع. وعليه فلا بد من إعمال الكسر والانكسار بينهما والحكم بالغالب منهما ان كان المقدار الزائد فيه ملزما ، ومع التساوي فالحكم هو التخيير ، بمعنى الإباحة وعدم الإلزام بأحدهما لا بمعنى الإلزام بأحدهما بنحو التخيير. فالتخيير الثابت هنا غير التخيير الثابت في موارد التزاحم. فخروج هذه الصورة عن موضوع الكلام لأجل هذا الوجه. فالتفت جيّدا.

ثمّ انه قدس سره ذكر : ان التزاحم في مقام الامتثال يكون في الغالب من جهة عدم القدرة على الإتيان بكلا المتعلّقين ، وقد يكون من جهة أخرى غير عدم القدرة.

اما ما كان منشؤه عدم القدرة فله صور خمس :

الأولى : ما إذا كان عدم القدرة اتفاقيّا ، كما إذا تزاحم وجوبا إنقاذ الغريقين لو لم يتمكن المكلّف من إنقاذهما معا.

الثانية : ما إذا كان عدم القدرة لأجل التضادّ الاتفاقي بين الواجبين. اما إذا كان التضادّ بينهما دائميّا فدليلاهما متعارضان.

الثالثة : موارد اجتماع الأمر والنهي في ما إذا كانت هناك ماهيّتان

ص: 40

متّحدتان في الخارج كالصلاة والغصب بناء على عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخّصاتها. اما إذا كانت ماهيّة واحدة كإكرام العالم الفاسق المنطبق عليه إكرام العالم المحكوم بالوجوب وإكرام الفاسق المحكوم بالحرمة كان الموارد من موارد التعارض.

الرابعة : ما إذا كان الحرام مقدّمة لواجب ، فيما إذا لم تكن المقدميّة دائمية ، نظير توقف إنقاذ الغريق على الغصب. اما إذا كانت المقدّمية دائميّة كان المورد من موارد التعارض.

الخامسة : ما إذا كان الحرام والواجب متلازمين من باب الاتفاق كالتلازم بين استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق ، فيقع التزاحم بينهما لو كان أحدهما واجبا والآخر حراما واما لو كان التلازم دائميّا وقع التعارض بين دليلي الحكمين.

واما التزاحم من غير جهة عدم القدرة : فمثاله ما إذا كان المكلّف مالكا للنصاب الخامس من الإبل وهو خمس وعشرون ناقة الّذي يجب فيه خمس شياة ، ثم ملك بعد مضي ستة أشهر ناقة أخرى فصار المجموع ستّ وعشرين ناقة وهو النصاب السادس وفيه بنت مخاض ، فالمكلّف قادر على دفع خمس شياة عند تمام السنة عملا بما دلّ على لزومها في خمس وعشرين ناقة ، وعلى دفع بنت مخاض عند مضيّ ثمانية عشر شهرا عملا بما دل على لزومها في ستّ وعشرين ناقة ، لكن دلّ الدليل على ان المال الواحد لا يزكى في العام الواحد مرّتين ، فيقع التزاحم بين الحكمين حينئذ من جهة الدليل المزبور لا من جهة عدم القدرة على الامتثال (1).

وأورد السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) على هذا التقسيم بوجوه :

ص: 41


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 284 - الطبعة الأولى.

الأول : فساد جعل القسم الثاني قسيما للأول ، فانه راجع إليه ، لأن التضاد الاتفاقي بين أمرين لا يكون إلاّ من جهة عدم القدرة على إتيانها معا من باب الاتفاق ، فليس القسم الثاني في الحقيقة مغايرا للأول (1).

وفيه : ان التضاد الاتفاقي لا ينحصر منشئه بعدم القدرة على الأمرين اتفاقا. بيان ذلك : ان المقصود من التضادّ الاتفاقي هاهنا ما كان تحقق كلا الأمرين محالا في نفسه ولا يتمكن عليه أي شخص مهما بلغت قدرته. وبالتعبير الكلامي « ما كان العجز فيه من ناحية المقدور » نظير ما إذا أمر المولى عبده بان يكون في الصحن وأمره بملازمة زيد الموجود في الصحن ، فإذا خرج زيد عن الصحن امتنع الإتيان بكلا المتعلّقين ، وهما الكون في الصحن ، وملازمة زيد لامتناع وجود الجسم الواحد في مكانيين ، وهذا لا يرتبط بعدم القدرة الاتفاقيّة ، فانه ممتنع مطلقا من كلّ أحد ولا يتحقّق من أي شخص كان ، فعدم القدرة هاهنا ناشئ من التضاد ، لا ان التضاد ناشئ من عدم القدرة الاتفاقي. بخلاف ما إذا كانت العجز اتفاقيّا راجعا إلى القصور في نفس القدرة لا في متعلّقها ، كإنقاذ الغريقين فانه يتصوّر تحقّقه من شخص ذي قوة عالية فينقذ كلا الغريقين معا كل منهما بيد من يديه - مثلا - ، فالفرق بين القسمين واضح.

الثاني : - وهو ما جاء في المحاضرات - انه لا أثر لهذا التقسيم أصلا ، ولا تترتب عليه أي ثمرة فيكون لغوا محضا (2).

وفيه ما لا يخفى : فان هذا التقسيم بلحاظ إجراء أحكام التزاحم ، فان هذه الأقسام تختلف في ذلك ، فمنها ما يجري فيه الترتب ومنها ما لا يجري فيه ، وقد نصّ على ذلك المحقق النائيني وتعرض إليه مفصّلا فهذا الإيراد من الغرائب.

ص: 42


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 284 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 213 - الطبعة الأولى.

الثالث : ان التزاحم ينحصر بما كان منشؤه عدم القدرة على الامتثال ولا يتصور تحققه من جهة أخرى.

وامّا ما ذكره من المثال ، فهو ليس من مصاديق باب التزاحم ، بل من مصاديق باب التعارض ، والوجه في ذلك : ان ما دل على ان المال الواحد لا يزكى في السنة الواحدة مرتين يوجب العلم الإجمالي يكذب أحد الدليلين ، وهما الدليل الدال على وجوب خمس شياة على من ملك خمس وعشرين من الإبل ومضى عليه الحول ، والدليل الدال على وجوب بنت مخاض على من ملك ستّ وعشرين من الإبل ومضى عليه الحول فلا بد من إعمال قواعد المعارضة ولا ارتباط للمثال بباب المزاحمة ، فهو نظير ما دل على عدم وجوب ست صلوات في اليوم الواحد الموجب للتعارض بين ما دل على وجوب صلاة الجمعة في يومها ، وما دل على وجوب صلاة الظهر في يومها. وقد ذكر أن ما ذكره قدس سره غريب وعجيب صدوره من مثله ، فانه بعيد عن مقامه ولكن العصمة لأهلها (1).

وفيه : انه يمكن ان يكون المثال المزبور من موارد باب التزاحم ، وليس الأمر كما ذكره من وضوح عدم انطباق باب التزاحم عليه ، فلتصوير التزاحم وجه يخرج الدعوى عن غرابتها وبعدها عن مقام مثل المحقق النائيني. وموضوع الكلام - وهو الضابط الكلّي للمثال المتقدّم - هو ما إذا كان المكلف واجدا لأحد النصب الزكاتيّة ثم بعد مضي ستّة أشهر مثلا ملك مقدارا يتمم النصاب الآخر الّذي يلي للنصاب الّذي كان تجب زكاته - ولم يكن المملوك ف الأثناء نصابا مستقلا كخمسة من الإبل بعد الخمسة الأولى فان فيه بحثا آخر - فهل يجب عليه ان يدفع زكاة النصاب الأول عند تمامية الحول ثم يبتدئ حولا للجميع ، أو يدفع زكاة النصاب الآخر عند تماميّة حوله ، أي بعد مضي ثمانية عشر شهرا؟.

ص: 43


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 215 - الطبعة الأولى.

اما دفع زكاتين زكاة النصاب الأول بعد مضي اثني عشر شهرا وزكاة النصاب الثاني بعد مضي ثمانية عشر شهرا فلا يلتزم به لقيام الدليل على عدم وجوب زكاتين في مال واحد في عام واحد. والّذي يلتزم به المشهور هو الأول ، وهم وان لم يصرحوا بان المورد من موارد التزاحم لكنهم يلتزمون بما هو نتيجة جعل المورد من موارد التزاحم وهو تقديم الأسبق زمانا ، فليس هذا المعنى أمرا مستبعدا جدّاً اما إدراجه في باب التزاحم فيقال فيه وجوه ولكنه يتّضح بتمهيد مقدمتين :

المقدّمة الأولى : ان التزاحم في نظر المحقق النائيني يتحقق بلحاظ رافعيّة أحد الحكمين اما بامتثاله أو بوجوده لموضوع الحكم الآخر ، إذ يمتنع وصول كل منهما إلى مرحلة الفعليّة والداعويّة كما مرّ بيانه.

والمقدّمة الثانية : ان نفي تحقق الشيئين تارة : يكون مفاده بيان عدم اجتماع الشيئين في الوجود من دون إفادة أخذ عدم أحدهما في موضوع الآخر ، بل لا نظر له إلى ما هو موضوع كل منهما ، نظير ما إذا قال المولى لعبده : « ان زيدا وعمرا لا يجوز ان يكون كلاهما في الدار بل أحدهما » ، فانه لا تعرض له إلى ما هو موضوع دخول كل منهما في الدار وانه في أي ظرف يجوز لأحدهما ذلك ، بل هو انما يدل فقط على ان هذين الشخصين لا يجوز اجتماعهما في الدار. وأخرى : يكون مفاده أخذ عدم أحدهما في موضوع الآخر كما إذا قال له : « - مع فرض وجود زيد في الدار - لا يجوز دخول عمرو ، أو انه ما دام زيد في الدار يجوز دخول عمرو » ، وهكذا العكس ، فانه يدل على ان عدم الموجود منهما مأخوذ في موضوع الآخر ، فيكون وجوده رافعا لموضوع الآخر قهرا. بخلاف النحو الأول فان عدم الاجتماع لا يستلزم أخذ عدم أحدهما في موضوع الآخر وإلاّ كان عدم أحد الضدّين مأخوذا في موضوع الضد الآخر وهو مما لا يلتزم به المحققون.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الدليل الدال على نفي تكرّر الزكاة في العام الواحد في المال الواحد كان مفاده بالنحو الثاني من نحوي نفي اجتماع

ص: 44

الشيئين ، فانه ظاهر في نفي الزكاة ثانيا بعد ثبوتها أولا ، فان مفاده ان المال لما ثبتت فيه الزكاة أولا لم تثبت فيه مرّة أخرى في عام واحد ، فيكون ثبوتها أولا رافعا لموضوع ثبوتها ثانيا ، فينطبق التزاحم على ما نحن فيه ، لأنه كما عرفت بلحاظ رافعية أحد الحكمين لموضوع الآخر وهي متحقّقة. ومن هنا ظهر تقديم الأسبق لأنه رافع لموضوع المتأخر ولا عكس. فقد اتّضح بهذا البيان ان دعوى المحقق النائيني ليست بدعوى غريبة ، وهي وان توقفت على الاستظهار الّذي عرفته من أدلة نفي تكرر الزكاة لا على استظهار كون الدليل المذكور يفيد نفى اجتماعهما فيه ، إلا انها تكون متّجهة بوجاهة هذا الاستظهار واحتماله ولا تكون بعيدة كما ادعي. وان كان المختار ان المورد ليس من موارد التزاحم ، وتحقيقه موكول إلى محلّه من الفقه كما حرّرناه سابقا في كتاب الزكاة.

ويقع الكلام بعد ذلك في مرجّحات باب التزاحم التي يحكم بها العقل ، بخلاف مرجحات باب التعارض ، فان المرجع فيها هو المولى نفسه وهذه هي جهة الفرق بين البابين في الحاكم بالتقديم والتخيير. كما ان الفرق بين البابين في جهة التقديم فهي محل الكلام ، إذ تقديم أحد المتعارضين على الآخر يكون بأقوائيّة الدلالة والسند بالشهرة أو موافقة الكتاب أو غير ذلك ممّا يذكر في مبحث التعارض ، ويقع الخلاف هناك في تعيين بعضها دون بعض.

واما تقديم أحد المتزاحمين على الآخر ، فهو بأمور مترتبة ذكرها المحقق النائيني قدس سره (1) وهي :

المرجح الأول : تقديم ما ليس له بدل على ما كان له بدل فيما إذا كان أحدهما له بدل والآخر ليس له بدل. وله صورتان :

الأولى : ما إذا كان لأحدهما بدل في عرضه كما إذا كان واجبا تخييريا

ص: 45


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 271 - الطبعة الأولى.

شرعيا كان كخصال الكفارة ، أو عقليا ، كالواجب الموسّع ، وكان الآخر واجبا تعيينا مضيقا كما إذا تزاحم وجوب أداء الدين مع الإطعام أو العتق الّذي يكون إحدى خصال الكفارة التخييرية ، وكما لو تزاحم وجوب إنقاذ الغريق مع وجوب الصلاة في أثناء الوقت بحيث لا تفوت الصلاة بامتثاله فانه في مثل هذه الحال يقدّم الواجب التعييني على الواجب التخييري.

ووجه التقديم واضح وهو : ان الواجب التخييري لا اقتضاء له بالنسبة إلى خصوص الفرد المزاحم ، لأن المكلف مخيّر في مقام الامتثال بين افراد التخيير. والواجب التعييني له اقتضاء ودعوة إلى خصوص ما فيه التزاحم ، لأن الامتثال منحصر فيه. ومن الواضح انه لا تزاحم بين ما له اقتضاء نحو شيء وبين ما لا اقتضاء له نحوه ، فيقدّم ما له الاقتضاء على ما ليس له الاقتضاء.

هذا ما أفيد ولا يخفى ان هذا الوجه نتيجة نفي التزاحم بين الواجبين في هذه الصورة ، لا انه وجه للتقديم مع فرض المزاحمة ، إذ عرفت أن التزاحم هو التنافي في مقام الداعويّة بحيث يمتنع ان يصل كلا الحكمين إلى مرحلة الفعلية والبعث ، وهذا لا أثر له في هذه الصورة بعد ما عرفت من كون أحدهما لا اقتضاء له بالنسبة إلى خصوص مورد المزاحمة. فالتفت.

الثانية : ما إذا كان لأحدهما بدل طولي ، كالطهارة الحدثية المائية فان لها بدلا في طولها وهو التيمم ، فلو تزاحم وجوبها مع وجوب ما ليس له بدل كالطهارة الخبثية بان كان هناك ماء لا يكفي لكلتا الطهارتين مع احتياجه إليهما لأجل الصلاة ، قدّم ما لا بدل له على ما له البدل. ولم يتعرض قدس سره لذكر وجه التقديم والمنقول في الأفواه في جهته وجه استحساني وهو : ان التقديم سيرة العرف باعتبار ان الأمر إذا دار بين إهمال أصل المصلحة وتحصيل مصلحة أخرى بتمامها ، أو بين تحصيل أصل المصلحة وإهمال بعض المصلحة الأخرى كان الثاني هو المتعيّن ونتيجته تقديم ما لا بدل له على ما له البدل.

ص: 46

ولكن هذا الوجه - لو سلم جواز الاستناد إليه مع غض النّظر عن عدم الدليل على اعتبار النّظر العرفي - لا يمكن البناء على تماميته فانه غير مطّرد ، إذ قد يكون ذلك المقدار الفائت من المصلحة أهمّ في نظر العرف وأشد أثرا من نفس المصلحة الأخرى المتحفظ بها بتمامها ، فيقدم عليها لا محالة. مثال ذلك عرفا : إذا كان الشخص يملك عباءة وقباءين ، أحدهما جديد والآخر متهرئ عتيق. وكان ملزما بلبس العباءة والقباء الجديد ، ولكنه مع عدم التمكن من لبس القباء الجديد ، كان عليه أن يلبس القباء المتهرئ ، إذ لا يمكنه أن يبقى من دون قباء ، فإذا دار أمره بين ان يتلف العباءة ، فيلبس القباء الجديد بلا عباءة ، أو يتلف القباء الجديد ويلبس القباء المتهرئ مع العباءة ، لكن كان الهوان الّذي يلحقه ونظرة الازدراء التي تلاحقه من لبس القباء أكثر مما كان في لبس القباء الجديد بلا عباءة ، فانه في هذا الحال يلزمه عرفا إتلاف العباءة مع عدم وجود البدل لها وإبقاء الجديد مع وجود البدل له. فالتفت.

فالوجه الصحيح في التقديم هو : ان ما يكون له بدل في طوله يكون وجوبه مقيّدا بالقدرة الشرعيّة ، فيكون المورد من مصاديق المرجح الثاني وهو ما إذا كان أحد الحكمين مقيّدا بالقدرة الشرعية والآخر غير مقيد بها ، فان غير المقيد بها يقدم على ما هو مقيّد بها كما سيأتي بيانه. فتحصل ممّا ذكرنا : ان المرجح الأول ليس من المرجحات لأن الصورة الأولى خارجة عن باب التزاحم والصورة الثانية داخلة في مصاديق المرجح الثاني ، ولا تكون جهة عدم البدلية مرجحة. فلاحظ.

ثم انه قدس سره تعرض لفرع فقهي وهو ما إذا دار امر المكلف بالصلاة بين إدراك تمام الوقت مع الطهارة الترابية وعدم إدراك تمامه مع الطهارة المائية. والتزم بترجيح الأول على الثاني ببيان : ان الطهارة المائية لها بدل وهو الطهارة الترابية بخلاف تمام الوقت فانه لا بدل له. وقد عرفت تقديم ما لا بدل له على ما له

ص: 47

البدل.

وأورد على نفسه : بان تمام الوقت له بدل أيضا وهو إدراك ركعة منه كما هو مقتضى بعض الروايات (1) ، فيكون كل من المتزاحمين له بدل فلا وجه لترجيح تمام الوقت على الطهارة المائية.

وأجاب عنه : بان بدليّة إدراك ركعة عن تمام الوقت انما هي في فرض العجز عن إدراك تمام الصلاة فيه ، والمكلّف في الفرض قادر على إتيان مجموع الصلاة في الوقت فلا موجب لسقوط التكليف بإتيان تمام الصلاة في وقتها ، فيسقط التكليف بالطهارة المائية للعجز عنه شرعا فيثبت التكليف بتمام الصلاة في الوقت مع الطهارة الترابية ، لأنها بدل الطهارة المائية (2).

وفيه : ان الكلام بعينه ننقله في طرف التيمم ، فنقول : ان بدليّة التيمم انما هي في فرض العجز عن الإتيان بالصلاة مع الوضوء أو الغسل والمكلف قادر على الإتيان بها كذلك ، فيبقى التكليف بالصلاة مع الطهارة المائية ويسقط التكليف بإيقاع تمام الصلاة في الوقت للعجز عنه شرعا ، فيثبت حينئذ التكليف بالصلاة مع إدراك الوقت بمقدار ركعة مع الطهارة المائية.

وأساس الجواب : هو ان بدلية كل من البدلين المفروضين ثابتة في حال العجز الشرعي ، فيقع التمانع بينهما ، ويكون وجوب المبدل منه لكل منهما رافعا لبدلية البدل الآخر. فالتفت.

وتحقيق الحال في هذا الفرع الّذي وقع محلا للبحث والنقض والإبرام : انه لا يتصور التزاحم بين الوجوبين الضمنيين ، إذ العجز عن الإتيان بكلا الجزءين

ص: 48


1- منها : رواية عمار بن موسى عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : فان صلى ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتم وقد جازت صلاته. وسائل الشيعة 3 / 158 باب : 30 من أبواب المواقيت ، حديث : 1.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 272 - الطبعة الأولى.

أو الشرطين أو الجزء والشرط يستلزم سقوط الأمر بالكل للعجز عن متعلّقه وهو الكل ، فلا تصل النوبة إلى تزاحم الوجوبين الضمنيين لسقوطهما بسقوط الأمر بالكل ، فإذا دل الدليل على تعلق الأمر بالناقص عند العجز عن التام تقع المعارضة بين إطلاقي دليل كل من الجزءين أو الشرطين.

وحينئذ فاما ان يلتزم بشمول الأدلة العلاجية للعامين من وجه المتعارضين ، فيكون الحكم هو التخيير شرعا بينهما. واما ان يلتزم بعدم شمول الأدلة العلاجية لمثل هذه الصورة ، فالقاعدة تقتضي التساقط في المتعارضين ، إلاّ انه حيث يعلم إجمالا يعدم سقوطهما معا بل أحدهما معتبر قطعا فالعقل يحكم بالتخيير ، فالنتيجة هي التخيير اما شرعا أو عقلا. وبذلك يتضح الكلام فيما نحن فيه فان الأمر بالوضوء والأمر بإيقاع الصلاة في تمام الوقت أمران ضمنيان فلا مزاحمة بينهما ، بل يسقط الأمر بالصلاة التامة بجميع اجزائها وشروطها ، ويحدث الأمر بالناقص ويدور الأمر بين اعتبار الوضوء أو تمام الوقت ، فيقع التعارض بين دليليهما والنتيجة هي التخيير بينهما من دون وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، فان المورد ليس من موارد التزاحم ، ومن هنا يظهر ان التمثيل لبعض موارد التزاحم بالواجبين الضمنيين ليس متّجها.

وبهذا البيان تعرف انه لا وجه للتطويل الّذي جاء في المحاضرات من ذكر مقدمة طويلة لبيان كيفية استفادة اشتراط الوقت والطهارة ونحو اعتبارهما ، ثم التعرض لبيان ما يستفاد من دليل البدل في كل منهما ثم الانتهاء إلى ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من ان بدليّة إدراك ركعة عن تمام الوقت انما هي في فرض العجز عن إدراك تمام الصلاة فيه ولو مع الطهارة الترابية (1). وقد عرفت ما فيه وان كلا من الشرطين مقيد بالتمكن. ومن الغريب ان بيانه المزبور كان

ص: 49


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 235 - الطبعة الأولى.

بنحو الإيراد على المحقق النائيني رحمه اللّه . وأساس هذا الاختيار منهما هو نقلهما الكلام إلى دليل البدل الاضطراري لكل من الشرطين ، وهو دليل التيمم ودليل إدراك ركعة. مع انك عرفت ان النوبة لا تصل إليه بل الكلام رأسا في دليل الوضوء ودليل تمام الوقت وبيان نتيجة المعارضة بينهما فتدبّر جيّدا.

المرجّح الثاني : ما إذا كان أحد الحكمين مشروطا بالقدرة العقلية والآخر مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، فيقدّم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

والمراد بالقدرة الشرعيّة ليس مفهوما شرعيا في قبال المفهوم للقدرة عقلا ، بل المراد بها القدرة العرفية التي هي أخصّ من القدرة العقليّة ، فان القدرة بنظر العرف هي التمكن على الفعل من دون ان يكون فيه عسر ومشقة ، فان العرف يسلب القدرة في مورد العسر والمشقة ، ولأجل ذلك ترتفع القدرة عرفا بالمنع الشرعي عن العمل ، لأن الإتيان به يوقع المكلف في تبعات مخالفة المنع الشرعي وهو امر حرجيّ عليه ، فمع المنع شرعا يصدق عرفا انه غير متمكن.

اما تحقق اشتراط الحكم بالقدرة العرفية ، فهو منوط بأخذ القدرة في موضوع الحكم في لسان دليله ، فتكون ظاهرة في القدرة العرفية ، إذ المحكّم في باب الألفاظ هو العرف ، فإذا قيّد الحكم في دليله بالقدرة كان ظاهرا في إرادة القدرة العرفية ، لأن المفهوم العرفي للقدرة غير المفهوم العقلي. اما إذا لم يقيد الحكم في دليله بالقدرة ، فيكون مطلقا من ناحيتها. نعم حيث انه في صورة الامتناع عقلا لا يثبت الحكم لاستحالته في نفسه أو لغويّة كان مقيدا بالقدرة العقليّة.

وإذا عرفت المقصود من القدرة الشرعية وانها القدرة التي اعتبرها الشارع في موضوع الحكم فيراد بها المفهوم العرفي للقدرة ، وانها أخص من القدرة التي يعتبرها العقل في موضوع الحكم إذا - عرفت ذلك - يتضح ذلك الوجه في

ص: 50

الحكم بتقديم الحكم المقيد بالقدرة العقلية على الحكم المقيد بالقدرة الشرعية. بيان ذلك : ان ثبوت الحكم المقيد بالقدرة العقلية يكون رافعا لموضوع الحكم المقيد بالقدرة الشرعية لما عرفت من ارتفاع القدرة عرفا بالحكم الشرعي المانع من العمل واما المقيد بالقدرة الشرعية ، فلا يكون رافعا لموضوع الآخر ، إذ المنع الشرعي لا يرفع القدرة عقلا على العمل. وإذا كان الأمر كذلك تقدم المشروط بالقدرة العقلية بعين الوجه الّذي ذكره الشيخ (1) ، وأوضحه صاحب الكفاية (2) بتلخيص في تقديم الوارد على المورود من : ان تقديم المورد إما ان يكون بلا وجه أو على وجه دائر ولا عكس. فانه يقال هاهنا : ان الالتزام بالحكم المقيد بالقدرة العقلية لأجل تمامية موضوعه وعدم الإخلال بجهة من جهات ثبوته سوى وجود الحكم الآخر المشروط بالقدرة الشرعية ، وهو غير صالح للمنع ، لأنه يتوقف على ثبوت موضوعه ، وقد عرفت انه يرتفع بالحكم الآخر. فحينئذ اما ان يلتزم به مع عدم موضوعه وهو فاسد ، أو نلتزم بأنه يمنع من الحكم الآخر فيثبت موضوعه وهو يستلزم الدور ، لأن مانعيته عن الحكم الآخر تتوقف على تمامية موضوعه ، وتمامية موضوعه تتوقف على عدم الحكم الآخر ، فيمتنع استناد عدم الحكم الآخر إليه فالتفت.

ومن هنا تعرف ان المورد ليس من موارد المزاحمة أصلا ، كما لا معارضة بين الوارد والمورود ، فان نسبة الحكم المقيد بالقدرة العقلية إلى الحكم المقيد بالقدرة الشرعية ، نسبة الدليل الوارد إلى الدليل المورود ، فلا يقع التمانع بين الحكمين.

وعليه ، فلا وجه لفرض المقام من مصاديق باب المزاحمة.

أو فقل : لا وجه لفرض المرجح المزبور من مرجحات باب المزاحمة ، لأنه

ص: 51


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /422- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /430- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يسري إلى غيرها ، فانه وجه يتأتى ذكره في باب التزاحم وباب التعارض كما عرفت.

واما توجيه المحقق النائيني قدس سره لتقدم الوجوب المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية ، بان المشروط بالقدرة عقلا تام الملاك فعلا فيكون وجوبه فعليا مانعا من تمامية ملاك الآخر للعجز عنه شرعا ، بخلاف المشروط بالقدرة شرعا ، فان وجوبه يتوقف على تمامية ملاكه ، وهي تتوقف على عدم الوجوب الآخر ، فلو استند عدم وجوبه إلى الوجوب المشروط بالقدرة شرعا لزم الدور المحال. كما لا يخفى (1).

فهو بظاهره لا يخلو عن مناقشة ، إذ تكرر منه قدس سره ان البحث في مسألة التزاحم لا تبتني على وجهة نظر العدلية القائلين بلزوم توفّر الملاك للحكم الشرعي ، بل يقع الكلام فيه على جميع وجهات النّظر من دون اختصاص بإحداهما.

ولعل مراده قدس سره ما أوضحناه ، وقد صرّح به في غير مورد. وقد عرفت انه يخرج المورد عن موارد التزاحم.

فقد ثبت ان المرجحين الأولين ليسا من المرجحات ، بل مما يستلزم خروج المورد عن موارد المزاحمة.

المرجح الثالث : ما إذا كان أحد الواجبين أسبق زمانا من الآخر ، وهذا المرجح يختص بما إذا كان كل من الحكمين مشروطا بالقدرة الشرعية ، فانه أفاد قدس سره ، بان المتقدم زمانا يرجح على المتأخر ، لأن المتقدم في الفعلية يكون مستقرا في محله من دون مانع ، ويكون رافعا للتكليف الآخر ، لأنه يرفع موضوعه ، فلا يبقى له محل ومجال في ظرفه.

ص: 52


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 272 - الطبعة الأولى.

وتحقيق الحال في الحكمين المشروطين بالقدرة شرعا ومرجحية الأسبقية الزمانية فيهما : ان المورد ليس من مصاديق باب التزاحم المصطلح ، لأنا قد أشرنا إلى ان حقيقته هو التنافي بين الحكمين في مقام الداعويّة والتأثير ، بمعنى انه لا يمكن ان يكون كلاهما - في زمان واحد - داعيين إلى متعلّقيهما ، بحيث لو لم تكن هذه الجهة ارتفع التزاحم ، ولم يمتنع ثبوت الحكمين معا. والتنافي في المورد الّذي نحن فيه ناشئ من رافعية كل من الحكمين لموضوع الآخر ، لأن كلا منهما مانع شرعي فيرفع القدرة الشرعية المأخوذة في موضوع الآخر ، وليس ناشئا عن التنافي في مقام الداعوية وان كان مفروضا ، ولذا لو ارتفع ذلك ، بأن كان المكلّف قادرا عقلا على امتثال الحكمين لا شرعا ، كان التمانع بين الحكمين متحقّقا بالوجه الّذي ذكرناه. فلا ينطبق عليه التزاحم بالمعنى المصطلح نعم يصح إطلاق التزاحم عليه بمعناه اللغوي وهو التمانع ، لأنه متحقّق بين الحكمين ، كما عرفت.

وبعد هذا نقول : ان أحد الحكمين اما ان يكون أحدهما أسبق زمانا من الآخر ، أولا يكون :

فان كان أحدهما أسبق زمانا ، فتحقيق الكلام : ان الصور المتصورة في مورد السبق الزماني أربعة :

الأولى : ان يكون أحد الحكمين سابقا على الآخر بموضوعه وامتثاله ، بمعنى ان موضوع الحكم الآخر وامتثاله لا يتحقق إلاّ بعد زمان امتثال ذلك الحكم ، نظير ما إذا كان عند الإنسان في شهر رجب مال يكفيه للحجّ ، ولكنه كان فاقدا للاستطاعة من الجهات الأخرى - بان كان مريضا - ويعلم انها تحصل في شهر شوال. وثبت عليه واجب مشروط بالقدرة شرعا في ذلك الحين - أعني شهر رجب - كما لو وجب عليه زيارة الحسين علیه السلام في رجب بنذر ونحوه وكانت متوقفة على صرف المال المزبور.

وحكم هذه الصورة هو ترجيح الأسبق زمانا ، فيتقدم وجوب الوفاء بالنذر

ص: 53

على وجوب الحج في المثال المزبور ، وذلك لأن الوجوب السابق فعلي تام الموضوع ، إذ لا مانع منه عقلا ، لأنه المفروض ولا شرعا إذ المانع الشرعي المتصور ليس إلاّ الوجوب الآخر وهو ليس ثابتا فعلا لعدم موضوعه كما فرض ، فلا يصلح للمانعية ، وإذا لم يثبت المانع عقلا وشرعا لزم امتثاله ، فيرتفع به موضوع اللاحق ، وبهذا البيان يمكننا ان ندعي ان هذه الصورة خارجة عن محل الكلام ، فانه لا تزاحم بين الحكمين ولا تمانع ، إذ الأول في ظرفه لا مانع منه كما عرفت ، والثاني لا موضوع له ، فلا ثبوت له ان امتثل الأول ، وان لم يمتثل كان فعليا لتحقق موضوعه ، لكنه لا مانع منه إذ الحكم سقط بعصيانه.

وبالجملة : الحكمان لا يكونان في هذه الصورة فعليين في زمان واحد. فالتفت.

الثانية : ان يكون أحد الحكمين سابقا بموضوعه وامتثاله إلا انه كان بنحو الواجب الموسّع ، بمعنى انه إذا لم يمتثل في ظرفه يستمر الحكم ويثبت في زمان اللاحق ، كالمثال المتقدم فيما إذا لم يقيد نذره الزيارة بشهر رجب بل مطلقا ، ولكن كان تحقق الشرط المعلّق عليه المنذور في رجل فيصير الحكم من ذلك الحين فعليا.

وحكم هذه الصورة يتضح مما تقدم ، فلا مزاحمة بين الواجب الموسع والواجب المضيق ، لعدم التزاحم ، بين ما له اقتضاء وبين ما لا اقتضاء له. نعم ، إذا تضيّق وقت الموسع في وقت المضيق وقع التزاحم بينهما لكون كل منهما مضيقا.

الثالثة : ان يكون أحد الحكمين سابقا في امتثاله على امتثال الآخر ، لكنه مقارن في موضوعه لموضوع الآخر ، كما لو نذر قبل الاستطاعة ان يزور الحسين علیه السلام اليوم السابع من ذي الحجة ان جاء أخوه من السفر فتقارن مجيء أخيه مع حصول الاستطاعة المالية أو البدنية للحجّ ، أو تعاقبا من دون فصل زماني طويل ، بحيث لم يتمكن من الإتيان بالمقدمات المفوتة للسابق قبل حصول

ص: 54

اللاحق.

والحكم في هذه الصورة وقوع التزاحم بين الحكمين بلا ترجيح ، وعدم تقديم الأسبق منهما زمانا بحسب الواجب ، إذ بعد فرض ان الموضوع لكل من الحكمين في نفسه ثابت يلزم المكلف حفظ القدرة على كل منهما بملاك وجوب المقدمات المفوتة ، فيحدث من جهة وجوب الحج حكم فعلي بلزوم صرف المال في الحج والسير مع القافلة المتوجهة إلى مكّة. كما يحدث من جهة وجوب الوفاء بالنذر لزوم السير إلى كربلاء ان كان بعيدا عنها والبقاء فيها وعدم إتلاف القدرة ان كان من سكنتها ، فيكون كل من هذين الحكمين رافعا لموضوع الحكم الآخر ولا أثر للسبق الزماني في مقام الامتثال حينئذ ، لأن وجوب المقدمة المفوتة للواجب اللاحق يرفع موضوع الوجوب السابق في امتثاله. ولا يختلف الحال في ذلك بين الالتزام بالواجب المعلق أو المشروط وعدمه ، لأن وجوب المقدمات المفوتة لازم اما بملاك لزوم حفظ الغرض الثابت في كل من الحكمين في نفسه ، أو بملاك الوجوب المقدمي لو التزم بالواجب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر.

الرابعة : ان يكون كل من الحكمين متقارنين زمانا بحسب الامتثال. لكن أحدهما أسبق موضوعا من الآخر ، بنحو يستطيع المكلف المحافظة عليه قبل حدوث موضوع الآخر ، كما لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين علیه السلام في يوم عرفة إن جاء أخوه من السفر ، فجاء أخوه وكان متمكنا من السفر إلى كربلاء فعلا ، ولكنه غير متمكن من السفر إلى الحج ، فهو فعلا غير مستطيع للحج.

والحكم في هذه الصورة تقديم الأسبق زمانا وهو النذر في المثال ، لأنه ينشأ منه فعلا حكم بوجوب المقدمة المفوتة ، فيلزمه المحافظة على القدرة فعلا ، فيصرف المال في شئون الزيارة أو يسافر فعلا للزيارة ، فيرتفع بذلك موضوع الحج ، ولا حكم يمنع من ذلك ، لأن موضوع الحج لم يتحقق بعد ، فلا نظر له إلى

ص: 55

حفظ مقدماته المفوتة ولذا يجوز له إتلاف المال قبل الاستطاعة لو لم يكن هناك وجوب آخر يدعو للمحافظة عليه ، فتكون الصورة نظير الصورة الأولى.

ومن هذا البيان يظهر انه لا أثر لتقارن وقت الامتثال ، بل الحكم المذكور جار حتى مع أسبقيّة الآخر موضوعا في امتثاله. فالتفت.

لكنه قد يشكل : بأنه وان جاز صرف المال في طريق الوفاء بالنذر ، لكنه غير واجب لأنه إذا أراد ان لا يصرفه يتحقق موضوع الواجب الآخر في ظرفه فيثبت وجوبه حينئذ فيكون رافعا لموضوع وجوب الواجب السابق زمانا من حيث الموضوع فيكشف عن عدم تحققه ، فلا تكون المقدمات واجبة لأن تركها يؤدي إلى انكشاف عدم توفر الملاك لا إلى تفويت الملاك.

ويمكن ان نشير إلى ضابط الصورتين بان الحكمين اللذين يكون أحدهما أسبق زمانا إما موضوعا أو امتثالا. إما ان يكون لكل منهما دعوة إلى مقدماته المفوتة بملاك وجوب المقدمات المفوتة ، اما لأجل حفظ الغرض الملزم أو لأجل كون الوجوب بنحو الوجوب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر ، فيقع التزاحم بينهما في وجوب المقدمات ويكون وجوب كل مقدمة رافعا لموضوع وجوب ذي المقدمة الأخرى ، فلا أثر لسبقه زمانا وعدمه. واما ان لا يكون لكل منهما دعوة نحو مقدماته المفوتة ، بل كان ذلك لأحدهما فقط ، كان ما له نظر مقدم على الآخر لأنه فعلي ولا مانع منه ، إذ ما يتصور كونه مانعا لا يصلح للمانعية فعلا ولا اقتضاء له بالنسبة إلى مقدماته المفوتة ، ولكن عرفت الإشكال في هذا البيان.

ومن هنا تعرف ما في كلام المحقق النائيني قدس سره من التسامح من إطلاق القول بتقديم الأسبق زمانا ، مع انك عرفت انه ينحصر بالصورة الأولى.

مع ان مثاله ظاهر في كون محط نظره الصورة الرابعة وهي ما كان السابق هو الوجوب لا الواجب ، وهو غير مرجح إلا بتقريب غير خال عن الإشكال ، كما عرفت.

ص: 56

وبالجملة : ما ذكره قدس سره في تقريب تقديم الأسبق زمانا لا ينطبق إلا على الصورة الأولى. وقد عرفت ان المورد في الحقيقة لا يكون من موارد التزاحم. فالتفت.

هذا كله فيما إذا كان أحدهما أسبق زمانا من الآخر.

وان كانا متقارنين زمانا موضوعا وامتثالا :

فقد يدعى تقديم الأهم منهما باعتبار ان المتزاحمين ان كانا متساويين في الأهمية ثبت التخيير بينهما. وان لم يكونا متساويين قدم الأهم منهما بحكم العقل ، فانه يرى ان المولى لا بد من حكمه بالأهم ملاكا ، وإلاّ كان حكمه بالمهمّ ترجيحا للمرجوح على الراجح وهو قبيح في نظره.

ولكن المحقق النائيني قدس سره أنكر ذلك بتقريب : ان هذا البيان انما يتأتى فيما كان ملاك كل حكم ثابتا في نفسه وحتى في صورة التزاحم ولم يكون كل منهما رافعا لملاك الحكم الآخر ، فيكون الحكم على طبق الملاك المرجوح تفويتا للغرض الأهم وهو ترجيح المرجوح على الراجح.

واما فيما نحن فيه فالامر ليس كذلك ، لأن ثبوت ملاك كل من الحكمين مشروط بعدم المانع عقلا وشرعا من متعلّق الحكم ، فثبوت المانع الشرعي يرفع ملاك الحكم في الممنوع.

وعليه ، فلو قدّم المهم وحكم بوجوبه لم يلزم تفويت الغرض الأهمّ ، بل يلزم نفي الغرض الأهمّ وعدم تحققه ، وهو لا قبح فيه على المولى ، فمع وجوب الأهمّ لا ملاك في الطرف الآخر الأهم كي يلزم تفويته ، ولا يلزم المولى المحافظة على ثبوت الملاك وعدم نفي تحققه بمانع.

وعليه ، فلا ملزم بالحكم بالأهمّ ، فانه ترجيح بدون مرجح ، إذ كما يمكنه ان يحكم على طبق الأهمّ ولازمه نفي تحقق الملاك المهم ، يمكنه ان يحكم على طبق المهم ولازمه نفي تحقق الملاك الأهمّ من دون لزوم أيّ محذور. وهكذا الحكم بالمهم

ص: 57

ترجيح بلا مرجح ، فإذا كان الحكم بكل منهما بعينه ترجيح بلا مرجح ، بمعنى انه لا وجه للإلزام بأحد الطرفين بعينه ، فيتعين تعلّق الحكم التخييري بهما ، اما بنحو وجوب أحدهما لا بعينه أو بنحو وجوب كل منهما مشروطا بترك الآخر. بيان ذلك : انه إذا ثبت عدم إمكان الجمع بين الحكمين لرافعية كل منهما لموضوع الآخر ، وثبت عدم إمكان الحكم بأحدهما بعينه ، لأنه ترجيح بدون مرجح ، فان التزمنا بالترتب وصححنا رفع التزاحم بين الحكمين بإجراء الترتب تعين هاهنا الالتزام به ، فيقيد إطلاق كل منهما بصورة ترك الآخر ، فيكون كل منهما ثابتا في صورة ترك الآخر فانه يرتفع التزاحم بينهما بذلك ، وتكون النتيجة تخيير المكلّف بين الفعلين. وان لم نلتزم بالترتب وأنكرنا إمكانه مطلقا أو التزمنا به في الجملة لكن أنكرنا ثبوته في مورد تزاحم الواجبين المشروط كل منهما بالقدرة شرعا ، تعين فيما نحن فيه الالتزام بسقوط كلا الحكمين في مورد التزاحم ، والتزام بثبوت وجوب تخييري متعلّق بأحدهما لا بعينه لثبوت أحد الملاكين لا بعينه ، فالمكلّف مخوّل في تحصيل أحدهما لعدم إمكان الجمع بينهما (1).

ومن هنا يتّضح الوجه في ذهاب المحقق النائيني إلى ان التخيير هاهنا شرعي ، بمعنى ثبوت خطاب شرعي بأحد العملين لا بعينه ، لأنه وان التزم بالترتب لكنه أنكر ثبوته في مثل المورد مما كان التزاحم فيه بين حكمين مشروطين بالقدرة شرعا ، فلا يتجه الحكم ببطلانه - كما في المحاضرات - (2) وان النتيجة هي الالتزام بخطاب مشروط بترك الآخر في كل منهما ، إلاّ ان يرجع الإيراد إلى الإشكال المبنائي لا العلمي. فالتفت.

والمتحصل : انك عرفت السّر في ذهاب المحقّق النائيني إلى عدم تقديم

ص: 58


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 276 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 267 - الطبعة الأولى.

الأهمّ ، كما عرفت السّر في التزامه بكون التخيير شرعيا بالمعنى الّذي عرفته ، وهو حق لا إشكال فيه.

واما ما جاء في المحاضرات من تقريب تقديم الأهم فيما نحن فيه من : ان الأهم لا مانع من تقديمه عقلا للقدرة عليه تكوينا ، ولا شرعا لأن المانع الشرعي المتصور ليس إلاّ وجوب المهم الّذي يستلزم صرف القدرة في غير الأهمّ ، وهو لا يصلح للمانعية لأنه بمزاحمته بالأهمّ غير مقدور شرعا ، والمفروض ان القدرة دخيلة في متعلقه فلا يكون الأمر به فعليا مع عدم القدرة عليه شرعا ، ومع عدم فعلية امره لا يكون مانعا من الأهم (1).

ففيه ما لا يخفى : لأن المفروض ان كلا من الحكمين مشروط بالقدرة شرعا فيكون كل منهما رافعا لموضوع الآخر ، لأنه مانع شرعي عن الآخر ، فكيف يفرض مانعية الأهم عن المهم دون العكس؟ ، فانه مما لا نعرف له توجيها صحيحا.

ونفس الأهمية لا تصلح فارقا - كما قد يظهر من العبارة - لأنها محل الكلام فلا يمكن الاستدلال على الدعوى بنفس الدعوى. فالتفت.

وقد يدعي : تقديم الأهمّ بحكم العقل ببيان : ان المفروض ثبوت ملاك كل من الحكمين في نفسه ، ومع قطع النّظر عن المزاحم. فإذا التزم بسقوط كلا الحكمين فلا يخلو الحال من صور ثلاث : اما ان يحكم على طبق الأهمّ وهو المطلوب. واما ان يحكم على طبق المهم وهو ترجيح بدون مرجح. واما ان يحكم بالتخيير بينهما ، بمعنى وجوب أحدهما لا بعينه ، وهو يستلزم ثبوت كل من الملاكين لعدم منافاته للقدرة الشرعيّة على كل من الفعلين ، فيحكم العقل بلزوم الإتيان بالأهمّ ملاكا نظير حكمه بلزوم تحصيل أصل الغرض الملزم لو لم يتمكن

ص: 59


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 264 - الطبعة الأولى.

المولى من الأمر كأن كان غافلا. فهاهنا الأمر كذلك ، لأن المولى لا يتمكن من الإلزام بالأهمّ بخصوصه لأنه ترجيح بلا مرجح ، فيحكم العقل بلزومه ترجيحا للأهم.

وهذه الدعوى فاسدة : لأن العقل لا يتمكن من الإلزام بالأهمّ بعينه كما لا يتمكن الشارع ، والمحذور الّذي يمنع من تعيين الأهمّ شرعا بنفسه يمنع من تعيينه عقلا ، لأن الإلزام العقلي كالشرعي رافع لموضوع الآخر ، فالعقل يمكنه ان يلزم بالمهم فيرفع موضوع الأهم ويكشف عن عدم ثبوت الملاك الأهمّ ، فما هو المرجح لحكمه بالأهمّ ، مع انه لا محذور في حكمه بالمهم من جهة تفويت الغرض الأهمّ ، لأنه لا يتحقق الغرض الأهمّ بحكمه بلزوم المهم؟. فالتفت.

هذا تمام الكلام في الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا.

يبقى الكلام في الفرع الّذي ذكره المحقق النائيني مثالا للواجبين المشروطين بالقدرة ، مع كونه أحدهما أسبق زمانا ، وهو مثال تزاحم النذر والحج ، كما لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين علیه السلام يوم عرفة ، ثم حصلت الاستطاعة ، فقد وقع الاختلاف في ان أيهما المقدم هل يقدم وجوب الوفاء بالنذر أو وجوب الحج؟ وفي المسألة أقوال :

الأول : ما عن صاحب الجواهر رحمه اللّه من تقديم النذر ، لأنه غير مقيد بالقدرة شرعا ، فيتقدم على الحج لأنه مقيد بالقدرة شرعا ، كما هو مقتضى القاعدة في تزاحم الحكمين اللذين أحدهما مقيد بالقدرة شرعا والآخر غير مقيد بها شرعا (1).

الثاني : تقديم وجوب الحج ، لأن كلا من الوجوبين مقيد بالقدرة شرعا ، لكن في وجوب الوفاء بالنذر جهة تقتضي ترجيح وجوب الحج عليه وهو قول

ص: 60


1- النجفي الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام17/ 347 - الطبعة السابعة.

المحقق النائيني (1).

الثالث : تقديم وجوب الحج لأنه غير مقيد بالقدرة شرعا فيتقدم على وجوب الوفاء بالنذر لأنه مقيد بما يرفعه وجوب الحجّ.

الرابع : تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء ، مع عدم رافعيّة أحدهما لموضوع الآخر أو رافعيته لوجه فقهي غير صناعي.

وهذان القولان وردا في كلام السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) (2).

اما الوجه الأول : فقد عرفت تقريبه فلا نعيد.

واما الوجه الثاني : وهو ما أفاده المحقق النائيني قدس سره ، فتقريبه : ان وجوب الوفاء بالنذر كوجوب الحج مقيد بالقدرة شرعا المرتفعة بالمانع الشرعي ، ومقتضاه وقوع التمانع بين الحكمين ، إلا أن وجوب الوفاء مقيد أيضا بأن لا يكون متعلّقه في نفسه محللا للحرام ، بمعنى ان لا يكون متعلقه الراجح في نفسه ملازما للوقوع في الحرام وتحقق الحرام منه ، كما لو كانت صلاته على سطح الدار ملازمة للنظر المحرم إلى الأجنبية ، فنذر الصلاة على سطح الدار لا يجب الوفاء به لأن متعلقه محلل للحرام بالمعنى الّذي عرفته وان كان راجحا في نفسه. وعليه فبما ان الزيارة يوم عرفة وان كانت راجحة في نفسها لكنها مستلزمة لتحليل الحرام فهو ترك الحج ، فانه حرام وهو ملازم للزيادة ، فوجوب الحج يكون رافعا لموضوع وجوب الوفاء ، لأنه يستلزم ان يكون متعلقه محللا للحرام ووجوب الوفاء لا يصلح لذلك ، لأنه يتوقف على عدم فعلية التكليف بالحج حتى لا يستلزم منه تحليل الحرام ، فلو كان عدم التكليف بالحج مستندا إلى فعلية وجوب الوفاء بالنذر لزم الدور.

ص: 61


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 273 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 249 و 251 - الطبعة الأولى.

أقول : بعد الفراغ عن تقييد وجوب الوفاء بالقدرة شرعا ، وتقييده بان لا يكون متعلقه محللا للحرام ، يقع البحث مع المحقق النائيني قدس سره في ما أفاده من تقديم الحج على النذر بالبيان الّذي عرفته ، فانه بحسب نظرنا غير مستقيم ، لأن اشتراط عدم تحليل الحرام في وجوب الوفاء يستلزم ان يكون فيما نحن فيه جهتان تقتضيان رافعية وجوب الحج لموضوع وجوب الوفاء. إحداهما اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعا. والأخرى اشتراطه بعدم كونه محللا للحرام وعدم انحصار جهة الرّافعيّة باشتراط القدرة. وهذا المعنى لا يلازم تقديم وجوب الحج ، فان الشرط لم يجعل خصوصية أخرى في حكم النذر تجعل وجوب الحج مانعا منه دون العكس ، بل غاية ما يقتضي كون وجوب الحج رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر ، وهذا ثابت ولو لم يكن وجوب الوفاء مشروطا بعدم تحليل الحرام فلم لم يقدم وجوب الحج؟.

وبالجملة : لا فرق في حصول التمانع بين ان يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الآخر من جهتين والآخر من جهة واحدة ، بين ان يكون كل منهما رافعا لموضوع الآخر من جهة واحدة ، فانه يقال فيما نحن فيه ان وجوب الحج مشروط بالاستطاعة ، بمعنى تحققها في نفسها ومع قطع النّظر عن وجوب الحج ، ووجوب الوفاء بالنذر رافع لها فلا يكون واجبا ولا يكون متعلق النذر محللا للحرام. وبعبارة أخرى : متعلق النذر انما يكون محللا للحرام لو كان موضوع الحج ثابتا وهو الاستطاعة ، وقد عرفت انه يرتفع بوجوب الوفاء ، فكل من الحكمين يرفع موضوع الآخر ، فانه كما ان وجوب الوفاء مقيد بما يرتفع بوجوب الوفاء وهو الاستطاعة ، وهذا واضح لا غبار عليه.

والحاصل : انه لا نعرف لتقريب المحقق النائيني رحمه اللّه وجه وجيه.

اما اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بعدم تحليل الحرام فلا دليل عليه بالمعنى الّذي ذكرناه ، وتحقيقه في الفقه.

ص: 62

واما اشتراطه بالقدرة شرعا فقد قرّبه قدس سره بان وجوب الوفاء تابع لما نذره الناذر ، وبما ان النذر تعلق بالفعل المنذور لاقتضاء نفس النذر ذلك ، لأن الناذر ينذر الإتيان بما يقدر عليه من الأعمال ، نظير اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه ، فتكون القدرة مأخوذة في موضوع وجوب الوفاء قبل تعلّقه به وهذا نفس اعتبار القدرة في متعلق الحكم شرعا اللازم لكون الملاك ثابتا في خصوص المقدور.

وهذا البيان لا يخلو عن مناقشة فان غاية ما يقتضيه اعتبار القدرة عقلا لا شرعا ، إذ قد عرفت ان القدرة الشرعية هي القدرة بالمعنى العرفي واعتبارها يرجع إلى أخذ القدرة في لسان الدليل ، فيفهم العرف من اللفظ ما هو المفهوم العرفي للقدرة. وهذا البيان لا يقتضي أخذ القدرة لفظا بمفهومها العرفي ، بل يقتضي أخذ واقع القدرة ، فليس في المقام فهم وظهور عرفي ، بل يرجع إلى ما يلزم به العقل وهو ليس إلاّ القدرة العقلية في قبال العجز العقلي ، فانه هو الّذي يرى ضرورة تقييد المتعلق به لا أزيد ، فيحتاج اعتبار غيره إلى دليل خاص.

واما الوجه الثالث - فتقريبه - : ان وجوب الحج ليس مقيدا بالقدرة الشرعية فانه وان أخذت الاستطاعة في موضوعه في لسان دليله ، إلا أنها فسرت في الروايات بالزاد والراحلة وأمن الطريق ، وان المراد منها هو ذلك ليس إلاّ ، وهذا مما لا يرفعه وجوب الوفاء كما لا يخفى ، فموضوع الحج ثابت لا خلل فيه.

واما وجوب الوفاء فهو مقيد بعدم كون متعلقه محللا للحرام ، فيكون وجوب الحج رافعا لموضوعه ، لأنه يستلزم كون متعلق النذر محللا للحرام. فيتقدم الحج لأن المورد يكون نظير تزاحم ما ليس بمقيد بالقدرة شرعا وما هو مقيد بها لأن وجوب الحج رافع لموضوع وجوب الوفاء ولا عكس.

وهذا الوجه غير تام لما عرفت.

أولا : من ان وجوب الوفاء بالنذر غير مقيد بعدم كونه محللا للحرام ، لعدم

ص: 63

الدليل عليه.

وثانيا : انه قد حققنا في الفقه ان وجوب الحج مقيد بالقدرة شرعا ، وان المراد بالاستطاعة في الآية الكريمة هو المفهوم العرفي لها ، وانه لا خصوصية للزاد والراحلة.

وثالثا : انه لو ثبت بمقتضى النصوص وجود خصوصية للزاد والراحلة وأمن الطريق وانها دخيلة في موضوع الحكم ، فهذا لا يعني إلغاء موضوعية الاستطاعة وان تمام الموضوع هو ذلك ، بل مرجعه إلى أخذ خصوصية زائدة على الاستطاعة العرفية في موضوع الحج ، فالاستطاعة العرفية مأخوذة في موضوع الحج بزيادة توفر الزاد والراحلة ، بمعنى انه لو كان شخص يتمكن من السفر ماشيا إلى الحج من دون أي مشقة وحرج ولم يكن لديه زاد وراحلة لم يجب عليه الحج وان كان مستطيعا عرفا. فالوجوب المتعلق بالحج مقيد بالاستطاعة عرفا لا ان المقصود بالاستطاعة هو الزاد والراحلة وأمن الطريق ليس إلاّ. وهذا الأمر حققناه في الفقه.

واما الوجه الرابع : فمحصله : انه لو فرض ان وجوب الوفاء رافع لموضوع وجوب الحج ومقدم عليه ، للزم لغوية وجوب الحج ، إذ يتمكن كل مكلف ان يمنع من تحقق موضوع الحج وهو الاستطاعة إلى آخر عمره بواسطة النذر ، فينذر ان يصلي ركعتين في مسجد بلده أو قريته في يوم عرفة من كل سنة. وهذا يتنافى مع جعل الحج بنحو عام وشدة الاهتمام به ، فيعلم جزما بأنه لا يرتفع بمثل وجوب الوفاء بالنذر ، ولا يختلف الحال في ذلك بين ان يكون وجوب الوفاء بحسب الصناعة مقدما على وجوب الحج لرافعيته لموضوعه أو ليس بمقدم.

وقد ذكرنا في الفقه : ان هذا البيان يتأتى في تصحيح المعاملات الربويّة بمصحح ، كالضميمة ونحوها مما يخرجها عن الرّبا المنصوص على حرمته ، فان

ص: 64

ذلك يستلزم لغوية التأكيد على حرمة الرّبا وشدة الاهتمام بنفيه ، فان نفس حرمته تكفي في الردع عنه مع إمكان التخلص عنه بمثل هذه السهولة بلا احتياج لشدة التأكيد على حرمته. فالتفت.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة.

ويقع الكلام بعد ذلك في الحكمين المتزاحمين المشروطين بالقدرة عقلا ، وما هو المرجح لأحدهما على الآخر؟.

وتحقيق الحال : ان المرجحات التي مرّ ذكرها ثلاثة : وجود البدل وعدمه ، والتقييد بالقدرة شرعا وعدمه ، والأسبقيّة الزمانية.

اما وجود البدل : فقد عرفت ان وجود البدل العرضي لأحدهما دون الآخر يخرج المقام عن مورد المزاحمة. وان وجود البدل الطولي لا يستلزم ترجيح ما ليس له بدل إلاّ بإرجاع جعل البدل الطولي إلى أخذ القدرة الشرعية في موضوع ما له البدل ، فيخرج عما نحن فيه ، إذ المفروض عدم تقييد كل من الواجبين بالقدرة شرعا. ومن هنا يتضح أن ما نحن فيه خارج موضوعا عن الترجيح بالمرجح الثاني.

واما الأسبقية الزمانية : فقد جعلها المحقق النائيني موجبة للترجيح في مورد تساوي ملاكي الحكمين دون أهمية ملاك أحدهما ، فانه هو المقدم حينئذ.

وقد جعل الترجيح بالأسبقية من ثمرات التزامه بالتخيير العقلي.

وتوضيح ذلك : انه قدس سره التزم في ما إذا تساوى الحكمان ملاكا بالتخيير العقلي ، بمعنى حكم العقل بسقوط إطلاقي كلا الخطابين وتقييده بصورة ترك الواجب الآخر وهو الترتب ، بدعوى أن التنافي بين إطلاقي الخطابين فيرفع اليد عنهما بمقدار يرتفع به التنافي وهو النحو الّذي عرفته ، وليس التنافي بين أصل الحكمين كي يرفع اليد عنهما ويلتزم بثبوت خطاب مستقل بأحد الفعلين بنحو التخيير تحصيلا لأحد الملاكين ، مع عدم القدرة على تحصيلهما معا

ص: 65

وكون الإلزام بأحدهما المعين ترجيحا من دون مرجح - كما ذهب إليه بعض - (1) فيكون التخيير شرعيا.

إذا تبين هذا فقد أفاد قدس سره ان من ثمرات الالتزام بالتخيير العقلي دون الشرعي هو تقديم الأسبق زمانا من الواجبين ، كما لو تزاحم وجوب القيام في صلاة الظهر ووجوبه في صلاة العصر ، فانه إنما يتأتى لو التزم بكون التخيير عقليا ، اما لو التزم بكونه شرعيا فلا وجه لترجيح الأسبق. بيان ذلك : انه لو قيل بان التخيير شرعي لا مانع من تعلق خطاب واحد بكل منهما بنحو البدل ، فيكون كل منهما واجبا تخييريا ، إذ التقدم والتأخر الزماني لا يمنع من صحة ذلك. اما لو قيل بان التخيير عقلي بمعنى الالتزام بالترتب امتنع جريانه هنا لأن أساس التخيير العقلي على كون امتثال أحدهما مسقطا للحكم الآخر ، لأن ثبوت أحدهما مشروط بترك الآخر فإذا لم يترك لم يثبت الآخر ، وبما ان امتثال الواجب المتأخر غير معقول في ظرف المتقدم لم يكن هناك ما يسقط التكليف السابق الفعلي ، وعليه فيكون فعليا من دون مزاحم فيجب الإتيان بمتعلّقه ويحرم تركه (2).

أقول : هذا البيان لا يفي بالمطلوب لأن الوجوب المتأخر إما أن يكون له تأثير ودعوة في الزمان السابق أو لا يكون له تأثير فعلي الثاني يخرج المورد عن موارد المزاحمة إذ الحكم السابق فعلي لا مانع منه ، لأن الحكم اللاحق ليس بفعلي حالا ولا تأثير له في هذا الحين ، فيلزم امتثال السابق لا لأجل الترجيح بل لأجل عدم المزاحمة ، ولا يختلف الحال حينئذ بين الالتزام بالتخيير العقلي أو الشرعي ، إذ لا موضوع للتخيير الشرعي لعدم التزاحم والتساقط. وعلى الأول

ص: 66


1- المحقق صاحب الحاشية والمحقق الرشتي (قدس سرهما).
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 279 - 280 - الطبعة الأولى.

يقع التزاحم بين الحكمين ، لأن كلاّ منهما يدعو إلى ما يمنع من امتثال الآخر في زمان واحد ، فالحكم اللاحق قابل لأن يمتثل في الزمان السابق لا بمعنى الإتيان بمتعلقه ، بل بمعنى الإتيان بما له تأثير فيه في الزمان السابق وهو حفظ القدرة على متعلقه المسقط للتكليف الآخر. فلا يختلف الحال حينئذ بين القول بالتخيير الشرعي والتخيير العقلي.

هذا ولكن الإنصاف يقتضي بتقديم الأسبق زمانا لبناء العقلاء في أعمالهم بالإضافة إلى أنفسهم وإلى غيرهم على ذلك في مورد التزاحم ، ويرون من يترك الأسبق لأجل امتثال اللاحق ليس جاريا على سيرة العقلاء ، وان فعله سفه. فلو كان عند شخص رغيف خبز واحد وعلم انه مضطر إلى البقاء جائعا يوما مرددا بين يومه وغده من دون امتياز لأحدهما على الآخر في شدّة الجوع وطوله وقصره فلا إشكال في أنه يأكله في يومه ولا يتركه إلى غده لأنه يرى الترك سفها. وهكذا لو كان عنده مقدار ما يضيف به شخصا واحدا وجاء زيد فعلا وعلم انه يجيئه عمرو غدا وكلاهما واجب الضيافة من دون امتياز ، فان عمل العقلاء على صرف ما عنده في ضيافة زيد لا تأخيره وضيافة عمرو به.

ولعل جهة ذلك انه وان علم ببقائه إلى الحكم اللاحق بحسب الموازين العادية ، إلا ان احتمال عدم بقائه عقلا موجود ، وهذه جهة تصلح منشأ لعمل العقلاء.

وبالجملة : فلا إشكال ان بناء العقلاء على تقديم الأسبق ثابت ، وان عدم تقديمه في نظرهم أمر غير عقلائي.

وهذا يوجب الجزم بعدم ثبوت التخيير وتعيين السابق. ولا أقل من احتمال ترجيحه عندهم ، فيكون نظير محتمل الأهميّة متعينا بنظر العقل كما سيجيء. فان كان نظره قدس سره إلى هذا البيان كما قد يستشم من عبارته كان ما ذكره متينا ، لكنه لا يستقيم على كلا القولين : القول بالتخيير العقلي والقول بالتخيير

ص: 67

الشرعي ، لأنه يرفع موضوع التخيير ، إذ هو يثبت رجحان السابق وان الحكم على طبقه.

وموضوع التخيير عقلا وشرعا هو ثبوت التساوي بين الحكمين ، فيتساقطان ويثبت خطاب آخر بأحدهما بنحو التخيير كما هو مقتضى القول بالتخيير الشرعي ، أو يتقيد كل منهما بترك الآخر كما هو مقتضى القول بالتخيير العقلي.

فقد تحصل مما ذكرناه ثبوت مرجحيّة الأسبقيّة الزمانيّة مع تساوي الحكمين في الملاك. اما إذا كان أحدهما أهمّ ملاكا كان هو المقدم سواء كان متأخرا أم مقارنا ، لحكم العقل بقبح تفويته وتحصيل الغرض المهم ، بل على المولى الإلزام بالأهم تحصيلا له ، وإلاّ كان الحكم بغيره ترجيحا للمرجوح على الراجح وهو قبيح. وهذا أمر واضح لا خلاف فيه ولا نقاش.

وخلاصة ما تقدم : انه مع تزاحم الحكمين المشروطين بالقدرة عقلا يقدّم الأهم منهما إن كان ، وإلا قدّم السابق زمانا إن اختلفا فيه ، وإلا ثبت التخيير بينهما عقلا بالمعنى الّذي عرفته وهو التّرتب ، إذ قد تقدم ثبوت إمكانه ، وعرفت ان إمكانه مساوق لوقوعه ، فلا محيص عن الالتزام به.

بقي شيء نتعرض إليه وان كان استطراديّا لكننا نذكره تبعا للمحقق النائيني قدس سره .

وهو انه لو كان أحد الحكمين محتمل الأهميّة ، فهل يقدّم على الآخر أولا؟.

أفاد قدس سره : انه لو التزمنا بان التخيير مع التساوي في الملاك شرعي كان المورد حينئذ من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين ، وحكمه محل خلاف بين المحققين ، فمن هو قائل بالبراءة ، ومن هو قائل بالاشتغال. واما لو التزمنا بان التخيير عقلي تعين الأخذ بمحتمل الأهميّة ، إذ

ص: 68

يدور الأمر حينئذ بين تقييد كلا الإطلاقين وتقييد خصوص إطلاق غير المحتمل أهميته ، فتقييده معلوم على كلا التقديرين ، وتقييد إطلاق محتمل الأهمية غير معلوم ، فينفي بأصالة عدم التقييد فيؤخذ بإطلاقه. هذا ملخص كلامه (1).

وتوضيح الحال : ان دوران الأمر بين التعيين والتخيير له صور متعددة :

الأولى : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المسألة الأصولية ، بمعنى دوران الأمر في الدليلين المتعارضين بين التخيير بينهما في مقام الحجيّة وتعيين أحدهما خاصة. ولا إشكال في ان الحكم هو التعيين ، لأن الشك المزبور يرجع إلى التشكيك في حجيّة غير محتمل التعيين والشك في الحجيّة ملازم للقطع بعدمها كما تقرر. واما محتمل التعيين فهو مقطوع الحجية على كلا التقديرين.

الثانية : دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي في المسألة الفرعيّة ، كما لو تعلق امر بطبيعة ثم شك في ان المتعلق ذات الطبيعة فيكون المكلف مخيرا بين مطلق أفرادها عقلا ، أو ان المتعلق الطبيعة مع الخصوصيّة الكذائيّة؟ والتحقيق : ان المورد من موارد جريان البراءة ، لأنه من مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر فتجري البراءة ، عن الخصوصيّة فيثبت التخيير العقلي.

الثالثة : دوران الأمر بين التخيير والتعيين الشرعي في المسألة الفرعيّة ، كما لو علم بتعلق الأمر بفرد وشك في أنه متعلّق للأمر بخصوصه ، أو انه مخير بينه وبين غيره ، وهذه الصورة وقعت محل الخلاف في أنها مجرى البراءة من الخصوصيّة كسابقتها فيثبت التخيير ، وانها مجرى الاشتغال فيثبت التعيين ، لكل احتمال ذهب جمع من المحققين.

الرابعة : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام المزاحمة ، كما لو تزاحم حكمان واحتمل أهميّة أحدهما ملاكا. والحكم فيه التعيين ، وذلك لأن

ص: 69


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 279 - الطبعة الأولى.

غير محتمل الأهميّة مما يعلم بسقوط إطلاق دليله على كلا التقديرين تقدير أهميّة الحكم الآخر وتقدير عدمه ، فيخرج إطلاقه عن الحجيّة. اما محتمل الأهميّة فلا يعلم بسقوط إطلاق دليله ، لاحتمال كونه أهم فيكون هو المتعين فيتمسك بإطلاقه عملا بأصالة الإطلاق. ولا يختلف الحال في ذلك (1) على القول بان التخيير مع التساوي عقلي أو شرعي ، لعدم إحراز تقييد إطلاق المحتمل أهميته على الأول

ص: 70


1- أفاد صاحب الكفاية قدس سره في مبحث التعادل والترجيح عند البحث في تحقيق الأصل عند التعارض بين الدليلين إلى : ان محتمل الأهمية يقدم على مزاحمه في الجملة ، ولم يبين تفصيل ذلك. ونسب إليه بيان التفصيل في حاشيته على الرسائل. وقد يستشكل فيه بما ذكرناه في المتن من : انه لا فرق بين الصور في تقديم محتمل الأهمية ، لعدم العلم بسقوط إطلاقه والجزم بسقوط إطلاق مزاحمه ، فيعمل بإطلاق محتمل الأهمية. وتحقيق الحال فيما أفاده قدس سره : انه يذهب إلى ان التزاحم بين الحكمين لا يتحقق ، إلاّ إذا فرض وجود الملاك لكلا الحكمين ، كما انه يذهب إلى ان الدليلين في موارد وجود الملاكين إذا كانا لبيان الحكم الاقتضائي ، كان المورد من موارد التزاحم. واما إذا كانا لبيان الحكم الفعلي ، كان المورد من موارد التعارض ، لتحقق التكاذب بين الدليلين بعد عدم إمكان الأخذ بهما معا. وعلى هذا يكون المرجع مرجحات باب المعارضة لا مرجحات باب التزاحم. وإذا ظهر ما ذكرناه ، لم يكن مجال للإشكال المزبور عليه ، إذ موضع التزاحم بنظره ما إذا لم يكن إطلاق الدليلين متكفلا للحكم الفعلي كي يؤخذ بإطلاق الأهم أو محتمل الأهمية ، بل الإلزام بإتيان الأهم أو التخيير في مورد التساوي انما هو بحكم العقل من باب لزوم تحصيل غرض المولى. وعلى هذا المبني نقول : ان صور احتمال الأهمية ثلاثة : الأولى : أن لا يكون المقتضيان من جنس واحد ، مع احتمال أهمية أحدهما من ناحية احتمال أهميته في التأثير في المصلحة العامة - مثلا - ، نظير أهمية الصلاة من وجوب ردّ السلام. الثانية : ان يكون المقتضيان من جنس واحد ، مع احتمال أهميّة أحدهما لاحتمال شدته. الثالثة : ان يكونا من جنس واحد ، مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين لا لشدته ، بل لانضمام ملاك آخر إليه. فاحتمال الأهمية ينشأ من احتمال التعدد. اما الصورة الأولى ، فالحكم فيها تعيين محتمل الأهمية ، وذلك لأن العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى ولا يرفع اليد عن حكمه ، ولا يحكم بمعذورية العبد إلا بالإتيان ببدله ، ومع احتمال الأهمية لا يقطع بالعذر وصلاحية الغرض الآخر للبدلية ، فيكون من موارد قاعدة الاشتغال. وهكذا الحال في الصورة الثانية ، لعدم القطع بالعذر مع الإتيان بالغرض المحتمل المضعف. واما الصورة الثالثة ، فلا يحكم بالتعيين ، لأن الغرض المعلوم المنجز على العبد يعلم بصلاحية الغرض الآخر للبدلية عنه لتساويهما ، وانما يحتمل وجود غرض آخر يفوت بترك محتمل الأهمية ، ومجرد هذا الاحتمال لا ينفع ، كمورد الاحتمال البدوي الصرف ، فانه من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وهذا التفصيل الّذي ذكرناه موافق في الجملة لما حكي عن صاحب الكفاية. وبالبيان الّذي عرفته يندفع عنه بعض ما أورد عليه ، فراجع حاشية المحقق الأصفهاني على الكفاية. ولكنك عرفت ان هذا البيان يتم على الالتزام بما التزم به صاحب الكفاية من تحديد مورد التزاحم ، وكون الالتزام بلزوم الأهم أو التخيير مع التساوي بسبب حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولى. اما بناء على انه عبارة عن تنافي الحكمين في مقام الامتثال مع الالتزام بتكفل دليليهما الحكم الفعلي ، كان محتمل الأهمية هو المتقدم مطلقا كما أشرنا إليه في المتن.

وسقوط دليله على الثاني فيؤخذ به مع إحراز سقوط أو تقييد إطلاق الحكم الآخر.

فجعل المورد ممّا تظهر فيه ثمرة الاختلاف بين القولين لا وجه له ، إذ لا تصل النوبة إلى التخيير بعد احتمال تعيين أحدهما لسلامة دليله من السقوط أو التقييد. فتدبّر جيّدا.

تنبيه : قد يتخيّل البعض ان هذا التقسيم الّذي ذكره المحقق النائيني للحكمين المتزاحمين من كونهما مشروطين بالقدرة شرعا ، أو مشروطين بالقدرة عقلا ، أو أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا والآخر مشروطا بها عقلا ، واختلاف الأثر باختلاف الحال في ذلك غير وجيه ، إذ جميع الأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة شرعا ، لأن التقييد بالقدرة الشرعية تارة : يكون في لسان نفس الدليل كتقييد وجوب الحج. وأخرى : بتقييد خاص منفصل ، كما يدعي استفادة تقييد الوضوء بالقدرة الشرعيّة من تعليق الحكم بالتيمم على عدم الوجدان ، بدعوى ان التفصيل قاطع للشركة. وثالثة : يكون ببيان عام منفصل ، وهو الثابت في جميع الأحكام بدليل نفي الحرج والاضطرار ، فانه حاكم على جميع أدلّة الأحكام ومبيّن ان ثبوت الأحكام يختص بغير مورد العسر وغير مورد الاضطرار العرفي وهو

ص: 71

مساوق لتقييده بالقدرة الشرعيّة.

وعليه ، فليس للحكمين المتزاحمين الا صورة واحدة ، وهي صورة تقيد المتزاحمين بالقدرة الشرعيّة فلا وقع للتقسيم المزبور.

وهذا التخيّل فاسد ، لأن أثر تقييد الحكم بالقدرة الشرعيّة ودخالتها في موضوعه يظهر بحسب ما تقدم في جهتين :

الأولى : ان ارتفاع القدرة الشرعيّة مساوق لارتفاع ملاك الحكم ، وعليه بني عدم تقديم الأهم لو كان كل منهما مقيدا بالقدرة شرعا.

الثانية : تقديم غير المشروط بالقدرة شرعا على المشروط بها في مورد التزاحم.

فالمتخيل يتخيّل ان ذلك لا يتحقق ، إذ كل من الحكمين مقيّد بالقدرة شرعا فلا معنى لتقديم أحدهما على الآخر ، فمقتضى الدعوى ارتفاع موضوع هذا الترجيح في مطلق موارد المزاحمة.

والتقييد بواسطة دليل نفي الحرج لا يظهر أثره في هاتين الجهتين ، بل يختلف مع التقييد الخاصّ بالقدرة شرعا.

اما جهة انتفاء الملاك : فلان دليل نفي الحرج أو الاضطرار وان تكفل نفي الحكم في صورة عدم التمكن العرفي ، لكنه لا يتكفل رفع الملاك لعدم ظهوره في دخالة عدم الحرج في الملاك ، لو لم نقل بأنه ظاهر في وجود الملاك ، إذ ظاهر الدليل ان ارتفاع الحكم لأجل الامتنان والتسهيل على العباد ، وهو ظاهر في ثبوت الملاك بحيث لو لا هذه الجهة - أعني جهة الامتنان - لثبت الحكم. وهذا بخلاف تقييد الموضوع رأسا بالقدرة ، فانه ظاهر في دخالة الوصف في ملاك الحكم فيرتفع بدونها. وعلى هذا فيثبت الترجيح بالأهميّة في تزاحم سائر الأحكام لوجود الملاك في نفسه في موارد ارتفاعها بالعسر والحرج.

واما الجهة الثانية : فموضوع الحكم وان تقيد بالقدرة الشرعية وعدم

ص: 72

الاضطرار العرفي بواسطة هذه الأدلة ، لكنه لا ينظر فيه التقييد بعدم الاضطرار من جهة الحكم الشرعي المزاحم ، فلا يكون الحكم الشرعي رافعا لموضوع الآخر.

بيان ذلك : ان رفع الاضطرار بمعناه الأولي وهو الاضطرار العقلي لا معنى له ، إذ هو ثابت عقلا لعدم التمكن ، فلا منّة في رفع الحكم في حاله ، لأنه مما يحكم به العقل ، كما لا يحتاج ذلك إلى الاستيهاب من اللّه سبحانه كما جاء في بعض الآيات الشريفة (1).

اذن فما هو المراد من رفع الحكم حال الاضطرار المصحّح للامتنان؟. ذكر الشيخ في رسائله في مقام دفع هذا الإشكال : ان المقصود بالاضطرار هو الاضطرار العرفي بمعنى المشقة والعسر. ومن الواضح ان رفع الحكم في حالته يكون امتنانا لإمكان جعل الحكم في حالته فيقع العبد في المشقة (2).

وبهذا الإشكال والجواب يتضح ان رفع الاضطرار انما يصح ويتّجه في مورد لا يكون فيه التكليف ممتنعا ، إذ مع امتناعه في نفسه لا نحتاج إلى بيان ارتفاعه من باب المنّة لأنه مرتفع قهرا بحكم العقل فلا منّة في رفعه.

وعليه ، فلا يشمل الدليل صورة المزاحمة لأن جعل التكليفين ممتنع في نفسه لعدم القدرة على امتثالهما ، فارتفاع كل من الحكمين بوجود الآخر أمر قهري لا بد منه فلا يكون مشمولا لدليل الرفع ، فلا يكون الحكم حينئذ مقيّدا موضوعه بعدم الاضطرار من جهة المزاحم بواسطة دليل الرفع ، بل تقيده بحكم العقل نظير تقيده بالقدرة على متعلّقه.

وعلى هذا فلا يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الآخر بالبيان الّذي

ص: 73


1- سورة البقرة ، الآية : 286.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /196- الطبعة الأولى.

تخيّله المتخيّل ، وان جميع صور التزاحم تكون من تزاحم الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا. فالتفت ولا تغفل.

هذا تمام الكلام في الجهات الأساسيّة لمبحث التزاحم.

ويمكننا على ضوء ذلك تحديد ضابط التزاحم ، بأنه التنافي بين الحكمين في موضوعين في مقام الداعويّة والتأثير ، بمعنى انه لا يمكن ان يكون كل منهما داعيا فعلا إلى متعلقه ومنشأ ذلك هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين.

والوجه في ذلك : هو ان لفظ التزاحم لم يرد في لسان آية أو رواية كي يرجع في تحديد مفهومه إلى العرف ، وانما هو اصطلاح أصولي لتحديد بعض الموارد التي يتنافى فيها الحكمان بلحاظ ترتيب بعض الآثار ، وهي الترتب على القول بإمكانه وتقديم الأهم أو الأسبق زمانا في بعض الصور التي مرّ ذكرها. والتخيير مع التساوي اما بنحو الترتب أو الخطاب التخييري بأحد الفعلين.

ولأجل ذلك يلحق بمبحث التزاحم موارد تنافي الحكمين المشروطين بالقدرة شرعا ، فان ضابط باب التزاحم لا ينطبق عليها لعدم كون التنافي من جهة التنافي في مقام الداعويّة ، بل هو من جهة رافعية كل منهما لموضوع الآخر.

إلاّ انه حيث يجري فيها البحث عن جريان الترتب فيها وعدمه ، كما يلتزم فيها بتقديم الأسبق زمانا في بعض الصور والتخيير بنحو الوجوب التخييري ، أدرجت في مبحث التزاحم وعدّت من صوره.

واما تزاحم الحكمين في موضوع واحد المعبّر عنه بتزاحم المقتضيين ، فهو خارج عن التزاحم المصطلح لا لأجل ما ذكره المحقق النائيني من كونه راجعا إلى المولى ، وكونه مبتنيا على رأي العدلية. فقد عرفت دفعه ، بل لأجل ما تقدم ذكره من عدم ترتب الآثار المزبورة فيه ، إذ لا مجال للترتب لأنه لا يجري في الموضوع الواحد كما مرّ تحقيقه ، كما لا معنى للتخيير بمعنى الإلزام التخييري ، إذ مع تساوي الملاكين يحكم بإباحة العمل. كما لا معنى لتقديم الأسبق زمانا ، إذ لا

ص: 74

معنى للأسبقية هاهنا.

نعم يقدم الأهم من الملاكين لو كانت مرتبة الأهميّة بمقدار يلزم تحصيله.

واما ما نسب إلى صاحب الكفاية من حصر التزاحم الاصطلاحي في التزاحم بين المقتضيين ، فلا وجه له ولا دليل عليه من كلامه أصلا ، بل هو صرح في مبحث مقدمة الواجب بالتزاحم بين الحكمين كما لا ظهور في كلامه في جعله صورة التزاحم بين المقتضيين من مصاديق التزاحم المصطلح. وقد ذكرنا ذلك في أول المبحث. فراجع.

هذا تمام الكلام في مبحث التزاحم ونعود بعد ذلك إلى البحث في ما يرتبط بموضوع الكلام - أعني : « اجتماع الأمر والنهي » -. وقد عرفت ان البحث قبل الدخول في صلب الموضوع يقع في جهات تقدم الكلام في جملة منها.

وبقي الكلام في الجهة الأخيرة : وهي ما تعرض إليها صاحب الكفاية في الأمر العاشر ، ومقصود صاحب الكفاية من ذلك بيان بعض الشيء من ثمرة البحث المزبور كما ان مقصوده أيضا بيان ثمرة ما ذكره في الأمرين الثامن والتاسع.

وتوضيح ذلك : انه لو تعارض دليلان أحدهما يقتضي وجوب شيء والآخر يقتضي حرمته ، وكان بينهما عموم من وجه ، وتقدم دليل التحريم ، لا يكون الإتيان بالعمل صحيحا ولا يتحقق به سقوط الأمر ، بل يقع محرما مطلقا علم به أو جهل ، كان الجهل عن قصور أو تقصير ، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان وفي الوقت نفسه يذهب المشهور إلى صحّة الصلاة في الدار المغصوبة مع الجهل قصورا بالحكم مع القول بالامتناع ، وتقديم جانب النهي ، فان هذه الفتوى بظاهرها مناقضة لما تقدم من بنائهم في باب التعارض ، إذ على الامتناع لا يفترق الحال عن باب التعارض ، بل يكون المورد من مصاديق التعارض ، فكيف يلتزم هنا بصحة الإتيان بالمجمع مع الجهل بالتحريم قصورا ولا يلتزم به في باب التعارض؟

ص: 75

لأجل دفع هذا الإشكال والإجابة عن هذا التساؤل عقد صاحب الكفاية الأمر العاشر ، وأوضح فيه جهة الفرق بين المقامين بعنوان التعرض لثمرة سائر الاحتمالات في باب اجتماع الأمر والنهي.

فأفاد قدس سره : انه بناء على الجواز لا إشكال في صحّة العبادة ، لأن مرجع القول به إلى تعدد متعلق الأمر والنهي وان أحدهما غير الآخر ، فإذا جاء بالمجمع فقد أطاع وعصى ، لأنه جاء بعملين ، فيكون نظير ما إذا نظر إلى الأجنبيّة في أثناء صلاته. واما بناء على عدم الجواز وتقديم جانب الأمر فلا إشكال حينئذ في صحة العمل ، واما لو قدم جانب النهي فلا يصح العمل مع الالتفات إليه ، لأنه عمل محرم ومنهي عنه فلا يصلح للمقربيّة. وهكذا الحال مع الجهل بالحرمة عن تقصير لأن العمل وان لم يكن محرما فعلا إلاّ انه يصدر عن المكلف بنحو غير معذور فيه عقلا ومبغوض فلا يكون صالحا للتقرب به.

واما إذا كان جاهلا بالحرمة عن قصور كان العمل صحيحا ، لأنه صدر بعنوان حسن وهو قصد التقرب ، كما انه صالح للمقربيّة من دون مانع لاشتماله على ملاك الوجوب مع عدم كونه مبغوضا وكون العبد معذورا فيه ، فليس بقبيح لجهله بالحكم قصورا ، فنقطة الفرق الفارق بين المقامين تتّضح في هذه الجهة ، وهي أن المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي يكون مشتملا على الملاك لكلا الحكمين فيقع صحيحا مع الجهل ، لأنه صالح للمقربيّة بلا مانع بخلاف مورد التعارض فانه لا ملاك فيه للوجوب فلا يقع صحيحا ، فتظهر ثمرة اعتبار وجود الملاك لكلا الحكمين في المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي في هذه الجهة.

وأضاف قدس سره إلى هذا الوجه وجهين آخرين لتصحيح العمل ، وهما :

الأول : ان يلتزم بان الأحكام تابعة للمصلحة والمفسدة المؤثرة في الحسن والقبح الفعليين ، فمع عدم القبح الفعلي ليس هناك حكم واقعي وان كان الفعل

ص: 76

مشتملا على المفسدة. وعليه فمع الجهل عن قصور حيث لا يحكم العقل بقبح العمل ، بل يحكم بمعذورية الفاعل ، فلا حكم بالتحريم ، فيكون الأمر ثابتا بلا مزاحم ، ويكون الفعل مأمورا به. وهذا الوجه لم يرتضه قدس سره وذكر أنه خلاف الأقوى.

الثاني : ان العمل يمكن ان يؤتى به بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة وان لم يشمله بنفسه ، وذلك لأنه واف كغيره بالملاك ، وعدم تعلق الأمر به لمانع لا لقصور المقتضي ، فلا يرى العقل بينه وبين غيره من الأفراد تفاوت من جهة تحقق الامتثال به ، فيصح قصد الامتثال بإتيانه (1).

وهذا المعنى تقدم منه قدس سره في تصحيح الإتيان بالفرد المزاحم في الواجب الموسع بقصد امتثال الأمر (2).

وقد استشكل المحقق النائيني فيما أفاده قدس سره ، وذهب إلى ان فتوى المشهور بالصحّة لها وجه آخر غير ذلك هو الصحيح.

اما إشكاله على صاحب الكفاية : فبان هذه الوجوه غير تامّة وليست تنهض على توجيه فتوى المشهور.

اما دعوى عدم الحرمة مع الجهل لتبعية الأحكام للقبح والحسن الفعليين ، فهي دعوى التصويب التي تقرر بطلانها ، لأنها ترجع إلى اختصاص الحكم بالعالم ، وقد ثبت في محله ان الأحكام ثابتة في صورة الجهل وان الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل.

واما دعوى صلاحية الملاك لصيرورة الفعل مقربا ، فيدفعها بأن ملاك الوجوب في المجمع مزاحم بملاك التحريم وهو المفسدة في الفعل ، وهي بعد

ص: 77


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /157- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /136- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ملاحظة الكسر والانكسار وغلبتها على المصلحة توجب تعلق الكراهة والمبغوضية بالفعل ، فلا يكون الفعل محبوبا في حال من الأحوال لأن وجود المفسدة واقعي لا يرتبط بالعلم والجهل فكيف يصلح للمقربيّة؟.

وبتعبير آخر : المصلحة الموجودة في الفعل مقهورة للمفسدة الموجودة فيه ، فلا تكون موجبة للتقرب بالعمل وصيرورته مقربا ، بل يكون العمل مبغوضا للمولى ، كما انه لو تساوت المفسدة والمصلحة يكون العمل مباحا لا محبوبا ولا مبغوضا.

واما دعوى إمكان الإتيان بالعمل بداعي الأمر لوفائه بالغرض ، كغيره ، فهي تندفع بما عرفت من ان العمل لا يصلح للمقربيّة بعد اشتماله على المفسدة الغالبة ، فلا يكون كغيره من الافراد. مضافا إلى ان هذا الوجه مناقش فيه في نفسه كما مرّ.

وعلى هذا فذهاب المشهور إلى صحة العمل مع الجهل بالتحريم لا تلتئم إلا بذهابهم إلى جواز اجتماع الأمر والنهي في نفسه - وهو ما عبّر عنه بالجواز من الجهة الأولى - ، وامتناع الاجتماع من جهة أخرى - وهي ما عبّر عنه بالامتناع من الجهة الثانية -.

وبيان ذلك : انه قدس سره ذكر في أول المبحث ان البحث يقع في الجواز والامتناع من جهتين :

إحداهما : من جهة سراية كل من النهي والأمر إلى متعلق الآخر وعدمه الّذي يبتني على كون التركيب بين الجهتين اتحاديا أو انضماميا ، فعلى الأول يمتنع اجتماع الحكمين ، لأنه من الجمع بين الضدين في محل واحد. وعلى الثاني لا يمتنع ، لأن موضوع أحدهما غير الآخر فلا يجتمع الضدان في شيء واحد. فالبحث في الجهة في امتناع الاجتماع وعدمه من جهة كون الاجتماع الضدين في شيء واحد وهو محال في نفسه ، وعدم كونه كذلك. ومن الواضح ان اعتبار قيد المندوحة في

ص: 78

هذه الجهة لا أثر له أصلا.

ثانيتهما : انه بعد البناء على كون التركيب انضماميّا وعدم اجتماع الضدين ، فهل تقع المزاحمة بين الحكمين أو لا؟ ، وهو يبتني على ان تحقق الامتثال هل يلزم فيه مقدوريّة الفرد ، فلا يمكن الجمع بين الحكمين في الفرد المزاحم لعدم إمكان امتثالهما فيه أو لا يلزم فيه مقدورية الفرد ، بل يكفي فيه مقدوريّة نفس الطبيعة ، فيمكن تحقق الامتثال بالفرد المزاحم وان لم يكن مقدورا شرعا؟. ومن الواضح ان اعتبار وجود المندوحة في الحكم بالجواز من هذه الجهة ضروري ، إذ مع عدم المندوحة لا إشكال في تحقق المزاحمة لعدم التمكن من امتثال الحكمين بأي نحو كان (1).

إذا اتّضح ذلك فنقول : من يلتزم بجواز اجتماع الأمر والنهي من الجهة الأولى بان كان يرى ان الجهتين انضماميتان ، وانما يذهب إلى امتناع اجتماعهما من جهة المزاحمة وتقديم جانب الحرمة ، أمكنه دعوى صحة العمل العبادي مع الجهل بالحرمة عن قصور ، لأن أساس التزاحم على تنافي الحكمين في مقام الداعويّة والتأثير ، فكل منهما يدعو إلى صرف القدرة في متعلقه المانع من إتيان متعلق الآخر ، ومع الجهل بالحرمة لا تكون لها دعوة نحو متعلقها ، لأن العلم دخيل في الفعلية ووصول الحكم إلى مرحلة التحريك. وعليه فيكون الوجوب من غير مزاحم فيصح العمل. ففتوى المشهور تبتني على ما عرفت ، ويشهد لذلك أنهم أخذوا قيد المندوحة في محل الكلام وقد عرفت انه لا يلزم إلاّ في البحث عن الجهة الثانية بعد الفراغ عن الجواز من الجهة الأولى ، وانه لا أثر له في البحث عن الجهة الأولى ، فيكشف أخذهم القيد المزبور عن أن محطّ بحثهم الجواز والامتناع من جهة التزاحم لا من جهة اجتماع الضدين في واحد.

ص: 79


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 331 - الطبعة الأولى.

وبما ذكرنا يظهر الفرق بين صورة الغسل بالماء الغصبي وصورة الغسل في المكان الغصبي ، فان امتناع الأول من الجهة الأولى ، لأن الغصب يتحقق بنفس الغسل بلا إشكال فيكون الغسل مجمعا للحكمين ، وهو ممتنع ، فإذا قدم جانب التحريم كان العمل باطلا حتى مع الجهل بالحرمة لما تقدم من أنه عمل مبغوض للمولى. واما امتناع الثاني فيمكن ان يدعى بأنه من الجهة الثانية فقط ، وان التركيب بين الجهتين انضمامي ، وليس الغسل محققا للغصب وحينئذ مع الجهل بالتحريم يصح العمل لما عرفت من عدم المزاحمة.

هذه نهاية الكلام في مقدمات البحث ، ويقع الكلام بعد ذلك في موضوع البحث والنزاع ، وهو جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذي وجهين بأحدهما كان مورد الأمر وبالآخر كان مورد النهي أو امتناعه.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع ذلك ، وذكر للاستدلال على ذلك مقدمات أربعة وهي :

أولا : ان الأحكام الخمسة متضادة بأسرها.

وثانيا : ان متعلق التكاليف ليس العناوين بما هي كذلك ، ولا الأسماء ، وانما هو فعل المكلف وما يصدر منه في الخارج.

وثالثا : ان تعدد العناوين لا يستلزم تعدد المعنون.

ورابعا : ان الوجود الواحد لا يمكن ان يكون له سوى ماهيّة واحدة.

وعلى هذا يتضح امتناع الاجتماع لأن المفروض ان المجمع وجود واحد وتعدد العنوان لا يجدي في تعدده ، وهو بنفسه يكون متعلق الحكم ، وقد عرفت تضاد الأحكام فيلزم من اجتماع الأمر والنهي اجتماع الضدين وهو محال (1).

هذا ملخّص ما جاء في الكفاية من الاستدلال على الامتناع. ولا بد من

ص: 80


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /158- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التعرض لكل مقدمة والبحث فيها على حدّة. فنقول :

اما المقدمة الأولى - وهو حديث تضاد الأحكام : فهو محل الخلاف.

والأقوال فيه متعددة :

أحدها : وهو ظاهر الكفاية هنا ، انها متضادة بنفسها مع غضّ النّظر عن المبدأ والمنتهى.

ثانيها : انه لا تضاد بينها كذلك ، فان الإنشاء خفيف المئونة ولا مانع من إنشاء الحكمين ، وانما التضاد بينها ينشأ من جهة المبدأ والمنتهى. وهو ظاهر ، بل صريح الكفاية في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري (1).

ثالثها : انه لا تضاد بينها أصلا ، وانما التنافي بينها ينشأ من جهة المنتهى ، يعني من جهة مقام الامتثال ، وهو لا يوجب التضاد واستحالة اجتماعها في أنفسها. وهو الّذي التزم به المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (2).

ولمعرفة ما هو الحق ينبغي ان نستعرض مراحل الحكم ، وهي أربعة :

المرحلة الأولى : مرحلة وجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه الموجب لحدوث الإرادة أو الكراهة ، وهي المرحلة الثانية.

والمرحلة الثالثة : مرحلة إبراز المولى هذه الإرادة أو الكراهة بمبرز ، ويعبر عنها بمرحلة إنشاء الحكم.

والمرحلة الرابعة : مرحلة فعلية الحكم ووصوله إلى حدّ الداعويّة والتحريك.

اما المرحلة الأولى - أعني مرحلة وجود المصلحة أو المفسدة - : فقد يدعي تحقق التضاد بدعوى امتناع اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد ، لأنها من

ص: 81


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /278- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 270 - الطبعة الأولى.

قبيل السواد والبياض. ومن الواضح استحالة اجتماعهما في واحد. ولكن هذه الدعوى لا دليل عليها ، إذ لا دليل على كون المصلحة والمفسدة من قبيل المتضادين ، بل يكذبها الوجدان ، إذ نرى ان كثيرا من الأفعال يترتب عليها مصلحة ومفسدة والوقوع دليل الإمكان.

ولكن الحق هو وقوع التضاد في هذه المرحلة ببيان : ان المراد بالمصلحة والمفسدة ليس ذات المصلحة وذات المفسدة بل المراد بهما المصلحة التي تصير منشأ لإرادة الفعل والمفسدة التي تصير منشأ لكراهته ، وهما بهذه الكيفية لا يجتمعان في فعل واحد ، لأن المصلحة التي تصير منشأ للإرادة مع وجود المفسدة هي المصلحة الغالبة على المفسدة بعد ملاحظة حصول الكسر والانكسار فيما بينهما ، والمفسدة التي تصير منشأ للكراهة مع وجود المصلحة هي المفسدة الغالبة على المصلحة بعد ملاحظة حصول الكسر والانكسار فيما بينهما أيضا. ومن الواضح جدّاً امتناع اجتماع المصلحة الغالبة والمفسدة الغالبة في شيء واحد ، فان ذلك يرجع إلى اجتماع الغالبيّة والمغلوبيّة في شيء واحد ، وهو محال ، فإما ان يغلب جانب المصلحة أو يغلب جانب المفسدة وهو ظاهر بمراجعة الوجدان. فالتضاد من حيث المبدأ بمعنى المصلحة والمفسدة ثابت.

واما المرحلة الثانية : - وهي مرحلة الإرادة والكراهة - : فقد تصدى المحقّق الأصفهاني إلى بيان عدم تحقق التضاد بينهما ، وانهما يمكن ان يتعلقا بأمر واحد ببيان فلسفي دقيق ، محصّله إلى : ان التضاد من صفات الأوصاف الخارجية العارضة للأمور العينية الخارجيّة كالسواد والبياض ، وليست الإرادة والكراهة من الأوصاف الخارجية ، بل من الصفات النفسانيّة العارضة لما هو موجود في النّفس ، فلا تضاد بينهما.

لا من ناحية موضوعهما وهو النّفس ، لأن النّفس من المجردات القابلة لاجتماع الحالات والكيفيات المختلفة في آن واحد ، والشاهد على ذلك إمكان

ص: 82

وجود الإرادة والكراهة في النّفس في ان واحد مع اختلاف متعلقيهما.

ولا من ناحية متعلقهما ، لأن متعلقهما ليس هو الفعل الخارجي ، بل هو الوجود الفرضي العنواني ، وذلك لأن ما كان في أفق النّفس يستحيل ان يتقوم بما هو خارج عن أفق النّفس ، وإلاّ لزم انقلاب ما في النّفس إلى الخارج كما انه يحدث الشوق ومتعلقه غير موجود خارجا ، بل لا يمكن حصوله كالشوق إلى المحال ، وحينئذ فلا يتحقق التضاد لأنه في الصفات العارضة على الموجودات الخارجية كما أشرنا إليه (1).

وأنت بعد ان عرفت وقوع التضاد في منشأ الإرادة والكراهة تعرف إننا في غنى عن تحقيق ما أفاده قدس سره نفيا أو إثباتا ، إذ لا تصل النوبة أصلا إلى اجتماع الإرادة والكراهة كي يبحث في إمكان اجتماعهما في شيء واحد وعدمه ، لأنه لا يمكن تحقق منشئهما في آن واحد كما عرفت. وعليه فلا يمكن تحقق الإرادة والكراهة لفعل واحد باعتبار استحالة منشأ كل منهما معا ويمتنع تحققهما من دون منشأ فالتضاد في هذه المرحلة بهذا المعنى متحقق أيضا.

واما المرحلة الثالثة - وهي مرحلة الإنشاء - : فقد يدعي عدم التضاد بين الأحكام فيها ، لأن الإنشاء خفيف المئونة ، فيمكن ان يتحقق إنشاء جميع الأحكام لفعل واحد في آن واحد.

ولكنها دعوى باطلة ، والّذي نراه امتناع إنشاء الحكمين على موضوع واحد بيان ذلك : ان في حقيقة الإنشاء أقوالا أربعة - كما تقدم - :

الأول : وهو المشهور ، انه إيجاد المعنى باللفظ ، أو استعمال اللفظ في المعنى بقصد التسبيب إلى تحقق الاعتبار العقلائي ، فلا يتحقق بدون القصد ، نظير التعظيم الّذي لا يتحقق من دون قصده ، كما لا يتحقق بما لا يترتب عليه الاعتبار

ص: 83


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 270 - الطبعة الأولى.

كما لا يتحقق التعظيم بالفعل الّذي لا يرى عرفا انه تعظيم وان قصد به التعظيم.

الثاني : وهو رأي صاحب الكفاية : انه إيجاد للمعنى بوجود إنشائي وان لم يترتب عليه الاعتبار العقلائي ولذا يصح الإنشاء من الغاصب مع انه مما لا يترتب عليه الأثر عقلائيا (1).

الثالث : وهو ظاهر المحقق الأصفهاني وان لم يلتزم به عملا ، انه إيجاد المعنى باللفظ لا أكثر ، أو فقل انه استعمال اللفظ في المعنى من دون قصد الحكاية والاخبار (2).

الرابع : وهو قول السيد الخوئي ، انه إبراز الاعتبار النفسانيّ (3).

وقد عرفت فيما تقدم ان الصحيح من هذه الأقوال هو القول المشهور. وعليه فلا يمكن إنشاء كلا الحكمين على موضوع واحد ، إذ من المسلم ان اعتبار كلا الحكمين غير ثابت في آن واحد - غاية الأمر الاختلاف في منشأ ذلك وانه هو التضاد أو غيره ، وإلا فلم يقل أحد بجواز اجتماع الحكمين فعلا في شيء واحد - ، ومعه يمتنع ان يقصد بالاستعمال التسبيب إلى الاعتبار العقلائي ، إذ لا تحقق له بالنسبة إلى كلا الحكمين فكيف يقصد ذلك؟ فإنشاء كلا الحكمين ممتنع لتوقفه على ثبوت اعتبارهما معا وهو غير ثابت ، ومعه يستحيل قصد التسبيب وبدونه لا يتحقق الإنشاء لما عرفت ان قوامه بقصد التسبيب إلى تحقّق الاعتبار العقلائي.

فدعوى ان الإنشاء خفيف المئونة غير وجيهة على الرّأي المشهور والمختار في معنى الإنشاء.

ص: 84


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /285- المطبوعة ضمن حاشية فرائد الأصول.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على النهج الحديث /28- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 88 - الطبعة الأولى.

واما المرحلة الرابعة - أعني مرحلة الفعلية والتأثير - : فالحق أيضا استحالة ثبوت الحكمين الفعليين لا لأجل اللغويّة ، بل هو مستحيل في نفسه ولو من غير الحكيم ، وذلك لما تقدم منّا من بيان ان إمكان الداعويّة إما هو مأخوذ في قوام حقيقة التكليف حيث يعرّف بأنه جعل ما يمكن ان يكون داعيا. أو هو الغرض الداعي للتكليف بناء على انه جعل الفعل في عهدة المكلّف ، فيكون التكليف هو الحصّة الملازمة للإمكان المزبور.

لأنه من الواضح اختلاف الحكم التكليفي عن الوضعي ، ولذا لا يقول أحد بجواز تعلقه بالنائم ، فإذا فسر بأنه جعل الفعل في العهدة فلا بد ان يقيد - كما التزم به القائل في غير مورد - بما يكون الغرض منه إمكان الدعوة والتحريك كي يختلف عن الحكم الوضعي بذلك. وعلى هذا فالحكم التكليفي انما يتحقق في فرض يتصور فيه إمكان الدعوة.

واما في المورد غير القابل للدعوة والتحريك فيمتنع التكليف حقيقة لا انه لغو ، بل لا وجود له لأن تحققه كما عرفت بإمكان الدعوة ، إما لأجل ان ذلك دخيل في حقيقته ، أو انه الغرض منه وان التكليف هو ما يترتب عليه ذلك وغيره ليس بالتكليف وإلاّ لم يكن فرق بين الحكم التكليفي والوضعي.

وبما انه يستحيل الدعوة إلى الفعل والترك في آن واحد كان ثبوت الحكمين في أنفسهما مستحيلا لعدم ترتب الدعوة على كل من الاعتبارين معا ، كما لا يخفى. فظهر من جميع ما تقدم : ان الحكمين متنافيان ولا يمكن اجتماعهما في المراحل الأربعة.

وان ما ذكره المحقق الأصفهاني في بيان إمكان اجتماع الكراهة والإرادة في شيء واحد غير مجد بعد استحالة تحقق علة الوصفين في آن واحد. كما ان ما ذكره من إمكان اجتماع اعتبار الوجوب واعتبار الحرمة ، لأن قوام الاعتبار بالمعتبر لا بالموجود الخارجي. ولا مانع من تعدد الاعتبار في آن واحد غير مجد

ص: 85

أيضا بعد ان عرفت ان الحكم ليس مجرد الاعتبار ، بل هو الاعتبار الّذي يترتب عليه إمكان الداعوية ، فمع عدم إمكان الداعويّة يستحيل تحقق الحكم. والمفروض فيما نحن فيه عدم إمكان تحقق الداعوية لكلا الحكمين فيستحيل اجتماعهما معا. هذا تمام الكلام في المقدمة الأولى ، وقد عرفت فيها تضاد الأحكام ، وان شئت فقل تنافي الأحكام واستحالة اجتماعها في أنفسها ، ولو لم يكن ذلك من التضاد الاصطلاحي.

واما المقدمة الثانية : فتقريب ما أفاده صاحب الكفاية : ان العناوين والأسماء لا تكون وافية بالمصلحة والغرض ، فلا وجه لتعلق الحكم بها لأنه لا يتعلق بما لا يكون وافيا بالملاك ، واما نفس ما يصدر من المكلف خارجا فهو واف بالمصلحة فيكون متعلق الحكم.

وهذا الأمر ذكره قدس سره في بحث تعلق الأحكام بالطبائع ، وقد عرفت الإشكال فيه وان الحكم سواء قلنا انه الإرادة أو انه الاعتبار لا يتعلق بالموجود الخارجي ، بل هو يتعلق بالموجود التقديري بتعبير والفرضي بتعبير آخر والزعمي بتعبير ثالث وهو الموجود الّذي تخلفه النّفس للشيء. ولأجل ذلك كانت هذه المقدمة محطّ إشكال المحقق الأصفهاني (1).

والّذي يبدو لنا انه لا وقع لهذه المقدمة ، إذ لا أثر لها في المطلوب ، كما انه لا وقع للإشكال عليها لعدم دخالته في نفي الأثر المرغوب.

بيان ذلك : ان صاحب الكفاية بعد ان ذكر في المقدمة الأولى ان الأحكام متضادة فيما بينها صار بصدد ان يثبت وحدة المتعلق ، إذ مع تعدد المتعلق لا ينفع التضاد ، وبذلك صار في مقام أن ينفي تعلق الأحكام بالعناوين الانتزاعية لأنها متعددة مع وحدة الخارج كما هو الفرض ، فلا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد

ص: 86


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 273 - الطبعة الأولى.

لاختلاف متعلق الحكمين.

ولكن بعد ان عرفت بيان تنافي الأحكام وتضادها بما تقدم تعلم انه لا يختلف الحال في امتناع ثبوت الحكمين مع وحدة الوجود خارجا بين كونه هو متعلق الحكم أو كون متعلق الحكم هو العنوان المنطبق عليه ، اما إذا كان هو متعلق الحكم فامتناع تعلق الحكمين به واضح. واما إذا كان متعلق الحكم هو العنوان فمن الواضح ان تعلق الحكم به ليس لأجل ثبوت الغرض - الّذي لا بد منه في تعلق الإرادة والكراهة ولو كان غرضا شخصيّا - فيه ، بل لأجل وجوده في الوجود الخارجي والالتزام بتعلق الحكم به لأجل امتناع تعلقه بالخارج لبعض المحاذير. وقد عرفت ان الوجود الخارجي لا يمكن ان يشتمل في آن واحد على المصلحة الراجحة والمفسدة الراجحة ، فكيف يتعلق الحكمان بعنوانين ينطبقان عليه لعدم المنشأ لهما؟. فلا يمكن تعلق الإرادة والكراهة بالعنوانين ، كما لا وجه للإنشاء أيضا ، إذ لا يتحقق اعتبار الحكمين مع وحدة الوجود الخارجي لعدم ترتب الأثر عليه وهو إمكان الداعويّة ، لعدم التمكن من الامتثال فيمتنع قصد التسبيب إلى الاعتبار العقلائي مع انه قوام الإنشاء.

ومن هنا تعرف عدم إمكان ثبوت الحكمين الفعليين أيضا فلاحظ.

وبهذا البيان يتضح لديك انه لا أثر لإثبات كون المتعلق للإرادة والكراهة الوجود الفرضي التقديري في نفي التنافي بين الحكمين ، إذ الكلام السابق مع فرض وحدة الخارج يأتي بعينه على هذا التقرير ، فإثبات المقدمة أو نفيها ليس بذي أثر في إثبات أو نفي إمكان اجتماع الحكمين مع وحدة الوجود الخارجي ، بل الحكمان لا يجتمعان مع وحدة الخارج سواء التزم بان المتعلق هو الخارج أو العنوان أو الوجود الفرضي. فتدبر.

واما المقدمة الثالثة : فمحصل ما جاء في الكفاية في تقريبها : ان تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته ، ويشهد لذلك صدق العناوين

ص: 87

المتعددة على ما هو واحد لا تعدد فيه وفارد لا كثرة له كالذات الواجبة التي يصدق عليها عنوان العالم والمريد والمغني والقادر وغيرها من الصفات الكمالية والجلالية ، فعدم تعدد ذات واجب الوجود مع تعدد العناوين المنطبقة عليه شاهد صدق على ان تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني رحمه اللّه في كلية هذه الدعوى وذهب إلى : ان تعدد العنوان قد لا يستلزم تعدد المطابق خارجا وقد يستلزمه ببيان محصله : ان البرهان قد يقوم على استحالة كون الشيء الواحد مطابقا لمفهومين فيكون المفهومان متقابلين كالعلّية والمعلوليّة ، فان الواحد بما هو يستحيل ان يكون علة ومعلولا. وقد لا يقوم على ذلك فلا يمتنع ان يكون الشيء الواحد مطابقا لمفهومين.

وهذا النحو من المفاهيم.

تارة : يكون مبدؤه في مرتبة ذات الشيء ، فلا يستدعي العنوان ومبدؤه مطابقين ، بل يكون مطابقهما واحدا وهو الذات كالعناوين المنطبقة على ذات البارئ عزّ وجل لأنها تنتزع عن مرتبة ذاته تبارك وتعالى بلا حيثيّة زائدة فذاته تكون مطابقا للعنوان ومبدئه ، ولذلك يقال انه علم كلّه وقدرة كلّه ووجوب كلّه.

وأخرى : يكون مبدؤه في مرتبة متأخرة عن الذات فيكون للمبدإ وجود مغاير للذات قائم بها كالعناوين المنطبقة على الشيء بلحاظ عروض عرض عليه كانطباق الأبيض على الجسم بلحاظ عروض البيان عليه. وانتهى بهذا البيان إلى ان تطابق العناوين المتعددة لا يستدعي وحدة المطابق ولا كثرته ، فلا بد في إيقاع البحث في الصغرى ومعرفة ان الصلاة والغصب - مثلا - من أي القبيلين (1).

ص: 88


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 274 - الطبعة الأولى.

أقول : لم يتضح لنا المقصود بعبارة الكفاية ، كما لم يتضح لنا مدى ارتباط إشكال المحقق الأصفهانيّ بها.

فان مقصود الكفاية.

ان كان ما هو الظاهر منها من بيان ان الفرد الواحد لا يتعدد بتعدد العناوين المنطبقة عليه ، فذات زيد لا تكون فردين لأجل انطباق عنواني العالم والعادل عليها ، بل تبقى على وحدتها. فهذا أمر واضح لم يتوهم خلافه أحد حتى يصير في صدد دفعه ، إذ لم يتوهم متوهم ان ذات زيد بانطباق العناوين المتعددة تصير متعددة وتصير وجودات متكثرة بكثرة العناوين المنطبقة.

وعلى هذا التقدير لا ارتباط لكلام الأصفهاني به ، إذ ما أفاده قدس سره من ان المبدأ إذا كان منتزعا عن مرتبة متأخرة عن الذات كان له وجود آخر غير وجود الذات ، بعيد كل البعد عن محط نظر الكفاية من ان ذات المعنون لا تتعدد بتعدد العنوان. وليس صاحب الكفاية في مقام إنكار الوجود المغاير للمبدإ.

وان كان مقصود الكفاية بيان وحدة مطابق العنوان في قبال من يدعي تعدد الخصوصية المستلزمة للصدق ، وان تعدد العنوان لازمه تعدد الخصوصية في ذات المعنون ، فيروم صاحب الكفاية إنكار هذا المعنى وان مطابق العنوان نفس الذات ، بلا اختلاف في الخصوصية ، فهو متجه - بمعنى انه يصلح لأن يكون محل الكلام - ، لكن استشهاده بانطباق العناوين المتعددة على ذات الباري جلّ اسمه غير سديد ، إذ بساطة الذات المقدسة وعدم تعدد الخصوصيات فيها امر مفروغ عنه عند الجميع حتى عند من يذهب إلى لزوم التعدد بتعدد العنوان. غاية الأمر انه يوجه ذلك باختلاف نحو الصدق هنا عن سائر المقامات ، أو اختلاف معنى المبدأ هنا عنه في غيره من المقامات فلا وجه لإلزامه به كما لا يخفى.

ومن الواضح بعد ما أفاده المحقق الأصفهاني عن مطلب الكفاية على

ص: 89

هذا التقدير ، إذ ليس المنظور في كلامه وحدة المبدأ مع الذات وعدم وحدته.

وان كان المقصود ان انطباق العناوين لا يستلزم تعدد جهات الصدق وجودا ، بل يمكن ان تكون واحدة في الخارج مع تعدد العنوان. فيرجع كلامه إلى وحدة وجود المبادئ خارجا وعدم تعدده وإن تعدد العنوان. فهو محل الكلام ، إلاّ انه خلاف ظاهر عبارته جدا ، وليس الظاهر منها الا الاحتمال الأول ، وظاهر أن كلام الأصفهاني أجنبي عن ذلك لأنه في مقام بيان اختلاف المبدأ مع الذات وصاحب الكفاية في مقام نفي اختلاف المبادئ بعضها مع بعض وجودا.

ومحصل الكلام : إننا نستطيع دعوى عدم ظهور المراد من عبارة الكفاية وعدم ظهور ارتباط كلام المحقق الأصفهاني بمطلبه.

وعلى أي حال فعمدة البحث في محل الاجتماع في جهتين :

الجهة الأولى : وهي التي حرر الكلام فيها المحقق النائيني قدس سره تمهيدا للإيراد على صاحب الكفاية وتحقيقا للقول بالجواز ، وهي تحرير البحث في : ان تعدد العنوان هل يقتضي تعدد جهات الصدق - وبتعبير آخر : « المبادئ » - خارجا أو لا؟. ونحن وان كنا ملتزمين في نهج البحث بطريقة الكفاية ، ومقتضاه تأخير كلام المحقق النائيني وذكره في طي التعرض لأدلة الجواز لكنه بما انه مرتبط بكلام الكفاية - على بعض احتمالاته - كان المناسب التعرض إليه ، وان كان منافيا بطريقة البحث التي نسلكها.

فنقول ومن اللّه سبحانه نستمد العصمة : انه قدس سره ذكر مقدمات عديدة ، وعمدتها ما تعرض فيها إلى كون التركيب بين المبادئ انضماميا لا اتّحاديا.

وقبل التعرض لذلك أشار قدس سره إلى ما هو محل البحث وموضوع الكلام.

فذكر ان موضوع الكلام ما كان مبدأ الاشتقاق فيه من الأفعال الاختيارية لا من الصفات الجسمانية كالبياض والنفسانيّة كالشجاعة ، لأن ما لم

ص: 90

يكن من الأفعال الاختيارية لا يكون متعلقا للأمر والنهي ، لأنهما انما يتعلقان بما هو داخل تحت الاختيار لا ما هو خارج عنه. كما انه لا يدخل في محل الكلام ما كان الفعلان اللذان أحدهما يكون متعلقا للأمر والآخر يكون متعلقا للنهي مما لهما وجود وإيجاد متعدد وكان أحدهما مغايرا وجودا للآخر كالصلاة والنّظر إلى الأجنبية ، فانه لا إشكال في جوازه لأنه ليس من اجتماع الأمر والنهي في واحد ، بل متعلق النهي غير متعلق الأمر حتى بالنظر العرفي.

وعليه ، فمحل الكلام ما كان كل من متعلق الأمر والنهي فعلا اختياريا وكانا بحسب الصورة موجودين بوجود واحد سواء كان من المبادئ المتأصلة أو المبادئ الانتزاعية.

فجهة الكلام هو ان التركيب بين المتعلقين انضمامي ، بمعنى ان وجود كل منهما غير وجود الآخر حقيقة ، أو اتحادي ، بمعنى ان وجودهما واحد في الحقيقة وقد ذهب قدس سره إلى التفصيل بين مبادئ الاشتقاق والعناوين الاشتقاقية ، فذهب إلى كون التركيب بين المبادئ تركيبا انضماميا والتركيب بين العناوين الاشتقاقية تركيبا اتحاديا.

واستدل على كون التركيب بين المبادئ انضماميا : بان المبدأ هوية واحدة محفوظ بتمام هويته من دون نقصان أين ما سرى ، فالبياض الموجود مع الحلاوة عين البياض الموجود في العاج ، والصلاة مع الغصب عين الصلاة في مكان آخر غير مغصوب ، وهكذا الغصب مع الصلاة لا تختلف هويته عن الغصب مع غير الصلاة. وإذا كانت هوية المبدأ هوية واحدة لا اختلاف فيها أين ما سرت لزم ان يكون التركيب بين المبادئ تركيبا انضماميا.

كما انه استدل على كون التركيب بين العناوين الاشتقاقية تركيبا اتحاديا : بان معروض العنوان وما ينطبق عليه هو الذات ، وهي لا تتعدد بتعدد العنوان وان كان العرض القائم بها متعددا ، فالذات التي ينطبق عليها الأبيض

ص: 91

والحلو ذات واحدة.

إلاّ ان البيان الّذي ذكره قاصر عن أداء هذا المعنى ، بل هو يتضمن ان وحدة العرض لا توجب وحدة المعروض ، ثم انتهى إلى النتيجة التي ذكرناها.

ثم انه قدس سره ذكر بعد ذلك ان جهة صدق العناوين الاشتقاقية على الذات جهة تعليلية ، وهي قيام المبدأ بالذات ، إذ لا تعدد في ذات المعروض ، وانما هو في العرض القائم بها فالمعروض هو نفس الذات. كما ان جهة صدق كل من المبادئ في مورد الاجتماع جهة تقييدية لوجود كل من الهويتين في المورد ، ومن هنا التزم بكون التركيب انضماميا. والمقصود بالجهة التقييدية كون الفرد الواحد مندرجا تحت هويتين حقيقة ، وبذلك تختلف الجهة التقييدية هنا عنها في باب المطلق والمقيد ، فانها هناك توجب تضييق الكلي وهنا توجب التوسعة في الوجود الواحد وتجعله مصداقا لهويتين (1). هذا ملخص ما أفاده.

وهو لا يخلو عن مناقشات نذكرها بالتفصيل :

الأولى : فيما ذكره من الدليل على تعدد المبادئ ، وكون التركيب بينهما انضماميا. فانه غير تام ، لأن مجرد كون المبدأ محفوظا بتمام هويته أين ما سرى لا يوجب عدم اتحاده مع الخصوصية المنضمة إليه ، فان الجنس محفوظ بتمام هويته مع جميع الفصول ، فالحيوانية الموجودة مع النطق عينها موجودة مع غيره من الفصول ، مع انه متحد معها وجودا ، وليس التركيب بين الجنس والفصل تركيبا انضماميا ، بل هو تركيب اتحادي.

فالمتعين في طريقة الاستدلال ان يقال : ان كل مبدأ ماهية مستقلة ومقولة خاصة غير المبدأ الآخر ، والمقولات متباينة يستحيل ان تتحدد فيما بينها ، لأن الوجود الواحد لا يمكن ان يكون له إلا ماهية واحدة ، فتعدد الماهية يستلزم تعدد

ص: 92


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 336 - 338. الطبعة الأولى.

الوجود كما أشار إلى ذلك صاحب الكفاية في مقدمته الرابعة (1).

الثانية : فيما ذكره من كون التركيب بين العناوين الاشتقاقية اتحاديا. فانه غير صحيح ، والوجه في ذلك : أنه ..

إما ان يلتزم في باب المشتق بان معنى المشتق بسيط ، بمعنى انه يكون نفس المبدأ ، فالعالم بمعنى العلم وهكذا. غاية الأمر الفرق بينهما ان المعنى المصدري مأخوذ بشرط لا ، فلا يصح حمله على الذات ، والعنوان الاشتقاقي مأخوذ لا بشرط فيصح حمله على الذات وإلاّ فلا فرق بينهما ذاتا.

واما ان يلتزم بكون معناه مركبا من الذات والتقيد بالعرض ، فيكون معنى عالم ذات لها العلم على ان يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا.

فعلى الأول : لا فرق بين العناوين الاشتقاقية والمبادئ في كون التركيب بينهما انضماميا ، لأن حقيقة العنوان الاشتقاقي والمبدأ شيء واحد لا اختلاف فيها ، فإذا كان التركيب بين المبادئ انضماميا كان بين العناوين الاشتقاقية كذلك لا محالة ، ويمتنع التفكيك لوحدة معناهما ، فما قيل في وجه الانضمامية في تركيب المبادئ يتأتى بنفسه في تركيب العناوين الاشتقاقية.

ومن الغريب ان المحقق النائيني ممّن يلتزم ببساطة المشتق وكون معناه لا يختلف عن المبدأ ذاتا ، ثم يلتزم هنا بالتفكيك بين المبادئ والعناوين الاشتقاقية في نحو التركيب بينها. فالتفت ولا تغفل (2).

وعلى الثاني : فالتخصص بالخصوصية وان كان من كيفيات الوجود وليس له وجود منحاز عن وجود الذات ، إلاّ ان كل تخصص واقعا يختلف عن واقع التخصص بالخصوصية الأخرى ، فما ينطبق عليه كل عنوان يختلف عما ينطبق

ص: 93


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /159- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 65 و 337 - الطبعة الأولى.

عليه العنوان الآخر ، فما ينطبق عليه العالم هو الذات المتخصصة بخصوصية العلم ، وما ينطبق عليه الفاسق هو نفس الذات ، لكن المتخصصة بخصوصية الفسق. ومن الواضح ان المجموع من الذات والتخصص بخصوصية العلم يختلف واقعه عن المجموع من الذات والتخصص بخصوصية الفسق ، وان كان الوجود واحدا.

وهذا الاختلاف قد يصير منشئا لدعوى جواز اجتماع الأمر والنهي مع اختلاف العنوانين ، وهو محل البحث في الجهة الثانية من جهتي الكلام في هذا المبحث. فانتظر.

وجملة القول : ان الالتزام بكون التركيب اتحاديا بين العناوين الاشتقاقية غير سديد.

الثالثة : فيما ذكره أخيرا من كون جهة الصدق في العناوين الاشتقاقية جهة تعليلية وفي المبادئ جهة تقييدية. فانه - مع غض النّظر عن إمكان تصور معنى للجهة التقييدية بالنحو الّذي ذكره وعدمه - غير دخيل في تحقيق المقام أصلا بعد ان ذكر ان التركيب بين المبادئ انضمامي ، فانه لا يختلف الحال فيه حينئذ بين معرفة كون جهة الصدق فيها جهة تقييدية وعدم معرفته ، فالتعرض إليه كمقدمة من مقدمات المطلب غير متجه ، كما انه تطويل بلا طائل ، ولعله مما يوجب غموض المطلب على الباحث لا إيضاحه.

واما الوجه الّذي بنى عليه القول بالجواز ، وهو كون التركيب بين المبادئ انضماميا ، ومعناه تعدد الوجود في الخارج حقيقة فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي ولا يكونان شيئا واحدا كي يلزم اجتماع الضدين.

فقد ناقشه السيد الخوئي « مدّ ظلّه » بأنه ممنوع على إطلاقه ، لأنه انما يتم فيما إذا كان المبدءان من المبادئ المتأصّلة ، فان لازم تعدد المبدأ تعدّد الوجود لاستحالة انطباق مقولتين وماهيتين حقيقيتين على وجود واحد ، كالبياض والحلاوة

ص: 94

والعلم والعدالة وهكذا. واما إذا كان أحد المبدأين أو كلاهما من المبادئ الانتزاعية فلا يتم ما ذكره ، لأن المبدأ الانتزاعي لا وجود له خارج إلا بوجود منشأ انتزاعه ، فلا بد من ملاحظة منشإ انتزاعه ، فان كان مغايرا في الوجود مع المبدأ الآخر أو منشأ انتزاع الآخر جاز اجتماع الأمر والنهي فيتعلق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر ، وان اتحد منشأ الانتزاع مع المبدأ الآخر وجودا بان كان المبدأ الانتزاعي منتزعا عن الفعل المنطبق عليه المبدأ الآخر أو اتحد منشأ انتزاع كلا المبدأين امتنع اجتماع الأمر والنهي ، إذ الوجود الخارجي واحد لا غير.

فمجرد تعدد المبادئ لا يستلزم تعدد كما ذكره قدس سره ، بل انما يستلزمه في صورة تعدّد المبادئ المتأصلة.

هذا ملخص مناقشة السيد الخوئي في أصل الكبرى.

ثم انه ( حفظه اللّه تعالى ) ذكر : ان الغصب من المبادئ الانتزاعية لا المتأصلة ، فهي تنتزع من الفعل بلحاظ كونه تصرفا في مال الغير بدون إذنه ، فهو متحد مع ما ينتزع منه فلا يمكن تعلق الأمر بما ينتزع منه الغصب وتعلق النهي بالغصب ، نظير شرب الماء إذا كان الماء مغصوبا ، فان الغصب ينطبق على نفس الشرب فيمتنع ان يكون الشرب مأمورا به في الوقت الّذي يتعلق النهي بالغصب فانه من باب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد حقيقة.

وبما ان المحقق النائيني رحمه اللّه اعترف بعدم صحة تعلق الحكمين في مثل المثال المزبور.

لذا أورد عليه السيد الخوئي أيضا : ان هذا مناقض لما تقدم منه من ان تعدد المبادئ يوجب تعدد الوجود ، وانه لا فرق بين الصلاة في الدار المغصوبة وشرب الماء المغصوب في كون كل منهما من باب تعدد المبدأ المستلزم لتعدد الوجود ، فإذا كان التركيب الانضمامي بين المبادئ نافعا في مثل الصلاة في الدار

ص: 95

المغصوبة فلما ذا لا ينفع في مثل مثال شرب الماء المغصوب (1).

أقول الحق ان مناقشته الصغروية غير تامة.

ووضوح ذلك يتوقف على ذكر أمرين :

الأمر الأول : ان الانتزاعيات على قسمين :

أحدهما : ما يمكن ان يكون واقعه ومنطبقه من الأمور الحقيقية ذات الوجود المتأصل الحقيقي ، وذلك كالمفاهيم والعناوين الاشتقاقية ، كعنوان إنسان وعنوان ضارب ، وهكذا فانها عناوين انتزاعية لكنها تنطبق على ما له واقع ووجود متأصل.

ثانيهما : ما يقال عنه انه انتزاعي بلحاظ انه بواقعه أمر انتزاعي لا حقيقي فليس له واقع وراء الانتزاع ، وذلك كالقبلية والفوقية ونحوها. وقد اختلف في كون هذا النحو من الأمور من المقولات أو لا ، وقد حقق كونها من المقولات لكن قيل عنها بأنها أضعف المقولات لأنها ذات واقع خاص فلا يمكن ان لا تكون مقولة وان تنفي عنها الواقعية بالمرة ، كما انها ليست بذات واقع ووجود مستقل عن غيره كي تكون في عداد سائر المقولات ، فالانتزاعي يطلق ويراد به تارة ما كان بواقعه كذلك وأخرى يراد به المفهوم الانتزاعي وان كان واقعه من الحقائق المتأصلة. وقد عرفت ان العناوين الاشتقاقية من هذا القبيل ، فهي عناوين انتزاعية قد تنطبق على ما له واقع حقيقي متأصل كالضارب والقائم وقد تنطبق على غيره كالفوق والقبل وغيرهما.

الأمر الثاني : ان المبادئ على أنحاء ثلاثة :

الأول : ما يكون من المسببات التوليدية كالإحراق والقتل.

الثاني : ما لا يكون كذلك وكانت نسبته إلى الخارج نسبة الطبيعي إلى

ص: 96


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه4/ 261 - الطبعة الأولى.

فرده بان يكون له حقيقة وماهية تنطبق على الخارج باعتبار انه فردها كالضرب والقيام والأكل.

الثالث : ما تكون نسبته إلى الخارج نسبة العنوان إلى المعنون بان لا يكون له حقيقة وواقع يكون الخارج فردا لها ، بل يكون عنوانا لحقائق مختلفة وليس له وراءها واقع مقولي. كالغصب إذا كان بمعنى التصرف ، فان التصرف ليس له واقع غير واقع الأفعال التي ينطبق عليها من قيام وقعود ونحوهما. ونظيره في الجوامد مفهوم : « شيء » فانه لا واقع له أصلا وانما هو مجرد عنوان يعنون به الحقائق المختلفة من متأصلة وغيرها ، فالغصب بمعنى التصرف ليس له واقع وراء ما ينطبق عليه ، كيف؟ وهو ينطبق على الحقائق المقولية المتأصلة كالقيام والقعود ، وعلى الحقائق الاعتبارية كالاستيلاء الاعتباري على مال الغير من دون تصرف خارجي كاستيلاء السلطان على أراضي الغير الشاسعة فانه لا ينضم إلى مجرد الاعتبار شيء من الأفعال الخارجية التي ينطبق عليها التصرف. كما لا يخفى. ومن الواضح انه لا جامع مقولي بين الأمور الواقعية والأمور الاعتبارية كي يدعي انه واقع الغصب وحقيقته كما انه ليس اسما لكل امر ينطبق عليه بحيث يكون كل امر مما ينطبق عليه الغصب له اسمان أحدهما اسمه المختص به والآخر اسم الغصب ويكون الوضع بنحو الوضع العام والموضوع له خاص ، فان هذا مما يكذبه الوجدان. إذن فهو موضوع لعنوان لا واقع له وهو التصرف في ملك الغير لكن لا مطلقا ، بل بلحاظ تخصصه بخصوصية ، وهي عدم كونه برضا المالك أو كونه مع كراهة المالك.

وعلى هذا فالغصب وان كان من المبادئ التي يتفرع عنها العناوين الاشتقاقية كغاصب ومغصوب ونحوهما ، إلاّ انه نظير (1) العناوين الاشتقاقية في

ص: 97


1- بل ذهب سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) أولا إلى إمكان دعوى انه ليس من المبادئ ، بل من العناوين نظير الصفة المشبهة ، وانما المبدأ هو الغصبية كالقبل والقبلية. ( منه عفي عنه ).

سائر الموارد في كونه ليس بذي واقع غير ما ينطبق عليه. وانما ينطبق على مورده بلحاظ تخصصه بخصوصية خاصة. وعليه ، فان كان معنونه وما ينطبق عليه غير المأمور به كان المورد من موارد جواز الاجتماع ومن موارد التركيب الانضمامي - بحسب تعبير المحقق النائيني - ، كالصلاة في الدار المغصوبة في نظره قدس سره ، لأن منطبق الغصب غير الصلاة فانه من مقولة الأين والصلاة من مقولة الفعل أو الوضع. وان كان معنونه نفس المأمور به امتنع اجتماع الحكمين لوحدة متعلقهما كشرب الماء المغصوب إذا كان الشرب مأمورا به.

فالفرق بين الصورتين موجود ونظر المحقق النائيني إلى ما ذكرناه في التفريق ، إذ ليس من المحتمل في حقه أنه يرى ان نفس الغصب من مقولة الأين في مثال الصلاة في الدار المغصوبة.

ويشهد لذلك : انه قدس سره جعل خروج مثال الشرب عن محل النزاع من فروع كون التركيب اتحاديا ، نظير : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » ، من جهة تعنون الشرب نفسه بعنوان الغصب لأنه تصرف في مال الغير. فلا يمكن ان يكون بنفسه واجبا. مما يكشف عن ان الملحوظ في كلامه هو معنون الغصب وانه متحد مع الواجب أو مغاير.

فإشكال السيد الخوئي ناشئ من الخلط في الانتزاعيات بين ما كان من المفاهيم وبين ما كان واقعه انتزاعيا ، فجعل الغصب من الثاني مع انه من قبيل الأول وهو منظور في كلام المحقق النائيني ، فانه لا يرى كون التركيب بين المبادئ مطلقا انضماميا ، كما لا يخفى على من لاحظ كلامه ، بل نتيجة كلامه قدس سره هو التفصيل الّذي عرفته بين المبادئ ، فانه يذكر ان الأمر إذا تعلق بالمسبب التوليدي ، فبما ان الحكم حقيقة يتعلق بالسبب فلا بد من ملاحظة ان

ص: 98

السبب هو متعلق الأمر أو غيره ، فان كان هو لزم اتحاد متعلق الأمر والنهي ، وان كان غيره تعدد متعلق الأمر والنهي وكان أحدهما غير الآخر.

فلا إشكال على المحقق النائيني قدس سره سوى انه أجمل الكلام في ذلك ولم يوضحه من أول الأمر ولم يستثن بدوا ما كان من المبادئ كالغصب. وهو إشكال لفظي.

واما مناقشته الكبروية ، فهي وان كانت تامة في نفسها حيث ان الأمور الانتزاعية لا وجود لها غير وجود منشأ انتزاعها ، فليس التركيب بينها وبين منشأ انتزاعها انضماميا ، بل هو اتحادي ، إلاّ انها لا تنتهي بمجرد ذلك إلى النتيجة المطلوبة في محل البحث وهي امتناع الاجتماع.

بل لا بد من وقوع البحث في ..

الجهة الثانية : وهي ان الوجود الواحد إذا كان له جهتان ، فهل يمكن ان تكون إحداهما متعلقا للأمر والأخرى متعلقا للنهي ، بحيث يكون تعدد الجهة نظير تعدد الوجود أو لا؟. وهذه هي الجهة المهمة في البحث فانها بحث كبروي له أثر في اجتماع الأمر والنهي وعدمه. اما البحث في الجهة الأولى فهو بحث في الحقيقة صغروي ، إذ قد فرض فيه جواز الاجتماع مع تعدد الوجود وامتناعه مع وحدته ، وأوقع البحث في تحديد ضابط للصغرى ، أعني مورد تعدد الوجود ووحدته. وأنه في أيّ مورد يكون الوجود متحدا وأيّ مورد يكون الوجود فيه متعددا؟.

وهذا غير مهمّ في المقام وان كان له أثره ، وانما المهم هو البحث عن ان تعدد الخصوصية مع وحدة الوجود الواقعي هل يجدي في رفع غائلة اجتماع الضدين أو لا؟. وهذا المعنى مغفول عنه في كلامي النائيني والخوئي ، بل كلامهما مركّز على بيان موارد تعدد الوجود ووحدته بنحو الضابطة الكلية.

ومورد البحث في الجهة الثانية هو العناوين الاشتقاقية المنطبقة على ذات

ص: 99

واحدة بناء على التركيب ، فان الذات تكون مشتملة على خصوصيتين - مثلا - والأفعال المتخصصة بخصوصيتين والمشتملة على جهتين وهكذا المبادئ الانتزاعية ، فان البحث فيها من هذه الجهة.

وبما ان العناوين الاشتقاقية كالعالم والفاسق مما تؤخذ في موضوعات الأحكام لا في متعلقاتها ، كانت خارجة عن دائرة البحث فيما نحن فيه ، نعم الفعل الواحد المضاف إلى شخص ذي عنوانين يكون داخلا في محلّ البحث ، لاشتماله على خصوصيتين ، وذلك كإكرام زيد العالم الفاسق ، فهو ذو جهتين.

وعليه ، فنقول : الخصوصية المفروضة ، تارة تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة. وأخرى تكون دخيلة في وجود مصلحة الفعل وترتبها عليه.

اما النحو الأول : فهو خارج عن محل الكلام لوجهين :

أحدهما (1) : ان الخصوصية إذا كانت دخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمعناه ان الأثر في نفسه يترتب على الفعل ولو لم تكن الخصوصية ، وانما الخصوصية دخيلة في كون الأثر من المصالح التي تتعلق بها الأغراض العقلائية ، وذلك نظير دخالة المرض في كون الدواء ذا مصلحة ، فان أثر الدواء يترتب عليه مطلقا في حال المرض وغيره ، إلاّ انه انما يكون من المصالح في حال المرض فقط اما في غيره فلا يكون أثره متعلقا للغرض العقلائي. وإذا كان الحال كذلك فمعناه : ان المصلحة والمفسدة مما يترتب على نفس الفعل وليست الخصوصية إلاّ مؤثرة في صيرورة الأثر مصلحة أو مفسدة.

ص: 100


1- قد يستشكل : بان هذا الوجه لا يختص به النحو الأول ، لأنه مرجعه إلى إحراز كون المصلحة والمفسدة مما يترتبان على العمل بنفسه ، والحال عند ذلك لا يختلف بين القيد الدخيل في الاتصاف بالمصلحة والقيد الدخيل في وجودها. وقد أفاد السيد الأستاذ دام ظله : ان هذا الوجه يذكر في قبال الصورة الثالثة من صور النحو الثاني ، فان القيد في نفسه ذو مصلحة وهو دخيل في ترتب المصلحة على نفس العمل لكنها المصلحة الضمنية. فهو متمم بوجوده للمصلحة ومحصل لمصلحة الفعل الضمنية فلا يجري فيه هذا الوجه من الإشكال. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

وبما انه يمنع اجتماع المصلحة الراجحة والمفسدة الراجحة في شيء واحد فلا إشكال في مثل هذه الحال في امتناع اجتماع الحكمين.

ثانيهما : ان الخصوصية إذا كانت دخيلة في صيرورة الفعل ذا مصلحة ، فذلك يقتضي أنها عند وجودها يصير الفعل كذلك ، وحينئذ تنشأ الإرادة والكراهة والحب والبغض ، ومن الواضح انه يمتنع ان يكون نفس الخصوصية متعلقة للحب والبغض حينئذ لوجودها خارجا ، فالمتعلق انما هو نفس الفعل بلحاظ مصلحته أو مفسدته الخاصة به فيمتنع اجتماع الحكمين فيه. كما عرفت.

إذا عرفت ذلك تعرف ان الفعل الواحد المضاف إلى عنوانين اشتقاقيين خارج عن دائرة النزاع ، لأن كلا من الخصوصيّتين لا يكون متعلقا للرغبة والكراهة ، لأنهما مما يكونان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة والمفسدة لأخذهما في موضوع الحكم وهو يقتضي ذلك.

ولأجل ذلك لم يتوقف أحد في كون مثل : « أكرم العالم ولا تكرم الفاسق » متعارضين في العالم الفاسق مع تعدد خصوصية الإكرام بلحاظ تعدد العنوان.

واما النحو الثاني : فهو محلّ الكلام ، والبحث فيه في صور :

الأولى : ان تكون المصلحة الراجحة في ذات العمل والمفسدة الراجحة في الخصوصية بنفسها أو بالعكس.

الثانية : ان تكون إحداهما في خصوصية والأخرى في خصوصية ثانية.

الثالثة : ان تكون في ذات العمل مصلحة راجحة وفي المجموع من الذات والخصوصية مفسدة راجحة أو بالعكس.

الرابعة : ان تكون إحداهما في نفس الخصوصية والأخرى في المجموع.

الخامسة : ان يكون في المجموع مصلحة راجحة وفيه أيضا مفسدة راجحة ، بحيث يكون كل من العمل والمفسدة ذا مصلحة ومفسدة ضمنيتين.

فيقع الكلام في إمكان هذه الصور ونتيجة ذلك.

ص: 101

اما الصورة الأولى : فلا إشكال في إمكانها ، لأن الخصوصية وإن لم يكن لها وجود مستقل عن العمل ، إلاّ انها مما يمكن أن تكون متعلقا للأغراض العقلائية من دون ان يلحظ العمل أصلا ، بل لا يكون الملحوظ في ترتب الغرض سوى نفس الخصوصية ، وحينئذ تكون هي بذاتها متعلقا بما ينبعث عن الغرض من كراهة أو رغبة وإرادة ، ويكون العمل على العكس منها ، لأنه متعلقا للغرض المعاكس فيجتمع الإرادة والكراهة في وجود واحد حقيقة ، إلاّ ان متعلق إحداهما يختلف عن الآخر فان أحدهما الفعل والآخر هو الخصوصية وإن كانا موجودين بوجود واحد حقيقة.

ونحن وان التزمنا بامتناع الكراهة والإرادة في شيء واحد ، إلاّ انه ليس لما هو المشهور من كونه لأجل تضاد الوصفين أنفسهما كي يطرد ذلك في جميع الموارد ، بل من جهة امتناع اجتماع منشأيهما وهما المصلحة الخالصة أو الراجحة والمفسدة الخالصة أو الراجحة في امر واحد. وهذا في ما نحن فيه منتف ، لأن ما فيه مصلحة الخالصة أو الراجحة غير ما في المفسدة الخالصة أو الراجحة ، فان أحدهما الفعل والأخر الخصوصيّة واختلاف الفعل والخصوصية في ذلك أمر وجداني يظهر بمراجعة الوجدان ، فانه من الممكن ان يكون العمل ذا مصلحة راجحة فيكون متعلقا للرغبة في الوقت الّذي تكون خصوصيته متعلقة للكراهة باعتبار اشتمالها على المفسدة الراجحة ، إذ واقع الخصوصية غير واقع الفعل وإن كانا بحسب الوجود متحدين.

ومن هذا البيان يظهر الحكم في ..

الصورة الثانية : فانه من الممكن ان تكون إحدى الخصوصيّتين متعلقا للرغبة بلحاظ ما فيها من المصلحة ، والخصوصية الأخرى متعلقا للكراهة بلحاظ ما فيها من المفسدة.

نعم ، في مقام العمل قد لا يرجح العاقل إحداهما على الأخرى مع كون

ص: 102

المصلحة جابرة لما تنتجه المفسدة ، ويرجع الترك لو لم تكن جابرة بنحو كامل ، ويرجح الفعل لو كانت جابرة مع زيادة. وذلك لا يعني ملاحظة قاعدة الكسر والانكسار وانحصار الأمر في الكراهة أو الإرادة أو انعدامهما معا ، بل هذا من قبيل ملاحظة حال المتلازمين اللذين يكون أحدهما ذا مفسدة والآخر ذا مصلحة ، من عدم ترجيح أحدهما على الآخر مع انجبار المفسدة المترتبة على أحدهما ، بالمصلحة المترتبة على الآخر وترجيح الغالب منهما على الآخر. بل هو نظير ملاحظة الأهم من الحكمين في مطلق موارد تزاحم الوجوب والحرمة. فتدبر.

وأما الصورة الثالثة : فهي ممتنعة لما تقدم من ان الشيء الواحد وان كان يمكن ان يشتمل على مفسدة ومصلحة ، لكنه لا يمكن ان يشتمل على ما هو من شيء الإرادة والكراهة منهما وهما المصلحة الراجحة والمفسدة كذلك. وعليه فيمتنع ان تكون في الفعل مصلحة راجحة وفيه أيضا مفسدة راجحة ضمنية ، لاستلزامه اجتماع وصفي الراجحية والمرجوحية في كل من المفسدة والمصلحة وهو ممتنع ، وعلى هذا فيمتنع ان يكون الفعل بذاته متعلقا للكراهة الضمنيّة والإرادة الاستقلالية لامتناع تحقق منشئهما.

ومنه يظهر الحكم في الصورة الرابعة ، فان الكلام فيها كالكلام في الثالثة بلا اختلاف.

هذا تحقيق الكلام في مسألة الاجتماع.

وقد ذكر المحقق العراقي رحمه اللّه في مقالاته في بداية البحث : أن موضوع الكلام ما كان هناك وجود واحد حقيقة ذو جهتين : إحداهما تكون متعلق الأمر. والأخرى تكون متعلق النهي. ففرض وحدة الوجود في محل النزاع ، وأنكر على من جعل أساس البحث كون التركيب انضماميا أو اتحاديا ، لأن انضمامية التركيب معناها تعدد الوجود وهو خروج عن محل البحث فانه مما لا

ص: 103

إشكال في جوازه (1).

وهو بهذا المطلب على حق لما عرفت من ان البحث الكبروي في هذه المسألة عن ان الوجود الواحد ذا الحيثيتين هل يمكن ان يكون موردا للاجتماع أو لا؟. وقد عرفت تفصيل الكلام فيه. اما البحث عن أن أي مورد يكون التركيب فيه انضماميا وأي مورد يكون التركيب فيه اتحاديا فهو بحث لتشخيص ضابط الصغرى وهو لا يتناسب مع البحث الأصولي.

ولكنه قدس سره ذكر في مقام تحقيق المسألة : ان الوجود الواحد إذا كان ذا حيثيتين إحداهما كانت مصداقا وفردا لعرض والأخرى كانت مصداقا وفردا لعرض آخر ، فاما ان لا يكون بين الحيثيتين جهة مشتركة جامعة. واما ان يكون بينهما جهة مشتركة. فان لم يكن بينهما جهة مشتركة جاز اجتماع الأمر والنهي لاختلاف متعلقيهما وانحياز كل منهما عن الآخر تماما. وان كانت بينهما جهة مشتركة لم يجز اجتماع الأمر والنهي ، لاستلزامه اجتماع الحكمين في شيء واحد. ببيان محصله : ان متعلق الحكم ليس هو الوجود الخارجي ، لأنه ظرف السقوط كما انه قد يكون الحكم ولا يكون الوجود الخارجي ، وانما متعلقه الوجود الذهني ، وبما ان الموجود الذهني يشتمل على الطبيعي مع خصوصية الوجود كان الحكم ثابتا للطبيعي المتحقق ضمنا في الموجود الذهني. وعليه ففرض وجود الجهة الجامعة بين الخصوصيّتين يستلزم فرض تعلق الحكمين الثابتين للخصوصيتين بالجهة الجامعة لوجودها في ضمن كل من الخصوصيّتين ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في شيء واحد وهو محال بلا إشكال.

وهذا البيان منه قدس سره لا يخلو من إشكال من جهتين :

الأولى : ما ذكره من ان متعلق الحكم هو الوجود الذهني ، فانه غير

ص: 104


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 122 - الطبعة الأولى.

صحيح فقد تقدم ان الوجود الذهني لا يشتمل على مناط الحكم كي يكون متعلقا له ، وانما متعلق الحكم هو الوجود التقديري الزعمي. فراجع تحقيق ذلك في مبحث تعلق الأحكام بالطبائع (1).

الثانية : ما ذكره في تقريب امتناع الاجتماع فيما كانت بين الخصوصيّتين جهة مشتركة. فانه غير صحيح أيضا لأنه ينتقض عليه بعروض الأوصاف الخارجية على الموجودات الخارجية ، فانه يستلزم عروض الوصفين المتضادين على الطبيعي فيما كان أحدهما عارضا على فرد من طبيعي والآخر عارضا على فرد آخر منه ، كما إذا عرض السواد على ثوب والبياض على ثوب آخر ، فانه بناء على ما ذكره يلزم عروض الوصفين على طبيعي الثوب لوجوده ضمنا في كل من الفردين.

والحل في الجميع : ان اجتماع الوصفين المتضادين انما يمتنع لو كان معروضهما واحدا شخصيا كهذا الجسم مثلا. اما إذا كان واحدا نوعيا فلا امتناع فيه كما لو كان معروض كل من الوصفين غير معروض الآخر شخصا وانما يجمعهما طبيعي واحد. وما نحن فيه كذلك ، إذ الأمر والنهي قد تعلق كل منهما بحصة غير الأخرى وجامعهما الطبيعي ، وهو لا محذور فيه ، ولو كان المراد من اجتماع الضدين في واحد ما يعم الواحد النوعيّ لم يكن اجتماع الضدين ممتنعا لتحققه خارجا بحد لا يحصى كما لا يخفى.

هذا مع انا لا نتصور فعلا المصداق الخارجي لهذه الصورة ، أعني صورة وجود الجهة المشتركة بين الخصوصيّتين.

هذا تمام الكلام في تحقيق كبرى المسألة.

ويقع الكلام بعد ذلك في تحقيق الصغرى المشهورة ، وهي : الصلاة في

ص: 105


1- راجع 2 / 469 من هذا الكتاب.

الدار المغصوبة فقد وقع الكلام بين الأعلام في انها من مصاديق اجتماع الأمر والنهي في واحد أو لا؟.

ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى ان متعلق الأمر في المثال غير متعلق النهي ، فان متعلق النهي من مقولة الأين لأنه الكون في الدار المغصوبة ، ومتعلق الأمر الّذي يتوهم اتحاده مع المنهي عنه من مقولة الوضع وهو القيام والركوع والسجود ونحوهما لأنها أسماء للهيئة الخاصة العارضة على الوجود ، اما النية والذّكر فليس هناك من يتوهم أنها غصب. ومن الواضح ان وجود كل مقولة غير وجود المقولة الأخرى ، إذ لا جامع بين المقولتين لأنها أجناس عالية ، فكل مقولة ماهية منحازة عن غيرها فيكون لها وجود مستقل غير وجود المقولة الأخرى ، فيكون التركيب حينئذ بين الصلاة والغصب تركيبا انضماميا ، فيكون المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي (1).

هذه خلاصة ما أفاده المحقق النائيني ولم يوافقه على ذلك الأعلام.

فقد تعرض المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية إلى بيان وحدة الغصب والصلاة وجودا ، لكنه لم يتعرض إلى نفي أساس تعدد الوجود الّذي ذكره المحقق النائيني وهو كون الغصب من مقولة الأين والصلاة من مقولة الوضع ، لذلك يحق لنا ان نقول بأنه كلام مجمل لا يتناسب مقام المحقق العلمي (2).

واما المحقق العراقي قدس سره . فقد ذكر في مقالاته : أن غاية ما يتوهم في بيان تعدد الصلاة والغصب هو ان الصلاة من مقولة الفعل أو الوضع والغصب من مقولة الإضافة باعتبار انه إشغال الأرض ، كما يظهر من تفسير الغصب في

ص: 106


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 339 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 274 - الطبعة الأولى.

تعبيراتهم ، فيختلف متعلق الأمر ومتعلق النهي.

وأورد عليه :

أولا : بأنه يبتني على الالتزام بان الإضافة لا حظ لها من الوجود ، والالتزام بان الاعراض القائمة بمعروضاتها من مراتب وجود المعروضات ومكملاته وليس لها وجود مستقل غير وجود معروضاتها. وهو خلاف التحقيق ، وإلا فلازمه خروج المثال عن موضوع محل النزاع ، إذ موضوعه هو الوجود الواحد المشتمل على جهتين ، فقد أخذ في موضوعه كون التركيب اتحاديا من جهة الوجود ففرض المورد من موارد كون التركيب انضماميا خلف الفرض.

وثانيا : انه مع تسليم كون الغصب هو الاشتغال لا الفعل الشاغل تكون نسبة الأفعال الصلاتية إليه نسبة السبب التوليدي ، فتكون محرمة ، إذ الأمر بالمسبب أمر بالسبب حقيقة.

وثالثا : ان العنوان المحرم لا يختص بعنوان الغصب كي يقال أنه غير الصلاة ، بل الحرمة متعلقة بعنوان التصرف في ملك الغير. ومن الواضح ان التصرف يتحد مع افعال الصلاة فان الأفعال من القيام والركوع والسجود بنفسها تصرف فتكون محرمة.

ورابعا : لو أغمض النّظر عن ذلك فعنوان استيفاء منافع الغير محرم من دون إذنه - والاستيفاء أعم من التصرف ، فان الاستضاءة بنور الغير استيفاء وليست بتصرف -. ومن الواضح ان القيام والقعود ونحوهما من افعال الصلاة من الاستيفاء ، فتكون محرمة فتتوجه الحرمة إلى عين ما توجه إليه الوجوب وهو ممتنع (1).

أقول : ان كان نظره في نقل التوهم ودفعه إلى ما أفاده المحقق النائيني

ص: 107


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 126 - الطبعة الأولى.

فيرد عليه ان المحقّق النائيني لم يذهب إلى كون الغصب في المثال من مقولة الإضافة ، بل من مقولة الأين ، فإسناد ذلك إليه غير صحيح.

هذا مع ان الإيراد الأول لا وجه له ، إذ لم يفرض موضوع الكلام عند الكل بالنحو الّذي فرضه هو ، فان موضوع البحث عند المحقق النائيني هو الواحد في الوجود صورة ، فيبحث عن أنه كذلك حقيقة أو لا؟. فلازم الالتزام بكون الإضافة مما له حظّ من الوجود خروج الفرض عن موضوع البحث الّذي فرضه هو قدس سره لا القوم.

واما الإيرادات الأخرى فهي غير واردة على المحقّق النائيني.

أما الثاني : فواضح ، إذ ليس الغصب هو الاشغال كي يقال ان نسبة الأفعال الصلاتية إليه نسبة السبب التوليدي إلى المسبب ، بل هو الكون في الدار المغصوبة وهو ليس من المسببات التوليدية.

وأما الثالث : فلأن القيام والركوع ونحوهما إذا كانت أسماء للهيئة الخاصة وكانت من مقولة الوضع لم تكن بنفسها تصرفا ، بل التصرف ينطبق على الكون في المكان المغصوب.

وأما الرابع : فيتضح الجواب عنه من الجواب عن الثالث ، لأن هذه الأفعال إذا كانت أسماء للهيئة الخاصة لم تكن بنفسها استيفاء ، بل الاستيفاء ينطبق على الكون في المغصوب.

وقد تعرض المحقق الأصفهاني في أصوله إلى ما أفاده المحقق النائيني واستشكل فيه بقوله : « والتحقيق : أن مقولة الأين وان كانت مباينة لمقولة الوضع وليست مقولة مقومة لمقولة أخرى ولا المركب من مقولتين مقولة برأسها ، إلا أنه ربما تكون مقولة مقوّمة للجزء شرعا ، كمقولة الأين للسجود ، فان المماسة للأرض بوضع الجهة عليها وان كانت غير هيئة السجود إلا أنها معتبرة في الجزء شرعا ، فما هو عين التصرف في الأرض مقومة للجزء لا للمقولة ، وكذا الاستقرار على

ص: 108

الأرض في القيام والجلوس عليها في التشهد ونحوه ، فانها غير مقولة الوضع لكنها من واجبات الصلاة. ومنه تبين انه لو اعتبر الهوي في الركوع والسجود كان عين مقولة الحركة في الأين مقومة للجزء شرعا وإن كان ذات الجزء من مقولة الوضع ، فتوهم ان الركوع والسجود من مقولة الوضع حتى على هذا القول غفلة ، بل الجزء مركب من مقولتين ... » (1).

وتابعة السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في الإشكال فذهب في تعليقة أجود التقريرات إلى : أن السجود الواجب لا يكفي فيه مماسة الجبهة الأرض ، بل لا بد فيه من اعتمادها عليها ليصح معه صدق وضع الجبهة على الأرض. ومن الواضح ان الاعتماد من أوضح مصاديق التصرف فيكون محرما لحرمة التصرف. كما انه فرّق بين القول بان الهوي والنهوض من أجزاء الصلاة فيلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد ، والقول بعدم كونهما من الأجزاء فلا يلزم الاجتماع (2).

أقول : لا دليل على اعتبار الاستقرار على الأرض في القيام والجلوس عليها في التشهد وأما مماسة الجبهة للأرض في السجود أو الاعتماد عليها وإن كانت معتبرة في الجزء شرعا أو عرفا بمعنى انه لا يصدق السجود المأمور به بدون ذلك ، إلا أنه إنما ينفع فيما ذكراه لو كان اعتباره بنحو الجزئية بان يكون السجود عبارة عن أمرين الهيئة الخاصّة ووضع الجبهة على الأرض ، ولكنه لم يثبت ذلك ، فقد يكون مأخوذا بنحو الشرطية ، بمعنى ان السجود هو الهيئة الخاصة المقيدة بوضع الجبهة على الأرض ، فيكون وضع الجبهة على الأرض خارجا عن حقيقة السجود وانما الداخل فيه هو التقيد به ، ومع ذلك لا يلزم ما ذكر من ان متعلق الأمر هو متعلق النهي ، بل يكون متعلق النهي خارجا عن دائرة المأمور به ، لأنه

ص: 109


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على النهج الحديث /145- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 339 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.

شرط لا جزء.

نعم ، لو التزم بكون الشروط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني لزم ما ذكر ، لكن لم يلتزم بذلك أحد وانما صرح به المحقق النائيني في مكان واحد (1) ولم يثبت عليه إلى الأخير.

ومع الترديد في أخذه بنحو الجزئية أو الشرطية ، فالأصل يقتضي كونه بنحو الشرطية ، لأن مقتضى الجزئية تعلق الأمر الضمني بالتقيد والجزء ذاته ، ومقتضى الشرطية تعلق الأمر بالتقيد فقط ، فمرجع الشك المزبور إلى الشك في أن المشكوك كونه جزء أو شرطا هل هو متعلق للأمر أو لا؟ ، فينفي تعلق الأمر به بأصل البراءة ونتيجته ثبوت الشرطية. وعليه فيتعدد متعلق الأمر والنهي.

ومن هنا ظهر الأمر في ما لو اعتبر الهوي في الركوع والسجود ، فانه لا ينفع ما لم يؤخذ بنحو الجزئية كي يكون بنفسه متعلقا للأمر ، أما إذا اعتبر شرعا أو عرفا في مفهوم الركوع بنحو الشرطية بان كان الركوع هو الهيئة الخاصة الناشئة عن الهوي في قبال النهوض راكعا ، فلا يجدي في المطلوب لاختلاف متعلق الأمر عن متعلق النهي وتعددهما وجودا. فتدبر جيدا.

ثم انه لو تنزلنا وقلنا بأن متعلق الأمر والنهي أمر واحد لا تعدد فيه ، يقع الكلام في الجواز والامتناع من الجهة الثانية الكبروية وهي : ان المورد من موارد تعدد الحيثية بنحو يجوز اجتماع الحكمين فيه أو لا؟.

ذهب المحقق العراقي إلى : ان المجمع وإن كان ذا حيثيتين ، إلا انه لما كانت بينهما جهة مشتركة كان ثبوت الأمر والنهي فيه ممتنعا لتعلقهما بشيء واحد (2).

ص: 110


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 175 - الطبعة الأولى.
2- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 127 - الطبعة الأولى.

وفيه :

أولا : إنه لا يتصور هناك جامع بين حيثيتي الصلاة والغصبية يكون موردا للحكمين.

وثانيا : إنه لا تعدد في الحيثية لأن الصلاة اسم لنفس الأفعال وليست اسما لحيثية تتحيث بها الأفعال ، فليس هناك إلا حيثية الغصبية. فمتعلق الأمر نفس الفعل كما ان متعلق النهي المجموع من الفعل مع تقيده بالخصوصية الغصبية.

وعليه ، فالحق هو الامتناع لما تقدم من امتناع تعلق الأمر بذات العمل والنهي بالمجموع منه ومن الخصوصية. فراجع.

هذا تمام الكلام في الصغرى المشهورة.

ويقع الكلام بعد هذا في بعض التفصيلات والأقوال في المسألة مما أشار إليه صاحب الكفاية وهي :

التفصيل الأول : ابتناء القول بالجواز على الالتزام بتعلق الأحكام بالطبائع. ويمكن ان يحرّر بنحوين :

أحدهما : ما يعد من أدلة الجواز ، وهو أن الأحكام لا تتعلق بالموجود الخارجي ، لأن الوجود ظرف السقوط ، وأنما تتعلق بالطبائع والمفاهيم ، وبما انها متعددة - لأنه المفروض - لم يلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد ، بل كان متعلق كل منهما غير متعلق الآخر.

وهذا الوجه قد تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثانية من كلام صاحب الكفاية فان نظره فيها إلى دفع هذا القول.

وقد عرفت هناك ان إثبات هذا القول ونفيه لا يجدي شيئا فيما نحن فيه مع وحدة الوجود خارجا. فراجع.

ثانيهما : ما يعد تفصيلا في المسألة بان يبني القول بالجواز على كون متعلق الحكم هو الطبيعة لتعدد الطبيعة خارجا ، ويبني القول بالامتناع على اختيار

ص: 111

تعلقه بالفرد. وهذا هو الموجود في الكفاية (1).

لكنه قدس سره أهمل بيان الوجه في اختيار الامتناع بناء على القول بتعلق الحكم بالفرد ، وقد يتوجه بناء على مختار صاحب الكفاية في الفرد بأنه على القول بكون المتعلق هو الفرد تكون المشخصات ولوازم الطبيعة دخيلة في المتعلق ، ففي مثل مثال الصلاة في الدار المغصوبة يكون الغصب مصبا للأمر لأنه من مشخصات الصلاة.

وقد مرّ الإشكال فيه : بان الشخص اما كلي المكان أو شخصه ، لكنه لا بعنوان انه غصب فيكون الشخص بما انه لازم مأمورا به ، وبما انه غصب منهيا عنه ، فيكون من باب اجتماع الأمر والنهي بعنوانين.

وأما إشكال صاحب الكفاية على الشق الأوّل - أعني الالتزام بالجواز ، لو قيل بان المتعلق هو الطبيعة لا الفرد - : بان متعلق الحكم هو المعنون لا العنوان (2).

فهو قاصر عن رد القول المزبور ، إذ لم يتعرض فيه إلى رد نكتة القول ، وهي ان الموجود لا يتعلق به الحكم ، لأن الوجود ظرف السقوط ، فكان ينبغي له أن يتعرض لنفي هذه الجهة.

والّذي يتحصل أن الإيراد على صاحب الكفاية من جهتين :

الأولى : نقصان كلامه.

الثانية : قصور اشكاله. فالتفت ولا تغفل.

التفصيل الثاني : ما نسب إلى صاحب الفصول وهو : ابتناء القول بالجواز والامتناع على الالتزام باتحاد الجنس والفصل والتركيب بينهما (3).

ص: 112


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /154- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /160- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /125- الطبعة الأولى.

وفيه : انه إن أريد به ما هو الظاهر مما نقله عنه صاحب الكفاية (1) من ابتناء أصل النزاع على ذلك. فهو واضح الإشكال ، إذ ليس جميع أمثلة اجتماع الأمر والنهي يكون متعلق الأمر والنهي فيها من قبيل الجنس والفصل. والمثال المشهور ليس كذلك وهو الصلاة في الدار المغصوبة لوضوح ان الغصب ليس فصلا للصلاة.

وإن أريد أنه في المورد الّذي يكون متعلق الأمر والنهي فيه من قبيل الجنس والفصل يكون النزاع مبنيا على ما ذكر ، فهو متجه ، لكنه لا وجه للتعرض إليه وجعله تفصيلا في المسألة بعد إن كان مثاله نادر الوجود.

التفصيل الثالث : التفصيل بين القول بأصالة الماهية والقول بأصالة الوجود ، فيجوز الاجتماع على الأول لأن المتعلق هو الماهية لأصالتها وهي متعدّدة ، ويمتنع على الثاني لوحدة المتعلق وهو الوجود.

وقد نفاه صاحب الكفاية - بمقدمته الرابعة - : بان الوجود إذا كان واحدا كانت الماهية واحدة ويمتنع أن يكون للموجود الواحد ماهيتان كما يمتنع ان يكون للماهية الواحدة وجودان ، وبما ان الفرض كون الوجود فيما نحن فيه واحدا كان الماهية واحدة ، فلا يختلف الحال على القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية (2).

التفصيل الرابع : وهو من أدلّة الجواز - وينسب إلى المحقق القمي قدس سره (3) - وهو يبتني على كون الفرد مقدمة للطبيعي.

ويمكن تحريره بنحوين :

أحدهما : ما في تقريرات المحقق النائيني من ان متعلق الأمر هو الطبيعي ،

ص: 113


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /159- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /159- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول1/ 140 - الطبعة الأولى.

لأنه يتعلق به بنحو صرف الوجود ، ومتعلق النهي هو الفرد لأنه يتعلق بالطبيعة بنحو الاستغراق فيشمل الافراد. وعليه فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي ، إذ الفرد ليس عين الطبيعي بل مقدمة له (1).

وهذا الوجه لا ينسجم مع عبارة صاحب الكفاية ، إذ فرض فيها كون الفرد مقدمة للطبيعي المأمور به أو المنهي عنه وهو غير كون الفرد منهيا عنه.

ثانيهما : وهو يتلاءم مع عبارة الكفاية من ان متعلق الأمر هو الطبيعة ، وكذلك متعلق النهي هو الطبيعة. فيختلف متعلق كل منهما عن الآخر ، والفرد يكون مقدمة للمأمور به والمنهي عنه. فعلى القول بعدم الملازمة لا محذور. وعلى القول بالملازمة بين حكم ذي المقدمة والمقدمة لا يلتزم بتعليق الحكمين بالفرد لامتناع الاجتماع ، بل يلتزم بكونها محرمة ، ولا ضير في حرمتها مع عدم الانحصار بسوء الاختيار (2).

والإشكال في هذا الرأي بكلا تحريريه واضح. وهو ما أشار إليه في الكفاية من : ان الفرد عين الطبيعي خارجا وليس مقدمة له ، لأن المقدمية تقتضي الاثنينية وهي غير متحققة.

وهذا واضح لا غبار عليه ، لكن الّذي يبدو غامضا ما جاء في الكفاية من قوله : « وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار » فان التقييد بسوء الاختيار.

إن رجع إلى عدم الانحصار فلا وجه له ، لأنه لا محذور مع عدم انحصار المقدمة في حرمتها سواء كان بسوء الاختيار أو بغيره كما لا يخفى.

وإن رجع القيد إلى الانحصار - فيكون المعنى انه لا ضير في الحرمة في

ص: 114


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 349 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /161- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

صورة ما إذا لم يكن الانحصار بالاختيار ، وهو يشمل صورتين وهما صورة عدم الانحصار وصورة الانحصار بدون اختيار لأن عدم المقيد يكون بعدم القيد وبعدم الذات - ، فلا ضير في هاتين الصورتين ، كما ان الضير في صورة واحدة وهي صورة الانحصار بالاختيار.

مع انه من الواضح هو امتناع حرمة المقدمة ووجوب ذيها لو كانت منحصرة قهرا ، لعدم إمكان الامتثال ووقوع التزاحم بينهما. كما أنه في صورة الانحصار اختيارا يقع الكلام في حرمة المقدمة وعدمها مما سيأتي مفصلا إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

* * *

ص: 115

ص: 116

« تنبيهات المسألة »

التنبيه الأول : في العبادات المكروهة وتفصيل الكلام فيه :

انه قد استدل على جواز اجتماع الأمر والنهي بوقوعه خارجا كما في العبادات المكروهة ك- : « الصلاة في الحمام » و: « صيام يوم عاشوراء » ونحوهما. فانه يكشف عن كفاية تعدد الجهة في رفع محذور اجتماع الضدين ، وإلاّ لما جاز اجتماع حكمين في مورد أصلا ، إذ التضاد لا يختص وجوده بين الحرمة والوجوب ، بل هو موجود بين جميع الأحكام ، فكما ان الوجوب والحرمة متضادان كذلك الوجوب والكراهة وهكذا الاستحباب والكراهة ونحو ذلك. وقد ثبت اجتماع الوجوب والاستحباب ك- : « الصلاة في المسجد » ، واجتماع الاستحباب أو الوجوب مع الكراهة ك- : « الصلاة في الحمام » فهذا دليل على جواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد الجهة.

وقد أجاب صاحب الكفاية رحمه اللّه عن هذا الاستدلال ، أو قل الإشكال على القول بالامتناع بجوابين : أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي.

اما الإجمالي : فهو وجوه ثلاثة :

الأول : انه بعد قيام الدليل العقلي القطعي على امتناع الاجتماع ، فلا بدّ من التصرف في ظهور الدليل الدال على اجتماع الحكمين ، لأن الظهور لا يصادم

ص: 117

البرهان.

الثاني : أن الإشكال وارد على القائل بالجواز أيضا ، بظهور الدليل في اجتماع الحكمين في شيء واحد بعنوان واحد وهو مما لا اختلاف في امتناعه. فيلزمه التفصي عن هذا الإشكال.

الثالث : ان بعض الموارد المذكورة لا مندوحة فيها كالعبادات المكروهة التي لا بدل لها ك- : « صوم يوم عاشوراء ». ومن الواضح امتناع اجتماع الحكمين في مثل ذلك بالإجماع ، اما لأجل التضاد أو لأجل التزاحم وعدم إمكان الامتثال.

واما التفصيليّ : فبيانه : ان العبادات المكروهة على أنحاء ثلاثة :

الأول : ما تعلق النهي به بذاته وليس له بدل ك- : « صوم يوم عاشوراء » والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.

الثاني : ما تعلق النهي به بذاته وكان له بدل ك- : « الصلاة في الحمام » فان لها بدلا وهو الصلاة في الدار أو المسجد.

الثالث : ما تعلق النهي به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له خارجا كالصلاة في مواضع التهمة ، بناء على أن النهي لأجل اتحادها مع الكون في مواضع التهمة فانه منهي عنه في نفسه.

أما القسم الأول : فقد وقع الإجماع على صحته لو جيء به مع أرجحية الترك ، كما يظهر من مداومة الأئمة علیهم السلام على الترك.

فلا بد ان يكون الوجه في النهي التنزيهي عنه أحد وجوه ثلاثة :

أحدها : ان يكون الوجه هو انطباق عنوان راجح ذي مصلحة على الترك فيكون الترك ذا مصلحة كالفعل إلاّ ان مصلحة الترك أكثر من مصلحة الفعل ولذلك يرجح عليه. فيكون الفعل والترك بهذا الاعتبار من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما مع عدم وجود الأهم وإلاّ فيتعين الأهم. ويقع الآخر صحيحا لأنه ذو مصلحة وموافق للغرض كما في مطلق موارد تزاحم

ص: 118

المستحبات والواجبات.

ثانيها : ان يكون الوجه ملازمة الترك لعنوان راجح ذي مصلحة أكثر من مصلحة الفعل ، فيرجح الترك للوصول إلى تلك المصلحة الملازمة له.

ومرجع الوجهين إلى : أن النهي عبارة عن طلب الترك ، فهو هاهنا على حقيقته ، إلا أن طلب الترك تارة ينشأ عن مفسدة في الفعل. وأخرى ينشأ عن مصلحة في الترك أو فيما يلازمه وما نحن فيه من قبيل الثاني ، ولأجل ذلك يصح العمل لاشتماله على مصلحة من دون أيّ منقصة فيه. نعم تفوت به مصلحة الترك وذلك لا يضر في صحته.

ثالثها : أن يكون المقصود بالنهي هو الإرشاد إلى اشتمال الترك أو ملازمه على مصلحة أكثر من مصلحة الفعل من دون ان يكون هناك طلب أو زجر حقيقة. فلا يلزم اجتماع الحكمين في شيء واحد اما لأجل تعدد متعلق الحكمين - كما هو مقتضى الوجهين الأولين - ، أو عدم وجودهما كما هو مقتضى الوجه الأخير.

هذا ملخص ما أفاده صاحب الكفاية في حل الإشكال في القسم الأول (1).

ولا بد من التنبيه بشيء وهو : أنه لما ذا لم يفرض صاحب الكفاية في الوجه الأول وجود المصلحة في نفس الترك ، وانما فرض وجودها في العنوان المنطبق عليه؟.

وقد ذكر في وجه ذلك أمور :

منها : ان الترك أمر عدمي ، فيستحيل ان يكون له أثر وجودي لاستحالة ترشح الوجود من العدم.

ص: 119


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /161- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ومنها : ان الترك إذا كان ذا مصلحة راجحة لزم ان يكون نقيضه مرجوحا وهو الفعل ، وهذا يتنافى مع فرض رجحان الفعل. فاشتمال كل من الفعل والترك على المصلحة الراجحة محال.

ويمكن ان يكون الوجه فيه - وهو أمتن الوجوه - : أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام وهو النقيض ، فإذا كان متعلق الأمر نفس الترك كان الفعل منهيا عنه ، وذلك يتنافى مع صحة العمل إذا كان عباديا مع أنه المفروض حيث يفرض صحة العبادة المكروهة.

وهذا بخلاف ما إذا كان العنوان هو المأمور به ، فان الفعل ليس نقيضا للعنوان كي يلزم المحذور المزبور.

وهذه الوجوه لا نستطيع ان نجزم بصحتها فعلا ، إلا إنا ذكرناها لمجرد التنبيه والأمر سهل.

وبعد ذلك يقع البحث في صحة ما أفاده قدس سره تبعا للشيخ الأعظم (1) في حلّ الإشكال. والحق أنه غير تام لوجهين :

الوجه الأول : ما ذكره المحقق النائيني رحمه اللّه من : ان المورد يمتنع أن يكون من موارد التزاحم بين المستحبين بحيث تترتب عليه آثاره من الطلب التخييري مع التساوي؟. وبيان ذلك : ان إجراء قواعد التزاحم انما يصح فيما إذا كان المتزاحمان مما لهما ثالث بحيث يتمكن من تركهما معا ، فانه بعد امتناع تعلق الطلب التعييني بهما لعدم القدرة يتعلق الطلب التخييري بهما ويكون صالحا للدعوة إلى إتيان أحد الأمرين. اما إذا كان المتزاحمان مما لا ثالث لهما كالنقيضين والضدين الذين لا ثالث لهما فلا يعقل تعلق الطلب التخييري بهما - بعد امتناع تعلق الطلب التعييني - ، إذ المكلف لا بد له من إتيان أحدهما ولا يستطيع

ص: 120


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /130- الطبعة الأولى.

التخلف عن ذلك ، فلا يكون الطلب التخييري صالحا للداعوية بعد إن كان الإتيان بأحدهما قهريا ، فيكون لغوا (1).

ولإيضاح المطلب نقول : ان أحد العملين إذا كان مما لا بد من تحققه ، وحينئذ يكون تحصيل المقدار المعين من الغرض والمصلحة قهريا ، فلا وجه لتصدي المولى للأمر ليصير داعيا إلى ما يحصّل ذلك المقدار من الغرض. بل (2) يمتنع على العبد قصد التقرب بالعمل ، إذ المقدار الخاصّ من المصلحة لا يتمكن من التخلف عن تركه كي يكون إتيانه به بقصد القربة ، فانه يتحقق منه لا محالة.

إذا عرفت ذلك ، فما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الفعل والترك نقيضان ، فإذا كان كل منهما مشتملا على المصلحة ، فإذا كانت مصلحة أحدهما أرجح تعين الأمر به ولم يكن الآخر مما يقبل المقربية ، لما عرفت من ان حصول المقدار المشترك قهري فلا يتجه قصد التقرب به. وهو خلاف ما أفاده صاحب الكفاية ، إذ ذهب إلى صحة الفعل وان كان الترك أرجح ، وإلاّ لم يكن هناك طلب تخييري ، بل نتيجة ملاحظة تساوي المصلحتين هو إباحة العمل لا الإلزام بالفعل أو الترك. فالتفت.

وناقشه السيد الخوئي : بان المورد ليس من موارد كون المتزاحمين مما لا ثالث لهما بل مما لهما ثالث.

بيان ذلك : ان العمل الراجح إنما هو الحصة الخاصة من الطبيعي لا نفس الطبيعي ، وتلك الحصة هي العمل بقصد القربة ، فالصوم المشتمل على المصلحة

ص: 121


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 364 - الطبعة الأولى.
2- إشارة إلى دفع ما يقال من : انه وإن امتنع الإلزام التخييري ، إلا ان النتيجة واحدة لصحة الإتيان بكل منهما بنحو عبادي لاشتماله على الملاك المقرب ، فلا يكون المورد من قبيل موارد الإباحة. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

هو الصوم بقصد القربة لا طبيعي الصوم ، والترك المشتمل على المصلحة ليس هو ترك هذه الحصة بالخصوص المتحقق بالإفطار والإمساك بدون قصد القربة ، بل هو ترك الإمساك مطلقا والإفطار خارجا لأن فيه مخالفة بني أمية ، ومن الواضح ان بين الإفطار والصوم بقصد القربة واسطة وهي الصوم من دون قصد القربة وهو ليس براجح ، فالمكلف يستطيع ان يترك كلا الراجحين ، فيتعقّل في المورد ثبوت الأمر التخييري الّذي يرجع إلى طلب ترك الإمساك بلا قصد القربة اما بالإفطار أو الصوم بقصد القربة. فما ذكره ( قدّس سره ) من عدم جريان التزاحم بين النقيضين تام في نفسه ، إلا أنه لا ينطبق على ما نحن فيه.

هذه خلاصة مناقشة السيد الخوئي (1).

ولكنا نخالفه فيما ذهب إليه بتقريب : ان الاختلاف بين العلمين ناشئ من الاختلاف في استظهار ان متعلق النهي هل هو طبيعي الإمساك أو الصوم بقصد القربة؟. وبتعبير آخر : ان متعلق الأمر هل هو الإفطار خارجا وترك الإمساك ، أو ترك الصوم بقصد القربة؟. فلا بد من إيقاع البحث في هذه الجهة فعلى الأول يتم ما ذكره السيد الخوئي. وعلى الثاني يتم ما ذكره المحقق النائيني لعدم الواسطة بين المستحبين.

وقد أشار المحقق النائيني قدس سره في ذيل كلامه إلى النكتة التي تشهد لنفي الواسطة بين المتزاحمين. فكان ينبغي التعرض إليها ومناقشتها. وإغفالها والاكتفاء بمجرد الدعوى بعيد عن الأسلوب العلمي للبحث.

وعلى أي حال ، فالنكتة التي أشار إليها المحقق النائيني هي : ان الظاهر من النصوص النهي عن الصوم الّذي يأتي به بنو أمية والزجر عن التشبه بهم ، وبما أنهم كانوا يصومون بقصد القربة ويرون صومه راجحا ولم يكونوا يكتفون

ص: 122


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 318 - الطبعة الأولى.

بالإمساك فقط ، يكون النهي عن الصوم بقصد القربة ويكون المطلوب هو ترك هذا العمل. وقد عرفت انه لا واسطة بين فعله وتركه. فتدبر (1).

الوجه الثاني : انه قد تقدم ان النهي عبارة عن طلب الترك ، واختيار صاحب الكفاية (2) ، كما مرّ منه قدس سره أيضا ان الأحكام بأسرها متضادة (3). فمرجع النهي في جميع الموارد التي يفرض فيها تعلق النهي بما يتعلق به الأمر إلى طلب الترك ومع هذا يلتزم بالتضاد ، وعدم إمكان اجتماع الحكمين ، فلم يعلم السرّ في تفصيه عن الإشكال المزبور بإرجاع النهي إلى طلب الترك. مع ان هذا البيان يسري في جميع الموارد التي يلتزم قدس سره فيها بامتناع اجتماع الحكمين.

وبالجملة : اما ان يلتزم بعدم التضاد مطلقا بين الأمر والنهي لاختلاف متعلقيهما. أو يلتزم بثبوته مطلقا حتى فيما نحن فيه فلا يجدي ما ذكره في حل الإشكال.

وقد تصدى المحقق النائيني قدس سره - بعد ان ناقش صاحب الكفاية - إلى حل الإشكال ببيان آخر ، وقد بناه على مقدمة وهي : ان الأمر الناشئ من قبل النذر المتعلق بعمل عبادي يتعلق بنفس ما يتعلق به الأمر الثابت للعبادة ، وينتج عن ذلك هو اندكاك كل من الأمرين أحدهما بالآخر وصيرورة العمل المنذور متعلقا لأمر واحد مؤكد ، لاستحالة اجتماع الحكمين - الضدين أو المثلين - في شيء واحد ، ولازم الاندكاك المشار إليه هو اكتساب الأمر النذري جهة التعبدية من الأمر الثابت للعبادة في نفسه.

أما الأمر الناشئ من قبل الإجارة المتعلقة بعمل عبادي ، كما في موارد النيابة عن الغير ، فيختلف متعلقه عن متعلق الأمر الثابت للعمل المستأجر عليه ،

ص: 123


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 367 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /158- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولأجله لا يحصل الاندكاك بين الأمرين ، بل يبقى كل منهما بحدّه ، وذلك لأن متعلق الأمر الاستحبابي أو الوجوبيّ هو ذات العمل اما الأمر الإجاري فهو لا يتعلق بذات العمل ، إذ لا يتعلق للمؤجر غرض فيه ، بل هو يتعلق بالإتيان بالعمل بداعي الأمر الثابت للعمل. فالامر الإجاري في طول الأمر الآخر فلا يحصل الاندكاك لعدم وحدة المتعلق.

وبعد هذه المقدمة ذكر قدس سره : ان الإشكال المتقدم في اتصاف العبادة المكروهة بالكراهة إنما نشأ عن الغفلة عن ان متعلق النهي غير متعلق الأمر ، وذلك لأن متعلق الأمر العبادي هو ذات العبادة ومتعلق النهي ليس هو ذات العمل ، بل هو خصوصية التعبد به ، لأن فيه مشابهة الأعداء ( لعنهم اللّه تعالى ) فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي. وبما ان النهي تنزيهي فهو لا يمنع من عبادية العمل والإتيان به بقصد القربة ، بخلاف ما لو كان النهي تحريميا فانه يمتنع قصد التقرب لحرمته مع ان التقرب إنما يحصل به. فالنهي فيما نحن فيه نظير الأمر في باب الإجارة في طول الأمر المتعلق بذات العمل فلا محذور (1).

أقول : ربط ما نحن فيه بمسألة الإجارة والنذر ليس إلا في طولية الحكمين فيما نحن فيه كما هو الحال في باب الإجارة.

وهذا المقدار لا يستلزم سرد المقدمة المزبورة بطولها.

وعلى أي حال فما ذكره غير تام في المقيس والمقيس عليه.

اما عدم تماميته في المقيس عليه ، وهو مسألة الإجارة فلأنه ..

تارة : يلتزم في باب النيابة أنها عبارة عن إتيان العمل بقصد إسقاط الأمر المتعلق بالمنوب عنه ، والإجارة تقع على هذا الأمر فيكون الأمر الإجاري متعلقا بإتيان النائب العمل لقصد إسقاط الأمر المتعلق بالمنوب عنه.

ص: 124


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 365 - الطبعة الأولى.

فعلى هذا البناء - الّذي هو الظاهر من كلامه - لا وجه لتوهم التداخل بين الأمرين. كيف؟ وموضوع أحدهما المنوب عنه وموضوع الآخر النائب فلا معنى للتداخل.

وأخرى : لا يلتزم بذلك باعتبار عدم قابلية المنوب عنه لتوجه الأمر إليه ، كما لو كان ميتا ، أو لكون الأمر المتعلق بشخص لا يصلح لداعوية غيره. وانما النيابة تكون هي الإتيان بالعمل الّذي تكون ذمة الغير مشغولة به اما بتنزيله نفسه منزلة المنوب عنه أو بإهداء ثوابه إليه. وتكون النيابة متعلقة للأمر الاستحبابي. فإذا وردت الإجارة على إتيان العمل النيابي كان لازما بمقتضى الأمر الإجاري.

فعلى هذا البناء يتحد متعلق الأمر الاستحبابي والأمر الإجاري ، لأنه كلا منهما متعلق بالعمل النيابي ، فيتعيّن الالتزام بالتداخل لوحدة المتعلق لكلا الحكمين.

وبالجملة : على مبنى لا يتوهم التداخل. وعلى مبنى آخر يتعين التداخل.

واما عدم تماميته في المقيس - أعني ما نحن فيه - فلأنه إما ان يلتزم بان قصد القربة مما يتعلق به الأمر إما ضمنا لو بني على جواز تعلق الأمر الأول به ، أو استقلالا لو بني على انه يكون مأمورا به بالأمر الثاني المصطلح عليه بمتمم الجعل - كما مر اختياره من المحقق النائيني -. أو لا يكون متعلقا للأمر شرعا ، بل هو مما يحكم بلزومه العقل.

فعلى الأول : يلزم ان يكون متعلق الكراهة عين ما يتعلق به الأمر وهو قصد القربة. فيتحد متعلق الحكمين.

وعلى الثاني : وان لزم اختلاف المتعلق ، إلا أنه يقع التزاحم الدائمي بين الحكمين لعدم القدرة على امتثالهما معا في حال من الأحوال.

والّذي يذهب إليه المحقق النائيني في مثل ذلك هو كون المورد من موارد

ص: 125

التعارض. فافهم.

وإذا اتضح لك عدم تمامية ما أفاده العلمين - الخراسانيّ والنائيني - في حل الإشكال ، فالمتعين ان يقال في حلّه : ان النهي في المقام ليس على حقيقته ، بل هو إرشاد لأولوية ترك هذا الفرد لأجل الإتيان بغيره مما هو أكثر ثوابا.

بيان ذلك : ان الصوم - مثلا - مستحب في نفسه بنحو العموم الاستغراقي ، بمعنى ان صوم كل يوم مستحب بذاته ولا بدل له ، إلاّ ان بعض هذه الافراد قد تحفّ به بعض الخصوصيات التي توجب نقصان مصلحته وثوابه عما عليه سائر الافراد الأخرى ، ولكنه يبقى على استحبابه ورجحانه. ومن هذا الباب صوم يوم عاشوراء فهو مستحب فعلا. وبما انه ليس من متعارف المكلفين الإتيان بجميع افراد الصوم في جميع أيام السنة وانما يؤتي ببعضها كيوم في كل أسبوع أو نحو ذلك ، يوجه النهي إلى الفرد المحفوف بالحزازة الموجبة لقلة ثوابه إرشادا إلى أولوية الإتيان بغير هذا الفرد بدلا عنه ، فكأنه يقال لمن يريد ان يصوم يوما في الأسبوع : « اترك صوم هذا اليوم وصم غيره لأنه أكثر ثوابا منه » ، فالنهي إرشادي بلحاظ الحالة المتعارفة للمكلفين. والملحوظ بأقلية الثواب سائر الافراد الأخر التي تفرض أبدالا طويلة لهذا الفرد بحسب البناء العملي للمكلفين لا بحسب جعل الحكم فانه مما لا بدل له في مقام الجعل لأن كل فرد مستحب في نفسه.

وهذا الحل وان كان خلاف الظاهر لكنه مما لا بد منه في حل الإشكال لسلامته عن الخدشة.

ومرجعه إلى رجوع النهي إلى ترجيح سائر الافراد لتحقق المزاحمة بحسب عادة المكلفين.

هذا ، مع انا التزمنا في الفقه عدم استحباب صوم يوم عاشوراء

ص: 126

بخصوصيته ، بل هو حرام لأنه تشريع ، وذكرنا ان روايات المنع (1) ناظرة إلى هذا المعنى فقط ، فلا إشكال فيه. فالتفت.

هذا تمام الكلام في القسم الأول.

اما القسم الثاني : وهو ما تعلق به النهي بذاته وكان له بدل ك- : « الصلاة في الحمام ».

فقد ذكر صاحب الكفاية : ان البيان الّذي ذكرناه في القسم الأول يجري في هذا القسم طابق النعل بالنعل. كما يتأتى فيه بيان آخر تقريره : ان النهي يحمل على كونه إرشادا إلى أقلية ثواب هذا الفرد عن سائر الافراد بسبب تشخصه بالخصوصية الخاصة ، فان العمل قد يصير أقل مصلحة وثوابا بسبب تشخصه ببعض الخصوصيات كالكون في الحمام بالنسبة إلى الصلاة ، كما قد يصير أكثر ثوابا بسبب تشخصه ببعض آخر من الخصوصيات فتحدث فيه مزية بسببها ، كالكون في المسجد. والملحوظ في أقلية الثواب وأكثريته هو الطبيعة المأمور بها في حد نفسها المتشخصة بما لا يوجب الزيادة أو النقصان في مصلحتها كالصلاة في الدار - مثلا -.

وعليه ، فلا مجال لدعوى ان الكراهة إذا كانت بمعنى قلة الثواب لزم ان تكون جميع الافراد المتفاوتة مكروهة ما عدا أفضل الافراد مع انه لا يقول به أحد.

والوجه في بطلان هذه الدعوى : ما عرفت من الكراهة بمعنى الأقلية في الثواب بالقياس إلى مصلحة ذات العمل وثوابه.

وهذا ملخص ما أفاده صاحب الكفاية (2).

ص: 127


1- الكافي 4 / 146 ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الأحاديث 3 إلى 7 وسائل الشيعة 7 / 339 باب : 41 من أبواب الصوم المندوب.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /164- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد تعرض المحقق النائيني إلى حل الإشكال ببيان آخر. محصله : ان النهي هنا يحمل على حقيقته من كونه نهيا تنزيهيا مولويا ولا وجه للتصرف بظاهره للتمكن من رفع الإشكال من دون تصرف. وبيان ذلك : ان النهي عن شيء يرتبط بعمل واجب.

تارة : يقصد به الإرشاد إلى مانعية متعلقه عن صحة العمل ، فهذا لا يستفاد سوى مانعية متعلقه عن صحة العمل كالنهي عن لبس الحرير في الصلاة ، فانه إرشاد إلى مانعيته عن صحة الصلاة. ومثل هذا يستلزم تقييد إطلاق المأمور به لو كان له إطلاق بالإضافة إلى وجود القيد وعدمه.

وأخرى : يكون مولويا يتكفل الزجر عن متعلقه ، وهو تارة يكون تحريميا. وأخرى يكون تنزيهيا. فان كان تحريميا استلزم تقييد إطلاق المأمور به - كما سيتضح -. وان كان تنزيهيا لم يستلزم تقييد الإطلاق ، بل لا منافاة بين تعلق الأمر وثبوت النهي لا في مقام جعل الحكم ولا في مقام الامتثال.

اما مقام جعل الحكم ، فالمنافاة المتصورة هي تعلق الحكمين بشيء واحد فيلزم التضاد ، وهي غير موجودة ، لأن متعلق الأمر غير متعلق النهي ، لأن الأمر يتعلق بصرف وجود الطبيعة والنهي متعلق بالفرد الخاصّ ، واختلاف المتعلق يرفع التضاد.

واما مقام الامتثال ، فلان تعلق الحكم بصرف الوجود يستلزم حكم العقل بترخيص المكلف في تطبيق المأمور به على أي فرد شاء ولو كان هو الفرد المكروه ، وهذا لا يتنافى مع كراهة العمل ، كما لا يخفى.

نعم ، لو كان الفرد محرما لم يجتمع التحريم مع الترخيص في إتيان هذا الفرد امتثالا للأمر لعدم اجتماع المنع والترخيص ، ولذا كان التحريم مقيدا لإطلاق المأمور به كما أشرنا إليه.

ص: 128

هذا ملخص ما أفاده قدس سره (1). ومرجعه إلى بيان عدم اتحاد متعلق الحكمين وعدم المنافاة بين الحكم بالترخيص والكراهة.

وهذا الوجه غير مسلم فانه لا يمكن ان تكون الطبيعة متعلقة للأمر والفرد متعلقا للنهي التنزيهي ، وذلك لأن الفرد إذا اشتمل على مفسدة فاما إن تغلب المفسدة على المصلحة ، أو تغلب المصلحة على المفسدة ، أو يتساويان. فمع غلبة المفسدة تتعلق به الكراهة ، لكنه لا يكون واجدا لملاك الأمر لفرض غلبة المفسدة واضمحلال المصلحة في قبالها فلا يتحقق به الامتثال وهو خلاف الفرض ، لأن الفرض عدم تقيد إطلاق الأمر. وان كان الغالب هو المصلحة لم تتعلق الكراهة بالفرد لعدم ملاكها. وان تساويا كان الفرد مباحا ، فلا يقع على صفة الوجوب أو الاستحباب ، كما لا يقع على صفة الكراهة. فالجمع بين الأمر بالطبيعة بحيث يشمل بإطلاقه هذا الفرد والنهي عن الفرد غير ممكن. فالمحذور الّذي ذكرناه في تقريب تنافي الأحكام وان لم يصطلح عليه بالتضاد ، بعينه جار فيما نحن فيه فلا يمكن الجمع بين الحكمين.

وأما ما ذكره من منافاة الحرمة للترخيص وعدم منافاة الكراهة له ، فهو غير تام أيضا ، لأن المراد بالترخيص اما الترخيص الشرعي أو الترخيص العقلي.

فان كان المراد هو الترخيص الشرعي ، بمعنى حكم الشارع بإباحة تطبيق الطبيعي المأمور به على كل فرد من افراده ، فانه يكون بأحد وجهين :

أحدهما : ان يدعى ان حكمه بوجوب الطبيعة لازمه الحكم بالإباحة ، ففي مورد الوجوب هناك حكمان ، حكم بوجوب صرف الوجود وحكم بإباحة تطبيق الطبيعة على كل فرد.

ص: 129


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 362 - الطبعة الأولى.

وهذا الوجه لا دليل عليه ، بل الوجدان شاهد على خلافه ، فانه ليس في المقام الا حكم واحد لا حكمان. كما لا يخفى.

الثاني : ان تطبيق الطبيعة على كل فرد واقعة من الوقائع ، فلا بد ان يكون لها حكم لامتناع خلو الواقعة من الحكم ، ولا بد ان يكون هو الإباحة لا الوجوب ، لأن الإلزام يتنافى مع كون العموم بدليا وكون المتعلق صرف الوجود.

وفيه :

أولا : أنه ينقض بالطبيعة المباحة كشرب الماء ، فان تطبيق الطبيعة على كل فرد واقعة مع انه لا يلتزم أحد بان كل فرد مباح ، وتطبيق الطبيعي على فرده مباح أيضا وله حكم غير حكم الأفراد.

وثانيا : ان لزوم عدم خلو الواقعة عن الحكم انما ثبت في مورد يكون المكلف متحيرا في مقام العمل ، اما مع عدم تحيره عملا فلا دليل على لزوم ثبوت الحكم له ، كما لو أمر بأحد المتلازمين ، فانه لا يلزم ان يكون للملازم الآخر حكم لعدم تحير المكلف في مقام العمل بالنسبة إليه. وما نحن فيه من هذا القبيل. فانه بعد وجوب صرف الوجود المنطبق على أي فرد بمقتضى الإطلاق فلا تحير في ان التطبيق لا مانع منه.

وإن أريد من الترخيص هو الترخيص العقلي ، كما هو الظاهر. فمن الواضح ان واقع الترخيص العقلي ليس حكم العقل بالإباحة وإطلاق العنان للمكلف ، بل واقعه إدراك العقل عدم دخل الخصوصية وجودا وعدما في المأمور به وأي فرد جيء به يكون امتثالا للأمر.

وهذا المعنى لا يتنافى مع كراهة الفرد كما أفاد قدس سره . لكنه لا يتنافى مع التحريم أيضا ، إذ أي منافاة بين حرمة الفرد وبين إدراك عدم دخل خصوصية في المأمور به ، وانه لو جيء به يكون مصداقا للمأمور به؟.

نعم ، لو كان الترخيص العقلي يرجع إلى حكم العقل بإطلاق العنان على

ص: 130

حد الترخيص الشرعي كان منافيا مع تحريم الفرد ، لكنه ليس كذلك.

وبالجملة : التفرقة بين الكراهة والتحريم في هذا الأمر لا وجه لها.

هذا كله مع ان الالتزام بكراهة الفرد ووجوب الطبيعة يلزمه وقوع التزاحم بين الحكمين ، وهو تزاحم دائمي ، فيرجع إلى التعارض بينهما على رأيه ، وكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا لا يجدي بعد ان فرض مثل هذا المورد من موارد التزاحم.

وأما ما ذكره في مقام الاعتراض على صاحب الكفاية من ان صرف النهي عن ظاهره وهو طلب الترك إلى كونه إرشاديا لا وجه له.

فليس كما ينبغي ، لأن كون النهي إرشاديا وإن كان خلاف الظاهر ، لكن حقيقته على بعض المباني أيضا طلب الترك فهو حكم إنشائي لكنه على موضوع خاص. وقد بنى على ذلك الفقيه الهمداني (1) وتابعناه عليه ، ولذلك آثار فقهية جمة. فالتفت.

فالأولى في حل الإشكال أن يقال : ان النهي مولوي تنزيهي ناشئ عن حزازة ومفسدة في متعلقه ، إلا ان متعلقه ليس هو الفرد ، بل هو تقيد الفرد بالخصوصية الكذائية ، فنفس إيقاع الصلاة في الحمام منهي عنه من دون ان يكون النهي متعلقا بالصلاة أو الكون في الحمام.

وقد تقدم منا انه لا مانع من ان يكون العمل متعلقا لحكم وتخصصه بخصوصية متعلقا لحكم آخر ، وأنه لا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد.

وعليه ، فلا يلزم محذور التضاد على هذا التوجيه.

واما التزاحم ، فهو غير لازم ، لأن المأمور به مطلق من جهة هذا الفرد وغيره ، والنهي مختص بهذه الخصوصية المعينة. ومن الواضح أنه لا تزاحم في مثل

ص: 131


1- الهمداني المحقق آقا رضا. مصباح الفقيه /133- كتاب الصلاة - الطبعة الأولى.

ذلك نظير الموسع والمضيق ، فانك عرفت انه لا مزاحمة بينهما أصلا.

وهذا الحل أولى مما ذهب إليه صاحب الكفاية من حمل النهي على كونه إرشاديا ، لأنه خلاف ظاهره ، فان ظاهر النهي كونه مولويا.

واما ما ذكرناه ، فهو قريب من ظاهر الكلام لو لم نقل بأنه ظاهر منه. فتدبر.

واما القسم الثالث : فقد ذكر صاحب الكفاية انه يمكن ان يحل فيه الإشكال بوجهين :

أحدهما : أن يكون النهي في الحقيقة متعلقا بالعنوان المتحد أو الملازم مع المأمور به ، ونسبة النهي إلى المأمور به بالعرض والمجاز ، فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي ، ويكون النهي على هذا الوجه على حقيقته مولويا.

الآخر : أن يكون النهي إرشادا إلى أولوية الإتيان بغير هذا الفرد فرارا عن الحزازة الموجودة في الملازم أو المتحد مع الفرد ، والتي يبتلي بها المكلف لا محالة.

هذا بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.

اما بناء على القول بامتناع الاجتماع ، فان كان العنوان ذو الحزازة ملازما للمأمور به جرى في حل الإشكال كلا الوجهين ، كما لا يخفى. واما إذا كان متحدا مع المأمور به لم يجر فيه الوجه الأول لاتحاد متعلق الأمر والنهي لعدم القول بان تعدد العنوان يستلزم تعدد المعنون لأنه المفروض. ويكون المورد من القسم الثاني ، لأن العنوان المنطبق على المأمور به يكون من خصوصياته المستلزمة لنقصان مصلحته وقلة ثوابه.

وعليه ، فيتأتى فيه ما ذكرناه من كون النهي إرشادا إلى قلة الثواب ، والمراد بالكراهة أقلية الثواب لا النهي التنزيهي المولوي.

ص: 132

هذا ملخص ما جاء في الكفاية مع شيء من التوضيح (1).

ويتضح لدينا أنه يرجع هذا القسم - في صورة اتحاد العنوان والقول بالامتناع - إلى القسم الثاني ويجعله من مصاديقه ، ولذلك يجري فيه ما أجراه في ذلك القسم.

وقد تابعة على ذلك المحقق النائيني ، ولذلك ذكر جريان الحل الّذي ذكره في القسم الثاني في هذا القسم ، فذكر ان الأمر متعلق بالطبيعة والنهي متعلق بالفرد (2).

والحق ما ذكره صاحب الكفاية من وحدة القسمين ، وقد عرفت ان حل الإشكال بنحو ثالث هو الأسلم والمتعين ، وهو الالتزام بان متعلق النهي هو التقيد بالخصوصية وإيقاع العمل في المكان الخاصّ. فراجع.

هذا تمام الكلام في هذا الدليل.

ونلحق به دليلا آخر ، وهو ما ذكره صاحب الكفاية من الوجه العرفي ومحصله : ان أهل العرف يعدون من امر بالخياطة ونهي عن الكون في الدار مطيعا وعاصيا لو جاء بالخياطة في الدار ، وهذا يكشف عن اجتماع الحكمين في أمر واحد.

والجواب عنه كما ذكره صاحب الكفاية من : ان وجود الخياطة غير وجود الكون في الدار وليسا هما متحدين في الوجود. هذا أولا.

وثانيا : انه لا معنى للاستدلال بهذا الوجه في قبال البرهان على الامتناع ، ونحن لا ننكر وجود هذا الحكم عرفا في مثل المثال ، إلاّ ان الحكم بالإطاعة في الأمر التوصلي كأمر الخياطة بلحاظ ترتب الغرض عليه ، لأن الغرض من الأمر

ص: 133


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /165- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 364 - الطبعة الأولى.

التوصلي يترتب ولو كان بالفرد المحرم لا بلحاظ تحقق الامتثال. فتدبر جيدا (1).

بقي شيء ، وهو ما ذكره في الكفاية من وجود القول بالتفصيل بين العقل والعرف ، فالأوّل يرى الجواز والثاني يرى الامتناع ، لأن ما يراه العقل بدقته متعددا يراه العرف واحدا.

وقد ناقشه صاحب الكفاية - كما مر - بان العرف لا سبيل إليه إلى الحكم بالجواز والامتناع فانه محكم في مفاهيم الألفاظ لا غير ، واما وحدة المجمع بنظره فليس مجديا لأن نظره في تشخيص المصاديق غير معتبر جزما والبحث ليس عن مدلول اللفظ.

ثم ، ان هذا الكلام كله في الجهة الأولى من البحث ، وهي البحث عن الجواز والامتناع من حيث التضاد.

واما الكلام في الجهة الثانية - أعني جهة وقوع التزاحم بين الحكمين على تقدير القول بالجواز من الجهة الأولى - ، فيقع البحث فيها عند التعرض لثمرة المسألة التي قد ذكرنا جزء منها فيما تقدم. لأنا نجري في البحث على أسلوب الكفاية.

ولأجل ذلك نتعرض فعلا للكلام في مسألة الاضطرار.

التنبيه الثاني : وموضوعه الاضطرار إلى الحرام قد عرفت انه بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الحرمة لغلبة ملاكها على ملاك الأمر لا يقع الفعل المجمع صحيحا لأنه يكون مبغوضا مبعدا وقد ذكر صاحب الكفاية : أنه إذا اضطر إلى الحرام فاما ان يكون الاضطرار قهريا ليس بالاختيار أو يكون اختياريا. فان كان قهريا استلزم رفع الحرمة والمبغوضية ولم يكن ملاك التحريم مؤثرا في هذا الحال ، فيكون ملاك الأمر

ص: 134


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /166- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بلا مزاحم فيؤثر في الأمر فيلزم صحة العمل العبادي الّذي به يتحقق الحرام لارتفاع المانع. وان كان الاضطرار اختياريا استلزم رفع الحرمة لامتناع التكليف بغير المقدور عقلا ، إلاّ ان الفعل يبقى مبغوضا وذا مفسدة مؤثرة في مبعديته ، فلا يكون المجمع صحيحا لوجود المانع عن المقربية (1).

ثمّ ان محل الكلام الّذي عقد له صاحب الكفاية هذا التنبيه ليس ذلك ، بل هذا مقدمة للوصول إلى محل الكلام وتحرير البحث فيه وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار واتفق كون الفعل المضطر إليه مقدمة لواجب ، فقد تعددت الأقوال في هذا الفعل.

وقبل التعرض إلى ذلك نودّ التنبيه على تساؤل يدور حول كلام صاحب الكفاية في القسم الأول من أقسام الاضطرار.

وهو : أنه توصل إلى تصحيح العمل المحرم المضطر إليه بوجود الملاك وتأثيره في الحكم.

مع أن هناك طريقا لذلك أسهل وأسلم من هذا الطريق وهو ان يقول : أنه إذا ارتفعت الحرمة بالاضطرار زال المانع عن شمول إطلاق دليل الحكم الوجوبيّ للمورد ، فإذا كان المورد مشمولا لإطلاق الوجوب ثبت الحكم.

وهذا وجه سالم عما يرد على الأول من أنه بأي طريق نحرز وجود ملاك الوجوب؟ ثم انه إذا كان ثابتا في حال فعلية الحرمة ، فأي طريق لنا لإثباته بعد ارتفاع الحرمة؟.

وبالجملة : النحو الّذي ذكره صاحب الكفاية لا يخلو عن التواء. وهذا تساؤل لم نر له حلا فعلا. فالتفت.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره في مقدمة هذا التنبيه : ان القيود العدمية المعتبرة في المأمور به بحيث تحدد الحكم وتجعله مختصا بمورد دون آخر

ص: 135


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /167- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

على ثلاثة أقسام :

الأول : أن تكون مدلولة للنهي الغيري ابتداء ، فيكون النهي نهيا إرشاديا يفيد مانعية متعلقه عن صحة العمل المحفوف به كالنهي الوارد عن لبس الحرير في الصلاة ، وهذا لا يرتفع بالاضطرار إذا كان دليله مطلقا ، فانه يفيد أن المانعية تثبت في كلا الحالين - الاختيار والاضطرار - ، فلا تسقط المانعية في حال الاضطرار ولا محذور فيه.

وقد أفيد في مباحث الأقل والأكثر : ان تقيد العمل بشيء وجودا وعدما قد يؤخذ مختصا بحال دون آخر وقد يؤخذ في مطلق الأحوال. فراجع.

الثاني : أن تكون تابعة للنهي النفسيّ الدال على التحريم ، فيستفاد منه مانعية متعلقة عن صحة العمل ، كما في مورد الاجتماع بناء على الامتناع من الجهة الأولى. ولكن المانعية تارة يقال إنها في طول الحرمة وتابعة لها كما هو المشهور. وأخرى يقال إنها في عرضها بمعنى ان النهي يستفاد منه في عرض واحد الحرمة والمانعية.

فعلى الأول : يكون الاضطرار رافعا للحرمة والمانعية ، لأن المفروض كون المانعية تابعة للحرمة ، فإذا زالت الحرمة زالت المانعية فيصح العمل.

وعلى الثاني : لا يرفع الاضطرار المانعية وانما يرفع الحرمة فقط ، إذ المانعية لا تنافي الاضطرار كما عرفت ، والمفروض عدم إناطتها بالحرمة.

الثالث : ان تكون ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه - كما هو الحال لو قيل بالجواز من الجهة الأولى ، فانه يقع التزاحم بين الحكمين - ، فيرتفع الأمر باعتبار المزاحمة ، ففي مثله لو حصل الاضطرار يبقى الأمر لارتفاع الحرمة وزوال المزاحمة لأن أساسها كون الحكم فعليا ولا فعلية للحرمة مع الاضطرار (1).

ص: 136


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 371 - الطبعة الأولى.

هذه خلاصة ما أفاده المحقق النائيني ، ويمكن ان يجعل ما أفاده في القسم الثاني من التفصيل بين نحوي النهي تعريضا بصاحب الكفاية حيث أطلق الحكم بثبوت الأمر بمجرد ارتفاع الحرمة. وتنبيها على ان زوال الحرمة لا يكفى في ثبوت الأمر ما لم تزل المانعية وهي إنما تزول على تقدير دون آخر.

وقد أورد عليه السيد الخوئي في تعليقته - كما جاء ذلك أيضا في المحاضرات مفصلا (1) -. بان ما قربه من عدم كون سقوط الأمر وتقيده بغير مورد الحرمة في طول التحريم ومعلولا له. صحيح لأن عدم أحد الضدين ليس معلولا لوجود الضد الآخر ، بل هما في رتبة واحدة إلا ان انتفاء الوجوب وإن كان في عرض ثبوت الحرمة ثبوتا لكنه ليس كذلك إثباتا ، فان الدليل الدال على الحرمة بالمطابقة يدل عليه بالالتزام ، إذ بعد منافاة ثبوت الحرمة لثبوت الوجوب ، فما يدل على ثبوت الحرمة يدل على عدم ثبوت الوجوب التزاما. وبما ان بنينا على تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية وجوبا وحجية. فإذا حصل الاضطرار وارتفعت الحرمة ولم يكن دليلها شاملا لهذه الحال فلا دليل على انتفاء الوجوب وتقيده حينئذ ، إذ دليل الحرمة لا يتكفل ذلك لعدم حجيته في المدلول الالتزامي بعد عدم حجيته في المدلول المطابقي. فيكون إطلاق الوجوب محكما (2).

أقول : هذا الإيراد ليس بتام وأجنبي عن محل الكلام ، فان محل الكلام في الدلالة الالتزامية والّذي يبحث في تبعيته في الحجية للدلالة المطابقية انما هو الدلالة الالتزامية العرفية. اما غير العرفية فليس مورد الكلام ، وما نحن فيه ليس من موارد الدلالة الالتزامية العرفية ، فان ارتفاع الوجوب في المجمع عند ثبوت الحرمة ليس من الأمور العرفية الظاهرة ، كيف؟ وقد عرفت انها محل الكلام

ص: 137


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه4/ 348 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 371 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.

الدّقيق والنقض والإبرام. وانما هو يكون بحكم العقل وقد تقدم انها تتبع الدلالة المطابقية بلا كلام.

فان قلت : محل الكلام فيما نحن فيه هو معرفة ان المجمع وجود واحد أو متعدد ، وهذا لا ينافي كون ارتفاع الوجوب بالدلالة الالتزامية العرفية.

بيان ذلك : ان العرف يستظهر من دليل التحريم ارتفاع الوجوب عن مورد اما تعيين المورد فهذا ليس من شأنه ، فلو ثبت المورد بالدقة العقلية ثبت له الحكم بحسب الظهور العرفي من دليله ، كما يثبت له نفس التحريم ويقال ان الحرمة ثابتة له بالدليل الظاهر عرفا.

وبالجملة : المقصود بالدلالة العرفية هي ما يستظهره العرف من الدليل من الحكم الكلي على الموضوع الكلي في قبال ما يكون المدلول ثابتا بحكم العقل لا بفهم العرف ، اما تعيين المصاديق فليس من شأن العرف وذلك لا ينافى الظهور العرفي من الدليل.

وهذا المعنى يتأتى في الدلالة المطابقية كما لا يخفى جدا. والبحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي انما هو عن تعيين المصداق وان الصلاة في الدار المغصوبة هل هي غصب فيرتفع الوجوب عنها أول فلا يرتفع. وإلاّ فأصل الدلالة العرفية ثابتة.

قلت : البحث في هذه المسألة لا ينحصر في تعيين المصداق ، بل يأتي الكلام في الجواز والامتناع حتى مع تسليم وحدة وجود الصلاة والغصب بلحاظ تعدد العنوان وانه متعلق الحكم فيتعدد ، أو انه ليس متعلق الحكم فلا يجدي تعدده.

وعليه ، فالقدر المسلم من الدلالة الالتزامية العرفية من دليل تحريم الغصب هو ارتفاع الوجوب عن الغصب فيما إذا لم يكن بعنوان آخر. أما إذا كان بعنوان آخر فلا دلالة عرفية على ارتفاعه ، لأنه يتوقف على مقدمة عقلية

ص: 138

وهي كون متعلق الحكم هو المعنون لا العنوان ، أو نظير ذلك مما يقول به القائل بالامتناع.

وبالجملة : ارتفاع الوجوب وتقييده بغير مورد الحرمة في مورد الاجتماع على الامتناع ليس أمرا عرفيا يستظهره العرف من الدليل مباشرة فتحرير الكلام في ذلك ونقل البحث إلى تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة للمطابقية لا يخلو عن غفلة وتسامح.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما أفاده المحقق النائيني قدس سره ، فان ارتفاع الوجوب عند ثبوت الحرمة إذا كان بحكم العقل ، ولأجل الملازمة العقلية بين ثبوت الحرمة وعدم الوجوب. فإذا ارتفعت الحرمة بالاضطرار لم يكن هناك ما يقتضي عدم الوجوب عقلا فيحكّم إطلاق دليل الوجوب ويثبت الوجوب في مورد الاضطرار.

ولا وجه للترديد المزبور أصلا ، سواء كان نظره في التبعية وعدمها في مقام الإثبات أو الثبوت ، وإن كان تقريبه عدم التبعية ثبوتا في محله ، إذ عدم أحد الضدين في عرض وجود الضد الآخر لا في طوله.

هذا مع ما في التعبير بان القيدية والحرمة معلولان للنهي من المسامحة الظاهرة ، فان الحرمة ليست معلولة للنهي ، بل هي معنى النهي كما عرفت. مع ان العلية والمعلولية في مثل ذلك مما لا وجه لها. فتدبر جيدا.

هذا كله فيما إذا كان الاضطرار بدون اختيار.

أما إذا كان الاضطرار بالاختيار فقد عرفت ان المضطر إليه يبقى على ما كان عليه من المبغوضية والمبعدية وان زالت الحرمة ، لاستحالة التكليف بغير المقدور.

وقد ذكرنا ان محل الكلام ليس هذا ، بل محل الكلام ما إذا كان المضطر إليه مقدمة لواجب اتفاقا أو دائما ...

ص: 139

فهل يكون ذلك موجبا لرفع مبغوضيته أولا؟ ..

ومثاله المعروف هو : التوسط في الأرض المغصوبة كما إذا دخل باختياره إلى الأرض المغصوبة وأراد الخروج بعد الدخول ، فانه يكون غصبا لكنه مقدمة للتخلص عن الغصب الزائد الحاصل بالبقاء.

والأقوال متعددة :

فقول : بان الخروج يقع محرما لأن الاضطرار بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا (1).

وقول : بأنه يقع مبغوضا غير محرم ، لعدم منافاة الاضطرار بالاختيار ثبوت العقاب ومنافاته ثبوت الخطاب. وهذا هو رأي صاحب الكفاية (2).

وقول : بأنه يقع مطلوبا ولا يكون مبغوضا ، وهو رأي الشيخ الأنصاري قدس سره (3) وقد استدل رحمه اللّه على دعواه - كما نقله صاحب الكفاية عن تقريرات بحثه (4) - بما بيانه : ان التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا كلام.

وأما الخروج فهو لا يقع محرما أصلا ، إذ لا يتعلق به التحريم قبل الدخول لأنه لا يتمكن من الخروج وعدمه قبل الدخول ، ودعوى التمكن من ترك الخروج بترك الدخول مسامحة ظاهرة ، لأنه في الحقيقة انما ترك الدخول ولا يصدق ترك الخروج إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، نظير من لم يشرب الخمر لعدم الوقوع في المهلكة فانه لا يصدق إلا انه لم يقع في المهلكة لا انه لم يشرب الخمر فيها إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 140


1- القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول1/ 140 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /168- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /155- الطبعة الأولى.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /169- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأما بعد الدخول فلا يقع محرما ، لأنه مما يترتب عليه التخلص عن الحرام فلا يمكن اتصافه بغير المحبوبية ، نظير شرب الخمر الّذي يتوقف عليه النجاة من الهلكة.

وأورد عليه صاحب الكفاية :

أولا : بالنقض بالبقاء ، فان البقاء قبل الدخول غير مقدور فكيف فرض تعلق التكليف به.

وثانيا : بان الخروج وتركه مقدور قبل الدخول ، إلاّ أنه بالواسطة على عكس نفس الدخول فانه مقدور بدون واسطة. ومن الواضح انه لا يعتبر في صحة التكليف أكثر من القدرة سواء كان بواسطة أو بغيرها ، نظير مطلق الأفعال التوليدية التي تكون اختياريتها باختيارية أسبابها.

وأما دعوى انه لا يصدق الترك إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، فهي لو سلمت غير ضائرة ، فان المعتبر هو التمكن من الترك بأي نحو حصل ، فان مطلق التمكن يصحح التكليف.

وأما ما ذكره من ان الخروج يكون مما يتوقف عليه التخلص عن الحرام نظير شرب الخمر الّذي يتوقف عليه النجاة من الهلكة ، فهو إنما ينفع في وجوب الخروج لو لم يكن مبغوضا للمولى ، ومنه يظهر أن شرب الخمر يقع مبغوضا إذا كان الوقوع في المهلكة لولاه بسوء اختياره ولا يخرج بذلك عما هو عليه من المبغوضية.

هذا خلاصة إشكال صاحب الكفاية على الشيخ (قدس سرهما) (1).

ويستخلص منها : ان الخلاف بين العلمين (قدس سرهما) يتمركز على صحة التكليف بترك الخروج قبل الدخول ، فيذهب إليه صاحب الكفاية فيرى

ص: 141


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /170- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان الخروج الناشئ عن اختيار الدخول يقع مبغوضا لأنه عصيان للنهي السابق. ويذهب إلى عدمه الشيخ رحمه اللّه لعدم كون الترك مقدورا قبل الدخول فلا يصح التكليف.

والّذي يظهر من كلام الكفاية ان الشيخ يشترط في صحة التكليف القدرة المباشرية على متعلقه وعدم صحته مع القدرة عليه بالواسطة.

ولكن مثل هذا يبعد جدا صدوره من الشيخ ، فانه ممن يلتزم بالواجب المعلق مع عدم القدرة على الواجب في ظرف الوجوب.

والّذي يبدو لنا أن مراد الشيخ شيء آخر وهو : ان الخروج له فرضان ولحاظان. أحدهما : فرض الخروج في ظرف ما قبل الدخول. والآخر : فرضه في ظرف ما بعد الدخول. ومن الواضح ان الخروج باللحاظ الأول غير مقدور ، فانه قبل الدخول غير قابل لاعمال الإرادة فيه إيجادا أو تركا ، بل تركه متحقق قهرا بترك الدخول ، فهو في هذا الظرف متروك في نفسه.

وبما ان التكليف انما هو لأجل إعمال الإرادة والاختيار في متعلقه لم يصح تعلق التكليف بالخروج في هذا الظرف ، لأنه غير قابل لإعمال الإرادة فيه.

نعم ، الخروج في الظرف الآخر - أعني ظرف ما بعد الدخول - مما يقبل إعمال الإرادة فيه في نفسه ، إلا انه حيث يقع مورد الاضطرار ومقدمة للتخلص عن الحرام لم يصح تعلق التكليف فيه ، فهو غير قابل للتحريم في حال من حاليه. وهذا بخلاف البقاء ، فانه بعد الدخول قابل للتحريم ، لأنه لا يقع مقدمة للواجب ، ولم يظهر من كلام الشيخ انه يرى ان البقاء محرم قبل الدخول كي يكون موردا للنقض.

بهذا البيان لمراد الشيخ يظهر ان إيراد الكفاية بعيد كل البعد عن مرامه. فانه لا يدعي ان المقدور بالواسطة لا يصح التكليف به ، بل يلتزم بصحة التكليف به إذا كانت إراديته بإرادية الواسطة كالمسببات التوليدية ، وليس

ص: 142

الخروج منها ، إذ هو لا يتحقق بمجرد الدخول ، بل يبقى اختيار المكلف بالنسبة إليه محفوظا بعد الدخول.

والّذي يتوجه على الشيخ إجمالا : أن الخروج بعد الدخول وإن كان مورد الاضطرار ، إلاّ انه لمكان مشتملا على مفسدة التحريم وكان الاضطرار إليه اختياريا يكون مبغوضا وإن لم يكن محرما ، للزوم تحصيل الغرض الملزم عقلا ، نظير موارد الاضطرار إلى المحرم إذا كان بالاختيار ، فانه يلتزم بوقوع العمل مبغوضا للمولى. فانتبه.

ثم أن وضوح كلام الشيخ ومراده ووضوح صحته وعدم صحته ، بل وضوح الحقيقة في هذه المسألة ، يتوقف على معرفة موضوع الكلام وتشخيص المراد بالاضطرار ، إذ يتساءل بان الخروج لا يكون مضطرا إليه ، إذ يتمكن المكلف من تركه وفعله.

فنقول : ان موضوع البحث يمكن أن يبين بنحوين :

أحدهما : ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من : ان الخروج ليس مورد الاضطرار فلا يدخل المورد تحت قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار » ، فالبحث إنما يقع في التزاحم الحاصل بين حرمة الخروج ووجوب التخلص عن الغصب الزائد ، فالمورد من موارد التزاحم بين الحكمين بسوء الاختيار (1).

وهذا الرّأي مخدوش فيه :

أو لا : بأنه يستلزم إلحاق المسألة بباب التزاحم ، وهذا مما يأتي الكلام فيه فيبحث هناك عن حكم التزاحم الحاصل بالاختيار ، فلا وجه لجعلها مسألة مستقلة وتحت عنوان مستقل وهو عنوان الاضطرار إلى الحرام.

ص: 143


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 376 - الطبعة الأولى.

وثانيا : أنه في نفسه غير صحيح لتحقق الاضطرار إلى الحرام كما سيتضح في البيان الثاني.

وثانيهما : أن يقال أن الخروج مورد للاضطرار ببيان : أن من يدخل إلى الأرض المغصوبة.

تارة : يضطر إلى الخروج بحيث لا يتمكن من البقاء أصلا ، وهذا خارج عما نحن فيه.

وأخرى : لا يضطر إلى خصوص الخروج وانما يضطر إلى الغصب بمقدار زمان الخروج ولا يتمكن من تركه بهذا المقدار ، إلا انه مردد بين فردين الخروج والبقاء. وهذا هو محل الكلام. فنقول : انّ حرمة الغصب وإن كانت ثابتة بنحو الاستغراق لافراده ، إلا انه حيث لا يمكن الجمع بين حرمة الخروج وحرمة البقاء يقع التزاحم بينهما وهو تزاحم دائمي ، لأنه لا يمكن الجمع بين حرمتيهما في وقت من الأوقات لأنهما ضدان لا ثالث لهما. فيتعين أن يكون النهي عن صرف وجود الغصب. فالمطلوب هو ترك صرف الوجود بمعنى أول الوجود. وذلك : لأن تعلق الحكم بكلا الفردين محال لعدم القدرة على تركهما ، وتعلقه بأحدهما المعين ترجيح بلا مرجح ، فلا بد ان يتعلق بصرف الوجود المنطبق على ما يحصل منهما أولا.

ومن الواضح ان صرف الوجود مما يضطر إليه المكلف لاضطراره إلى الغصب فترتفع حرمته قهرا وإن بقي على ما هو عليه من المبغوضية ، فإذا تحقق صرف الوجود بالخروج كان الخروج مما اضطر إليه ، فالاضطرار إلى الخروج الحاصل عقلي للاضطرار إلى صرف الوجود المنطبق عليه.

وهذا البيان واضح لا غبار عليه ومقتضاه ان كلاّ من الخروج والبقاء لا يقع محرما.

إلا انه انما يتم ذلك فيما لو لم يكن البقاء مستلزما للغصب الزائد ، كما إذا

ص: 144

علم بارتفاع الغصب بعد مرور مقدار زمان الخروج ، فانه يكون مخيرا بين الخروج والبقاء لعدم المرجح.

أما إذا كان البقاء مستلزما للغصب الزائد ، فلا بد من الالتزام بحرمته دون الخروج ، لأن المقتضي لحرمته موجود من دون أي مانع بخلاف الخروج ، فان المقتضي وإن كان موجودا لكنه محتف بالمانع وهو كونه مقدمة للواجب ، وهو التخلص عن الحرام الزائد وتركه. فيكون البقاء حراما دون الخروج ، فبهذا البيان يكون تعين أحدهما المعين وهو البقاء بمعين ومرجح ، ولأجل ذلك التزم الكل بحرمة البقاء مع منافاته للبيان الأول.

وعليه ، فيقع البحث في ان المقدمية هل تستلزم رفع جهة المبغوضية في الخروج أو لا تستلزم ذلك ، بل يبقى على ما هو عليه من المبغوضية؟.

والّذي يمكن ان يذكر في إثبات وقوع الخروج مبغوضا فعلا وجهان :

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية من تعلق النهي السابق - يعني قبل الدخول - بالخروج ، وهذا النهي وإن سقط للاضطرار عقلا ، لكن متعلقه يقع مبغوضا لكونه اختياريا بالواسطة ، فهو نظير قتل النّفس الناشئ من الرّمي ، فان تحريمه يرتفع بعد الرمي لعدم كونه اختياريا في ذلك الحال ، لكنه يقع مبغوضا ولذا يعاقب عليه العبد.

ثم ذكر : انه يمتنع ارتفاع المبغوضية لأجل المقدمية واحتفافها بما يوجب المحبوبية ، لأنه يستلزم تعليق التحريم على إرادة عدم الدخول وعدم التحريم على إرادة الدخول. ومن الواضح ان هذا ممتنع ، فان التعليق المزبور يمنع من تأثير الحرمة في الزاجرية والداعوية بنحو الترك فيكون جعلها لغوا (1).

وهذا الوجه يندفع :

ص: 145


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /168- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أولا : بما تقدم من استحالة تعلق الحرمة بالخروج في فرض عدم الدخول فلا حرمة سابقة في البين.

وثانيا : بأنه لو فرض إمكان تعلقها بالخروج قبل الدخول وعدم استحالته فهي غير ثابتة لما سيأتي في دفع الوجه الثاني.

الثاني : أن الخروج وإن كان مما يتوقف عليه الواجب لكن بما انه مبغوض في نفسه وكان الوقوع فيه ناشئا عن الاختيار لم ترتفع مبغوضيته وإن كان مما لا بد منه عقلا فرارا من أشد القبيحين ، فهو نظير ما لو اضطر لشرب الخمر بسوء اختياره ، فانه يعاقب على ذلك ، وإن لم يكن محرما عليه فعلا لاضطراره إليه.

وفيه : ان الخروج المضطر إليه وان كان مبغوضا في نفسه للجزم بعدم اختلافه عن سائر افراد الغصب ، إلا انه حيث تتزاحم المبغوضيتان وهما مبغوضية الخروج ومبغوضية الغصب الزائد ، فالمولى يحكم بتقديم مبغوضية الغصب الزائد وترتفع مبغوضية الخروج ، والمراد بالمبغوضية المرتفعة المبغوضية التي تكون مورد الأثر من مبعدية وعقاب ولوم وعتاب - وهي محل الكلام - لا المبغوضية الطبعية فانها موجودة في جميع موارد التزاحم ، وهذا أمر وجداني لا يختلف فيه اثنان فان من يرى نفسه مضطرا إلى قطع يده لحفظ حياته يكره قطع يده لكن لا يعاقب من يباشر القطع. ولا يختلف في ذلك ما إذا كان الاضطرار قهريا أو كان اختياريا.

نعم ، في صورة الاضطرار الاختياري تتعلق المبغوضية العملية بتحريم المولى وجعله مضطرا إلى ما هو مبغوض لديه ذاتا. فان من فعل فعلا استلزم توقف حياة الغير على قطع يده فانه لا يتوقف المضطر في قطع يده ويأمر الطبيب بذلك لكنه يعاقبه أو يلومه على تحريمه وجعله مضطرا إلى ذلك لا على نفس قطع يده.

ص: 146

وبالجملة : الوجدان يشهد على ارتفاع المبغوضية العملية بالمزاحمة وإن بقيت المبغوضية الطبيعة سواء كان التزاحم بالاختيار أم بدونه.

ومن هنا يظهر انه لو فرض معقولية تعلق التحريم السابق بالخروج ، فهو غير ثابت لارتفاع ملاك التحريم بالمزاحمة دائما ، وعدم كون الخروج مبغوضا في ظرف تحققه.

وأما ما ذكره صاحب الكفاية من المحذور العقلي لو ارتفعت مبغوضية الخروج ، فهو لا يستلزم ثبوت التحريم واستمرار أثره ، بل يستلزم عدم ثبوته. وذلك لأن مقتضى المحذور العقلي هو الملازمة بين ثبوت الحرمة السابقة واستمرار أثرها ، إذ بدون الاستمرار يلزم المحذور المذكور. وبما ان عدم استمرار أثر التحريم من الأمور الوجدانية ، إذ عرفت ان ارتفاع المبغوضية للمزاحمة أمر وجداني فلا محيص عن الالتزام بعدم تعلق الحرمة السابقة بالخروج والإلزام المحذور العقلي.

ولعل ما ذكره صاحب الكفاية يبتني على الرّأي القائل بتقديم الأسبق زمانا في باب التزاحم ، والمفروض ان حرمة الخروج أسبق زمانا من حرمة الغصب الزائد. ولكن عرفت انه غير مرجح.

والمتحصل : ان رأي الشيخ القائل بعدم مبغوضية الخروج لا سابقا ولا لاحقا متين وبتعين الالتزام به.

وأما كونه مأمورا به فيمكن ان يوجه بوجوه ثلاثة :

الأول : كونه واجبا بالوجوب المقدمي ، لكونه مقدمة للتخلص عن الحرام.

الثاني : انه واجب بالوجوب النفسيّ المتعلق برد المال إلى صاحبه لأنه من مصاديق الرد.

الثالث : انه بنفسه تخلص عن الحرام ، فيكون واجبا نفسيا.

وجميع هذه الوجوه غير صحيحة :

ص: 147

أما الأول : فلما تقدم من إنكار الوجوب المقدمي لو سلم ان الخروج مقدمة. مع ان التخلص ليس بواجب شرعي. كما ستعرف.

وأما الثاني والثالث : فلان كلا من وجوب ردّ المال إلى صاحب ووجوب التخلص عن الحرام ليس حكما شرعيا ، بل هو حكم عقلي منتزع عن حرمة الغصب ، فليس لدينا حكم شرعي سوى حرمة الغصب.

وعليه ، فلا وجه لتحرير الكلام في مقدمية الخروج للتخلص وتعنونه بهذا العنوان ، وإطالة الكلام فيه كما صدر من المحقق الأصفهاني (1).

واما القول بأنه منهي عنه ومأمور به. فيدفعه مضافا إلى محالية اجتماع الحكمين في موضوع واحد ، ما عرفت من عدم المقتضي للتحريم والوجوب.

فالذي نختاره رأي آخر غير هذه الآراء ، وهو : عدم كون الخروج محكوما بحكم شرعا وانما هو لازم عقلا للمزاحمة.

يبقى البحث فيما ذكره المحقق النائيني من : أن المورد إذا كان من موارد قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ، فالرأي ما ذهب إليه صاحب الكفاية. وإذا لم يكن من موارد القاعدة ، فالرأي ما ذهب إليه الشيخ.

وبما ان المورد ليس من موارد القاعدة المزبورة فالمختار هو رأي الشيخ.

أما عدم كون المورد من موارد القاعدة ، فهو لوجوه أربعة :

الأول : ان مورد القاعدة ما يكون خارجا عن قدرة المكلف ، وليس الخروج كذلك لكونه إراديا.

نعم ، صرف وجود الغصب بمقدار زمان الخروج أمرا ضروريا ليس تحت قدرة المكلف ، ولكنه أجنبي عن الاضطرار إلى الخروج الّذي هو محل الكلام.

الثاني : ان مورد القاعدة ما إذا كان ملاك الحكم ثابتا في العمل مطلقا

ص: 148


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 286 - الطبعة الأولى.

سواء وجدت المقدمة أم لم توجد. وما نحن فيه ليس كذلك ، فان تمامية الملاك في الخروج انما تكون بعد الدخول وبدونه لا يكون الخروج واجدا للملاك.

الثالث : ان مورد القاعدة ما كان وجود المقدمة موجبا للقدرة على المكلف به ، ويكون امتناعه ناشئا عن عدم المقدمة ، وما نحن فيه على العكس ، فان وجود الدخول - الذي هو المقدمة - يوجب الاضطرار إلى الخروج.

الرابع : ان المفروض كون الخروج لازما عقلا ، وما يكون كذلك لا يكون مورد القاعدة ، لأن موردها لا يقبل تعلق الخطاب - أصلا - شرعيا كان أو عقليا. انتهى موضع الحاجة من كلامه ملخصا (1).

ولكنه مخدوش والخدشة فيه من جهات :

الجهة الأولى : فيما ذكره من ابتناء رأي الكفاية على كون المورد من موارد قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ». فانه غير صحيح. فان كلام الكفاية لا يرتبط بالقاعدة المزبورة أصلا ، بل يمكن ان يكون نظره إلى كون الاضطرار إلى الخروج عرفيا لا عقليا من باب التزاحم ، وان الإنسان يرى نفسه مضطرا إلى فعل الخروج باختياره فرارا عن المحذور الأشد ، كما يقال يضطر الإنسان إلى بيع داره لأجل وفاء دينه أو معالجة مرضه ، مع ان البيع يصدر منه بالاختيار.

وجامع ذلك : ان الشخص بحسب ما يرى من الآثار والتبعات التي يجري عليها في حياته الشخصية أو الاجتماعية يرى نفسه لأجل ذلك في ضرورة إلى صدور الفعل منه فيصدر عنه بالاختيار ، لكن الدافع له أثره المترتب عليه اللازم له فيعبر عن ذلك بالاضطرار عرفا في قبال الاضطرار العقلي الّذي يرجع إلى انسلاب قدرة الشخص عن العمل وصدوره عن غير إرادة كحركة المرتعش.

ص: 149


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 376 - الطبعة الأولى.

والّذي يشهد على كونه نظر صاحب الكفاية إلى الاضطرار العرفي : أنه قاس المقام بما لو اضطرار باختياره إلى شرب الخمر ، لأجل عدم الوقوع في الهلكة فان شرب الخمر مضطر إليه عرفا لا عقلا لصدوره بالاختيار.

وبالجملة : يقوى في النّظر كون نظر صاحب الكفاية إلى الاضطرار العرفي وارتفاع الحكم لأجل التزاحم ، أو لدليل الرفع الشامل للاضطرار العرفي. ولا يرتبط ارتفاع الحكم بالقاعدة أصلا ، بل لم يذكر القاعدة في طي دليله أصلا ، فكيف ينسب إليه ذلك؟.

الجهة الثانية : فيما ذكره من انه بانتفاء كون المورد من موارد القاعدة يثبت رأي الشيخ. فانه غير صحيح ، لأن عدم كون المورد من موارد القاعدة المذكورة يستلزم الانتهاء إلى القول بالتحريم الفعلي ، لأن القاعدة تذكر لبيان المانع من التكليف وأن الاضطرار انما يمنع من التكليف لا المؤاخذة. فإذا فرض ارتفاع هذا المانع ثبت الحكم ، وليست القاعدة تذكر لبيان عدم المقتضي حتى يحتاج إلى دليل بعد رفع القاعدة. فالانتهاء إلى وجوب الخروج بمجرد رفع القاعدة عن المورد لا يعلم له وجه ظاهر.

الجهة الثالثة : فيما ذكره من الوجوه على عدم كون المورد من موارد القاعدة فانها غير صحيحة :

أما الأول : فلما تقدم من بيان كون المورد من موارد الاضطرار العقلي.

وأما الثاني : فلأنه من الواضح ثبوت الملاك للخروج للجزم بعدم الفرق بين موارد الغصب في ذلك. وإطلاق دليل الغصب يؤيده.

واما الثالث : فلأنه لا فرق بين أن يكون الامتناع ناشئا من ترك مقدمة أو فعلها ، فان المهم هو استناد الامتناع إلى اختيار المكلف.

وأما الرابع : فلان الاضطرار المدعي انما نشاء عن حكم العقل بلزوم الخروج فرارا من أشد المحذورين ، فلا وجه لجعل حكم العقل المزبور شاهدا

ص: 150

على عدم كون المورد من موارد الاضطرار.

والحاصل : ان ما أفاده قدس سره لا يخلو عن مناقشة. وقد عرفت تحقيق الكلام بما لا مزيد عليه.

وفي ختام هذا البحث يحسن بنا التعرض لإيضاح مطلب الكفاية في موردين :

المورد الأول : ما ذكره في مقام دفع القول بان الخروج مأمور به ومنهي عنه (1) بعد ان نفاه بامتناع اجتماع الحكمين فيما كانا بعنوانين فضلا عما إذا كانا بعنوان واحد كما فيما نحن فيه ، من انه لو سلم كون اجتماع الأمر والنهي ليس بمحال في نفسه ، لكنه في المقام محال ، لأنه تكليف بالمحال مع عدم المندوحة ، لعدم التمكن من الفعل والترك ، وما قيل من ان الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافى الاختيار انما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بان الأفعال غير اختيارية بقضية : « ان الشيء ما لم يجب لم يوجد » (2).

ومحل بحثنا هو : إيضاح مقصود صاحب الكفاية في ردّ القول المذكور.

وقد فسّر المحقّق الأصفهاني العبارة أولا : بإرادة الضرورة السابقة والضرورة اللاحقة. ببيان إليك نصه : « ان كل ممكن محفوف بضرورتين : ضرورة سابقة في مرتب العلة التامة ، وهي مفاد قولهم : « ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ». وضرورة لاحقة وهي الضرورة بشرط المحمول ، لوضوح أن الموجود بشرط الوجود ضروري الوجود ، والمعدوم بشرط العدم ضروري العدم ، ومثله لا دخل له بالقضية المتقدمة ، وإلاّ لكان مفادها ان الشيء ما لم يفرض وجوده لم يوجد وهو واضح البطلان. وقولهم : « ان الوجوب بالاختيار أو الامتناع بالاختيار لا ينافى

ص: 151


1- القائل هو أبو هاشم. راجع شرح مختصر الأصول / 94.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /173- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الاختيار » ناظر إلى الضرورة السابقة فان الضرورة الناشئة من قبل إعمال القدرة والإرادة لا يعقل ان تأبى المقدورية والمرادية ، بل تؤكدهما. وقولهم : « ان التكليف لا يتعلق بما هو واجب أو ممتنع » ناظر إلى الضرورة اللاحقة فان طلب الموجود أو المعدوم طلب الحاصل ، وطلب الوجود بالإضافة إلى المعدوم أو العدم بالإضافة إلى الوجود طلب النقيض مع فرض تحقق نقيضه ، واجتماع النقيضين محال. فلا ربط لإحدى القضيتين بالأخرى » ، ثم أنه ذكر بعد ذلك : أن العبارة ظاهرة في كون الوجوب والامتناع في كلتا القضيتين واحد ، وأن عدم منافاتهما لصدور الفعل والترك بالاختيار لا ينافي منعهما عن تعلق التكليف إذا كان ذلك بسوء الاختيار ، ثم أخذ في توجيه عبارة الكتاب (1).

أقول : يرد عليه :

أولا : انه لا داعي لحمل العبارة أو لا على ما ذكره ثم تصحيحها بوجه آخر. فان ظاهر العبارة لا إشارة فيه إلى ضرورة سابقة ولاحقة وغير ذلك ، بل ظاهرها أمر وجداني عرفي محصله ان الشيء إذا كان واجبا أو ممتنعا امتنع تعلق التكليف به لعدم القدرة عليه وكان التكليف بالنسبة إليه لغوا لعدم داعويته إليه ، اما ان هذا الممتنع أو الواجب اختياري أو لا فهو له حديث آخر. فذهب الأشاعرة إلى عدم كونه اختياريا تمسكا بقضية : « أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ». وردّوا : بان هذا الوجوب إذا كان اختياريا ومستندا إلى الإرادة كان الفعل اختياريا. وهذا المعنى أجنبي عن عدم صحّة التكليف به لعدم إمكان داعويته إليه المقومة للتكليف هذا هو ظاهر العبارة ، ولا وجه لإطالة الكلام في هذا ، ولعله هو المقصود مما وجّه به عبارة الكتاب ولا يهمنا ذلك.

وثانيا : ان المورد ليس من موارد الضرورة اللاحقة ، ومن التكليف

ص: 152


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 292 - الطبعة الأولى.

بالموجود أو المعدوم ، وذلك لعدم كون المفروض تعلق الأمر أو النهي بما هو موجود خارجا ، بل البحث في حرمة أو وجوب ما سيقع من الخروج الّذي لا بد منه بالتقريب الّذي تقدم. فالتفت وتدبر.

المورد الثاني : ما ذكره في مقام بيان أن الخروج يقع مبغوضا وعصيانا للنهي السابق ، ولا تؤثر في رفع مبغوضيته جهة المقدمية من : انه لو ارتفعت حرمته لأجل التزاحم الموجود لزم ان تكون « الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره ، وعدم حرمته مع اختياره له وهو كما ترى (1) » فيقع الكلام في المراد بهذه العبارة وما هو مرجع الضمير في : « لغيره وله » هل الخروج أو الدخول؟.

ذهب المحقق الأصفهاني إلى : أن مرجع الضمير هو الخروج والمراد من غير الخروج هو الدخول فيكون المعنى : أن حرمة الخروج على تقدير الدخول وعدم حرمته على تقدير إرادته نفسه.

وجهة الإشكال فيه المشار إليها بقوله : « كما ترى » هي ان هذا التقييد بلا موجب وبدونه يكون غير صحيح.

ثم ذكر احتمالا آخر في العبارة وهو : إرادة الدخول من الضمير فيكون المؤدي : تعليق حرمة الخروج على إرادة غير الدخول وهو تركه وجوازه على إرادة الدخول ، ونفي صحته بأنه لا وجه له بعد ان كان الدخول مما لا أثر له في الكلام حتى يرجع إليه الضمير ، بخلاف الخروج فانه محل الكلام من حيث الحرمة والجواز. كما ذكر احتمالا آخر لا يهمنا التعرض إليه (2).

والحق : ان اللازم حمل العبارة على المعنى الثاني لا الأول. فان ما يؤدي إليه قول الخصم هو المعنى الثاني. بيان ذلك : ان الخصم يدعي ان الخروج لما

ص: 153


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 169 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام 2 -
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 289 - الطبعة الأولى.

كان مقدمة لما هو الأهم ارتفعت مبغوضيته كسائر موارد تزاحم الحرمة مع الوجوب الأهم. ومن الواضح ان فرض التزاحم بين حرمة الخروج ووجوب التخلّص عن الحرام انما هو ظرف الدخول ، وقبل الدخول لا تزاحم فيبقى الخروج على حرمته.

وعليه ، فقول الخصم يستدعي ثبوت الحرمة قبل الدخول وارتفاعها بعد الدخول.

ومن الواضح : ان هذا يستلزم عدم تأثير الحرمة في ترك الخروج ، إذ لا يقع الخروج في ظرفه إلا مباحا فيكون جعلها لغوا.

ولا يخفى ان حمل عبارة الكتاب على هذا المعنى الواقعي أولى من حمله على ما ذكره قدس سره مما لا يرتبط بواقع الأمر كما لا يخفى.

نعم ، حمل العبارة على المعنى المذكور يستلزم مخالفة الظاهر من جهة عدم سبق ذكر للدخول كي يعود الضمير عليه ، ومن جهة كون المراد من إرادة غير الدخول نفس عدم الدخول ، وإرادة الدخول نفس الدخول. ومثل هذه المخالفات للظاهر لا يخلو منها التفسير الأول.

واما ما ذكره قدس سره في رد قول الخصم على التفسير الأول من : أنه تعليق بلا موجب فلا يكون صحيحا. فهو غير وجيه ، فان المقتضي والموجب للتعليق المذكور - لو تم في نفسه - هو وقوع المزاحمة وحكم العقل بترجيح الأهم ، كسائر موارد التزاحم التي يلتزم فيها بتقييد دليل المهم بغير مورد مزاحمة الأهم ، فلم يعلم لكلامه قدس سره وجه.

يبقى أمر لم نتعرف على وجهه ، وهو ما ذكره صاحب الكفاية من : ان التعليق المزبور خلف الفرض لأن الفرض كون الاضطرار بسوء الاختيار والتعليق يستلزم عدم كونه بسوء الاختيار. كما لا يخفى.

وهذا غريب جدا ، لأن محل الكلام هو كون الخروج المضطر إليه اختيارا

ص: 154

مبغوضا ، فيكون الاضطرار بسوء الاختيار ، أو لا يكون مبغوضا فلا يكون هناك سوء اختيار. ودعوى الشيخ انه لا يقع مبغوضا أصلا. فكيف يجعل ان سوء الاختيار مفروض الكلام ، بل هو محل الكلام؟! والأمر في هاتين العبارتين سهل بعد ما عرفت تحقيق الكلام ، ولا وجه لإطالة البحث فيهما نفيا وإثباتا بل نكتفي بهذا المقدار.

ويقع الكلام بعد ذلك في ثمرة المسألة. اما ثمرة هذا البحث - أعني بحث الاضطرار - فهو يتضح من طيات ثمرة المسألة وذيوله.

* * *

ص: 155

ص: 156

« ثمرة المسألة »

ويقع الكلام - بعد مجموع ما تقدم - في ثمرة المسألة ، وما هو الأثر العملي للقولين بالجواز والامتناع.

فنقول : بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي الراجع إلى الالتزام بتعدد وجود متعلق الأمر والنهي في المجمع ، يلتزم بصحة العمل العبادي بدعوى ان متعلق الأمر غير منهي عنه ، فيصح الإتيان به عبادة سواء علم بالحرمة أو لم يعلم.

إلاّ ان المحقق النائيني خالف في إطلاق الحكم بالصحّة والتزم ببطلان العمل في صورة العلم بالحرمة دون الجهل بها.

ببيان محصله وواقعه : انه إذا التزم بجواز الاجتماع من الجهة الأولى - وهي اجتماع الضدين في شيء واحد - فلا يلتزم بجوازه من الجهة الثانية ، بل يلتزم بالامتناع بلحاظها - وهي جهة التزاحم - لوضوح عدم التمكن من امتثال كلا الحكمين فلا يكونان فعليين ، بل يقع التزاحم بينهما فاما ان يقدم الأمر أو يقدم النهي ، فلو قدم النهي ارتفع الأمر عن الفرد المزاحم ، وحينئذ فصحته عبادة ينحصر طريقها بأحد وجوه ثلاثة كلها منتفية فيبطل العمل قهرا ، وهذه الوجوه الثلاثة هي :

الأول : الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة ، وان كان

ص: 157

الفرد المزاحم خارجا عن دائرة المأمور به ، وهو ما التزم به المحقق الكركي.

الثاني : تصحيح تعلق الأمر به بنحو الترتب ، فيؤتى به بداعي الأمر المتعلق به.

الثالث : الإتيان به بداعي الملاك ، لاشتماله على ملاك الأمر.

اما الوجه الأول : فقد تقدم عدم صحته وان الفرد المزاحم فرد للطبيعة لا بما هي مأمور بها ، فلا يصح الإتيان به بداعي الأمر لأن الأمر انما يدعو إلى ما تعلق به.

واما الوجه الثاني : فقد تقدم عدم تأتي الترتب في مثل الفرض ، لأن عصيان النهي عن الغصب إما ان يكون بالغصب الصلاتي ، أو بغيره ، وعلى كلا التقديرين لا يصح تعلق الأمر بالصلاة ، فانه على الأول طلب الحاصل ، وعلى الثاني طلب النقيضين ، فان الأمر بالصلاة على تقدير الإتيان بغيرها طلب النقيضين ، كما لا يخفى.

واما الوجه الثالث : فالإتيان بالفرد المزاحم بداعي الملاك انما يجدي في المقربية إذا لم يكن مشتملا على القبح الفاعلي كما في المقام ، فان الصلاة والغصب وان كانا متعددي الوجود لكن لما كانا ممتزجين في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر ، كانا متحدين بحسب الإيجاد والتأثير ، وكانا صادرين بإرادة واحدة ، فيكون الفاعل مرتكبا للقبيح في فاعليته ، ومع ذلك يمتنع ان يكون الفعل الصادر منه مقربا ، لقبح جهة صدوره.

وهذا البيان لا يسري إلى صورة الجهل بالحرمة ، إذ مع الجهل لا تزاحم بين الحكمين ، لأن التزاحم انما يتحقق مع وصول كلا الحكمين إلى مقام الداعوية ، وهو منتف مع الجهل ، فيكون الأمر بلا مزاحم ، كما ان جهة صدور العمل لا تكون متصفة بالقبح ، لفرض الجهل بالحرمة ، فلا يكون الفاعل مرتكبا للقبيح في فاعليته.

ص: 158

هذا محصل ما أفاده في مقام التفصيل بين العلم بالحرمة والجهل بها ، وقد غيرنا أسلوب البيان لإيضاح المطلب ، كما أغفلنا بعض ما أفاده في مقام تحقيق المطلب ، لعدم دخله - بنظرنا - بالمطلوب ، وهو ما أفاده من التفصيل في اعتبار القدرة بين القول بأنها بحكم العقل أو القول بأنها باقتضاء نفس التكليف ، ووقوع التزاحم على الثاني دون الأول ، فقد مر تحقيق الكلام فيه ولعلنا نعود إليه لمناسبة أخرى (1).

واما ما نقلناه عنه فهو غير تام ، وذلك : لما تقدم منا من انه لا تزاحم بين الحكم الموسع والحكم المضيق ، إذ عرفت ان مرجع الإطلاق في الموسع ليس إلى الجمع بين القيود ، بل إلى رفض القيود وبيان عدم دخالة أي قيد في المأمور به ، ولازمه حكم العقل بترخيص المكلف في تطبيق الكلي المأمور به على أي فرد شاء حتى الفرد الملازم للعمل المحرم ، وهذا لا ينافي تحريم المحرم وباعثية الحرمة إلى تركه ، إذ لا اقتضاء للحكم الموسع بالنسبة إلى الفرد المزبور ، اذن فالفرد المزاحم مشمول للطبيعة بما هي مأمور بها. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بثبوت التزاحم وخروج الفرد المزاحم عن دائرة المأمور به ، فالوجوه التي التزم بها لتصحيح العمل عبادة تامة ولا وجه للخدشة فيها.

اما الأول : فلما تقدم منا - في مبحث تعلق الأحكام بالطبائع أو الافراد - ، من تصحيح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة بعد ان كان كغيره من الافراد موافقا للغرض ومحصلا للملاك ، وإليه ذهب صاحب الكفاية (2).

واما الثاني : - فلان ما ذكره قدس سره في نفي الترتب عجيب - ، فان عدم جريان الترتب في مورد اجتماع الأمر والنهي انما يلتزم به بناء على الامتناع

ص: 159


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 369 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /157- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ووحدة وجود المأمور به والمنهي عنه ، لأن عصيان أحدهما يكون بامتثال الآخر ، فلا معنى للترتب ، لأنه طلب الحاصل ، ولا يلتزم به بناء على الجواز والالتزام بتعدد وجود المأمور به والمنهي عنه. وما ذكره من البيان لنفيه غير صحيح ، إذ بعد الالتزام بتغاير وجود الغصب ووجود الصلاة ، لا معنى لأن يقال : ان عصيان النهي عن الغصب اما ان يكون بالغصب الصلاتي أو بغيره ، إذ الغصب غير الصلاة فكيف يكون بنفس الصلاة؟. نعم هو يلازم الصلاة أو غيرها ، وهذا لا يمنع من الترتب ، وإلاّ لامتنع الترتب في مطلق موارده ، لأن عصيان الأهم اما يلازم المهم أو غيره. فالتفت.

واما الثالث : فقد أورد عليه بان الإيجاد والوجود متحدان حقيقة ، متغايران اعتبارا ، فلا يمكن فرض تعدد الوجود ووحدة الإيجاد ، بل مع تعدد الوجود يتعدد الإيجاد ، ومع تعدده لا يكون المكلف في جهة إيجاده المأمور به فاعلا للقبيح ، فلا تكون جهة صدور المأمور به متصفة بالقبح كي يمنع ذلك من حصول التقرب به.

ولكنا نقول : ان هذا البيان وان كان برهانيا إلاّ ان الّذي نراه بالوجدان كون الأفعال على قسمين :

أحدهما : ما تتعلق به الإرادة بنفسه مباشرة وهو الأفعال الإرادية.

ثانيهما : ما لا تتعلق الإرادة به مباشرة ، بل بسببه ، وهو الأفعال التوليدية.

ومن الواضح انه لا يمكن صدور فعلين من النحو الأوّل بإرادة واحدة ، إذ المفروض ان كل فعل تتعلق به الإرادة بنفسه ، فكل فعل يكون متعلقا لإرادة غير الإرادة المتعلقة بالآخر ، وقد يرى مسامحة تعلق الإرادة الواحدة بفعلين ، لكن الحقيقة ليست كذلك ، بل هناك إرادتان وشوقان كل منهما متعلق بفعل غير الفعل الّذي تعلقت به الإرادة الأخرى.

واما النحو الثاني من الأفعال ، فيمكن صدور فعلين بإرادة واحدة حقيقة

ص: 160

كما لو كان هناك سبب واحد لأثرين ، بمعنى انه يؤثر بمجموع اجزائه لو كان مركبا في كل أثر. فان متعلق الإرادة نفس السبب ، فلا تكون إلاّ إرادة واحدة متعلقة بالسبب. وفي مثل ذلك لو كان أحد المسببين محبوبا والآخر مبغوضا وفرض غلبة المبغوض ، فان جهة صدور المسبب المحبوب تكون مبغوضة ، إذ إرادة السبب مع العلم بانتهائه إلى المسبب المبغوض قبيحة. وبما انه يعتبر في المقربية عدم قبح جهة الصدور ، فلا محالة لا يكون الإتيان بالمسبب مقربا ، ولا ينفع في ذلك دعوى ان تعدد الوجود يقتضي تعدد الإيجاد ، فان جهة الصدور وإرادته واحدة بداهة. وعليه فالإيراد المذكور غير مجد في دفع الإشكال كلية.

هذا ، ولكن مورد الكلام ( وهو الصلاة مع الغصب ) خارج عما ذكرنا ، إذ هما من الأفعال الإرادية ، وعليه فكل منهما متعلق الإرادة ، فلا يكون الإتيان بالصلاة مشتملا على القبح الفاعلي ، لأن جهة صدوره غير جهة صدور الغصب.

فالإشكال المزبور انما يتم في المسببات التوليدية.

والمتحصل : انه لا إشكال في صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بجواز الاجتماع في صورة العلم بالغصب وهكذا في صورة الجهل به وهو واضح كما لا يخفى.

واما على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي لوحدة المتعلق وتقديم جانب النهي ، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل بين صورة العلم وصورة الجهل أو النسيان ، فذهب إلى بطلان العمل العبادي في الأولى دون الثانية (1). اما بطلان العمل في صورة العلم فوجهه واضح لأن العمل مبغوض للمولى ويمتنع التقرب بما هو مبعد. واما عدم بطلانه في صورة الجهل أو النسيان فقد مر توجيهه بوجوه ثلاثة :

ص: 161


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /156- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : إتيانه بقصد الأمر المتعلق بالطبيعة لكونه كسائر الافراد في الوفاء بالغرض.

الثاني : إتيانه بقصد الملاك لاشتماله على ملاك الأمر كما هو المفروض.

الثالث : إتيانه بقصد الأمر المتعلق به بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد المؤثرة فعلا بالحسن والقبح.

وقد مر الإشكال على الوجهين الأولين ، بما أفاده المحقق النائيني من : ان الفعل بعد ما كان مشتملا على ملاكي الحكمين وكان ملاك النهي غالبا لم يكن الفعل بملاحظة الكسر والانكسار الحاصل بين المفسدة والمصلحة مقربا للمولى ، لأن ملاك الأمر المقرب هو المصلحة الغالبة لا مجرد المصلحة ولو لم تكن غالبة. وعلى الوجه الثالث : بأنه التزام بالتصويب المجمع على بطلانه لاستلزامه نفى الحكم الواقعي في صورة الجهل.

وقد تقدم توضيح ذلك مفصلا في الأمر العاشر فراجع.

نعم يمكن الالتزام بصحة العمل في صورة النسيان بتقريب : ان دليل الرفع المتكفل لرفع النسيان يتكفل رفع الحكم الواقعي ، ويفيد ان ملاك النهي لا يكون مؤثرا في المبغوضية الفعلية الموجبة للبعد ، فلا مانع من ثبوت الأمر حقيقة وواقعا ومقربية العمل المأمور به.

ويمكن ان يذكر تفصيلا آخر في صحة العمل على القول بتقديم جانب النهي ، وهو التفصيل بين ما إذا كانت مندوحة ، بمعنى أمكن امتثال المأمور به بفرد آخر وعدمه ، ومن مصاديقه الصلاة في المكان المغصوب مع السعة ومع الضيق.

والوجه فيه : انه إذا كان للمأمور به افراد متعددة كان عمومه بدليا ، في الوقت الّذي يكون عموم النهي شموليا يستغرق جميع افراده ، وقد تقرر في محله تقديم العموم الشمولي على العموم البدلي عند التنافي.

ص: 162

اما لو لم تكن مندوحة وانحصر المأمور به بالفرد المحرم ، كان دليل الأمر شاملا له بخصوصه لا على نحو البدلية ، فلا يتجه تقديم الحرمة ، بل قد يقدم دليل الوجوب أو يلتزم بالتخيير.

وهذا التفصيل في حقيقته تفصيل بين الصورتين في تقديم جانب الحرمة وعدمه ، لا في الصحة على تقدير تقديم جانب الحرمة. فالتفت.

وقد يفصّل - بناء على غلبة ملاك الأمر وتقديم جانبه - بين صورة الضيق ، فيصح العمل ، وصورة السعة ، فلا يصح ، للوجه الّذي ذكره في الكفاية في ذيل مسألة الاضطرار إلى الحرام (1).

وهو الالتزام بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، ببيان : ان الإتيان بالفرد المشتمل على مفسدة التحريم يستلزم عدم التمكن من استيفاء مصلحة الافراد الأخرى غير المبتلاة بمنقصة ملاك الحرمة ، فهما ضدان ، وبما ان الأفراد الأخرى متعلقة للأمر ، فإذا التزمنا بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده كان هذا الفرد منهيا عنه ، فلا يقع صحيحا.

وهذا البيان لا يتأتى في صورة الضيق ، إذ لا فرد غيره كما لا يخفى.

وقد أورد عليه في الكفاية : بإنكار استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضده (2) ، وقد تقدم تحقيق ذلك.

هذا مع انه قد قيل : بان النهي الثابت بهذا الطريق لا ينافي مقربية العمل ولا يمنع من عباديته.

ولعل تقرير ذلك يتأتى قريبا إن شاء اللّه تعالى.

« تذييل » : قد عرفت ابتناء القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي على وحدة وجود المجمع. والقول بجوازه على تعدده. وقد يقع الكلام في بعض الفروع

ص: 163


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /174- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -2. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المرتبطة بذلك.

منها : الغسل بالماء المغصوب وفي المكان المغصوب ، فانه قد يدعي بطلان الأول وصحة الثاني.

وتوجيه هذه الدعوى قد مر في الأمر العاشر من الأمور المذكورة في الكفاية ، وهو : ان الغصب في المثال الأول يتحقق بنفس الغسل لأنه تصرف بالماء فيكون محرما فلا يمكن ان يكون واجبا لوحدة المجمع. اما في المثال الثاني ، فقد يدّعي أن الغصب لا يتحقق بنفس الغسل ، لأنه من مقولة الأين والغسل من مقولة الفعل فيختلفان وجودا ، فيصح الغسل لعدم كونه محرما.

ومنها : ما لو اضطر إلى البقاء في الأرض المغصوبة واضطر إلى الصلاة فيها بضيق الوقت ، كالمحبوس أو الداخل لها نسيانا مع ضيق وقته.

فهل وظيفته الصلاة التامة ، أو وظيفته الانتقال إلى الأبدال الاضطرارية لأفعال الصلاة الانتقالية كالركوع والسجود فيؤمي لهما؟. ذهب البعض إلى الثاني ، بدعوى : ان الركوع الاختياري - مثلا - تصرف زائد على الغصب عرفا ، فيكون محرما ، فيسقط وجوبه وينتقل إلى بدله الاضطراري. وفي قباله دعوى : ان وظيفته الصلاة التامة ، لأن الركوع والسجود ونحوهما ليس تصرفا زائدا على نفس إشغال المكان المغصوب ، والمفروض جوازه للاضطرار إليه ولا يتعين عليه نحو خاص من الاشغال وهو القيام أو الجلوس أو النوم مثلا ، بل له الحق في أي فرد من افراد الاشغال.

وأما النّظر العرفي ، فهو لو سلم لا يعتد به إذ العرف انما يرجع إليه في تعيين مفاهيم الألفاظ لا تعيين المصاديق ، وبعد ان عرفنا ان التصرف الجائز هو إشغال المكان المغصوب لأنه مما لا بد منه ، وعلمنا ان الركوع نحو من أنحاء الاشغال ولا يشتمل على تصرف غير الإشغال ، كما انه لا يستلزم زيادة الإشغال ، لأن الجسم واحد وهو يستدعي حيزا معينا لا يزيد ولا ينقص بلحاظ حالاته

ص: 164

وكيفيات وجوده ، لعدم تغيره عن واقعه - بعد علمنا بذلك - لا وجه للاعتداد بالعرف وتحكيمه في نظره بأنه غصب زائد ، لأنه يبتني على المسامحة ولا اعتبار بها.

وهذه الدعوى تامة بنحو الموجبة الجزئية ، فان الركوع وان لم يستلزم تصرفا زائدا ، لكن السجود يستلزم ، لأنه يعتبر فيه وضع الجبهة على الأرض ، وهكذا التشهد ، فانه يعتبر فيه الجلوس ، سواء اعتبر ذلك مقوما أو شرطا ، إذ على الأول يكون المورد من موارد الامتناع وعلى الثاني يكون المورد من موارد التزاحم ، فان حرمة الشرط ووجوب المشروط لا يجتمعان امتثالا ، وعليه فتسلب القدرة الشرعية عن السجود ، فينتقل إلى بدله الاضطراري.

ومن هنا يظهر حكم الصلاة في حال الخروج المضطر إليه بناء على إباحته ، فانه تجوز الصلاة فيه بالمقدار الّذي لا يستلزم تصرفا زائدا على نفس الخروج أو زيادة مدة الخروج ، وإلاّ لم تصح الصلاة بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي.

هذا تمام الكلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي (1).

ويقع الكلام بعد ذلك في مسألة ...

ص: 165


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /180- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

« اقتضاء النهي الفساد »

وموضوع البحث فيها : هو ان تعلق النهي بالعمل عبادة كانت أو معاملة هل يستلزم فساده أو لا؟.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى بيان أمور ، وبعضها وان لم يترتب على تحقيقه أي أثر عملي لكنا نتعرض إلى بيانها جريان على طبق الكفاية ، لكن نكتفي ببيان مطلب الكفاية وإيضاحه لا أكثر.

الأمر الأول : في بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد تقدم بيانه في بدء الشروع في تلك المسألة فلا نعيد.

الأمر الثاني : في بيان الوجه في عدّ هذه المسألة من المسائل اللفظية ، وهو : وجود القول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة العقلية بين النهي والفساد فيها ، فلو جعل البحث بحثا عقليا لم يكن هذا القول من أقوال المسألة ، بخلاف ما لو جعل البحث لفظيا فانه يكون من أقوالها.

ودعوى : ان الملازمة بين الحرمة والفساد في العبادة على تقدير ثبوتها ، فهي تكون بين الفساد والحرمة ولو لم تكن مدلولة باللفظ ، وعلى تقدير انتفائها فكذلك.

تندفع : بإمكان جعل البحث في العبادة في دلالة الصيغة على الفساد بما يعم الدلالة الالتزامية التي ترجع في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت الملازمة ، فيكون البحث لفظيا في كلا الموردين (1).

ص: 166


1- لم يتعرض سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) إلى ما ذكره صاحب الكفاية من مرجحات جانب النهي ، وعلل ذلك : بان المورد بناء على الامتناع يكون من موارد التعارض. وبناء على الجواز يكون من موارد التزاحم. وقد مرّ ذكر مرجحات باب التزاحم وسيأتي ذكر مرجحات باب التعارض ، فلا حاجة للتعرض في المقام إلى ما ذكره صاحب الكفاية ، مع ان ما ذكره من المرجحات ليست من باب واحد ، فبعضها يرتبط بباب التعارض وهو الأولى ، وبعضها يرتبط بباب التزاحم وهو الأخيران. فالتفت. راجع كفاية الأصول ( منه عفي عنه ).

هذا إيضاح مطلب الكفاية في هذا الأمر ولا بد من توجيه كلامه بحمله على ان المفروض في كلامه ان الملازمة التي هي موضوع النفي والإثبات هي الملازمة البيّنة الموجبة لدلالة اللفظ ، كي لا يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهانيّ من ان أصل الملازمة ثبوتا إذا كان محل الإشكال ، فلا معنى للبحث عن الدلالة الالتزامية (1).

وقد أخذه قدس سره مما أورده صاحب الكفاية على صاحب المعالم في عدّ مبحث مقدمة الواجب من المباحث اللفظية (2).

وقد فسرناها فيما تقدم بان طبيعي الملازمة الأعم من البينة وغيرها محل إشكال ، فلا معنى لإيقاع البحث في الدلالة الالتزامية المبتنية على الملازمة البينة.

الأمر الثالث : في بيان المراد من النهي في موضوع البحث.

وتوضيح ما ذكره قدس سره (3) : ان لفظ النهي وان كان ظاهرا في النهي التحريمي ، إلاّ ان ملاك البحث لما كان يعم التنزيهي ولا اختصاص له بالحرمة - كما سيتضح - ، تعين إرادة الأعم من التحريمي التنزيهي في موضوع البحث.

ودعوى : ان ملاك البحث في المعاملات لا يعم التنزيهي ، إذ لم يتوهم متوهم استلزام كراهة المعاملة لفسادها ، والمفروض ان المأخوذ في متعلق النهي في موضوع البحث هو الأعم من العبادة والمعاملة ، فان المراد ب- : « الشيء » ذلك ، فيكون موجبا لاختصاص البحث بالحرمة ، إذ لا بحث في اقتضاء الكراهة لفساد

ص: 167


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 306 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /89- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /181- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المعاملة المفروض عموم لفظ « شيء » لها.

وبالجملة : عموم الملاك للنهي التنزيهي يقتضي تعميم المراد من النهي ، وإرادة الأعم من العبادة والمعاملة من لفظ « شيء » مع اختصاص عموم الملاك في العبادة ، يقتضي تخصيص المراد من النهي.

تندفع : بان المراد من النهي طبيعي النهي الشامل لكلا الفردين لا خصوصية كلا الفردين ، فلا منافاة حينئذ ، إذ يصح وقوع المطلق بما هو مطلق مورد الحكم أو الترديد مع اختصاص ذلك ببعض افراده ، فمثلا لو علمنا بان زيدا يشرب نوعين من الدواء ، وعمرا يشرب نوعا واحدا ، صح لنا الحكم في جملة واحدة بان زيدا وعمرا يشربان الدواء ، أو السؤال عن انهما هل يشربان الدواء أو لا؟.

نعم لو أريد خصوص الفردين اتجه الإيراد. فتدبر.

هذا بالنسبة إلى التحريمي والتنزيهي.

اما بالنسبة إلى النفسيّ والغيري ، فذكر : انه لا وجه لتخصيص الكلام في النفسيّ ، بل يعم الغيري إذا كان أصليا ، بمعنى انه مدلول للكلام بنفسه ، إذ يمكن ان يدعي باقتضائه الفساد ولو لم تكن مخالفته موجبة للبعد والعقاب ، لدلالته على مبغوضية العمل الموجب لارتفاع محبوبيته فلا يكون مقربا. ومما يؤيد ذلك : انه قد جعل ثمرة النزاع في ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ فساده إذا كان عبادة ، مع ان النهي على القول به غيري ، في بعض وجوهه.

نعم إذا كان تبعيا غير مدلول للكلام كان خارجا عن موضوع البحث ، لأنه من مقولة المعنى ولكنه داخل فيما هو ملاكه. فالتفت.

الأمر الرابع والخامس : في بيان المراد بالعبادة والمعاملة المقصودة من لفظ « شيء » المأخوذ متعلقا للنهي في موضوع البحث.

ص: 168

وقد أفاد (1) بان المراد بالعبادة أعم مما يكون بنفسه وبذاته عبادة لله تعالى لو لا حرمته كالسجود لله والخضوع له فانه عبادة بنفسه ، ومما لا يكون كذلك ولكن كان لو امر به لكان امره عباديا لا يسقط بدون قصد القربة ، كالصلاة والزكاة ونحوهما. فيقع البحث : ان النهي هل يمنع من تحقق العبادية التي تترتب على السجود أو الصلاة مثلا لو لا النهي أو لا يمنع؟.

واما ما فسر به المراد من العبادة بأنه ما امر به لأجل التعبد به ، أو ما يتوقف صحته على النية ، أو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ، فهو غير صحيح لأن العبادة بهذا المعنى يمتنع تعلق النهي بها كي يتكلم في اقتضائه الفساد وعدمه ، إذ يمتنع تعلق النهي بما فرض تعلق الأمر به فعلا أو ثبوت صحته فعلا أو ما كان فيه المصلحة فعلا.

وهذا كما عرفت يقتضي ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى اعتبار المفسرين للعبادة بهذه المعاني ، الصحة الفعلية ، والمصلحة الفعلية ، في تحقق العبادة. وإلاّ فلو كان نظرهم إلى الصحة الشأنية فلا يرد عليهم ما أورده صاحب الكفاية. فتدبر. وعلى كل فالامر ليس بمهم كما يقول صاحب الكفاية لأن الغرض شرح الاسم لا التعريف بالحدّ أو الرسم.

واما المراد بالمعاملة : فقد ذكره في الأمر الخامس (2) بعد تقديم مقدمة ، محصلها : ان الصحة والفساد انما يثبتان للعمل بلحاظ ترتب ما يترقب منه من الأثر وعدم ترتبه.

ومن الواضح ان ما يدخل في محل النزاع ما كان قابلا للاتصاف بكلا الوصفين حتى يقبل البحث في استلزام النهي فساده ، اما ما لا يقبل الاتصاف

ص: 169


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /181- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /182- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بهما كليهما ، اما لعدم كونه ذا أثر أصلا أو لأنه ذو أثر لكنه كان ملازما له دائما لا يتخلف عنه ، فلا يدخل في محل النزاع لعدم اتصافه بالفساد ، فلا معنى للبحث عنه ، ويمثل له بالملاقاة في تحقق الطهارة أو النجاسة ، فقد قيل : انها بمنزلة العلة التامة لحصول أثرها ، وبالإتلاف في تحقق الضمان. لكنه خارج عما نحن فيه لأنه منهي عنه في المورد الّذي يقبل تعلق النهي به مع كونه ما يترتب عليه الأثر.

وعلى كل حال فيدخل في محل النزاع كل ما كان قابلا للاتصاف بالوصفين ، كالعقود والإيقاعات وغيرهما كالتحجير والحيازة في ثبوت الحق أو الملكية. ولا وجه لتخصيص الكلام بالعقود والإيقاعات كما ذهب إليه المحقق النائيني بدعوى : عدم توهم اقتضاء النهي في مثل التحجير للفساد (1) ، فانها تندفع : بان الملاك الّذي يقتضي الفساد في مثل العقود يقتضيه في مثل التحجير ، وهذه الدعوى مما لا شاهد لها إذا لم تكن معقد الإجماع.

الأمر السادس : في بيان ان وصف الصحة والفساد من الأوصاف الإضافية الحقيقية ، فانهما يثبتان للشيء بلحاظ ترتب الأثر المترتب عليه وعدمه ، ولذلك أمكن اتصاف الشيء الواحد بهما معا بلحاظ ترتب أثر وعدم ترتب آخر ، كما ولأجل ذلك كان اتصاف الشيء بهما يختلف باختلاف الأنظار لاختلافها في الأثر المترقب على العمل والمرغوب منه ، ولكنهما عند الجميع بمعنى واحد وهو التمامية وعدمها ، وتفسيرها بغير ذلك في بعض الاصطلاحات ، انما هو تفسير باللازم لكونه محط النّظر (2).

وقد تقدم هذا البيان منه في بحث الصحيح والأعم ونقلناه هنا ملخصا لعدم أي أثر يترتب عليه.

ص: 170


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 388 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /182- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وانما المهم هو تحقيق البحث في تنبيه الأمر السادس ، الّذي عقده صاحب الكفاية لتحقيق : ان الصحة هل هي من الأمور المجعولة أو لا؟. وتحقيق هذا المطلب ينفعنا في جريان استصحاب الصحة مع الشك في فقدان الجزء أو حصول المانع في الشبهة الحكمية ، لأن الصحة إذا كانت من المجعولات الشرعية كانت مما يقبل التعبد وضعا ورفعا ، فصح إجراء الأصول فيها.

وقد أفاد قدس سره : ان الصحة في العبادة ان كانت موافقة الأمر أو الشريعة - كما هي عند المتكلم - فهي من الأمور الانتزاعية ، فان موافقة الأمر تنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به ، وليست من الأمور المجعولة لا استقلالا - كما هو واضح - ولا تبعا لجعل المأمور به ، إذ بجعل المأمور به ، لا تتحقق الموافقة ما لم يتحقق المأتي به. واما بمعنى سقوط الإعادة والقضاء - كما هي عند الفقيه - ، فالوجه هو التفصيل بين المأمور به بالأمر الواقعي بالنسبة إلى أمره والمأمور به بالأمر الظاهري والاضطراري بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأولي. فان سقوط الإعادة والقضاء في الأول من اللوازم العقلية للإتيان به لحصول الغرض وسقوط الأمر ، فلا وجه للإعادة أو القضاء ، فهي بهذا المعنى ليست حكما جعليا لا استقلاليا ولا تبعيا ، كما انها ليست من الأمور الانتزاعية ، بل هي امر واقعي يحكم به العقل كاستحقاق العقوبة والمثوبة الّذي يحكم به العقل ويستقل به. واما سقوطها في الثاني فقد يكون مجعولا كما لو لم يكن المأمور به الاضطراري والظاهري وافيا بملاك الواقع وأمكن تداركه فكان مقتضى القضاء أو الإعادة ثابتا فيحكم الشارع بسقوطهما في هذه الحال تحقيقا على العباد ومنة منه عليهم ، كما انه قد يحكم بثبوتهما. فالصحة في هذه الصورة من الأحكام المجعولة وليست من الأوصاف الانتزاعية. لكن هذا بلحاظ طبيعي المأمور به. اما المصداق الخارجي المنطبق عليه المأمور به فالمصلحة فيه انتزاعية لا مجعولة ، إذ هي تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتي به ولم تجعل له الصحة استقلالا ، نظير اتصافه

ص: 171

بالوجوب ، فان الوجوب انما يجعل بإزاء الطبيعي لا بإزاء افراده ، لكن ينتزع عن مطابقة الطبيعي لفرده وصف الوجوب للفرد.

واما الصحة في المعاملات : فهي بمعنى ترتب الأثر على المعاملة ، وهذا امر بيد الشارع فهو الّذي يجعل الأثر على المعاملة سواء كان بنحو التأسيس أو الإمضاء ، لبناء العقلاء على ترتب الأثر. فالصحة فيها مجعولة للشارع لكنها بلحاظ كلي المعاملة لا مصاديقها ، اما في مصاديقها الخارجية فالصحة فيها انتزاعية تنتزع عن مطابقة الفرد للطبيعي المجعول سببا ، كما هو الحال في الأحكام التكليفية كما عرفته. هذا ما أفاده صاحب الكفاية قدس سره في المقام (1).

وقد يرد على ما أفاده في تحقيق صحة العبادة وجوه :

الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه في حاشيته ، وهو إشكال علمي يتعلق بما أفاده صاحب الكفاية من عدم كون الصحة بمعنى سقوط القضاء في صورة الإتيان بالمأمور به الواقعي من الأمور الانتزاعية ، فانه ذكر : ان كونه من الأحكام العقلية لا ينافي كونه من الأمور الانتزاعية ، فان الأمر الانتزاعي هو ما لا واقع له الا منشأ انتزاعه. ومن الواضح ان مسقطية العمل للقضاء كذلك ، فهي امر انتزاعي من ترتب عدم القضاء على العمل. فما ذكره من عدم كونها من الأوصاف الانتزاعية لا وجه له (2).

الثاني : فيما يتعلق بما ذكره من ان الصحة في مورد الإتيان بالمأمور به الظاهري أو الاضطراري من الأحكام المجعولة لكن يتصف بها الطبيعي. اما الفرد فصحته انتزاعية.

ص: 172


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /184- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 308 - الطبعة الأولى.

فان هذا عجيب ، إذ الموضوع بالنسبة إلى الحكم المرتب عليه يختلف عن المتعلق بالنسبة إلى الحكم المتعلق به ، فان الأحكام قد يدعى بان متعلقاتها هي الطبائع لا الافراد لبعض الوجوه ، وحينئذ فيوجد الحكم في عالم الاعتبار وجد الفرد أم لم يوجد ، لكن هذا الكلام لا يأتي بالنسبة إلى موضوعات الأحكام ، فان الحكم مترتب على وجودها الخارجي لا على الطبيعي ، إذ مرجع الموضوع إلى ما أخذ مفروض الوجود في تحقق الحكم ، فقبل وجود العالم لا حكم أصلا بوجوب الإكرام في قول المولى « أكرم العالم ». وقبل السفر لا حكم بوجوب التقصير. وهكذا الحال في المعاملات ، فان الملكية انما تترتب على البيع الخارجي ، لا على طبيعي البيع ، فلا ملكية بدون البيع خارجا. ومن الواضح ان نسبة سقوط القضاء إلى العمل نسبة الحكم إلى موضوعه لا نسبته إلى متعلقه ، فهو لا يترتب إلاّ على الوجود الخارجي للعمل لا طبيعي العمل.

وبالجملة : ما أفاده رحمه اللّه يرجع إلى الخلط بين متعلقات الأحكام وموضوعاتها وتشريكها في الأثر. فالتفت.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه أيضا مما يتعلق بما ذكره قدس سره : من كون الصحة بمعنى سقوط القضاء في المأمور به الاضطراري أو الظاهري من المجعولات في بعض الأوقات. وتقريره : ان التعبير بسقوط القضاء مما لا محصل له بظاهره ، إذ ليس القضاء من العناوين الجعلية كالملكية حتى يكون إسقاطه جعليا ، بل هو فعل تكويني يأتي به المكلف ، فلا معنى لإسقاطه ورفعه ، فالمعقول ليس إلاّ إيجاب القضاء وعدمه ، والمراد بسقوط القضاء عدم إيجاب القضاء بلحاظ مصلحة التسهيل الغالبة على المصلحة المقتضية للوجوب.

ومن الواضح : انه لا يمكن ان يكون المقصود ومحل البحث في الجعل وعدمه هو سقوط القضاء بهذا المعنى - أعني : عدم إيجابه - ، إذ المفروض هو

ص: 173

البحث عن مجعولية الصحة التي يتصف بها الفعل وينتزع له عن تلبسه بها عنوان الصحيح ، وبديهي ان الفعل لا يتصف بوجوب القضاء وعدمه ، فان الوجوب وعدمه مما يتصف بهما القضاء لا العمل الاضطراري أو الظاهري.

ودعوى : ان المراد بالصحّة مسقطية المأتي به وعلّيته لعدم الأمر بالقضاء ، وهي مجعولة بتبع جعل عدم وجوب القضاء.

تندفع : بان العلة في عدم الأمر بالقضاء ليس هو المأتي به ، بل مصلحة التسهيل والتخفيف الغالبة على المصلحة الواقعية المقتضية للحكم كما هو المفروض.

هذا تقرير الإيراد مع حذف بعض الزوائد لعدم دخلها فيه (1).

والمتأمل فيه يرى ان هذا الإيراد يرجع إلى إنكار وجود وصف الصحة القابل لاتصاف الفعل به ، وان ما يتخيل وصفا له هو من أوصاف غيره.

وفيه :

أولا : انه يناقض الوجدان لإطلاق الصحيح أو عدمه على العمل الاضطراري والظاهري من دون أي عناية ، ولذا نرى انه كثيرا ما يسأل عن صحة العمل وفساده. كما انه يناقض ما قرره قدس سره من البحث عن الإجزاء في الأوامر الظاهرية والاضطرارية ، فانه لا معنى للإجزاء الا الكفاية ، ومرجعه إلى صحة العمل. ولم يناقش هناك بأنه لا معنى لدعوى كفاية المأتي به عن القضاء ، لأن العلة في عدم وجوبه شيء آخر غير العمل ، بل أجرى البحث على طبيعته التي جرى عليها الآخرون.

وثانيا : - وهو عمدة الجواب - ان الحكم يرتبط بأمرين ، يرتبط بموضوعه - ونعني بالموضوع : ما يعم الموضوع اصطلاحا والسبب والشرط ، وهو

ص: 174


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 308 - الطبعة الأولى.

كل ما رتب الشارع ثبوت الحكم على ثبوته وتحققه - ويرتبطه بعلة جعله وداعي تشريعه. ومن الواضح ان نفي وجوب القضاء وان كانت علته الغائية والداعي له هو مصلحة التسهيل الغالبة على المصلحة الأولية ، لكن موضوعه من جاء بالعمل الاضطراري أو الظاهري دون غيره.

فنفي الأمر بالقضاء يترتب على المأتي به ترتب الحكم على موضوعه ، فهو يرتبط بالمأتي به بهذا الارتباط ، وهو يكفي في وصف المأتي به بالصحّة وكونه مسقطا للأمر بالقضاء ، وان كانت العلة الغائية لعدم الأمر به شيئا آخر.

فاتصاف المأتي به بالصحّة باعتبار ترتب الأثر المجعول عليه ، نظير اتصاف الاضطرار برافعيته للحكم ، فان الاضطرار ليس هو الموجب للارتفاع حقيقة ، بل هو موضوع ارتفاع الحكم.

وبالجملة : يصح لنا وصف العمل بالصحّة بلحاظ ترتب الأثر عليه ، ومفهومها في المقام وان كان من الأمور الانتزاعية وهو مسقطية العمل للقضاء ، فانه ينتزع عن ترتب نفي القضاء على العمل ، لكن واقعها وهو الترتب المزبور أمر جعلي للمولى وهذا هو المطلوب ، فان المقصود من كون الصحة مجعولة وعدمها ليس مفهوم الصحة ، بل واقعها فانه مورد الأثر العملي في مقام إجراء الأصول لا المفهوم. ولا يقصد من التعبير عن الصحة بالمسقطية سوى واقعها ، نظير التعبير برافعية الاضطرار للحكم ومرفوعية الحكم بالاضطرار ، فانّه يقصد به واقع هذا التعبير ، وهو عدم ثبوت الحكم في مورد الاضطرار ، فلو عبر عن موضوع التعبد بالرافعية والمرفوعية ، لا يقصد التعبد بهذا العنوان ، بل التعبد بواقعه الّذي بلحاظه انتزع هذان العنوانان ، وهو عدم جعل الحكم.

ثم انه قدس سره أورد على صاحب الكفاية فيما ذهب إليه من كون الصحة في المعاملات مجعولة ، لأنها بمعنى ترتب الأثر وهو مجعول للشارع ، بما محصله : ان المجعول في باب المعاملات نفس الأثر وهو الملكية في البيع ونحو

ص: 175

ذلك ، اما ترتب الأثر فهو عقلي ليس مجعولا للشارع. ونفس الأثر لا يصحح الاتصاف بالصحّة ، إذ ليست الصحة نفس الأثر ، بل ترتبه كما هو المفروض.

اذن فالصحة في المعاملات كالصحة في العبادات ليست من الأمور المجعولة للشارع في رأي المحقق الأصفهاني (1) قدس سره .

لكن هذا الإيراد غير سليم عن المناقشة ، فان ترتب الأثر في المعاملات ليس عقليا ، بل يكون شرعيا ، لأن المقصود بالترتب لا يعدو أحد امرين : اما منشئية العقد لثبوت اثره المجعول شرعا. واما ثبوت الأثر بعد تحقق العقد. وكل من هذين الأمرين ليس عقليا ، فان منشئية العقد لثبوت الأثر جعلية ، ولذا تدور في السعة والضيق والثبوت والعدم مدار الجعل والاعتبار.

وهكذا ثبوت الأثر بعد تحقق العقد ، فانه أمر يرتبط بالجاعل لا بالعقل ، ولذا قد يثبت وقد لا يثبت باعتبار الجعل وعدمه.

وبالجملة : فربط الأثر بالعقد امر بيد الجاعل ، ولذا يتصرف به كيف ما يشاء. والمراد من منشئية العقد للأثر ليس مفهوم المنشئية بل واقعها ، فان مفهومها وان كان امرا انتزاعيا لكن واقعها امر جعلي ، نظير موضوعية الموضوع فان واقعها ليس إلاّ جعل الحكم عند تحققه ، وان كانت هي انتزاعية ، ولأجل ذلك يقال : ان إجراء الأصل في موضوعية الموضوع مرجعه إلى إجرائه في الحكم.

وبالجملة : فواقع الصحة في هذه الموارد مجعول شرعي وهو ثبوت الأثر عند ثبوت العقد ، وينتزع عنه منشئية العقد له وسببيته كما ينتزع التمليك بلحاظ الملكية بالنسبة إلى الجاعل. وكانتزاع الإيجاد بلحاظ الفعل بالنسبة إلى الموجد.

وقد عرفت ان الغرض يتعلق بما هو واقع الصحة لا مفهومها ، فان الّذي يقصد كونه مجرى الأصل هو الواقع لا المفهوم.

ص: 176


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 309 - الطبعة الأولى.

ويتحصل مما ذكرنا ان ما جاء به المحقق الأصفهاني لا نعرف له وجها وجيها.

ثم انك عرفت ان الصحة تثبت للشيء بلحاظ ترتب الأثر المرغوب عليه ، كما ان الفساد يثبت له بلحاظ عدم ترتبه.

وهذا المعنى ينتقض بكثير من الموارد التي لا يتصف الشيء بالصحّة والفساد بلحاظ ترتب اثره وعدمه كالخمر الحرام وغير الحرام ، فان الأول لا يتصف بالصحّة كما ان الثاني لا يتصف بالفساد. وكالسفر الموجب للقصر وغير الموجب له ، فان الأول لا يتصف بالصحّة والثاني لا يتصف بالفساد. وهكذا الحال في كثير من موضوعات الأحكام.

ويندفع هذا النقض : بان الاتصاف بالصحّة والفساد ليس منشؤه ترتب الأثر وعدمه مطلقا ، بل منشؤه ترتب الأثر المترقب عادة من العمل ، بحيث يكون المنظور في إتيان العمل عادة ترتب هذا الأثر ، فترتبه يوجب الاتصاف بالصحّة وعدم ترتبه يوجب الاتصاف بالفساد ، ومن الواضح انه لا يلحظ في إيجاد الخمر عادة ترتب الحرمة عليه ، بل الملحوظ هو الإسكار ، فلو ثبت إسكاره كان خمرا صحيحا ومع عدم كونه مسكرا كان خمرا فاسدا. والبيع انما يتصف بالصحّة لو ترتبت عليه الملكية لأنه الأثر المترقب منه عند إيجاده. وهكذا.

وبعد هذا نعود على ما كنا عليه من معرفة ان الصحة مجعولة أو لا؟. وقد عرفت عدم تمامية ما أورده المحقق الأصفهاني على صاحب الكفاية. فيتعين الالتزام به لأنه مما يتلاءم مع الوجدان والبرهان كما عرفت.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى التفصيل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية ، فالتزم بالمجعولية في الثانية دون الأولى ، فانه بعد ان تعرض مفصلا إلى تحقيق مفهوم الصحة وان الملاك فيه هو انطباق المأمور به على المأتي به في العبادات وانطباق ما اعتبره الشارع سببا للأثر على المعاملة الخارجية

ص: 177

في المعاملات ، وانه بذلك يتضح ان تفسير الصحة بموافقة الشريعة كما عن المتكلمين أو بإسقاط القضاء والإعادة كما عن الفقهاء لا يرجع إلى المغايرة في معناها بين الطرفين ، بل ذلك تفسير بالمهم من لوازمها وآثارها والمعنى لدى الطرفين واحد ، - بعد ان ذكر ذلك بتفصيل - تعرض إلى تحقيق كون الصحة من المجعولات الشرعية وعدمه ، فذهب إلى التفصيل المزبور وتقرير وجهه بتلخيص : اما عدم كون الصحة الواقعية من المجعولات - ويقصد بها الصحة في العمل الواقعي - ، فلان الصحة عبارة عن انطباق المأمور به على الموجود الخارجي في العبادات ، وانطباق سبب العقد على الموجود الخارجي في المعاملات ، والفساد فيهما عبارة عن عدم الانطباق ، ومن الواضح ان الانطباق في الأوامر الواقعية ليس مرتبطا بالجعل ، بل هو خارج عن دائرة الجعل ، ومثله الحال في الصحة في موارد الأوامر الواقعية الثانوية لما ذكره قدس سره في مبحث الاجزاء من ان المأمور به الاضطراري لا بد وان يكون مجزيا عن الواقع الأولي لاستحالة الأمر بغير المقيد مع بقاء القيدية ، فمع تعلق الأمر به نستكشف سقوط القيدية في مورد الاضطرار ، فيكون الأمر واقعا متعلقا بغير المقيد وانطباقه على الخارج عقلي.

واما كون الصحة الظاهرية مجعولة - ويعني بها الصحة في العمل الظاهري - ، فوجهه : ان قيام الأمارة أو الأصل على الاكتفاء بالعمل حتى مع انكشاف الخلاف مرجعه إلى التعبد بانطباق المأمور به الواقعي على المأتي به فيكون الانطباق هاهنا مجعولا. لكن الصحة في الفرض لا تكون من الأحكام الظاهرية الصرفة ، بل تكون برزخا بينها وبين الأحكام الواقعية الثانوية ، إذ من جهة أخذ الشك في موضوعها تكون حكما ظاهريا ، ومن جهة كونها موجبة لسقوط التكليف الواقعي عنه حتى بعد انكشاف الخلاف تكون شبيهة بالاحكام الواقعية الثانوية ، فبذلك تكون وسطا بين المرتبتين.

ص: 178

هذا ملخص ما أفاده قدس سره (1). وفيه ما لا يخفى من جهات :

الأولى : ما ذكره قدس سره من ان الملاك في اتصاف العمل بالصحّة هو انطباق العمل المشروع - عبادة كان أو معاملة - على الموجود الخارجي عدولا عما عليه القوم ، وما ذكره هو أولا من ان ملاك الاتصاف بالصحّة ترتب الأثر على العمل ، والإشكال فيه من وجهين :

الأول : انه ذكره بنحو الدعوى من دون ان يقيم عليه أي دليل ويستند فيه إلى وجه وهو مما لا يتلاءم مع البحث العلمي.

الثاني : انه غير صحيح في نفسه ، لبداهة اتصاف العمل بالصحّة من دون ثبوت الانطباق المزبور كالصلاة الجهرية المأتي بها إخفاتا وبالعكس ، إذا كان ذلك عن جهل تقصيري ، فانه يلتزم بصحة العمل ويعبر عنه بالصحيح في النص والفتوى مع انه لا ينطبق عليه المأمور به ، ولذا يعاقب على تركه وتفويته. اذن فالأوجه الالتزام بان ملاك الصحة هو ترتب الأثر وفاقا لما عليه القوم.

الثانية : ما ذكره من ظهور وحدة المعنى للصحة لدى الفقهاء والمتكلمين ، وكون الاختلاف بينهما بلحاظ الاختلاف فيما هو المهم من الأثر من تعيّن كون الملاك في الاتصاف بالصحّة هو الانطباق. وقد أخذ هذا البيان من كلام الكفاية حيث فسر الصحة بالتمامية ، واستظهر ان المقصود للفقهاء والمتكلمين ذلك ، والتعبير بغيره في تعاريفهم تعبير عن لازم المعنى لا أصله (2).

وجهة الإشكال فيه : ان نحو ما أفاده يختلف عن نحو ما أفاده صاحب الكفاية ، فان صاحب الكفاية فسر الصحة بالتمامية ، وبما انه معنى جامع لكلا التفسيرين الواردين في كلام الفقهاء والمتكلمين ادعى ان اختلاف تفسيرهم

ص: 179


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 391 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /182- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يرجع إلى الاختلاف في الأثر المرغوب لا في أصل المعنى ، فانه محفوظ في كلا التفسيرين ، فمراد الفقيه التمامية من حيث سقوط القضاء والإعادة ، ومراد المتكلم التمامية من حيث موافقة الشريعة. فكان لما ادعاه وجه.

واما المحقق النائيني فلم يذهب إلى ان معنى الصحة هو الانطباق حتى يدعى انه معنى جامع لكلا التفسيرين ، بل ذهب إلى ان ملاك الاتصاف بالصحّة هو ذلك ، وهذا لا يستلزم وحدة المعنى لدى الطرفين مع اختلاف تفسيرهم ، فترتب ظهور وحدة المعنى لديهما على ملاكية الانطباق للصحة امر لا وجه له بأيدينا فالتفت.

الثالثة : ما ذكره من كون الصحة في موارد الأوامر الاضطرارية غير مجعولة خلافا لصاحب الكفاية وتوجيهه بما عرفت بيانه ، والإشكال فيه يظهر مما تقدم في مبحث الاجزاء من عدم تسليم ما أفاده في وجه لا بدية الاجزاء في الأوامر الاضطرارية ، فراجع تعرف.

وعليه ، فللشارع الحكم بالاجزاء في بعض الموارد غير المقتضية له ، فتكون الصحة مجعولة كما ذهب إليه صاحب الكفاية.

الرابعة : ما ذكره في وجه مجعولية الصحة في الأوامر الظاهرية ، من ان قيام الأمارة أو الأصل على الاكتفاء بالعمل يرجع إلى تعبده بانطباق الواقع على المأتي به.

وجهة الإشكال فيه هي : ان التعبد لا يصح إلا بما كان مجعولا شرعيا - تكليفيا أو وضعيا - أو موضوعا لأثر شرعي ، وليس انطباق الواقع على المأتي به من المجعولات الشرعية بكلا النحوين كما هو واضح. كيف؟ ويراد تصحيح جعله بالتعبد الّذي هو محل البحث - كما انه ليس من موضوعات الأحكام الشرعية ، إذ لا يترتب على الانطباق أي أثر شرعي.

مع ان التعبد بالموضوع للأثر الشرعي مرجعه إلى التعبد بنفس الأثر ،

ص: 180

فلا يستلزم مجعولية الموضوع وكونه من المجعولات الشرعية كما لا يخفى. اذن فالتعبد بالانطباق لا محصل له.

وورود التعبد بالإتيان ببعض الاجزاء كقوله علیه السلام : « بلى قد ركع » لا يرجع إلى التعبد بالانطباق ، بل إلى التعبد بتحقق المأمور به والإتيان به بلحاظ نفى الأمر ورفعه ، يعني ان واقعه التعبد برفع الأمر.

الخامسة : ما ذكره من ان الصحة الظاهرية وسط بين الحكم الظاهري والواقعي الثانوي.

إذ يرد عليه : بان المقصود بما هو وسط ان كان هو الصحة المجعولة - كما هو ظاهر العبارة - فهو حكم واقعي موضوعه الإتيان بالعمل الظاهري وليس حكما ظاهريا ، كيف؟ وهو ثابت حتى بعد انكشاف الخلاف كما هو الفرض. وان كان هو الحكم الظاهري الثابت للعمل فهو حكم ظاهري موضوعه الشك ويزول بعد انكشاف الخلاف بلا إشكال ، والاكتفاء بما جاء به عن الواقع انما هو لأجل دليل آخر قام عليه لا من جهة كونه مأمورا به بالأمر الظاهري.

وخلاصة ما ذكرنا : ان ما أفاده المحقق النائيني في المقام مما لا نراه متناسبا مقامه العلمي الرفيع. وثبت مما ذكرنا ان ما أفاده صاحب الكفاية متين جدا لا يرى فيه شائبة للإشكال.

الأمر السابع : في تحرير الأصل عند الشك. ولا يخفى ان محل البحث هو معرفة الأصل ، في اقتضاء النهي فساد العمل ، فتعلق النهي بالعمل مفروغ عنه ، فلا يتجه إيقاع البحث في صورة الشك في الفساد من جهة كون الشبهة موضوعية أو حكمية ، كما جاء في أجود التقريرات (1). ويظهر من حاشية المحقق الأصفهاني ان هذا التفصيل ونحوه جاء في عبارة الكفاية ، فانه قال - بعد ما ذكر

ص: 181


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 394 - الطبعة الأولى.

ما عرفت - : « ولذا ضرب خط المحو على ما في بعض نسخ الكتاب » (1) والموجود بين أيادينا من الكفاية لا تفصيل فيه وانما هو مختصر جدا. وعلى كل فتحقيق الحال في معرفة وجود الأصل وعدمه ان نقول : ان المقصود بالصحّة والفساد في العبادة أحد معان ثلاثة :

الأول : الصحة والفساد من جهة موافقة الأمر وعدمها ، ومن الواضح انه لا شك في الفساد من هذه الحيثية ، إذ مع تعلق النهي بها لا يتعلق بها الأمر ، فلا تقع العبادة موافقة للأمر في وجه من الوجوه لعدم الأمر ، فلا معنى للبحث عن الأصل لعدم الشك.

الثاني : الصحة والفساد من جهة وفاء العمل بالملاك وعدمه ، وهذا المعنى وان كان موردا للشك ، إذ مع تعلق النهي بالعمل قد يلتزم ببقاء ملاك الأمر على ما كان عليه وانما غلب عليه الملاك الراجح وكان مانعا من تأثيره لا غير ، كما هو ظاهر صاحب الكفاية في مبحث اجتماع الأمر والنهي (2) ، وقد يلتزم بانتفائه لأن ملاك الأمر هو المصلحة الراجحة ، ومع تعلق النهي لا تكون هناك مصلحة راجحة لحصول الكسر والانكسار ، وإلاّ لامتنع تعلق النهي فيكون ملاك النهي موجبا لرفع ملاكية ملاك الأمر لا مانعا عن تأثيرها.

وبما ان هذا الأمر مورد البحث ، فقد يصير موردا للشك ، فيكون محلا لتأسيس الأصل ، لكن ليس لدينا أصل يعين أحد الطرفين كما لا يخفى.

الثالث : الصحة والفساد من جهة مقربية العمل وعدمه ، وهذا المعنى قد يصير مورد الشك أيضا فيشك في ان المبغوضية الفعلية هل تتنافى مع التقرب المعتبر في العبادة أو لا؟ ولكن لا أصل لدينا يعين أحد الطرفين كما لا يخفى.

ص: 182


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 310 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /157- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

نعم الأصل في المسألة الفرعية يقتضي الفساد ، إذ يشك ان العمل المأتي به مقرب أو لا؟ فيشك في فراغ ذمته بإتيانه بالعمل المنهي عنه ، فقاعدة الاشتغال محكمة.

وهذا جميعه بالنظر إلى كون المسألة عقلية يقع البحث فيها في الملازمة العقلية بين النهي والفساد.

اما لو كانت المسألة لفظية : بان كان النزاع في ان النهي ظاهر في الإرشاد إلى مانعية المنهي عنه أو هو ظاهر في الحرمة التكليفية لا غير؟ فمع الشك في ذلك لا أصل في المسألة الأصولية يعين أحد الطرفين وهو واضح.

واما في المسألة الفرعية : فالشك فيها يرجع إلى الشك في مانعية المنهي عنه ، فيكون المورد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر والأصل هو البراءة.

ولا يتجه التمسك بإطلاق دليل المأمور به لعدم الأمر في مورد النهي ، إذ البحث في ان النهي المتعلق بالعبادة الخاصة هل يدل على مانعية تلك الخصوصية أو لا يدل؟ وانما يدل على حرمة العمل المختص بالخصوصية بعد الفراغ عن عدم منافاة الحرمة التكليفية للتقرب بالعمل ، فالعمل منهي عنه فلا يمكن ان يكون متعلقا للأمر فيكون خارجا عن الإطلاق لا محالة ، فهو خارج عن دائرة الإطلاق ، ومن هنا يعلم ان قياسه بمورد عدم النهي لا وجه له ، فما أفاده المحقق الأصفهاني من التمسك بالإطلاق غير خال من الإشكال.

هذا فيما يتعلق بالأصل في مورد النهي عن العبادة وما ذكرناه من التفصيل مأخوذ عما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بأدنى اختلاف. فلاحظه (1).

واما مورد النهي عن المعاملة فمع الشك في اقتضائه الفساد لا أصل في

ص: 183


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 310 - الطبعة الأولى.

المسألة الأصولية يعين أحد الطرفين.

واما في الأصل فيما يقع من العقود خارجا ، فان كان هناك إطلاق أو عموم يتمسك به في تصحيح المعاملة لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) لو تم كان هو المتعيّن ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وبدونه فالأصل العملي يقتضي الفساد لاستصحاب عدم ترتب الأثر على المعاملة كالملكية في البيع والزوجية في النكاح ونحو ذلك.

فما ذكره صاحب الكفاية من عدم الأصل في المسألة الأصولية في كلا الموردين وجيه كما ان ما ذكره من كون الأصل في المسألة الفرعية يقتضي الفساد في كلا الموردين وجيه أيضا. إلاّ إذا كان البحث في العبادة عن دلالة النهي على المانعية فقد عرفت ان الأصل يقتضي الصحة.

كما ظهر ان الشبهة في العبادة ليست شبهة موضوعية ، بعد فرض تعلق النهي بها وكون الشك في منافاته للمقربية ، أو كون المقصود منه الإرشاد إلى المانعية. فلاحظ جيدا.

الأمر الثامن : في صور النهي في العبادة.

وقد ذكر صاحب الكفاية قدس سره ان النهي تارة : يكون متعلقا بنفس العبادة. وأخرى : بجزئها. وثالثة : بشرطها. ورابعة : بوصفها الملازم لها كالجهر والإخفات في القراءة. وخامسة : بوصفها المفارق كالغصبية للصلاة المنفكة عنها.

اما القسم الأول : فلا ريب في دخوله في محل النزاع. ومثله القسم الثاني ، لأن جزء العبادة عبادة ، لكن فساده لا يستلزم فساد العمل لو أتى بغيره مما لم يتعلق به النهي ولم يقتصر عليه. نعم قد يستلزم الجمع بين فردي الجزء محذورا

ص: 184


1- سورة المائدة الآية : 1.

آخر يبطل العمل كتكرار السورة المستلزم لتحقق القرآن المبطل على القول به.

واما القسم الثالث : فحرمة الشرط لا تستلزم فساد المشروط العبادي ، لعدم كون الشرط عبادة ، فلا يفسد بالتحريم. نعم لو فرض كون الشرط عبادة كالطهارة للصلاة كان حرمته موجبة لفساده الموجب لفساد المشروط به.

واما القسم الرابع : فالنهي عن الوصف الملازم مساوق للنهي عن موصوفه ، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مساوقا للنهي عنها لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا كما لا يخفى.

واما القسم الخامس : فالنهي عن الوصف لا يسري إلى الموصوف إلاّ إذا كانا متحدين وجودا بناء على امتناع اجتماع الحكمين. واما بناء على الجواز فلا يسري الحكم من أحدها إلى الآخر جزما.

هذا كله بالنسبة إلى النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف. واما النهي عن العبادة لأجل هذه الأمور فحاله حال النهي عن أحدها إذا كان تعلق النهي بالعبادة بالعرض ، وان كان النهي عنها حقيقة وكان النهي عن أحدها واسطة في الثبوت لا العروض كان حاله حال النهي في القسم الأول.

هذا ما أفاده في الكفاية (1).

ويقع البحث معه في جهات من كلامه :

الجهة الأولى : في أصل التقسيم إلى هذه الأقسام ، فانه مما لا وجه له ، إذ البحث في دلالة النهي عن العبادة على الفساد ، ومن الواضح انه لا فرق بين عبادة وعبادة سواء كانت كلا أو جزءا أو شرطا أو وصفا ، فان الحكم فيها واحد والبحث عن الجميع واحد.

وان كان المقصود من هذا التقسيم البحث عن فساد الكل بفساد الجزء ،

ص: 185


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /185- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وفساد المشروط بفساد الشرط ، فهذا لا ربط له بالبحث عن اقتضاء النهي عن العبادة للفساد ، بل هو بحث يحرّر في الفقه في مباحث الخلل. وان كان النّظر إلى البحث عن المركب المنهي عنه لجزئه أو شرطه بمعنى المركب الّذي تسري حرمته من حرمة الجزء أو الوصف ، فهو أجنبي عما نحن فيه لأنه ان كانت الحرمة الثابتة للمركب حرمة عرضية ، بمعنى انها تنسب إليه بالعرض والمجاز ، فهو واضح ، لعدم تعلق الحرمة بالمركب واقعا حتى يبحث عن اقتضائها الفساد. وان كانت ثابتة له حقيقة بان كانت حرمة الجزء واسطة في ثبوت الحرمة للمركب تكون العبادة من مصاديق المحرّم ، ولا دخل في البحث عن فسادها لسبب حرمتها ، فلا يتجه هذا التقسيم لأجل بيان حرمة العبادة بحرمة جزئها ، فانه لا أثر له فيما هو موضوع الكلام من اقتضاء النهي الفساد.

وجملة القول : لم يعلم دخالة هذا التقسيم والتشقيق في محل الكلام.

نعم ، يمكن ان يجعل في الحقيقة بحثا عما هو من المبادئ ، بان يكون البحث في سراية الحرمة حقيقة من الجزء إلى المركب ومن الشرط إلى المشروط ومن الوصف إلى الموصوف ، فيكون البحث عن صغرى من صغريات المسألة.

وهذا الإيراد ذكره المحقق الأصفهاني (1).

الجهة الثانية : فيما ذكره من ان جزء العبادة عبادة ، فانه على إطلاقه ممنوع ، إذ لا ملازمة بين جزئية شيء للعبادة وكونه عبادة ، فيمكن ان يتعلق الأمر العبادي بالعمل المركب بنحو الاستغراق لأجزائه من دون ان يكون جميع اجزائه عبادة بل يكون بعضها غير عبادي ، ويشهد له ان تقيد الصلاة بالشرط جزء من اجزاء العمل مع انه لا يعتبر فيه ان يقع بنحو عبادي. نعم مثل الركوع والسجود دل الدليل على كونه عباديا فلا كلام فيه.

ص: 186


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 310 - الطبعة الأولى.

وبوجه برهاني نقول : ان المقصود بالعبادة اما ما يكون حسنا في ذاته أو ما لو امر به لكان امره عباديا ، ومن الواضح انه لا يلزم ان يكون كل جزء معنونا بعنوان حسن بذاته ، بل يكفي المركب كذلك.

الجهة الثالثة : فيما ذكره من ان بطلان الجزء لا يستلزم بطلان المركب إذا لم يقتصر عليه إلاّ إذا كان التكرار مستلزما لوجود محذور آخر كالقرآن - بناء على مانعيته - في تكرار السورة ، كما لو أتى بسورة العزيمة وغيرها.

فان المحقق النائيني قدس سره ذهب إلى دلالة النهي عن الجزء على فساد العبادة ببيان محصله : ان الجزء المنهي عنه اما ان يؤخذ فيه العدد الخاصّ كالسورة المأخوذة بقيد الوحدة بناء على حرمة القرآن ومانعيته. واما ان لا يؤخذ فيه عدد خاص.

فعلى الأول : إذا تعلق النهي بأحد افراد الجزء كالنهي المتعلق بقراءة سورة العزيمة ، فالقارئ لسورة العزيمة اما ان لا يقرأ غيرها أو يقرأ ، فان لم يقرأ غيرها كانت العبادة باطلة لعدم الإتيان بجزئها ، لأن النهي عن الجزء يلازم خروجه عن دليل الجزئية. وان قرأ غيرها تبطل العبادة من جهة القرآن.

وعلى الثاني : بان التزمنا بجواز القرآن والتعدد ، كانت العبادة باطلة بالتعدد لوجهين :

الأول : ان دليل تحريم الجزء يخصص دليل جواز القرآن بغير صورة الإتيان بالمحرّم ، فلا يكون القرآن في هذه الصورة جائزا.

الثاني : ان تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالقياس إليه بشرط لا ويترتب عليه ثلاثة أمور توجب البطلان :

الأول : كونه مانعا ، إذ لا يراد بالمانع سوى ما أخذ عدمه في الصلاة ، فمع وجوده تبطل الصلاة.

الثاني : كونه زيادة في الفريضة وهي مبطلة ، إذ لا يعتبر في الزيادة المبطلة

ص: 187

قصد الجزئية إذا كان الزائد من جنس العمل.

الثالث : خروجه عن أدلة جواز مطلق الذّكر لاختصاصها بغير المحرّم باعتبار ورود جوازه بعنوان انه حسن والمحرم غير حسن ، فيدخل في عمومات مبطلية الكلام ، إذ الخارج منها ما كان ذكرا غير محرم.

هذا ما ذكره المحقق النائيني (1). وهو يختلف مع صاحب الكفاية فيما لم يكن القرآن مانعا في نفسه ، فانه يذهب لمانعيته من جهة تحريم الجزء بالوجهين المزبورين.

إلاّ ان الوجه الأول لا ينهض لإثبات مدعاه لأن مقصوده من جواز القرآن الّذي يخرج مورد الجزء المحرم عنه اما ان يكون الجواز الوضعي أو التكليفي. فان كان مقصوده الجواز الوضعي بمعنى عدم مبطلية القرآن ، فاستلزام تحريم الجزء خروج صورة إتيانه عن دليله أول الكلام فانه هو محط البحث ، فالوجه الأول على هذا يكون عين الدعوى لا دليلا عليها. وان كان مقصوده الجواز التكليفي فتحريم الجزء وان استلزم تحريم القرآن لكن لا ملازمة بين حرمة القرآن تكليفا وبين مانعيته ، والمقصود إثبات مانعيته لا حرمته. وكان عليه ان يبين ثبوت الملازمة بين الحرمة والمانعية ووجهها ، لا مجرد ثبوت حرمة القرآن فانه لا يصلح وجها لإثبات مانعية القرآن.

واما الوجه الثاني : فقد أورد عليه نقضا وحلا.

اما النقض : فبمثل النّظر إلى الأجنبية المحرم في الصلاة ، فانه لم يقل أحد بمبطليته للصلاة.

واما الحل : فبان جزئية السورة لو أخذت بشرط لا بالنسبة إلى الجزء المحرم لتم ما ذكر ، لكنه لم يثبت ذلك ، بل مقتضي إطلاق دليلها أخذها لا بشرط ،

ص: 188


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 397 - الطبعة الأولى.

وعليه فلا منافاة للجزء المحرم لصحة الصلاة.

وهذا بعينه يجري في مثل النّظر إلى الأجنبية ، فان الصلاة مأخوذة بالنسبة إليها لا بشرط بمقتضى إطلاق دليلها.

كما أورد عليه بما لا يرجع إلى بطلان الدعوى : من ان بيان بطلان العمل بمثل زيادة الجزء أو مبطلية الكلام مما يختص بخصوص الصلاة لا يتناسب مع البحث الأصولي المقصود به إثبات قواعد عامة تجري في مطلق أبواب الفقه ، فتدبر (1).

والّذي يقتضيه التحقيق هو : تمامية ما أفاده المحقق النائيني في الوجه الثاني من ان تحريم الجزء يلازم مانعيته وأخذه بشرط لا.

وبيان ذلك : انه قد تقدم ان أسماء العبادات موضوعة للأعم من الصحيح والفاسد ، وقد فرض في الموضوع له معنى ينطبق على الزائد والناقص والقليل والكثير ، فكل ما يحصل من الاجزاء يكون دخيلا في فرد العمل ومقوما له ويكون العمل صادقا على المجموع ، فهو كما يصدق على ذي التسعة اجزاء يصدق على ذي العشرة بحيث يكون الجزء العاشر دخيلا فيما يصدق عليه العمل لا خارجا عنه ، إذ لم تلحظ في مقام الصدق كمية معينة من الاجزاء.

وعليه ، فالعمل المأتي به مع الجزء المحرم ينطبق عليه عنوان العمل كالصلاة مثلا ، ويكون الجزء المحرم مقوما للفرد. ومن الواضح ان إطلاق العنوان المأخوذ في متعلق الأمر لا يمكن شموله لهذا الفرد المشتمل على الجزء المحرم ، إذ يمتنع تعلق الأمر بالفرد ذي الجزء المحرم. فالفرد المشتمل على الجزء المحرم خارج عن دائرة المأمور به ولا يتعلق به الأمر ، فالإتيان بالجزء المحرم يلازم ارتفاع الأمر عن المأتي به ، وهذا هو المقصود بالمانعية وأخذه بشرط لا.

ص: 189


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 398 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

ومن هذا البيان يظهر انه لا وجه للنقض بمثل النّظر إلى الأجنبية مما لا يكون مقوما للفرد وجزء له عند تحققه ، فان العنوان انما ينطبق على ذات الاجزاء والنّظر خارج عنها فيمكن ان يقال : ان مقتضي إطلاق الدليل أخذ العمل لا بشرط من جهته فلا يكون مانعا. فتدبر والتفت.

الجهة الرابعة : فيما ذكره في شأن الوصف الملازم. والبحث معه من هذه الجهة في نقاط ثلاثة :

الأولى : في تفكيكه بين الوصف الملازم والمفارق في الذّكر ، فانه لا وجه له بعد ان كان الملاك في سراية الحرمة من الوصف إلى الموصوف وحدة وجودهما الموجب لوحدة الحكم ، وهذا لا يختلف فيه الحال بين المفارق والملازم من الأوصاف ، فكان عليه ان يذكرهما بعنوان واحد جامع بينهما.

الثانية : في المثال الّذي ساقه ، وهو مثال الجهر في القراءة ، فهل هو من موارد الاتحاد في الوجود أو ان وجود الجهر غير وجود القراءة؟.

والّذي نراه ان وجود الجهر ووجود القراءة واحد لا متعدد ، فان الجهر وان كان عرضا لكنه في واقعه كيفية من كيفيات وجود القراءة ، فهو عبارة عن القراءة العالية ولا وجود له غير وجود القراءة ، فمرجع الجهر والإخفات إلى الشدة والضعف في القراءة نظير الشدة والضعف في النور وفي الألوان ، فان شدة النور ليست وجودا غير وجود النور بل عبارة عن مرتبة من مراتب وجود النور.

وعلى هذا فلا يحتاج إلى التطويل الدّقيق الّذي جاء في حاشية المحقق الأصفهاني لبيان وحدة وجودهما ، فانه لا جدوى فيه (1).

الثالثة : في استدلاله على سراية النهي من الوصف إلى الموصوف فانه قال : « لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيا

ص: 190


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 311 - الطبعة الأولى.

عنه فعلا كما لا يخفى ». فان هذا الاستدلال لا يفي بالمدعى ، إذ غايته إثبات ارتفاع الأمر عن القراءة لملازمتها للمحرم ، ولا يمكن اختلاف المتلازمين في الحكم ، ولا يقتضي ثبوت الحرمة للقراءة الّذي هو المدعي ، وإلاّ للزم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر لتأتي الدليل المزبور ، وهو لا يلتزم به كما لا يلتزم به غيره.

وبعد هذا يقع الكلام في محل البحث وهو في مقامين :

المقام الأول : في النهي عن العبادة. ولا إشكال في اقتضائه الفساد. لعدم صلاحية العمل به للتقرب ، فانه ان اعتبر في تحقق العبادة قصد امتثال الأمر فلا امر هنا لامتناع اجتماع الحكمين. وان لم يعتبر ذلك واكتفي بمجرد المحبوبية ، فالمفروض ان العمل متعلق للمبغوضية فلا يمكن التقرب به ، بل هو مبعد والتقرب بما هو مبعد محال ، وهذا مما لا إشكال فيه ولا خلاف.

انما الكلام في إمكان تعلق الحرمة الذاتيّة بالعبادة.

وقد تعرض في الكفاية إلى بيان وجه امتناعه ، وهو : ان متعلق الحرمة اما ان يكون ذات العبادة من دون قصد القربة أو يكون الذات مع قصد التقرب. والأول غير ثابت ولا يلتزم به إذ المحرم ليس اجزاء العمل بحيث لو أتى بها من دون قصد التقرب كان عاصيا. والثاني غير مقدور عليه إلاّ بالتشريع ، ومعه يكون العمل محرما بالحرمة التشريعية ، فلا يصح تعلق الحرمة الذاتيّة به لامتناع اجتماع الحكمين المتماثلين فانه كاجتماع الضدين.

وقد أجاب عنه في الكفاية بوجوه :

الأول : انه أخص من المدعي ، إذ هو لا يتم بالنسبة إلى العيادة الذاتيّة كالسجود لله فانه لا تتقوم عباديتها بقصد التقرب حتى يستلزم التشريع ، بل مجرد الإضافة يكفي في تحقيق العبادية ، وعليه فلا يمتنع تعلق الحرمة الذاتيّة بها في هذا الحال.

ص: 191

واما غيرها من العبادات ، فقد ذكر ان المراد بالعبادة التي هي متعلق النهي ما لو امر به لكان امر عباديا لا يسقط إلاّ بقصد القربة. وهذا لا يمنع من تعلق الحرمة الذاتيّة به. ومرجع كلامه إلى الالتزام بتعلق النهي بذات العمل (1).

ولذلك أورد عليه المحقق الأصفهاني بوجهين :

أحدهما : ان الالتزام بحرمة ذات العمل ولو لم يأت بها بقصد التقرب في غاية الإشكال.

ثانيهما : ان مثل هذا العمل فاسد ولو لم يتعلق به نهي لعدم اشتماله على ما يصلح للمقربية والعبادية (2).

وبملاحظة هذين الإيرادين يمكن ان نحرر الإشكال في تعلق الحرمة الذاتيّة بالعبادية بطور آخر ، وهو ان نقول : ان الحرمة الذاتيّة ان فرض تعلقها بذات العمل من دون قصد القربة ، فهو مما لم يلتزم به أحد ، مع ان فساد العمل في مثل هذا الحال لا يختص بصورة النهي. وان فرض تعلقها بالعمل المأتي به بقصد القربة لزم اجتماع المثلين لأن العمل بقصد القربة حرام تشريعيا.

والجواب عن الإشكال : انه يمكننا اختيار كلا الشقين.

فنختار الشق الأول : وهو تعلق النهي بذات العمل. والإيراد عليه بان فساد العمل لا يختص بحال النهي غير سديد ، إذ يمكن ان يكون في نفس العمل جهة راجحة لو لا النهي ، فيكون النهي مانعا عن صلاحية العمل للتقرب به لمبغوضيته بخلاف ما لو لم يكن نهي فان العمل صالح للمقربية بتلك الجهة الراجحة فلا يكون فاسدا.

نعم الإيراد عليه بعد الالتزام بمثل ذلك متين جدا.

ص: 192


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /165- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 312 - الطبعة الأولى.

ونختار الشق الثاني ، ونجيب عن إشكال ثبوت الحرمة التشريعية بوجهين : الأول : ان الإتيان بالعمل بقصد قربي لا يلازم التشريع دائما ، بل يمكن تحققه بدون تشريع وهو الإتيان به رجاء ، فيمكن تعلق الحرمة الذاتيّة بالعمل المأتي به بقصد القربة رجاء.

الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية من ان التشريع ليس من صفات الفعل الواقع كي تكون حرمته حرمة للفعل ، بل هو من صفات القلب فان التشريع عبارة عن البناء القلبي على جعل الحكم ، ولا يكون العمل سوى كاشف عن البناء والتشريع لا أكثر فلا وجه لتحريمه ، وبعبارة أخرى : التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الدين فيه وليس العمل إدخالا لما ليس في الدين فيه كما لا يخفى.

نعم الاخبار عن الجعل محرم لأنه افتراء ، ولكنه لا يرتبط بالعمل المأتي به.

وبالجملة : فالتشريع من صفات الفاعل لا الفعل ، وليس هو كالتجري الّذي قد يقال فيه انه من صفات الفعل باعتبار ان الفعل في مورد التجري بنفسه يتعنون بعنوان الهتك للمولى الّذي هو مورد التحريم والعقاب (1). فالتفت.

هذا مع انه قد يناقش في أصل حرمة التشريع لعدم الدليل عليه. فتدبر.

واما ما ذكره صاحب الكفاية ، وجها ثالثا في الجواب عن الإشكال من ان النهي وان لم يكن دالا على الحرمة الذاتيّة لكنه يدل على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعية الراجعة إلى عدم شمول دليل المأمور به للمحرم فلا وجه لكونه مقربا (2).

فهو بعيد عما هو محل الكلام ، فان محل الكلام هو الملازمة العقلية بين الحرمة والفساد لا في دلالة دليل النهي وعدم دلالته وان لم يكن تحريم واقعا. فان

ص: 193


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /187- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -2. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

البحث وان تقدم كونه لفظيا لكن واقعه في العبادات عقلي كما تقدم فانتبه.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى دفع بعض الشبه قبل الخوض في أصل المطلب ونذكر منها شبهتين :

إحداهما : انه كيف يعقل النهي عن العبادة ، مع ان فرض العبادية يلازم فرض المقربية كما ان فرض النهي يلازم فرض المبعدية ، ويمتنع ان يكون شيء واحد مقربا ومبعدا؟.

وأجاب عنه : بان متعلق النهي ليس هو العبادة الفعلية كي يتأتى ما ذكر ، وانما المراد بالعبادة التي تكون متعلقا للنهي هي الوظيفة التي لو امر بها كان امرها عباديا أو ما كان في نفسه عبادة كالسجود لله (1).

والّذي يبدو لنا ان هذا الجواب بعيد عن الإيراد. فان مقصود المورد هو لغوية البحث لوضوح المنافاة بين النهي والعبادية ، فالبحث عن اقتضاء النهي عن الفساد بحث لغو. وهذا يتأتى سواء قلنا بان متعلق النهي العبادة الفعلية أو ذات العبادة. فالجواب عنه بان المتعلق هو ذات العبادة غير مجد في دفعه.

ثانيتهما : ان العبادة وان فرضنا إمكان تعلق النهي بها إلاّ انه لا يوجب فسادها ، لأن الفساد يستند إلى عدم مشروعيتها سواء كان نهي أو لم يكن.

وأجاب عنه : بان الفساد في مورد عدم النهي يستند إلى الأصل ، وهو أصالة عدم مشروعيتها وفي مورد النهي يستند إلى الدليل الرافع لموضوع الأصل لارتفاع الشك به (2).

وهذا الجواب غير سديد ، من جهتين :

الأولى : ما فرضه من جريان الأصل عند عدم النهي ، مع ان الغالب فيما نحن فيه وجود إطلاق أو عموم يثبت المشروعية لو لا النهي.

ص: 194


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 394 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 394 - الطبعة الأولى.

الثانية : ما ذكره من استناد الفساد إلى الدليل ، فانه خروج عما هو محط البحث من الملازمة العقلية بين الحرمة والفساد ، وليس البحث في دلالة الدليل بلحاظ انه يتكفل بيان عدم مشروعيته.

والجواب الصحيح عن هذا الإيراد ما تقدم بيانه في الجواب عن الإيراد الّذي ذكره صاحب الكفاية بعد تنقيحه.

ثم انه قد يقال : بأنه لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد ، فان النهي لا يقتضي الفساد بحال من الأحوال ، بل ثبوته يلازم عدم الأمر ، كما ان ثبوت المبغوضية يلازم عدم المحبوبية ، وثبوت المفسدة الراجحة يلازم عدم المصلحة الراجحة ، نعم لو قلنا بان وجود الضد منشأ لعدم الضد الآخر تم نسبة الاقتضاء للنهي. لكن ذلك لا يلتزم به ، بل هما متلازمان كما مر في بحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاصّ.

والجواب : ان نسبة الاقتضاء بمعناه الفلسفي إلى النهي غير صحيحة ، لكن المراد به معناه العرفي المسامحي ، والعرف يرى كون وجود أحد الضدين مانعا عن الضد الآخر ومنشئا لعدمه بحيث يسند عدمه إلى وجود ضده ، فيصح بهذا اللحاظ إطلاق الاقتضاء عليه.

والأمر سهل ، فان الإشكال لفظي لا يمتّ لواقع البحث بصلة.

فلو تم أبدلنا التعبير بما يتلاءم مع الواقع العقلي للمطلب فنقول : هل النهي يلازم الفساد أو لا؟.

المقام الثاني : في النهي عن المعاملة ولا بد من تحديد محل النزاع فنقول : ان النهي عن المعاملة.

تارة : يكون إرشاديا إلى مانعية الخصوصية المأخوذة فيها.

وأخرى : يكون نهيا تكليفيا.

وهو تارة : يتعلق بذات السبب بما انه فعل من افعال المكلف ، كالنهي عن

ص: 195

البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ، فان النهي عن ذوات الألفاظ التي تقع بها المعاملة لأنها شاغلة عن صلاة الجمعة.

وأخرى : يتعلق بالمسبب يعني كالتمليك الحاصل من إنشاء البيع ، فيكون التحريم متعلقا بما يترتب على السبب من أثر.

وثالثة : يتعلق بالتسبب بالسبب الخاصّ إلى مسببه ، ويمثل له بالنهي المتعلق بالمراهنة بالعوض ، فان نفس التمليك غير محرم ، كما ان نفس السبب من دون عوض كذلك. فالمحرم هو التسبب إلى حصول التمليك بالسبب الخاصّ.

ومحل الكلام هو القسمان الأخيران.

اما الأوّل : فلأنه لا إشكال في اقتضائه فساد المعاملة لاحتفافها بالمانع من صحتها ، ولا كلام لأحد فيه.

واما الثاني : - أعني النهي المتعلق بذات السبب - فلم يتوهم دلالته على الفساد ، كما لا وجه له أصلا ، إذ مبغوضية السبب لا تنافي ترتب اثره عليه لو تحقق. اذن فيختص الكلام بالقسمين الآخرين.

وقد ذهب صاحب الكفاية أولا إلى عدم اقتضاء النهي الفساد ، وعلله بعدم الملازمة بين الحرمة والفساد لغة ولا عرفا (1).

ولا يخفى ان ذلك يرجع إلى نفي دعوى الملازمة ، فكان الأوجه ذكر ما تقرب به دعوى الملازمة ونفيه لا الاكتفاء بمجرد دعوى عدم الملازمة.

هذا مع ان نفي الملازمة عرفا ولغة لا يعلم وجهه ، إذ البحث عن اقتضاء الحرمة للفساد ، والحال في ذلك لا يختلف بين ان تكون الحرمة معنى لغويا فقط أو عرفيا فقط أو كليهما. فالتفت.

وعلى كل حال فالأقوال في محل البحث ثلاثة :

ص: 196


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /187- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : اقتضاء النهي الفساد.

الثاني : اقتضاء النهي الصحة. وهو المنسوب إلى أبي حنيفة والشيباني (1).

الثالث : عدم اقتضائه لأحدهما.

اما القول الأول فيوجه بوجوه :

الوجه الأول : دلالة الروايات عليه ، كرواية زرارة عن الباقر علیه السلام : « عن مملوك تزوج بغير اذن سيده. فقال : ذلك إلى سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما. قلت : أصلحك اللّه تعالى ان الحكم بين عينيه وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون ان أصل النكاح فاسد ولا يحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر علیه السلام : انه لم يعص اللّه انما عصى سيده فإذا أجاز فهو له جائز » (2). فان ظاهرها انه لو كان عمله عصيانا لله كان فاسدا ، فيدل على انه لو كان محرما كان فاسدا لأن فعل الحرام معصية.

وفيه : ما أشار إليه في الكفاية (3) من ان العصيان كما يطلق على مخالفة الحكم التكليفي يطلق أيضا على مخالفة الحكم الوضعي والشروط الوضعيّة ، بلحاظ انه مخالفة للمقررات المفروضة ، فان ترك الجري على طبقها يعد عصيانا عرفا ، وهي وان كانت ظاهرة في المعنى الأول إلاّ ان المراد بها في الرواية هو المعنى الثاني بقرينة إطلاق المعصية على إيقاع المعاملة بدون إذن سيده ، فالمراد - بملاحظة هذه القرينة - انه لم يأت بالمعاملة مخالفا لما هو المقرر شرعا في

ص: 197


1- شرح تنقيح الفصول / 173.
2- الفروع من الكافي 5 / 478. باب المملوك تزوج بغير اذن مولاه - الحديث 3. من لا يحضره الفقيه 3 / 350. باب طلاق العبد - الحديث 4. تهذيب الأحكام 7 / 351. باب العقود على الإماء ... - الحديث 63. وسائل الشيعة 14 / 523. الباب 24 من نكاح العبيد والإماء - الحديث 1.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /188- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تماميتها ، بل جاء بها مخالفا لسيده لعدم إذنه. فلا ظهور لها في كون المخالفة للحكم التكليفي موجبة للفساد.

ولو سلم عدم ظهور إرادة المعنى الثاني فلا يسلم ظهورها في المعنى الأول ، بل تكون الرواية مجملة لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على إرادة خلاف ظاهره ، كما لا ظهور للكلام في استعماله في الأعم من المعنيين. فتدبر.

ومن هنا يظهر حال سائر الروايات المستدل بها على المدعي فلا نطيل الكلام بالتعرض إليها.

الوجه الثاني : ان المسبب من مجعولات الشارع واعتباراته ، فإذا فرض كونه مبغوضا كما هو ظاهر النهي لم يتحقق من قبل الشارع ، فالملكية إذا كانت مبغوضة للشارع لم يعتبرها ، لكن المبغوضية ليست مبغوضية تشريعية بل تكوينية ، لأن متعلقها فعل المولى نفسه فلا يعقل ان يتعلق بها التحريم ، فما يعقل تعلق التحريم به بلحاظ انه فعل المكلف ، هو إيجاد الملكية والتسبب إلى اعتبارها شرعا بسبب العقد ، فالملكية لها حيثيتان بإحداهما تكون فعل المولى وبالأخرى تكون فعل المكلف فتكون متعلقا للتحريم من حيثية كونها فعلا له تسببا.

وعلى هذا البيان يقرّب دلالة النهي على الفساد : بان التسبب إلى الملكية يتقوم باعتبار الملكية ، إذ مع عدم اعتبارها لا يتحقق التسبب إليها كما لا يخفى ، وعليه فمع تحريم التسبب ومبغوضيته لا يعقل جعل الملكية المحققة للتسبب. فحرمة المعاملة بهذا النحو تستلزم فسادها وعدم جعل الشارع للأثر المترتب عليها.

وببيان آخر ، نقول : ان متعلق التحريم وان كان هو الملكية التسببية والمبغوض هو الملكية المستندة إلى المكلف باعتبار إيجاد سببها ، إلاّ ان تحقق ذلك لا يكون إلاّ باعتبار الشارع الملكية وجعلها ، ومع فرض مبغوضية التمليك الصادر من المكلف يستحيل جعل ما يحققه ويقومه وهو الملكية.

ص: 198

ولا يخفى ان هذا البيان لا يرد على المسلك القائل (1) بوجود مواطن ثلاثة للاعتبار وهي الاعتبار الشخصي والاعتبار العقلائي والاعتبار الشرعي ، يعني ان المنشئ يعتبر المنشأ في نفسه ويكون اعتباره موضوعا لاعتبار العقلاء والاعتبار العقلائي يكون موضوعا للاعتبار الشرعي ، والوجه في عدم ورود هذا البيان على هذا المسلك هو : ان فعل المكلف المتعلق للتحريم أجنبي بالمرة عن فعل الشارع ، فان المبغوض هو الاعتبار الشخصي لأنه القابل للتحريم دون غيره ، وهو لا يتنافى مع اعتبار الشارع وجعله ، إذ هو غير مبغوض.

وانما يتجه هذا البيان على المسلك المشهور القائل بان واقع المعاملة هو الإنشاء بداعي تحقق الاعتبار العقلائي أو الشرعي فهي التسبيب إلى اعتبار الشارع ، من دون أن يكون للمنشئ اعتبار شخصي.

إذ تتجه دعوى ان المبغوض متقدم باعتبار الشارع فلا معنى لجعله واعتباره من قبله.

وعليه ، فلا يتجه التفصّي عن هذا البيان بالالتزام بوجود الاعتبار الشخصي وانه هو متعلق التحريم.

فالتحقيق ان يقال : ان اعتبار الملكية - مثلا - وان كان بيد الشارع إلاّ ان تحققه لما كان بلحاظ تسبيب المكلف وإنشائه أسند التمليك إلى المكلف كما يسند إلى الشارع ، فهناك تمليكان أحدهما تمليك المكلف والآخر تمليك الشارع ، نظير ما لو رمى شخص آخر برصاصة فجاء ثالث وأوقف المرمي تجاه الرصاصة فأصابته وقتل فان القتل كما يسند إلى الرامي يسند إلى هذا الشخص الثالث.

وعليه ، فإذا فرض تعدد التمليك بحسب ما يراه الوجدان بنحو لا يقبل الإنكار ، فالمبغوض المحرم هو تمليك المكلف لا مطلق التمليك ، فلا مانع من تحقق

ص: 199


1- التزم بهذا المسلك السيد الطباطبائي في حاشيته على المكاسب.

التمليك من الشارع لأنه ليس من مبغوضاته.

وبالجملة : تعدد التمليك مما لا يقبل الإنكار ، إذ يسند التمليك للبائع ، فيقال انه ملّك مع انه لا معنى له لو كان فعل الشارع ، إذ فعل الغير لا يسند إلى الشخص ، فيكشف عن تعدد التمليك ومعه يرتفع المحذور.

وتوضيح ذلك وبيان السرّ فيه : ان شأن الشارع هو جعل الملكية على تقدير تحقق المعاملة بنحو القضية الحقيقية ، بمعنى انه يعتبر الملكية عند تحقق البيع بشرائطه مثلا ، وبنحو جعل الحكم الكلي على موضوعه الكلي ولا شأن له بمرحلة التطبيق ، فإذا أوجد المكلف المعاملة في الخارج ثبت الاعتبار في موردها قهرا ، فيسند التمليك إلى المكلف بهذا اللحاظ ، إذ يرى انه هو سبب تحقق الاعتبار الفعلي نظير مثال القتل فان الرصاصة المرمية تصيب كل من واجهها فإذا أوقف شخص آخر تجاهها فأصابته أسند إليه القتل كما يسند إلى الرامي في نفس الوقت.

ومثله إطلاق تنجيس يده عليه ، فيقال : نجّس يده ، مع ان النجاسة من مجعولات الشارع ، وليس ذلك إلاّ لأجل ان الشارع جعل النجاسة على ملاقي النجس بنحو الكلية ، فإيجاد الموضوع المستلزم لترتب الحكم يوجب اسناد الحكم إلى المكلف ، وهكذا الحال في الأحكام التكليفية ، فانه يقال : انه حرم على نفسه الشيء الكذائي ، إذا أوجد موضوع التحريم.

ومن الواضح ان إطلاق ذلك عليه يكون إطلاقا حقيقا لا يرى فيه شائبة من التجوز والمسامحة ، مما يكشف عن وجود آخر يكون فعل المكلف ، إذ الوجود المجعول للشارع ليس من افعال المكلف. فهناك تمليكان أحدهما تمليك المكلف وهو الّذي يكون مورد التحريم لأنه من أفعاله الاختيارية. فلاحظ وتدبر.

والوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره وبنى عليه ، وهو : ان المعتبر في صحة المعاملة أمور ثلاثة :

ص: 200

الأول : كون الناقل - في مورد التمليك - مالكا للعين أو ما بحكمه بحيث يكون امر النقل بيده.

الثاني : ان تكون له السلطنة الفعلية الثابتة بقاعدة الناس مسلطون على أموالهم ، فلا تصح من المحجور عليه لانتفاء السلطنة.

الثالث : ان يكون إيجاده بسبب خاص.

والنهي المتعلق بالمسبب كالنهي عن بيع المصحف للكافر يوجب اختلال الشرط الثاني من شروط الصحة ، لأن النهي يكون معجّزا مولويا للمكلف ، رافعا لسلطنته على الفعل والترك ، فتبطل المعاملة لأجل ذلك ، اما ولاية النقل وإيجاده بسبب خاص فلا يتنافى مع النهي (1).

وهذا الوجه غير سديد : إذ الثابت بقاعدة السلطنة محل خلاف ، وعلى أي تقدير فالوجه غير تام بيان ذلك : انه اختلف في مفاد قاعدة السلطنة إلى قولين :

أحدهما : انها تتكفل جعل السلطنة وضعا ، واعتبار حق التصرف فيه.

ثانيهما : انها تتكفل بيان ثبوت السلطنة التكوينية على النقل ، بداعي إفادة لازمة ، وهو إمضاء المعاملات واعتبار ترتب الأثر عليها ، فانه إذا فرض إمضاء المعاملة وجعل الملكية - مثلا - عند معاملة البيع الواقعة ، كان الشخص قادرا تكوينا على النقل.

وهذا الوجه أفاده المحقق الأصفهاني ، وهو الوجه المتين ، إذ لا وجه لجعل السلطنة بعد فرض تحققها تكوينا بجعل الأثر على المعاملة (2).

وبالجملة : المقصود بجملة : « الناس مسلطون على أموالهم » (3) على هذا

ص: 201


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 404 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. حاشية المكاسب1/ 26 - الطبعة الأولى.
3- المجلسي العلامة محمد باقر. بحار الأنوار1/ 154. الطبعة الحديثة.

الرّأي الكناية عن إمضاء المعاملة ، إذ السلطنة التكوينية تلازم الإمضاء.

إذا عرفت ذلك : فلو كان المقصود بقاعدة السلطنة هو الثاني وانه ليس لدينا اعتبار للسلطنة ، بل ليس هناك سوى جعل الأثر وإمضاء المعاملة وإنقاذها ، فلا يتم الوجه المزبور ، إذ لا ينافي النهي السلطنة التكوينية إلاّ إذا كان ملازما لفساد المعاملة وعدم ترتب الأثر عليها ، وهذا هو محل البحث ومورد النزاع ، فلا بد من سلوك طريق آخر لإثبات الفساد غير هذا الوجه كما لا يخفى جدا.

وان كان المقصود بها المعنى الأول. فمن الواضح ان لدينا قدرتين على التصرف قدرة تشريعية بمعنى جواز التصرف تكليفا ، وقدرة وضعية بمعنى قابلية التصرف المعتبرة من الشارع ، والتحريم انما يرفع القدرة الأولى ، اما القدرة الوضعيّة فارتفاعها بالتحريم أول الكلام وهو عين الدعوى.

وعليه ، فالمقصود بالقاعدة اما جعل القدرة الوضعيّة أو جعل الأعم من القدرة الوضعيّة والتشريعية.

فعلى الأول : يحتاج إثبات كون التحريم مخصصا للقاعدة ورافعا للقدرة المجعولة بها إلى دليل ، ولا وجه لمجرد دعوى ذلك والحال انه محل خلاف.

وعلى الثاني : كان التحريم رافعا للقدرة التشريعية فيخصص القاعدة إلاّ ان محل الكلام رفعه للقدرة الوضعيّة ، فلا ينفع ارتفاع القدرة الشرعية به. وما ذكر لا يتكفل سوى دعوى رفعه لها من دون أي وجه.

وبالجملة : الوجه المزبور لا يعد وكونه دعوى ثبوت أحد القولين في محل النزاع.

ومثل ذلك يعد مصادرة وهو مما لا يتناسب مع المقام العلمي للمحقق النائيني قدس سره . فالتفت وتدبر.

والمتحصل : انه لم يقم دليل على ملازمة التحريم للفساد.

واما القول الثاني فهو المحكي عن أبي حنيفة والشيباني.

ص: 202

والوجه فيه : ان النهي عن الشيء لا بد ان يفرض في مورد القدرة على الشيء لامتناع تعلق التكليف بغير المقدور ، وإذا فرض فساد المنهي عنه لزم عدم القدرة على تحققه بالنهي ، وهو يتنافى مع تعلق النهي به ، فلا بد من فرض وقوعه كي يصح تعلق النهي به.

ولا يخفى ان هذا الوجه لا اختصاص له بالنهي عن المعاملة ، بل هو يتأتى في صورة النهي عن العبادة.

ولأجل ذلك أورد عليه صاحب الكفاية بأنه غير تام في مورد النهي عن العبادة لما تقدم من ان المقصود هو تعلق النهي بذات العمل الّذي لو امر به كان أمره عباديا أو تعلقه بما يكون عبادة ذاتا ، ومن الواضح ان مثل ذلك مقدور ولو كان فاسدا ، اما النهي عن المعاملة ، فان كان عن ذات السبب لم يستلزم الصحة ، للقدرة على السبب مع عدم ترتب الأثر عليه. واما إذا كان عن المسبب أو التسبب بالسبب إليه كان الوجه المذكور تاما ، إذ مع عدم تحقق الأثر لا يكون المسبب والتسبب مقدورا كي يكون قابلا لورود الحرمة عليه وتعلق النهي به.

وعلى هذا فصاحب الكفاية وافق القائل بما إذا تعلق النهي بالمسبب أو التسبب. وخالفه في غير ذلك (1). وهو على حق في مخالفته. لكنه في موافقته لا نراه محقا.

بيان ذلك : ان المسالك في باب الإنشاء والمعاملات مختلفة : فمنهم من يرى تعدد الاعتبار في باب المعاملة ، فهناك اعتبار شخصي للملكية - مثلا - واعتبار عقلائي واعتبار شرعي ، وهو مختار السيد الطباطبائي في حاشيته على المكاسب (2).

ص: 203


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /189- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الطباطبائي الفقيه السيد كاظم. حاشية المكاسب /62- الطبعة الأولى.

ومنهم من يرى ان المنشئ يقصد إيجاد المنشأ بوجود إنشائي يكون موضوعا للآثار العقلائية والشرعية ، فللملكية وجود إنشائي غير وجودها في مرحلة الاعتبار العقلائي. وهذا الرّأي لصاحب الكفاية وصرّح به وأكده في الفوائد (1).

وهذا الرّأي وان لم يلتزم به القوم لكن صرحوا في بعض الموارد بلوازمه ، وذلك كما قيل في ردّ الإشكال على صحة إمضاء المعاملة الفضولية ، بان إمضاء المعدوم لا وجه له. فقيل في ردّه : بان للمعاملة نحو وجود مستمر ، كما قيل : بان مراد الشيخ في تعريف البيع بإنشاء التمليك هو التمليك الإنشائيّ ، لعدم سلامة الأوّل من كثير من الإيرادات.

ومنهم من يرى ان إنشاء الملكية ليس إلاّ التسبب إلى اعتبارها شرعا أو عقلائيا ، فليس للملكية سوى وجود اعتباري واحد. وهو الرّأي المشهور في باب الإنشاء.

ولا يخفى ان الوجه المتقدم لإثبات ملازمة النهي للصحة لا يتم بناء على الرّأي الأول ، لأن ما هو فعل المكلف وما هو متعلق الحرمة هو لاعتبار الشخصي ، اما غيره فليس من أفعاله كي يتعلق به التحريم.

ومن الواضح انه مقدور للمكلف ولو لم يترتب عليه الاعتبار الشرعي ، فيصح تعلق التحريم به مع عدم استلزامه لترتب الأثر شرعا. وهكذا لا يتم هذا الوجه على الرّأي الثاني ( رأي صاحب الكفاية ) ، إذ فعل المكلف هو الوجود الإنشائي وهو يتحقق سواء ثبت الأثر شرعا أو لا ، فالقدرة عليه لا تلازم الصحة.

ومما هو غريب جدا موافقة صاحب الكفاية للقائل مع التزامه بهذا الرّأي

ص: 204


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /285- المطبوعة ضمن الحاشية.

في باب الإنشاء.

نعم هذا الوجه يتجه في بادئ النّظر على الرّأي المشهور ، إذ متعلق التحريم وهو التمليك لا يتحقق من دون اعتبار للملكية شرعا ، وليس لدينا فعل يسند إلى المكلف غير الملكية الاعتبارية بلحاظ إيجاد سببها.

والتحقيق انه غير تام. بيان ذلك : ان الشبهة المزبورة وردت لتخيل انه لا يوجد في المعاملة ، سوى السبب والمسبب بمعنى الاعتبار الشرعي ، ولكن الأمر ليس كذلك وإلاّ لزم التوقف في صدق البيع بالنسبة إلى بيع الغاصب والفضولي والمعتقد ان المال له ، وذلك لأن الاعتبار الشرعي لا يترتب على إنشاء الغاصب ولا الفضولي ولا غير المالك المتخيل ان المال ملكه ، فلو فرض ان المعاملة اسم للتسبيب إلى الاعتبار الشرعي لزم ان لا يتحقق صدق البيع في هذه الموارد لعدم تحقق المسبب.

وبما انه مما لا يتوقف أحد في صدق البيع في مثل هذه الموارد ونسبة التمليك إلى البائع فيقال باع وملك ما ليس له ، نستكشف ان هناك امرا يتحقق بالإنشاء ولو لم يثبت المنشأ في عالم الاعتبار الشرعي ، وهو يسند إلى المنشئ لأنه فعله التسببي ، وذلك الأمر هو وجود إنشائي للملكية في البيع.

وعليه ففي صورة الإنشاء هناك تمليك إنشائي غير التمليك الشرعي وهو فعل المنشئ وينسب إليه.

وبذلك يتضح انه هو متعلق التحريم وغيره من الأحكام التكليفية ، وهذا امر مقدور ولو لم يثبت الأثر شرعا ، فالحرمة لا تلازم الصحة للقدرة عليه بدون الصحة.

وهذا المعنى لا بد من الالتزام به في الإنشائيات ، وبه يندفع كثير من الإشكالات الواردة على التعريف المشهور كما أشرنا إلى بعضها ، وقد مر تحقيق ذلك في بحث الصحيح والأعم فراجع.

ص: 205

والّذي يتحصل ان النهي كما لا يدل على الفساد لا يدل على الصحة فالمرجع إطلاق دليل المعاملة لو كان موجودا وإلاّ فالأصل. فالتفت ولاحظ واللّه ولي التوفيق.

ص: 206

المفاهيم

اشارة

ص: 207

ص: 208

المفاهيم

عرف صاحب الكفاية المفهوم بأنه حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الّذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة ، وكان يلزمه لذلك سواء وافقه في الإيجاب والسلب وهو المعبر عنه بمفهوم الموافقة ، أو خالفه ويعبر عنه بمفهوم المخالفة. فمفهوم جملة : « ان جاءك زيد يجب إكرامه » على تقدير القول به قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها وهي : « ان لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه » تستتبعها الخصوصية المؤداة بالمنطوق وهي العلية المنحصرة كما سيأتي.

وانتهى قدس سره إلى ان المفهوم يصح ان يقال عنه انه حكم غير مذكور لا انه حكم لغير مذكور ، إذ قد يكون الموضوع مذكورا كما في المثال السابق. ولكنه استدرك بعد ذلك بان هذه التعريفات انما تذكر لشرح الاسم فهي تعريفات لفظية لا حقيقة فالإشكال عليها بعدم النقض والطرد في غير محله.

ثم أشار إلى ان المفهوم هل هو من صفات الدلالة أو المدلول؟ واستقرب الثاني وذكر ان التعرض لذلك غير مهم في المقام.

ص: 209

هذا ما ذكره قدس سره في هذا المقام (1).

وقد أوقع المحقق الأصفهاني الكلام معه في تعريفه بأنه حكم غير مذكور ، وناقشه فيه واختار بعد ذلك معنى آخر للمفهوم ، كما انه أوقع الكلام معه في كونه من صفات الدلالة والمدلول ، فذكر : ان الدلالة بالمعنى الفاعلي لا تقبل الاتصاف بالمفهوم ولا يتوهم ذلك. والدلالة بالمعنى المفعولي عين المدلول حقيقة. وعليه فالترديد في غير محله (2).

وبما انه لا جدوى في سرد ذلك مفصلا وتمييز الحق منه عن غيره لم نتعرض إلى بيانه واقتصرنا علي مجرد الإشارة إليه ، فمن أراد الاطلاع فليراجع.

ومنه ظهر ان ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه من تنويع المفهوم ، وانه تارة يكون افراديا. وأخرى يكون تركيبيا ، وإيقاع البحث في ذلك مفصلا مما لا جدوى فيه مع غض النّظر عما في بعض ما ذكره من التأمل والنّظر (3).

والأمر الّذي نود التنبيه عليه ، هو : انك عرفت ان المفهوم حكم تستتبعه خصوصية مرادة من اللفظ كخصوصية العلية المنحصرة في الشرط المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، فهو حكم يلازم الخصوصية المؤداة باللفظ ، فالذي نحتاجه في البحث عن المفهوم هو إثبات هذه الخصوصية المستلزمة للمفهوم لا غير ، لأن ثبوت هذه الخصوصية يكفي في إثبات المفهوم والبناء عليه ، ولا نحتاج بعد ذلك إلى البحث عن حجيته ، إذ لما كان من لوازم الخصوصية كان الدليل الدال على ثبوتها دالا على المفهوم ، اما بالدلالة الالتزامية إذا كانت الملازمة بين المفهوم والخصوصية ملازمة بينة بالمعنى الأخص ، فيكون الدلالة على المفهوم من مصاديق الظاهر وهو حجة. واما بلحاظ ان الأمارة حجة في لوازم مؤداها العقلية.

ص: 210


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /193- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 319 - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 413 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : ثبوت المفهوم يلازم حجية الدليل فيه اما لظهوره فيه أو لكونه حجة في لوازم مؤداها ، نظير ثبوت وجوب المقدمة بثبوت وجوب ذيها بالدليل لو قيل بالملازمة فان الملازمة عقلية.

وعليه ، فلا حاجة لإتعاب النّفس في بيان ان الدلالة على المفهوم من الدلالة الالتزامية ، كما وقع ذلك من المحقق النائيني (1).

ص: 211


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 413 - الطبعة الأولى.

ص: 212

مفهوم الشرط

وقع الكلام بين الاعلام في دلالة الجملة الشرطية على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، والمقصود بالبحث انها هل تدل بالوضع أو بمقتضى قرينة عامة على الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، بحيث يحمل الكلام عليه لو لم تقم قرينة على الخلاف ، أو لا تدل على ذلك بل غاية ما تدل عليه هو الثبوت عند الثبوت؟. والخصوصية المقصودة هي دلالة الجملة على كون الشرط سببا منحصرا للجزاء ، فانه يلازم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط وإلاّ لم يكن سببا منحصرا له.

وقد ذكر لإثبات المفهوم وجوه ذكرها في الكفاية خمسة .. أحدها يرجع إلى دعوى الوضع ، والأربعة الأخرى ترجع إلى دعوى القرينة العامة على المفهوم.

وقبل الخوض في ذلك لا بد من التعرض لأمور :

الأمر الأول : في بيان معنى التعليق والترتب واللزوم. فانه مما له نفع فيما نحن فيه وقد وقع الخلط بينها في الكلمات فنقول :

اما التعليق : فهو ربط أحد الشيئين بالآخر بنحو لا يتخلف عنه ولا يمكن تحققه بدونه ، فهو يساوق العلية المنحصرة ، إذ من الواضح ان الشيء إذا كان يوجد بسببين لا يقال انه معلق بكل منهما ، ولا يصح ان يقال علقت مجيئي

ص: 213

على مجيء زيد لو فرض تحقق المجيء منّي بدون مجيء زيد.

واما الترتيب : فهو عبارة عن حصول أحد الشيئين عند حصول الآخر بحيث يكون منشئا لتحققه.

وهو أعم من التعليق ، إذ هو لا يلازم الانحصار ، بل مع تعدد السبب يصدق ترتب المسبب على كل منهما وتفرعه عنه.

واما اللزوم : فهو عبارة عن حصول أحد الشيئين مع الآخر بنحو لا ينفك أحدهما عن الآخر.

وهو أعم من الترتب ، إذ يصدق على ملازمة العلة للمعلول والمعلول للعلة والشيئين المعلولين لثالث ، مع عدم الترتب في الأخيرين.

الأمر الثاني : في بيان ان ما تفيده الجملة الشرطية من ربط الجزاء بالتالي بنحو التعليق أو غيره - على الخلاف في نوع الربط - ، هل هو مؤدى الأداة وان مؤدى الأداة ليس إلاّ جعل تاليها موضع الفرض والتقدير ، والتعليق يستفاد من الفاء أو ترتيب الجزاء على الشرط؟. فان تحقيق ذلك ينفعنا في التمسك بالإطلاق لإثبات المفهوم كما سيتضح.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى الثاني ، فادعى ان أداة الشرط لا تفيد سوى جعل متلوها واقعا موضع الفرض والتقدير ، ويشهد ذلك الوجدان وملاحظة مرادفها بالفارسية ، فانه شاهد على ان أداة الشرط لا تتكفل سوى هذا المعنى ، فكان القائل حين يقول : « ان جاءك زيد فأكرمه » يريد : « على فرض مجيء زيد أكرمه ».

واما التعليق والترتب فهو مستفاد من تفريع التالي على المقدم والجزاء على الشرط كما تدل عليه الفاء التي هي للترتيب.

وقد ذكر ان ما اشتهر من ان « لو » حرف امتناع لامتناع لا منشأ له إلا ما ذكرنا من ان أداة الشرط تفيد جعل مدخولها موضع الفرض ، ببيان : ان

ص: 214

مدخول « لو » هو الماضي وفرض وجود شيء في الماضي لا يكون إلاّ إذا كان الواقع عدمه فلذا يكون المفروض محالا ، وحيث رتب على المحال شيء أيضا في الماضي فهو أيضا محال ، لأنه ان كان المرتب عليه علته المنحصرة فلم توجد ، وان لم تكن علته المنحصرة وكانت له علة أخرى فهي أيضا لم توجد ، ولذا رتب عدمه على عدم المفروض وجوده.

هذا ما أفاده قدس سره في مبحث مفهوم الشرط ، وأطال في بيانه في مبحث الواجب المشروط (1) وهو غير تام بكلا جهتيه ، أعني : ما أفاده في معنى أداة الشرط بقول مطلق ، وما أفاده في سر دلالة « لو » على الامتناع للامتناع.

اما الجهة الثانية : فقد عرفت ان منشأها وأساسها هو كون فرض شيء في الماضي كاشفا عن عدم وقوعه.

وهذا الأمر لا نلتزم به لوجهين :

الأول : النقض بما إذا كان مدخول غير « لو » من أدوات الشرط هو الماضي ، فانه لا يلتزم بأنها تفيد امتناع شيء لامتناع آخر ، كما لو قال : « ان كان زيد قد جاء أمس جاء عمرو أمس أيضا » بل لو كان الفرض والتقدير مدلولا للفظ الاسمي ، كما لو قال : « على فرض مجيء زيد أمس فقد جاء عمرو أمس » ، فانه لا يلتزم بدلالة الجملة على الامتناع للامتناع.

الثاني : الحل في الجميع ، بأنه لا ينحصر فرض شيء في الماضي بصورة عدم وقوعه ، بل كما يمكن ان يكون منشأ الفرض في الماضي عدم تحققه ، كذلك يمكن ان يكون منشؤه كون غرض المتكلم ليس إلاّ بيان الملازمة بين تحقق شيء في الماضي وتحقق آخر فيه أيضا من دون ان يتعلق غرضه ببيان تحققه. كما يمكن ان يكون جاهلا بتحققه وعدمه فيفرض تحققه في الماضي ويرتب عليه شيء آخر.

ص: 215


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 320 و 1 / 177 - الطبعة الأولى.

واما الجهة الأولى : فلأنه لو كانت الأداة تفيد جعل مدخولها موقع الفرض والتقدير لم يكن هناك حاجة للإتيان بالفاء ، كما يشهد لذلك عدم جواز ذكر الفاء لو عبر عن الفرض والتقدير بالاسم ، فانه يقال : « على فرض وتقدير مجيء زيد يجيء عمرو » ولا يقال : « فيجيء عمرو » ، مع ان الفرض بالمعنى الاسمي انما يدخل على المفاهيم الإفرادية لا التركيبية ، فيقال : « على فرض مجيء زيد » لا « على فرض جاء زيد » ، ولو كانت الأداة بمعنى الفرض والتقدير لصح ذلك. فهذا مما يكشف عن اختلاف المعنى. فما أفاده قدس سره في معنى الأداة غير سديد.

واما المحقق النائيني قدس سره فكلامه في المبحثين مرتبك جدا ، ولا يخلو عن تهافت ، فهو يلتزم أولا بوضع الأداة للتعليق ثم يذهب إلى انها موضوعة لجعل مدخولها موضع الفرض وانها لا تدل على أكثر من اللزوم ، والترتب يستفاد من سياق الكلام وجعل التالي تاليا والمقدم مقدما. وفي مبحث الواجب المشروط ادعى انها موضوعة للربط بين الجملتين (1).

وقد عرفت ان التعليق أخص من الترتب واللزوم ، فلا يمكن الجمع بين دعوى كونها موضوعة للتعليق ودعوى انها موضوعة للزوم.

وبالجملة : لا نستطيع اسناد رأي خاص له حتى نرتضيه أو ندفعه.

فالذي يمكن ان ندعيه في معناها هو : انها ظاهرة في إفادة ترتب الجزاء على الشرط ومعلوليته له وتفرعه عليه ثبوتا.

اما دعوى : انها موضوعة لما هو أعم من اللزوم فباطلة جدا ، لتبادر اللزوم منها في الجملة ، واستعمالها في غير موارده انما يكون بقرينة ، أو فقل انها تستعمل في موارد الملازمة الاتفاقية في اللزوم لكن في ظرف خاص.

ص: 216


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 415 و 1 / 131 - الطبعة الأولى.

واما دعوى : انها لخصوص اللزوم لا الترتب.

فلعل الوجه فيه هو : استعمالها بلا عناية في موارد لا ترتب للجزاء فيها على الشرط ، نظير قولهم : « إذا كان زيد محموما فهو متعفن الأخلاط » ، فان الحمّى معلولة للعفونة لا علة لها.

ولكن الظاهر انها مستعملة في هذه الموارد في الترتب ، لكن المراد هو الترتب في مرحلة الإثبات لا الثبوت ، ويكون المقصود بيان ترتب الوجود العلمي للجزاء على الشرط لا الوجود الواقعي ، ولذا قد يصرح بذلك في بعض القضايا فيقال : « وإذا كان زيد محموما فيعلم انه متعفن الأخلاط ».

اذن فلنا ان ندعي ظهور الأداة في ترتب الجزاء على الشرط وعلّية الشرط له لا أكثر. واما استفادة الانحصار فهي من طريق آخر.

يبقى إشكال صحة الربط بين النسبتين. وقد أجبنا عنه في مبحث الواجب المشروط. فراجع.

الأمر الثالث : في تحديد ما هو ملاك ثبوت المفهوم وما ينبغي البحث فيه لإثباته ونفيه. والمعروف هو ان مدار البحث على استفادة كون الشرط علة منحصرة للجزاء فينتفي الحكم عند انتفائه.

ولكن المحقق العراقي قدس سره خالف المشهور وذهب إلى ان مدار البحث لا بد وان يكون على ان القضية المتكفلة للحكم ، هل هي ظاهرة في تعليق شخص الحكم على الشرط أو تعليق سنخه عليه ، فيثبت المفهوم على الثاني دون الأول.

وبيان ذلك - كما جاء في مقالاته - : ان علية ما علق عليه الحكم بنحو الانحصار أمر مسلم غير قابل للإنكار ، والّذي يدلّ عليه التزام الكل بلا توقف بان انتفاء موضوع الحكم اما بذاته أو لبعض قيوده من شرط أو وصف أو غيرهما

ص: 217

يلازم انتفاء شخص الحكم المعلق عليه ، وهو يكشف عن كون موضوع الحكم بخصوصياته المأخوذة فيه علة لشخص الحكم ، إذ لو لا ذلك لم يكن وجه لانتفاء شخص الحكم بانتفائه ، لإمكان ثبوته على الخالي عن الخصوصية مثلا.

ويشهد لذلك التزامهم بتقييد المطلق بالمقيد إذا كانا مثبتين مع إحراز وحدة المطلوب فيهما ، فانه لا يتم إلاّ إذا التزم بظهوره المقيد في كون موضوعه علّة منحصرة للحكم فلا يثبت في غير مورده ، وإلاّ فمجرد وحدة المطلوب لا تلازم التقييد ، إذ يمكن كون الحكم الواحد ثابتا للمطلق.

وبالجملة : الكل يلتزم بكون الموضوع بخصوصياته علّة منحصرة لشخص الحكم. والسرّ فيه : هو ظهور الكلام في إناطة الحكم بالموضوع بخصوصه وتعليق الحكم عليه بعنوانه ، فان قول الآمر : « أكرم زيدا » ظاهر في دخالة عنوان زيد في ثبوت الحكم ، وهو يتنافى مع دخول غيره في ثبوت الحكم لمنافاة دخل غيره ، لإناطة الحكم بالموضوع بخصوصه الظاهرة من الكلام. ولو لا هذه الجهة لما اقتضى انتفاء الموضوع انتفاء شخص الحكم.

وعليه ، فيمكننا ان ندعي ظهور أخذ الموضوع في دخالته بخصوصه وبنحو الانحصار في مضمون الخطاب.

وعليه ، فينحصر البحث - في المفهوم وعدمه - في ان مضمون الخطاب وما علق على الموضوع هل هو شخص الحكم؟ فلا يدل الكلام على المفهوم ، إذ انتفاء الشرط يقتضي انتفاء شخص الحكم ، وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر للحكم في غير مورد الشرط. أو انه سنخ الحكم؟ فيدل الكلام على المفهوم ، إذ انتفاء الشرط يقتضي انتفاء سنخ الحكم عن غير مورده فيتنافى مع ثبوته في غير مورده.

فمدار البحث ذلك ، وليس البحث في استفادة العلية المنحصرة ، فانها من المسلمات بحسب الارتكاز والشواهد ، فلا وجه للبحث فيها.

ص: 218

هذا محصل ما أفاده بتوضيح منا (1).

ولكنه لا يخلو عن مناقشة ، فانه لا يخلو عن مغالطة ، لأن الكل لم يلتزم بظهور تعليق الحكم على الموضوع في العلية المنحصرة ، بل التزموا بما يلازم الانحصار في خصوص كون المعلق شخص الحكم لا سنخه ، وهو أصل العلية لا أكثر.

وملخص ما ندعيه : انهم التزموا بظهور الموضوع في العلية ، وهي تلازم الانحصار في مورد كون المرتب على الموضوع شخص الحكم ، فلا وجه للتعدي إلى ظهور الموضوعية في الانحصار لمطلق مضمون الخطاب.

وبيان ذلك : ان المراد عن شخص الحكم ليس المعنى الاصطلاحي للشخص ، وهو الحكم الموجود ، فانه لا معنى للكلام في الانحصار وعدمه بالنسبة إليه ، فان الموجود الخارجي لا يمكن ان يوجد بواسطة سبب آخر ، لأن الموجود لا يقبل الوجود ثانيا. كما انه لا معنى لانتفائه لأن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

وهذا كما يجري في الأحكام يجري في التكوينيات أيضا ، فان الإحراق الموجود المتحقق بالنار الخاصة لا معنى لوجوده بنار أخرى.

وانما المراد به ما يوجد في الخارج بنحو يؤخذ فيه بعض الخصوصيات الملازمة لانطباقه على فرد واحد لا أكثر ، وهو في التكوينيات ملازم للانحصار ، فإذا قيل : « الإحراق الثابت لهذا الشيء من هذه النار في الساعة الخاصة » إلى غير ذلك من القيود المخصصة للمفهوم بحيث لا يقبل الانطباق على غير الفرد الواحد ، فلا وجه لتوهم ثبوته بغير تلك النار بالخصوصيات المذكورة.

واما في التشريعيات والاعتباريات ، فغير ملازم للانحصار ، إذ الحكم

ص: 219


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 138 - الطبعة الأولى.

الثابت لزيد بالقيد الخاصّ يمكن ان يكون ثبوته له بعنوان انه إنسان فلا ينتفي بانتفاء زيد بل هو ثابت لغيره. كما يمكن ان يكون ثبوته له بعنوانه لكن لا بنحو التعيين ، بل بنحو البدلية بان يكون ثابتا لزيد بعنوانه أو عمرو بعنوانه بنحو البدلية.

وهذا لا يجري في التكوينيات لأن المسبب التكويني الواحد لا يمكن صدوره عن غير سبب واحد ، بخلاف الاعتباريات لأنها خفيفة المئونة ، فإذا استظهر أخذ « زيد » - مثلا - بعنوانه وخصوصه ثبت كونه علّة منحصرة ، إذ يمتنع تحقق شخص الحكم لغير زيد بعد فرض ان زيدا يؤثر فيه بعنوانه وخصوصه.

وهذا لا يلازم الانحصار بالنسبة إلى سنخ الحكم ، إذ يمكن ترتب الطبيعي والسنخ - بلحاظ أحد وجوداته - على زيد بعنوانه وخصوصه ، وترتبه - بلحاظ وجود آخر له - على عمرو بعنوانه وخصوصه لا بنحو البدلية بل كل منهما يؤثر في وجود غير وجود الآخر فيصدق ترتب الطبيعي على كل منهما بخصوصه وعنوانه ، كما يقال في التكوينيات : « النار بعنوانها وخصوصها سبب الإحراق ، وهكذا الكهرباء » ، إذ الإحراق الّذي تؤثر فيه النار غير الإحراق الّذي يؤثر فيه الكهرباء.

ويتحصل : ان ما هو ظاهر الموضوع انما يلازم الانحصار بالنسبة إلى شخص الحكم لا سنخه ، فلا بد من إيقاع الكلام في استفادة الانحصار بالنسبة إلى سنخ الحكم. فتدبر.

الأمر الرابع : في بيان المراد بالسنخ ، والمقصود به هو طبيعي الحكم في قبال شخصه.

ولكن هل يراد به الطبيعة المهملة أو المطلقة أو المقيدة؟.

وقبل تحقيق المراد لا بد من التنبه إلى شيء ، وهو ان المقصود بيان معنى للسنخ بحيث يتلاءم مع ما هو محل البحث ، فلا بد من اشتماله على وصفين :

ص: 220

أحدهما : قابليته للترتب على الشرط. والآخر : ملازمته للمفهوم عند الانتفاء.

وبعد هذا نقول : ليس المراد به الطبيعة المهملة لوجهين :

الأول : امتناع الإهمال في مقام الثبوت.

الثاني : ما قيل (1) : من ان المهملة في قوة الجزئية ، فلا تدل الجملة الشرطية الا على انحصار علة الحكم الجزئي بالشرط ، فتدل على انتفاء الحكم الجزئي عند انتفاء الشرط لا على انتفاء الحكم مطلقا.

وانما المراد به الطبيعة المطلقة ، ولكن لا بمعنى جميع وجودات الطبيعة ، إذ لا يقصد بالجملة الشرطية ترتيب جميع وجودات الحكم على الشرط فانه مما لا معنى له كما لا يخفى.

وانما بمعنى ذات الطبيعة غير المقيدة بشيء من الوحدة والتعدد ، فانه يمكن ترتيبها على الشرط ، كما ان انتفاء الشرط - بناء على الانحصار - يلازم المفهوم لأن ثبوتها في ضمن وجود ما في فرض وجود شرط آخر يكشف عن عدم انحصار الشرط وهو خلف المفروض.

أو بمعنى صرف الوجود بمعناه الأصولي وهو أول الوجود ، فانه يلازم المفهوم لأنه إذا ثبت عند انتفاء الشرط كشف ذلك عن عدم انحصار علته بالشرط وهو خلف.

وقد يتخيل : ان نفس ثبوت علية الشرط يلازم الانحصار بالنسبة إلى هذا المعنى من السنخ - فلا يتم بالنسبة إليه ما تقدم من الإشكال على كلام المحقق العراقي لأنه يمتنع ترتب أول الوجود على شرطين ، إذ الثابت بالشرط الآخر هو الوجود الثاني لأن الوجود الأول ما ثبت بالشرط السابق.

وفيه : ان المنظور في مبحث المفهوم هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط

ص: 221


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 139 - الطبعة الأولى.

وعدمه ، ومن الواضح ان أصل العلية لا يلازم الانحصار بلحاظ ذلك ، إذ مع وجود شرط آخر ، يمكن ان يتحقق به أول الوجود عند انتفاء غيره.

هذا مع انه يتصور تحقق أول الوجود بكلا الشرطين معا ، كما إذا وجدا في آن واحد ، فان أول الوجود ينطبق على كلا وجودي الطبيعة.

ومما ذكرناه في معنى السنخ تعرف انه لا وجه لما أفاده المحقق الأصفهاني من ان السنخ بمعنى ، غير ثابت ، وبمعنى ، لا ينفع فيما نحن بصدده.

اما المعنى غير الثابت : فهو ان يراد به طبيعة الحكم بحيث لا يشذ عنها فرد منها ، وهذا المعنى وان لازم المفهوم لكنه غير ثابت ، لأن الظاهر ان الأمر بالإكرام في الشرطية وغيرها على حد سواء ، ومن الواضح ان المنشأ في سائر القضايا ليس جميع افراد الوجوب.

واما المعنى غير المفيد : فهو ان يراد به طبيعة الوجوب بمعنى وجودها الناقض للعدم ، وهذا المعنى لا يلازم المفهوم لأن الوجود نقيض العدم وكل وجود بديل عدم نفسه ، فانتفاؤه انتفاء نفسه لا انتفاء مطلق الافراد وسنخ الحكم.

ثم انه اختار بعد إفادة هذا : ان المعلق على العلة المنحصرة هو الحكم المنشأ في شخص هذه القضية ، لكنه لا بما هو متشخص بلوازمه ، بل بما هو وجوب أو غيره ، وهذا المعنى يلازم المفهوم لأن الشرط إذا كان علة منحصرة لشخص الوجوب بما هو وجوب امتنع ثبوت غيره من الافراد عند انتفاء هذا الشرط ، وإلا لم يكن علة منحصرة لشخص الوجوب بما هو وجوب (1).

أقول : قد عرفت بيان المراد من السنخ بنحو معقول يلازم المفهوم ، وهو ان يراد به اما وجود ذات الطبيعة غير المقيدة بالوحدة والتعدد أو صرف وجودها بالاصطلاح الأصولي المراد به أول الوجود ، فلا اختصاص لمعنى السنخ فيما

ص: 222


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 323 - الطبعة الأولى.

ذكره كي يتجه الإشكال على إرادته. فالتفت.

إذا عرفت ما تقدم ، فلنشرع في ما هو محل البحث.

وهو ثبوت العلية المنحصرة للشرط ، وقد ذكر له طرق ثلاثة :

الطريق الأول : دعوى ان أداة الشرط موضوعة للدلالة على علية الشرط للجزاء بنحو الانحصار ويدل عليه تبادر ذلك منها.

والخدشة في هذه الدعوى سهلة ، فان دعوى التبادر عهدتها على مدعيها ، وليس المتبادر منها سوى إفادة ترتب الجزاء على الشرط لا أكثر ، ولذا لا يرى ان استعمالها في غير موارد الانحصار استعمال مجازي وبنحو العناية.

الطريق الثاني : دعوى انصراف العلية المنحصرة منها ، لأنها أكمل افراد العلية ، والمطلق ينصرف إلى أكمل افراده.

وقد ناقشها في الكفاية كبرى وصغرى.

اما الكبرى : فلان الانصراف ينشأ من أنس اللفظ بالمعنى الناشئ من كثرة استعماله فيه. اما أكملية الافراد بما هي فلا تستلزم الانصراف.

واما الصغرى : فلا الانحصار وعدم تأثير غيره في الجزاء لا يلزم كون الربط الخاصّ بينه وبين المعلول آكد وأقوى ، بل هو على حد سواء في صورتي الانحصار وعدمه كما لا يخفى (1).

الطريق الثالث : دعوى كون مقتضى الإطلاق هو العلية المنحصرة.

وقد قرب بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول : ما أشار إليه في الكفاية بقوله : « ان قلت : نعم ولكنه قضية الإطلاق بمقدمات الحكمة ، كما ان قضية إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسيّ ». وحاصله : قياس المقام بمقام دوران الأمر في الوجوب بين كونه نفسيا

ص: 223


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /195- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وغيريا ، فكما يتمسك بالإطلاق لإثبات النفسيّة كذلك يتمسك بإطلاق الأداة أو هيئة الشرط على كون الترتب المدلول لها بنحو الانحصار (1).

وقرّبه المحقق الأصفهاني في حاشيته ، بأنه كما ان خصوصية الوجوب النفسيّ خصوصية عدمية لأنه الوجوب لا للغير ، لا تحتاج إلى بيان زائد فيتمسك بالإطلاق لإثباتها ونفي الوجوب الغيري لأن خصوصيته وجودية لأنه الوجوب للغير. فكذلك الترتب المنحصر فانه الترتب على هذا الشرط لا غير في قبال الترتب غير المنحصر فانه الترتب عليه وعلى الغير ، فالإطلاق يثبت به الترتب المنحصر لأنه لا يحتاج إلى مئونة زائدة على بيان نفس الترتب بقول مطلق لأن قيده عدمي (2).

وأورد صاحب الكفاية على هذا الوجه بإيرادين :

الأول : ان معنى الهيئة أو الأداة حرفي ، وهو لا يقبل الإطلاق والتقييد لاستلزام كل منهما للحاظ المطلق أو المقيد باللحاظ الاستقلالي ، ومعنى الحرف لا يقبل اللحاظ الاستقلالي لأنه ملحوظ آليا وإلاّ لما كان معنى حرفيا ، إذ الفارق بين معنى الاسم والحرف ليس إلا تعلق اللحاظ الاستقلالي بالأول والآلي بالثاني.

الثاني : ان قياس المقام بمقام دوران الوجوب بين النفسيّ والغيري قياس مع الفارق ، وذلك لأن الوجوب النفسيّ يلازم الإطلاق ، لأنه الوجوب على كل حال ، وجب غيره أو لم يجب ، بخلاف الغيري فانه ثابت في حال دون آخر ، فإذا كان الكلام مطلقا صح التمسك بإطلاقه لإثبات الوجوب النفسيّ لاحتياج غيره وإلى مئونة التقييد ، وليس الأمر كذلك في الترتب فان كل نحو من نحوي

ص: 224


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /195- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 321 - الطبعة الأولى.

الترتب يحتاج إلى مئونة وقرينة في بيان إذ أحدهما لا يلازم الإطلاق ، فلا وجه للتمسك بالإطلاق لإثبات الترتب المنحصر ، فان ترتب الجزاء على هذا الشرط ثابت سواء ثبت الترتب على الغير أو لم يثبت ، فعدم الانحصار لا يوجب تقييدا للترتب بحال دون حال حتى ينفي بإطلاق ما يدل على الترتب.

وبالجملة : الإطلاق لا يساوق الترتب المنحصر فلا بد في تعيين أحدهما من قرينة خاصة (1).

وقد أورد المحقق الأصفهاني رحمه اللّه على الإيراد الأول : بأنه إيراد سار في غير هذا المورد ، كالتمسك بإطلاق هيئة الوجوب لإثبات عدم تقيده بقيد وكونه مطلقا ، والتمسك بإطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب دون الندب - بناء على عدم الالتزام بوضعها للوجوب فقط بل للطلب المطلق - ، مع ان معنى الهيئة حرفي لا يقبل اللحاظ الاستقلالي فلا يقبل الإطلاق.

ثم ذكر ان الحل على مسلك صاحب الكفاية هو ملاحظة المعنى الحرفي الوسيع بتبع ملاحظة المعنى الاسمي ، فالمقدمات تتم في متعلق الهيئة لا في نفس مدلول الهيئة ، فالإطلاق انما يجري في طرف الهيئة لا نفس المدلول الحرفي (2).

وهذا الحل لو تم فهو مما يمكن الالتزام به في الواجب المطلق ، فيلتزم بان. مجرى المقدمات هو المادة ومتعلق الوجوب فيتمسك بإطلاقه في نفي تقيد الوجوب.

ومن المحتمل ان يكون نظر صاحب الكفاية في ذلك المقام إلى هذا الطريق.

واما في الوجوب والندب فلا يمكن الالتزام به ، إذ الاختلاف بين

ص: 225


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /195- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 322 - الطبعة الأولى.

الوجوب والندب لا يمت إلى متعلقهما بصلة أصلا ، بل هو اختلاف في حقيقتهما ، ومتعلق الوجوب نفسه هو الّذي يكون متعلقا للندب لو كان هو المراد بالكلام بلا تغير فيه أصلا ، فإطلاق المادة لا يجدي في إثبات الوجوب أو الندب.

واما فيما نحن فيه ، فدعوى ان إطلاق المتعلق يفيد تعيين أحد النوعين من الترتب وان كانت موجودة - كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى - إلاّ انه يمتنع ان يكون نظر المدعي للوجه الأول من الإطلاق إليه ، إذ المفروض انه ذكر وجها في قبال الوجه القائل بالتمسك بإطلاق الشرط نفسه ، بل المنظور في هذا الوجه كون محل الإطلاق نفس الترتب لا متعلقه ، فيتجه عليه الإشكال المذكور في الكفاية كما لا يخفى.

ويمكننا ان نقول في مقام دفع المناقضة بين ما أفاده صاحب الكفاية هنا وما أفاده في مورد الوجوب والندب : انه قدس سره لم يلتزم هناك بإمكان كون الآمر بصدد البيان ، بل التزم باستفادة الوجوب لو تمت مقدمات الحكمة ، وهذا لا ينافي عدم التزامه بتمامية مقدمات الحكمة أبدا ، إذ صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها.

وهذا وان كان خلاف ظاهر كلامه لكن لا طريق غيره في رفع التهافت.

ثم ان المحقق الأصفهاني قدس سره ذكر - في مقام توضيح الإيراد الثاني - : ان الوجوب النفسيّ والغيري يختلفان سنخا ، فكان مقتضى الإطلاق تعيين النفسيّ ، وليس كذلك الترتب المنحصر وغيره فانهما متحدان سنخا ، فلا يعين الإطلاق أحدهما (1).

ونحن وان اتفقنا معه في الرّأي ، لكن لا نوافقه على أسلوب البيان ، فان التمسك بالإطلاق لا يتوقف على اختلاف السنخ ، بل هو لأجل نفي الخصوصية

ص: 226


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 322 - الطبعة الأولى.

الزائدة ولو اتحد المطلق والمقيد سنخا وحقيقة ، كما في الوجوب النفسيّ والغيري ، فانهما متحدان حقيقة وان اختلفا في الخصوصيات ، بل لا بد من الاتحاد في الحقيقة كما لا يخفى.

اللّهم إلاّ ان يكون مراده من اختلاف السنخ الاختلاف في الخصوصيات الطارئة على الحقيقة الواحدة المنوعة لها أو المصنفة ، لا الاختلاف في الحقيقة والماهية. فلاحظ.

ويتحصل مما ذكرنا عدم تمامية هذا الوجه ، وهو انما يتأتى في نفسه - مع غض النّظر عما فيه من الخدشة - لو التزم بان مدلول الأداة أو الهيئة هو الترتب أو اللزوم. واما لو كان مدلول الأداة هو الفرض والتقدير ، والترتب يستفاد من الفاء ، فلم يدع أحد جريان الإطلاق في مدلول الفاء. واما لو كان مدلول الأداة هو تعليق الجزاء على الشرط فلا يتأتى هذا البيان ، إذ لا حاجة له بعد ملازمة التعليق لانحصار الشرط.

الوجه الثاني : - ما ذكره في الكفاية - وهو التمسك بإطلاق الشرط. بتقريب : ان مقتضى إطلاقه كونه شرطا مطلقا سبقه شيء أو قارنه أو لا. وهذا المعنى يساوق العلية المنحصرة لأنه لو لم يكن شرطا منحصرا لكان التأثير للسابق في صورة سبق غيره ، وللجامع بينهما أو لكليهما بنحو التركيب في صورة المقارنة ، وهذا ينافي مقتضى الإطلاق.

وبالجملة : الشرطية بقول مطلق تساوق الانحصار فتثبت بالإطلاق لاحتياج غيرها إلى مئونة زائدة.

وقد وافق صاحب الكفاية على ذلك - أعني على ان مقتضى الإطلاق الشرطية المنحصرة - ، لكنه استشكل فيه : بان المتكلم لا يكون في مقام البيان من هذه الجهة الا نادرا ، فلا يمكن الالتزام بالمفهوم استنادا إلى هذا الوجه لعدم

ص: 227

انعقاد الإطلاق الا نادرا (1).

ولم يعلم المقصود من كلام الكفاية وما هو المراد من عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة والمحتملات فيه متعددة.

الاحتمال الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني - وبعض المحشين على الكفاية وهو المشكيني ، كما ذكره المحقق النائيني في مقام الإيراد على هذا الوجه - (2) من ان القضايا الشرطية الشرعية ليست في مقام بيان فعلية تأثير هذا الشرط وعليته فعلا ، بل هي في مقام بيان اقتضاء هذا الشرط لتحقق الجزاء ، وهو لا ينافي عدم ترتب الجزاء عليه لاحتفافه بالمانع ، أو عدم الشرط ، كما لا ينافى كون غيره مقتضيا وجزء المؤثر. وعليه ، فتأثير غيره في الجزاء لو سبقه لا ينافى كونه مقتضيا ، كما لا يخفى ، نعم لو كانت في مقام بيان انه شرط ومؤثر فعلا كان مقتضى الإطلاق انحصار الشرط فيه (3).

وهذا التوجيه لا يمكننا الالتزام به لأنه غير صحيح في نفسه ، فان الالتزام به يقتضي تأسيس فقه جديد ، لأن مقتضاه ان لا يستفاد من القضايا الشرطية الواردة في لسان الشارع فعلية الوجوب عند تحقق الشرط ، إذ لا رافع لاحتمال وجود المانع أو انتفاء الشرط ، وهذا مما لا يتفوه به أحد ، فهل ترى أحدا يتوقف في الحكم بوجوب الوضوء عند النوم استنادا إلى قوله : « إذا نمت فتوضأ »؟!.

هذا مع ان الالتزام بان مقتضى القضية الشرطية هو إفادة الشرطية الفعلية أو غيرها لا يلازم القول بكون مقتضى الإطلاق بهذا النحو ثبوت المفهوم ، إذ المفهوم يتوقف على إثبات انحصار العلة لسنخ الحكم وهذا الوجه انما ينفع في إثبات انحصار الشرط لو كان المعلق شخص الحكم ، وذلك لأن مقتضى

ص: 228


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /196- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 417 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 322 - الطبعة الأولى.

الإطلاق انه مؤثر فعلا في شخص الحكم سواء سبقه غيره أو قارنه ، وهذا ينفى تأثير غيره فيه ، إذ لو فرض وجود غيره مؤثرا فيه لكان هو المؤثر في صورة سبقه إلى الشرط المذكور في القضية ولكان التأثير لكليهما أو للجامع بينهما في صورة المقارنة ، وهو ينافي مقتضى الإطلاق ، اما لو كان المعلق سنخ الحكم فلا ينفع هذا الإطلاق في إثبات انحصار الشرط ، وذلك لأن تأثير الشرط في السنخ معناه سببيته لوجود فرد من افراد الطبيعة ، لوجود السنخ بوجود فرده ، وعليه ، فمقتضى الإطلاق ان هذا الشرط مؤثر في سنخ الحكم سواء سبقه غيره أو قارنه ، وهذا لا ينفي تأثير غيره في تحقق السنخ في وجود آخر غير الوجود المترتب عليه ، إذ تأثير الغير في وجود آخر لا يتنافى مع تأثيره في جزائه ولو قارنه غيره أو سبقه ، ولذلك لا منافاة بين تصريح المتكلم بالشرطية المطلقة مع ترتب وجود آخر على غيره.

ويشهد لذلك وقوع البحث في تداخل المسببات مع تعدد السبب واقتضاء كل منها مسببا بحسب إطلاقه.

ومن الغريب غفلة الاعلام عما ذكرناه ، إذ لم نجد من تعرض إلى بيان هذا الإيراد ، وعلى كل فهو إيراد على الكل لتقريرهم اقتضاء هذا الإطلاق للمفهوم وان ناقشوا فيه بعدم تماميته ونحو ذلك.

الاحتمال الثاني : ان لدينا جهتين :

إحداهما : حدوث الجزاء عند حدوث الشرط.

ثانيتهما : استناد الجزاء إلى الشرط وترتبه عليه.

فالجملة الشرطية انما تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط لا أكثر ، اما استناده إليه فهي لا تدل عليه. ويقرب ذلك بأحد وجهين :

أولهما : ان الجملة وضعا لا تدل الا على الحدوث عند الحدوث ، اما دلالتها على استناده إلى الشرط فهو يتوقف على إجراء مقدمات الحكمة ، وهي غير تامة

ص: 229

لعدم كون المتكلم في مقام البيان من جهته.

ثانيهما : ان الجملة بحسب الوضع الأولي موضوعة للأعم ، أو لإفادة كلتا الجهتين ، لكنها بحسب الاستعمال الكثير يلحظ فيها الدلالة على الجهة الأولى دون الثانية.

وبالجملة : فغاية ما تدل عليه الجملة الشرطية هو حدوث الجزاء عند حدوث الشرط ، اما استناده الفعلي إليه فليس المتكلم في مقام بيانه كي يتمسك بإطلاق الكلام لإثبات الانحصار.

ولا يخفى انه لا يرد على هذا الوجه ما أوردناه على الوجه الأول ، لأنه لا ينكر دلالة الجملة على ثبوت الجزاء فعلا عند ثبوت الشرط.

ولكن يرد عليه - مضافا إلى انه دعوى بلا دليل - : ان التفكيك بين الجهتين في مقام البيان مشكل جدا ، إذ بعد فرض دلالة الجملة على الترتب في الجملة وبنحو الموجبة الجزئية يشكل دعوى عدم كون المتكلم في مقام بيان ذلك ، بل الظاهر انه في مقام بيان الحدوث عند الحدوث لأجل الترتب بينهما.

هذا ولكن الإنصاف انه يمكن الالتزام بهذا الوجه من طريق آخر عرفي. بيان ذلك : ان وجود الشيء يتوقف على تحقق علته التامة باجزائها من مقتضي وشرط وعدم مانع ، فإذا انتفى أحدها لم يتحقق الشيء لعدم علته التامة.

فالجملة الشرطية تدل على تحقق الجزاء وثبوته عند ثبوت الشرط ، بمعنى انه تام العلة ولا يتوقف تحققه على شيء آخر ، اما ان المؤثر فيه والمنشأ لتحققه هو هذا الشرط فهذا مما لا تتكلفه الجملة الشرطية أصلا ، ولا ينظر إليه المتكلم في بيانه أصلا حتى بنحو الموجبة الجزئية ، ولذا لو سأله المخاطب عن المؤثر في الجزاء كان له ان يقول له : « انه لا يعنيك وليس من شأنك » مما يكشف عن انه ليس ناظرا إلى بيان هذه الجهة أصلا وإلاّ لم يكن السائل فضوليا وسائلا عما لا يعنيه.

ص: 230

وجملة القول : ان الجملة الشرطية لا تدل الا على الحدوث عند الحدوث ولا دلالة لها على استناد الجزاء إلى الشرط ولا نظر للمتكلم إليه أصلا.

وعليه ، فلا دلالة لها على انحصار الشرط فيه ، إذ من الممكن تأثير غيره فيه لو قارنه ، فيكون الاشتراك لهما معا ، ولا ينافي ذلك دلالة الجملة على الحدوث عند الحدوث.

نعم ، قد يدعي منافاة ذلك لتأثير السابق فيه ، إذ لو كان غيره مؤثرا في الجزاء وسبقه في الوجود لم يكن الجزاء حادثا عند حدوث الشرط ، إذ حدوثه سابق على حدوث الشرط. وهذا يتنافى مع الالتزام بان ظاهر القضية الشرطية الحدوث عند الحدوث كما قرر هنا ويأتي إن شاء اللّه تعالى.

ويدفع : بأنه انما يتم لو قيل بان المراد بالحدوث عند الحدوث هو الوجود بعد العدم. واما إذا قلنا : بان المقصود بالحدوث عند الحدوث هو الوجود مع نحو ارتباط بالشرط بحيث يكون الوجود مرتبطا به لم يتم ما ذكر. وذلك لما ثبت من ان استمرار الوجود يحتاج إلى علة كحدوثه ، وان الشيء يحتاج إلى علة مبقية كما يحتاج إلى علة محدثة ، وعليه فإذا حصل الشرط كان التأثير لكليهما في مرحلة البقاء ، فلا ينافي ظهور الجملة في الحدوث عند الحدوث مطلقا ولو سبقه غيره أو قارنه.

نعم ، لو التزم بعدم احتياج البقاء إلى علة كان التأثير للسابق فقط ، فيتم الإيراد. ولكن التحقيق على خلافه.

وبالجملة : فالدعوى المزبورة انما تتم على تقدير أحد أمرين : إرادة الوجود بعد العدم من الحدوث. وعدم احتياج البقاء إلى مؤثر. وكلاهما محل إشكال. فتدبر.

وعلى أي حال ، فالعمدة في الإيراد على هذا الوجه من الإطلاق ما عرفت من البيان الّذي تفردنا به بحسب ما نعلم فلاحظ وتأمل.

ص: 231

الوجه الثالث من وجوه الإطلاق : ما ذكره في الكفاية أيضا من التمسك بإطلاق الشرط في نفي البدل والعدل ، كالتمسك بإطلاق الوجوب لإثبات كونه تعيينيا في قبال كونه تخييريا. بيان ذلك : انه كما ان الوجوب التخييري يحتاج إلى مئونة بيان ، وهو ان يقال هذا أو ذاك واجب ، بخلاف الوجوب التعييني فانه لا يحتاج إلى بيان ذلك ، ولأجل ذلك ينفي التخييري بالإطلاق ويثبت به التعييني ، كذلك العلية غير المنحصرة تحتاج إلى بيان بان يقول مثلا : « ان جاءك زيد أو أكرمك فأكرمه » ، وهذا البيان لا تحتاجه العلية المنحصرة ، فمع الشك يتمسك بإطلاق الكلام وينفي به البديل للشرط المذكور فيثبت انحصار العلة به ، إذ لو كان غيره شرطا لبينه المتكلم بالعطف ب- « أو » كما كان عليه بيان عدل الواجب لو كان له عدل.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه واضح ، فان سابقه يحاول إثبات الانحصار من طريق إثبات ترتب الجزاء على الشرط وعدم تأثير غيره فيه لو سبقه أو قارنه. وهذا الوجه يحاول إثبات الانحصار من طريق عدم تأثير غيره فيه لو انعدم هنا الشرط وجاء غيره. فلو لم يثبت الوجه السابق - كما تقرر - ولم يعلم انفراد تأثير الشرط وعدمه في صورة تقدم غيره عليه أو مقارنته أمكن دعوى ثبوت هذا الإطلاق وإثبات الانحصار به ، لاختلافهما منهجا وان اتحد نتيجة. فلاحظ.

وقد ناقش صاحب الكفاية هذا الوجه : بأنه لا وجه لقياس المقام بمقام الوجوب التعييني والتخييري ، لأن الوجوب التعييني يختلف نحوه وسنخه عن الوجوب التخييري ، فان نحو تعلق الوجوب التعييني يختلف عن نحو تعلق الوجوب التخييري وكان الثاني يحتاج إلى بيان وجود العدل والبديل فيتمسك في نفيه بالإطلاق - ولا يختلف الحال في ذلك بين ان نلتزم بان الوجوب التخييري سنخ وجوب متعلق بكليهما أو انه متعلق بالجامع الانتزاعي فانهما يختلفان ، إذ الوجوب التخييري على الأول يقتضي ملاحظة كلا الأمرين ، وعلى الثاني

ص: 232

يقتضي ملاحظة الأمرين والجامع الانتزاعي بينهما ، واما التعييني فهو لا يقتضي سوى ملاحظة أحد الأمرين المعين ، فيحتاج الوجوب التخييري إلى مئونة بيان أكثر من إطلاق -.

اما الشرط : فهو لا يختلف سنخا في صورة التعدد والانحصار ، فشرطية الشرط وترتب الأثر عليه وتأثيره في الجزاء بنحو واحد سواء اتحد الشرط أو تعدد ، فوجود شرط آخر لا يوجب مغايرة تأثير الشرط لما إذا لم يكن شرط آخر ، وإذا لم يكن للشرطية نحو ان في مقام الثبوت لم يتفاوت الحال في مقام الإثبات حينئذ كما لا يخفى.

نعم ، إذا كان المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط لا بيان شرطية الشرط ، كان سكوته عن ذكر شرط آخر وعدم بيانه لشرطية غير ما ذكره كاشفا عن وحدة الشرط وانحصاره ، لكنه لا يكون في هذا المقام الا من باب الاتفاق وهو لا يصحح القول بالمفهوم بقول مطلق.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية بتوضيح (1).

ولكن المحقق النائيني قدس سره التزم بثبوت مفهوم الشرط بهذا الوجه من الإطلاق ، فأفاد في بيانه : ان الشرط المذكور في القضية الشرطية اما ان يكون مما يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلا ، نظير قوله : « إذا رزقت ولدا فاختنه » ، وفي مثله لا يكون للقضية الشرطية مفهوم ، بل يكون حالها حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم. واما ان لا يكون مما يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلا نظير قوله : « إذا جاءك زيد فأكرمه » ، فان إكرام زيد لا يتوقف عقلا على مجيئه. وفي مثله يكون الحكم مقيدا به ، وذلك لأنه لا يخلو الحال من ان يكون مطلقا بالإضافة إليه أو مهملا أو مقيدا. وبما ان الإهمال يمتنع في مقام

ص: 233


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /196- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثبوت ، والإطلاق ينافي ترتيب الحكم عليه ، فيتعين ان يكون مقيدا به.

وإذا ثبت بهذا البيان تقييد الحكم بالشرط ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان وأتي بقيد واحد ولم يقيده بشيء ، بواسطة العطف بالواو كي يكون القيد هو المركب منه ومن غيره ، أو بواسطة العطف ب- : « أو » كي يكون القيد أحد الأمرين على البدل ، فلم يقل : « إذا جاءك زيد وأكرمك فأكرمه » أو : « إذا جاءك زيد أو أكرمك فأكرمه » ، يستكشف من الإطلاق ان القيد خصوص ما ذكر ليس إلاّ ، وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من الإطلاق ونفي البدل له.

ثم قال قدس سره بعد هذا البيان : « ومما ذكرناه ظهر فساد ما أورده في الكفاية على هذا التقريب ، بان سنخ الوجوب التعييني مع التخييري متباينان ، فإذا لم يكن المولى في مقام الإهمال فيستكشف التعيين من الإطلاق لا محالة ، وهذا بخلاف المقام فان ترتب المعلول على علته المنحصرة ليس مغايرا في السنخ مع ترتبه على غير المنحصر ، بل هو في كليهما على نحو واحد فلا يمكن إثبات الانحصار بالإطلاق. وجه الفساد : هو ان التمسك بالإطلاق ليس من جهة إثبات انحصار العلة حتى يرد عليه ما ذكره ، لما عرفت من انه ليس كون الترتب بنحو المعلولية مفادا للقضية الشرطية ، بل مفاده انما هو ترتب التالي على المقدم ليس إلاّ ، ولازم ذلك في خصوص القضايا الشرطية التي لم تسق لبيان الموضوع هو تقييد الجزاء بوجود الشرط ، وحيث ان حال التقييد مع الانحصار وعدمه تختلف لا محالة ، فيكون إطلاق القيد وعدم ذكر عدل له مفيدا لانحصاره لا محالة ... » انتهى ما أفاده قدس سره (1).

ويتوجه عليه : - مع غض النّظر عما بنى عليه أصل تحقيقه من رجوع الشرط إلى المادة المنتسبة -.

ص: 234


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 418 - الطبعة الأولى.

أولا : ان ما ذكره في بيان تقييد الحكم بالشرط جار في مطلق الأحكام بالنسبة إلى موضوعاتها ، وعليه فمقتضى الإطلاق اختصاص الحكم بموضوعه وعدم ثبوته لغيره ، وهو يتنافى مع إنكار مفهوم اللقب.

وثانيا : ان أساس التمسك بالإطلاق بحسب ما أفاده هو إفادة الجملة الشرطية لترتب الجزاء على الشرط الملازم للتقييد به ، ولو تم ذلك لجرى هذا البيان في مطلق القضايا لإفادتها ترتب الحكم على موضوعه ، إذا إفادة الترتب لا تختص بالجملة الشرطية.

وثالثا : عدم تمامية ما ذكره من الإطلاق ، إذ لا يختلف التقييد المنحصر وغيره سنخا ، وليس الانحصار وعدمه من حالات التقييد كي ينفي أحدهما بالإطلاق لاحتياجه إلى مئونة ، بل العطف ب- « أو » لا يرجع إلى بيان خصوصية التقييد ، بل هو من قبيل ضمّ كلام إلى آخر.

نعم لو كان المتكلم في مقام بيان ما هو القيد كان مقتضى الإطلاق المقامي انحصار القيد بما هو مذكور في الكلام ، لكن لو كان نظره قدس سره إلى هذا لم يكن بحاجة إلى البيان الطويل والمقدمة المفصلة التي ذكرها.

ورابعا : ان عدم العدل والبدل للشرط ليس بمفاد الإطلاق المقابل للعطف ب- « أو » كالوجوب التعييني ، إذ لو كان غيره قيدا وشرطا كان كل منهما مؤثرا لا أحدهما على البدل كما هو الحال في الوجوب التخييري ، فلا يصح ان يقال : « ان جاءك زيد أو أكرمك فأكرمه » ، بل الصحيح ان يقال : « ان جاءك زيد فأكرمه » وهكذا : « ان أكرمك أكرمه » فتشبيه المقام بالوجوب التعييني والتخييري في غير محله. ومن هنا تعرف ان هذا الإشكال كما يرد على المحقق النائيني يرد على صاحب الكفاية لأنه ارتضى تشبيه المقام بالوجوب التخييري ، لكنه أورد على الإطلاق من جهة أخرى.

وتحصل لدينا انه لم ينهض وجه من وجوه الإطلاق الثلاثة على إثبات

ص: 235

المفهوم.

وتحقيق الحال ان يقال : ان القضايا الشرطية على أنحاء ثلاثة :

الأول : ما ذكر الشرط فيها لبيان الموضوع ولمجرد فرضه فقط من دون إرادة الانتفاء عند الانتفاء قطعا نظير ما يقال في قوله علیه السلام : « ان اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه » ، فانها لا تدل على انه إذا حلل شيئا حلل ثمنه ، لأنها سيقت لمجرد فرض الموضوع لا أكثر.

الثاني : ما يذكر بلسان الحكومة كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « هذا إذا كانوا عدولا » ، فان القضية الشرطية شارحة ومفسرة للعلم. وفي مثل ذلك تدل على الانتفاء عند الانتفاء لكنها لا من باب المفهوم بل من باب التحديد والشرح. فمن ينكر مفهوم الشرط لا يمتنع عنده الالتزام بنتيجة المفهوم في مثل هذا النحو من القضايا الشرطية.

الثالث : ما استعملت وأريد بها المفهوم ، بل يصرح بالمفهوم في بعضها فيقال : « ان جاءك زيد فأكرمه وإلاّ فلا » ، ومثل هذا كثير في القضايا الشرعية والعرفية ، وهو محل البحث ، إذ الظاهر ان الاستعمال فيها لا يكون عنائيا ومسامحيا ، اذن فما هي الخصوصية التي تقتضي الدلالة على المفهوم؟ ليس لدينا بعد إنكار ما تقدم من الوجوه سوى طريقين :

الأول : الالتزام بأنها مستعملة في هذه الموارد في تعليق الجزاء على الشرط. وقد تقدم انه يلازم المفهوم.

ولكن لا يسعنا الالتزام بذلك لوجهين :

أحدهما : انك عرفت انها ظاهرة في الترتب ، فيكون استعمالها في التعليق استعمالا مجازيا ، مع ان المفروض كون هذه الاستعمالات حقيقية.

ثانيهما : ان الكل يلتزم - بناء على المفهوم - في مورد تعدد الشرط ووحدة الجزاء بمعارضة مفهوم إحدى القضيتين مع منطوق الأخرى ، مع انه لو كانت

ص: 236

الجملة مستعملة في التعليق لكان التعارض بين المنطوقين لمنافاة الشرط الآخر لمقتضى التعليق في كل منهما.

الثاني : ان تكون مستعملة في مقام إفادة ما هو الشرط ، فيكون مقتضى الإطلاق المقامي انحصار الشرط بالمذكور.

وهذا الوجه قريب إلى نظر العرف ، وحينئذ يقال : انه حيث كان الغالب في الاستعمالات العرفية استعمال القضية الشرطية في هذا المقام ، ففي مورد يشك فيه يلحق بالغالب فان الغلبة بحد تكون من الأمارات العرفية الموجبة لظهور الكلام في ذلك.

ولو لا هذا الوجه لما كان للمفهوم وجه يرتكن عليه ، وإنكاره يستلزم تأسيس فقه جديد. فالتفت.

وبالجملة : فلا طريق إلى إثبات المفهوم سوى الإطلاق المقامي.

ولا يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهانيّ على المحقق النائيني من : ان التمسك بالإطلاق يتوقف على ثبوت المطلق في مورد انتفاء القيد وانحفاظه فيه ، فلا معنى للتمسك بإطلاق الكلام بلحاظ صورة انتفاء الشرط وعدمه (1).

وجه عدم وروده : ان هذا على تقدير تماميته وارد لو كان المتمسك به إطلاق اللفظ.

اما بالنسبة إلى الإطلاق المقامي فلا يرد ، إذ معنى الإطلاق المقامي هو التمسك بعدم بيان المتكلم وسكوته في مورد يكون عليه البيان لو كان مريدا للقيد ، ففيما نحن فيه يكون مقتضى الإطلاق المقامي عدم وجود شرط غير ما ذكر في الجملة ولازمه الانتفاء عند الانتفاء فتدبر.

هذا تمام الكلام في تحقيق ما هو محل الكلام.

ص: 237


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 388 - هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.

ويقع الكلام بعد ذلك في :

تنبيهات مفهوم الشرط

التنبيه الأول : ذكر صاحب الكفاية ان المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه ، لا انتفاء شخصه ، ولا يجري الكلام في المفهوم وعدمه الا فيما كان ثبوت السنخ ممكنا (1).

وقد تعرض غيره إلى هذا المطلب.

وعلى كل حال فيقع الكلام - بعد الفراغ عن توقف المفهوم على تعليق السنخ لا الشخص - في جهات ثلاث :

الأولى : في بيان المراد من السنخ ، وضرورة كونه مدلولا للكلام في ثبوت المفهوم.

الثانية : في طريق معرفة كونه مدلولا للكلام.

الثالثة : فيما تعرض إليه صاحب الكفاية من البحث في موارد الأوقاف والوصايا والنذور ، وان الانتفاء فيها عند انتفاء الشرط ليس من المفهوم في شيء.

اما المراد من السنخ : فقد تقدم بيانه ، كما تقدم بيان ما أفاده المحقق الأصفهاني من عدم تصور معنى صحيح للنسخ ومناقشته.

واما ما أفاده من ان مدلول الجزاء في القضية الشرطية هو شخص الحكم لكن لا بما هو شخص ، بل هو وجوب ( مثلا ) وهو يلازم المفهوم ، فلا يتوقف المفهوم على تعليق سنخ الحكم ، بل يثبت عند تعليق شخصه بهذا المعنى.

فهو ثبوتا امر معقول ولازمه ما عرفت من عدم ابتناء المفهوم على تعليق

ص: 238


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /198- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

سنخ الحكم ، واما إثباتا فسيأتي الكلام فيه.

واما إثبات تعليق السنخ دون الشخص فقد ذكر له وجوه :

الأول : ما ذكره في الكفاية من ان مدلول الهيئة مفهوم الوجوب - مثلا - ، لأن الحروف موضوعة للمفاهيم كالأسماء. والفارق بينهما في اللحاظ الآلي والاستقلالي وهو من شئون الاستعمال لا من شئون الموضوع له أو المستعمل فيه (1).

وفيه : ما عرفت في مبحث المعنى الحرفي من عدم تمامية هذا الرّأي ، وان الموضوع له الحرف خاص ، وهو عبارة عن النسبة الكلامية المعبّر عنها بالوجود الرابط.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من ان الحكم تارة يكون مؤدّى الاسم ، مثل كلمة : « يجب » ونحوها. وأخرى يكون مؤدى الحرف كهيئة : « أكرم ».

فعلى الأول : لا إشكال ، إذ مدلول الاسم مفهوم الوجوب.

واما على الثاني : فقد يشكل بان مدلول الحرف معنى جزئي فلا يستفاد منه تعليق سنخ الحكم. وأجاب عنه بما اختاره - في الواجب المشروط - من : ان المعلق على الشرط ليس مدلول الهيئة ، لأنه معنى حرفي غير قابل للتعليق ، وانما هو المادة المنتسبة إلى الوجوب. وعليه فيكون المعلق في الحقيقة هو الوجوب العارض للمادة وعند انتفاء الشرط يكون مرتفعا عنها. غاية الأمر ان المعلق في هذا القسم حقيقة الوجوب. وفي القسم الأول المفهوم باعتبار فنائه في الحقيقة (2).

وفيه : - مع غض النّظر عما أفاده من رجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، وما فيه من الإشكال ، وقد تقدم في مبحث الواجب المشروط - ان غاية ما انتهى إليه

ص: 239


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /199- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 420 - الطبعة الأولى.

هو تعليق الوجوب العارض للمادة ، وهذا لا ينتهي إلى تعليق سنخ الوجوب ، بل هو لازم أعم لتعليق طبيعة الوجوب وشخصه. فأي طريق لإثبات تعليق الطبيعة ، ومن أي شيء استفادة ذلك؟

الثالث : ما أفاده السيد الخوئي في حاشيته في أجود التقريرات من : ان حقيقة إنشاء الوجوب عبارة عن إظهار اعتبار كون فعل ما على ذمة المكلف ، فإذا كان المعتبر بالاعتبار المزبور معلقا على وجود شيء مثلا استلزم ذلك انتفاءه بانتفائه ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الاعتبار مستفادا من الهيئة وان يكون مستفادا من المادة المستعملة في المفهوم الاسمي باعتبار فنائه في معنونه (1).

وبالجملة : فهو يرجع القيد إلى المعتبر لا الاعتبار - والمفروض ان المعتبر مفهوم الحكم لا حقيقته ، إذ الاعتبار يرد على المفاهيم لا على الوجودات -. وهذا امر التزم بنظيره المحقق الإيرواني في بيع الفضولي بعد الإجازة ، فادعى ان اعتبار الملكية من حين الإجازة ، لكن المعتبر هو الملكية من حين العقد وهو المعبر عنه بالكشف الحكمي. فالتفكيك بين الاعتبار والمعتبر مما التزم به الإيرواني وتبعه عليه السيد الخوئي.

ولكن ما ذكره السيد الخوئي هنا لا يمكننا الالتزام به - مع غض النّظر عن صحة تقييد المعتبر بقيد غير فعلي أو تعليقه عليه مع كون الاعتبار فعلا وعدم صحته ، فتحقيقه له مجال آخر - لأن المعتبر المعلق على الشرط اما مفهوم الحكم أو وجوده ، يعني ان الاعتبار اما ان يكون واردا على مفهوم الحكم المعلق على الشرط أو يكون واردا على وجوده المعلق على الشرط.

فعلى الأول : ففيه : مضافا إلى عدم تصور تعليق المفهوم على شيء ، إذ التعليق بلحاظ وجود الشيء لا بلحاظ ذات الشيء ، ان اعتبار المفهوم المعلق

ص: 240


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 420 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.

على شيء لا ينافي تحقق اعتبار آخر للمفهوم بدون تعليق أصلا ، فان مفاد الكلام ليس إلاّ ان المفهوم المعلق على الشرط الخاصّ والّذي لا يعلق على غيره - كما هو مفاد الانحصار - قد تعلق به اعتبار المولى ، وذلك لا ينافي تعلق اعتبار المولى بالمفهوم غير المعلق على شيء أصلا ، فلا يلازم ما ذكر ثبوت المفهوم.

وعلى الثاني : ففيه : ان الأمور الاعتبارية لا وجود لها إلاّ بالاعتبار ، وبدونه لا ثبوت لها ، والأحكام من الأمور الاعتبارية فوجودها يتقوم بالاعتبار ، وعليه فنقول : لا معنى للاعتبار الفعلي للحكم المعلق وجوده على الشرط ، إذ اعتبار الحكم فعلا يعني وجوده فعلا وهو يناقض تعليق وجوده على وجود الشرط. فلا يتصور لما أفاده السيد الخوئي معنى معقول.

والتحقيق ان يقال : انه بناء على ما ذكرناه من استفادة المفهوم من الإطلاق المقامي وغلبة استعمال القضايا الشرطية في بيان ما هو الشرط بحيث يفهم منها المفهوم عرفا لا نحتاج لإتعاب النّفس في بيان طريقة إفادة سنخ الحكم وكيفية إثباته ، فنفس الإطلاق المقامي يكفينا عن ذلك ، لأن ظهور الجمل الشرطية في المفهوم عرفا المستند إلى الإطلاق المقامي يكشف عن ان المتكلّم في مقام بيان ما هو الشرط لسنخ الحكم ، فاكتفاؤه في هذا المقام بالجملة الشرطية يكشف عن ان الشرط لسنخ الحكم لبا ليس إلاّ الشرط المذكور في الكلام ، ولا يهمنا بعد ذلك عن تحقيق كون المستعمل فيه الهيئة كليا أو جزئيا. فتدبر جيدا وافهم.

اما الحكم المعلق بالنحو الّذي تعلقه المحقق الأصفهاني وهو شخص الوجوب بما هو وجوب لا بما هو شخص ، فقد ذكر قدس سره ان طريق إثباته هو بيان انحصار الشرط ، إذ لو لا كون المعلق هذا المعنى لم يكن وجه لبيان الانحصار لأن انتفاء شخص الحكم بما هو شخص بانتفاء الشرط عقلي

ص: 241

ولو لم يكن منحصرا (1).

وهذا البيان انما يتم لو فرض عدم تعقل معنى للسنخ كما فرض هو قدس سره . اما بناء على تعقل معنى للسنخ يمكن ان يكون مرادا فلا يتم ما أفاده ، إذ كما تتلاءم إفادة الانحصار مع تعليق الشخص بما هو وجوب تتلاءم مع تعليق السنخ أيضا ، فتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل آخر. فتدبر.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من ان انتفاء الحكم عن غير مورد الشرط في الأوقاف ونحوها ليس من المفهوم ، ردّا على الشهيد في تمهيد القواعد (2) حيث ذهب إلى انه لا إشكال في دلالة القضية في تلك الموارد على المفهوم ، وذكر في وجه عدم كونه من المفهوم ، ان انتفاء الحكم من جهة ان الشيء إذا صار وقفا على أحد لا يقبل ان يصير وقفا على غيره ، وانتفاء شخص الوقف عن غير مورد المتعلق عقلي كما عرفت.

فهو لا يخلو عن إشكال وبحث. بيان ذلك : ان لانحصار الشرط أثرين : أحدهما : عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند وجود الشرط. والآخر : عدم ثبوته على غير الشرط عند انعدامه. ففي المورد المذكور لا أثر لانحصار الشرط وعدمه بالنسبة إلى حال وجوده لامتناع صيرورة الوقف على أحد وقفا على غيره في فرض وجوده. اما بالنسبة إلى حال عدمه فله أثر لعدم امتناع وقف الموقوف على أحد على غيره بنحو الطولية وفي فرض عدمه ، فلا وجه لإنكار البحث في المفهوم في مثل المقام بعد تصور ثبوت الوقف على غير مورد الشرط عند انتفاء مورد الشرط. فالتفت وتدبّر.

التنبيه الثاني : ذكر المحقق النائيني ان الشرط كلّما تعددت قيوده اتّسعت

ص: 242


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 323 - الطبعة الأولى.
2- العاملي زين الدين. تمهيد القواعد / 14 قاعدة الخامس والعشرون الطبعة الحجرية.

دائرة المفهوم ، لأن انتفاء أحد القيود يكفي في انتفاء الجزاء ، فلو قال المولى : « إذا جاء زيد وأكرمك فأكرمه » كان مقتضاه انتفاء وجوب الإكرام بانتفاء مجيء زيد وبانتفاء إكرامه مع تحقق مجيئه. بخلاف ما لو قال : « إذا جاء زيد فأكرمه » فان مقتضاه انتفاء الوجوب عند انتفاء المجيء فقط.

وهذا لا كلام فيه ، انما الإشكال فيما إذا كان الجزاء عاما ومتعددا ، فهل يقتضي انتفاء الشرط انتفاء الجزاء بنحو الاستغراق أو بنحو المجموع؟ مثلا في القضية المشهورة « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء » هل مقتضى المفهوم هو انه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه كل شيء بنحو الموجبة الكلية أو ينجسه شيء ما بنحو الموجبة الجزئية؟.

وقد ادعى ان المفهوم في مثل ذلك موجبة جزئية ، لأن نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية ، والمفهوم عبارة عن ارتفاع الجزاء وارتفاعه يكون بنقيضه.

ولكن هذا غير صحيح ، لأن دعوى ان نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية انما هي للمنطقيين ، وقد قيلت بلحاظ جعل ضابط عام للنقيض ، وهو لا يرتبط بشأن الأصولي والفقيه من ملاحظة ظاهر الكلام وما يدل عليه اللفظ.

وعليه ، فالتحقيق ان يقال : ان الحكم الثابت في الجزاء وان كان ثابتا بنحو الاستغراق ، إلاّ ان المعلق على الشرط تارة يكون عموم الحكم ، بمعنى ان المعلق مجموع الأحكام الثابتة في الجزاء ، وأخرى الحكم العام ، بمعنى ان المعلق كل حكم حكم. فعلى الأول : لا يستلزم انتفاء الشرط سوى انتفاء مجموع الأحكام ، فيكون المفهوم بنحو الموجبة الجزئية. وعلى الثاني : يكون المفهوم موجبة كلية لانتفاء كل حكم حكم سلبي كان ثابتا في الجزاء.

هذا بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الإثبات : فتارة يكون الدال على العموم من الأسماء مثل : « كل ». وأخرى يكون العموم مدلولا للحرف أو سياق الكلام كالنكرة

ص: 243

الواقعة في سياق النفي.

فعلى الأول : يكون تعليق كل من عموم الحكم أو الحكم العام ممكنا وتعيين أحدهما يتوقف على قرينة خارجية.

وعلى الثاني : يتعين تعليق الحكم العام ولا يمكن تعليق العموم لأنه مدلول الحروف وهو غير قابل للتعليق.

وعليه ، فالقضية المشهورة مفهومها موجبة كلية ، لأن العموم مفاد السياق لا الاسم ، فمفهوم قوله علیه السلام : « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء » « الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينجسه كل شيء ».

هذا مع ان البحث في كون المفهوم لهذه القضية موجبة كلية أو جزئية لغو ، لأنه إذا كانت جزئية ثبت تنجس الماء بجميع النجاسات لعدم القول بالفصل فلا أثر لكلية المفهوم.

وربما يقال : يكفي في تصحيح البحث ثبوت الأثر بالنسبة إلى المتنجسات ، إذ ليس هناك قول بعدم الفصل بين النجس والمتنجس ، فلو كان المفهوم كليا ظهر الأثر.

ويدفع : بان المراد بلفظ : « شيء » في الرواية ليس مطلق الشيء ، بل ما من شأنه التنجيس ، فان لم يقم دليل على ان المتنجس ينجس لم يكن المتنجس مشمولا للمنطوق فضلا عن المفهوم ، وان قام دليل على انه ينجس كفانا هذا الدليل لإثبات منجسيّته للقليل من الماء من دون احتياج إلى المفهوم. هذا تمام ما أفاده المحقق النائيني (1).

والكلام معه في امرين :

الأول : ما ذكره بالنسبة إلى قضية « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجسه شيء » ،

ص: 244


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 420 - الطبعة الأولى.

فان هذه القضية ونحوها من القضايا السالبة انما تستعمل في نفي خصوص المرتبة العليا ، ويفهم انتفاء غيرها بالأولوية ، فمثلا لو قال القائل : « هذا المحموم لا يفيده أي شيء من الدواء » ، انما ينظر في نفيه إلى المرتبة العليا من الدواء المؤثر وهكذا سائر الأمثلة العرفية.

وعليه ، فلا معنى لإيقاع البحث المزبور فيها من ان المعلق عموم الحكم أو الحكم العام ، إذ لم يتكفل الجزاء سوى نفي الحكم عن فرد واحد وهو المرتبة العليا من الافراد لا أكثر ، فلا موضوع للبحث المزبور بالمرة.

وبما ان المثال الفقهي الوحيد للبحث هو هذا المثال نستطيع ان نقول ان البحث لغو من أساسه كما لا يخفى.

الثاني : ما ذكره في دفع توهم ثبوت الثمرة للمفهوم بلحاظ المتنجس. فان المراد منه غير واضح.

فان كان مراده انه ان لم يكن دليل على منجسية المتنجس أصلا فلا يشمله المنطوق ، وان كان دليل يدل بإطلاقه على تنجيس المتنجس فهو يكفى في إثبات تنجيسه للماء القليل بلا حاجة إلى المفهوم.

ان كان مراده ذلك - كما قد يظهر من كلامه - فالإشكال فيه واضح لتصوّر شق ثالث وهو : قيام دليل على تنجيس المتنجس في الجملة بلا ان يكون له إطلاق ، فيكون مشمولا للمنطوق ، وحينئذ فان كان المفهوم موجبة كلية اقتضى منجسية المتنجس مطلقا وإلاّ فلا ، فالمفهوم - على هذا الاحتمال - يحتاج إليه في إثبات تنجيس المتنجس للماء القليل.

وان كان مراده انه إذا قام دليل على تنجيس المتنجس كان مشمولا للمنطوق ، فإذا كان المفهوم موجبة جزئية كان مفاده : ان الماء إذا لم يبلغ الكر ينجسه شيء ما من النجس والمتنجس ، وإذا ثبت تنجيس المتنجس في الجملة يثبت تنجيسه مطلقا بعدم القول بالفصل كما قيل في النجس فلا فائدة في إثبات

ص: 245

كلية المفهوم.

إذا كان مراده ذلك ففيه : ان المفهوم إذا كان موجبة جزئية كان مقتضاه ان الماء القليل ينجسه شيء ما بنحو الإهمال - ولا تصريح فيه بأنه شيء من النجس وشيء من المتنجس كما لا يخفى - والقدر المتيقن منه تنجيس النجس في الجملة فيثبت تنجيس النجس مطلقا بعدم القول بالفصل.

اما المتنجس فهو غير متيقن فلا موضوع لعدم القول بالفصل فيه.

وجملة القول : ان البحث في كلية المفهوم وجزئيته تظهر فائدته في تنجيس المتنجس وعدمه ، فما ذكره قدس سره من عدم الثمرة فيه أصلا غير وجيه. فالتفت.

وقد أورد على النائيني فيما أفاده من : ان المعلق تارة يكون عموم الحكم وأخرى الحكم العام واختلاف مقام الإثبات في ذلك ، بأنه غير صحيح ولا موضوع له ، لأن المستفاد من القضية الشرطية انما هو تعليق مدلول التالي بمدلول المقدم ، ومدلول التالي في محل البحث امر واحد وهو الحكم المجعول على الطبيعة السارية ، وان كان المجعول بحسب اللب متعددا بحسب تعدد الموضوع لكنه بحسب مقام الإثبات امر واحد ، والمناط هو الوحدة والتعدد بحسب هذا المقام لا مقام اللب ، فانه لا تأثير له في كيفية استفادة المفهوم من الكلام. وعليه ، فإذا فرض وحدة الحكم إثباتا وكان هو المعلق على الشرط كان مقتضى التعليق انتفاء الحكم عن الطبيعة السارية عند انتفاء الشرط ، وهو يتحقق بانتفائه عن بعض الافراد ولا يتوقف على انتفاء الحكم عن جميع الافراد ، فلنا ان نقول ان مفهوم السالبة الكلية موجبة جزئية (1).

وفيه :

ص: 246


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 420 - هامش رقم (2) الطبعة الأولى.

أولا : ما سيأتي في مبحث العموم والخصوص ومبحث المطلق والمقيد من : ان الاستغراق بنفسه يكون مدلول الكلام ومرادا من اللفظ اما وضعا أو بمعونة مقدمات الحكمة أو غيرهما ، لا انه امر لبّي فقط ، وهذا واضح لا غبار عليه والعجيب منه كيف التزم بخلافه.

وثانيا : انه لا يتصور معنى صحيح للطبيعة السارية في قبال مطلق الوجودات والوجود الخاصّ وصرف الوجود ، فان الإهمال في مقام الثبوت ممتنع كما قرر مرارا وتكرارا.

وبالجملة فما ذكره السيد الخوئي لا محصل له.

التنبيه الثالث : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء. ويمثل له بقوله علیه السلام : « إذا خفي الأذان فقصر » و « إذا خفي الجدران فقصر » فبناء على الالتزام بالمفهوم يقع التعارض بين مفهوم كل منهما ومنطوق الأخرى ، لأن مفهوم كل منهما ينفى وجوب القصر بانتفاء الشرط المذكور في المنطوق ، ومنطوق الأخرى يثبت وجوبه بتحقق الشرط الآخر المذكور فيه.

وقد ذكر في رفع التعارض وجوه. عدّها في الكفاية خمسة :

الأول : الالتزام بتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى ، إذ النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق (1).

الثاني : الالتزام بعدم المفهوم في كل منهما ، فلا تدل كل جملة الا على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ، وهو لا ينافي ثبوته عند ثبوت الآخر.

الثالث : الالتزام بتقييد إطلاق الشرط المقابل للعطف بالواو في كل منهما بالآخر ، فيكون الشرط هو المركب منهما ، لا كل منهما مستقلا.

الرابع : الالتزام بان المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كل منهما بعنوانه ،

ص: 247


1- بل النسبة هي العموم من وجه ، لأن المنطوق يشمل صورة المفهوم للآخر وعدمه ، ولعل هذا هو الوجه في الاحتمال الثالث. ( منه عفي عنه ).

بل كل منهما بما هو فرد الجامع.

الخامس : رفع اليد عن المفهوم في أحدهما.

وقد رجح صاحب الكفاية الوجه الثاني ، بلحاظ النّظر العرفي ، فذهب إلى ان العرف يساعد عليه. ورجح الرابع بحسب النّظر الدّقي العقلي ، فذهب إلى ان العقل يعينه لاستحالة تأثير المتعدد بما هو متعدد في واحد ، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثر ، وهو يقتضي ان يكون المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كلا منهما بنفسه لامتناعه عقلا بمقتضى قانون السنخية بين العلة والمعلول (1).

والتحقيق ان يقال : ان طريق الجمع بين الدليلين يختلف بحسب اختلاف طريق إثبات المفهوم.

فان التزمنا بالمفهوم من طريق الإطلاق المقامي ، وكون المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط ، تعين رفع اليد عن المفهوم في كل منهما ، لأن ذكر الشرط الآخر يكشف عن عدم كونه في مقام بيان ما هو الشرط ، فينتفي الإطلاق الّذي هو مستند المفهوم فلا يثبت المفهوم.

وهكذا الحال لو التزمنا بالمفهوم من طريق كون الجملة الشرطية ظاهرة في تعليق الجزاء على الشرط الملازم للانحصار ، لأن تعدد الشرط يكشف عن عدم استعمال الأداة أو الهيئة في التعليق لمنافاته لتعدد الشرط.

وان التزمنا بالمفهوم من طريق الإطلاق اللفظي بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة ، تعين رفع اليد عن إطلاق المفهوم لا نفس المفهوم ، لأن تعدد الشرط لا يخلّ بانعقاد الإطلاق لفظا وانما يكشف عن انه غير مطابق للمراد الجدّي ، فيقيد إطلاق كل منهما المقتضي للمفهوم بالشرط الآخر ، ويبقى على حاله في غير مورده كسائر موارد المطلق والمقيد.

ص: 248


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /201- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ومن هنا ظهر انه لا وجه لما ذكره صاحب الكفاية - بقول مطلق - من ان العرف يساعد على الوجه الثاني ، إذ عرفت انه متعين على تقدير دون آخر.

واما الوجه الثالث : فلا طريق إلى إثباته أصلا ، ولأجل وضوح بطلانه لم يتعرض صاحب الكفاية لنفيه.

وذلك : لأن قواعد المعارضة والجمع الدلالي بين المتعارضين هو التصرف في مركز المعارضة ومحطها من الظهور. ومن الواضح ان التعارض بين مفهوم كل منهما ومنطوق الآخر اما ظهور كل منهما في الاستقلال فليس محط المعارضة ، وان كان رفع اليد عنه موجبا لارتفاع المعارضة ، لكن لا تنتهي النوبة إليه ما دام يمكن الجمع والتصرف في مورد التعارض ، ولذا لا يتوهم أحد مع إمكان الجمع الدلالي التصرف في أحد المتعارضين من حيث الجهة أو السند مع انه يرفع التعارض. فالجمع بالوجه الثالث جمع تبرعي.

وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق النائيني قدس سره في المقام من الإشكال فانه قدس سره ذكر - بعد بيان موضوع الكلام - ان الأمر يدور بين رفع اليد عن إطلاق الشرط المقابل للعطف بأو وتقييده ورفع اليد عن إطلاقه المقابل للعطف بالواو ، وحيث لا معين لأحد التقييدين كان مقتضى العلم الإجمالي سقوط كل من الإطلاقين عن الحجية ، ونتيجة ذلك عدم ترتب الجزاء الا عند حصول كلا الشرطين ، لعدم العلم بترتبه بحصول أحدهما والأصل ينفيه ، فنتيجة الأصل العملي هو تقييد الإطلاق المقابل للعطف بالواو وكون الشرط هو كلا الأمرين (1).

ووجه الإشكال فيه : ما عرفت من ان الجمع الدلالي انما يكون في مورد التعارض فلا يدور الأمر بين الإطلاقين ، بل يتعين التصرف بالإطلاق المقابل

ص: 249


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 424 - الطبعة الأولى.

للعطف ب- « أو ».

وبتعبير آخر : إطلاق كل من الشرطين المقتضي لاستقلالهما في التأثير ليس مورد التعارض ، بل هو منشأ التعارض كالدليل الدال على حجية الخبر ، وهو لا يسوغ التصرف فيه مع إمكان الجمع في مورد المعارضة.

واما الوجه الرابع : فقد عرفت توجيهه في الكفاية. ويرد عليه :

أولا : انه انما يتم إذا كان المسبب واحدا شخصيا ، اما الواحد النوعيّ فلا مانع من تأثير المتعدد فيه ، فيجوز تأثير شرط في مسبب وتأثير غيره في فرد آخر كما نرى ذلك بالوجدان ، فان النار تؤثر في الحرارة كما ان الكهرباء يؤثر فيها.

وبالجملة : فبرهان السنخية انما يتم في الواحد الشخصي لا النوعيّ.

وثانيا : انه انما يجري في الأسباب والمسببات التكوينية التي يكون تأثيرها واقعيا ناشئا عن ربط خاص بين العلة والمعلول - وإلاّ لزم تأثير كل شيء في كل شيء - ، لا الأسباب الشرعية التي هي في الحقيقة تنتزع عن ترتب تحقق شيء على وجود آخر بلا ان يكون للسبب تأثير في المسبب نحو تأثير العلة في المعلول. فلا مانع من اعتبار شيء واحد مرتبا على أحد شيئين.

واما الوجه الخامس : فهو لا يرفع التنافي ، إذ التنافي بين منطوق كل منهما ومفهوم الآخر ، فمع رفع اليد عن مفهوم أحدهما يبقى التنافي بين منطوقه ومفهوم الآخر على حاله. وقد ذكر المحقق الأصفهانيّ انه ضرب عليه خط المحو في النسخ المصححة (1) ، ولعل الوجه فيه ما عرفت.

نعم ، لو حمل أحدهما على المعرفية لا على التأثير بنفسه وعنوانه ارتفع التنافي ، ولكنه يعيّن طرح أحد الدليلين منطوقا ومفهوما كما لا يخفى ، وهو مما يحتاج إلى دليل خاص ، ولعله إلى هذا المعنى نظر صاحب الكفاية.

ص: 250


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 324 - الطبعة الأولى.

والمتحصل : ان المتعين في طريق رفع التنافي ما عرفت دون غيره.

يبقى الكلام في بيان مقصود صاحب الكفاية مما ذكره من انه لا بد من المصير إلى ان الشرط في الحقيقة هو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم وبقاء إطلاق الشرط في كل منهما على حاله (1). فقد ذكر لها المحقق الأصفهاني معنيين ، واستشكل في كل منهما (2).

والّذي يبدو لنا ان معناها هو : ان الالتزام بكون الشرط هو الجامع يتوقف على امرين :

أحدهما : رفع اليد عن إطلاق المفهوم في كل منهما لأن البناء على بقاء إطلاق المفهوم على حاله في كل منهما يتنافى مع منطوق كل منهما الدال على ثبوت الجزاء بثبوت الشرط ، ولا يمكن الالتزام بهما معا.

ومن الواضح ان شرطية الجامع فرع ثبوت الجزاء عند ثبوت كل من الشرطين ، وهو لا يتحقق إلاّ برفع اليد عن المفهوم.

ثانيهما : الالتزام بشرطية كل منهما بنحو الاستقلال ، إذ لو كان الشرط هو المركب منهما وكان مجموع الأمرين لم يكن معنى لكون الشرط هو الجامع بينهما كما لا يخفى جدا.

وهذا المعنى وان استشكل فيه المحقق الأصفهاني ، لكن لا يهمنا التعرض إليه ودفعه وانما المقصود الإشارة إلى معنى العبارة فالتفت.

التنبيه الرابع : في البحث عن التداخل فيما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء.

وموضوع الكلام : ما إذا فرض ظهور الجملة في تأثير الشرط استقلالا وترتب الجزاء عليه عند حصوله.

وقد اختلف صاحب الكفاية والمحقق النائيني « قدس سره » في نحو تحرير

ص: 251


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /201- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 324 - الطبعة الأولى.

البحث. فقال صاحب الكفاية في مقام تحريره : « إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا إشكال على الوجه الثالث - ويقصد به الالتزام بان المؤثر مجموع الأمرين - واما على سائر الوجوه فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشروط أو يتداخل ويكتفي بإتيانه واحدة؟ » (1). فقد أخذ رحمه اللّه موضوع الكلام لزوم الإتيان بالجزاء متعددا أولا ، فالقول بتأكد الحكم بتعدد الشرط من أقوال التداخل بنظره قدس سره ، بل صرح بذلك في عدّة منها (2). وقد حرّره المحقق النائيني بنحو جعل موضوع الكلام تعدد الأثر في صورة تعدد الشرط ووحدته. وعليه فيكون القول بالتأكد قولا بعدم التداخل لتعدد الأثر (3).

وعلى كل حال فالامر سهل في هذا الأمر ، إذ كون القول بالتأكد من التداخل أو غيره لا يؤثر في دعواها وما هو أثرها. وانما يقع الكلام في ما هو المهم من التداخل وعدمه. والكلام في مقامين :

المقام الأول : في تداخل الأسباب ويقصد به ان مقتضى القاعدة في مورد تعدد الشرط هل هو تعدد الجزاء أو عدم تعدده؟.

المقام الثاني : في تداخل المسبّبات ويقصد به انه لو ثبت تعدد الجزاء فهل مقتضى القاعدة تحقق امتثال الجميع - مع الاشتراك في الاسم - بواحد أو لا يتحقق إلاّ بالإتيان بالمتعلق بعدد افراد الحكم؟.

ولم يتعرض صاحب الكفاية إلى هذا التفصيل بل خلط في بحثه كلا المقامين.

اما تداخل الأسباب : فقد اختار صاحب الكفاية عدمه ولزوم الإتيان بالجزاء متعددا.

ص: 252


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /202- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /203- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 426 - الطبعة الأولى.

وقد وجهه : - بعد ما بين توجيه القول بالتداخل بوجوه ثلاثة حكم بأنها خلاف الظاهر ولا دليل على أحدها - بان ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط ، إذ وحدته تنافي ظهورها في الحدوث عند الحدوث ، لأن وحدة الجزاء تكشف عن عدم ذلك. كما ان ظهور الجزاء في وحدة المتعلق يقتضي وحدة الحكم عند تعدد الشرط لاستحالة تعلق الحكمين بطبيعة واحدة لاستلزامه اجتماع المثلين وهو محال ، كاجتماع الضدين.

وبالجملة : فالقضية الشرطية تشتمل على ظهورين :

أحدهما : يقتضي تعدد الحكم في الجزاء.

ثانيهما : يقتضي وحدته ، لكن ما يقتضي الوحدة ظهور إطلاقي وهو إطلاق المتعلق وسرايته لأي فرد ولو كان الفرد الّذي يقع امتثالا للحكم الآخر. وبما انه معلق على عدم البيان ، وكان ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث صالحا لأن يكون بيانا لما هو المراد من المطلق - لأنه ظهور وضعي غير معلق على شيء - ، لم ينعقد للمطلق ظهور في الإطلاق بواسطة الظهور الآخر الوضعي ، بل كان الظهور في الحدوث عند الحدوث كاشفا عن كون الحكم متعلقا بفرد آخر غير المطلوب بالحكم الآخر ، فيكون حاكما علي الظهور الإطلاقي ورافعا لموضوعه.

وبذلك ذكر ان الالتزام بعدم التداخل لا يستلزم تصرفا في الظاهر ، بل هو مقتضى الالتزام بالظاهر بخلاف القول بالتداخل (1).

وقد وافق المحقق النائيني رحمه اللّه صاحب الكفاية في اختيار عدم التداخل ، لكن خالفه بالدليل عليه. فقد قرّب رحمه اللّه دعواه بنحو آخر.

ص: 253


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /202- 204 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فذكر أولا : ان القضية الشرطية ترجع إلى قضية حقيقة حملية موضوعها الشرط ومحمولها الجزاء ، كما ان القضية الحقيقة ترجع إلى قضية شرطية مقدمها الموضوع وتاليها المحمول ، فهما حقيقة قضية واحدة. وعليه فكما ان الحكم في القضية الحملية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه كذلك يكون الانحلال في القضية الشرطية فيتعدد الحكم بتعدد افراد الشرط ووجوداته ، واما تعدده بتعدد الشرط ماهية فهو يستفاد من ظهور إطلاق القضية في الاستقلال.

وبعد ذلك ذكر ان الطلب المتعلق بالماهية لا يقتضي إلاّ إيجاد متعلقه خارجا ونقض عدمه المطلق ، وبما ان نقض العدم المطلق يصدق على أول وجود من الطبيعة كان مجزيا عقلا.

واما كون متعلق الطلب صرف الوجود ، فليس هو مدلولا لفظيا لصيغة الأمر لا مادة ولا هيئة ، إذ المادة لم توضع الا إلى الماهية ، والهيئة لا تدل الا على طلب إيجادها ، وهو يصدق قهرا على أول الوجود ، وذلك لا يقضي كون مطلوبية صرف الوجود مدلول الكلام.

وعليه ، فإذا كان مقتضى الطلب إيجاد الطبيعة ونقض عدمها ، فإذا تعلق طلبان بماهية كان مقتضى كل منهما إيجاد ناقض للعدم ، فمقتضى الطلبين إيجاد ناقضين للعدم ، نظير ما إذا تعلقت الإرادة التكوينية بشيء واحد مرتين ، فان مقتضاها تحقق وجودين منه.

واما وحدة الطلب وتعدده ، فهو مما لا يتكفله الطلب المتعلق بالمادة ، بل هو ينتج عن عدم ما يقتضي التعدد لا عن ظهور اللفظ في الوحدة ، فإذا فرض ظهور الجملة في الانحلال وتعدد الطلب كان هذا الظهور مقتضيا للتعدد فيرتفع موضوع وحدة الطلب ، وهو عدم المقتضي للتعدد ، ولو سلم ظهور الجزاء في وحدة الطلب ، فهو ناتج عن عدم المقتضي للتعدد ، وبما ان ظهور الجملة الشرطية في التعدد لفظي كان حاكما على ظهور الجزاء في الوحدة لرفعه موضوعه وهو عدم

ص: 254

المقتضي للتعدد.

هذا خلاصة ما أفاده قدس سره مما يرتبط بما نحن بصدده (1).

ولكنه غير خال عن المناقشات من جهات عديدة :

الأولى : ما ذكره من رجوع القضية الشرطية إلى قضية حملية حقيقية.

فانه لا يرتبط بتحقيق عدم التداخل ، وانما هو بيان لصغرى البحث ، وهي صورة تعدد الشرط ، فجعله من مقدمات تحقيق البحث لا يخلو عن مسامحة. هذا مع ما في نفس البيان من الإشكال كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

الثانية : ما ذكره من ان مقتضى الطلب إيجاد متعلقه خارجا ونقض عدمه المطلق.

فانه يرد عليه : بان الإطلاق الوارد في التعبير اما ان يكون قيد العدم ، فيكون مقتضى الطلب نقض العدم المطلق ، فمتعلق النقض العدم المطلق ، واما ان يكون قيد الوجود ، فيكون مقتضى الطلب الإيجاد المطلق الناقض للعدم.

فان كان قيد العدم ، فالمقصود من العدم المطلق ان كان جميع الاعدام ، فالوجود المطلوب لا ينقضها ، لأن كل وجود نقيض عدمه البديل له لا غير ، وان كان استمرار العدم ، فهو يرجع إلى صرف الوجود الّذي نفي اقتضاء الطلب له. هذا مع ان مطلوبية صرف الوجود من الممكن ان تثبت بلحاظ ان متعلق الغرض يتحقق به ، فيكون صرف الوجود فقط محبوبا أو مبغوضا ، فلو سلمت إثباتا فهي بلحاظ وجود قرينة عقلية خاصة أو عامة ونحوها على ذلك ، لا من جهة ان نفس الطلب يقتضي ذلك كما هو لازم كلامه قدس سره فنفس الطلب لا يقتضي شيئا من ذلك أصلا.

وان كان قيد الوجود بمعنى ان مقتضى الطلب هو وجود الطبيعة المطلق

ص: 255


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 428 - الطبعة الأولى.

غير المقيد بالوحدة والتعدد ، فلازمه عدم تحقق الامتثال بواحد ، إذ كل ما يتصور من الافراد يكون محققا للمأمور به ومصداقا له ، ويصدق عليه انه وجود الطبيعة ، فيكون مطلوبا ولا يتحقق الامتثال بدونه.

الثالثة : ما ذكره من ان تعدد الطلب يقتضي إيجاد ناقضين للعدم.

فانه أول الكلام ، ومما يحتاج إلى دليل ، إذ ظاهر الجملة وحدة المتعلق ، فما هو الدليل على إرادة إيجاد ناقضين لا على كون التعدد لتأكيد الطلب؟. فلا ظهور لتعدد الطلب في نفسه في ذلك.

الرابعة : ما يظهر من كلامه من ان متعلق الطلب نفس الماهية والإيجاد انما يكون من مقتضيات الطلب لا أنه مأخوذ في مرحلة سابقة عليه.

فانه يرد عليه : ما مرّ في مبحث تعلق الأمر بالطبائع من ان الماهية بما هي غير متعلقة للطلب ، بل أخذ وجودها في متعلقه ، فراجع.

الخامسة : ما يظهر من كلامه من عدم أخذ صرف الوجود في متعلق الطلب وانما هو أمر قهري.

فانه يرد عليه : ان متعلق الطلب يمتنع ان يكون هو الوجود المطلق بلا تعيين نحو خاص من أنحائه لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. فلا بد اما ان يكون المطلوب جميع الوجودات أو مجموعها أو صرف الوجود بمعناها الأصولي ، وهو الناقض للعدم المستمر المنطبق على أول الوجود.

وقد ثبت ان المأخوذ في متعلقات الأوامر ليس الجميع ولا المجموع فيتعين ان يكون صرف الوجود.

السادسة : ما يظهر من كلامه من تشكيل المعارضة بين ظهور الجملة في تعدد الطلب وظهور الطلب في الجزاء في الوحدة ، وترجيحه الظهور الأول لارتفاع موضوع الثاني به.

فانه عجيب منه قدس سره ، إذ منشأ توهم التداخل هو ظهور الكلام

ص: 256

في وحدة متعلق الحكمين المانع من تعددهما ، لاستحالة اجتماع المثلين ، كما قرره قدس سره في صدر البحث ، فالمعارضة بين ظهور الجملتين في تعدد الطلب وظهور الكلام في وحدة المتعلق المنافي لتعدد الطلب.

ولم يتوهم متوهم ان طرف المعارضة هو ظهور الجزاء في وحدة الطلب ، كي يدفع : بأنه ناتج عن عدم المقتضي للتعدد ، والمفروض انه موجود فيما نحن فيه ، لظهور الجملة في الانحلال وتعدد الطلب ، إذ لا وجه لتوهم ان وجود طلب ينافى وجود غيره. فما أفاده غريب جدا ولا نعلم له وجها وجيها.

اذن فما ذكره في وجه عدم التداخل لا يمكننا الالتزام به.

فالوجه المتجه هو ما أفاده صاحب الكفاية وقد مر ذكره.

وعليه ، فالحق عدم تداخل الأسباب ، وكون تعددها مقتضيا لتعدد المسبب. وينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : ذكر صاحب الكفاية في آخر كلامه : ان بحث التداخل وعدمه انما يتأتى في المورد القابل للتعدد نظير الوضوء والصلاة وغيرهما. اما المورد غير القابل للتعدد فلا يجري فيه بحث التداخل وعدمه ، بل لا إشكال في التداخل ، نظير القتل فانه إذا اجتمع سببان للقتل لا يتعدد الحكم لعدم قابلية متعلقه للتعدد كما لا يخفى (1).

ولكن المحقق النائيني ذهب إلى دخول صورة منه في محل الكلام ببيان :

ان ما لا يقبل التعدد ..

تارة : يكون الحكم فيه قابلا للتقييد نظير القتل المسبب وجوبه عن حق الناس ، كالواجب لأجل القصاص ، فانه وان لم يكن متعددا خارجا لكن وجوبه مقيد بكل واحد من السببين ، فلو ارتفع أحد السببين - كما لو عفا أولياء أحد

ص: 257


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /206- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المقتولين - يبقى الوجوب على حاله لثبوت السبب الآخر ونظير الخيار المسبب عن امرين ، فلو سقط أحدهما عن السببية بقي الآخر مؤثرا.

وأخرى : لا يكون الحكم فيه قابلا للتقييد ، كوجوب القتل الناشئ عن غير حق الناس كالارتداد ، إذ حكم اللّه وحقه لا يمكن العفو عنه.

فالتزم قدس سره بدخول النحو الأول في محل الكلام ، وانه بناء على عدم التداخل يتقيد الجزاء بكل واحد من السببين ، فيؤثر أحدهما عند ارتفاع الآخر (1).

والحق ان ما أفاده غير وجيه : وذلك ، لأن قياس باب وجوب القتل على باب الخيار قياس مع الفارق ، إذ لا محذور في تعدد جعل حق الخيار - بعد كونه امرا اعتباريا خفيف المئونة - سوى انه لغو محض ، إذ الأثر يترتب على الخيار المجعول أوّلا ، فيتفصّى عن إشكال اللغوية بان الأثر للتعدد موجود ، وهو ما إذا ارتفع أحد السببين للخيار بإسقاط أو معارضة ، فانه بناء على التعدد يبقى حق الخيار ثابتا لسببية السبب الآخر. وهذا المقدار من الأثر يكفي في تصحيح جعل الخيار متعددا.

وليس الأمر في باب الأحكام التكليفية ذلك ، إذ محذور تعدد الحكمين هو اجتماع المثلين ، وهو مما لا يرتفع بالتقيد ، كما لا يخفى.

اذن فما اختاره صاحب الكفاية هو المتجه.

الأمر الثاني : قد عرفت ان الحق عدم التداخل في صورة تعدد الشرط ، وبما ان من الأمثلة المهمة لهذا البحث مسألة الوضوء وتعدد أسبابه ، فقد وقع الكلام في بيان الوجه للتداخل في باب الوضوء وسبب خروجه عن مقتضى القاعدة.

ص: 258


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 428 - الطبعة الأولى.

والّذي ذكره المحقق النائيني في المقام : ان سبب الوضوء هو الحدث ، وهو غير قابل للتعدد فمحققاته كثيرة كالبول والنوم والتغوط ، لكن ذلك لا يستلزم تعدد الحدث ، إذ لا معنى للحدث بعد الحدث ، فيكون المؤثر في تحقق الحدث من أسبابه هو أول وجود منها. فالتداخل في باب الوضوء منشؤه وحدة الشرط لعدم قابليته للتعدد وان تعددت أسبابه (1). وقد وافقه الفقيه الهمداني (2).

أقول : ان كانت دعوى عدم قابلية الحدث للتعدد ، لأجل انه مقتضى حكم العقل بذلك - كما هو ظاهر كلامه - ، فاندفاعها واضح جدا ، لأن الحدث من الأمور الاعتبارية فلا محذور في تعدده ، كما قيل به في باب الحدث الأكبر. وان كان لأجل استفادته من النصوص والأدلة ، فهو امر لا نسلم به ، إذ لا ظهور للروايات في نفي قابلية الحدث للتعدد.

فالتحقيق ان يقال : ان الاحتمالات في المجعول في باب الوضوء التي يختلف الأثر فيما نحن فيه باختلافها ثلاثة :

الأول : كون نفس هذه الأمور كالنوم والبول وغيرهما سببا لوجوب الوضوء ، وليس هناك سوى الوضوء ، وهو شرط الأعمال.

الثاني : ان الوضوء محقق للطهارة اما لكونهما من قبيل السبب والمسبب أو العنوان والمعنون. وكون هذه الأمور نواقض للطهارة وروافع لها ، فالمجعول هو الطهارة دون الحدث.

الثالث : كون هذه الأمور سببا لتحقق الحدث وهو يرتفع بالوضوء ، فليس المجعول سوى الحدث. اما الطهارة في عبارة عن امر عدمي وهو عدم الحدث.

والّذي يظهر من الروايات هو الاحتمال الثاني ، لظهور وجود امر مجعول

ص: 259


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 432 - الطبعة الأولى.
2- الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه /125- كتاب الطهارة - الطبعة الأولى.

مستمر ، وهو لا يمكن ان يكون الوضوء لأنه فعل متصرم. كما انه ليس للتعبير بسببية هذه الأمور للحدث عين ولا أثر في الروايات ، وانما هو وارد في لسان الفقهاء ، بل يظهر هو كون هذه الأمور نواقض للطهارة التي يعبر عنها بالوضوء في بعض الروايات.

وجملة القول : ان طاهر الأدلة سببية هذه الأمور لنقض الطهارة لا لتحقق الحدث.

وعليه ، فيظهر لنا وجه التداخل بوضوح ، إذ النقض لا يقبل التعدد ، فإذا حصل أول سبب كالنوم انتقضت الطهارة ، فيكون السبب الآخر بلا أثر لامتناع نقض المنقوض ، وهكذا الحال لو وجد فرد من نوع ثم وجد غيره منه كفر دين من البول ، فالوضوء انما يلزم من باب تحصيل الطهارة لانتقاضها بسبب من أسباب النقض ، والانتقاض غير قابل للتعدّد ، واما الأمثلة المشهورة من قولهم : « إذا بلت فتوضأ » ونحوه فلم ترد في لسان الشارع أصلا.

وهذا الوجه مما لا نعلم أحدا ذكره قبل الحين واللّه العالم.

الأمر الثالث : قد عرفت ان موضوع البحث صورة تعدد الشرط.

وقد ذكر المحقق النائيني رحمه اللّه في بيان الوجه في تعدد الشرط من جنس واحد : بان القضية الشرطية ترجع إلى قضية حقيقية ، فكما ان الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه كذلك الحال في القضية الشرطية ، فكل فرد من افراد الشرط المأخوذ في الكلام يكون موضوعا للحكم (1).

وما أفاده قدس سره لا يخلو عن مناقشة ، وذلك لأنه لو سلم ما ذكره من رجوع القضية الشرطية إلى قضية حقيقية ، فهو لا يلازم ما ذكره ، إذ ظهور القضية الحملية في الانحلال لم يكن لقرينة عامة بحيث تكون ملازمة للانحلال

ص: 260


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 428 - الطبعة الأولى.

مطلقا ويكون الانحلال من شئونها حتى يقال بأنه يثبت لما يرجع إلى القضية الحملية في الحقيقة واللبّ ، بل الاستغراق وغيره ما يستفاد من قرائن خاصة في كل مقام ، ولذا ذكر صاحب الكفاية ان مقتضى الإطلاق ليس الا كون المراد هو الطبيعة غير المقيدة اما إرادة جميع الافراد أو صرف الوجود ، فهو امر يستفاد من دليل آخر بحسب اختلاف المقامات (1).

وبالجملة : لا ينفع في إثبات الانحلال في القضية الشرطية كونها كالحملية في الحقيقة بعد ما لم يكن الانحلال من لوازم الحملية ، بل هو مقتضى قرائن خاصة قد لا تثبت في بعض المقامات.

وعليه ، فالمرجع في إثبات الانحلال وعدمه وأخذ الشرط بنحو الاستغراق أو غيره هو ملاحظة خصوصية المقام وما يقتضيه ، ولا ضابط لدينا في ذلك.

ولا بأس بالتعرض لما يقتضيه المقام بالنسبة إلى أسباب الوضوء ، كالبول والنوم ونحوهما ، فنقول : ان الظاهر أخذها بنحو صرف الوجود من جهة وبنحو الاستغراق من جهة أخرى.

بيان ذلك : انك قد عرفت ان هذه الأسباب ناقضة للطهارة والناقضية لا تقبل التعدد ، فكل ما يفرض للبول من افراد ناقضة للطهارة كانت ملحوظة بنحو الاستغراق ، اما غيرها من الافراد فالملحوظ صرف الوجود لامتناع تأثير غيره في النقض ، ففي مثل : « إذا بلت فتوضأ » ملحوظ بنحو صرف الوجود من جهة تحقق النقض بالبول ، بمعنى انه يتحقق بصرف الوجود ، وبنحو الاستغراق بالنسبة إلى ما يتحقق النقض ، بمعنى ان كل ما ينقض الطهارة يترتب عليه وجوب الوضوء ، فتدبر.

الأمر الرابع : ذهب الفخر وغيره - كما نسب إليه - إلى ابتناء القول

ص: 261


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /352- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالتداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات.

فعلى القول بأنها معرفات يلتزم بالتداخل. وعلى القول بأنها مؤثرات يلتزم بعدم التداخل (1).

والمراد بالمعرف أحد وجهين : اما معرف الحكم - كما صرح به المحقق النائيني (2) -. واما معرف الشرط الحقيقي - كما صرح به صاحب الكفاية وغيره (3) -.

ونحن نوقع الكلام على كلا الاحتمالين :

اما الالتزام بان الأسباب الشرعية معرفات الحكم ، فهو يتصور على وجهين كلاهما باطلان :

أحدهما : ان يكون الحكم المنشأ في القضية الشرطية حكما طريقيا أو ظاهريا موضوعه الشرط المأخوذ في الكلام ، ويكون المجموع سببا للعلم وكاشفا عن حكم واقعي مجعول على موضوع واقعي.

وبطلانه واضح ، لجهتين :

الأولى : ان هذا مما لا يلتزم به أحد ولا يتفوه به متفوه ، كيف؟ ولازمه الالتزام بعدم واقعية الأحكام في القضايا الشرطية وهي أكثر من ان تحصى.

الثانية : انه كرّ على ما فرّ منه ، إذ الشرط بذلك لا يخرج عن كونه مؤثرا في الحكم الطريقي ، فيعود المحذور ، إذ لازمه عدم التداخل عند تعدد الشرط ، والالتزام بتعدد الحكم الطريقي الملازم لتعدد الحكم الواقعي.

ثانيهما : ان يكون الإنشاء في القضية الشرطية في الحقيقة اخبارا عن الحكم الواقعي الثابت لموضوع واقعي.

وبطلانه واضح كسابقه ، إذ لازمه ان لا يكون هناك إنشاء في القضايا

ص: 262


1- نسب إليه المحقق الخراسانيّ كما في كفاية الأصول / 205 والمحقق كلانتري كما في مطارح الأنظار - 176.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 427 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /205- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشرعية ، وهو لا وجه له ، وتصرف في ظهور الكلام في الإنشاء بلا وجه.

وعليه ، فيمكننا القول بعدم صحة الالتزام بان الأسباب الشرعية معرفات الحكم ، إذ لا يتصور له معنى يمكن الالتزام به.

واما كونها معرفات للشرط الحقيقي الواقعي ، فهو يتصور على وجهين أيضا :

أحدهما : ان يكون الشرط المذكور في الكلام موضوعا للحكم المنشأ ، والمجموع طريق وكاشف عن حكم واقعي ثابت لموضوع واقعي.

وهذا الوجه باطل ، لما عرفت من انه يستلزم الالتزام بعدم واقعية الأحكام المنشأة في القضايا الشرطية.

مع ان لازمه ان يكون هناك جعل ومجعول واقعي وراء المجعول المنشأ ، فللحكم واقعان ومقامان ، وهو مما لا يلتزم به أحد حتى من يرى ان واقع الحكم هو الإرادة والكراهة ، لأن الإنشاء قوامه الإبراز والإظهار فما لم يبرز الواقع لا إنشاء ولا يتصور تحقق الجعل بدون الإنشاء.

ثانيهما : ان الشرائط المأخوذة في الكلام أخذت مرآتا وحاكيا عن الشرط الواقعي ، بان يكون الشرط الواقعي والدخيل في الحكم واقعا ما يلازم هذا الأمر فيؤخذ هذا الأمر عنوانا للشرط الواقعي.

وهذا المعنى معقول في نفسه ولا مانع من الالتزام به ، بل هو واقع في العرفيات ، كما لو أراد الحكم على موضوع واقعي وصعب تفهيمه للمخاطب بنفسه فيعلق الحكم على ما يلازمه من العناوين قاصدا الحكاية به عن الموضوع المجهول والوصول به إلى ثبوت الحكم لموضوعه الواقعي.

ومع الالتزام بان الشرائط الشرعية معرفات لشرائط الواقعية بهذا المعنى من أخذها عنوانا للشرط الواقعي المرتب عليه الحكم يتجه الالتزام بالتداخل ، إذ المفروض ان كلا من الشرطين مرآة وعنوان للشرط الواقعي ، ومن الممكن ان

ص: 263

يكون كلا منهما مرآة لما كان الآخر مرآة له ، إذ لا يمتنع ان يكون للشيء الواحد عنوانان ، فلا طريق لإثبات تعدد الشرط حقيقة ، واحتمال وحدته يكفي في الحكم بالتداخل بلا احتياج لإحرازها ، إذ الأصل العملي مع الشك ينفي تعدد الحكم.

وقد أشير إلى إثبات تعدد الشرط حقيقة ، ولو مع الالتزام بهذا الرّأي ، بوجوه :

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية من دلالة الجملة على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط ، وهو يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط (1).

وفيه : ان الجملة انما تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط الواقعي ، فإذا ثبت كون الشرط الواقعي غير المذكور في الكلام وان ما يترتب عليه الجزاء غيره ، وقد عرفت عدم امتناع وحدته واقعا ، ولو تعدد المعرف فلا دليل على تعدد الشرط الواقعي كي يتعدد الجزاء بتعدده بمقتضى الدلالة على الحدوث عند الحدوث.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني من ان ظاهر القضية الشرطية ترتب الجزاء على كل واحد من الشروط ، ومجرد كون الشرط معرفا وإمكان تعدده مع وحدة المعرَّف لا يكفي في رفع اليد عن هذا الظهور (2).

وفيه : ان مراده ان كان ما ذكره صاحب الكفاية فقد عرفت ما فيه. وان كان ما هو الظاهر من دلالة الجملة على الترتب ، فالإشكال فيه واضح ، إذ على هذا المبنى - أعني المعرفية - لا يلتزم بترتب الجزاء على الشرط المأخوذ في الكلام ، بل على غيره مما يكون هذا طريقا إليه ، وقد عرفت انه لا دليل على تعدده.

الثالث : ما ذكره الفقيه الهمداني من ان ظاهر كون الشرط معرفا هو

ص: 264


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /202- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 428 - الطبعة الأولى.

المعرفية الفعلية ، وعليه فيمتنع ان يكون كلا الشرطين - مع التعاقب - معرفا فعلا للحكم الواحد ، إذ لا معنى للعلم بالحكم ثانيا بعد تحقق العلم به أولا ، فلا بد من تعدد الحكم المعرف ، فتعدد المعرّف يستدعي تعدد المعرِّف (1).

وفيه : انه انما يتجه لو كان الجزاء هو العلم بالحكم لا نفسه ، وهو مما لا يلتزم به أحد لوضوح ان المعلق على الشرط في قول الآمر : « ان جاء زيد فأكرمه » نفس وجوب الإكرام لا العلم به.

وقد عرفت ان المراد بالمعرفية هو مرآتية الشرط الكلامي لما هو الشرط الواقعي ، وهذا لا ينافي تعدد المرآة مع وحدة المرآتي.

وجملة القول : ان الالتزام بالتداخل على هذا المبنى متجه ولا إشكال فيه بناء عليه ، لكن الإشكال في المبنى نفسه فانه لا وجه للالتزام بان الأسباب الشرعية معرفات ، وصرف الكلام عن ظاهره في كون الشرط المذكور فيه دخيلا في ترتب الحكم كالشرط المذكور في القضايا غير الشرعية فلاحظ وتدبر.

هذا تمام الكلام في المقام الأول ، وهو البحث في تداخل الأسباب. وقد عرفت ان الحق عدم التداخل.

ويقع الكلام بعد ذلك في تداخل المسببات ، والبحث يقع في صورتين :

الأولى : ما إذا كان متعلق الحكمين طبيعة واحدة.

الثانية : ما إذا كان متعلقهما طبيعتين متغايرتين ، كوجوب إكرام العالم ووجوب ضيافة الهاشمي.

اما الصورة الأولى : فلا وجه لتوهم التداخل فيها لما عرفت من انه لا يعقل تعلق حكمين بطبيعة واحدة ، وانه لا بد من حمل الكلام الظاهر في نفسه في ذلك على كون متعلق أحدهما فردا آخر غير ما امتثل به الآخر ، فكل من

ص: 265


1- الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه /127- كتاب الطهارة - الطبعة الأولى.

الحكمين يطلب به فرد غير ما يطلب بالحكم الآخر. وعليه فيمتنع الاكتفاء بفرد واحد ، وليس هو إلاّ نظير الاكتفاء عن نافلة المغرب بركعتين. وما ذكرناه واضح جدا ، ومعه لا وجه لبيان ان الأصل عدم التداخل - كما جاء في تقريرات النائيني (1) - ، إذ لا وجه له الا تخيل قيام الدليل في بعض الصور على الاكتفاء بفرد واحد في مقام امتثال الأمر المتعدد ، ولكن لو ثبت الدليل في بعض الموارد فهو يرجع في الحقيقة إلى بيان وحدة الحكم ، إذ تعدد الحكم وإرادة فردين خلف الاكتفاء بواحد ، فإن قول الآمر : « أريد ان تعطي درهمين » ينافي قوله : « اكتفى بدرهم واحد » كما لا يخفى.

واما ما سيق - في أجود التقريرات - مثالا لقيام الدليل الخاصّ على الاكتفاء بامتثال واحد ، وهو مسألة الاكتفاء بغسل واحد عن حدوث الجنابة والحيض وغيرهما ، ومسألة الوضوء لو فرض تعدد الحدث الموجب لتعدد الأمر. فهو انما يتجه لو كان محل البحث هو ان الأوامر المتعددة المتعلقة بافراد الغسل أو الوضوء هل تمتثل بغسل أو وضوء واحد أو لا تمتثل؟ فيفرض المسبب وجوب الغسل. اما لو كان محل البحث هو ان الأحداث المتعددة المسببة عن الأسباب المتعددة هل ترتفع بغسل أو وضوء واحد أو لا؟ فلا يرتبط بما نحن فيه ، إذ المسبب فرض هو الحدث ولا معنى للتداخل فيه. وانما يقع الكلام في ارتفاعها بعمل واحد ، وهو لا يرتبط بمسألة التداخل ، بل يتبع دليل الغسل أو الوضوء فان دل على كونه رافعا لطبيعي الحدث كان سببا لارتفاع جميع الأحداث به ، وان دل على انه رافع لحدث واحد لم يرفع غيره.

وظاهر كلامه ان موضوع البحث هذه الجهة. وعليه فلا معنى لجعل المسألة من شواهد التداخل.

ص: 266


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 432 - الطبعة الأولى.

واما ما ذكره قدس سره من انه بناء على رافعية الوضوء لجميع الأحداث بلحاظ الإجماع ، فلو نوى رفع بعض الأحداث دون غيرها بنحو نية العدم لا عدم النية قد يدعي بطلان الوضوء لأجل ان رفع بعض الأحداث ملازم لرفع بعضها فلا يمكن نية رفع بعض وعدم رفع أخرى لأنهما متناقضان ، فتكون هذه النية في الحقيقة كلا نية فيبطل العمل كما قد يدعي الصحة لأجل ان نية العدم لغو فلا ضير فيها.

فقد أورد عليه : بأنه لا وجه للتشكيك ، بل المتجه هو الحكم بالصحّة ، إذ وجه البطلان لا يستلزمه لأنه لا يعتبر في الوضوء نية رفع الحدث به ، فغاية ما يقتضيه التناقض بين النيتين هو عدم تحقق نية رفع الحدث عنه وهو لا يضير في صحة العمل (1).

ولكن يمكن ان يكون مراده قدس سره في توجيه دعوى البطلان ، انه لم يشرع سوى الوضوء الرافع لجميع الأحداث ، اما الرافع للحدث البولي فقط فلم يشرع في الشريعة. وعليه فنية الوضوء الرافع لخصوص حدث خاص نية لما هو غير مشروع فلا يصح العمل منه ، لأن ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وعلى هذا فلا يرد عليه ما تقدم كما لا يخفى ، وان كان هذا المعنى لا يتفق مع ظاهر كلامه ، فان ظاهره توجيه البطلان بتنافي القصدين الراجع في الحقيقة إلى عدم القصد.

واما الصورة الثانية : فهي على أنحاء :

الأول : ان تكون الطبيعتان متغايرتين ذاتا ، كإكرام الهاشمي وضيافة العالم.

الثاني : ان تكونا متحدين ذاتا ، لكن يتغايران قيدا كإكرام الهاشمي

ص: 267


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 432 هامش رقم (2) - الطبعة الأولى.

وإكرام العالم.

الثالث : ان يكون اختلافهما بأخذ جزء أو شرط يوجب المغايرة ، وان كانتا ذاتا متحدتين كنافلة المغرب والغفيلة ، فانهما يجتمعان في الغفيلة المأتي بها في وقت النافلة ، وتفترق النافلة بما إذا جاء بالعمل بلا الذّكر الخاصّ المعتبر في الغفيلة كما تفترق الغفيلة إذا جاء بها في غير وقت النافلة. وبذلك كان بينهما العموم من وجه.

اما النحو الأول : فمقتضى القاعدة فيه هو التداخل وتحقق الامتثال بالمجمع ، لكونه مصداقا لكلتا الطبيعتين ، فيمكن ان يمتثل به كلا الأمرين ، فله ان يمتثل الأمر بإكرام الهاشمي وضيافة العالم بضيافة العالم الهاشمي ، لأنها ضيافة للعالم وإكرام للهاشمي.

وقد يتوهم : ان المورد من موارد تأكد الحكمين فيرجع في الحقيقة إلى تداخل الأسباب لوحدة الأمر لا تداخل المسببات ، فالمتوهم يشترك مع الدعوى في تحقق الامتثال بالمجمع لكنه يختلف معها في انه يذهب إلى وحدة الأمر والدعوى تقول بتعدده.

ويندفع هذا الوهم : بأنه لا يلزم التداخل في الأمر وصيرورته امرا مؤكدا على جميع الوجوه القائلة بامتناع اجتماع الحكمين المختلفين أو المتماثلين.

اما على الوجه القائل بامتناع اجتماعهما لتضادهما أو تماثلهما في أنفسهما : فلان ذلك انما يتأتى مع وحدة متعلق الحكمين ، اما مع تعددهما فلا يتأتى المنع ، وما نحن فيه كذلك ، لأن متعلق كل من الحكمين غير متعلق الآخر ، وهو صرف الوجود من كل طبيعة ، والمجمع مصداق متعلق الحكم لا نفسه ، لأن العموم بدلي ، نعم لو كان العموم شموليا بحيث كان يسري إلى كل فرد امتنع اجتماع الحكمين لوحدة متعلقهما.

واما على الوجه القائل بامتناع اجتماع الحكمين المختلفين لتنافيهما في

ص: 268

مقام الداعوية ، وامتناع اجتماع المتماثلين لعدم إمكان داعوية كل منهما بنحو الاستقلال في عرض واحد ، وهو يتنافى مع حقيقة الحكم لأنه جعل ما يمكن ان يكون داعيا بنفسه - بناء على هذا الوجه - : فهو انما يتم مع وحدة المتعلق ، اما مع اختلافه كما لو كان متعلق الأمر طبيعة ما بنحو العموم البدلي ، ومتعلق النهي طبيعة أخرى أيضا بنحو العموم البدلي ، فلا امتناع في جعل الحكمين ولو تصادقت الطبيعتان على واحد ، وهكذا الأمر في ما لو اتفق الحكمان فتعلق امران بطبيعتين كذلك فان تصادق الطبيعتين على واحد وإمكان امتثال الحكمين به لا يتنافى مع قابلية كلا الحكمين للداعوية المستقلة نحو متعلقه ، لإمكان الإتيان بفردين للطبيعتين.

واما على الوجه القائل بامتناع اجتماعهما من جهة المبدأ من مصلحة ومفسدة وإرادة وكراهة : فلأنه وان لم يكن إطلاق المتعلق في كلا الحكمين شاملا للمجمع إذا كانا مختلفين ، كالأمر والنهي ، لامتناع اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين في شيء واحد ، فلا يكون متعلقا للإرادة والكراهة معا في آن واحد - ولا ينافي ذلك بقاء كل من الأمر والنهي على حاله - ، لكن ذلك لا يتأتى بالنسبة إلى مورد اتفق الحكمين كأمرين ، إذ من الممكن ان يكون شيء واحد مشتملا على مصلحتين ملزمتين ، ولازمه تأكد الإرادة بالنسبة إلى هذا الفرد ، لكن عرفت انه غير متعلق الحكم فلا ينافي تأكد الإرادة فيه بقاء الحكمين على حالهما لاختلاف متعلق أحدهما عن الآخر.

وجملة القول : ان ما نحن فيه لا يكون من موارد وحدة الحكم وتأكده على جميع المباني في تضاد الأحكام وتماثلها.

وعليه ، فالمورد من موارد تداخل المسببات.

وقد يدعي : عدم صحة القول بالتداخل ولزوم الإتيان بعملين استنادا إلى ما يراه العرف من ان تعدد الحكم يلازم تعدد الإطاعة.

ص: 269

وقد رده الفقيه الهمداني : بان ذلك ما لا شاهد له عرفا ، بل الشاهد على خلافه ، إذ لو أتى شخص بعمل واحد ينطبق عليه عناوين حسنة متعددة : يرى ان ثوابه أكثر مما إذا انطبق عليه أحد هذه العناوين ، وليس ذلك إلاّ لتعدد الأمر ووقوع العمل امتثالا للأوامر المتعددة (1).

وعلى كل حال فيكفينا مقتضى الصناعة والبرهان من دون أي خدشة.

ومما ذكرنا يظهر الحال في الصورتين الأخيرين ، فان المتعلقين وان اتحدا ذاتا لكنهما مختلفان قيدا أو جزءا ، فيوجب ذلك تباينهما ، فمع اجتماعهما في واحد يمكن امتثال كلا الأمرين به ، فإذا أكرم عالما هاشميا تحقق امتثال كلا الأمرين لصدق إكرام العالم وإكرام الهاشمي عليه. كما لا يخفى.

ويبقى الكلام في جهتين :

الأولى : تختص بمثال الصورة الثالثة ، وهو نافلة المغرب والغفيلة ، ونظائرهما. فانه قد يستشكل في تحقق امتثال كلا الأمرين بركعتي الغفيلة من جهة ما قرر من اعتبار امر واقعي قصدي في الصلوات المتشابهة صورة يكون موجبا لتباينهما حقيقة وكون أحدهما غير الآخر ، وانه لا طريق إلى قصده إلاّ بالإتيان بالعمل بقصد عنوانه الخاصّ كعنوان الظهر أو العصر ، ولولاه لما كان هناك فارق بين نافلة الصبح وصلاتها وبين صلاة الظهر والعصر وهكذا.

وعليه ، فإذا ثبت اعتبار العنوان القصدي في نافلة المغرب ليتحقق امتياز عما يشاكلها كالصلاة القضائية ، وثبت اعتباره في الغفيلة أيضا ، فمن الممكن ان يكون العنوانان القصديان متباينين واقعا بحيث لا يمكن قصدهما بعمل واحد ، نظير عدم إمكان الإتيان بأربع ركعات بقصد الظهر والعصر ، ونظير قصد التعظيم والإهانة بقيام واحد.

ص: 270


1- الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه /128- كتاب الطهارة - الطبعة الأولى.

ومع هذا الاحتمال لا مجال للقول بالتداخل لعدم العلم بالفراغ مع الإتيان بعمل واحد بقصدهما معا ، فقاعدة الاشتغال محكمة ، ولا رافع لهذا الاحتمال.

نعم ، يمكن الإتيان بعمل واحد بداعي امتثال كلا الأمرين رجاء وهو غير التداخل. فالتفت.

الجهة الثانية : ترتبط بجميع الصور ، وهي أنه - بناء على التداخل - هل يعتبر في تحقق امتثال الأمرين قصدهما أو يكفي قصد أحدهما؟.

والتحقيق : انه ان كان الواجبان قصديين ، وقلنا بالتداخل بطريق ما ، فلا بد من قصد كلا الأمرين ، إذ مع قصد أحدهما لا يتحقق متعلق الآخر لتقومه بالقصد.

وإن لم يكونا قصديين ، فانما يلزم قصدهما على بعض المباني في كيفية امتثال امر التعبدي. بيان ذلك : ان الاحتمالات في كيفية امتثال الأمر العبادي ثلاثة :

الأول : الإتيان بالعمل المأمور به مرتبطا بالمولى ولو كان ربطا غير واقعي ، كما لو جاء بالعمل بداعي امتثال امر خاص فلم يكن له وجود وكان الثابت امرا آخر فانه يتحقق امتثاله. فلا يعتبر في العبادية سوى ربطه بالمولى واسناده إليه وان لم يكن له واقع.

الثاني : الإتيان بالعمل المأمور به مرتبطا بالمولى بربط واقعي ، ولو كان غير ربطه بالأمر الّذي يتحقق امتثاله ، بان يكون العلم له جهتا إضافة للمولى فيأتي به العبد مرتبطا من إحدى الجهتين فيقع امتثالا عن كلتاها.

الثالث : الإتيان بالعمل مرتبطا بالمولى ومضافا إليه من طريق نفس الأمر الّذي يقع امتثالا له ، فلو كان للعمل جهتا إضافة وقصد إحداهما لم يقع امتثالا عن الأخرى.

ص: 271

فعلى الاحتمال الأول والثاني : لا يعتبر في تحقق الامتثال قصد كلا الأمرين ، بل يكفي قصد أحدهما لتحقق إضافة العمل إلى المولى بإضافة واقعية.

وعلى الاحتمال الثالث : لا بد في امتثال كلا الأمرين من قصدهما معا ، وإلاّ لم يقع امتثالا الا لما قصده منهما. فلاحظ.

وتحقيق أحد هذه الاحتمالات قد تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي ، وتقدم ان الحق هو الثاني. فراجع.

هذا تمام الكلام في مفهوم الشرط والحمد لله تعالى أولا وآخرا.

ص: 272

مفهوم الوصف

وقع الكلام في ثبوت مفهوم الوصف وعدمه ، فهل مقتضى قول الآمر : « أكرم الرّجل العالم » عدم وجوب إكرام غير العالم؟.

وقد تصدى المحقق النائيني إلى بيان ان محل البحث هو الوصف المعتمد على موصوف ، وإلى انه الوصف الأخص من موصوفه أو الأعم منه من وجه في مورد الافتراق من جانب الموصوف (1).

وهذا البيان ينبغي ان يذكر بعد تحقيق الحال في المفهوم والنّظر في أدلة إثباته ونفيها ، حتى يعرف ما تقتضيه من سعة موضوع البحث وضيقه.

وعليه ، فيقع البحث فعلا في أصل المطلب ولنجعل موضوع البحث الوصف المعتمد على الموصوف لأنه متيقن الدخول فيه.

فنقول : الوجوه التي تذكر لإثبات مفهوم الوصف متعددة :

الأول : ما أشار إليه في الكفاية من دعوى الوضع للعلية المنحصرة (2).

وفيه : انه لا شاهد عليه أصلا.

ص: 273


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 433 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /206- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثاني : ما ذكره في الكفاية من ان الأصل في القيود ان تكون احترازية ، ومقتضاه ثبوت المفهوم وإلاّ لم يكن القيد احترازيا (1).

وفيه : ما ذكره قدس سره من ان المراد من كونها احترازية انها توجب الاحتراز فيما كانت قيدا له ، فإذا كانت قيدا للموضوع كما هو الظاهر فلا توجب إلاّ تضييق دائرته ، كما لو ذكر أولا بعنوان واحد ، فلا فرق بين جئني بإنسان وجئني بحيوان ناطق. وبتعبير آخر : انها احتراز عن دخالة غيره في شخص الحكم لا سنخه ، وذلك لا يلازم المفهوم.

وجملة القول : انه لم يثبت من كونها احترازية غير ذلك. فلاحظ.

الثالث : ما ذكره في الكفاية أيضا من حمل المطلق على المقيد - إذا كانا مثبتين - ، فانه لا يصح إلاّ إذا قيل بمفهوم الوصف ، فيدل المقيد على انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف.

وفيه : ما أشار إليه قدس سره من انه يبتني على امرين : أحدهما : وحدة الحكم المنشأ بالدليلين. وثانيهما كون القيد احترازيا ، فانه يثبت بذلك ان الحكم موضوعه المقيد كما لا يخفى ، ولا يبتني حمل المطلق على المقيد على الالتزام بمفهوم الوصف. وإلاّ لزم عدم تقدم المقيد على المطلق لأن دلالة كل منهما على مدلوله بالإطلاق ، لأن ثبوت المفهوم على تقديره بضميمة الإطلاق. وعليه فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر (2).

الرابع : اللغوية ، بمعنى انه لا أثر لذكر الوصف الا إفادة المفهوم وإلاّ كان لغوا ، وهذا المعنى أشار إليه في الكفاية وجوابه ظاهر كما ذكره ، إذ يكفي في رفع اللغوية تصور أدنى أثر لذكر الوصف كالاهتمام به أو وقوعه مورد السؤال ونحو ذلك (3).

ص: 274


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /206- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -2. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -3. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الخامس : ما أفاده المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، وهو يمكن جعله وجها آخر للغويّة ، وهو يبتني على مقدمات ثلاث :

الأولى : ان ظاهر القيد كونه احترازيا ، والمراد به انه دخيل في تحقق الحكم وموجب لقابلية المورد لثبوت الحكم فيه.

الثانية : ان المعلق عليه هو الوصف بعنوانه ، ودخالة غيره منافية لتأثيره بعنوانه ، إذ يستند الحكم إلى الجامع ، لامتناع تأثير المتعدد في الواحد.

الثالثة : ان المعلق هو سنخ الحكم لا شخصه ، بالمعنى الّذي بينه لسنخ الحكم.

فإذا تمت هذه المقدمات ثبت المفهوم لا محالة ، إذ لو ثبت الحكم عند ثبوت غير الوصف لما كان الوصف مؤثرا في سنخ الحكم بعنوانه كما عرفت.

ولكنه استشكل فيه بإنكار المقدمة الثانية بدعوى : ان قضية امتناع تأثير المتعدد في الواحد انما هي في الواحد الشخصي لا النوعيّ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن وحدة شخصي الحكم بالنوع لا بالشخص ، فلا يمتنع تأثير المتعدد بما هو متعدد فيه على ان يكون كل واحد مؤثرا في فرد غير ما يؤثر فيه الآخر (1).

لكنه صحيح بمقدار يلزم به صاحب الكفاية ، لالتزامه بالقضية المزبورة في الواحد النوعيّ كما مرّ منه مرارا (2).

هذا ولكن الحق انه لا يمكننا إلزام صاحب الكفاية ومن نحا نحوه بهذا البيان لوجهين :

الأول : انه ينتقض باللقب ، لأن مقتضاه ثبوت المفهوم له أيضا لظهور دخالة : « زيد » في : « أكرم زيدا » بعنوانه في الحكم ، فإذا كان المعلق هو سنخ الحكم

ص: 275


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 330 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 206 و /24- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كان ذلك ملازما للمفهوم ، إذ لو ثبت غيره موضوعا للحكم كان المؤثر في الحكم هو العنوان الجامع بين زيد وغيره ولا يكون زيد بعنوانه مؤثرا ، وهو خلف.

الثاني : ان المقدمة الثالثة المتكفلة لبيان كون المعلق هو السنخ غير مسلمة - وبذلك ينحل الإشكال في الجميع - ، وذلك إذ التوصيف وان كان ظاهرا في دخالة الوصف لكن لا ظهور له في انه دخيل في سنخ الحكم حتى ينتفي بانتفائه ، بل يمكن ان يكون دخيلا في شخصه فلا يلازم المفهوم.

وبتعبير آخر : انه قدس سره التزم بان مفاد الكلام - في القضية الشرطية - تعليق وجود الحكم بما هو وجود للحكم على الشرط الملازم للمفهوم بلحاظ جهة لا ثبوت لها هنا وهي تكفل الكلام لبيان الانحصار فانه يكون لغوا إذا لم يكن المعلق هو وجود الحكم بما هو وجود للحكم - كما مر - وهذا لا أثر له هنا. كما ان صاحب الكفاية وان التزم بان مفاد الجملة الطلبية مفهوم الطلب ، لكن لا قرينة على ان الوصف دخيل في المفهوم لا شخص الطلب المتحقق بالإنشاء.

وبالجملة : فلا دليل على ان الوصف دخيل في ثبوت السنخ لا الشخص ، فلا يتم البيان المزبور. فالتفت.

والّذي يتحصل : ان ما يذكر دليلا على مفهوم الوصف اما انه لا ينهض للدليلية أو انه غير مسلم.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره في مقام نفي مفهوم الوصف ما حاصله : ان القيد تارة يرجع إلى الحكم بالمعنى الّذي تصوره قدس سره ، وهو تقييد المادة المنتسبة ، وأخرى يرجع إلى الموضوع. والأول يلازم المفهوم دون الثاني. وبما ان الشرط يرجع إلى الحكم التزم بالمفهوم. واما الوصف فظاهره انه راجع إلى الموضوع فلا يلازم المفهوم ، إذ ثبوت الحكم لموضوع معين لا ينافي ثبوته لآخر ، ولا يلزم انتفاء الوصف سوى انتفاء الموضوع ، وهو لا يلازم انتفاء الحكم

ص: 276

لإمكان ثبوته لموضوع غيره (1).

وما أفاده قدس سره : لا يخلو من نظر.

فان ما ذكره بقول مطلق من ان القيد إذا رجع إلى الحكم يلازم انتفائه انتفاء الحكم ، وعليه بنى اختيار ثبوت مفهوم الشرط. مخدوش بما عرفت من ان تقييد الحكم بالشرط ان كان راجعا إلى تعليقه عليه لازم ذلك ثبوت المفهوم. وان كان بمعنى آخر من ترتب الحكم عليه أو الملازمة فلا يلازم المفهوم ، وقد عرفت انه لم يدع أحد ان الأداة موضوعة للتعليق ، وورود التعبير به مسامحة وغفلة.

واما ما ذكره من انه إذا كان القيد قيدا للموضوع فلا يلازم المفهوم. ففيه : انه قدس سره يلتزم بان قيود الموضوع ترجع في الحقيقة إلى الحكم وتكون قيودا له ، بتقريب : ان الحكم بالإضافة إليه اما مطلق أو مهمل أو مقيد ، والأول ممتنع لأنه خلف. وهكذا الثاني أيضا لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. فيتعين الثالث.

نعم ، من يلتزم بإمكان الواجب المعلق قد يدعي صحة تقييد الموضوع دون الحكم كما صح تقييد المتعلق دونه - وان كان ذلك مورد كلام - ، لكنه قدس سره ممن لم يلتزم به. إذن فما أفاده في تحقيق مفهوم الوصف غير سديد كالذي أفاده في تحقيق مفهوم الشرط.

يبقى الكلام في جهتين أشرنا إليهما في صدر المبحث :

الأولى : في بيان محل البحث من الوصف ، وانه هل يختص بالوصف المعتمد على موصوف أو لا؟. فذهب المحقق النائيني إلى الأول (2).

والتحقيق هو الثاني ، لجريان بعض أدلة مفهوم الوصف في غير المعتمد

ص: 277


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 434 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 433 - الطبعة الأولى.

كالوجه الخامس الّذي ذكره المحقق الأصفهاني.

ولعل الوجه في اختيار المحقق النائيني للأول هو : انه قدس سره جعل ملاك المفهوم وعدمه رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع ، وهذا مما يستلزم ثبوت الموضوع حتى يرجع القيد إليه أو إلى حكمه ، وبدونه لا معنى للترديد المزبور.

ولكن عرفت ان وجوه المفهوم متعددة ، وبعضها يتأتى في غير المعتمد على الموصوف.

الثانية : ما ذكرها صاحب الكفاية بعنوان : « التذنيب » وهي تحديد محل البحث في الوصف بلحاظ نسبته مع الموصوف.

وبيان ذلك : ان الوصف تارة يكون أخص من الموصوف مطلقا. وأخرى أعم منه مطلقا. وثالثة مساو له. ورابعة أعم وأخص منه من وجه. لا إشكال في دخول الوصف الأخص من الموصوف مطلقا كالنحوي بالنسبة إلى العالم في محل النزاع ، وهكذا دخول الأخص من وجه إذا كان الافتراق من جهة الموصوف بان وجد الموصوف دون الوصف ، كالعالم العادل. واما سائر الصور ، وهي صورة عموم الوصف مطلقا وصورة تساويه مع الموصوف وصورة العموم من وجه إذا انتفى الموصوف والوصف ، فاستظهر صاحب الكفاية عدم جريانه فيها. ولعل الوجه فيه هو كون محل البحث هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف ، فلا بد من فرض بقاء الموضوع ، وهو لا يثبت في هذه الصور الثلاث.

وقد استظهر قدس سره من بعض الشافعية جريان النزاع في صورة العموم من وجه مع انتفاء الموصوف والوصف ، حيث قال : قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » يدل على عدم الزكاة في معلوفة الإبل. وعلله باستظهار كون الوصف علة تامة منحصرة فينتفي الحكم بانتفائها ، وبذلك حكم بان مقتضاه جريان النزاع في صورة عموم الوصف المطلق ومساواته للموضوع ، لجريان

ص: 278

الوجه فيه أيضا ، واستشكل في التفصيل الصادر من الشيخ قدس سره - على ما في التقريرات (1) - بين تلك الصورة وصورتي العموم المطلق والمساواة ، بجريان النزاع فيها وعدم جريانه فيهما لعدم الموضوع ، لأن ملاك عدم الجريان فيهما يسري إلى تلك الصورة كما ان ملاك الجريان فيها يسري إليهما ، فلا فرق بين هذه الصور من حيث جريان النزاع وعدمه. وعلى أي حال : فمن يرى ان مركز البحث هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف يلتزم بخروج هذه الصور عن محل البحث. ومن يرى ان البحث في انتفاء الحكم بانتفاء الوصف ولو لم يكن الموضوع يلتزم بدخولها في محل البحث. فالتفت.

يبقى الكلام في تعبير صاحب الكفاية عن صورة العموم من وجه وانتفاء الموصوف والوصف ، بما إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، فانه لا يخلو عن مسامحة ظاهرة. وذلك لأن صورة افتراق الوصف معناها وجود الوصف وعدم الموصوف. ومن الواضح انها خارجة عن محل البحث ، إذ البحث في اقتضاء انتفاء الوصف لانتفاء الحكم ، فصورة وجوده لا بحث فيها. وقد ورد هذا التعبير في التقريرات أيضا ، ولكن المراد منه ما عرفت.

ومن هنا تعرف ان المراد من قوله في صدر التذنيب : « واما في غيره » (2) ليس مورد افتراق الوصف ، بل غير مورد افتراق الموصوف مما يحتمل ان يدخل في البحث ، وهو مورد انتفائهما معا ، إذ موردا وجودهما ووجود الوصف لا بحث فيهما. فالتفت ولا تغفل ، واللّه ولي التوفيق.

ص: 279


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /182- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /207- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ص: 280

مفهوم الغاية

وقع الكلام في مفهوم الغاية ، وان مقتضى قول الآخر - مثلا - : « اجلس إلى الليل » انتفاء وجوب الجلوس عما بعد الغاية وهي الليل أو لا؟. وهناك بحث آخر يرتبط بالغاية وهو ان الغاية هل تكون داخلة في المغيا أو لا؟ ، بمعنى ان الحكم هل يثبت عند حصول الغاية ، فيكون موضوع البحث في المفهوم ما بعد الغاية ، أو يتحدد بمقتضى الدليل بمجيء الغاية فيكون موضوع البحث في المفهوم مجيء الغاية وما بعده؟. فالبحث في الغاية من جهتين :

الجهة الأولى : في ثبوت المفهوم للغاية.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل بين غاية الحكم وغاية الموضوع ، فإذا كانت غاية للحكم كما في قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » (1) وقوله علیه السلام : « كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر » (2) كان حصولها موجبا لارتفاع الحكم.

وعلله بانسباق ذلك منها وكونه قضية تقييده بها ، وإلاّ لما كانت ما جعل

ص: 281


1- الكافي 5 / 313. الحديث : 40 من باب النوادر كتاب المعيشة.
2- تهذيب الأحكام 1 / 284. الحديث : 119.

غاية له بغاية.

وإذا كانت غاية للموضوع وقيدا له بحسب القواعد العربية مثل : « سر من البصرة إلى الكوفة » ، فهي كالوصف في عدم دلالتها على المفهوم ، بل انما تقتضي تقييد شخص الحكم بها وتحديده ، فعند حصولها يرتفع شخصه ، ولا اقتضاء لها لارتفاع سنخه عن غير موضوع.

وعلله بعدم ثبوت وضع لذلك ، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا دلت على اختصاص الحكم به (1).

هذا ما أفاده في الكفاية بقليل تصرف. ولم يتعرض قدس سره إلى تعيين ضابط إثباتي يعرف به كون الغاية قيدا للحكم أو للموضوع.

وفي كلامه مجال للمناقشة من جهتين :

الأولى : تفرقته بين ما إذا كانت الغاية قيدا للحكم وما إذا كانت قيدا للموضوع ، مع ان قيد الموضوع في الحقيقة يرجع إلى الحكم فيتقيد به الحكم ويرتبط به ولا يثبت بدونه.

الثانية : ما ذكره من الغاية ، إذا كانت قيدا للحكم دلت على المفهوم ، مع انه كان ينبغي بيان ان الغاية غاية لسنخ الحكم لا شخصه ، وهذا مما لا دليل عليه ، وإذا أمكن ان تكون الغاية غاية للشخص لم تدل على المفهوم ، ولا ظهور للتقييد في كونه للسنخ.

بل لو كان المغيا هو الطبيعي فلا يجدي في ثبوت المفهوم ، لأن إنشاء الطبيعي المقيد بقيد أو المغيا بغاية وجعله ، لا يقتضي عدم جعل الطبيعي مقيدا بقيد آخر أو غير مقيد بقيد أصلا.

وببيان آخر نقول : ان التقييد يطرأ على الطبيعي قبل إنشائه فينشأ

ص: 282


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /208- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مقيدا ، بمعنى انه يلحظ الوجوب مقيدا بقيد وينشأ كذلك ، وواضح ان جعل الطبيعي مقيدا بقيد واعتباره لا يتنافى مع اعتباره مقيدا بقيد آخر ومن دون أي قيد.

وهذا المعنى يلتزم به صاحب الكفاية ، فكيف يجعل تقييد الحكم بغاية ملازما لانتفائه عند حصولها؟.

واما استشهاده قدس سره برواية : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام ... » ، فهو لا ينفع في إثبات المدعي ، إذ انتفاء الحلية مع العلم بالحرمة عقلي لعدم إمكان اجتماع الحكمين المتضادين ، هذا مع انه استعمال في مورد خاص علم المراد منه لا يكشف عن اطراده في مطلق الاستعمالات.

ومما ذكرنا يظهر انه لا وجه لتقريب مفهوم الغاية بنحو ما مر في تقريب مفهوم الشرط ، من ورود القيد على المجعول والمعتبر دون الاعتبار ، إذ عرفت انه لا يلازم المفهوم.

كما ظهر لك ما في كلام المحقق النائيني في المقام من المسامحة ، حيث ذهب إلى ان الغاية إذا كانت قيدا للحكم كانت ملازمة للمفهوم كالشرط وان كانت قيدا للموضوع لم تلازم المفهوم كالوصف. ثم تعرض إلى مقام الإثبات وتحديد ما يكون قيدا للحكم وغيره ، وعلى كل حال فقد جعل ملاك اقتضاء المفهوم كونها قيدا للحكم (1).

وقد عرفت ان هذا المعنى لا يلازم المفهوم ، كما انه لا وجه لقياسه المقام بالشرط ، والحال انه لم يلتزم بالمفهوم فيه بمجرد كونه قيدا للحكم ، بل بضميمة إطلاقه ونفي شرط آخر ، ولا يتأتى مثل هذا الإطلاق فيما نحن فيه ، إذ نفي غاية أخرى للحكم أو قيد آخر له ولو لم يكن بغاية لا يلازم المفهوم ، لاحتمال ثبوت

ص: 283


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 437 - الطبعة الأولى.

الحكم فيما بعد الغاية من دون أي قيد وشرط ومن دون كونه مغيا بغاية معيّنة.

فالتحقيق ان يقال : ان الكلام إذا كان مسوقا لبيان الغاية فقط مع كون الحكم مفروغا عنه ، وانما كان المولى في مقام بيان غايته وحدّه ، كان مقتضى الإطلاق المقامي ثبوت المفهوم وارتفاع الحكم بحصول الغاية ، وإلاّ لم تكن الغاية غاية للحكم ، ومثال قوله تعالى : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ .. ) (1) فان أصل جواز الأكل معلوم والآية مسوقة لبيان غايته. وان كان مسوقا لبيان الحكم المغيا فلا دلالة له على المفهوم لما عرفت من ان اعتبار حكم مقيد بقيد لا يتنافى مع اعتباره مقيدا بقيد آخر أو غير مقيد بقيد. فتدبر والتفت.

الجهة الثانية : في دخول الغاية في موضوع الحكم وشموله لها.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم دخولها فيه ، لأن الغاية من حدود المغيا وحدّ الشيء يكون خارجا عنه ، وبما ان موضوع الحكم هو المغيا فلا يثبت الحكم للغاية (2).

وقد ذكر المحقق الأصفهاني في تعليقته : ان « مبدأ الشيء ومنتهاه تارة : بمعنى أوله وآخره ، وأخرى : بمعنى ما يبتدأ من عنده وما ينتهى عنده الشيء ، ودخول الأوليين كخروج الأخريين من الشيء واضح ، والكلام في ان مدخول « حتى » و « إلى » هو المنتهى بالمعنى الأول أو الثاني. وكون الحدّ المصطلح خارجا عن حقيقة الشيء لا يقتضي ان يكون مدخولهما حدا اصطلاحيا » (3). والّذي يظهر من كلامه قدس سره ان حد الشيء في اصطلاح المعقول خارج عن الشيء.

والّذي يبدو انه غير صحيح ، فان الحدّ في اصطلاح المعقول امر انتزاعي

ص: 284


1- سورة البقرة ، الآية : 187.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /209- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 332 - الطبعة الأولى.

عن واجدية شيء لشيء وفاقديته لآخر ، فتحديد الخطّ بمتر ينتزع عن واجديته لمقدار من الخطّ وفاقديته لمقدار آخر.

كما ان الحدّ في عرف المنطقيين عبارة عن حقيقة الشيء وذاته.

ولم يظهر من كلام الكفاية إرادته الحدّ بمعناه المعقولي ، بل يمكن ان يكون نظره إلى معناه العرفي وهو نهاية الشيء.

والّذي يناقش به صاحب الكفاية ان موارد الاستعمالات مختلفة ، فبعضها ظاهر في دخول الغاية ، كما لو قال : « انتظرتك إلى يوم الجمعة » فان يوم الجمعة داخل في الانتظار ، ولذا يصح ان يجيبه المخاطب : « بأني جئت يوم الجمعة ولم أجدك ». وبعضها ظاهر في عدم دخولها كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وعليه فلا يمكن الجزم بأحد الطرفين واختيار أحد الاحتمالين ، والكلام بدون قرينة يكون مجملا.

ص: 285

ص: 286

مفهوم الاستثناء - الحصر

لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم المستثنى منه وعدم عمومه للمستثنى سواء كان الحكم إيجابيا أو سلبيا ، وهذا المعنى لا يقبل الإنكار عرفا ، فلا يتوقف أحد في ان قول القائل : « جاء القوم الا زيدا » يدل على عدم مجيء زيد ، وقوله : « ما جاء القوم الا زيدا » يدل على مجيئه. ولأجل وضوح هذا المعنى لم يكن في بحث مفهوم الاستثناء مزيد كلام.

ولعله لأجل ذلك تعرّض المحقق النائيني (1) إلى البحث في بعض الجمل المشتملة على الاستثناء حتى يطول البحث شيئا ما مع خروجه عن بحث الأصول ، فلا يهمنا التعرض إليه ، ولكن مع وضوح هذا المعنى - في الاستثناء - ذهب أبو حنيفة إلى إنكار ثبوته ، وإلى عدم دلالة الاستثناء على ما ذكر (2) ، كما حاول البعض الاستدلال عليه (3) وهو مما لا حاجة له.

ص: 287


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 438 - الطبعة الأولى.
2- العضدي. شرح مختصر الأصول / 265 -
3- استدل به في قوانين الأصول 1 / 251 للقمي وفي مطارح الأنظار / 187 للكلانتري وفي الفصول / 196.

اما حجة أبي حنيفة في إنكاره مفهوم الاستثناء ، فهي مثل قوله علیه السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، إذ مقتضى مفهوم الاستثناء كون الطهور وحده صلاة دون غيره ، وهو مما لا يقول به أحد.

وأجاب عنه في الكفاية بوجهين :

أحدهما : انه استعمال مع القرينة وهو لا يدل على المدعى.

ثانيهما : ان المقصود من الصلاة هو تمام الاجزاء والشرائط ، والمعنى انها لا تكون صلاة إلاّ إذا انضم إليها الطهور ، فالطهور مقوم لصدق الصلاة على تمام الاجزاء لا ان الصلاة هو الطهور ، إذ لم يقل لا صلاة إلاّ لطهور وهذا واضح لا يخفى. فلا يدل على المدعي (1).

واما احتجاج من استدل عليه بكلمة التوحيد وهي : « لا إله إلاّ اللّه » ، إذ كان الرسول صلی اللّه علیه و آله يقبلها ، مع انه لو لم تدل على الحصر ونفى الألوهية عن غيره جل اسمه لم تنفع. فقد ناقشه صاحب الكفاية : بأنه من الممكن ان يكون ظهورها في التوحيد من جهة قرينة حالية أو مقالية فلا تنفع في إثبات المفهوم (2).

ثم انه قد أشكل على دلالة الكلمة الشريفة على التوحيد بان خبر « لا » اما ان يقدر « ممكن » أو « موجود ».

فعلى الأول لا تدل الا على إمكان وجوده تعالى لا على وجوده فعلا ، وهو لا فائدة فيه.

وعلى الثاني لا تنفي الا وجود غيره تعالى لا إمكانه ، وهو أيضا لا فائدة فيه.

ص: 288


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /210- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /210- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بان المراد من الإله واجب الوجود ، وحينئذ فتقدير الوجود نافع ، إذ نفي وجود واجب الوجود مطلقا وإثباته لله جلَّ شأنه يدل بالملازمة البينة على امتناع تحقق غيره ، إذ إمكان واجب الوجود ملازم لوجوده ، فلو كان ممكنا لوجد ، فنفي اللازم يستلزم نفي الملزوم (1). فتدبر.

وقد أطال المحقق الأصفهاني في تحقيق الجواب عن الإشكال ، فراجع كلامه ، إذ ليس في نقله معرفة فيه مزيد أثر فيما نحن فيه (2).

وقد تعرض صاحب الكفاية بعد ذلك إلى امر وهو : ان دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى هل هي بالمفهوم ومن باب انه لازم لخصوصية الحكم في المستثنى منه الّذي دلت عليه الجملة منطوقا ، أو انه بالمنطوق وبنفس الاستثناء؟. استظهر قدس سره الأول ولم يستبعد الثاني ، وذهب قدس سره إلى ان تعيين ذلك لا يكاد يفيد - على حد عبارته (3) -.

ولكن الحق ان هذا البحث له أثر عملي كبير ، ونستطيع ان نقول : ان المهم في مبحث الاستثناء هو هذا الأمر ، وذلك لأنه إذا كان ثبوت الحكم في المستثنى من باب المفهوم وكونه لازم الخصوصية الثابتة لحكم المستثنى منه ، فمع الشك في سعة الحكم في المستثنى وضيقه لا طريق لدينا لإثبات سعته ، إذ لا معنى للإطلاق فيه بعد ان كان مدلولا التزاميا ، كما ان الإطلاق في المنطوق الملازم له لا ينفع في ذلك لاحتمال ان تكون الخصوصية ملازمة لنفي الإطلاق عن المستثنى لا لنفي كل فرد من افراد المطلق ، وهذا بخلاف ما لو كانت الحكم مدلولا للمنطوق ، فانه يمكن التمسك بإطلاقه في إثبات سعة الحكم ، وما يصلح مثالا لما

ص: 289


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /210- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 332 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /211- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

نحن فيه قوله علیه السلام : « لا تعاد الصلاة الا من خمس ... » (1) ، فانه مع الشك في ثبوت الإعادة من جهة هذه الخمس في بعض الحالات ، فان كان ثبوت الإعادة فيها بالمفهوم لا مجال لإحرازه في مورد الشك ولو علم نفي الإعادة بنحو مطلق في طرف المستثنى منه ، إذ لعلّ الاستثناء من حيث المجموع لا من حيث كل فرد فرد. واما إذا كانت ثبوت الإعادة فيها بالمنطوق أمكن التمسك بإطلاق الكلام في إثباته في مورد الشك ، فانه نظير ما لو قال : « لا تعاد الصلاة من كذا وكذا وتعاد من خمس ... » ، وكون ذلك مدلولا للحرف لا يضر في إمكان الرجوع إلى الإطلاق في متعلقة أو نحوه ، كسائر موارد الحروف التي يتأتى فيها الإطلاق.

وإذا ثبت الأثر لهذا الأمر فيقع الكلام في إثبات أحد طرفيه ، وهو مشكل جدا. ولعل توقف الأصحاب من تعميم حكم الإعادة في الخمس لجميع الحالات مما يرجح انه ثابت بالمفهوم لا بالمنطوق. ولا طريق لدينا لإثبات أحد الطرفين.

ثم ان صاحب الكفاية تعرض إلى بيان ما يفيد الحصر من الأدوات تتميما للفائدة في مفهوم الحصر (2) ، وإلا فهو خارج عن البحث الأصولي (3).

ص: 290


1- وسائل الشيعة باب : 1 من أبواب افعال الصلاة حديث : 14.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /211- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- وقد نقل سيدنا الأستاذ - مد ظله - كلامه من دون تعليق عليه متابعة له قدس سره ، ولأجل ذلك لا نرى حاجة تدعونا لنقله ، فمن أراد الاطلاع عليه فليراجع. ( منه عفي عنه ).

مفهوم اللقب والعدد

ذهب صاحب الكفاية وتبعه غيره ، بل ذهب غيره إلى عدم اقتضاء اللقب والعدد للمفهوم (1) ، فلا دلالة لقول الآمر : « أكرم زيدا أو أكرم العالم » على عدم وجوب إكرام غير زيد أو غير العالم. كما لا دلالة لقوله : « أكرم عشرة رجال » على عدم وجوب إكرام غيرهم ، إلاّ إذا أخذ العدد بنحو التحديد من طرف الأقل والأكثر ، فينفي وجوب إكرام غيرهم بمقتضى التحديد ، وهو من أقوى المفاهيم. وهو واضح لا كلام فيه فلاحظ وتدبر. واللّه سبحانه ولي التوفيق. انتهى مبحث المفاهيم ويليه مبحث العام والخاصّ.

ص: 291


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /212- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ص: 292

العام والخاصّ

اشارة

ص: 293

ص: 294

العام والخاصّ

تعريف العام

لا يخفى ان مفهوم العام واضح عرفا ، وهو - كما جاء في الكفاية - ما يكون شاملا لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه.

وقد ذكر صاحب الكفاية : انه عرّف بتعاريف ، ووقع الإشكال فيها من الاعلام ، ولكنه ذكر - كما هو شأنه في كثير من الموارد - انها تعاريف لفظية يقصد بها شرح الاسم ، فلا يتجه الإيراد عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس (1).

كما ان المحقق الأصفهاني تابعة في الإشكال عليه : بان التعريف اللفظي غير شرح الاسم بحسب الاصطلاح (2).

وعلى أي حال فالامر ليس بمهم بعد ان لم يكن العموم - بهذا اللفظ وبعنوانه - موردا لأثر شرعا كي يبحث في تحديد مفهومه ، بل الأثر ثابت لما هو عام بالحمل الشائع وما يكون مصداقا له.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى بيان الفارق بين العام والمطلق ، وان دلالة

ص: 295


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /215- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 334 - الطبعة الأولى.

الأول على الشمول لفظية ، ودلالة الثاني بالقرينة العامة ، وبيان ان ذلك لا يتنافى مع احتياج مدخول أداة العموم إلى مقدمات الحكمة (1).

وهذا الأمر له أثر مهم في باب التعارض ، ولذا يتعرض إليه في ذاك البحث ، ولأجل ذلك فما أفاده المحقق النائيني مرسلا له إرسال المسلمات - مع انه محل بحث وسيأتي فيه إن شاء اللّه تعالى - ، ذكر للأمر قبل محلّه وتعرض له قبل وقته ، وكان الأولى إيكاله إلى محله ، والأمر سهل أيضا.

أقسام العموم

ينقسم العموم بلحاظ مقام تعلق الحكم إلى أقسام ثلاثة : الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، فالعموم في جميعها بمعنى واحد والاختلاف في كيفية أخذه في موضوع الحكم.

بيان ذلك : ان المفهوم العام يلحظ بنحو الشمول واستيعاب جميع الافراد ، بمعنى انه يلحظ المفهوم المنطبق على جميع افراده ثم انه بعد ذلك.

تارة : يلحظ جميع الافراد موضوعا للحكم.

وأخرى : يلحظ كل فرد فرد موضوعا للحكم.

وثالثة : يلحظ فرد منها على سبيل البدل.

فالأوّل هو العام المجموعي. والثاني هو الاستغراقي. والثالث هو البدلي ، فهناك لحاظ واحد تشترك فيه جميع الأقسام وهو لحاظ جميع الافراد ، ولحاظ آخر تختلف فيه الأقسام.

ومن هنا يظهر ما في ظاهر كلام المحقق النائيني (2) وما يتراءى من عبارة

ص: 296


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 440 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 443 - الطبعة الأولى.

الكفاية (1) ، من ان هذا التقسيم بلحاظ كيفية تعلق الحكم ، الظاهر في تأخره عن تعلق الحكم.

فان ذلك يتنافى مع الوجدان ، لما ذكرنا من ان اللحاظ المحقق لأحد هذه الأقسام في رتبة متقدمة على الحكم.

كما انه يتنافى البرهان ، لأن الاستغراقية والمجموعية والبدلية من خصوصيات موضوع الحكم ، والحكم يتعلق بالعامّ الاستغراقي وأخويه ، فيمتنع أن تنشأ الخصوصية التي يتقيد بها الموضوع من قبل الحكم.

وقد حمل المحقق الأصفهاني عبارة الكفاية على ما بيناه فرارا عن المحذور العقلي الّذي ذكره قدس سره .

ثم انه في مقام بيان كيفية اختلاف العموم الاستغراقي والمجموعي ذكر امرا جميل الأسلوب ومتين التصوير لكنه غير خال عن المناقشة.

فانه ذكر ان للعموم جهتين جهة وحدة وجهة تكثر ، فهو مفهوما واحد لكنه ذاتا متكثر ، نظير الدار فانه مفهوما واحد لكنه ذاتا متكثر لاشتمال الدار على اجزاء عديدة ، وهاتان الجهتان واقعيتان في العام لا ترتفعان عنه ، لكن المولى في مقام الحكم على العام تارة يلحظ جهة الوحدة من دون ملاحظة جهة الكثرة فيكون الموضوع هو المجموعي. وأخرى يلحظ جهة الكثرة دون جهة الوحدة فيكون الموضوع هو الاستغراقي. هذا كلامه ملخصا (2).

وفيه : ما عرفت من ان لحاظ العام منطبقا على جميع افراده وساريا في مصاديقه مما لا بد منه في جميع الأقسام ، إذ لحاظ جهة الكثرة امر وجداني في الأقسام كلها فلاحظ.

ص: 297


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /216- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 334 - الطبعة الأولى.

والأمر سهل بعد ان لم يكن هناك أثر عملي للاقسام المذكورة.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى امرين (1) لا يخلو ان عن أثر :

الأمر الأول : انه أنكر العموم البدلي وألحقه بالمطلق لكونه يستفاد غالبا من إطلاق المتعلق.

ويرد عليه :

أولا : ان لمهم في إثبات العموم البدلي هو تقديمه على الإطلاق المعارض له ، لأن دلالته لفظية بخلاف دلالة المطلق.

وهذا الأمر يرتبط بواقع العام البدلي وهو كون الدّال فيه لفظا لا بتسميته عاما أو مطلقا ، فلا أثر للتسمية في المقام.

وثانيا : ان وجود بعض الافراد مما يدل عليه اللفظ يكفي في المطلب وتحرير الكلام.

الأمر الثاني : في بيان ما هو المتعين إثباتا مع عدم القرينة مع دوران الأمر بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي. والّذي ذكره هو ان المتعين مع عدم القرينة هو العموم الاستغراقي لاحتياج العموم المجموعي إلى مئونة زائدة.

ويرد عليه : ان مراده ...

ان كان أن الكلام ظاهر في الاستغراق لأجل احتياج غيره إلى مئونة فهو في مقام الاستدلال على ثبوت الظهور في نفسه بذلك وتعليله به. ففيه :

أولا : ان الاستغراقية تحتاج إلى مئونة كالمجموعية كما تقدم ، وليست نسبة الاستغراقية إلى المجموعية نسبة الأقل والأكثر بل نسبة التباين.

وثانيا : ان احتياج أحد القسمين إلى مئونة زائدة لا يعين ظهور الكلام فيما ليس فيه مئونة ، وأي ربط لذلك بالظهور أو الوضع ، فلعله قد يوضع اللفظ لما فيه

ص: 298


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 443 - الطبعة الأولى.

مئونة أو كان ظاهرا فيه.

وان كان المراد ان الظاهر الأوّلي للكلام هو العموم الاستغراقي ، وغيره يحتاج إلى قرينة فيحمل الكلام عليه عند عدمها كحمل المطلق على الإطلاق عند عدم التقييد.

فهي دعوى بلا دليل ولا شاهد عليها ، فما أفاده لا يقبل الإقرار به.

والحق ان الكلام لا ظهور له في أحدهما بدون قرينة حال أو مقال ، فمع عدمها يكون الكلام مجملا والمرجع إلى الأصل العملي.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر ان شمول مثل لفظ « عشرة » لآحادها المندرجة تحتها ليس من باب العموم ودلالة العام على افراده ، لما عرفت من ان العام هو المفهوم الصالح للانطباق على كل فرد من افراده مثل : « عالم » في : « كل عالم » ، ومفهوم : « عشرة » لا يصلح للانطباق على كل واحد مما يعمه (1).

ولا يخفى ان لهذا المطلب أثرا عمليا ، يظهر فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في مبحث حجية العام في الباقي وعدم منافاة التخصيص له ومعارضته ، فانه لو التزم بذلك في العام لأجل عمومه لا يثبت لمثل العشرة إذا ورد دليل يتكفل إخراج بعض افرادها ، بل يكون الدليل المخرج معارضا لها ، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

صيغ العموم

ذكر صاحب الكفاية ان للعموم صيغة تخصه كالخصوص ، ولا وجه لدعوى عدم وجود صيغة تخصه وذكر الوجه الّذي يستند إليه المانعون ورده (2).

وهذا الأمر لا نعرف له أثرا عمليا فعلا ، فلا لزوم لإطالة الكلام فيه.

ص: 299


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /216- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /216- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

انما الأمر الّذي له كبير أثر في مقام الاستنباط ، والّذي ذكره الاعلام من دون مزيد تحقيق وكشف غموض ولم يعيروه الاهتمام اللازم له ، هو ما تعرض له من عد بعض صيغ العموم وبيان احتياج كل منها إلى جريان مقدمات الحكمة في المدخول.

وهي خمسة :

الأولى والثانية : النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي.

والكلام فيهما من جهات :

الجهة الأولى : ان دلالة النهي عن العموم الّذي به يفترق عن الأمر قد عرفت تحقيقها فيما تقدم في أول مبحث النواهي ، فقد عرفت هناك ان الأمر إذا تعلق بصرف الوجود بمعناه الأصولي المنطبق على أول وجود فلا يقتضي امتثاله سوى الإتيان بفرد واحد من الطبيعة ، إذ بها يتحقق صرف الوجود.

واما إذا تعلق النهي بصرف الوجود فهو يستدعي عدم الإتيان بأي فرد من افراد الطبيعة.

وقد عرفت ما استشكله المحقق الأصفهانيّ ، في كلام الكفاية ، واعتراضه بملازمة النهي عن صرف الوجود لترك جميع الافراد ، ولكنه استشكل فيه بما يرجع إلى الإشكال اللفظي فراجع (1).

وبالجملة : لا إشكال في ان النهي إذا تعلق بصرف الوجود اقتضى ترك جميع الافراد بخلاف الأمر.

ومن هنا يلتزم بان النكرة الواقعة في سياق النهي تفيد العموم.

وليس تعلقه بصرف الوجود بالغريب عرفا ، بل هو واقع عرفا ، فمثلا إذا أراد الشخص النوم وكان يستيقظ بمجرد صدور كلام من أحد فهو حين ينهى

ص: 300


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 260 - الطبعة الأولى.

عن الكلام بنهي عن صرف وجوده ، بحيث لو تحقق صرف الوجود لم تكن سائر الوجودات مبغوضة لعدم تأثيرها في حاله بعد استفاقته من نومه.

الجهة الثانية : ان هذا البيان لا يتأتى في النكرة الواقعة في سياق النفي ، إذ تعلق النفي بصرف الوجود في مثل قوله : « لا رجل في الدار » مما لا معنى له محصل.

وعليه ، فما هو ظاهر الكفاية والمحقق الأصفهاني من كونهما من واد واحد في دلالتهما على العموم فيه مناقشة ظاهرة. فان المحقق الأصفهاني وان ناقش صاحب الكفاية في دلالتهما على العموم ، لكنه لم ينبه على اختلاف ملاك دلالتهما ، فظاهره تقرير صاحب الكفاية. فالتفت.

اذن فما هو الوجه في دلالة مثل : « لا رجل في الدار » على العموم ، بحيث حصل الفرق به بين هذا القول وبين قوله : « في الدار رجل؟.

يمكن ان يقال : ان المراد بلفظ ، « رجل في كلا المثالين أقل مراتب وجود الرّجل لا بما هو أقل بل ذات الأقل ، ولا يخفى ان نفي ذات أقل المراتب ملازمة لنفي الجميع ، إذ ذات الأقل موجودة في كل مرتبة تفرض للوجود ، اما إثبات أقل المراتب فهو لا يلازم ثبوت الجميع كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : ان دلالة النفي والنهي على العموم بالنحو المزبور تتبع في السعة والضيق سعة المدخول وضيقه ، وإحراز سعة المدخول انما يكون بمقدمات الحكمة ، ولولاها لم يكن وجه لدعوى إرادة نفي جميع الافراد أو النهي عنها ، إذ لعل مراده بقوله : « لا رجل في الدار » هو الرّجل الأبيض.

وبالجملة : النفي والنهي يدلان على عدم جميع افراد المنفي ، اما تعيين حدود المنفي من إطلاق أو تقييد فهذا يحتاج إلى دليل آخر.

وعليه ، فالعموم فيها يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ليحرز ان المراد به المطلق. فلاحظ. وهذا الأمر لا إشكال فيه ، وقد أشار إليه

ص: 301

صاحب الكفاية في مبحث النواهي وفي هذا المبحث (1).

الجهة الرابعة : ان العموم الثابت في هذين الموردين يختلف عن سائر موارد العموم فلا تترتب عليه آثاره ، ومن جملتها التخصيص ، فان ما يدل على وجود زيد في الدار أو وجود العالم فيها يعارض قوله : « لا رجل في الدار » بخلاف مثل : « لا تكرم فساق العلماء » فانه مخصص لدليل : « أكرم العلماء » ولا يعارضه ، بل يقدم عليه بلا كلام. وهذه نكتة مهمة مغفول عنها في كلمات الاعلام ، وسيأتي تحقيقها في المبحث الآتي إن شاء اللّه تعالى.

الثالثة : صيغة : « كل » فانها تدل على العموم بلا كلام ، وانما الكلام في كونها تابعة في السعة والضيق لما يراد من مدخولها ، أو انها تدل على سعة المدخول وعمومه.

والّذي يظهر من صاحب الكفاية (2) وصريح المحقق النائيني الأوّل (3).

وهذا البحث ذو أثر مهم في باب الاستنباط ، ويظهر واضحا فيما لو تعارض العام والمطلق ، فانه لو كانت دلالة العام تابعة لعموم مدخوله ، وكان عموم المدخول مستفادا من مقدمات الحكمة ، لم يتقدم العام على المطلق لصلاحية كل منهما لأن يكون بيانا للآخر ، بخلاف ما لو كان لفظ : « كل » دالا بنفسه على عموم المدخول ، فان العام يتقدم على المطلق لصلاحيته لأن يكون بيانا على المطلق دون العكس ، لأن دلالة المطلق تعليقية ودلالة العام تنجيزية ، وسيأتي ذلك مفصلا في مبحث التعادل والتراجيح ، وانما غرضنا الإشارة إلى الأثر.

وعلى كل حال ، فقد ذهب المحقق النائيني - وهو ظاهر الكفاية - إلى ان :

« كل » لا تدل على عموم المدخول ، بل هي تدل على عموم ما يراد من المدخول ،

ص: 302


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 150 و /217- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /217- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 441 و 450 - الطبعة الأولى.

فلا بد في تعيين المراد من المدخول من دليل ، وما يدل على عمومه هو الإطلاق ومقدمات الحكمة.

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - بما يتضمنه كلام الأصفهاني في حاشية الكفاية (1) - من ان ذلك يستلزم لغوية : « كل » ، لأنه إذا أحرز عموم مدخولها بمقدمات الحكمة فلا يبقى ل- : « كل » أي أثر (2).

ويمكن دفع هذا الإيراد : بان جريان مقدمات الحكمة في المدخول لا يلازم لغوية : « كل » ، فانه يمكن ان يلتزم بدلالتها على الشمول في قبال البدلية.

إذ عرفت ان في العموم مقامين ، مقام لحاظ الطبيعة منطبقة على جميع افرادها. ومقام تعلق الحكم بجميع الافراد - بنحو الاستغراق أو المجموعية - في قبال تعلقه بفرد على سبيل البدل. فمقدمات الحكمة تعين المقام الأول. و « كل » تعين المقام الثاني.

وبالجملة : إن لدينا مراحل ثلاثة :

الأولى : الطبيعة الصالحة للانطباق على جميع افرادها.

الثانية : الطبيعة المنطبقة فعلا على جميع الافراد.

الثالثة : أخذ جميع الافراد في موضوع الحكم في قبال الفرد على سبيل البدل.

فالنزاع في ان الدال على المرحلة الثانية هل هو لفظ : « كل » ، فتدل عليها كما تدل على المرحلة الثالثة أو انه مقدمات الحكمة ، فلو عبَّر عن « كل عالم » بمفهوم تفصيلي فقيل : « جميع افراد العالم » فهل يقصد بيان إرادة افراد العالم بلفظ : « كل » أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة؟.

ص: 303


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 335 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 440 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.

ولا نستطيع الجزم بأحد الوجهين فعلا لعدم الدليل على كل منهما. وسيأتي في المبحث الآتي ما لعلنا نستطيع الجزم به بأحد الطرفين.

واما قول الكفاية : « نعم لا يبعد ان يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع افرادها » (1). فلا نعرف المراد منه ، وهل هو عدول عما استظهره أولا والتزام بتكفل : « كل » للدلالة على المرحلة الثانية. أو هو مجرد احتمال وبيان قيل؟. فلاحظ وتأمل.

الرابعة والخامسة : الجمع والمفرد المحلى بالألف واللام ، والكلام فيهما من جهتين :

الأولى : في دلالتهما على العموم ، وسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد إن شاء اللّه تعالى. فانتظر.

الثانية : في انهما لو كانتا دالتين على العموم ، فهل يدلان على عموم المدخول أو على عموم ما يراد من المدخول؟. ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني ، فالتزم بان تحديد المراد فيهما تابع لسعة المدخول وضيقه. وان إطلاق التخصيص على ذكر القيد المتصل من قبيل قول القائل : « ضيّق فم الرّكية » (2). ولا يخفى ان هذا البحث انما يتأتى في الجمع بناء على ان الدال على العموم هو أداة التعريف ، فتكون مثل : « كل » ، فيبحث في دلالتها على عموم المدخول أو عموم ما يراد منه ، واما بناء على ان دلالته على العموم من باب دلالة اللام على العهد وتعين آخر مراتب الجمع ، فلا معنى للبحث المزبور والترديد المتقدم ، إذ لا موضوع له.

نعم لا بد من ملاحظة المدخول وحدّه لبيان ما هو المتعين من أنواع الجمع. فالتفت ولا تغفل.

ص: 304


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /217- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /217- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العام المخصص

إذا خصص العام فلا إشكال في عدم حجيته في مصداق الخاصّ المعلوم.

واما غير مصداق الخاصّ فقد وقع الكلام في حجية العام بالنسبة إليه بعد التخصيص. مثلا إذا قال المولى : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم النحويين » ، فهل هو حجة في العالم غير النحوي فيجب إكرامه أو لا فلا يجب إكرامه بمقتضاه؟.

الّذي عليه جلّ الاعلام هو حجيته في غير مورد التخصيص.

وقد استشكل في حجيته بان العام إذا خصص كان استعماله مجازيا ، وبما ان مراتب المجاز متعددة ولا معين لأحدها ، فلا يكون العام حجة في أحدها لاحتمال استعماله في كل منها ، وتعيين تمام الباقي ترجيح بلا مرجح.

وقد تصدى صاحب الكفاية رحمه اللّه لحل هذا الإشكال بما بيانه : ان التخصيص تارة بالمتصل ، كما إذا قال : « أكرم كل عالم الا النحويين ». وأخرى بالمنفصل ، كما إذا قال : « أكرم كل عالم » ثم قال بعد حين : « لا تكرم النحويين ».

فان كان التخصيص بالمتصل ، فقد تقدم انه لا تخصيص في الحقيقة ، لأن تضييق المدخول لا ينافي استعمال أداة العموم في العموم ، لأنها موضوعة لإفادة عموم ما يراد من مدخولها ، فلا فرق بين قوله : « كل رجل و: « كل رجل عالم » في كون : « كل » مستعملة في العموم والاختلاف في المدخول.

وان كان التخصيص بالمنفصل ، فالتخصيص لا ينافي ظهور العام في العموم ، وانما يزاحمه في حجيته على المراد الجدي ويتقدم عليه لكونه أظهر منه. فالعام مستعمل في العموم قاعدة وقانونا والخاصّ انما ينافيه في حجيته لا في ظهوره ، فيكون حجة في غير الخاصّ لعدم ما ينافيه ، ولا وجه لدعوى استعمال

ص: 305

العام في الخصوص وكون المخصص قرينة عليه ، بعد إمكان إبقائه على ظهوره في العموم وفرض التنافي في مقام الحجيّة ، لاستقرار ظهور العام في العموم قبل ورود المخصص ولم يثبت ما يرفعه ، إذ الثابت من منافاة الخاصّ منافاته في مقام الحجية لا غير (1).

هذا تفصيل مطلب الكفاية ، وهو لا يخلو من نوع إجمال ستعرفه فيما بعد.

وقد أورد المحقق الأصفهاني على ما أفاده بالنسبة إلى المخصص المنفصل بوجهين مبنيين على اختياره فيما تقدم من عدم كون الإنشاءات الشرعية متقومة بالإرادة التشريعية الملازم لكون الحجية بلحاظ كاشفية الإنشاء عن كونه بداع البعث الجدي :

الأول : ان صدور الإنشاء الواحد الوارد على موضوع عام ، اما ان يكون بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى جميع افراده ، وهو خلف فرض التخصيص. واما ان يكون ناشئا عن داعيين وهو محال ، لاستحالة صدور الشيء الواحد عن داعيين مستقلين بلا جهة جامعة. والحجية وان كانت جهة جامعة لترتبها على الكاشف عن البعث لا على المنكشف ، إلاّ انها لا تترتب بعد انكشاف عدم صدور الحكم بداعي البعث ، بل بداعي جعل القاعدة ، لأنها تتقوم بالكاشف عن البعث والمفروض انه انكشف عدم الإنشاء بداعي البعث بل بداعي جعل القاعدة.

الثاني : انه يدور الأمر بين رفع اليد عن أحد ظهورين ، ظهور العام في استعماله في العموم. وظهور الإنشاء في كونه بداعي البعث لا بداعي جعل القاعدة ، فاما ان نرفع اليد عن ظهور العام في العموم ونلتزم باستعماله بداعي البعث الجدي في الخصوص. واما ان نلتزم باستعماله في العموم بداعي ضرب

ص: 306


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /218- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

القاعدة فنرفع اليد عن ظهور الإنشاء في كونه بداعي البعث ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

ثم انه قدس سره بعد هذا النقاش ذكر امرا يندفع به الإيراد فقال : « ويمكن ان يقال : ان المخصص المنفصل اما ان يرد قبل وقت الحاجة أو بعدها ، فإذا ورد قبلها فالإنشاء وان كان بداعي البعث جدا إلاّ انه بالإضافة إلى موضوعه الّذي يحدده ويعينه بكلامين منفصلين ، فانه لو علم ان عادة هذا المتكلم إفادة مرامه الخصوصيّ بكلامين لم يكن ظهور كلامه في العموم دليلا على مرامه ، وإذا ورد بعدها فالإنشاء بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى الجميع. غاية الأمر ان البعث المزبور منبعث في بعض افراد العام عن المصالح الواقعية الأولية ، وفي بعضها الآخر عن المصالح الثانوية بحيث ينتهي أمدها بقيام المخصص » (1).

أقول : يمكن ان يتوجه على صاحب الكفاية بأنه ما المراد من استعمال العام في العموم قاعدة وقانونا ، وليكون حجة ونحو ذلك مما ورد في التعبيرات في مختلف المقامات؟. فان المراد منه يحتمل أحد وجهين :

الأول : انه يستعمل في العموم ليكون حجة عليه إذا لم يرد مخصص.

الثاني : انه يستعمل فيه ليكون حجة على الباقي عند ورود المخصص - كما فسره المحقق الأصفهاني -.

فان أريد منه الوجه الأول : فهو انما يستقيم إذا كان ورود المخصص بعد وقت العمل بالعامّ ، فان العام يكون حجة في العموم حين العمل قبل ورود المخصص.

اما إذا كان ورود المخصص قبل وقت العمل بالعامّ - كما هو الغالب في زماننا - فلا يتم ما ذكره ، لأن حجية العام في العموم من باب أصالة العموم ، وهي

ص: 307


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 337 - الطبعة الأولى.

انما تجري مع احتمال المخصص عند حضور وقت العمل ، اما قبله فلم يقم بناء العقلاء على جريانها ، وسيأتي ما يوضح ذلك في بحث العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص.

وان أريد منه الوجه الثاني : فان أريد انه يستعمل في العموم ليكون حجة على الخصوص بلحاظ ان مدلوله العام ، فهو مما لا يتفوه به أحد. وان أريد انه يكون حجة على الخصوص من باب ان الخاصّ جزء مدلول العام ، فيدل عليه بالدلالة التضمنية ، ففيه :

أولا : انّ استعمال العام مع إرادة الخاصّ يكون لغوا ، وكان يمكنه التعبير عن الخاصّ باللفظ الدال عليه.

وثانيا : انه يبتني على عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية كتبعيتها في الوجود ، وإلاّ سقط العام عن الحجية بالنسبة إلى الباقي لسقوطه عن الحجية بالنسبة إلى العموم.

والّذي عليه التحقيق : هو تبعية الدلالة التضمنية للمطابقية في الحجية.

ولا يخفى ان هذا الإشكال الأخير لا يرد على خصوص صاحب الكفاية فقط ، بل يرد على كل من ذهب إلى كون العام مستعملا في العموم ، وهو حجة على الباقي بعد التخصيص ، كما هو ظاهر المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي (1).

والّذي يندفع به أصل الإشكال على حجية العام في الباقي : هو الالتزام بما التزم به المحقق النائيني (2) قدس سره من ان أداة العموم لا تفيد عموم مدخولها وانما تفيد عموم واستغراق ما يراد من المدخول ، واستفادة عموم المدخول انما تكون بمقدمات الحكمة.

ص: 308


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم : أجود التقريرات 1 / 452 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم : أجود التقريرات 1 / 449 - الطبعة الأولى.

فانه على هذا لا يكون المخصص منافيا للأداة أصلا ، وانما شأنه بيان المراد بالمدخول ، فقول المولى : « لا تكرم النحويين » بعد قوله : « أكرم كل عالم » لا نظر له الا إلى تقييد العالم وبيان المراد منه ، فلفظ : « كل » قبل التخصيص وبعده مستعملة في معنى واحد وهو إفادة الاستغراق أو المجموعية - في قبال البدلية - ، ولم يتغير المراد الاستعمالي فيها ولا المراد الواقعي.

وبالجملة : المخصص اما يضيق دائرة المدخول ولا يرتبط بمدلول الأداة أصلا ، فيكون التخصيص من باب تقييد المطلق.

ولم يقل أحد ان تقييد المطلق يستلزم المجازية ، كي يرد الإشكال المتقدم وستأتي إن شاء اللّه تعالى في باب المطلق والمقيد توضيح ذلك.

وإذا انحل الإشكال المتقدم بهذا البيان ولم ينحل بالبيان السابق كان ذلك قرينة وشاهدا على تعيين أحد الطرفين في معنى : « كل » الّذي وقفنا منه موقف المتردد سابقا ، وعليه فيمكن ان يقال : ان « كل » لا تدل الا على استغراق افراد ما يراد من المدخول ، اما عموم المدخول وشموله فهو يثبت بمقدمات الحكمة.

ولو لا هذا الالتزام أشكل اندفاع الإشكال بالبيان السابق ، لابتنائه على حجية الدلالة التضمنية مع عدم حجية الدلالة المطابقية ، وهو مما لا يلتزم به ، وإلاّ فلو أردنا الالتزام به فيما نحن فيه كان علينا الالتزام به في العموم المجموعي بعد التخصيص ، ومعه فلا بد من الالتزام به في موارد الأوامر المتعلقة بالمركبات الارتباطية إذا ارتفع الأمر الضمني بأحد اجزائها كالصلاة ، مع انه لا يلتزم به أحد ، ولذا لم يتمسك أحد في إثبات تعلق الأمر بالصلاة بباقي اجزائها عند تعذر البعض بالدلالة التضمنية ، بل الّذي يلتزم به ان ارتفاع الأمر بالجزء يلازم ارتفاع الأمر بالكل ويحتاج وجوب الباقي إلى دليل آخر من استصحاب أو الإجماع القائم في باب الصلاة على ان : « الصلاة لا تسقط بحال » وبنحو ذلك.

ص: 309

وبالجملة : لا محيص عن الالتزام بما التزم به المحقق النائيني ، وهو كما يجري في لفظ : « كل » يجري في المحلى باللام بناء على ان « اللام » بنفسها تفيد العموم كما أشرنا إلى ذلك. نعم هناك بحث في الجمع المحلّى وهو ان اللام - على تقدير أنها تفيد الاستغراق - هل تفيد استغراق الهيئة والمفهوم التركيبي فيكون الاستغراق بلحاظ مراتب الجمع ، أو تفيد استغراق المادة والمفهوم الأفرادي فيكون الاستغراق بلحاظ افراد المدخول؟ وسيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالى في باب المطلق والمقيد.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر لدفع الإشكال على حجية العام في الباقي وجهين آخرين :

الأول : ان العام وان كان مجازا بعد التخصيص ، إلاّ ان تعين الباقي من بين مراتب المجاز بمرجح وهو أقربيته للعام من سائر مراتب المجازات.

واستشكل فيه : بان الأقربية بنفسها لا توجب ظهور الكلام فيه ، إذ الظهور وانصراف اللفظ إلى المعنى انما ينشأ من كثرة الاستعمال فيه الموجبة لحصول الأنس بين اللفظ والمعنى بحيث يصرف المعنى إلى الذهن عند إطلاق اللفظ.

الثاني : ما في تقريرات الشيخ رحمه اللّه (1) وقد نقله صاحب الكفاية بنصه وهو : « الأولى ان يجاب : بعد تسليم مجازية الباقي بان دلالة العام على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من افراده ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لأن المانع في مثل المقام انما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفائه بالنسبة إلى

ص: 310


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /192- الطبعة الأولى.

الباقي لاختصاص المخصص بغيره فلو شك فالأصل عدمه ».

واستشكل فيه في الكفاية بان دلالته على كل فرد كانت ناشئة عن دلالته على العموم ، فإذا لم يستعمل فيه - كما هو الفرض - واستعمل في الخصوص بنحو المجاز لم يكن هناك ما يعين أحد المراتب بعد تعددها ، إذ لا ظهور للكلام في أحدها وتعيين الباقي ترجيح بلا مرجح.

وبالجملة : الدلالة على تمام الباقي ارتفعت بارتفاع دلالته على الكل لأنها متفرعة عليه ، فيحتاج في إثبات دلالته عليه إلى إثبات استعماله فيه وهو مما لا دليل عليه. فنفي المانع بالأصل لا ينفع مع التشكيك في وجود المقتضي للدلالة.

هذا ما أفاده في الكفاية (1).

ويظهر منه انه حمل كلام التقريرات على إرادة الدلالة الضمنية على الافراد فوجّه عليه الإشكال الّذي عرفته.

ولكن المحقق النائيني قدس سره وجّه كلام التقريرات بنحو آخر ، وذكر بعد كلامه الطويل انه يظهر به بطلان إشكال الكفاية.

وحاصل ما أفاده في مقام بيان كلام الشيخ رحمه اللّه : ان العام يدل على كل فرد من افراده بدلالة استقلالية غير مرتبطة بدلالته على فرد آخر ، فكما ان ثبوت الحكم في كل فرد غير منوط بثبوته في فرد آخر كذلك دلالته على كل فرد غير منوطة بدلالته على آخر - ولأجل هذا القياس خص الكلام بالعامّ الاستغراقي ، إذ ثبوت الحكم في كل فرد من العام المجموعي منوط بثبوته في غيره من الافراد - وإذا ثبت ما عرفت فإذا قام دليل ينفي دلالة العام على بعض افراده بقيت دلالته على سائر الافراد على حالها.

وقد أطال قدس سره في بيان ذلك والمهم ما ذكرناه (2).

ص: 311


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /220- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 453 - الطبعة الأولى.

وما أفاده قدس سره لا يمكن الالتزام به ، وذلك لوجوه :

الأول : انه يختص بالعامّ الاستغراقي كما تنبه له قدس سره ، مع ان البحث فيما نحن فيه لا يختص بقسم دون آخر.

الثاني : ان دلالة العام استقلالا على كل فرد ترجع إلى دعوى استعماله في كل منها بنحو الاستقلال ، وهو مما لا يلتزم به لعدم وضع العام لكل فرد ، كما انه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال كما تقدم بيانه.

الثالث : ان ما ذكره دعوى تحتاج إلى دليل ولا دليل في البين عليها.

والّذي ينبغي ان يقال في توجيه ما في التقريرات هو : ان اللفظ حين يوضع لمعنى كما يحدث بينه وبين الموضوع له ارتباط كذلك يحدث بينه وبين المعنى الّذي له علاقة به ارتباط بحيث يدل على اللفظ مع القرينة ويصح استعمال اللفظ فيه ، فإذا كان للمعنى الحقيقي معان مجازية متعددة يختلف نحو ارتباطها مع المعنى الحقيقي وكانت متباينة في مقام الارتباط بمعنى ان جهة العلاقة في كل منها تختلف عنها في الآخر ، كان اللفظ مع القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي مجملا فيها ، لعدم ظهوره في أحدها وعدم تعينه لأحدها من دون معين لأنه ترجيح بلا مرجح.

ومن المعاني المجازية الجزء بالنسبة إلى اللفظ الموضوع للكل ، فإذا كان مراتب الاجزاء متعددة ، فتارة لا يعتبر في صحة الاستعمال في الجزء سوى الجزئية للمعنى الحقيقي. وأخرى يعتبر فيها علاقة خاصة إضافة على الجزئية.

فعلى الأول : فيما ان اللفظ له ارتباط مع تمام مراتب المجاز وكانت هذه المراتب متداخلة ، فلا مباينة بينها في مقام الارتباط ، فان الارتباط بالأكثر لا يباين الارتباط بالأقل لأنه هو وزيادة.

وعليه ، كان له ظهور في أعلى مرتبة لارتباطها به ، وعدم مباينته للارتباط بغيرها ، فيوجب ذلك صرف اللفظ إليه بمجرد القرينة الصارفة عن الحقيقة ،

ص: 312

نظير المجاز الواحد ، فان اللفظ يحمل عليه بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي.

وبالجملة : على هذا المبنى يكون للّفظ ظهور في تمام الباقي ، فيحمل اللفظ عليه تحكيما لأصالة الظهور.

اما على الثاني : فان كانت العلاقة المعتبرة زيادة على الجزئية كالمشابهة في الصورة ، وهي الكثرة في باب العموم ، فهي موجودة في جميع المراتب المحتمل استعمال اللفظ فيها ، فيتأتى عين الكلام السابق لعدم التباين في مقام الارتباط.

وان كانت العلائق الموجودة في المراتب المتعددة متباينة لم يكن للّفظ ظهور في أحدها ، بل كانت نسبته إليها جميعا على حد سواء فيكون مجملا ، لأن ترجيح أحدهما بلا مرجح.

فيكون باب العام والخاصّ على هذا نظير الموارد الأخرى من المجازات مما يحتاج فيه إضافة معنى آخر ، بحيث تكون نسبة المعنى المجازي إلى الحقيقي نسبة المباين لا الأقل والأكثر.

ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا ، فيمكن ان يكون نظر الشيخ قدس سره إلى ما حققناه ، وان خصوصية اختلاف المورد عن سائر موارد المجازات ما عرفت. فتدبّر وافهم. وينبغي بيان أمور :

الأول : قد يدعي منافاة التقييد بالمتصل لمدلول أداة العام ، بناء على كونها تتكفل بنفسها الدلالة على شمول المدخول وتبتنى تعميمه لجميع ما يصلح للانطباق عليه من الافراد ، إذ التقييد بالمتصل يقتضي عدم إرادة جميع الافراد.

ولكن هذه الدعوى وهم محض ، وذلك لأن الأداة على هذا الرّأي انما تفيد تعميم المدخول لما يصلح للانطباق عليه وتخرج الانطباق من الشأنية إلى

ص: 313

الفعلية.

ومن الواضح ان التقييد بالمتصل يمنع من صلاحية الانطباق ، فهو لا ينافي الأداة ولا يزاحمها في مدلولها ، فان : « العالم العادل » في : « أكرم كل عالم عادل » غير صالح للانطباق على العالم غير العادل ، فالأداة تفيد تعميمه لجميع ما يصلح للانطباق عليه.

وبتعبير آخر أوضح : ان مدخول الأداة هو المقيد بما هو مقيد لا ذات المقيد ، والمقيد بما هو مقيد لا يصلح للانطباق الا على افراده بما هو كذلك.

وبالجملة : لا تزاحم بين القيد ومدلول الأداة ، بل القيد يرتبط بموضوع دلالة الأداة ، فتدبر جيدا.

الثاني : قد أشرنا فيما سبق إلى ان أداة النفي أو النهي لو كانت مقتضية للعموم ، فهي لا تكون على حد سائر أدوات العموم فلا يثبت لها حكمها.

وقد أوعدناك في بيان ذلك.

وعليه ، فنقول : انه بناء على ان أداة العموم تفيد بنفسها تعميم المدخول لافراده ، وان حجيتها في الباقي بعد التخصيص بالمنفصل ..

اما من باب ان العام مستعمل في العموم والخاصّ يزاحم حجيته في مورده ، ومقتضاه حجيته في الباقي تحكيما لأصالة الظهور لدلالته التضمنية على ثبوت الحكم في الباقي.

أو من باب استعماله في الخصوص مجازا ، وتعين الباقي من بين مراتب المجاز بما قربنا به كلام الشيخ رحمه اللّه .

بناء على هذا الرّأي لا يتأتى هذا الكلام في أداة النفي أو النهي ، لأن دلالتها على العموم ليس من جهة ان يفيد وضعا إرادة جميع الافراد ، بل من جهة ان النهي أو النفي متوجه إلى ما يلازم انتفاء جميع الافراد ، وهو صرف الوجود في النهي وأقل المراتب في النفي.

ص: 314

وعليه ، فإذا دل دليل على ثبوت فرد كان معارضا لمدلول دليل النفي أو النهي ، للتنافي بين نفي أقل المراتب وثبوت مرتبة ، وبين تحريم صرف الوجود وجواز فرد ، ولا تكون نسبته إلى دليل النفي أو النهي نسبة الخاصّ إلى العام ، إذ ليس لدليل النفي الا دلالة واحدة على أمر واحد ، والعموم يستفاد بالملازمة العقلية ، وليست له دلالة على العموم رأسا كي تكون نسبة الدليل المتكفل لثبوت فرد نسبة الخاصّ إلى العام ، لكونه ينافيه في جهة عمومه لا في أصل مدلوله. فالتفت.

الثالث : قد تقدمت منا الإشارة إلى ان آثار العموم والخصوص لا تترتب على مثل لفظ : « عشرة » ، ممّا لم تكن دلالته على مندرجاته بالعموم.

توضيح ذلك : ان ما اخترناه من ان تقدم الخاصّ على العام لأجل كونه مقيدا لمدخول الأداة وكون نسبته إليها نسبة المقيد إلى المطلق ، لأن مدخول الأداة هو الطبيعة المرسلة ، لا يتأتى في مثل : « أكرم العشرة » إذ ورد ما يدل على حرمة إكرام بعضهم كما لو قال : « لا تكرم اثنين منهم » ، وذلك لأن مدلول « عشرة » ليس هو الطبيعة كي تكون نسبة الدليل الآخر نسبة المقيد.

وعليه ، فيكون الدليل الآخر معارضا لدليل : « أكرم العشرة » لا مخصصا له. فلاحظ.

إجمال المخصص

اشارة

إذا ورد عام مخصص وكان الخاصّ مجملا بحسب المفهوم.

فاما ان يكون متصلا أو منفصلا ، وكل منهما إما ان يكون دائرا بين الأقل والأكثر ، كمفهوم الفاسق المردد بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة وكونه مرتكب الذنب مطلقا ولو كان صغيرة. أو يكون دائرا بين المتباينين كمفهوم : « زيد » المردد بين كونه ابن عمرو وكونه ابن بكر.

ص: 315

فالصور أربع :

الأولى : ما إذا كان الخاصّ متصلا وكان مرددا بين الأقل والأكثر ، كقول المولى : « أكرم العلماء إلا الفساق » ، ولا إشكال في صيرورة العام مجملا لما عرفت. من ان المخصص المتصل يوجب قلب ظهور العام وانعقاده في غير الخاصّ ، فمتعلق الحكم حينئذ هو العالم غير الفاسق لأنه هو المدخول ، وهو مشكوك الانطباق على مرتكب الصغيرة فلا يكون ظاهرا فيه.

الثانية : ما إذا كان الخاصّ متصلا وكان مرددا بين المتباينين ، كقول المولى : « أكرم العلماء الا زيدا » وتردد « زيد » ، بين شخصين ، والحكم فيها كالحكم في الصورة الأولى والبيان نفس البيان فلا نعيد.

الثالثة : ما إذا كان الخاصّ منفصلا وكان مرددا بين المتباينين.

ولا إشكال في عدم حجية العام في كلا المتباينين ، وذلك بتقريبين :

أحدهما : ان حجية العام انما تكون ببناء العقلاء المعبّر عنها بأصالة العموم ، وهي لا يمكن تطبيقها على كلا الفردين ، لتعارض الأصلين فيهما للعلم الإجمالي بخروج أحدهما عن دائرة العموم.

وعليه ، فلا دليل على ثبوت حكم العام في أحد الفردين المتباينين.

وثانيهما : ان التخصيص يكشف عن تضييق دائرة حجية العام وقصرها على غير « زيد » مثلا ، فالعام حجة في غير « زيد » ، وعليه فكل من المتباينين يشك في انطباق العام بما هو حجة عليه.

الرابعة : ما إذا كان الخاصّ منفصلا وكان مرددا بين الأقل والأكثر ، كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم الفساق من العلماء ».

وقد حكم الاعلام فيها بحجية العام في مورد الشك بتقريب : ان العام قبل ورود المخصص انعقد له ظهور في العموم ، ومقتضاه حجية العام في جميع افراده ما لم يزاحمه ما هو أقوى منه ، والخاصّ الوارد انما يزاحمه فيما هو حجة فيه

ص: 316

وهو القدر المتيقن ، اما غيره فلا يكون الخاصّ حجة فيه فيكون العام هو الحجة فيه لعدم ما يزاحمه في مقام الحجية.

وقد ذكر هذا التقريب صاحب الكفاية وغيره (1).

وجملة القول : ان ظاهر الاعلام إرسال هذا الحكم بتعليله بنحو مسلم.

ولكن التحقيق انه قابل للمناقشة.

ولا بد من إيضاح الكلام ، لأنه مورد أثر عملي كبير ، ولم ينقح بنحو يشفي الغليل ، فنقول ومنه جل اسمه نستمد العصمة والتوفيق : انه ..

ان قلنا : بان الخاصّ يكون حجة ودليلا على ما يكون حجة فيه فعلا من مدلوله التصديقي ، كان ما عليه الاعلام هو الحق ، لأنه حجة في الأقل فقط ، لأنه القدر المتيقن من مدلوله التصديقي ، فيخصص العام بمقدار الأقل فقط.

وان قلنا : بأنه يكون حجة على ثبوت الحكم للعنوان الواقعي على واقعه وان لم يكن ظاهرا فيه فعلا ، كان الحق هو إجمال العام في مورد الشك ، لأن الخاصّ يستلزم تضييق دائرة حجية العام بغير عنوانه الواقعي ، فيشك في شمول المراد الواقعي من العام للمشكوك.

وتقريب القول الأول بان يقال : ان التعبد بصدور الدليل وجعل حجيته انما يصح بلحاظ ترتب الأثر العملي عليه ، وإلاّ فالتعبد به لغو. وعليه ففي المورد لا يتكفل دليل الحجية الا التعبد بالخاص بمقدار ما هو ظاهر فيه فعلا لا غير ، لعدم ترتب أثر عملي على التعبد به بالمقدار الزائد عليه. ولأجل ذلك يقال : بعدم شمول أدلة الحجية للخبر المجمل بالمرة لعدم ترتب ثمرة عملية عليه.

وتقريب القول الثاني بان يقال : ان الحجية وان كانت بلحاظ الأثر العملي ، لكن عدم الأثر للتعبد بثبوت الحكم على المجمل بواقعه ممنوع على

ص: 317


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /220- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

إطلاقه ، فانه يمكن ان يكون له أثر في بعض الأحيان كما فيما نحن فيه.

بيان ذلك : انه إذا صدر حكم من المولى على موضوع عام ثم علم العبد بثبوت حكم مناف لحكم العام على بعض افراده بعنوان مجمل لا يعرف معناه أصلا أو لا يعرف حدود معناه سعة وضيقا بان لم يكن عارفا باللغة ولم يكن من أهل اللسان ، فانه لا إشكال في حصول العلم لديه بتضيق المراد الواقعي من العام وانه غير واقع هذا العنوان المجمل ، لعلمه بعدم إمكان اجتماع الحكمين في موضوع واحد فهو لا يعلم إلاّ بتضيقه بغير العنوان المجمل على واقعه ، وأثر ذلك هو التوقف عن إثبات حكم العام لما يشك في كونه من افراد الخاصّ المعلوم صدوره.

وإذا تصورنا هذا الأمر في مورد العلم بالصدور وثبت اثره أمكن تطبيقه في مورد الشك في الصدور. ودعوى صحة شمول أدلة الحجية للتعبد بصدور الخاصّ بواقعه الّذي هو له وان لم نعرفه ، فان واقع الخاصّ معين في نفسه وانما هو مجمل في مقام الانكشاف ، فيلتزم بتقييد المراد الواقعي للعام بغير واقع الخاصّ كيف ما كان ، واثره عدم التمسك بالعامّ في مورد الشك لعدم الدليل على كونه مرادا واقعا ، وهو أثر عملي يصحح التعبد.

وهذا التقريب متين جدا ، ولكنه يبتني على ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من ان العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين هل ينحل حقيقة إلى علم تفصيلي وشك بدوي أو لا ينحل؟.

فان قلنا بانحلاله حقيقة ، لن ينفع هذا التقريب في إثبات إجمال العام في مورد الشك ، لأنه وان علم إجمالا بثبوت الحكم على واقع الخاصّ على ما هو عليه لكنه منحل بالعلم التفصيليّ بثبوته المتيقن والباقي مشكوك بدوا ، فلا دليل على خروجه عن العام فيشمله بلا كلام.

وان قلنا بعدم انحلاله حقيقة - بعد بيان ان التردد المفهومي بين الأقل

ص: 318

والأكثر من باب الأقل والأكثر الارتباطيين لا الاستقلاليين ، فانه لا كلام في الانحلال فيهما - تم هذا التقريب لقيام الدليل على خروج واقع الخاصّ عن العام فيكون مجملا حكما في مورد الشك.

ولا تنفع دعوى انحلال العلم الإجمالي حكما ، لأن الأثر فيما نحن فيه أثر واقعي يترتب على واقع العلم الإجمالي لا على منجزيته. فالتفت.

وبالجملة : فهذا التقريب يتم بلا دافع بناء على إنكار الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي المتعلق بالأقل والأكثر ، ويترتب عليه إجمال العام في مورد الشك بلا ريب ولا إشكال ، فتدبر جيدا ولاحظ.

وإذا عرفت ما ذكرناه تعرف ما في كلام الاعلام من المسامحة والإغفال.

وقد أطال المحقق النائيني في الكلام بما لا يخلو عن إيراد ، ونتعرض إلى ذكر نقطتين من كلامه (1) :

الأولى : ذكر قدس سره ان ورود المخصص المنفصل لا يوجب إخلالا بظهور العام ولا ينافي دلالته التصديقية ، بل يزاحمه في مقام الحجية ، ولأجل ذلك يكون العام حجة في مورد الشك ، لعدم حجية الخاصّ فيه فلا مزاحم للعام.

ويرد على هذا البيان امران :

أحدهما : انه انما يتم بناء على الالتزام بان تعميم المدخول تتكلفه الأداة ، أو الالتزام بأنه بواسطة مقدمات الحكمة مع الالتزام بجريانها في المراد الاستعمالي.

واما بناء على الالتزام بجريانها في المراد الواقعي فلا يتم كلامه ، بل يكون ورود المخصص مخلا بظهور العام لكشف المخصص عن المراد الواقعي. وهو قدس سره التزم بالمبنى الأخير كما سيأتي منه إن شاء اللّه تعالى (2) ، خلافا

ص: 319


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 455 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 429 - الطبعة الأولى.

لصاحب الكفاية حيث التزم بجريانها في المراد الاستعمالي (1) ، وتبعا للشيخ رحمه اللّه (2) ، ولأجل ذلك التزم بانقلاب النسبة (3).

اذن فما ذكره هنا يتنافى مع مسلكه والتزامه.

وستتضح هذه الجهة في مبحث المطلق والمقيد إن شاء اللّه تعالى.

ثانيهما : انه لو التزم ببقاء العام على ظهوره ومزاحمة الخاصّ له في مقام الحجية. فهذا وحده لا يكفي في إثبات حجية العام في المقدار المشكوك ، لما عرفت من الترديد في ان الدليل الخاصّ هل يستلزم قصر حجية العام فيما هو حجة فيه فعلا أو في العنوان الواقعي للخاص على واقعه؟ ، فلا بد من إثبات الطرف الأول دون الاكتفاء بمجرد الدعوى وإتمام الكلام بذلك.

الثانية : ما ذكره قدس سره في مقام الجواب عما أورده على نفسه من استلزام الدليل المخصص تقييد المراد الواقعي بغير عنوان الخاصّ من ان الأحكام انما تتعلق بالمفاهيم باعتبار انها مرآة للحقائق والواقع.

وعليه ، فدليل الخاصّ انّما يقيد العام بواقع الفاسق مثلا لا بمفهومه ، وما يكون الخاصّ حجة فيه هو المتيقّن منه دون المشكوك.

ويرد على ما ذكره : ان الحكم وان تعلق بالمفهوم بلحاظ انه مرآة للواقع ، إلاّ ان البحث يقع في ان المخصص يتكفل تقييد العام بواقع الفاسق - مثلا - الّذي يكون حجة فيه فعلا ، أو تقييده بواقعه على ما هو عليه ولو مع عدم العلم به تفصيلا.

وقد عرفت ابتناء المسألة على ما يأتي في باب العلم الإجمالي من بحث الانحلال إن شاء اللّه تعالى. فالتفت ولا تغفل.

ص: 320


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /218- الطبعة الأولى.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 278 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

هذا كله فيما كان التردد في شمول الحكم العام لأجل اشتباه مفهوم الخاصّ.

اما إذا علم مفهومه بحدوده وشك في انطباق الخاصّ عليه لأجل الاشتباه الخارجي ، المعبر عنه اصطلاحا بالشبهة المصداقية ، فهل يصح التمسك بالعامّ في إثبات الحكم له أو لا؟.

لا إشكال في عدم صحة التمسك به إذا كان المخصص متصلا ، لما عرفت من انه يوجب انقلاب ظهور العام وانعقاده في غير عنوان الخاصّ ، وعليه فالشك في فردية شيء للخاص يلازم الشك في انطباق العام عليه ، فمع الشك في فسق شخص - مثلا - يشك في انطباق عنوان : « العالم غير الفاسق » عليه الّذي هو معقد ظهور العام بعد تخصيصه بالمتصل. وهذا واضح لا كلام فيه.

وانما الكلام في ما إذا كان المخصص منفصلا ، كما إذا ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » ، وشككنا في فرد انه نحوي أو لا من جهة الاشتباه الخارجي كالشك في درسه للنحو ونحو ذلك. ولا يخفى ان هذه المسألة من مهمات المسائل من جهة الأثر العملي لابتناء كثير من الفروع الفقهية عليها ، ومن أمثلتها الظاهرة مسألة تنجس الماء المشكوك كونه كرا بالملاقاة ، فهل يشمله عموم ما دل على نجاسة الملاقي للنجس الّذي قد خرج عنه الماء الكر أو لا يشمله؟.

وقد اختلف الاعلام المحققون في جواز التمسك بالعامّ في مثل ذلك ، فمنهم من ذهب إلى جوازه مطلقا (1) ، ومنهم من ذهب إلى منعه مطلقا (2) ، ومنهم من ذهب إلى التفصيل ، كصاحب الكفاية فانه فصّل بين ما إذا كان المخصص لفظيا ،

ص: 321


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /192- الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 458 - الطبعة الأولى.

فمنع التمسك بالعامّ في مورده. وما إذا كان لبّيا فأجاز التمسك بالعامّ في مورده (1).

فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في ما إذا كان المخصص لفظيا.

وقد قرب جواز التمسك بالعامّ في مورده للشك فيه بوجوه :

منها : ما ذكره في الكفاية من ان العام حجة في مدلوله ما لم تقم حجة أقوى منه تزاحمه وتنافيه ، والخاصّ لا يكون حجة في الفرد المشكوك ، والمفروض انطباق عنوان العام عليه ، اذن فهو حجة فيه لعدم ما يزاحمه في مقام الحجية.

ودفعه صاحب الكفاية : بان الخاصّ يوجب تضييق حجية العام بغير عنوانه ، ففي المثال المزبور يكون العام حجة في العالم غير النحوي. وعليه فالعام وان انطبق على الفرد المشكوك بلحاظ ظهوره لكن لا يحرز انطباقه عليه بما هو حجة ، وانطباق عنوان العام لا ينفع ما لم يكن حجة فيما ينطبق عليه.

وعليه ، فلا يجوز التمسك بالعامّ لعدم إحراز انطباقه بما هو حجة.

بهذا المقدار من البيان دفع صاحب الكفاية وجه المستدل ، وبنى على عدم حجية العام في الشبهة المصداقية للخاص.

وقد أورد عليه : بأنه عجيب منه قدس سره لأنّه منع التمسك بالعامّ في هذا المورد ببيان يتأتى في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر ، ونفي وجه الحجية هنا مع انه بعينه هو الّذي تمسك به في إثبات حجية العام في الشبهة المفهومية المزبورة (2).

وهذا الوجه يرد عليه بدوا ، فكان على صاحب الكفاية التعرض إلى نفيه

ص: 322


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /221- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الإيرواني الشيخ ميرزا علي نهاية النهاية 1 / 283 - الطبعة الأولى.

وبيان الوجه في تقييد دائرة حجية العام بغير عنوان الخاصّ.

وسيأتي بيان عدم صحة هذا الإيراد وتمامية ما أفاده في الكفاية فانتظر.

ومنها : ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بانيا له على التزامه بان قوام فعلية الحكم بالوصول وعدم كونه فعليا حال الجهل.

بيان ذلك : انه لو التزمنا بان فعلية الحكم انما تتحقق بوصول الحكم والعلم به وجدانا أو تعبدا ، وذلك باعتبار ان حقيقة البعث والزجر - وهما قوام فعليّة الحكم - جعل ما يمكن ان يكون داعيا وزاجرا ، ومن الواضح ان الحكم ما لم يصل إلى المكلف ويعلم به لا يمكن ان يكون داعيا له أو زاجرا بحيث يفعل المكلف عن دعوته أو يترك عن زجره.

بناء على هذا الالتزام ، فبما ان الخاصّ لا يكون حجة في الفرد المشكوك لعدم العلم بانطباقه عليه لم يكن الحكم فيه - على تقدير كونه من افراده واقعا - فعليا فيكون العام فيه حجة ، لأن منافاة الخاصّ للعام وتقديمه عليه بالمقدار الّذي يكون فيه فعليا ، لأن المنافاة بين الأحكام انما هي في مرحلة فعليتها.

وقد أجاب عنه قدس سره : بان المخصص كما يكشف نوعا عن ثبوت الحكم لعنوان الخاصّ ، يكشف بالملازمة عن نفي حكم العام عن عنوان الخاصّ للمنافاة بينهما ، ولازمه عقلا قصر حكم العام على بعض مدلوله.

وحجية أحد هذين الكاشفين لا ترتبط بالآخر ، فإذا سقط الأول عن الحجية للجهل بالانطباق كان الآخر على حجيته (1).

وهذا البيان هو مضمون جواب الكفاية عن الوجه الأول ، وان اشتمل على بعض إيضاح كبيان ان تضييق دائرة حجية العام بالملازمة. ولكنه لم تنحل فيه جهة الغموض التي عرفتها ، فكان علينا إيضاح هذه الجهة.

ص: 323


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 339 - الطبعة الأولى.

ثم ان هذا المقدار من البيان لا يدفع الوجه الثاني وذلك لأن الخاصّ .. تارة : يكون مدلوله نفي حكم العام عن بعض الافراد مطابقة ، كما لو ورد : « أكرم كل عالم » ثم ورد : « لا يجب إكرام النحويين ».

وأخرى : يكون مدلوله إثبات حكم مضاد لحكم العام ، لبعض الافراد ، كما لو ورد : « يحرم إكرام النحويين » ، فان تضيق حكم العام وقصره على بعض افراده مدلول التزامي للخاص باعتبار تضاد الأحكام ، فإثبات أحدهما يلازم نفي الآخر.

ومحل الكلام في النحو الثاني ، لأنه فرض وجود كاشفين نوعيين أحدهما مطابقي والآخر التزامي ، وهو انما يثبت في النحو الثاني.

وعليه فيتوجه عليه :

أولا : انه حيث ثبت ان التنافي بين الأحكام في مرحلة فعليتها. وثبت - بحسب التزامه - ان فعلية الحكم تتحقق بالوصول. وثبت ان دلالة الخاصّ على نفي حكم العام عن عنوانه باعتبار المنافاة بين الحكمين ، لم يكن الخاصّ دالا على انتفاء حكم العام الا فيما كان حكمه فعليا لعدم المنافاة بين الأحكام الإنشائية.

وعليه ، فهو يتكفل تضييق حكم العام وقصره على غير النحوي المعلوم - في المثال المزبور - لا على غير النحوي مطلقا ، لأنه انما يتكفّل نفيه عن النحوي المعلوم ، فمورد الشك يعلم بانطباق العام عليه بلا مزاحم ومعارض.

فمع انتفاء الدلالة المطابقية عن الحجية لا وجود للدلالة الالتزامية كي يدعي حجيتها في هذا الحال.

وثانيا : ان بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية مع انتفاء المطابقية عنها ليس من المسلمات ، بل هو محل بحث وكلام وقد تقدم.

مع ان بعض من يرى عدم انفكاك الدلالتين في مقام الحجية ، يلتزم بذلك

ص: 324

فتدبر جيدا.

وبما انك عرفت ان جواب المحقق الأصفهاني عن الوجه الثاني عبارة أخرى عن جواب الكفاية عن الوجه الأول ، فهو جواب واحد عن كلا الوجهين.

وقد عرفت غموضه وعدم وضوح الحال به ولذا كان مورد النقض بالشبهة المفهومية.

وينبغي علينا إيضاحه وبيان نكتة الفرق بين المقامين.

والّذي نعتقده انه عمدة الوجوه التي تذكر في نفي التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وبوضوحه يعرف الحال في بعض كلمات الاعلام ، فنقول ومن اللّه التوفيق : ان القضايا المتكفلة للأحكام على نحوين :

الأول : ما تتكفل جعل الحكم على الموضوع المقدر الوجود والمفروض التحقق ، فيكون مفادها ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ، نظير : « أكرم كل عالم ».

الثاني : ما تتكفل جعل الحكم فعلا على موضوع خارجي ثابت نظير : « أكرم من في الدار » أو : « أضف هؤلاء ».

وقد يصطلح على النحو الأول بالقضايا الحقيقية. وعلى الثاني بالقضايا الخارجية.

ولا يهمنا ذلك لوقوع الاختلاف في تفسير الحقيقية والخارجية ، وهو لا يرتبط بما نحن فيه.

والأحكام في القضايا الشرعية من قبيل النحو الأول ، فان مفاد القضايا الشرعية إثبات الأحكام على الموضوع المقدر الوجود.

ومن الواضح ان المولى في مثل ذلك لا نظر له إلى جهة انطباق الموضوع على مصاديقه ولا يتدخل فيها ، ولذا يصح ان يجعل الحكم على موضوع لا وجود

ص: 325

لأيّ فرد من افراده ، بل بعض الأحكام المجعول في الشريعة يتوخّى من جعلها إعدام الموضوع كأحكام الحدود ونظائرها ، فان المقصود فيها عدم تحقق المحرمات المعينة مع انه مأخوذ في موضوعها.

وبالجملة : فغاية ما يدل عليه الدليل وما يتكلفه من بيان ، هو بيان ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع لا أكثر.

اما ان الموضوع هاهنا ثابت أولا فلا يرتبط بمدلول الدليل ، بل المكلف إذا أحرز ثبوت الموضوع في مقام يحرز ثبوت الحكم له بواسطة الدليل. فالقضايا تتكفل بيان كبريات لصغريات يحرزها المكلف نفسه.

وإذا ثبت ان مدلول الدليل هو هذا المعنى كان بمقتضى حجية الظهور حجة في انه مراد واقعا ، فيكون الدليل متكفلا بمقتضى أصالة الظهور بيان تعلق الإرادة الواقعية بثبوت الحكم على الموضوع المفروض الوجود ، وحجية الدليل بهذا المقدار.

واما إطلاق ان الدليل حجة في مصداق موضوعه المعلوم فهو لا يخلو عن مسامحة ، إذ عرفت ان ذلك أجنبي عن مدلول الدليل ، وإحراز ثبوت الحكم يكون من باب إحراز انطباق الموضوع العام على فرده ، فيثبت له الحكم بمقتضى الدليل.

وعليه ، فما يتكفله العام ثبوت الحكم على الموضوع العام المقدر الوجود ، والخاصّ يزاحمه في هذا المقام ، لأنه يتكفل إثبات حكم مضاد لحكم العام على تقدير وجود موضوعه ، فلا يجتمع الحكمان ويتقدم الخاصّ لأقوائيته ويوجب تضييق دائرة المراد الواقعي للعام وقصرها على غير عنوانه.

اما المصداق الخارجي للخاص ، فكل منهما لا يرتبط به ، وكما لا يرتبط الخاصّ لا يرتبط به العام ، وإطلاق ان الخاصّ ليس حجة فيه إطلاق مسامحي ، لما عرفت ان مقام حجية الدليل لا ترتبط بالخارج أصلا ، إذ هو حجة بلحاظ

ص: 326

مدلوله وليس في مدلوله ارتباط بجهة الانطباق خارجا.

وبالجملة : فعدم حجية الخاصّ في المصداق المشتبه لا يصحح التمسك بالعامّ لأنه حجة بلا مزاحم ، لأن مقام مزاحمة الخاصّ للعام لا مساس لها بجهة الانطباق ، وقد عرفت ان الخاصّ بمزاحمته أوجب قصر حكم العام على غير افراد الخاصّ المقدرة الوجود أيضا.

وبذلك يظهر الفرق بين الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر ، فان الخاصّ في مورد اشتباه المفهوم بما انه مجمل لم يكن مزاحما للعام إلاّ بمقدار كشفه عن المراد الجدي ، وهو المقدار المتيقن ، فيبقى العام في غيره بلا مزاحم.

فقصور الخاصّ في مورد الشبهة المفهومية انما هو في مقام المزاحمة وهو مقام الحجية والكشف عن المراد الواقعي. وليس كذلك الحال في مورد الشبهة المصداقية ، فان قصوره ليس في مقام الكشف والحجية ، بل لا قصور أصلا ، إذ التردد في الانطباق ، وهو أجنبي عن مفاد الدليل من حيث المراد التصديقي والمراد الواقعي. فالتفت وتدبر ولا تغفل.

هذا وقد عرفت ان هذا الجواب لا ينهض في نفي الوجه الثاني الّذي ذكره المحقق الأصفهاني.

فالتحقيق في نفيه هو ما تقدم منا في مبحث الواجب المعلق من عدم تقوم الفعلية بالوصول ، وإمكان كون الحكم فعليا مع الجهل به. وعليه فالخاص بعنوانه الواقعي ينافي العام لا بالمقدار الواصل منه ، لأنه يتكفل إثبات حكم فعلي لعنوانه الواقعي مضاد لحكم العام ، فالتنافي بلحاظ المصداق الواقعي للخاص لا بلحاظ المصداق المعلوم ، فتتضيق دائرة حجية العام بغير الخاصّ الواقعي. فلا يصح التمسك به في المصداق المشكوك لما عرفت في توجيه كلام الكفاية.

ومنها : ما ذكره المحقق العراقي ناسبا له إلى الشيخ الأعظم رحمه اللّه .

ص: 327

وبيانه بتوضيح : ان باب الخاصّ والعام يختلف عن باب المطلق والمقيد ، فان ورود الخاصّ وان أوجب تضييق حكم العام وقصر دائرته ، لكنه لا يوجب تغيير موضوع الحكم العام عما كان عليه ، بل يبقى العام بعنوانه على موضوعيته للحكم من دون تقييد له بشيء.

واما المقيد فهو يوجب تضييق دائرة موضوع الحكم وصيرورة موضوع الحكم مقيدا ولا يبقى على إطلاقه ، ونظير باب التخصيص موت أحد افراد العام في كونه مستلزما لتقليل سعة الحكم من دون تغيير فيما هو موضوع للحكم ، وهو شاهد على ان قصور الحكم وضيقه لا يلازم ضيق الموضوع.

ومما يشهد باختلاف البابين في هذه الجهة هو وقوع التسالم على عدم التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية للمقيد ، وعدم الكلام فيه مع وقوع الكلام في الشبهة المصداقية للمخصص. فلا يتوهم أحد - بعد تقييد الرقبة بالايمان في مثل : « أعتق رقبة » و: « أعتق رقبة مؤمنة » - جواز التمسك بإطلاق الرقبة في إثبات الحكم لمشكوك الإيمان.

وليس ذلك إلاّ لأن التقييد يوجب قلب عنوان الموضوع عما كان عليه قبله دون التخصيص ، فانه لا يوجب تغيير الموضوع.

وعليه ، فلدينا شبهتان : شبهة حكمية وهي الشك في منافاة عنوان ما لحكم العام كعنوان النحوي ل- : « أكرم كل عالم ». وشبهة موضوعية ، وهي الشك في ثبوت المنافي - المفروض منافاته - في فرد من افراد العام. ومقتضى أصالة العموم وظهور الكلام في ثبوت الحكم لجميع الافراد نفي كلتا الشبهتين ، فإذا ورد الخاصّ كان مزاحما للعام في حجيته بالنسبة إلى الشبهة الحكمية دون الموضوعية ، فيبقى العام على حجيته بالنسبة إليها بعد ورود المخصص.

وقد يدعي : ان العام لا يكون حجة في الشبهة الموضوعية ، لأن رفع الجهل فيها ليس من شئون المولى ، إذ قد يكون أكثر جهلا من عبده فيها ، فالجهل لا

ص: 328

يختص بالعبد ، بل مشترك بين العبد والمولى فلا معنى لتصديه لرفع الجهل من جهتها.

وتدفع هذه الدعوى : بأنه لا يشترك في تصدي المولى لرفع الجهل في الشبهة الموضوعية علمه فيها ، بل له نصب طرق وأمارات تتكفل رفع الجهل ولو كان هو جاهلا فيها كما لا يخفى جدا.

هذا ولكن الحق عدم حجية العام في الشبهة الموضوعية في الجملة ، لا لأجل هذا البيان ، بل لأجل ان الحجية موضوعها الظهور التصديقي للكلام ، وهو يتوقف على كون المتكلم بصدد الإفادة والاستفادة ، وفي مقام إبراز مرامه باللفظ وهو يتفرع على التفاته لمرامه ، ومع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه كيف يتعلق قصده بتفهيمه؟.

وعليه ، فما كان من الشبهات الموضوعية ناشئا عن اشتباه الأمور الخارجية لم يكن العام فيه حجة لجهل المولى به وعدم تصديه لتفهيمه باللفظ. وما كان منها ناشئا عن الشبهة الحكمية كان العام حجة فيه لكون مرجع رفع الجهل فيه هو المولى فله ان يتصدى لتفهيم ثبوت الحكم فيه.

وذلك نظير ما ورد من عدم صحة الصلاة في النجس ، فانه مخصص لعموم الأمر بالصلاة ، فإذا شك في نجاسة شيء لأجل الشك في جعل النجاسة له - كالحيوان المتولد من طاهر ونجس - صح التمسك بعموم الأمر بالصلاة في إثبات صحة الصلاة في جلده.

هذا ما أفاده قدس سره بتوضيح منا مع تلخيص وإجمال لبعض كلماته ، إذ المهم ما يختص به من البيان وهو امران :

أحدهما : بيان الفرق بين باب التخصيص وباب التقييد.

وثانيهما : التزامه بحجية العام في الشبهة المصداقية الناشئة عن اشتباه

ص: 329

الحكم دون الناشئة عن الاشتباه الخارجي ، بالبيان الّذي عرفته (1).

والّذي نستطيع ان نقوله : ان كلامه بكلتا جهتيه غير تام ، ومما لا يمكن المساعدة عليه.

اما الجهة الأولى : فيتوجه عليها :

أولا : ان ما ذكره من الفرق بين التخصيص والتقييد لا يتم على مبنى من يذهب إلى ان التخصيص يرجع إلى تقييد إطلاق المدخول ، وان شأن أداة العموم ليس إلاّ إفادة الاستغراق لا إفادة عموم المدخول ، فانه بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

فان واقع التخصيص - على هذا المبنى الّذي اخترناه وذهب إليه المحقق النائيني (2) واستقربه صاحب الكفاية (3) - لا يختلف عن التقييد ، والفرق بينهما لفظي واصطلاحي لا غير.

وثانيا : انه لا يتم بالنسبة إلى ما كان المخصص أحواليا - حتى على مبنى من يذهب إلى ان إفادة العموم بالأداة - ، لأنه يتكفل تقييد إطلاق المدخول بلحاظ أحوال الفرد ، وذلك كالمثال المتداول وهو : « لا تكرم فساق العلماء » بالنسبة إلى : « أكرم كل عالم » ، وذلك لأن من يذهب إلى ان إفادة العموم بالأداة انما يذهب إلى ان ذلك بلحاظ التعميم من جهة الافراد ، اما التعميم بلحاظ أحوال الفرد كالفسق وغيره فهو مفاد الإطلاق لا الأداة.

فالمخصص المزبور يصادم إطلاق المدخول ، فيرجع واقعه إلى التقييد وان سمي بالمخصص.

ص: 330


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار2/ 519 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 149 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 441 و 450 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /217- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهذا المعنى مغفول عنه في كلمات الاعلام ، فالتفت إليه ، وليكن على ذكر منه لعلك تنتفع منه في غير مقام.

وثالثا : ان ضيق الحكم وقصوره مع عموم الموضوع وسعته امر لا يقبل الموافقة ، فان الحكم يتبع موضوعه ان واسعا فواسع وان ضيقا فضيق.

وببيان آخر نقول : ان الموضوع ثبوتا اما ان يكون مطلقا ، أو مقيدا بغير الخاصّ ، أو مهملا. والثالث ممتنع لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. والأول لا يجامع التخصيص فيتعين ان يكون مقيدا.

واما الاستشهاد على ما ادعاه بموت أحد افراد العام ، فهو لا صحة له بعد ما عرفت من ان الأحكام ثابتة على الموضوعات المقدرة الوجود بلا نظر إلى الخارج وتطبيقه على افراده ، فانتفاء أحد الافراد خارجا لا ينافي ثبوت حكم العام للموضوع العام ولا يوجب تغييرا في الموضوع ، وهذا بخلاف التخصيص فانه يزاحم الدليل العام في حجيته على ما تقدم تفصيله.

ورابعا : ان ما ذكره من التسالم على عدم التمسك بالمطلق في مورد الشبهة المصداقية للمقيد ممنوع على إطلاقه.

بيان ذلك : ان موارد التقييد على نحوين :

الأول : ما كان المطلق والمقيد متفقين في الحكم ، والتقييد يكون لأجل إحراز وحدة الحكم المتكفلين لبيانه ، وهذا نظير : « أعتق رقبة » و: « أعتق رقبة مؤمنة » و: « صلّ » و: « صلّ إلى القبلة » أو : « صلّ مع الطهارة ». ويصطلح على هذا النحو ب- : « حمل المطلق على المقيد ».

والثاني : ما كان المطلق والمقيد متنافيين في الحكم ، فيقيد المطلق لأجل أقوائية المقيد أو قرينيته ، نظير : « أكرم العالم ». و: « لا تكرم الفاسق من العلماء ». وقد يصطلح على هذا النحو ب- : « حمل المطلق على المقيد » لكنه بضرب من

ص: 331

التأويل.

والأمر سهل بعد وضوح الفرق الواقعي بين النحوين.

ولا يخفى انه لا يصح التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية في النحو الأول ، لأن موضوع الحكم هو المقيد كما عرفت ، فلا يحرز انطباقه على المشكوك.

اما النحو الثاني فلا دليل ولا شاهد على وقوع التسالم على عدم التمسك فيه بالمطلق في الشبهة المصداقية.

واما ما استشهد به من الأمثلة ، فهو من قبيل الأول لا الثاني ، فلا يصلح شاهدا على مدعاه.

بل يمكننا دعوى : ان الشاهد على خلاف ما ذكره ، فقد نسب إلى المشهور التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية بلحاظ فتواهم بالضمان في مورد الشك في كون اليد يد أمانة أو عادية. ومن الواضح ان ما يدل على الضمان من المطلق لا العام كقاعدة : « على اليد ... » ونحوها.

وسواء تمت هذه النسبة أم لم تتم فهي تشهد لنا ، لأن ظاهرها عدم كون ما ادعاه من الأمور الارتكازية المسلّمة.

كما انك عرفت فتوى البعض بنجاسة مشكوك الكرّية إذا لاقى نجسا تمسكا بإطلاق تنجيس النجس لما يلاقيه المقيد بالكرّ.

وخامسا : لو سلم وقوع التسالم على عدم التمسك بالمطلق في مورد الشبهة المصداقية للمقيد مطلقا وفي كلا النحوين ، فهو لا يقتضي اختلاف البابين فيما ذكره من عدم استلزام التخصيص لتغيير موضوع الحكم واستلزام التقييد لذلك ، وذلك لأنه سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان ان شأن مقدمات الحكمة ليس إلاّ بيان إرادة الطبيعة المطلقة السارية في تمام الافراد ، واما خصوصية الشمول والبدلية وغيرها فهي تستفاد من قرينة أخرى عقلية أو غيرها ، فعموم

ص: 332

قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) لجميع افراد البيع ليس بالإطلاق بل للقرينة العقلية.

وعليه ، فإذا ورد ما يقيد المطلق كما ورد في مثال البيع : « نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن بيع الغرر » وشك في فرد انه غرري أو لا ، لا يمكننا الحكم بشمول الإمضاء له لعدم حكم العقل بذلك بالقرينة المتقدمة ولا دليل آخر على ثبوته فيه.

وبالجملة : مع احتمال الخصوصية من دون رافع لا يحكم العقل بتساوي الإقدام بالنسبة إلى الفرد المحتمل فيه الخصوصية.

اذن فعدم التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية لا يتعين ان يكون من جهة تضيق موضوع الحكم حتى يستكشف من التسالم فيه على العدم ووقوع النزاع في باب التخصيص عدم تضيق موضوع الحكم في باب التخصيص ، بل فيه جهة أخرى يمكن الاستناد إليها لا وجود لها في العام ، لأن الشمول فيه مدلول الكلام فتتساوى فيه الإقدام ، ولا يجدي احتمال الخصوصية في التوقف.

واما الجهة الثانية : فيدفعها ما تقدم منا من ان القضايا التي تتكفل الأحكام إذا كانت بلسان ثبوت الحكم على الموضوع المقدر الوجود من دون تصدي المولى مرحلة التطبيق ، بل يوكل ذلك إلى العبد نفسه ، لم يكن الدليل حجة في الفرد المشتبه للموضوع ، إذ الفرض انه مرتب على الموضوع ولا يتكفل الدليل إثبات موضوعه ، لأنه أجنبي عن مفاده ، بلا فرق بين ان يكون الاشتباه من جهة الشبهة الموضوعية أو من جهة الشبهة الحكمية ، فلو قال المولى : « المالك يجوز له التصرف في ملكه » لم يكن له نظر إلى تعيين المالك بهذا الدليل.

وبما انك عرفت ان ورود المخصص يوجب تضيق موضوع حكم العام

ص: 333


1- سورة البقرة ، الآية : 275.

وقصره على بعض افراده ، لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، لعدم كونه ناظرا إلى تشخيص موضوع حكمه ، ولا يختلف الحال بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية.

فتلخص ان ما أفاده قدس سره مما لا يمكن الالتزام به.

ثم انه قد يتخيل : إمكان التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية إذا كان ثبوت الحكم بنحو القضية الخارجية ، بمعنى ان الدليل العام كان يتكفل جعل الحكم على موضوع محرز محقق من قبل المولى نظير : « أكرم جيراني » ، بدعوى ان الدليل يتكفل إثبات الموضوع وإحرازه وامر تطبيقه بيد المولى فيكون حجة مع الشك (1).

والتحقيق : انه توهم فاسد ، وذلك لأن المخصص تارة يكون بنحو القضية الحقيقية. وأخرى بنحو القضية الخارجية ، فإذا قال : « أكرم هؤلاء » مشيرا إلى جماعة جلوس معينين ، فتارة يقول في مقام التخصيص : « لا تكرم الفاسق منهم » وأخرى يقول : « لا تكرم هؤلاء » مشيرا إلى قسم من الجماعة.

فعلى الأول يكون الحكم فيه كالحكم في القضايا الحقيقية ، وذلك لأنه يكشف عن عدم إرادته إكرام الفاسق من الجماعة عدم تصديه إلى تعيينه ، بل أو كله إلى المكلف نفسه ، فتكون نتيجة التخصيص انقلاب العام إلى قضية حقيقية أو صيرورته مركبا من قضية خارجية وحقيقية ، لأنه يكشف عن عدم تصدي المولى لإحراز الانطباق من جهة عنوان الفسق.

وعلى كل حال فمع الشك في فسق أحدهم لا يثبت له الحكم ، لترتبه على غير الفاسق منهم بنحو فرض الوجود.

ومثل هذا النحو نستطيع ان نقول بأنه خارج عن باب القضية الخارجية

ص: 334


1- المحقق الخوئي : السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 459 - الطبعة الأولى.

كما عرفت.

ومنه تظهر المسامحة في جعله مثال الشبهة المصداقية في القضية الخارجية كما ورد في أجود التقريرات (1) ، والّذي يخطر بالبال انه لم ينتبه لذلك في بعض المباحث التي يتعرض فيها لأقسام القضايا.

والمثال الصحيح هو النحو الثاني ، فانه لا يوجب تغييرا في موضوع الحكم على باقي الافراد ، بل يبقى الموضوع على ما كان عليه فهو نظير إخراج بعض افراد الجماعة عنهم تكوينا ، ولا يضر التخصيص بكون المولى في مقام إحراز الانطباق وتشخيص موضوع الحكم.

ولكن ذلك كله لا ينفع فيما نحن بصدده من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية كما إذا اشتبه فرد في كونه من الباقين أو المخرجين ، فلا وجه لتوهم التمسك بالعامّ في إثبات الحكم له ، إذ الحكم في القضية الخارجية لما كان ثابتا لواقع المعين المشار إليه بعنوان عام ، كان موضوع الحكم العام في الحقيقة مباينا لموضوع الحكم الخاصّ ، فتكون نسبة الدليلين إلى المشتبه على حد سواء.

وبالجملة : إذا قال : « أكرم هؤلاء » فكأنه قال : « أكرم زيدا وعمراً وبكرا وخالدا وباقرا » ، فإذا قال : « لا تكرم هؤلاء » مشيرا إلى باقر وخالد ، كان موضوع الحكم العام زيدا وعمراً وبكرا ، وموضوع الخاصّ خالدا وباقرا ، فمع التردد في شخص انه بكر أو خالد لم يكن وجه لتوهم شمول حكم العام له. وهذا واضح بأدنى تأمل.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني : فيما إذا كان المخصص لبّيا.

والحق هو التفصيل بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية. فإذا قال :

ص: 335


1- المحقق الخوئي : السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 460 - الطبعة الأولى.

« أكرم كل عالم » ثم علم العبد بأنه لا يريد إكرام الفاسق منهم كشف ذلك عن تضيق المراد الواقعي للعام ، فمع الشك في فسق أحدهم لا وجه للتمسك بالعامّ لأنه يتكفل إثبات الحكم على تقدير الموضوع من دون تصدي المولى لتشخيص موضوع حكمه.

واما إذا قال : « أكرم ساكني هذه المدرسة » مع علمه بهم واستقصائه لهم ، فقد تصدى المولى لمرحلة الانطباق وتشخيص موضوع حكمه ، فإذا علمت بأنه لا يريد إكرام الفاسق منهم لم يجدي ذلك في رفع اليد عن الحكم الا فيما قطع بفسقه ، اما مع الشك فليس للعبد التوقف بعد فرض ان المولى أثبت الحكم لكل فرد بعينه بنفسه ، وكان للمولى عتابه وعقابه لو توقف في مورد الاشتباه ، وانه لا حق لك في الاستبداد والاعتناء بالاحتمال بعد ان عينت لك الموضوع وأثبتّ الحكم لك.

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام الكفاية حيث ذهب إلى حجية العام في مورد الشك مستدلا ببناء العقلاء وثبوت السيرة على ذلك ، بشهادة ان المولى لو قال لعبده : « أكرم جيراني » وعلم العبد انه لا يريد إكرام عدوّه منهم فليس له التوقف في مورد من يشك في عداوته من الجيران وكان للمولى مؤاخذته (1).

فان ما ذكره قدس سره من المثال وان كان الحكم فيه مسلما ، لكنه لا ينفع في إثبات جواز التمسك بالعامّ مطلقا فانه مثال للقضية الخارجية وقد عرفت انه يلتزم بحجية العام فيها. اما القضية الحقيقية فلا وجه للتمسك بالعامّ فيها ولم يثبت بناء من العقلاء على ذلك ، فان الثابت من بناءهم ليس إلاّ التمسك في مورد القضية الخارجية.

وقد قرب المحقق الأصفهاني رحمه اللّه جواز التمسك بالعامّ في الشبهة

ص: 336


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /222- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المصداقية للمخصص اللبّي ، والفرق بينه وبين المخصص اللفظي ، بان العام كما يدل على عدم منافاة عنوان ما لحكمه كذلك يدل على عدم وجود المنافي من بين افراده ، فأصالة العموم محكمة في كلتا الشبهتين - أعني الحكمية والموضوعية -. والمخصص اللفظي يدل على منافاة موضوعه لحكم العام كما يدل على وجود المنافي في افراد العام ، وإلاّ لكانت تصدي المولى لبيانه عبثا ولغوا ، فيمنع حجية العام في كلتا الشبهتين اما المخصص اللبّي فلا يكشف الا عن وجود المنافاة دون وجود المنافي كما لا يخفى ، فهو انما يمنع حجية العام في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية (1).

ويتوجه عليه : ان ما ذكره بالنسبة إلى المخصص اللبّي انما يتم بالنسبة إلى ما كان العموم مفاد القضية الخارجية. اما إذا كان الحكم ثابتا بنحو القضية الحقيقية فلا يتم كلامه ، لما عرفت من عدم النّظر فيه إلى مقام تشخيص الموضوع وتطبيقه على افراده ، بل هو ثابت لموضوعه المقدر الوجود ، وتشخيصه لا يرتبط بالمولى ، بل هو موكول إلى المكلف نفسه. فلاحظ تدبر.

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره - بعد ما ذكر حجية العام في الفرد المشكوك للمخصص اللبّي - ذكر انه يمكن التمسك بأصالة العموم في إثبات كون المشكوك ليس من افراد الخاصّ ، فيقال في مثل : « لعن اللّه بني أمية قاطبة » المخصص بالمؤمن منهم ، ان فلانا يجوز لعنه وان شك في إيمانه تمسكا بأصالة العموم ، وكل ما جاز لعنه ليس بمؤمن فينتج فلانا ليس مؤمنا (2).

ولا يخفى ان هذا المطلب يتأتى في موارد الشبهة المصداقية مطلقا ولو كان المخصص لفظيا ، فيما لو التزم بجواز التمسك بالعموم فيها.

ص: 337


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 341 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /223- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهذه المسألة تتحد موضوعا مع المسألة التي ذكرها بعد ذلك التي موضوعها : ما إذا ورد عام ثم علم بعدم ثبوت الحكم لفرد وشك في انه من افراد العام وقد خرج بالتخصيص أو انه ليس من افراده فيكون خارجا بالتخصّص (1). وهي أحد موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، وقد وقع الكلام في انه هل يجوز التمسك بأصالة العموم في إثبات عدم التخصيص وخروجه بالتخصص؟.

وبيان اتحادهما موضوعا : ان التمسك بأصالة العموم في إثبات كون الخارج خارجا بالتخصص لا بالتخصيص ، انما هو لأجل دعوى ان العام كما له دلالة على ثبوت الحكم لجميع افراده له دلالة التزامية على ان من لا يثبت له الحكم ليس من افراده ، وهو ما يعبّر عنه في الاصطلاح المنطقي بعكس النقيض. فقول القائل : « كل عالم يجب إكرامه » يدل على ان : « من لا يجب إكرامه ليس بعالم » ، فإذا علم بعدم وجوب إكرام زيد وشككنا في انه عالم أو غير عالم فنتمسك بأصالة العموم المتكفلة لإثبات عكس النقيض فيدل على عدم كون زيد عالما وانه خارج بالتخصص لا التخصيص.

وبنظير هذا البيان توصل صاحب الكفاية - فيما نحن فيه - إلى إثبات كون الفرد المشكوك ليس من افراد الخاصّ ، وذلك لأن لدينا عاما وهو مثلا : « يجوز لعن بني أمية قاطبة » وخاصا وهو مثلا : « يحرم لعن المؤمن منهم » وهذا الخاصّ يدل بعكس النقيض على : « ان من لا يحرم لعنه ليس بمؤمن » ، فإذا تكفل العام إثبات جواز اللعن كان دالا بضميمة عكس نقيض الخاصّ على عدم كون الفرد مؤمنا وانه خارج عن الخاصّ تخصصا لا تخصيصا. فمراده قدس سره من قوله : « وكل من جاز لعنه ليس مؤمنا » بيان عكس نقيض الخاصّ ، إذ لا منشأ

ص: 338


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /225- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لها غيره.

وبالجملة : الفرد المشكوك الّذي يثبت له حكم العام يدور امره بين خروجه عن الخاصّ تخصيصا أو تخصصا ، فببركة عكس نقيض الخاصّ يثبت انه خارج بالتخصص لا بالتخصيص.

والخلاصة ان دليل العام في المقام لا يتكفل سوى نفي حكم الخاصّ عنه وإثبات ضده كدليل حرمة إكرام زيد في تلك المسألة.

واما إثبات انه ليس من افراد الخارج عنه في حكمه فهو ببركة عكس النقيض ، فان الأمر هاهنا يدور بين التخصيص والتخصص ولو لا عكس النقيض لا طريق إلى نفي التخصيص وإثبات التخصص.

وإذا ثبت بوضوح اتحاد المسألتين موضوعا وانهما من واد واحد يتوجه على صاحب الكفاية سؤال الفرق الموجب لتمسكه بعكس النقيض هاهنا وتوقفه في تلك المسألة.

ويمكن الجواب : بان المسألتين وان اتحدتا موضوعا وكونهما معا من دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، لكن في البين ما يوجب الفرق.

وذلك لأن توقف صاحب الكفاية عن التمسك بأصالة العموم في تلك المسألة انما كان لأجل ان أصالة العموم ليست حجة في المدلول المطابقي ، وذلك لأنه مع العلم بخروج : « زيد » عن حكم : « كل عالم يجب إكرامه » والشك في انه عالم أو غير عالم لا يمكننا ان نقول ان المراد الواقعي ثبوت الحكم لجميع ما يفرض كونه عالما حتى ولو كان زيدا ، للعلم بخروجه ، اذن فهو ليس حجة في المدلول المطابقي.

والأصول اللفظية وان كانت حجة في مدلول الكلام الالتزامي ، إلاّ ان القدر المتيقن حجيتها فيه في مورد تكون حجة في المدلول المطابقي ، اما مع عدم حجيتها في المدلول المطابقي فلا دليل على حجيتها لإثبات المدلول الالتزامي

ص: 339

فقط.

وعليه ، فلا يكون العام حجة في عكس النقيض الّذي هو مدلول التزامي له حتى يثبت به عدم كون زيد عالما.

وهذا غير جار في هذه المسألة - أعني : مسألة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية - وذلك لأن الخاصّ الّذي يحاول التمسك به في إثبات عكس نقيضه حجة في مدلوله المطابقي - ولو بواسطة أصالة العموم - ، فيمكننا ان نقول ان المراد الواقعي هو عدم جواز لعن كل مؤمن من بني أمية ولو كان هذا الشخص - أعني المشكوك - ولا ينافيه ثبوت حكم العام له لأن ثبوته ظاهري لا واقعي ، إذ لو علم بأنه مؤمن خرج عنه جزما ، وإذا كان الخاصّ حجة في مدلوله المطابقي على عمومه كان حجة في مدلوله الالتزامي أيضا ، فيدل على ان من يجوز لعنه ليس بمؤمن ، فإذا ضم هذا إلى صغرى جواز لعن الفرد المشكوك ثبت انه ليس بمؤمن.

وبالجملة : الفرق ان احتمال التخصيص هاهنا ينفي بأصالة العموم ولا يمكن نفيه هناك بها. فيلزم التفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية في الحجية هناك ولا يلزم هاهنا. وهذا فرق فارق بلا إشكال.

هذا كله فيما يتعلق بتوجيه كلام صاحب الكفاية وهو مما لا نعهد له سابقة بيان.

وبما انك عرفت ان تمامية كلامه فيما نحن فيه تبتني على الالتزام بحجية العام في عكس نقيضه. فلا بد من تحقيق ذلك. فقد أنكرت حجية العام في عكس نقيضه لوجهين :

الأول : ان الأمارة لا تكون حجة في مطلق اللوازم ، بل هي حجة في نحوين منهما :

أحدهما : ان يكون بين المتعبد به ولازمه ملازمة بينة بالمعنى الأخص ،

ص: 340

بحيث يكون الدليل الدال على المتعبد به دالا بالملازمة العرفية على ثبوت لازمه.

وثانيهما : ان يكون اللازم مفاد أمارة كالمدلول المطابقي ، فيكون الدليل حجة فيه بالعنوان الّذي يكون حجة في مدلوله المطابقي كموارد الخبر ، فان الاخبار بالشيء اخبار بلازمه ، فهناك خبران أحدهما باللازم والآخر بالملزوم.

وليس عكس النقيض بالنسبة إلى العام من أحد النحوين.

الثاني : ما ذكره المحقق العراقي في مقالاته من ان العام لا نظر له إلى تعيين المصاديق وتشخيصها ، بل هو انما يتكفل الحكم على تقدير الموضوع (1).

وفي كلا الوجهين نظر :

اما الأول : فلان عكس النقيض لازم بيّن للحكم العام ، فانه من الواضح ان ثبوت الحكم واقعا لجميع افراد العام يلازم نفي العام عما لا ثبوت للحكم فيه. وعليه ، فالدليل الدال على ثبوت الحكم واقعا لجميع الافراد دال بالملازمة على نفي العموم عن غير مورد الحكم. فعكس النقيض بواقعه - لا بلفظه وبهذا الاصطلاح - امر لا ينكره أحد وتشهد له الأمثلة العرفية في مختلف الموارد ، فمثلا لو عرف أهل بلدة بالسخاء وجاء شخص ادعى انه من أهل تلك البلدة ولم يكن سخيا فانه يكذب في دعواه بدعوى ان أهل تلك البلدة أسخياء وأنت لست بسخي. ونظير ذلك كثير.

واما الثاني : فلان عدم نظر العام إلى تشخيص مصاديقه مسلم لكنه بالنسبة إلى مدلوله المطابقي وبلا واسطة ، فانه عبارة عن الحكم على تقدير ، ولا يسلم عدم نظره أصلا ولو بوسائط كما فيما نحن فيه ، فانه يتكفل بالدلالة الالتزامية العرفية بيان كبرى كلية لتعيين المصداق ، فينشأ تشخيصه من ضم صغرى إلى هذه الكبرى. فتدبر.

ص: 341


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 153 - الطبعة الأولى.

وخلاصة الكلام : ان دلالة العام بوضوح على عكس النقيض لا تقبل الإنكار.

وقد اتضح لك من مجموع ما تقدم : حكم صورتين من صور دوران الأمر بين التخصيص والتخصص.

تبقى صورة تعرض لحكمها المحقق النائيني وهي : ما إذا ورد عام ثم ورد ما يدل على ثبوت خلاف حكمه بالنسبة إلى فرد مردد بين فردين أحدهما من افراد العام والآخر من غير افراده ، كما لو قال : « أكرم كل عالم » ثم قال : « لا تكرم زيدا » وكان هناك زيدان أحدهما عالم والآخر غير عالم ولم يعرف المراد به هل هو غير العالم فيكون من باب التخصص أو العالم فيكون من باب التخصيص؟. وقد ذهب قدس سره إلى التمسك بأصالة العموم في إثبات وجوب إكرام زيد العالم ، وبها يثبت ان المحكوم بالحرمة هو غير العالم ، فتكون أصالة العموم موجبة لانحلال العلم الإجمالي وتعيين المعلوم بالإجمال في أحد طرفيه (1).

والّذي نريد ان نقوله هنا : ان ما ذكره انما يتم لو بنى على حجية أصالة العموم - بلحاظ أنها إمارة - في مطلق اللوازم العقلية ، أو ان دلالتها على ثبوت الحرمة في غير العالم بالدلالة الالتزامية العرفية ، ولكنه قدس سره لا يلتزم بالشق الأول ، كما ان الشق الثاني ممنوع ، إذ الملازمة اتفاقية ناشئة من العلم الإجمالي ، فلا تكون سببا للظهور العرفي الّذي هو موضوع الحجية. فلاحظ جيدا ولتكن على ذكر منه لعله ينفعك في مقام آخر.

ص: 342


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 457 - الطبعة الأولى.
استصحاب العدم الأزلي :

ثم انه يمكن إثبات حكم العام للفرد المشكوك بواسطة نفي عنوان الخاصّ عنه بالأصل إذا كان مسبوقا بعدمه ، فيقال في العالم المشكوك الفسق انه لم يكن فاسقا ، فمع الشك يستصحب عدم فسقه فيثبت حكم العام له.

ولكن هذا واضح بالنسبة إلى الاعراض المتأخرة عن وجود الذات والواردة عليه ، بحيث تكون الذات غير متصفة بها في بعض الأحيان كالفسق والعدالة والعلم والجهل ونحوها.

اما بالنسبة إلى الأوصاف الأزلية المقارنة لوجود الذات المستمرة باستمرارها ، فيشكل الأمر فيها ، إذ ليس للذات حالة سابقة يتيقن فيها بعدم الوصف كي يستصحب عدمه ، ولأجل ذلك عقد الاعلام بحثا اصطلحوا عليه ب- : « بحث استصحاب العدم الأزلي » بحثوا فيه إمكان جريان أصالة عدم الوصف الأزلي لإثبات حكم العام للفرد المشكوك وعدم إمكانه ، ومثاله : ما ورد من ان المرأة تحيض إلى خمسين المخصص بالقرشية فانها تحيض إلى ستّين ، فمع الشك في كون امرأة قرشية ، فلا مجال للقول بأنها لم تكن قرشية فيستصحب العدم ، لأنها حين وجدت اما قرشية أو غير قرشية ، نعم يمكن إجراء استصحاب عدم قرشية المرأة ولو بلحاظ عدم الموضوع في السابق ، وهذا هو محل الكلام بين الاعلام.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى جريان الاستصحاب وإثبات حكم العام للمشكوك بواسطته ، فقال : « ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل ، لما كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب

ص: 343

الموارد الا ما شذ ممكنا ، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وان لم يجز التمسك به بلا كلام ضرورة انه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقح به انه مما بقي تحته ، مثلا إذا شك ان امرأة تكون قرشية أو غيرها فهي وان كان إذا وجدت اما قرشية أو غير قرشية ، فلا أصل يحرز به انها قرشية أو غيرها ، إلاّ ان أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح انها ممن لا تحيض الا إلى خمسين ، لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضا باقية تحت ما دل على ان المرأة انما ترى الحمرة إلى خمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية ، فتأمل تعرف » (1).

والمراد من قوله : « أو كالاستثناء من المتصل » الإشارة إلى ان المخصص على قسمين :

فمنه : ما يكون مؤدّاه بيان منافاة بعض الأوصاف لحكم العام فيتكفل إخراجه. وذلك كالاستثناء نظير : « أكرم كل عالم الا الفاسق » وكالشرط في مثل : « أكرم العلماء إذا لم يكونوا فساقا ».

ومنه : ما يكون مؤدّاها دخالة وصف آخر في الحكم نظير : « أكرم كل عالم عادل » أو : « إذا كان عادلا ».

ومحل البحث هو القسم الأول ، لوضوح ان القسم الثاني يوجب تضييق موضوع الحكم وتعنونه بعنوان زائد على عنوان العام.

ثم إن كلامه - مع قطع النّظر عن أصل دعوى جريان الاستصحاب - وقع موردا للإشكال من جهات عديدة نتعرض إليها فيما بعد إن شاء اللّه تعالى ، وانما المهم فعلا البحث في موضوع الكلام ، أعني جريان استصحاب العدم الأزلي. وقد عرفت انه قدس سره ذهب إلى جريانه.

ص: 344


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /223- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن المحقق النائيني خالفه في ذلك وذهب إلى عدم جريانه.

وقد ذكر قبل تحقيق المطلب : ان كلام صاحب الكفاية انما يتم بناء على أخذ عدم الخاصّ في موضوع الحكم بنحو العدم المحمولي الراجع إلى فرض موضوع الحكم مركبا من جزءين ، أحدهما عنوان العام ، والآخر عدم عنوان الخاصّ من دون فرض اتصاف العام بعدم الخاصّ ، بل يؤخذ عدم الخاصّ بمفاد ليس التامة لا الناقصة. واما بناء على أخذ عدم الخاصّ في الموضوع بنحو العدم النعتيّ الراجع إلى فرض موضوع ، هو العام المتصف بعدم الخاصّ ، فيكون عدم الخاصّ مأخوذا بمفاد ليس الناقصة ، فلا يتم ما ذهب إليه لعدم سبق اتصاف الذات بعدم الخاصّ ، لأنها حين توجد توجد امّا متصفة به أو بعدمه. واما العدم المحمولي الأزلي ، فهو وان كان في نفسه مجرى الأصل لكنه لا ينفع في إثبات العدم النعتيّ إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت.

وبالجملة : فالبحث يبتني على أخذ عدم عنوان الخاصّ بنحو التركيب أو بنحو التوصيف.

وقد ذهب قدس سره إلى الثاني وقدّم لذلك مقدمات ثلاث (1) :

المقدمة الأولى : ان التخصيص سواء كان بدليل منفصل أو متصل ، استثناء كان أو غيره ، يوجب تقيد موضوع الحكم العام ، بنقيض عنوان الخاصّ ، فإذا كان الخاصّ وجوديا تعنون العام بعنوان عدمي وإذا كان عنوان الخاصّ عدميا تقيد الموضوع بعنوان وجودي.

والوجه في ذلك : هو ان موضوع الحكم أو متعلقه بالنسبة إلى انقساماته الأوّلية لا بد ان يلحظ اما مطلقا بالنسبة إليها أو مقيدا بوجودها أو بعدمها ، ولا يجوز ان يكون مهملا لامتناع الإهمال في مقام الثبوت وتردد الحاكم الملتفت من

ص: 345


1- لم يذكر هنا إلا مقدمتين.

جهة التقسيمات الأولية.

وعليه ، فإذا خصص العام فالباقي تحت العام اما ان يكون مقيدا بنقيض الخارج ، واما ان يكون مطلقا. والثاني ممتنع للزوم التدافع والتهافت بين دليل العام والمخصص ، إذ لا يجتمع الحكم بحرمة إكرام النحوي - مثلا - مع وجوب إكرام العالم سواء كان نحويا أو لا. فيتعين الأول فيكون موضوع الحكم مقيدا بغير عنوان الخاصّ وهو المدعى.

ولا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل من هذه الجهة ، وانما الفرق بينهما من جهة أخرى ، وهي ان المخصص المتصل يوجب التصرف في ظهور العام ، فلا ينعقد له ظهور أولا الا في الخصوص فهو يتصرف في الدلالة التصديقية للعام ، واما المخصص المنفصل فهو يوجب التقييد في المراد الواقعي لا في الدلالة التصديقية لانعقاد ظهور العام قبل وروده. وهذا الفرق غير فارق في جهة البحث لاشتراكهما في تقييد المراد الواقعي (1).

أقول : ما ذكره أخيرا من عدم ثبوت الفرق بين المخصص المتصل والمنفصل من جهة ان المتصل يتصرف في الدلالة التصديقية ، والمنفصل لا يتصرف إلاّ في المراد الواقعي ، غير تام ، بناء على ما التزم به من رجوع التخصيص إلى تقييد مدخول أداة العموم ، لما سيأتي منه من ان التقييد المنفصل يوجب الإخلال بظهور المطلق في الإطلاق ، بلحاظ انه يرى ان مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الواقعي ، فيكون معلقا على عدم البيان إلى الأبد (2) ، كما هو رأي الشيخ الأعظم قدس سره (3) ، ورتب على ذلك آثارا متعددة في باب

ص: 346


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 465 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 529 - الطبعة الأولى.
3- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /218- الطبعة الأولى.

التعادل والترجيح كالتزامه بانقلاب النسبة (1). فالتفت.

واما ما ذكره أولا من استلزام التخصيص تقييد موضوع الحكم بغير عنوان الخاصّ ، فهو محل الكلام ، وقد عرفت فيما تقدم إنكار المحقق العراقي لذلك ووافقه المحقق الأصفهاني وأقام البرهان على امتناعه.

والّذي نراه ان الاختلاف بينهما مبنائي ، فكل منهم على حق في دعواه بناء على ما التزم به في مدلول أدوات العموم.

توضيح ذلك : انه إذا التزم برجوع العام إلى المطلق ، وان شأن أدوات العموم ليس إلاّ إفادة الاستغراقية أو المجموعية أو البدلية ، وعموم المدخول مستفاد من جريان مقدمات الحكمة فيه - كما التزم به المحقق النائيني وقرّبناه - ، كان التخصيص مستلزما للتقييد بلا تردد ، وذلك لأن الملحوظ في العام ثبوتا وفي مقام تعلق الحكم هو الطبيعة الشاملة ، فإذا خرج بعض الافراد عن الحكم امتنع لحاظ الطبيعة حينئذ بنحو الشمول ، وهذا هو معنى امتناع الإطلاق ، فيتعين ان تلحظ مقيدة بعدم عنوان الخاصّ.

وان التزم بان العام يختلف عن المطلق ، وان العموم مدلول الأداة نفسها والمدخول هو الطبيعة المهملة ، فيكون مفاد العموم إرادة جميع افراد الطبيعة المهملة ، لم يكن التخصيص مستلزما للتقييد ، لأنه لم يلحظ في مقام تعلق الحكم ، الطبيعة القابلة للإطلاق والتقييد كي يتأتى فيها الترديد المزبور ، بل لوحظ جميع افراد الطبيعة المهملة ، ولا معنى للإطلاق والتقييد فيه كي يتأتى الترديد المتقدم بعد التخصيص ، لأن الإطلاق والتقييد شأن الطبيعة ، وواقع « جميع الافراد » ليس كذلك ، ولو تصورنا الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الباقي لالتزمنا بأنه مطلق لا مقيد ، بمعنى ان الحكم ثابت للباقي ثبت الحكم لغيره أم لم يثبت.

ص: 347


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 278 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبالجملة : العموم على الالتزام الأول مستفاد من فرض الموضوع هو الطبيعة السارية ، فيتأتى فيها حديث الترديد بين الإطلاق والتقييد بعد ورود التخصيص. وعلى الالتزام الآخر لم يستفد من ذلك ، بل لوحظت الافراد جميعها رأسا لا بتوسط لحاظ الطبيعة بنحو السريان ، فهو بمنزلة ان يقال : « جميع افراد الطبيعة المهملة » ، ومن الواضح انه لا معنى لأن يقال : ان جميع الافراد لوحظ اما مقيدا أو مطلقا ، ولو سلمنا إمكانه فقد عرفت انه يتعين الإطلاق لا التقييد.

هذا هو تحقيق المقام ، ولا إشكال لنا على كل من هؤلاء الأعلام لاختلاف مبناهم ، وانما إشكالنا على من يرى ان العموم بالأداة ويقرّ هذه المقدمة للوجه المزبور. فلاحظ.

ثم انه قد أشرنا إلى ان المحقق الأصفهاني أقام البرهان على امتناع تعنون العام بعد التخصيص بعنوان زائد على عنوان العام.

وبيانه : ان موضوع البعث الحقيقي الموجود بوجود منشأ انتزاعه لا مقام له سوى مقام الإنشاء ، فما يكون موضوعا للحكم في البعث الإنشائي يكون هو الموضوع للبعث الحقيقي ، لأن الإنشاء انما يكون بداعي جعل الداعي ، ويستحيل الإنشاء بداعي جعل الداعي إلى غير ما تعلق به ، فإنشاء الحكم المتعلق بالصلاة يستحيل ان يكون داعيا للصوم ، كما ان إنشاء الحكم المتعلق بإكرام العالم يستحيل ان يكون داعيا لإكرام غيره.

وعليه ، فبما ان الحكم المنشأ بالدليل العام أنشئ على الموضوع العام ، فيستحيل ان يتقيد بورود المخصص بقيد آخر لاستلزامه اختلاف موضوع البعث الإنشائي عن موضوع البعث الحقيقي ، وقد عرفت انه ممتنع. وقد ذكر بعد ذلك : بان يشهد لما ذكرنا مضافا إلى البرهان ، ان المخصص إذا كان مثل : « لا تكرم زيدا العالم » لا يوجب إلا قصر الحكم على ما عداه ، لا على المعنون

ص: 348

بعنوان ما عدا زيد أو شبهه (1).

وما أفاده قدس سره لا يمكننا الالتزام به لوجهين :

الأول : النقض عليه بما إذا كان الوصف المأخوذ في الكلام غير دخيل في ثبوت الحكم أصلا ، وانما كان معرفا لما هو الموضوع الحقيقي ، فان مثل ذلك يقع كثيرا في الأحكام.

الثاني : انه لا مانع من ان يكون موضوع الحكم الواقعي غير المذكور في الكلام إذا كان ممّا يتعارف تفهيم الواقع به وقابلا لإرادته منه ، وذلك كقول القائل : « أكلت الخبز » وهو يقصد أكل الفرد الخاصّ من الخبز ، لأنه هو الّذي يقع عليه الأكل لا الطبيعي ، مع ان لفظ الخبر موضوع للطبيعي ، فأراد الفرد الخاصّ من باب إطلاق الكلي على فرده.

وعليه ، ففيما نحن فيه حيث ان العام يدل على الباقي ، ولذا كان حجة فيه بعد التخصيص بلا كلام ، أمكن ان يكون موضوع الحكم هو الباقي بما انه معنون بعنوان خاص كالفقيه أو نحوه وان لم يؤخذ ذلك لفظا ، لقابلية اللفظ لتفهيم هذه الحصة - كما هو المفروض - فيمكن ان تراد منه من باب إطلاق الطبيعي وإرادة فرده ، فان الفقيه - مثلا - فرد الباقي.

وممّا ذكرنا يظهر انه لا مجال للنقض بان يستحيل الانبعاث نحو الصوم إذا أمر بالصلاة ونحو ذلك ، لأن الصوم لا يقبل التفهيم بلفظ الصلاة ولا يصح إرادته منه فلا يتحقق الانبعاث نحوه قهرا للجهل بإرادته وعدم ما يدل عليه. هذا كله فيما يرتبط بالبرهان.

واما ما استشهد به قدس سره من المثال على عدم التعنون ، فان كان ناظرا إلى كون التخصيص بغير زيد بنحو القضية الخارجية ، فهو مسلم ولكنه

ص: 349


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 341 - الطبعة الأولى.

ليس محل البحث. وان كان ناظرا إلى كونه بنحو القضية الحقيقية ، فهو أول الكلام ، بل لمدّع ان يدعي بتعنون العام بعنوان زيد. فلاحظ.

واما تنظير المحقق العراقي - في بحث التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية - باب التخصيص بصورة موت أحد افراد العام فقد تقدم ما فيه فلا نعيد.

تنبيه : قد تقدم منا الإيراد على المحقق العراقي ، بان قصر الحكم يلازم تضييق الموضوع بالبيان المتقدم الّذي ذكره المحقق النائيني ، وقد عرفت انه لا يتم بناء على مذهب العراقي في العموم من كونه مفاد الأداة لا مقدمات الحكمة.

وعليه ، فنرفع اليد عن هذا الإيراد ، لكنه لا ينفع المحقق العراقي في تقريب التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، إذ يعلم بقصر الحكم على بعض افراد العام وان لم يكن بعنوان زائد على عنوان العام ، ويعلم بخروج بعضها عن حكمه ، فمع التردد في فرد أنه من الخارج أو الباقي لا يكون العام حجة فيه ، لأنه حجة في غير عنوان الخاصّ. فتدبر جيدا.

المقدمة الثانية : ان العنوان الخاصّ إذا كان من قبيل الأوصاف القائمة بعنوان العام ، سواء كان من العناوين المتأصلة أو الانتزاعية ، فلا محالة يكون موضوع الحكم بعد التخصيص مركبا من المعروض وعرضه القائم به ، أعني به مفاد ليس الناقصة المعبر عنه بالعدم النعتيّ.

والسرّ في ذلك : هو ان انقسام العام باعتبار أوصافه ونعوته القائمة به انما هو في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته ، فإذا كان المخصص كاشفا عن تقييد ما بمقتضى المقدمة الأولى ، فلا بد من ان يكون هذا التقييد بلحاظ الانقسام الأولي ، أعني به الانقسام باعتبار أوصافه ، فيرجع التقييد إلى ما هو مفاد ليس الناقصة ، إذ لو كان راجعا إلى التقييد بعدم مقارنته لوصفه بنحو مفاد ليس التامة ليكون الموضوع في الحقيقة مركبا من عنوان العام وعدم عرضه

ص: 350

المحمولي ، فاما ان يكون ذلك مع بقاء الإطلاق ، بالإضافة إلى جهة كون العدم نعتا ، ليرجع استثناء الفساق من العلماء في قضية : « أكرم العلماء الا فساقهم » إلى تقييد العلماء بان لا يكون معهم فسق سواء كانوا فاسقين أم لا. أو يكون ذلك مع التقييد من جهة كون العدم نعتا.

وكلا الوجهين باطلان :

اما الأول : فلأنه محال ، للتدافع بين الإطلاق من جهة العدم النعتيّ والتقييد بعدم المحمولي.

واما الثاني : فلان التقييد بالعدم المحمولي لغو بعد التقييد بالعدم النعتيّ لكفايته عنه (1).

وقد أورد على ذلك بوجهين :

الأول : انه يستلزم إنكار جميع الموضوعات المركبة التي يمكن إحراز أحد اجزائها بالوجدان والآخر بالأصل ، لجريان الترديد المتقدم فيها ، فلا يكون هناك موضوع مأخوذ بنحو التركيب ، بل تكون الموضوعات دائما مأخوذة بنحو التوصيف.

بيان ذلك : ان مقارنة كل جزء مع الجزء الآخر أو تعقبه به من أوصافه ونعوته ، فيكون الانقسام باعتبارها متقدما رتبة على ذات الجزء ، لأنه من مقارناته. وعليه ، فنقول : ان تقييد الجزء بوجود الجزء الآخر اما ان يكون مع بقاء إطلاقه من جهة مقارنته للجزء الآخر ، فيكون الجزء الآخر معتبرا سواء قارنه الجزء أو لا أو مع تقييده بمقارنته بالجزء الآخر. فعلى الأول يتحقق التدافع بين الإطلاق من جهة المقارنة والتقييد من جهة نفس الجزء. وعلى الثاني يكون التقييد بنفس الجزء لغوا ، لكفاية التقييد بالمقارنة عنه ، مثلا - في باب الصلاة - إذا قيد الركوع

ص: 351


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 466 - الطبعة الأولى.

بالسجود اما ان يكون مطلقا من جهة تعقبه بالسجود ، فيتحقق التدافع. أو مقيدا بتعقبه بالسجود ، فيكون التقييد بنفس السجود لغوا.

الثاني : ان تقييد موضوع الحكم أو متعلقه بما يلازم امرا آخر خارجا ، لا يبقى مجالا لتقييده بذلك الأمر ، ولا إطلاقه بالإضافة إليه ، فمع تقييد الصلاة بان تكون إلى القبلة فلا مجال لتقييدها بعدم كونها إلى دبر القبلة ، كما لا مجال لإطلاقها بالإضافة إليه ، بل يرتفع مجال التقييد والإطلاق بذلك ، وعليه فإذا كان التقييد بالعدم المحمولي ملازما للعدم النعتيّ ، فلا مجال حينئذ للتقييد به ، ولا الإطلاق بالإضافة إليه ، بل ترتفع بذلك قابلية المورد للإطلاق والتقييد ، كي يتأتى الترديد المزبور. كما هو الحال بالنسبة إلى التقييد بالعدم النعتيّ ، فانه يرفع قابلية المورد للإطلاق والتقييد من جهة العدم المحمولي (1).

أقول : إذا كان المراد من كلامه ما هو ظاهره من ان رتبة الوصف أسبق من رتبة المقارن ، فمع التقييد بالمقارن اما ان يكون مقيدا بالوصف بنحو التوصيف. أو مطلقا. والأول لغو والثاني مستلزم للتهافت والتدافع. توجه عليه الإيرادان المذكوران ، كما يتوجه عليه ثالثا : ان دعوى كون لحاظ الوصف أسبق رتبة من لحاظ المقارن دعوى بلا شاهد ولا مستند ، إذ لا وجه للتقدم الرتبي للاتصاف على المقارنة.

ولكن يمكن توجيه كلامه بنحو لا تتوجه عليه هذه الإيرادات ، بل تندفع بحذافيرها.

بيان ذلك : ان مرتبة الجزء المتقدمة على مرتبة الكل بلا إشكال ، والأمر الّذي يؤخذ جزء لا بد ان يلحظ في مرحلة جزئيته بالإضافة إلى جميع صفاته ، لاحتمال دخل بعضها في جزئيته وترتب أثره الضمني ، إذ قد لا تكون ذات الجزء

ص: 352


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 469 - هاشم رقم (1) - الطبعة الأولى.

بدون وصف خاص جزء وذات أثر ضمني.

ثم بعد تكميل جهة جزئيته وأخذه جزء مطلقا أو مقيدا ببعض الصفات تصل النوبة إلى لحاظه بالإضافة إلى الاجزاء الأخرى وأخذه معها بلحاظ ترتيب أثر الكل ، لما عرفت ان الجزء أسبق رتبة من الكل ، فلحاظه بخصوصياته بما هو جزء في نفسه أسبق من لحاظه مع الاجزاء الأخرى الّذي هو عبارة أخرى عن لحاظ الكل.

وعليه ، فيمكن ان يكون نظر المحقق النائيني - وان لم يظهر من عبارة التقريرات - إلى هذا المعنى ، وان أخذ الموضوع مع عدم وصفه بنحو التركيب يستلزم أولا لحاظ الموضوع بكامل خصوصياته وفي مرحلة جزئيته ، فإذا فرض دخالة عدم الوصف في تأثيره كان مقيدا به ولم يكن مطلقا ، ومع تقييده به أغنى عن أخذ عدم الوصف جزء ، ولحاظه كذلك أسبق رتبة من لحاظه مع عدم الوصف بنحو المقارنة ، لما عرفت من أسبقية الجزء رتبة من الكل.

وعليه ، فلا يرد عليه الوجه الأخير ، إذ عرفت الوجه في التقدم الرتبي المفروض فيما نحن فيه ، وليس المراد ان الشيء بلحاظ أوصافه أسبق رتبة منه بلحاظ مقارنته كي يقال انه دعوى بلا دليل ، بل مقصوده ان لحاظ الجزء بالإضافة إلى عوارضه أسبق من لحاظه بالإضافة إلى الاجزاء الأخرى.

كما يندفع الوجه الثاني ، فان التقييد بكل منهما وان أوجب رفع قابلية المورد للإطلاق والتقييد بالإضافة إلى الآخر ، إلاّ انه عرفت ان ملاحظته بالإضافة إلى أوصافه وتقييده بها وجودا أو عدما أسبق رتبة من ملاحظته بالإضافة إلى مقارناته ، فلا تصل النوبة إلى أخذ العدم جزء.

واما الوجه الأول ، فيندفع بان وصف المقارنة وصف انتزاعي لا دخل له في التأثير إلاّ بلحاظ منشأ انتزاعه ، وهو ليس إلاّ عبارة عن وجود أحد الجزءين عند وجود الآخر ، وهذا ليس إلاّ تركّب الموضوع من الجزءين.

ص: 353

هذا مع ان ما ذكر من لحاظ المقارنة يتأتى في كلا الجزءين ، فانه كما يقال ان هذا الجزء بلحاظ مقارنته مع ذلك الجزء اما مطلقا فيلزم التدافع أو مقيدا فتلزم اللغوية كذلك يقال ان ذاك الجزء بلحاظ مقارنته مع هذا الجزء اما مطلقا فيلزم التدافع أو مقيدا فتلزم اللغوية. وبذلك يتعين الأمر بكلا الجزءين ، لأن تخصيص أحدهما بالأمر ترجيح بلا مرجح ، وهذا كما لو كان في كل من المتلازمين مصلحة ملزمة فانه يتعين الأمر بكليهما ، لأن الأمر بأحدهما بالخصوص مع وجود المصلحة أيضا في الآخر ترجيح بلا مرجح - ولو كان كافيا - وهو ممتنع.

هذا ولكن يرد على التوجيه المزبور وجهان :

الأول : ان ملاحظة الموضوع مع عدم الوصف لا يلازم تقييده به ، وان كان دخيلا في التأثير ، إذ يمكن ان لا يكون دخيلا في تحقق أثر الجزء ، ولكنه دخيل في تحقق أثر الكل ، فيكون الجزء مطلقا بالإضافة إليه بلحاظ جزئيته واثره الضمني ، ولكنه مقيد به لأخذه جزءا آخر بلحاظ أثر الكل ودخالته في تحققه ، فلا ملازمة بين لحاظه وبين أخذه قيدا. كما لا منافاة بين إطلاق الجزء بلحاظ جزئيته بالإضافة إليه وتقييده به بلحاظ أثر الكل.

الثاني : ان عدم الوصف لو فرض انه دخيل في تأثير الجزء بما هو جزء ، فغاية ما يقتضي ذلك هو تقييد الجزء به ، اما انه يؤخذ بنحو التوصيف أو بنحو التركيب فهو أجنبي عن مفاد هذا البرهان ، ولا ملازمة بين التقييد وبين أخذه بنحو التوصيف ، كما اعترف به قدس سره ، إذ عقد المقدمة الثانية لأجل إثبات ان التقييد بنحو التوصيف مع إثباته بالمقدمة الأولى ضرورة التقييد ، فلو كان التقييد ملازما للتوصيف كانت المقدمة الثانية لغوا محضا.

وبالجملة : وقع الخلط بين الوصف والاتصاف ، والّذي لا بد من ملاحظته في الجزء سابقا على لحاظ الكل هو أوصاف الجزء وهو لا يلازم أخذها - على تقدير دخالتها - بنحو الاتصاف. فتدبر جيدا.

ص: 354

ثم ان السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) التزم بما ذكره المحقق النائيني من : ان الموضوع المقيد بعرضه القائم به لا بد ان يؤخذ بنحو التوصيف في خصوص الوصف الوجوديّ ، ببيان : ان العرض بما ان وجوده في نفسه عين وجوده في موضوعه ، لأنه متقوم بالغير في قبال الجوهر القائم بنفسه ، فإذا أخذ في موضوع الحكم فاما ان يؤخذ بلا تقييد له بموضوع خاص ، كأن يكون موضوع الحكم زيد والعدالة أينما وجدت ولو في غيره. واما ان يؤخذ مقيدا بموضوع خاص ، كأن يكون موضوع الحكم زيد وعدالته. فعلى الأول يترتب الحكم عند وجود زيد ووجود العدالة ولو في غيره ، لكنه خارج عن محل البحث ، لأن محل البحث أخذ الشيء وعرضه القائم به في الموضوع. وعلى الثاني فانما يترتب الحكم على تقدير وجود الوصف في ذلك الموضوع الّذي هو في الحقيقة وجود نعتي ، لأن وجود العرض في نفسه عين وجوده في موضوعه ، فوجود العدالة في زيد هو بعينه ثبوت العدالة له المعبّر عنه باتصاف زيد بالعدالة ، وما هو مفاد كان الناقصة (1).

وهذا الكلام مخدوش لوجهين :

الأول : ان قيام العرض بموضوعه إذا كان ملازما لأخذ الموضوع بلحاظ عرضه بنحو الاتصاف لجرى هذا الكلام في النحو الأول ، وذلك لأن المفروض أخذ العرض في موضوع الحكم ، والمفروض انه يتقوم بغيره ، فالمأخوذ هو العرض المتقوم بمحل ما ، وهذا ملازم لأخذه بنحو الاتصاف بلحاظ مطلق المحلّ لا محل خاص.

الثاني : ان تقوم العرض بالذات لا يلازم أخذ الذات متصفة به وبنحو النعتية ، فان حقيقة النعتية هي الوجود الرابط ، وهو جهة زائدة عن أصل وجود العرض المعبر عنه بالوجود الرابطي.

ص: 355


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 466 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.

ولأجل ذلك وقع البحث في مبحث المشتق فيما هو المصحح لحمل المبدأ على الذات - إذا كان المشتق بمعنى المبدأ - ، مع بداهة قيام المبدأ بالذات ، فانه يكشف عن ان جهة تقوم المبدأ بالذات تختلف عن جهة النعتية والاتصاف المصححة للحمل.

ويمكننا تقريب المقدمة الثانية ، ولكن ببيان لا ظهور له من عبارة التقريرات ، وهو : ان الدليل المخصص لو كان يتكفل إخراج المبدأ ، لكان للبحث في ان المأخوذ في عنوان العام بعد التخصيص عدمه النعتيّ أو المحمولي مجال ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان المخصص يتكفل إخراج العنوان الاشتقاقي ، فهو مثلا يخرج عنوان الفاسق عن دليل وجوب إكرام العلماء لا الفسق ، وعنوان الشرط المخالف للكتاب عن دليل نفوذ الشروط لا مخالفة الشرط.

وعليه ، فإذا كان مقتضى المقدمة الأولى تقييد موضوع حكم العام بنقيض الخاصّ ، فنقيض الفاسق « لا فاسق » ونقيض المخالف « اللامخالف » ، والموضوع يتقيد به لا بعدم الفسق أو عدم المخالفة.

ومن الواضح ان تقيد الموضوع به يرجع إلى أخذه فيه بنحو الاتصاف النعتية كما هو ظاهر.

مع ان الإطلاق معناه ثبوت الحكم للموضوع كالعالم سواء كان فاسقا أو لم يكن فاسقا ، فإذا خرج الفاسق ثبت الحكم لغيره جزما لأنه إذا ألغيت « السوائية » كان الحكم ثابتا للعالم إذا لم يكن فاسقا.

ولو تنزلنا والتزمنا بان التقيد بنقيض العنوان الاشتقاقي لا يلازم أخذه بنحو النعتية ، فهو يكفي في منع استصحاب العدم الأزلي كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

والّذي نذهب إليه هو منع استصحاب العدم الأزلي.

ص: 356

ولكن لا بالتقريب المزبور ، بل ببيان آخر.

وتوضيح ذلك : انه اما ان يلتزم بان العموم مفاد الأداة لا مقدمات الحكمة.

أو يلتزم بأنه مفاد الإطلاق ومقدمات الحكمة.

فعلى الأول ، قد عرفت ان التخصيص لا يلازم تعنون العام بغير عنوان الخاصّ ، بل غاية ما يتكفله الدليل المخصص هو إخراج بعض الافراد الموجب لقصر حكم العام على البعض الآخر من دون تغير في موضوع الحكم.

وعليه ، فلدينا حصتان ، إحداهما محكومة بحكم العام. والأخرى محكومة بحكم الخاصّ. والفرد المشكوك يدور امره واقعا بين ان يكون من افراد الحصة المحكومة بحكم العام ، وان يكون من افراد الحصة المحكومة بحكم الخاصّ ، ومن الواضح ان استصحاب العدم الأزلي لا يعين كون الفرد من إحدى الحصتين ، وانه من الحصة المحكومة بحكم العام ، الا على القول بالأصل المثبت.

وعلى الثاني ، قد عرفت ان التخصيص يستلزم تقييد موضوع حكم العام ، ولكن ذلك على إطلاقه ممنوع ، لأن العنوان المأخوذ في دليل الخاصّ تارة : يكون من أحوال الفرد الواحد كعنوان الفاسق. وأخرى : يكون مفرّدا كعنوان الفارسية في العقد. وبعبارة أخرى : التخصيص تارة يكون أحواليا. وأخرى يكون افراديا.

ففي الصورة الأولى ، يتقيد موضوع الحكم ، فانه مع إخراج بعض حالات الفرد عن الحكم يمتنع ملاحظة الطبيعة بنحو الإطلاق ، بل لا بد من ملاحظتها مقيدة بغير تلك الحال.

وبتعبير آخر : ان الفرد بما ان له حالتين ، فلا بد من التفريق بينهما بتقييده بغير عنوان الخاصّ ، فيكون موضوع الحكم هو العالم غير الفاسق ، لعدم وجود الفرق ذاتا فيما بين ما هو محكوم بحكم العام وما هو محكوم بحكم الخاصّ إلاّ بلحاظ اختلاف الحالين وهو يلازم التقييد.

ص: 357

وفي الصورة الثانية ، لا يستلزم التخصيص نقيد موضوع حكم العام ، بل يكون حكم العام واردا على جملة من الافراد وحكم الخاصّ واردا على جملة أخرى من الافراد والفرق بينهما ذاتي فلا يكون التقييد قهريا ضروريا ، فلا يتكفل التخصيص سوى إخراج بعض الحصص فيبقى حكم العام ثابتا للحصص الأخرى بعنوانه من دون تقيد بخصوصية أخرى. ولا يرد الترديد المزبور - أعني : « اما ان يكون مطلقا أو مقيدا » - ، إذ لا معنى للإطلاق والتقييد في موضوع الحكم بلحاظ الافراد الأخرى ، ولو كان له معنى تعين الإطلاق كما تقدم.

وبما ان موضوع الكلام هو الخصوصيات المفردة ، لأن موضوع الكلام في الأوصاف اللازمة للذات من حين وجودها ، لم يكن الدليل المتكفل لإخراج العنوان الأزلي موجبا لتقيد موضوع الحكم بخلافه وبنقيضه ، وعليه كان الحال فيه هو الحال على المبنى الأول والكلام فيه هو الكلام على الأول. فلا ينفع الأصل الأزلي في إثبات حكم العام للفرد المشكوك على كلا المبنيين في باب العموم.

وبالجملة : فأساس منع الأصل بهذا البيان هو منع المقدمة الأولى.

ولو تنزلنا وسلمنا استلزام التخصيص تقييد موضوع الحكم بنقيضه ، فلا نسلم أيضا - جريان الأصل ، لما عرفت من ان التخصيص يتكفل إخراج العنوان الاشتقاقي ، وقد عرفت ان نقيضه مأخوذ بنحو النعتية ، فنقيض المخالف للكتاب هو اللامخالف ، فيتقيد موضوع النفوذ باللامخالف ، واستصحاب العدم الأزلي لا ينفع في إثبات العنوان بنحو النعتية ، بل عرفت الإشارة إلى انه يكفينا التشكيك في كيفية أخذه ، وانه مأخوذ بنحو النعتية أو التركيب.

بيان ذلك : ان إثبات أخذ العدم بنحو التركيب إذا فرض انه عدم المبدأ كعنوان : « عدم المخالفة » أو : « عدم الفسق » - مع تردد الأمر فيه ثبوتا بين أخذه

ص: 358

بنحو العدم النعتيّ وأخذه بنحو العدم المحمولي -. وترجيح الثاني على الأول انما يكون ببيان أنّ أخذه بنحو العدم النعتيّ يحتاج إلى مئونة زائدة ، وذلك لعدم صلاحية عدم الفسق في حد ذاته لأن يكون نعتا للذات ، فيتوقف على ملاحظة التقييد بوصف انتزاعي ، كوصف المقارنة للعدم ، فيكون الموضوع هو الذات المقارنة لعدم الفسق - مثلا -. بخلاف ما إذا كان مأخوذا بنحو العدم المحمولي وبنحو التركيب لا التوصيف ، فانه لا يحتاج إلى هذه المئونة ، فمع تردد الأمر بين ما لا مئونة فيه وما فيه المئونة يرجع الأول.

وهذا البيان لا يتأتى بالنسبة إلى عدم الوصف ، كعدم الفاسق وعدم المخالف ، إذ أخذه بنحو التوصيف لا يحتاج إلى مئونة زائدة ، إذ يمكن ان يكون في نفسه نعتا للذات ومحمولا عليها.

وعليه ، فمع تردد الأمر بين أخذه بأحد النحوين - التوصيف والتركيب - لا طريق إلى تعيين أحدهما ، ومعه لا ينفع استصحاب العدم الأزلي ، لعدم إحراز إثبات جزء الموضوع به للشك في أخذ العدم جزء أو وصفا.

هذا مع ما في البيان المتقدم من الإشكال ، فان ترجيح ما لا مئونة فيه على ما فيه المئونة انما هو بلحاظ مقام الإثبات ، بمعنى ان مقام الإثبات إذا تردد بين ما لا مئونة فيه وما فيه مئونة إثباتا ، كالتردد بين إرادة المطلق والمقيد من اللفظ ، تعين الأخذ بما لا مئونة فيه إثباتا من الاحتمالين. واما التردد بين ما لا مئونة فيه وما فيه المئونة ثبوتا لا إثباتا ، بان يكون أحد المحتملين مشتملا على خصوصية زائدة ، فلا يلازم الأخذ بما لا مئونة فيه لعدم الدليل عليه ، كما عرفت تحقيق ذلك أيضا في ما تقدم من صورة دوران امر العموم بين المجموعي والاستغراق. فراجع.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بعد الإيراد على نفسه : بان الحاجة إلى الأصل انما هو للفراغ عن حكم الخاصّ ، لا للإدخال تحت العموم ، لصدق عنوان العام بلا حاجة إلى الأصل ، وعنوان الخاصّ لا ينتفي

ص: 359

بالأصل المذكور ، إذ الانتساب وكون المرأة من قريش لا يكون موضوعا بوجوده المحمولي بل بوجوده الرابط ، فنفي كونه المحمولي ليس نفيا لعنوان الخاصّ حتى ينفي به حكمه ، بل ملازم له ، فالأصل بالنسبة إلى عنوان الخاصّ مثبت. - ذكر قدس سره بعد هذا الإيراد - ان الغرض من الأصل هنا وفي أمثاله ليس نفي عنوان الخاصّ بدوا ، بل الغرض هو إحراز عنوان مضاد لعنوان الخاصّ يكون داخلا في العموم فيثبت له حكم العام ، وبمضادة هذا العنوان لعنوان الخاصّ ينفي حكم الخاصّ لكونه محكوما بخلاف حكمه ، فالمترتب على الأصل مباشرة هو حكم العام الثابت بأي عنوان غير العنوان الخارج ، وثبوت حكم العام لهذا الموضوع المضاد للعنوان الخارج يوجب نفي ضده وهو حكم الخاصّ. ثم أورد على نفسه وأجاب عنه بما لا يهمنا نقله. ولكن بعد جميع ذلك استشكل فيما أفاده صاحب الكفاية فقال : « التحقيق ان ما أفاده قدس سره من كفاية إحراز العنوان الباقي تحت العام في إثبات حكمه لا يخلو عن محذور ، لأن العناوين الباقية ليست دخيلة في موضوع الحكم العمومي بوجه من الوجوه ، فلا معنى للتعبد بأحدها ليكون تعبدا بالحكم العمومي حتى ينفي حكم الخاصّ بالمضادة ».

ومرجع كلامه قدس سره إلى ان الإطلاق ليس في الحقيقة جميعا بين القيود ، كي يرجع إلى دخالة كل قيد في الحكم ، بل هو رفض القيود الّذي يرجع إلى نفي دخالة أيّ قيد في الحكم (1).

والّذي نستفيده من كلامه امران :

أحدهما : ما فرضه من كون النّظر إلى نفي حكم الخاصّ ولو بواسطة نفى إثبات حكم العام.

ص: 360


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 342 - الطبعة الأولى.

وثانيهما : ما يظهر منه من تفسير عبارة الكفاية ، بان العام بعد التخصيص يكون معنونا بكل عنوان غير عنوان الخاصّ.

ولنا معه في كلا الأمرين كلام :

اما الأول : فلان المنظور في الأصل الأزلي أولا وآخرا هو إثبات حكم العام به للمشكوك ، وانه يؤدّي ثمرة أصالة العموم على القول بالتمسك بها في الشبهة المصداقية ويقلل أثر البحث الطويل العريض فيها ، فلا موهم لكون ثمرة الأصل نفي حكم الخاصّ.

هذا مع ان الدليل المخصص قد لا يكون متكفلا لإثبات أي حكم ، بل مفاده ليس إلاّ نفي حكم العام عن بعض افراده ، كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا يجب إكرام فساقهم » ، ومنه تخصيص دليل نفوذ الشرط بالشرط المخالف للكتاب فان الشرط المخالف لا حكم له ، بل هو غير نافذ. أو يكون متكفلا لما هو نقيض حكم العام فينتفي حكمه قهرا بثبوت حكم العام للفرد المشكوك بواسطة الأصل ، وذلك كالمثال المشهور في ما نحن فيه وهو مثال الحيض. فان العام يتكفل إثبات الحيض لكل امرأة لغاية الخمسين ، والخاصّ يتكفل تحديده إلى ستين بالنسبة إلى القرشية ، فالتنافي بين الدليلين في تحديد الحيض لا في أصل حكمه ، إذ لا تنافي بينهما بلحاظه ، بل الاختلاف في تحديده بالخمسين - وهو مفاد العام - ونفي تحديده بها - وهو مفاد الخاصّ - ، فمع إجراء الأصل وإثبات تحديد الحيض بالخمسين للمرأة المشكوكة ينتفي حكم الخاصّ قهرا ، لأن ثبوت أحد النقيضين ملازم قهرا لنفي الآخر.

نعم قد يكون المخصص متكفلا لما هو ضد حكم العام ، كما لو قال : « يجب إكرام العلماء » ثم قال : « يحرم إكرام النحويين » ، ولكنه نستطيع نفي حكم الخاصّ بأصل البراءة بلا احتياج للأصل الأزلي.

فقد ظهر انه لا يحتاج في نفي حكم الخاصّ إلى استصحاب العدم الأزلي

ص: 361

في جميع هذه الصور ، وانما يحتاج إليه في إثبات حكم العام. فلاحظ.

ثم ان ما أفاده من ان ثبوت حكم العام للموضوع المضاد للعنوان الخارج يوجب نفي ضده وحكم الخاصّ. غير مسلم وذلك لأن إثبات حكم العام له ظاهرا اما يستلزم نفي حكم الخاصّ عنه واقعا. أو ظاهرا.

والأول : ممنوع ، إذ لا وجه له إلا عدم إمكان اجتماع حكمين متنافيين ، وهو مندفع بما تقرر في محله من جواز اجتماع الحكمين المتنافيين إذا كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا.

والثاني : ثابت في نفسه ، إذ يكفي في عدم ثبوت حكم الخاصّ ظاهرا عدم الدليل عليه ، لتوقف الحكم الظاهري على الدليل عليه.

هذا مع ان نفي حكم الخاصّ بالأصل القائم على إثبات حكم العام يتوقف على القول بالأصل المثبت ، للملازمة بين أحدهما وعدم الآخر عقلا. فتدبر.

واما الثاني : فقد وافقه المحقق النائيني ، وحمل عبارة الكفاية على ما عرفت وأورد عليه بإيرادين :

أحدهما : انه يتنافى مع بدء كلامه حديث نفي تعنون العام بعنوان خاص.

وثانيهما : انه يلزم ان يكون العام معنونا بالعناوين المتضادة (1).

ولكن يمكن حمل عبارة الكفاية على ما لا يرد عليه إشكال ، بان يقال : ان مراده انه لا يتعنون بأيّ عنوان الا عدم كونه من الخاصّ ، فالتخصيص لا يستلزم تقييد موضوع الحكم إلاّ بمقدار عدم الخاصّ ، وهذا العدم مأخوذ بنحو العدم المحمولي لا النعتيّ ، وبنحو التركيب لا التوصيف ، بقرينة ما يذكره بعد ذلك من جريان استصحاب العدم الأزلي وترتب حكم العام عليه.

ص: 362


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 473 - الطبعة الأولى.

ثم ان المحقق النائيني استشكل في عبارة أخرى وهي قوله : « أو كالاستثناء من المتصل » ، وجهة الإشكال هي : ان المخصص المتصل يوجب التصرف في الظهور التصديقي ، وانعقاد الظهور رأسا في الخصوص ، فكيف يذهب صاحب الكفاية إلى عدم استلزام التخصيص بالمتصل لتعنون العام وانه كالمنفصل؟! (1).

ويمكن دفع هذا الإشكال بما بيانه : ان المقصود بالتعنون هاهنا ما يرادف من أخذ القيد بنحو التوصيف والنعتية.

وعليه ، فالمخصص المتصل على نحوين :

نحو يتكفل إخراج بعض العناوين عن حكم العام من دون ان يدل على التوصيف إثباتا ، وهو كالاستثناء.

والنحو الآخر يتكفل الإخراج ، ولكن يدل على التوصيف إثباتا نظير : « غير » في مثل : « أكرم العلماء غير النحويين » ، فالنحو الآخر يدل على أخذ العدم بنحو النعتية والتركيب.

اما النحو الأول فلا دلالة له على ذلك ، بل غاية ما يقتضيه التخصيص المتصل هو تقيد العام بالعدم ، اما انه مأخوذ بنحو النعتية فلا دلالة للكلام على ذلك ، وقد عرفت ان التقييد لازم أعم لأخذ العدم بنحو التركيب وأخذه بنحو التوصيف. فمراد صاحب الكفاية من قوله : « أو كالاستثناء » هو النحو الأول ، إذ عرفت ان النحو الثاني يقتضي إثباتا تعنون العام وأخذ العدم فيه بنحو النعتية.

وهذا التفصيل لا يتأتى في المخصص المنفصل لعدم إخلاله بظهور العام.

ثم ان المحقق العراقي ذهب إلى التفصيل في جريان الأصل الأزلي بين ما إذا كان العرض مأخوذا في رتبة متأخرة عن وجود الذات ، وما إذا كان

ص: 363


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 473 - الطبعة الأولى.

مأخوذا في مرحلة نفس الذات لا وجودها. فيجري في الثاني دون الأول ، وذلك لأن نقيض الوصف الملحوظ عروضه على الوجود هو العدم في تلك المرتبة ، لاتحاد المتناقضين في الرتبة ، فلا يجوز ان يكون أحدهما في رتبة والآخر في رتبة أخرى.

وعليه ، فالعدم الأزلي الثابت في ظرف عدم الوجود لا يكون نقيضا للوصف العارض على الوجود ، كي يكون استصحابه مجديا في نفي الأثر الثابت للوصف.

واما في ما كان الوصف بلحاظ الذات ، فالعدم الأزلي يكون نقيضا له ، لأن نقيض المقيد أعم من نفي القيد والذات والنسبة ، فيترتب على استصحابه نفي أثر الوصف.

ولا يختلف الحال في كلتا الصورتين بين أخذ الوصف بنحو النعتية أو بنحو التركيب والمقارنة.

ثم استشكل فيما أفاده المحقق النائيني بعد حمله كلامه على التفصيل بين أخذ الوصف بما هو شيء في حيال ذاته وأخذه بما هو قائم في الغير ، فعلى الأول يجري استصحاب العدم الأزلي ، لأنه نقيض نفس وجود الوصف ، فينتفي به أثر الوجود. وعلى الثاني لا يجري لأن العدم الأزلي وفي ظرف عدم الموصوف لا يكون نقيضا للوصف القائم بالذات ، لتأخر الوجود القائم بالذات عن وجود الذات فلا يكون نقيضه الا العدم في ظرف وجود الذات (1).

ولا يهمنا بيان جهة استشكاله في هذا الكلام.

والتحقيق : ان ما ذكره أجنبي عما هو محطّ النّظر في الاستصحاب الأزلي ، فان محل الكلام بين صاحب الكفاية والنائيني - كما عرفت - في ان العدم المأخوذ

ص: 364


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 200 - 203 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

في موضوع الحكم هل هو مأخوذ بنحو العدم النعتيّ أو بنحو العدم المحمولي؟. فالمفروض في كلامهما أخذ عدم الوصف في نفس الموضوع ، فالاحتياج للاستصحاب المزبور لإثبات الحكم لا لنفي الحكم الثابت لوجود الوصف. فقد عرفت ان المنظور في الأصل الأزلي إثبات حكم العام واستحصال نتيجة أصالة العموم منه ، لا انه من باب نفي موضوع الأثر كما هو محط كلامه ، فالاستصحاب الّذي أوقع البحث فيه يشترك مع ما هو محطّ الكلام في الاسم فقط. ومنه يظهر ما في توجيهه لكلام المحقق النائيني بما عرفت. فانه بعيد كل البعد عما هو محط نظر المحقق النائيني فراجع كلامه.

وإذا ظهر بوضوح عدم ارتباط كلامه قدس سره بما هو محط الكلام ، فلا يهمنا حينئذ تحقيق مواقع النّظر في كلامه في هذا المقام الّذي أشرنا إلى بعض قليل منه ، فانه لا يخلو عن إشكال في بعض جهاته :

كالتزامه بلا بدية كون نقيض الوجود النعتيّ هو العدم في ظرف وجود الذات للزوم اتحاد المتناقضين في الرتبة.

فانه التزام بلا وجه ، إذ لا وجه للزوم اتحاد رتبة المتناقضين ، لأن التقدم والتأخر الرتبي يكون بملاك خاص فقد يوجد في أحدهما دون الآخر. وعليه فنستطيع ان نقول : ان نقيض الوجود الرابط هو عدم الوجود الرابط لا العدم الرابط - كما عبر به المحقق الأصفهاني في بعض كلماته - ، هذا مع استلزامه ارتفاع النقيضين في ظرف عدم الذات ، وامتناع ارتفاعهما كامتناع اجتماعهما من الواضحات.

إيقاظ : لا يخفى ان البحث في جريان استصحاب العدم الأزلي بلحاظ مبحث الاستصحاب صغروي ، إذ بعد تحقيق كبرى الاستصحاب ونفي الأصل المثبت يقع الكلام في ان الأصل الأزلي مثبت أو لا.

واما بلحاظ مبحث العموم ، فهو كبروي ، لأن البحث يقع في ان العدم

ص: 365

مأخوذ في موضوع حكم العام بنحو العدم النعتيّ فلا يجري الأصل ، أو بنحو العدم المحمولي فيجري الأصل ويثبت حكم العام للمشكوك ، ولأجل ذلك ناسب ذكره في مبحث العموم دون مبحث الاستصحاب.

ومما ذكرنا يظهر وهن ما ذكره بعض مراجع العصر من ان الأصل الأزلي لا يستفاد من أدلة الاستصحاب عرفا ، كيف؟ وقد عرفت ما هو فيه من الدقة والعمق ، فان عدم استفادته عرفا لا يمنع من جريانه لأن العرف مرجع في تشخيص المفاهيم لا في تعيين المصاديق ، وقد عرفت ان البحث صغروي بلحاظ أدلة الاستصحاب.

فلو شخّص بالدقة والتأمل وجود قطرة بول في الإناء حكم بنجاسته وان لم يرى العرف فيه بولا. فلاحظ وتدبر واللّه سبحانه ولي العصمة والتوفيق.

انتهى مبحث استصحاب العدم الأزلي ، وبه ينتهي البحث العلمي في باب العموم والخصوص ، فان ما يليه من الأبحاث غير علمية دقيقة ، ولأجل ذلك نكتفي بالتعرض في غالبها لمطلب الكفاية فيها وما يدور حوله وفي إطاره.

فصل

ذكر صاحب الكفاية انه قد يستظهر من البعض التمسك بالعمومات مع الشك في فرد من غير جهة احتمال التخصيص ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل : « أوفوا بالنذور » إذا وقع متعلقا للنذر ، فيقال : يجب الإتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر لعموم وجوب الوفاء ، وكل ما يجب الوفاء به يقع صحيحا للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به.

وليس هذا المعنى غريبا ، بل هو واقع شرعا ، فقد ورد صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر إذا تعلق بهما النذر بهذا القيد.

وقد ناقشه صاحب الكفاية بان العمومات إذا كانت متكلفة لأحكام

ص: 366

العناوين الثانوية.

فتارة : يؤخذ في موضوعاتها أحد الأحكام الثابتة بالعنوان الأولي ، كعموم وجوب إطاعة الوالد ، فانه مأخوذ في موضوعه جواز المأمور به من قبل الوالد وعدم حرمته. وكعموم وجوب الوفاء بالنذر ، فانه مأخوذ في موضوعه رجحان متعلقه وكونه طاعة.

وأخرى : لا يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا.

ففي النحو الأول : مع الشك في الحكم المأخوذ في موضوع الحكم الثانوي لا مجال للتمسك بالعموم ولا يتوهم عاقل صحة التمسك به. كيف؟ والشبهة مصداقية بلحاظ نفس العام.

وفي النحو الثاني : يتمسك بعموم الدليل في إثبات حكمه مع الشك في فرد فيثبت له الحكم بعنوانه الثانوي ، فإذا كان محكوما بعنوانه الأولي بغيره وقعت المزاحمة بين المقتضيين ، فيؤثر الأقوى منهما لو كان ، وإلاّ كان محكوما بحكم آخر كالإباحة فيما كان أحد المقتضيين مؤثرا في الحرمة والآخر في الوجوب.

واما مسألة نذر الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر ، فصحتهما لدليل خاص ، وهو يوجه بأحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون الدليل كاشفا عن رجحانهما ذاتا في هذه الحال ، وانما لم يؤمر بهما لمانع يرتفع بالنذر.

الثاني : ان يكون الدليل كاشفا عن تحقق رجحانهما بنفس النذر.

الثالث : ان يكون الدليل مخصصا لعموم ما دل على اشتراط الرجحان في متعلق النذر.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية (1).

ص: 367


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /223- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولا بد من التنبيه على امرين :

أحدهما : انه ما المراد بالعموم الّذي يظهر من البعض التمسك به ، هل هو عموم : « وجوب الوفاء » مثلا - كما هو الظاهر - ، أو عموم مشروعية الوضوء ، فان كان المراد عموم وجوب الوفاء ، فلا متوهم له ولا يلتزم به أحد. وان كان عموم مشروعية الوضوء فالمقصود من الشك من غير جهة التخصيص ان كان هو الشك في شمول الدليل له في حد ذاته لإجماله وعدم إطلاقه فلا يتمسك به كما هو واضح.

وان كان هو الشك في كونه مضافا وعدمه مع العلم بعدم شمول الدليل للمضاف ، فهو شبهة مصداقية للمخصص ، كما انه خلاف الفرض لأن الفرض انه يعلم انه وضوء بالماء المضاف.

اذن فلم نعرف المقصود من موضوع الكلام نفيا وإثباتا.

وثانيهما : انه قدس سره التزم في القسم الثاني لا دلالة الأحكام الثانوية بوقوع التزاحم بين الحكمين الأولي والثانوي.

وهذا لا يتلاءم مع ما سيأتي منه في بحث التعادل والترجيح وغيره من تقدم دليل الحكم الثانوي على دليل الحكم الأولي بالنظر العرفي. فالتفت ولا تغفل.

فصل

في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص.

وقد حدد صاحب الكفاية محل البحث ، فذكر ان البحث في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص وعدم جوازه ، انما هو بعد الفراغ عن ان أصالة العموم معتبرة من باب الظن النوعيّ لا الشخصي ، وانها معتبرة في حق المشافه وغيره ، وعدم كون العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص ، بعد الفراغ عن هذه الجهات الثلاثة نوقع البحث في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص

ص: 368

وعدمه ، ليكون البحث شاملا لجميع المباني والتقادير.

ومنه يظهر ان الاستدلال على عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص بعدم حصول الظن الشخصي قبله ، أو عدم إحراز حكم المشافه قبله ، أو لأجل العلم الإجمالي المانع من جريان أصالة العموم ، ليس كما ينبغي لأن البحث كما عرفت بعد الفراغ عن جميع هذه الجهات.

ثم انه ذهب إلى عدم جواز العمل قبل الفحص إذا كان العام في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لأن العمل بأصالة العموم بلحاظ بناء العقلاء عليها ، ولم يثبت بناء العقلاء على العمل بها قبل الفحص عن المخصص لو لم يقطع بعدمه.

وبالجملة : لو لم يقطع ببنائهم على عدم العمل بالعامّ قبل الفحص ، فلا أقل من الشك فيه ، وهو يكفي في التوقف لعدم الدليل حينئذ على العمل بالعامّ قبل الفحص.

واما إذا لم يكن العام في معرض التخصيص كالعمومات الواقعة في المحاورات العرفية فلا إشكال في ثبوت السيرة على العمل بها قبل الفحص عن المخصص.

وذكر بعد ذلك ان مقدار الفحص في المورد اللازم هو المقدار الّذي يخرج به العام عن المعرضية للتخصيص ، إذ الملاك - على ما عرفت - في وجوب الفحص هو معرضية العام للتخصيص.

هذا ما ذكره في الكفاية (1) ، وقد أطال المحقق النائيني قدس سره الكلام في المقام ، وتعرض إلى بيان وجود العلم الإجمالي وأوقع البحث الطويل في انحلاله (2) ، ولا حاجة لنا في التعرض إليه ، إذ سيأتي البحث عنه في محله ويوفى

ص: 369


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /226- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 480 - الطبعة الأولى.

حقه ، فما ذكره في الكفاية به الكفاية.

هذا بالنسبة إلى احتمال المخصص المنفصل.

واما بالنسبة إلى احتمال المخصص المتصل ، فقد ذكر صاحب الكفاية ان الظاهر عدم لزوم الفحص عنه ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص. انتهى ما أفاده في الكفاية (1).

وتحقيق الكلام فيه : ان صور الشك في القرينة المتصلة ثلاث :

الأولى : الشك في قرينية الموجود لفقد انه كما لو فقدت بعض كلمات الرسالة الموجهة إلى شخص بحيث يحتمل ان تكون دخيلة في تغيير ظاهر الكلام. وفي هذه الصورة لا إشكال في التوقف عن العمل بظاهر الكلام الباقي.

الثانية : الشك في قرينية الموجود لإجماله ، كما لو كان الكلام محتفا بما هو مجمل في معناه واحتمل اعتماد المتكلم عليه في تفهيم مرامه لصلاحيته للقرينية. والحكم في هذه الصورة هو التوقف كسابقتها وهو مما لا إشكال فيه.

الثالثة : ان يشك في مراد المتكلم ، لاحتمال انه كان في نيّته نصب قرينة وغفل فلم يذكر القرينة ، بل ذكر الكلام مجردا. ولا إشكال في جواز التمسك بالظاهر هاهنا وعدم الاعتناء بالاحتمال المزبور لأصالة عدم الغفلة. ولا معنى للفحص هاهنا للعلم بعدم القرينة ، كما انه قد يتمسك بالكلام مع فقدان المتكلم وانتفاء موضوع الفحص كما في موارد الوصايا.

وإذا تبين حصر موارد الشك في القرينة المتصلة بهذه الصور الثلاث ، وعرفت حكمها ، تعرف انه لا وجه لإنكار لزوم الفحص مع احتمال القرينة المتصلة ، لأنه اما لا يجوز العمل بالعامّ ، واما لا معنى للفحص كي ينفي لزومه.

ص: 370


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /226- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فتدبر.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر ان الفحص هاهنا يختلف عن الفحص اللازم في باب الأصول العملية ، فانه هاهنا عما يمنع عن الحجية وفي الأصول العملية عما يتم الحجية ، إذ بدونه لا حجة (1). وتابعة على ذلك المحقق النائيني (2). وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بمناقشة متينة (3). والأمر سهل جدا بعد ان كان هذا البحث عديم الثمرة بالمرّة فلاحظ.

فصل

وقع الكلام في الخطابات الشفاهية في أنها هل تختص بالحاضر مجلس التخاطب أو تعم غيره من الغائبين والمعدومين؟. وقد ذكر صاحب الكفاية ان الكلام يمكن ان يقع في جهات ثلاثة :

الأولى : في صحة تعلق التكليف - الّذي يشتمل عليه الخطاب - بالمعدومين كما يصح تعلقه بالموجودين.

الثانية : في صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين.

الثالثة : في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب لغير الحاضرين من الغائبين ، بل المعدومين ، وعدم عمومها لهم بقرينة الأداة.

وذكر ان النزاع في الجهتين الأوليتين عقلي وفي الثالثة لغوي.

اما الجهة الأولى : فقد أفاد في مقام تحقيقها انه لا يصح تعلق التكليف الفعلي بالمعدوم عقلا ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، لعدم قابلية المعدوم للانبعاث أو الانزجار فعلا ، نعم يصح تعلق التكليف به بنحوين :

أحدهما : التكليف الإنشائي غير المشتمل على البعث والزجر ، فانه

ص: 371


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /227- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 480 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية /345- الطبعة الأولى.

خفيف المئونة ولا مانع من تعلقه بالمعدوم فيصير فعليا حين تحقق شرائطه. وهذا نظير إنشاء الملكية في باب الوقف للبطون اللاحقة لتصير فعلية حين وجودها بنفس الإنشاء السابق.

وثانيهما : ان يتعلق به التكليف الفعلي بقيد الوجود ، بمعنى ان يتعلق التكليف الفعلي بالموجود الاستقبالي بهذا القيد ، نظير الواجب المعلق ، لكنه هاهنا بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق.

ومن هنا يظهر انه لا وجه لإشكال المحقق الأصفهاني على صاحب الكفاية بأنه يصح تعلق التكليف بأمر استقبالي ، وانه لا فرق بين تعلق التكليف بما لا يمكن تحققه الا في الاستقبال - كما هو مورد الواجب المعلق - وتعلقه بما لا يوجد إلاّ في المستقبل (1) فانه غفلة عن تعرض صاحب الكفاية له وإرادته من قوله : « واما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجدانه الشرائط فإمكانه بمكان من الإمكان ». فلاحظ وانتبه.

واما الجهة الثانية : فقد ذكر انه لا يصح توجيه الخطاب الحقيقي إلى غير الحاضر ، لأجل التقوم الخطاب الحقيقي بالتفات المخاطب ، وهو مفقود في الغائب والمعدوم.

واما الجهة الثالثة : فقد ذكر في تحقيقها : ان الأدوات ان كانت موضوعة للخطاب الحقيقي كان استعمالها فيه موجبا للتصرف في المدخول وقصره على الحاضرين ، كما ان استعمال المدخول في العموم يكون قرينة على عدم استعمال الأداة في الخطاب الحقيقي. واما إذا كانت موضوعة للخطاب الإنشائي ، فلا تكون موجبة للتصرف في المدخول لصحة تعلق الخطاب الإنشائي بالغائب والمعدوم. والظاهر انها موضوعة للخطاب الإنشائي الإيقاعي ، والاختلاف من

ص: 372


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 346 - الطبعة الأولى.

حيث الدواعي كما هو الحال في بعض الصيغ الإنشائية ، كأدوات الاستفهام والتمني والترجي كما تقدم منه ذلك.

نعم ، المنصرف منها عند إطلاقها هو الإنشاء بداعي الخطاب الحقيقي ، لكنه مع عدم المانع عنه ، وهو موجود في كلام الشارع للعلم بعدم اختصاص التكاليف المنشأة بمن حضر مجلس الخطاب. وقد استشهد على كونها موضوعة للخطاب الإنشائي بصحة إرادة العموم من مدخولها مع عدم ملاحظة علاقة وعناية.

ودعوى انه أمر ارتكازي تندفع : بأنه لا يلتفت إليه مع الالتفات والتفتيش ، ولو كان ارتكازيا لعلم به بالالتفات ، إذ لا طريق إلى معرفة انه ارتكازي الا ذلك.

ثم تعرض إلى توهم : ان وضع الأداة للخطاب الحقيقي لا يستلزم اختصاص المخاطبين بالحاضرين في خطاباته تعالى ، لإحاطته بالموجود والمعدوم ، والكل لديه على حد سواء.

ودفعه : بان الإحاطة لا تلازم صحة الخطاب ، إذ المانع من صحة الخطاب هو عدم قابلية المعدوم للمخاطبة وهي لا ترتفع بإحاطته جلّ شأنه.

ثم انه بعد كل هذا ذكر ان ما تقدم ، يبتني على القول بان المخاطب بالخطابات الإلهية هو غير النبي صلی اللّه علیه و آله ، واما إذا كان المخاطب حقيقة هو النبي صلی اللّه علیه و آله فلا محيص عن الالتزام باستعمال أدوات الخطاب في الخطاب الإنشائي - ولو كان بنحو المجاز - إذ مدخولها غير مقصود بالخطاب حقيقة كما هو الفرض ، فلا بد ان يكون موردا لإنشاء الخطاب لا حقيقة.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في المقام (1) ، وقد نحا المحقق النائيني في

ص: 373


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /227- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تحقيقه نحوا آخر ، فأفاد قدس سره : ان الكلام تارة يقع في القضايا الخارجية. وأخرى في القضايا الحقيقية.

اما القضايا الخارجية ، فالحق فيها اختصاص الخطاب بالمشافهين ، لأن خطاب الغائب فضلا عن المعدوم يحتاج إلى تنزيل وعناية ، وهو خلاف ظاهر الخطابات.

واما القضايا الحقيقية - وهي القضايا المحكوم فيها على الموضوع المقدر الوجود كالقضايا الشرعية - ، فالحق عموم الخطاب للغائب والمعدوم والحاضر ، كعموم الحكم ثبوتا لهم جميعا ، إذ مخاطبة الغائب والمعدوم لا تحتاج إلى أكثر من تنزيلهما منزلة الموجود وهو حاصل ، إذ به تتقوم القضية الحقيقية ، فلا يدفعه الأصل لأنه ليس أمرا زائدا عن حقيقة القضية الحقيقية (1).

وقد أورد عليه السيد الخوئي (2) تبعا للمحقق الأصفهاني (3) بأنه لا يكفى في صحة خطاب المعدوم والغائب تنزيلهما منزلة الموجود ، بل يعتبر تنزيلهما منزلة الحاضر وهو أمر زائد على مقتضى القضية الحقيقية ، فينفيه الأصل مع عدم الدليل عليه.

ثم ان صاحب الكفاية نقل للبحث ثمرتين وناقشهما ، فيكون البحث مما لا ثمرة له عملية ، وهما :

الأولى : حجية ظهور الخطابات للمعدومين والغائبين - بناء على عمومها لهم - وعدم حجيته بناء على عدم عمومها لهم.

وناقشها :

أولا : بأنه تبتني على اختصاص حجية الظاهر بالمقصود افهامه وقد تقرر

ص: 374


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 490 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه5/ 277 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين - نهاية الدراية 3 / 219 هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.

عدم الاختصاص.

وثانيا : انه لو سلم اختصاص حجية الظاهر بالمقصود افهامه ، فلا يختص المشافهون بكونهم مقصودين بالإفهام ، بل الناس كلهم مقصودون به وان لم يعمهم الخطاب.

الثانية : انه بناء على التعميم يصح التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية للمعدومين إذا وجدوا ولو اختلفوا مع المشافهين بالصنف ، وبناء على عدم التعميم لا يصح التمسك لهم بالإطلاق ، لأنها انما تتكفل حكم المشافهين فقط ، فلا بد من تسرية الحكم لغيرهم من وحدة الصنف ، لأنها موضوع قاعدة الاشتراك في الأحكام ، لأن دليلها الإجماع ولا ثبوت له في غير مورد اتحاد الصنف.

وقد ناقشها : بان المقصود باتحاد الصنف هو الاتحاد في ما أخذ قيدا للحكم ، وعليه فيمكننا إثبات اتحاد الصنف ونفي دخالة الأوصاف الموجودة في المشافهين المفقودة في غيرهم بإطلاق الخطاب من دون تقييد بالوصف ، فان إرادة المقيد واقعا مع عدم البيان يكون مخلا بالغرض بالنسبة إلى الأوصاف القابلة للتبدل.

وعليه ، فسواء قلنا بالتعميم أو بعدمه يمكن إثبات الحكم لغير المشافهين ، ولو مع اختلافهم في الأوصاف التي لم تؤخذ قيدا في الحكم في لسان الدليل ، لإمكان نفيها بالإطلاق (1).

فصل

إذا ورد عام ثم ورد بعده ضمير يرجع إلى بعض افراده ، فهل يستلزم تخصيص العام أو لا؟. وموضوع الخلاف - على ما ذكره في الكفاية - ما إذا وقعا في كلامين أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام ،

ص: 375


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /231- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كما في قوله تبارك وتعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ... ) إلى قوله : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) (1) - فان المراد بضمير بعولتهن المطلقات الرّجعيات - واما إذا كان مثل : « والمطلقات أزواجهن أحق بردهن » فلا شبهة في تخصيصه به ، إذ ليس للعام حكم آخر كي يتخيل عمومه ، بل ليس له إلاّ الحكم الخاصّ فيخصص بلا كلام.

وقد ذكر صاحب الكفاية في مقام تحقيق الكلام : ان الأمر يدور بين التصرف في العام بإرادة خصوص المراد من الضمير الراجع إليه ، والتصرف في ناحية الضمير اما بإرجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه - وهو العام - ، أو بإرجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الإسناد ، فيسند الحكم المسند حقيقة إلى البعض - يسند - إلى الكل مجازا. والمتعين هو العمل بأصالة العموم وإبقائه على عمومه ، وذلك لجريانها بلا معارض ، إذ لا تجري أصالة الحقيقة في جانب الضمير للعلم بالمراد الجدّي منه ، وأصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد ، اما مع العلم بالمراد والشك في كيفية الاستعمال فلا تجري أصالة الحقيقة لأن المتيقن من دليل أصالة الظهور هو الصورة الأولى (2).

وقد وافقه المحقق النائيني في اختيار جريان أصالة العموم وعدم جريان أصالة عدم الاستخدام - التي جعلها هي المعارضة بدوا مع أصالة العموم - ، ووجهه بوجوه ثلاثة :

الأول : ان الاستخدام انما يلزم من إرادة خصوص الرَّجعيات من الضمير لو كان العام المخصص مجازا ليكون الخاصّ معنى آخر للعام ، والصحيح خلاف ذلك كما عرفت ، فليس هناك معنى آخر للعام يراد من ضميره كي يستلزم ذلك الاستخدام.

ص: 376


1- سورة البقرة ، الآية : 228.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /223- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثاني : ان أصالة عدم الاستخدام انما تجري مع الشك في المراد لا في كيفية الإرادة.

ثم أورد على نفسه : بأنه إذا كان لجريان أصالة عدم الاستخدام مع الشك في كيفية الإرادة أثر فلا مانع من جريانها ، وان لم يكن لها أثر في تعيين المراد للعلم به - وما نحن فيه كذلك - ، إذ جريانها يلازم تخصيص العام فيثبت بها ، نظير جريان الأصل العملي لإثبات لازم مجراه ، كما لو كان ثوب نجس فلاقته اليد مع الرطوبة وشك في انه هل طهر قبل الملاقاة أو لا؟. وكان الثوب عند الشك والعلم بنجاسته خارجا عن محل الابتلاء ، فان استصحاب نجاسته يجري لإثبات نجاسة اليد وان لم تكن نجاسته قابلة للتعبد لخروجه عن محل الابتلاء ، وإذا صححنا ذلك في الأصل العملي فليكن الحل كذلك في الأصل اللفظي.

وأجاب عنه : بان نجاسة الملاقي من الآثار الشرعية لنجاسة الملاقى - بالفتح - ، فاستصحاب نجاسته يترتب عليه نجاسة ملاقيه ويكون حاله حال استصحاب الأمر التكويني لإثبات أثره الشرعي مع انه في نفسه غير قابل للتعبد.

واما تخصيص العام ، فليس أثرا شرعيا لأصالة عدم الاستخدام ، بل هو من ملازماته العقلية ، فيكون أصل عدم الاستخدام بالنسبة إليه مثبتا ، فلا بد من إثبات الملزوم في نفسه كي يثبت لازمه تبعا له ، وقد عرفت عدم جريان الأصل في إثبات عدم الاستخدام في نفسه.

أقول لا ملزم لهذا التطويل في الإيراد والجواب ، إذ لنا ان نقول بان عدم جريان الأصل اللفظي مع العلم بالمراد والشك في كيفية الإرادة ليس من جهة عدم ترتب الأثر عليه ، بل من جهة ان المتيقن من دليله غير هذه الصورة ، وانه لا دليل عليه في هذه الصورة إذ ليس بناء العقلاء على جريانه فيها ، كما أشار إلى ذلك صاحب الكفاية في كلامه.

ص: 377

الثالث : ان المقال خارج عن مورد الاستخدام ، إذ المستعمل فيه الضمير هو مطلق المطلقات لا خصوص الرجعيات ، وإرادة الرجعيات كان بدليل آخر وهو عقد الحمل ، فلا اختلاف بين المستعمل فيه العام والمستعمل فيه الضمير.

هذا ما أفاده قدس سره نقلناه ملخصا (1).

وتحقيق الحال ان يقال : ان المراد بالاستخدام تارة : يكون استعمال اللفظ في معنى وإرادة معنى آخر له من ضميره. وأخرى : يكون عبارة عن اختلاف المراد الجدّي من اللفظ وضميره. فأصالة عدم الاستخدام على الأول تفيد وحدة المستعمل فيه الضمير مع اللفظ. وعلى الثاني تفيد وحدة المراد الجدي منهما ولو مع اختلاف المستعمل فيه.

وعليه ، فنقول : ان أصالة العموم لا تعارضها أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الأول ، وذلك لما تقدم من ان الحق ان إرادة الخاصّ جدا من العام لا تستلزم استعمال العام في الخصوص لانفكاك المراد الاستعمالي عن المراد الجدي.

وعليه ، فالاستخدام ثابت سواء أريد من العام العموم أو الخصوص ، لاستعماله في العموم على كلا التقديرين فلا وجه حينئذ لإجراء أصالة عدم الاستخدام ، فأصالة العموم تكون بلا معارض.

واما أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الثاني ، فقد ادعى : ان مستندها هو ان وحدة المراد الجدي من الضمير ومرجعه من الظهورات السياقية. وعليه فيحصل التعارض بينها وبين أصالة العموم ، لاختلاف مؤداهما ، فلو لم تكن مقدمة على أصالة العموم كانت معارضه وتكون النتيجة هي التساقط ، والنتيجة تكون هي التخصيص حكما.

ولكن يرد على هذا القول :

ص: 378


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 493 - الطبعة الأولى.

أولا : ان الاستخدام بهذا المعنى لا يتأتى إلاّ في باب العام والضمير.

اما في مثل : « رأيت أسدا وضربته » فلا وجه لأن يدعي وحدة الاستعمال بان يراد من : « أسد » وضميره هو الحيوان المفترس ، لكن يختلفان في المراد الجدي فيراد من أسد جدا الحيوان المفترس ويراد جدا من الضمير الرّجل الشجاع.

نعم ، في ما نحن فيه يمكن تأتيه ، فيكون المستعمل فيه العام والضمير واحدا ، ولكن يراد جدا من العام العموم ومن الضمير الخصوص. اذن فلا معنى لتفسير الاستخدام بهذا الوجه لعدم تأتيه في مطلق الموارد التي يحتمل فيها الاستخدام.

فان قلت : يمكن تأتي هذا المعنى من الاستخدام في مثل : « رأيت أسدا وضربته » ، إذ يمكن استعمالهما معا في الحيوان المفترس ويراد من الضمير الرّجل الشجاع بنحو الحقيقة الادعائية.

قلت : هذا خلاف الوجدان ، وذلك لأن استعمال اللفظ الموضوع للطبيعي وإرادة الفرد انما هو من باب الإطلاق لا الاستعمال ، إذ لا يستعمل لفظ : « الخبز » في : « أكلت الخبز » في الفرد المأكول بل يطلق عليه ، فالحقيقة الادعائية عبارة عن إطلاق لفظ الأسد المستعمل في معناه الحقيقي على زيد بادعاء انه فرد للحيوان المفترس. ثم ان الواضح ان الضمير لا يستعمل في المعنى المراد من مرجعه ، بل يستعمل في معناه المبهم ويراد به مرجعه بنحو الإطلاق.

فإرادة الرّجل الشجاع من الضمير بنحو الحقيقة الادعائية تستلزم تعدد الإطلاق وان يكون هناك إطلاقان أحدهما إطلاق الضمير على الحيوان المفترس والآخر إطلاق الحيوان المفترس على فرده الادعائي ، والتعدد خلاف المرتكز في مثل هذا الاستعمال. فتدبر.

وثانيا : ان ما ادعي لهذا الأصل من المنشأ وهو الظهور السياقي وعورض به أصالة العموم ، امر لا أساس له عند العقلاء ، بل وحدة المراد الجدي من

ص: 379

الضمير ومرجعه انما تستفاد في سائر الموارد من البناء العقلائي على مطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت وان المراد الاستعمالي هو المراد الجدي. فانه إذا اتحد المراد الاستعمالي للضمير ومرجعه ، فبضميمة هذا البناء العقلائي يستفاد وحدة المراد الجدي للضمير ومرجعه ، وليس لدينا وراء هذا الأمر أمر آخر نعبّر عنه بالظهور السياقي يبني عليه العقلاء في محاوراتهم ، بل لا معنى له بعد أداء نتيجته بأصل آخر عقلائي لا تشكيك فيه.

وإذا اتضح هذا المعنى فنقول : في المقام حيث يعلم بالمراد الجدي من الضمير وانه يخالف المراد الاستعمالي لو كان عاما ، فلا يجري فيه الأصل العقلائي المزبور ، وانما يجري في طرف العام فقط ، فكانت أصالة العموم في العام محكمة ولا مزاحم لها أصلا.

والنتيجة : ان أصالة العموم جارية ولا تزاحمها أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الأول. هذا مع ما تقدم من المحقق النائيني من ان المستعمل فيه الضمير هو العموم فلا اختلاف فيه ، فالمورد أجنبي عن الاستخدام بهذا المعنى. كما عرفت ان أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الآخر لا أساس لها. فما اختاره صاحب الكفاية هو المتبع.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ما ذكر ما عرفته قال : « لكنه إذا عقد للكلام ظهور في العموم بان لا يعدّ ما اشتمل عليه الضمير مما يكتنف به عرفا ، وإلاّ فيحكم عليه بالإجمال ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول » (1). ولم يرتضه المحقق النائيني ببيان : ان ملاك باب اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية هو ان يكون في الكلام لفظ مجمل بحيث لو كان المتكلم متكلا عليه في بيان مراده لم يكن مخلا بالغرض ، وهو غير متوفر فيما نحن فيه ، إذ الجملة المشتملة على الضمير تتكفل

ص: 380


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /233- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

حكما غير الحكم الّذي تتكفله الجملة المشتملة على العام ، فلا يصح للمتكلم الاتكال على جملة الضمير في مقام البيان (1).

أقول : تحقيق الصحيح من هذين الكلامين يتضح عند التعرض لتحقيق أصل موضوع احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية في مبحث حجية الظواهر فانتظر واللّه سبحانه الموفق.

فصل :

ذكر صاحب الكفاية وقوع الاتفاق على جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة ، ولعل الوجه فيه ما قيل : من ان المنطوق لا يعارض العموم وانما يعارضه المفهوم ، فتقديم العموم على المفهوم اما ان يكون مع عدم التصرف في المنطوق أو معه ، والأول ممتنع لاستلزام المفهوم للمنطوق بنحو الأولوية ، والثاني يستلزم رفع اليد عما ليس بطرف المعارضة للعموم وهو لا وجه له ، فيتعين تقديم المفهوم على العموم وتخصيصه بغير مورده. كما ذكر قدس سره وقوع الاختلاف في جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة وقال : « تحقيق المقام انه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ، ولكن على نحو يصلح ان يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر ، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما ان كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع ، فلا يكون هناك عموم. ولا مفهوم لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك ، فلا بد من العمل بالأصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلاّ كان مانعا عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر. ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ذلك

ص: 381


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 495 - الطبعة الأولى.

الارتباط والاتصال ، وانه لا بد ان يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر ، وإلاّ فهو المعوّل ، والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل » (1). والمراد من كلامه قدس سره واضح لا يحتاج إلى بيان.

لكن يتوجه عليه :

أولا : ان تقديم المفهوم الخاصّ على العام امر مسلم فقهيا ، فإيقاع البحث فيه لا نعرف وجهه ، فهل يتوقف أحد في ان المولى إذا قال : « أكرم كل عالم » ثم قال : « أكرم كل عالم إذا كان عادلا » ان الدليل الآخر يكون مخصصا للعام بمفهومه؟.

وثانيا : ان بيانه إجمالي ولا يتكفل حل المشكلة ، إذ هو يتكفل بيان كبرى معروفة لكل أحد ، والمهم تحقيق صغرى ما ذكره ، فجعله ما ذكره تحقيقا للمقام ليس كما ينبغي.

وثالثا : ان عمدة الوجه في ثبوت المفهوم هو الإطلاق ، فترديده بين ان يكون المفهوم وضعيا أو إطلاقيا مستدرك.

ثم انه كان ينبغي بيان مركز التنافي بين العام والمفهوم ، وهو دلالة المنطوق على الخصوصية الملازمة للمفهوم ، فلا بد من علاج التنافي في هذا المقام ، وستعرف إن شاء اللّه تعالى عن قريب.

وقد تعرض المحقق النائيني رحمه اللّه إلى هذا البحث وأطال فيه الكلام ، فتعرض أولا لبيان معنى مفهوم الموافقة وانه ما وافق المنطوق سلبا وإيجابا ، ومعنى مفهوم المخالفة وانه ما خالف المنطوق في السلب والإيجاب ، ثم تعرض إلى ان مفهوم الموافقة تارة يكون بالأولوية. وأخرى بالمساواة كما في موارد العلّة المنصوصة ، وذكر الاختلاف في مؤدّى مثل قوله : « الخمر حرام لأنه مسكر » ومثل :

ص: 382


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /233- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

« الخمر حرام لإسكاره » ، وان الأول يستفاد من عموم الحكم لمطلق المسكر دون الثاني ، وبيّن وجه الاختلاف. ولا يهمنا التعرض إليه لعدم ارتباطه بما نحن فيه. ثم تعرض لتحقيق البحث في مفهوم الموافقة بقسميه :

اما مفهوم الموافقة بالأولوية فذكر : انه قد يدعي تقدمه على العموم للوجه السابق الّذي عرفته في صدر البحث ، وناقشه قدس سره بان المنطوق كما يدل بالأولوية على حكم آخر مناف للعام كذلك العام يدل بالأولوية على ما ينافي حكم المنطوق. وذلك لأن العام بعمومه ينفي الحكم عن مورد المفهوم فهو يدل بالأولوية على نفي حكم المنطوق. فيتحقق التعارض بين المنطوقين.

وعليه ، فان كان المنطوق أخص مطلقا من العموم كما لو ورد : « لا تكرم الفساق » وورد : « أكرم فساق خدّام العلماء » الدال بالأولوية على وجوب إكرام العلماء ، كان المفهوم مقدما على العام ولو كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه - كما في المثال - ، لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه ، ولا يمكن رفع اليد عن المنطوق لأنه أخص مطلقا من العموم فيقدم عليه ، فيكون المورد من موارد تقديم أحد العامين من وجه على الآخر لمرجح فيه.

وان كان بين المنطوق والعام عموما من وجه كما لو ورد : « لا تكرم الفساق » وورد : « أكرم خدام العلماء » الدال بالأولوية على وجوب إكرام العلماء. فان قدم المنطوق على العموم في مورد التعارض كان المفهوم مقدما على العموم أيضا ، وان قدم العموم على المنطوق فخرج الخادم الفاسق عن المنطوق فلا يثبت بالأولوية الا وجوب إكرام العلماء العدول فلا تعارض بينهما حينئذ.

واما مفهوم الموافقة بالمساواة فقد ذكر : ان الكلام فيه هو الكلام في سابقه بلا اختلاف في الحكم (1).

ص: 383


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 498 - الطبعة الأولى.

وقد أورد عليه المقرر ( دام ظله ) : بأنه لا وجه للتفكيك بين قسمي المفهوم في البيان بعد ان كان حكمهما واحدا (1). ولا يخفى ان هذا الإيراد إيراد أدبي لا يرتبط بواقع البحث ، مع انه لا وجه له لتعارض التفكيك في البيان لغرض الإيضاح ، هذا لو لم يكن التفكيك البياني من المقرر نفسه في تقريره وإلاّ فالإشكال عليه.

والّذي يرد على المحقق النائيني قدس سره فيما أفاده في مفهوم الموافقة بالأولوية : ان مفروض الكلام أولا هو عدم المنافاة بين المنطوق والعام بذاتيهما أصلا ، فدعوى المدعي لتقديم المفهوم كانت على هذا الأساس ، ففرضه قدس سره كون نسبة المنطوق إلى العام نسبة الخصوص المطلق أو العموم والخصوص من وجه خروج عن مفروض البحث ، إذ التعارض فيما فرضه يكون بين المنطوق والعموم رأسا ، فيتقدم عليه في الأول قهرا ويتساقطان مع عدم المرجح في الثاني. ولا يحتاج حينئذ إلى ما أتعب به نفسه في إثبات منافاة العموم للمنطوق بالأولوية لأنه ينافيه بدلالته اللفظية ومنطوقه. فالمثال الّذي يتناسب مع مفروض البحث هو ما إذا ورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم خدام الفقهاء غير العلماء » فانه يدل بالأولوية على وجوب إكرام أسيادهم الفقهاء ، مع عدم التنافي بين المنطوقين بذاتهما أصلا ، ونسبة المفهوم إلى العموم نسبة الخاصّ إلى العام. ومثل : « لا تقل لها أف » (2) الدال بالأولوية على حرمة ضرب الوالدين بالنسبة إلى دليل : « يجوز ضرب الأقارب » ، لو فرض وجوده.

وتحقيق الكلام فيه : ان التعارض يكون في الحقيقة بين المنطوق والعام ، إذ دلالة مثل : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (3) عقلا على حرمة الضرب ، انها تكون باعتبار

ص: 384


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 500 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
2- سورة بني إسرائيل ، الآية : 23.
3- سورة بني إسرائيل ، الآية : 23.

استفادة ان تحريم قول الأف باعتبار انه أضعف افراد الإيذاء ، فانه يلازم عقلا حرمة الأقوى منه من افراد الإيذاء ، وهو بهذه الدلالة المستلزمة عقلا لما عرفت ، يتنافى مع عموم جواز ضرب الأقارب الشامل للوالدين ، فان تجويز الفرد الأقوى يتنافى مع تحريم الفرد الأضعف - وإلاّ فلا منافاة بحسب ذات المنطوقين لاختلاف موضوعيهما - ، وهكذا الحال في المثال الأول ، فان دليل : « أكرم خدام الفقهاء » حيث دل على وجوب إكرامهم لارتباطهم بالفقهاء لا لخصوصية فيهم ، كان دالا بالملازمة العقلية على وجوب إكرام الفقهاء ومنافيا لأجل ذلك لما دل بعمومه على حرمة إكرامهم.

وعليه ، فإذا كانت المنافاة بين المنطوقين ، فلا بد في تقديم أحدهما من ملاحظة الأقوى منهما وإلاّ فيتساقطان ، كالدليلين الدال أحدهما على وجوب إكرام زيد والآخر على حرمته ، فانهما يتنافيان باعتبار لازمهما العقلي وهو نفى الآخر وإلاّ فمدلولاهما مختلفان.

وبالجملة : ما نحن فيه كسائر موارد المعارضة بالتباين ، فيقدم الأقوى منهما ظهورا لو كان وإلاّ تساقطا. فلاحظ.

واما ما أفاده في المفهوم بالمساواة وعطفه على مفهوم الموافقة. ففيه : ان الدليل المتكفل لحكم المنطوق إذا كان يتكفل بيان التعليل ، راجعا إلى بيان كلي على موضوع كلي ، فالدليل يتكفل بيان حكمين أحدهما على الموضوع الخاصّ والآخر على الموضوع العام. وعليه فلا بد من ملاحظة نسبة الحكم المنشأ بالعلة المنافي لعموم آخر لذلك العام ، وإجراء القواعد المقررة المعلومة ولا وجه لفرض التعارض بين المنطوق والعام فانه خلف الفرض ، إذ الفرض عدم منافاة المنطوق بنفسه للعموم ، كما لو قال : « يحرم الفقاع لأنه مسكر » ثم قال : « يجوز شرب كل ما يتخذ من العنب » ، فان النسبة بينه وبين الحكم بحرمة كل مسكر العموم من وجه ، ولا ينافي المنطوق بوجه كما لا يخفى.

ص: 385

وبعد ان تعرض قدس سره إلى مفهوم الموافقة بما عرفت ، تعرض إلى تحقيق الكلام في مفهوم المخالفة ، فذهب إلى ان المستفاد من ظاهر كلام الشيخ رحمه اللّه التفصيل بين ما إذا كان العموم آبيا عن التخصيص فلا يخصصه المفهوم وما إذا كان غير آب عنه فيخصصه ، وجعل قدس سره بنائه على تقدم عموم العلّة في مفهوم النبأ على المفهوم ، وعدم تخصيصه بالمفهوم من هذا الباب ، لأن إصابة القوم بجهالة أمر مرغوب عنه شرعا وغير قابل للاختصاص بمورد دون آخر.

واما بالنسبة إلى سائر العمومات الدالة على عدم جواز العمل بالظن ، فبنى على تقدم المفهوم على العام لحكومته عليها ، لأن خبر الواحد بدليل حجيته يخرج موضوعا عن العمل بالظن (1).

وناقشه قدس سره صدرا وذيلا : بان الحكومة تجري في كلا الموردين وإلاّ لامتنع تقديم المفهوم على غير عموم العلة من العمومات.

ثم انه قدس سره تعرض لدعوى التفصيل بين صورة اتصال العام بما له المفهوم فيقدم عليه ويمنع عن انعقاد ظهور الكلام في المفهوم. وصورة انفصاله عنه فيقدم المفهوم لأخصيته (2). وناقشها : بأنه يمتنع تقدم العام على المفهوم في صورة الاتصال ، وانه يستحيل ان يكون العام مانعا عن انعقاد الظهور في المفهوم ، وذكر لذلك وجوها ثلاثة :

الأول : ظهور الكلام في المفهوم وان كان بالإطلاق كظهوره في العموم ، إلاّ ان جريان مقدمات الحكمة في إثبات المفهوم أسبق رتبة من جريانها في العموم ، فيكون ما له المفهوم حاكما على العموم ، واحتفاف الكلام بما يصلح

ص: 386


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /72- 74 - الطبعة الحجرية. كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 210 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /72- 74 - الطبعة الحجرية. كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 210 - الطبعة الأولى.

للقرينية انما يمنع من انعقاد الظهور في غير موارد الحكومة.

الثاني : ان الاحتياج لمقدمات الحكمة في إثبات المفهوم لأجل نفي البدل والشريك ، اما رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع - وهو مناط ظهور الكلام في المفهوم - فهو يستفاد من ظهور وضعي ، وهو مقدم على الظهور الإطلاقي في جانب العموم ، ولا يصلح هذا لمنع الظهور الوضعي ، فيقدم على العموم لا محالة.

الثالث : ان المفهوم حيث يثبت من جهة ظهور الكلام الوضعي في رجوع القيد إلى الحكم ، وظهوره الإطلاقي في نفي البدل والشريك ، فتقدم العموم عليه لا بد وان يكون منشؤه اما تصرفه في الظهور الأول أو الثاني. وكلاهما منتف ، لأن الأول ظهور وضعي لا يقاومه ظهور العموم لأنه إطلاقي. والثاني لا تعرض للعام لنفيه ، إذ هو يتكفل جعل الحكم على موضوعه المقدر الوجود من دون تعرض لإثبات البدل ونحو ذلك. هذا خلاصة ما أفاده قدس سره (1).

تحقيق الكلام : ان جهة الإشكال والشبهة التي كان منشأ لإيقاع البحث في تقدم المفهوم الخاصّ على العام وافراده في الكلام عن سائر الخصوصيات هي : ان المفهوم انما يستفاد من دلالة المنطوق على خصوصية ملازمة للمفهوم كخصوصية العلية المنحصرة في الشرط ، وبما ان الدلالة على هذه الخصوصية بالإطلاق ، لم يناهض المفهوم العام ، لأن الدال عليه هو الإطلاق وهو لا يتقدم على ظهور العموم ، بل مقتضى القاعدة تقدم العموم عليه بناء على كون ظهوره وضعيا ، وتقدم الخاصّ على العام ليس لدليل خاص كي يؤخذ بإطلاقه ، بل لأجل أظهريته وهي منتفية في مورد كون الخاصّ مدلولا للإطلاق ، بل يكون شأنهما شأن العامين من وجه.

والجواب عن هذه الشبهة : ان تعارض الإطلاقين أو الدليلين اللذين بينهما

ص: 387


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 501 - الطبعة الأولى.

عموم من وجه لا يلازم دائما سقوطهما ، بل قد يلتزم بتقديم أحدهما لخصوصية ، كما لو كان الالتزام بتقديم أحدهما في المجمع موجبا لإلغاء دخالة خصوصية أحدهما في الحكم بالمرة ، كما يقال بتقديم ما دل على طهارة بول وخرء الطائر على ما دل على نجاسة بول وخرء غير مأكول اللحم مع ان بينهما عموما من وجه ، ببيان : ان الالتزام بنجاسة بول وخرء الطائر غير مأكول اللحم وتخصيص الطهارة بالطائر المأكول اللحم يستلزم إلغاء خصوصية دخالة الطير في الطهارة ، إذ مأكول اللحم طاهر مطلقا بلا خصوصية للطير وغيره ، وهو ينافي ظهور الدليل في دخالة الطير في الحكم بالطهارة الّذي هو أقوى من الظهور الإطلاقي. وهذا البيان لا يتأتى لو قدم دليل طهارة بول وخرء الطير على الدليل الآخر كما لا يخفى. فيقدم هذا الدليل ، لأن تقديم الدليل الآخر عليه يلازم طرحه بالنسبة إلى موضوعية العنوان المأخوذ فيه.

وفيما نحن فيه يجري نظير هذا البيان ، وذلك لأن الدليل المشتمل على الشرط - مثلا - ظاهر في حد نفسه في دخالة الشرط في ثبوت الحكم بنحو الإجمال ، وإذا انضم إليه الإطلاق الدال على نفي العدل والشريك تتم الدلالة على المفهوم. فإذا فرض تقديم العام كان ذلك ملازما لإلغاء ظهور دليل المفهوم في دخالة الشرط في ثبوت الحكم ، إذ العموم ينفي دخالة القيود ، وهذا الظهور ليس بإطلاقي كي لا يصلح لمصادمة العام.

وبالجملة : العام انما يصادم دليل المفهوم في دلالته على أصل دخالة الشرط في الحكم التي هي أسبق رتبة من دلالته على المفهوم. ودليل المفهوم بلحاظ هذه الدلالة أقوى من دلالة العام على العموم. فلاحظ.

وبهذا البيان ينحل الإشكال ، ولذا لم يتوقف أحد عملا كما عرفت في تقديم دليل : « أكرم العلماء إذا كانوا عدولا » على دليل : « أكرم كل عالم ».

وبهذا البيان لا بد من تحقيق الكلام ، لا بالنحو الّذي سلكه في الكفاية ،

ص: 388

أو بالنحو الّذي سلكه المحقق النائيني من تعرضه لصغرى من صغريات المورد ، والبحث فيها مع الشيخ مع موافقته له في الكبرى ، وعدم بيان نكتة تقديم الدليل الدال على المفهوم إذا كان منفصلا عن العام ، بل اكتفي بمجرد الدعوى وإرساله إرسال المسلمات مع أنك عرفت قوة شبهة التوقف في التقديم ، وكلامه مع الشيخ وان كان لا تخلو عن بعض المناقشات لكن أهملنا التعرض لها إيكالا ذلك إلى محله فانتظر. فتدبر واللّه سبحانه العالم الموفق.

فصل

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة ، كما إذا قال المولى : « أكرم العلماء وأكرم التجار وأكرم الأدباء الا الفساق منهم » ، فهل الظاهر رجوعه إلى الكل أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في أحد الأمرين؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية انه لا إشكال ولا خلاف في تخصيص الأخيرة به على كل حال ، إذ رجوعه إلى غيرها بالخصوص على خلاف طريقة أهل المحاورة ، ولا إشكال في صحة رجوعه إلى الكل ثبوتا وان تراءى من كلام المعالم (1) وجود الإشكال فيه ، وعلّل عدم الإشكال ثبوتا في رجوعه إلى الكل بقوله : « وذلك ضرورة ان تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الأداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا ، وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال ، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوما » ، ثم تعرض إلى مقام الإثبات (2).

أقول : الإشكال الثبوتي بحسب النّظر الأولي قوي ومتين ، وذلك لأنه

ص: 389


1- العاملي جمال الدين. معالم الدين /137- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /235- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بناء على ان الموضوع له الحروف والأدوات هو النسبة الكلامية - بتعبير المحقق النائيني (1) - ، والوجود الرابط - بتعبير المحقق الأصفهاني (2) - وقد عرفت اختياره ، بناء على هذا الرّأي يمتنع استعمال الأداة في الاستثناء من جميع الجمل ، لتعدد الربط بين المستثنى والمستثنى منه بتعدد المستثنى منه ، وأداة الاستثناء موضوعة لخصوصيات الربط وواقعه ، فيمتنع ان تستعمل ويراد بها الربط المتعدد لاستلزام ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال كما تقدم بيانه.

وبالجملة : الإشكال الثبوتي في رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها هو استلزام ذلك لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال.

وقد عبر المحقق الأصفهاني في مقام تقريب الإشكال ، بان الأداة موضوعة للإخراجات الخاصة (3). وهو لا يتلاءم مع ما ذهب إليه من ان الموضوع له هو الوجود الرابط ، وهو غير الإخراج الخاصّ فيما نحن فيه ، بل هو النسبة الإخراجية الاستثنائية.

وقد يقال في دفع هذا الإيراد : انه انما يلزم لو كان الاستثناء من كل واحد واحد من الجمل على حدة وبنحو العموم الاستغراقي واما إذا كانت العمومات ملحوظة في الاستثناء بنحو العموم المجموعي ، بان يكون الاستثناء من المجموع لا من كل واحد واحد ، فيكون طرف الربط واحدا لا متعددا ، فلا تعدد للربط فلا يلزم المحذور المدعي (4).

ويرد هذا القول ان أخذ المجموع طرفا للربط اما بلحاظ عنوان آخر منطبق على الكل ، والاستثناء منه. واما بلحاظ نفس العمومات بنحو المجموع ، والاستثناء منها كذلك. والأول : يتنافى مع الوجدان ، إذ لا نرى عنوانا آخر أخذ

ص: 390


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 18 - 23 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 16 - 19 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 348 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 348 - الطبعة الأولى.

طرفا للاستثناء. والثاني : بعيد عن طريقة المحاورة العرفية ، لاستلزامه ان يلحظ كل واحد من العمومات بلحاظين ، أحدهما استقلالي في مقام تعلق الحكم به ، والآخر ضمني في مقام الاستثناء ، وهو لو لم يكن محالا عقلا فلا أقل من انه تكلف لا دليل عليه.

وتحقيق الحال ان يقال : ان بعض الحروف لا يتكفل في بعض موارد استعماله بيان الربط بين مدخوله والمفهوم السابق عليه في الكلام ، نظير ما يقال في مثل : « زيد في الدار » من ان طرف الربط ليس زيدا ، بل هو مقدر مثل : كائن أو مستقر.

وقد يتكفل في بعض استعمالاته الربط بين المفهوم اللاّحق والسابق في الكلام مثل : « زيد في الدار جاءني » فان : « في » رابطة بين زيد والدار في هذا المثال دون المثال الأول. وعليه فنقول : ان أداة الاستثناء تارة نقول : انها متكفلة لبيان الربط بين المستثنى والمستثنى منه. وأخرى نقول : انها لا تكون متكفلة لربط المستثنى منه ، بل تتكفل بيان ربط المستثنى مع المستثنى - بالياء - ، نظير الفعل الدال على الإخراج كقوله : « اخرج ». فعلى الأول يتوجه المحذور بالبيان السابق ، وعلى الثاني لا يتوجه الإشكال ، إذ لا تعدد لطرف الربط كما لا يخفى.

والّذي نبني عليه هو الوجه الثاني ، لبداهة صحة الاستثناء من الجميع من دون توقف ، فانه يكشف عن ان وضعها ومفادها يتلاءم مع ذلك ، وليس ذلك إلاّ الوجه الثاني.

وإذا انتفى المحذور الثبوتي في رجوع الاستثناء إلى الجميع ، يقع الكلام في مرحلة الإثبات. ولا كلام في معنى : « الا » والخاصّ ، انما الكلام وما عليه تشخيص الظهور هو معرفة المراد بالضمير وتعيين مرجعه ، فما هو المقصود من الضمير في قوله « الا الفساق منهم »؟ هل الجميع أو العام الأخير أو هو مجمل؟. فنقول : ان الضمير يؤتي به للإشارة إلى معنى متعين ، ولا يصح إرادة المعنى منه

ص: 391

من دون ان يكون معينا. فمع عدم سبق معنى بالمرة لا ذكرا ولا ذهنا ، لا معنى لأن يقال : « هو كذا » إذ يتساءل ما المراد ب- : « هو »؟ ويستنكر عليه مثل هذا الإبهام في مقام التفاهم. فالتعين لا بد منه في صحة استعمال الضمير.

وعليه ، فتارة : يتحد المحمول ويتكرر ذكر العمومات فقط ، بان يقال : « أكرم العلماء والتجار والأدباء الا الفساق منهم ».

وأخرى : يتكرر المحمول سواء اتحد نوعه أم اختلف بدون عطف بان يقال : « أكرم العلماء ، أضف التجار ، احترم الأدباء الا الفساق منهم ».

وثالثة : يتكرر المحمول مع العطف بان يقال : « أكرم العلماء وأضف التجار واحترم الأدباء الا الفساق منهم ».

ففي الصورة الأولى : يكون الضمير راجعا إلى الجميع ، وذلك لأنه المعنى المتعين الصالح لرجوع الضمير إليه ، اما الخصوص الأخيرة فلا تعين له ذهنا من بين العمومات الأخرى ، وكونه اقرب العمومات إلى الضمير لا يوجب التعين ، وإلاّ فالأبعد أيضا فيه خصوصية وهي الأبعدية. فلا يصلح العام الأخير لرجوع الضمير إليه ، فيتعين رجوعه إلى الجميع.

وفي الصورة الثانية : يتعين رجوع الضمير إلى الأخيرة ، إذ بيان كل حكم بجملة مستقلة غير مرتبطة بسابقتها برابط يوجب كون الجملة السابقة في حكم المغفول عنها والمنتهى عن شئونها ، وهذا الأمر يوجب نوع تعين للأخيرة من بين الجمل الأخرى السابقة عليها ، إذ هي المعهودة فعلا دون السوابق لفرضها كالمغفول عنها ، وعلى هذا جرت سيرة العرف ، فانه إذا تعددت مطالب الكتاب أو الكلام الواحد المتصل ، ثم الحق الاستثناء بأحدهما كان راجعا إليه ولا يلتزم برجوعه إلى جميع المطالب السابقة لأجل ذكرها ، إذ الأخير له تعين من بينها يوجب صرف الضمير إليه فقط.

واما الصورة الثالثة : يكون الكلام مجملا ، إذ يحتمل ان يكون استقلال

ص: 392

الأخير في الحكم موجبا لتعينه عرفا من بينها ، كما يحتمل ان يكون ربط الأخير بحرف العطف موجبا لعدم تعينه لكون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة ، فهي من جهة العطف يحتمل كونها كالصورة الأولى ، ومن جهة الاستقلال في الحكم يحتمل كونها كالصورة الثانية ، فيكون الكلام مجملا ، ولكن تخصيص الأخيرة قدر متيقن.

هذا غاية تحقيق الكلام ، وقد عرفت ان موضوعه هو تعيين مرجع الضمير المذكور في الكلام أو المقدر ، لوضوح إرادة استثناء العنوان المضاف إلى العام وان لم يضف إليه لفظا ولأجل ذلك كان خاصا ، فالمراد من : « أكرم العلماء الا الفساق » « الا فساقهم » وإلاّ فعنوان الفساق عام ونسبته إلى العلماء نسبة العموم من وجه ، فلا معنى لتخصيص العام به.

ثم انه لا يخفى على المتأمل ما في كلام المحقق النائيني من النّظر ، حيث ذكر قدس سره : ان الموضوع تارة يكون مكررا في الجملة الأخيرة. وأخرى لا يكون مكررا ، بل هو يكون مذكورا في الجملة الأولى ، كما إذا قال : « أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم الا فساقهم ». ففي الصورة الأولى حيث ان عقد الوضع ذكر في الجملة الأخيرة فقد أخذ الاستثناء محلّه فيحتاج تخصيص غيرها إلى دليل آخر. وفي الصورة الثانية رجع الاستثناء إلى الجميع لعدم ذكر الموضوع الا في صدر الكلام ، فلا يصلح الاستثناء للرجوع الا إليه وإذا رجع إليه خصص الجميع لا محالة (1).

فإن ما ذكره غير تام في كلتا الصورتين. اما ما ذكره في الصورة الأولى فلان أخذ الاستثناء محله ليس امرا يحكم في باب الظهور وما يفهم عرفا من الكلام كما لا يخفى ، فهو استدلال خارج عن الطريقة الصناعية. واما ما ذكره

ص: 393


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 496 - الطبعة الأولى.

في الصورة الثانية فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني : بأنه خلط بين « الا » الوصفية و « الا » الاستثنائية ، فان الأولى لا ترجع إلى الضمير لأن الضمير لا يوصف. اما الاستثناء منه فلا مانع منه (1).

واما ما ذكره صاحب الكفاية من تشبيه المقام بصورة تعدد المستثنى (2). فهو ليس كما ينبغي وذلك : لأن المستثنى تارة : يكون متعددا مصداقا ، لكنه واحد بالعنوان ، كعنوان : « الفساق ». وأخرى : يكون متعددا عنوانا. فالأوّل : لا إشكال فيه لوحدة طرف الربط ولكنه لا يشبه المورد. الثاني : تارة يكون مع العطف كان يقول : « أكرم العلماء الا الفساق والنحويين ». وأخرى بدون العطف.

فالأوّل : لا إشكال فيه ، لأن الربط وان تعدد لكن الدال متعدد أيضا ، إذ هو في الأول أداة الاستثناء وفي الثاني أداة العطف. فهو لا يشبه المورد من جهة تعدد الربط ووحدة الدّال المذكورة في الإشكال.

والثاني : لم يثبت جوازه ، بل محذور تعدد المستثنى منه يسري إليه ويرد فيه بلا تفاوت لتعدد الربط ووحدة الدال. فتدبر.

والخلاصة : ان ما ذكرناه هو الّذي ينبغي ان يقال فان فيه تحقيق المقال (3).

فصل :

وقع الكلام في جواز تخصيص العام الوارد في الكتاب بخبر الواحد

ص: 394


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 294 من هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /235- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- تنبيه : قد عرفت ان الإشكال الثبوتي لا ينحل بما ذكر من رجوع الاستثناء إلى المجموع ، لأنه يتصور بأحد نحوين كلاهما بعيدان عن طريقة المحاورة. ولكن سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) عدل عن ذلك - بعد البحث معه ( مد ظله ) - والتزم بإمكان رجوع الاستثناء إلى المجموع ، لوجود عنوان واحد جامع للعمومات ، وهو الضمير ، فانه عنوان مبهم قابل للانطباق على الجميع كما عرفت. وعليه فيندفع المحذور الثبوتي بهذا الوجه أيضا ، وينحصر البحث حينئذ في تعيين مرجع الضمير. فلاحظ وتأمل جيدا واللّه سبحانه الموفق. ( منه عفي عنه ).

غير المحفوف بالقرينة القطعية ، مع الاتفاق بجواز تخصيصه بالكتاب وبالخبر المتواتر وبخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعية.

وقد التزم صاحب الكفاية بجوازه بلا ارتياب لوجهين :

أحدهما : قيام سيرة الأصحاب على العمل بخبر الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة علیهم السلام .

وثانيهما : لزوم إلغاء الخبر أو ما بحكمه لندرة خبر لا ينافي عموم الكتاب لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.

وقد قرب عدم جواز التخصيص به بوجوه :

أولها : ان العام الكتابي قطعي الصدور ، والخبر ظني السند فلا يقاوم العام.

ورده صاحب الكفاية : بان ذلك لا يمنع التصرف في دلالته الظنية ، وإلاّ لامتنع تخصيصه بالخبر المتواتر مع انه جائز بلا كلام.

وذكر ان السرّ فيه : ان المعارضة بين أصالة العموم ودليل حجية الخبر ، وبما ان الخبر بدلالته وسنده صالح للتصرف في أصالة العموم ، لحكومته أو وروده عليها ، لأنه رافع لموضوعها تعبدا ، ولذا لو تيقن بمضمون الخبر يرتفع موضوع أصالة العموم تكوينا ، كان الخبر مقدما على العام. وأصالة العموم لا تصلح للتصرف في أصالة الحجية لأنها لا ترفع موضوعها كما لا يخفى.

وثانيهما : ان ما يدل على حجية الخبر هو الإجماع ، والقدر المتيقن منه ما لا يوجد على خلافه دلالة ولو كان مثل عموم الكتاب.

ورده في الكفاية : بان الدليل لا ينحصر بالإجماع ، كيف؟ وقد عرفت قيام السيرة على العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب.

ثالثها : ما دل من الاخبار على وجوب طرح المخالف للكتاب من الاخبار ، وضربه عرض الجدار ، وانها زخرف ، ومما لم يقله الإمام علیه السلام ، وهي كثيرة جدا.

ص: 395

ورده في الكفاية بوجوه :

الأول : ان المراد بالمخالفة هي غير المخالفة بنحو العموم والخصوص ، لأنها ليست مخالفة بنظر العرف ، ولا يرى العرف تنافي الدليلين إذا كانا كذلك.

الثاني : انه لو لم نقل بانصراف المخالفة عن المخالفة بالعموم والخصوص ، فلا بد من كون ذلك للقطع بصدور الاخبار الكثيرة المخالفة للكتاب بهذه المخالفة.

الثالث : قوة احتمال كون المراد انهم علیهم السلام لا يقولون بغير قول اللّه تعالى واقعا وان خالفه ظاهرا ، لاطلاعهم على مراده الواقعي ، وما يرى من كونه مخالفا لا يعدو سوى التخيل لا الواقع.

رابعها : انه إذا جاز التخصيص جاز النسخ بخبر الواحد ، لأنهما من واد واحد ، إذ النسخ في الحقيقة تخصيص أزماني ، وقد قام الإجماع على عدم جواز النسخ به ، فيدل على عدم جواز التخصيص به.

وردّه في الكفاية : بان عدم جواز النسخ به لقيام الإجماع ، وهو لا يلازم الإجماع على عدم جواز التخصيص به وان اشتركا في كونهما معا من التخصيص ، لوجود الفرق وهو توفّر الدواعي إلى نقل النسخ وضبطه دون التخصيص ، فلا يكتفي في النسخ بالظن دون التخصيص.

هذا توضيح كلام الكفاية ، وليس فيه ما يحتاج إلى تطويل البحث الا ما ذكره في تفسير الروايات الآمرة بطرح المخالف للكتاب ، وبما انه يقع البحث فيها في مبحث حجية خبر الواحد ومبحث التعادل والتراجيح فنوكل الكلام فيه إلى محله منهما. فتدبر (1).

ص: 396


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /235- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فصل :

في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص. وقد ذكر في الكفاية ان الخاصّ والعام المتخالفين يختلف حالهما من حيث التخصيص والنسخ ، فتارة يكون الخاصّ مخصصا. وأخرى يكون ناسخا. وثالثة يكون منسوخا بالعامّ ، وذكر في بيان ذلك - بعد تسليم أمرين : أحدهما : امتناع التخصيص بعد وقت العمل بالعامّ لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة. وثانيهما : امتناع النسخ قبل حضور وقت العمل - ان الخاصّ ان كان مقارنا مع العام أو بعده قبل حضور وقت العمل به كان مخصصا ، وان كان بعد حضور وقت العمل به كان ناسخا ، إذ التخصيص يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، نعم يستثنى من ذلك صورة ما إذا لم يكن العام واردا لبيان الحكم الواقعي كما هو الحال في غالب العمومات الواردة في لسان الشرع ، فانه يكون الخاصّ مخصصا له. وان كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص دار الأمر بين كون الخاصّ مخصصا وكونه منسوخا ، ويتحقق التصادم بين ظهور العام في العموم وظهور الخاصّ في الدوام والاستمرار ، وبما ان التخصيص اشتهر وذاع كان ظهور العام ولو كان وضعيا أضعف من ظهور الخاصّ الإطلاقي ، وبذلك يتعين الالتزام بالتخصيص.

ثم انه تعرض لصورة الجهل بتاريخ ورود الخاصّ بعد العام وانه بعد العمل به أو قبله ، وحكم بها بالرجوع إلى الأصول العملية ، ولا تنفع كثرة التخصيص في ترجيحه ، إذ غاية ما تستلزم ، الظن بالتخصيص بلحاظ الغلبة ولا دليل على اعتبار هذا الظن.

ففرق بين الصورة السابقة وهذه الصورة ، فان شهرة التخصيص تستلزم أقوائية أحد الظهورين على الآخر - في الصورة السابقة -. وليس الأمر كذلك في صورة الجهل بالتاريخ لعدم الدوران بين الظهورين والتصادم بينهما.

ص: 397

ثم انه بعد ذلك ذكر ان تعين الخاصّ للتخصيص فيما لو ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، أو ورد العام قبل وقت العمل بالخاص ، يبتني علي امتناع النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلاّ فلا يتعين التخصيص ، بل يدور امره بين النسخ والتخصيص ، ولكن يلتزم بالتخصيص لأقوائية الظهور في الدوام من الظهور في العموم من جهة شهرة التخصيص وندرة النسخ.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في المقام (1).

تحقيق الكلام : ان المراد من تأخير البيان عن وقت الحاجة المحكوم بالقبح أحد وجوه ثلاثة :

الأول : تأخير البيان عن وقت العمل والامتثال ، كالإنشاء الفعلي لوجوب الجلوس في المسجد أمس ، فانه عبث لغو ، إذ الحكم المذكور لا يترتب عليه شيء من الداعوية فيكون قبيحا.

الثاني : تأخير البيان عن وقت البيان ، بمعنى تأخير البيان عن الوقت الّذي يكون المتكلم في مقام البيان ، فانه قبيح أيضا لأنه خلف.

الثالث : تأخير البيان المفوت للمصلحة واستيفاء الغرض ، فانه قبيح لأجل تفويت الغرض. وهذا غير مرتبط بالعامّ والخاصّ ، بل هو وجه سار في كل مورد من موارد عدم البيان المستلزم لذلك. كما لا يخفى.

والعمدة في وجه الإشكال في تأخير الخصوصيات هو الأول ، فانه لا معنى للإنشاء الفعلي للأحكام الخاصة في الزمان الماضي ، فتأخير التخصيص عن وقت الامتثال والعمل قبيح سواء كان الخاصّ متكفلا لحكم إلزاميّ أو ترخيصي ، إذ بعد مضي الوقت لا يبقى مجال لإنشاء الإلزام أو الترخيص فيه لعدم ترتب الأثر المرغوب من جعل الحكم عليه.

ص: 398


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /237- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن هذا الوجه مع أهميته ومتانته مغفول عنه في كلمات الاعلام ، وانما يتعرضون لوجهين الآخرين.

والّذي يظهر من صاحب الكفاية إرادة الوجه الثاني ، فان ما ذكره من تعين الخاصّ للنسخ إذا ورد بعد وقت العمل بالعامّ إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي دون ما إذا لم يكن واردا لذلك ، ظاهر جدا في كون نظره في تأخير البيان هو الوجه الثاني.

وهكذا المحقق النائيني فانه تابعة في ذلك ، لأنه وان أورد عليه بعدم إمكان تكفل العام لبيان الحكم الظاهري ، لكنه وافقه في ما هو المهم ، وهو عدم تكفل العام لبيان الواقع فانه مشترك بينهما (1).

وعلى كل ، فقد عرفت ان صاحب الكفاية ذهب إلى تعين الخاصّ للتخصيص في مورد دوران الأمر بين كونه مخصصا وناسخا أو مخصصا ومنسوخا ، وعلّله بأقوائية الظهور في الدوام على الظهور في العموم لشهرة التخصيص وندرة النسخ.

وأورد عليه المحقق النائيني بوجوه عديدة :

منها : ان أصالة العموم من الأصول اللفظية ، وأصالة عدم النسخ من الأصول العملية لأنها مفاد استصحاب عدم النسخ لا انها مفاد الإطلاق ، إذ الدليل المتكفل لأصل الحكم لا يمكن ان يكون بنفسه متكفلا لإثبات استمراره لتأخر الاستمرار رتبة عن الحكم. وعليه فعند التعارض يتقدم الأصل اللفظي على العملي لحكومته عليه ، فلا بد من الحكم بالنسخ لا بالتخصيص.

وقد اختار قدس سره التخصيص بوجه آخر ، فانه بعد ان قدم مقدمات ثلاث ، تعرض في الأولى منها بكلام الكفاية المرتبط بتكفل العام لبيان

ص: 399


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 506 - الطبعة الأولى.

الحكم الظاهري. وفي الثانية لبيان ان النسخ قبل وقت الحاجة معقول في الجملة وفي بعض صور جعل الأحكام. وفي الثالثة لبيان عدم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان من عادة المتكلم ذلك ، لمصلحة هناك ، كما هو الحال في المولى الشرعي. بعد ذلك ذكر ان مجيء الخاصّ المتأخر يمنع من جريان مقدمات الحكمة في العموم لصلاحية الخاصّ للتخصيص ، ومع وجود ما يصلح للتخصيص وتقييد موضوع العام لا تتم مقدمات الحكمة ، فأصالة العموم لا تكون جارية في نفسها عند ورود المخصص ، لعدم المقتضي وهو مقدمات الحكمة لا لوجود المانع. ولا يختلف الحال بين ان يكون الخاصّ متأخرا أو متقدما ، بل فيه أولى لأبعدية احتمال النسخ فيه ، إذ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة لو سلم المانع من الالتزام بتخصيص الخاصّ المتأخر فلا يسلم قبح تقديم البيان عن وقت الحاجة. فلاحظ (1).

ولكن ما أفاده لا يمكننا الالتزام به.

اما التزامه بان نفي النسخ مفاد الاستصحاب لا الإطلاق ، فهو محل منع كما سيأتي الكلام فيه في محله ، وخلاصة ما يدفع به : ان الدليل كما يتكفل بإطلاقه ثبوت الحكم لافراده الدفعيّة ، كذلك له إطلاق يتكفل ثبوته لافراده التدريجية وهو معنى استمراره وهذا الوجه ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه أيضا (2).

واما ما ذكره من ان مخصصية الخاصّ لأجل عدم تمامية مقدمات الحكمة ، فلو سلم على مبناه من ان عدم النسخ والاستمرار يثبت بالاستصحاب لا بالإطلاق - في الخاصّ المتأخر ، فلا يسلم في الخاصّ المتقدم على العام ، وذلك لأن التنافي بين الخاصّ والعام انما يتحقق إذا كان زمان الحكمين متحدا ، وعليه فلا

ص: 400


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 506 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 295 من هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.

يكون الخاصّ المتقدم منافيا للعام إلاّ إذا فرض ثبوت حكمه في وقت العام ، وهذا انما يكون على مبناه بالاستصحاب ، وإذا كان ثبوت حكم الخاصّ في وقت ورود العام بالاستصحاب لم يصلح لمناهضة أصالة العموم كما لا يخفى ، فانه مما لا يتوهمه فاضل. فما أفاده قدس سره عجيب منه.

كما ان ما أفاده صاحب الكفاية من أقوائية الظهور الإطلاقي من ظهور العموم ، يرد عليه :

أولا : انه انما ينفع في إثبات التخصيص بالنسبة إلى الخاصّ المتقدم لا المتأخر ، وذلك لوجود ظهور إطلاقي في الاستمرار يتكفله الخاصّ ، وظهور وضعي في العموم يتكفله العام.

وهذا غير متوفر في صورة تأخر الخاصّ ، لأن ورود الخاصّ المتأخر موجب لانتفاء الإطلاق جزما ، سواء لوحظ بالإضافة إلى ما بعد ورود الخاصّ كما هو واضح ، أو لوحظ بالإضافة إلى حين وروده من حين ورود العام ، لأنه اما ان يكون مخصصا فلا استمرار لعدم موضوعه أو ناسخا. وإذا تبين عدم الإطلاق المتكفل للاستمرار فلا دوران بين أصالة العموم وأصالة الإطلاق ، بل القاعدة تقضي بجريان أصالة العموم لعدم المعارض.

وثانيا : - أشار إلى هذا الإيراد بنحو الإجمال المحقق العراقي في مقالاته (1) - ان كثرة التخصيص وندرة النسخ متأخرة عن زمان ورود الخاصّ ، بمعنى انه لم تكن ثابتة قبل ورود الخصوصيات بالنحو المزبور ، بل هي ناشئة عن الالتزام بالتخصيص دون النسخ في الخصوصيات المزبورة ، فلو التزم بالنسخ كان الأمر بالعكس.

وعليه ، فلا بد من بيان علة الالتزام بالتخصيص دون النسخ من أول

ص: 401


1- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول1/ 162 - الطبعة الأولى.

الأمر وقبل تحقق الاشتهار المزبور ، ولم يثبت في وجهه ما يستلزم أقوائية أحد الظهورين على الآخر ، إذ لعل الالتزام بالتخصيص من جهة الالتزام بانقطاع النسخ وبيانه بموت الرّسول صلی اللّه علیه و آله وعدم معقوليته حتى بنحو البيان من الأئمّة علیهم السلام ، أو من جهة لزوم تذبذب الأحكام والشريعة لو التزم بالنسخ في هذه الخصوصيات جميعها. وهذا المعنى لا يستلزم قوة الظهور كما لا يخفى.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني قدس سره إلى عدم احتمال النسخ ببيان : ان كلام الأئمة علیهم السلام كله بمنزلة كلام واحد ، لأنه بيان لحكم اللّه الواقعي الثابت من أول الأمر لا انه تشريع فعلي للحكم. وعليه فلا تأخر ولا تقدم ، بل الكل بمنزلة المقارن ، فيتعين الخاصّ للتخصيص ولا يحتمل النسخ حينئذ (1).

ويتوجه عليه : ان الأمر وان كان كذلك ، فبيانهم علیهم السلام يكشف عن سبق جعل الحكم ، لكن إثبات كون المجعول سابقا يحتاج إلى دليل ، إذ يحتمل ان يكون ابتداء الحكم من حين بيان المعصوم علیه السلام وان كان جعله سابقا ، ولا طريق إلى جرّ الحكم إلى السابق وإثبات تحققه من أول الأمر سوى الإطلاق.

وعليه ، يدور الأمر بين التصرف بأصالة العموم أو رفع اليد عن الإطلاق ، إذ لو لا الإطلاق لا تعارض ، فالدال على الحكم المنافي للعام هو الإطلاق فيتعارضان ، فاحتمال النسخ ثابت كما لا يخفى.

وخلاصة الكلام : ان ما ذكره الاعلام الثلاثة 5 لم يوصلنا إلى حل سليم في المقام.

والتحقيق ان يقال : انه إذا التزم بامتناع النسخ في زمن الأئمة ( صلوات اللّه عليهم ) لانتهائه في زمن الرّسول صلی اللّه علیه و آله حتى بنحو البيان ، لم يكن لاحتمال

ص: 402


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 294 - من هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.

النسخ مجال حينئذ فيتعين الخاصّ للتخصيص ، وان التزم بإمكان النسخ في زمانهم علیهم السلام ، اما لإمكان تشريعهم الأحكام ابتداء ، أو لأجل بيانهم النسخ الثابت من السابق ، كان احتمال النسخ في كل خاص ثابتا. لكن الالتزام بالنسخ في هذه المخصصات الكثيرة ممتنع لملازمته للالتزام بتذبذب الشريعة وعدم استقرارها بهذا النحو الغريب الّذي يلازم السخرية والهزو لو كان صادرا في القوانين العرفية المبنية على الجهل بالواقع فضلا عن المولى الشرعي.

وعليه ، فلا يدور الأمر بين النسخ والتخصيص في هذه المخصصات الواردة بالبيان المتعارف ، نعم قد يدور الأمر بينهما في حكم خاص بيّن بنحو يتلاءم مع النسخ والتخصيص. وعليه فيتعين الالتزام بالتخصيص في هذه المخصصات.

ولكن في التخصيص بالخاص المتأخر محذور تقدمت الإشارة إليه وهو : استلزامه تأخير البيان عن وقت العمل بيان ذلك : ان الدليل اما يتكفل إنشاء الحكم فعلا بوجوب العمل أو بالترخيص فيه فيما سبق من الأزمنة. أو يتكفل بيان ثبوته من السابق.

والأول ، لغو محض ، إذ لا يترتب عليه ما يلحظ في التكليف من البعث أو إطلاق العنان لتصرم الزمان ومضيه ، فلا معنى لإيجاب شيء في الأمس أو الترخيص فيه.

والثاني : ممتنع أيضا ، إذ جعل الحكم في السابق مع الجهل به وعدم إمكان الجري على طبقه بوجه من الوجوه ، لقيام الحجة على خلافه ، وهي أصالة العموم الدالة على الحكم الإلزامي المنافي له ، يكون لغوا قبيحا كما هو واضح.

وغاية ما نقوله في رفع المحذور المذكور هو : ان البداهة والضرورة الفقهية قامت على عدم اختلاف الموضوع الواحد في الحكم في زمانين لا وحدة الحكم فيهما - نظير المتلازمين -.

ص: 403

وعليه ، فالدليل الخاصّ الدال على ثبوت الحكم في مورد فعلا يدل بالملازمة على نفي غيره عنه في الزمان السابق ، فينافي الدليل العام الدال على ثبوت غيره له سابقا ، فإذا قدم الخاصّ لأقوائيته كان كاشفا عن عدم شمول العام لموضوعه من الأول. فالتنافي بين العام والمخصص بدلالته الالتزامية. فتدبر جيدا.

ثم ان صاحب الكفاية أوقع الكلام بعد ذلك في حقيقة النسخ والبداء (1). وتبعه غيره في ذلك ، ولكن رأينا الأولى عدم التعرض لذلك ، لعدم دخالته في علم الأصول ، وعدم القناعة بما ذكر له من الحلول ، فنوكل علمه إلى أهله فان إثبات الشبهات غير محمود.

انتهى مبحث العام والخاصّ ، ويتلوه مبحث المطلق والمقيد.

ص: 404


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /238- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المطلق والمقيد

اشارة

ص: 405

ص: 406

المطلق والمقيد

عرف المطلق : بما دل على شائع في جنسه ، وقد أورد عليه : بعدم الاطراد وعدم الانعكاس.

وقد ذكر صاحب الكفاية - كما عادته في كل تعريف - ان هذه الإيرادات لا وجه لها ، لأن التعريف يقصد به شرح الاسم لا بيان الحد أو الرسم (1).

ولا يخفى انه لا أثر لذلك فالمتعين إهمال البحث فيه وإيقاع البحث في الألفاظ المعدودة من المطلق ونحوها وتعيين الموضوع له فيها.

وهي موارد :

الأول : اسم الجنس ، سواء كان اسما للجوهر كإنسان ورجل وفرس وحيوان. أو للعرض سواء كان متأصلا ، كسواد وبياض. أو انتزاعيا ، كالملك ونحوه. وعبّر صاحب الكفاية عن اسم الجنس للعرض الانتزاعي بالعرضي (2) ، كما عبر عنه بذلك في باب المشتق (3) وأورد عليه هنا كما أورد عليه هناك : بأنه

ص: 407


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /243- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -3. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

خلاف اصطلاح أهل الفن ، فانهم يصطلحون بالعرضي على العنوان الاشتقاقي ، وبالعرض على المبدأ أعمّ من كونه انتزاعيا أو غيره.

وهذا ليس بمهم فيما نحن فيه ، وانما المهم تحقيق الموضوع له اسم الجنس ، والمنسوب إلى المشهور كونه موضوعا للطبيعة الملحوظ معها عدم لحاظ شيء ، المعبر عنها في الاصطلاح بالماهية لا بشرط القسمي. واختار صاحب الكفاية كونها موضوعة للماهية المبهمة المهملة بلا شرط أصلا حتى لحاظ انها كذلك ، ثم قال : « وبالجملة : الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى وصرف المفهوم ، الغير الملحوظ معه شيء أصلا الّذي هو المعنى بشرط شيء ، ولو كان ذلك الشيء هو الإرسال والعموم البدلي. ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه ، الّذي هو الماهية اللابشرط القسمي » ، واستدل على نفي وضعه للماهية بشرط الإرسال ، انه لو كان كذلك لم يصدق على كل فرد من الافراد في نفسه مع وضوح صدقه عليه بما له المعنى بلا عناية. كما استدل على نفي وضعه للماهية بنحو اللابشرط القسمي ، بان المفهوم اللابشرط القسمي موجود ذهني لتقيده باللحاظ ، فيمتنع صدقه على الفرد الخارجي إلاّ بالتجريد ، مع انّه يصدق عليه بلا مسامحة وعناية (1).

وقد تعرض المحقق الأصفهاني إلى بيان اعتبارات الماهية ، وانها تارة : يكون النّظر مقصورا فيها على ذاتها وذاتياتها من دون لحاظ أي امر خارج عنها معها ، وهي المعبر عنها بالماهية بما هي هي ، التي لا يحمل عليها الوجود والعدم وغير ذلك ، بل هي ليست إلاّ هي. وأخرى : تلاحظ بالإضافة إلى امر خارج عن ذاتها وذاتياتها ، وهي بهذا الاعتبار تارة : تقيد بوجود ذلك الأمر الخارجي. وأخرى : تقيد بعدمه. وثالثة : لا تقيد بأحدهما ، ويعبر عنها بالماهية اللابشرط

ص: 408


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /243- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

القسمي. ويعبر عن الثاني بالماهية بشرط لا. وعن الأول بالماهية بشرط شيء. كما يعبر عن المعنى الجامع لهذه الاعتبارات الثلاثة الّذي لا تعين له بدون أحدها باللابشرط المقسمي ، فاللابشرط المقسمي غير الماهية المبهمة وبما هي هي (1) ، كما تعرض المحقق النائيني إلى تقسيم البشرطلا إلى قسمين (2).

ولا يخفى ان التعرض إلى هذه التقسيمات ، وبيان المصطلح على كل منها ، والإيراد والنقض في صحة إطلاق بعض المصطلحات على بعض هذه الاعتبارات ، امر لا يرتبط بما نحن فيه ، وما نرومه ، فان الّذي نحاول البحث فيه وتحقيقه جهتان :

الأولى : بيان الموضوع له اسم الجنس ، وانه هل الماهية اللابشرط القسمي أو لا؟ والأثر فيه ، انه إذا كان الموضوع له هو الماهية اللابشرط القسمي ، فلو وقع موضوعا للحكم يستفاد عموم الحكم لجميع الافراد من الوضع لا بالقرينة ، بخلاف ما لو لم يكن موضوعا لها فانه يستفاد العموم من القرينة.

والثانية : بيان ان حقيقة اللابشرط القسمي وواقعه هو رفض القيود أو الجمع بينها ، فقد تكرر هذا الحديث منا تبعا للمحقق الأصفهانيّ من دون تحقيق الحال فيه.

ومن الواضح ان معرفة كل من الأمرين لا تتوقف على التقيد بمصطلحات اعتبارات الماهية ، بل هو يرتبط بواقع الماهية والاعتبار.

والبحث في الجهة الثانية نوكله إلى ما بعد الانتهاء من تعداد الألفاظ ومعرفة وضعها.

ويقع البحث الآن في الجهة الأولى ، فنقول : الموضوع له اسم الجنس هو

ص: 409


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 :351- 352 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 :522- الطبعة الأولى.

ذات الماهية والطبيعة التي تطرأ عليها هذه الاعتبارات ، والثابتة في جميع هذه التقسيمات بلا تقيد لها باعتبار دون آخر ، فليست هي الماهية بما هي هي ، ولا الماهية بشرط الإرسال ، ولا الماهية اللابشرط المقسمي أو القسمي.

وبعبارة أخرى : ان هناك امرا واحدا ثابتا لا يتغير باختلاف الاعتبارات ، بل الاعتبارات تطرأ عليه وهو نفس الماهية ، فيقال الماهية تارة تلحظ كذلك وأخرى تلحظ بهذا النحو وهكذا. فالمدعى : ان الموضوع له هو هذا الشيء الثابت في جميع هذه الأقسام. ودليلنا على ذلك - وبه ننفي سائر الاحتمالات - هو : صحة استعمال اللفظ في جميع هذه الأقسام بلا أي عناية ومسامحة ، فانه يكشف عن كون الموضوع له ما ذكرنا ، وإلاّ لم يصح الاستعمال بلا عناية في جميع الأقسام. فظهر بطلان احتمال كون الموضوع له الماهية بنحو اللابشرط القسمي.

وامّا ما ذكره صاحب الكفاية في وجه إبطاله من : انه يلزم ان يكون الموضوع له أمرا ذهنيا لا يصدق على الخارجيات إلاّ بالتجريد (1).

ففيه : ان اللابشرط القسمي يرجع إلى لحاظ الماهية من دون دخل القيد وعدمه في الحكم ، وحينئذ فتارة : يدعي وضع اللفظ إلى الماهية الملحوظة بنحو يكون قيد اللحاظ مأخوذا في الموضوع له. وأخرى : يدعي وضع اللفظ إلى ذات ما تعلق به اللحاظ ، فيكون التعبير باللحاظ للإشارة إلى تلك الذات.

فعلى الأول : يتم ما ذكره من الإشكال.

واما على الثاني : فلا يتم لصلاحية الموضوع له بنفسه للانطباق على الخارج من دون أي عناية كما لا يخفى.

والظاهر هو الثاني ، بل يكفينا مجرد إمكان ادعائه ، إذ به تصحيح دعوى

ص: 410


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /244- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الوضع للابشرط القسمي. فتدبر.

الثاني : علم الجنس كأسامة للأسد ، وثعالة للثعلب ، ونحوهما.

وقد نسب صاحب الكفاية إلى المشهور من أهل العربية وضعه للطبيعة بما هي متعين بالتعين الذهني لا بما هي هي ، ولأجل ذلك يعامل معاملة المعرفة بدون أداة التعريف. وخالفهم رحمه اللّه في ذلك ، فذهب إلى وضعه إلى صرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلا ، وان التعريف فيه لفظي لا معنوي كالتأنيث اللفظي ، فلا فرق بينه وبين اسم الجنس في الموضوع له. ونفي ما ذكره المشهور بوجهين :

الأول : انه يكون امرا ذهنيا لا يصدق على الخارجيات إلاّ بالتصرف بالتجريد ، مع ان صدقه عليها لا يكون بعناية كما لا يخفى.

الثاني : ان الوضع لمعنى مع خصوصية يحتاج في استعمالاته إلى تجريده عنها لا يصدر عن الجاهل فضلا عن العاقل الحكيم (1).

وقد وافقه المحقق الأصفهاني بناء على كون المراد من التعين هو التعين الذهني ، ولكنه احتمل إرادة التعين الجنسي منه - كما في الفصول (2) تبعا للسيد الشريف - ببيان : ان كل معنى طبيعي متعين بنفسه ممتاز عن غيره وهو امر ذاتي له ، فالمدعى ان علم الجنس موضوع للمتعين بما هو متعين ، واسم الجنس موضوع لذات المتعين والممتاز (3).

أقول : لا بد أولا من معرفة ما به يكون اللفظ معرفة ونكرة ، فنقول : لا يمكن ان يكون التعريف مستندا إلى امتياز مفهوم اللفظ عن غيره من المفاهيم وتعينه في نفسه ، وذلك لأن المفاهيم كذلك ، فكل واحد منها له تعين في نفسه وامتياز

ص: 411


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /244- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /166- الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 354 - الطبعة الأولى.

عن غيره ، فيلزم ان تكون جميع الألفاظ معارف ، بل الّذي يستند إليه التعريف هو تعين المصداق والامتياز في مرحلة الانطباق بحيث يكون مصداق المعنى معينا في فرد خاص. فمثل : « رجل في : « جئني برجل ، لا يكون معرفة لعدم التعين المقصود منه ، وتردده بين افراد بلا تعين لأحدها في الصدق. وهكذا اسم الجنس فانه وان كانت افراده ممتازة عن غيرها ، فأفراد الإنسان لها تعين ، لكن لا حدّ لها ، بل كل ما يفرض وجوده من الطبيعة يصدق عليه الإنسان. فلها تعين من جهة دون أخرى. فسبب التعريف تعين المصداق والمنطبق خارجا وتحدده. وليس المراد به التعين عند المتكلم ، وإلا لكان « رجل في : « رأيت رجلا » معرفة لتعينه عند المتكلم ، ولا عند السامع وإلاّ لكان : « زيد » في : « جاء زيد » نكرة إذا لم يعرفه السامع وكان مرددا بين اشخاص كل منهم مسمى بذلك. بل المراد التعين الواقعي وفي نفسه بحسب ما يدل عليه اللفظ ويوضع اللفظ له ، فمتعلق الرؤية وان كان متعينا واقعا ، لكن لا يستفاد المعين من اللفظ بنفسه ومجردا عن القرينة.

كما ان من أسباب التعريف التعين الذهني ، كالمعهود في المعرف باللام ، وأسماء الإشارة والضمائر ، فان تعريفها باعتبار تعين معناها ذهنا وان كان ينطبق على الكثير كما إذا كان المرجع للضمير هو الكلي.

وعليه ، فعلم الجنس يصير معرفة إذا كان موضوعا للطبيعة بقيد التعيين الذهني.

اما إيراد الكفاية على ذلك : بأنه يستلزم عدم الصدق على الخارجيات ، لصيرورة المعنى أمرا ذهنيا فلا يصدق على الخارج إلاّ بالتجريد ، وهو مسامحة لا تلحظ في الاستعمال وجدانا ، كما انه خلاف الحكمة (1).

فيندفع :

ص: 412


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /244- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أولا : بالنقض في مثل الضمائر وأسماء الإشارة ، فانها لا تستعمل إلاّ في مورد التعين الذهني ، فمدلولها هو المعنى المتعلق للإشارة الذهنية ، والمتعين بالتعيين الذهني ، مع انه ينطبق على الخارج فأقول : « جاء زيد وهو راكب » ، فان الركوب وصف لزيد الخارجي لا الذهني.

وثانيا : بالحل في الجميع ، وقبل بيانه نشير إلى شيء وهو : ما يقال بان العلم لا يتعلق بالخارج وانما يتعلق بالصورة الذهنية ، ويعبّر عن الخارج بالمعلوم بالعرض لا المعلوم بالذات ، وهذا أمر دقي فلسفي ، وإلاّ فالعرف يرى ان المعلوم رأسا هو الخارج.

وعلى كل ، فالخارج يكون له ربط بالعلم واقعا ، وهو ربط المعلومية بالعرض - بالدّقة - وربط المعلومية بالذات - في العرف - ، ويدل على حدوث الربط بينه وبين العلم وصفه بالمعلومية دون غيره ، ولا يمنع تعلق العلم بالشيء من صدقه على الخارجيات كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك فنقول : الإشارة الذهنية وان كانت تتعلق بالأمر الذهني حقيقة ولكن للخارج والواقع نحو ارتباط بها ، ولذا يقال ان هذا المعنى - ويشار إلى الخارج - مشار إليه دون غيره ، مما يدل على حدوث إضافة وربط بينهما لا يوجد بين الإشارة وغيره من المعاني التي لم تتعلق بها الإشارة ، والّذي يلتزم به ان الموضوع له هو هذا المعنى الخارجي الّذي تعلقت الإشارة بصورته الذهنية وفي ظرف تعلق الإشارة بالصورة الذهنية له ، أو فقل : ان الموضوع له هو المشار إليه بالعرض لا بالذات ، والمشار إليه بالعرض يصدق على الخارجيات كالمعلوم بالعرض. وان شئت فعبر عما ذكرنا بان الموضوع له هو المعنى الّذي يكون طرف الإضافة إلى التعين الذهني على ان يكون القيد خارجا والتقيد داخلا ، فيؤخذ التعين الذهني في الموضوع له بنحو المعنى الحرفي.

والخلاصة : ان ما يلتزم به في الموضوع له اسم الإشارة والضمير هو الّذي

ص: 413

يلتزم به في علم الجنس فيندفع المحذور.

الثالث : المفرد المعرف باللام ، وقد ذكر صاحب الكفاية ان المشهور كونه على أقسام ، المعرف بلام الجنس أو الاستغراق أو العهد بأقسامه على نحو الاشتراك بينها لفظا أو معنى. ثم انه ذكر ان المدخول يستعمل فيما يستعمل فيه المجرد ، والخصوصية تستفاد من اللام أو من قرائن المقام بنحو تعدد الدال والمدلول ، وبعد ذلك قال : « والمعروف ان اللام تكون موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني. وأنت خبير بأنه لا تعين في تعريف الجنس الا الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهنا ، ولازمه ان لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الافراد ... » (1).

ونتيجة كلامه هو : منع أخذ التعيين الذهني في مدلول المعرف باللام لاستلزامه عدم صدقه على الخارجيات إلاّ بالتجريد والمسامحة ، وهو خلاف الملموس في باب الاستعمالات وخلاف الحكمة. وهذان هما الوجهان اللذان أورد بهما على أخذ التعيين الذهني في مفهوم علم الجنس.

وقد عرفت التفصي عن هذا الإشكال بالالتزام بكون الموضوع له هو طرف الإضافة ، وأخذ القيد بنحو المعنى الحرفي بان يكون التقيد داخلا والقيد خارجا بالمعنى الّذي عرفته ، وهو لا يتنافى مع صدق المعنى على الخارجيات.

ثم انه أضاف هنا إشكالا ثالثا أشار إليه بقوله : « واستفادة الخصوصيات ... » ، ومراده ان خصوصيات اللام من الاستغراقية والجنسية وغيرهما تستفاد من القرائن ، ومعها لا تحتاج إلى تلك الإشارة الذهنية وتكون لغوا (2).

وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال بعد التزامه بصحة الاشتراك ، لأنه يتأتى في جميع موارد الاشتراك لعدم استفادة أحد المعاني بعينه إلا بالقرينة.

ص: 414


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /245- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /245- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فلاحظ تعرف.

ثم ان المحقق الأصفهانيّ قرب وضع اللام للتعيين بنحو آخر وهو : الالتزام بكونها موضوعة للدلالة على ان مدخولها واقع موقع المعروفية والتعيين ، فهي تدل على تحقق النسبة بين التعيين والمتعين ، كدلالة كلمة : « من » على وجود النسبة بين المبتدأ به والمبتدأ منه ، و: « في » على وجود النسبة بين الظرف والمظروف.

وبالجملة : الموضوع له أداة التعريف كالموضوع له في سائر الحروف هو الربط الخاصّ والنسبة الخاصة ، فلا تدل الا على وقوع مدخولها موقع التعيين ، لا ان مدخولها أخذ ملحوظا بما هو ملحوظ انتهى (1).

وقد يشكل : بان المتقرر - كما تقدم - هو كون الحروف موضوعة للربط الذهني بين المفاهيم لا غير ، وليست الإشارة الذهنية من المفاهيم ، بل هي كالإشارة الخارجية من سنخ الموجودات والأفعال فان فعل النّفس كالفعل الخارجي ليس مفهوما كما لا يخفى. فالالتزام بان اللام موضوعة للربط بينها وبين المشار إليه خروج عما هو المقرر ، وليس الربط بين مفهوم الإشارة ومفهوم المشار إليه كالربط بين مفهوم زيد ومفهوم الدّار في مثل : « زيد في الدار » ، بل الربط بين واقع الإشارة الذهنية لا مفهومها الموجود في الذهن ، بل نفس توجه الذهن إلى المعنى هو طرف الربط لا مفهوم التوجّه. فلاحظ.

ويندفع : بان الحرف وان كان موضوعا للربط الّذي يكون طرفه المفهوم ، لكن لا يلزم ان يكون كلا طرفي الربط مفهومين الا فيما قصد بالحرف الدلالة على الربط المضاف إلى كلا الطرفين. وما إذا كان مدلوله هو الربط المضاف إلى أحد طرفيه - بان لم تلحظ إضافته إلى الطرف الآخر في مقام الكشف وان كانت ثابتة واقعا - كان اللازم كون ذلك الطرف مفهوما.

ص: 415


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 354 - الطبعة الأولى.

وعليه ، فيمكن القول بان مدلول أداة التعريف هو الربط المضاف إلى متعلق الإشارة.

واما إضافته إلى الإشارة فلم تلحظ في مدلوله. وليس دلالة الحرف على الربط المضاف إلى أحد الطرفين دون لحاظ إضافته إلى الآخر امرا بعيدا ، بل له شواهد كثيرة ، منها : ما إذا سألت شخصا عن مكان زيد فأجاب : في الدار. فان مدلول : « في » هو الربط الملحوظ إضافته إلى أحد الطرفين دون الآخر ، وان كان الربط واقعا متقوما بكلا الطرفين.

ثم ان صاحب الكفاية رحمه اللّه أشار إلى الجمع المعرف باللام بمناسبة البحث في دلالة اللام على التعيين ، حيث جعل من شواهد دلالة اللام على التعيين دلالة الجمع المعرف على الاستغراق (1).

وتحقيق الكلام : هو انه لا إشكال في دلالة الجمع المعرف على العموم ، انما الإشكال في منشائه وهو يدور بين ثلاثة محتملات.

الأول : ان اللام تدل على التعيين ولا تعين الا للمرتبة الأخيرة فيلازم العموم.

الثاني : ان اللام بنفسها موضوعة للعموم بنحو المعنى الحرفي.

الثالث : ان المجموع موضوع للعموم.

وقد ناقش صاحب الكفاية في الأول : بان لا تعين للمرتبة الأخيرة بل أقل المراتب أيضا متعينة (2).

وأشكل عليه : بان أقل المراتب وان تعينت من جهة العدد وهو الثلاثة ، لكن لا تعين له من حيث الانطباق لصلاحيتها للانطباق على كل ثلاثة من الطبيعة ، بخلاف أكثر المراتب فانها متعينة من حيث الصدق لا تردد فيها (3).

ص: 416


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /245- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /245- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 445 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.

وقد أورد على الوجه الثالث : بان وضع الهيئة لذلك يستلزم ان يكون استعمال الجمع المعرف باللام في موارد العهد الذكرى أو الخارجي استعمالا مجازيا (1).

وهذا الوجه غير واضح المستند ، فما هو منشأ الملازمة بين الأمرين؟.

نعم يرد على الوجه الثالث : بان المجموع إذا كان موضوعا للعموم لزم تجريد المدخول عن معناه عند الاستعمال ، وذلك لأن المدخول بهيئته وهو : « علماء » - مثلا - معناه عدة من العالم أو المتعدد منه أو جماعة منه ، غاية الأمر انه يفيد ذلك بنحو المعنى الحرفي ، ومعناه الاسمي ما عرفت ، وهو مردد بين افراد ، إذ كل عدّة من العلماء يصدق عليهم : « علماء ». فإذا فرض وضع المجموع لعدة خاصة وهي الشاملة لجميع العلماء ، فعند الاستعمال لا بد من تجريد هيئة المدخول عن معناها ، إذ بقاؤها على معناها لغو ، لأدائه باستعمال المجموع ، فان معناه العدّة بإضافة خصوصية.

هذا لو فرض وضع المجموع للخاص ، اما لو وضع للخصوصية فقط ، فيؤدّي العموم من مجموع الكلام وهيئة المدخول ، فالهيئة تدل على العدّة والمجموع يدل على خصوصية للعدة ، استلزم ذلك محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، لاستعمال الهيئة مستقلا وضمنا في آن واحد في معنيين ، فيلزم لحاظها بلحاظين.

ولا يدفع هذا الإيراد سوى دعوى عدم الوضع للخصوصية فقط ، بل للخاص بما هو خاص ودعوى تحقق التجريد وانه ليس خلاف الظاهر من الكلام.

وعليه ، فتكون جميع هذه المحتملات قابلة للثبوت إثباتا ، ولا نستطيع

ص: 417


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 445 هامش رقم (1) الطبعة الأولى.

الجزم بأحدها ، وليس ذلك بمهم بعد عدم الإشكال في أصل دلالة الجمع المعرف على العموم. فتدبر.

الرابع : النكرة ك- : « رجل في : « رأيت رجلا » ، أو : « جئني برجل.

وقد ادعي وضعها للفرد على البدل بتعبير. وللفرد المردد بتعبير آخر.

ولكن صاحب الكفاية ذهب إلى غير ذلك باعتبار انه يرى انه لا وجود. للفرد المردد أصلا ، بل كل فرد في الخارج هو هو لا هو أو غيره ، مع ان النكرة تصدق على الخارج. فذهب إلى ان المفهوم منها في مورد الخبر هو الفرد المعين في الواقع المجهول عند السامع. وفي مورد الإنشاء هو الطبيعة المقيدة بالوحدة ، فتكون كليا صالحا للانطباق على كثيرين ، فالنكرة اما فرد معين في الواقع أو حصة كلية (1).

أقول : البحث في وجود الفرد المردد وقابليته لتعلق الأحكام والصفات وعدم ذلك امر ذو أثر عملي يظهر في موارد :

منها : بيع الصاع من الصبرة ، ويعبّر عنه بالكلي في المعين ، فانه يقع البحث في حقيقة الكلي في المعين وانه هو الفرد المردد أو غيره.

ومنها : مورد العلم الإجمالي ، فانه يبحث عن ان متعلقه الفرد المردد ، أو انه عبارة عن علم تفصيلي بالجامع وشكين في الطرفين.

ومنها : الواجب التخييري ، فانه يبحث عن تعلقه بالفرد المردد.

والبحث المفصل فيه يقع في أبحاث العلم الإجمالي ، ولأجل ذلك نوكله إلى هناك ، ولا أثر عملي منهم على تحقيقه هنا ، ومعرفة حقيقة الموضوع له النكرة - من كونه الفرد المردد أو ما يذكره صاحب الكفاية أو غيره - بعد الاتفاق على قابليتها للصدق على كثيرين بنحو البدلية. فتدبر.

ص: 418


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /246- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبعد هذا يقع الكلام فيما ذكره المحقق النائيني في مقدمة الدخول في بحث المطلق والمقيد ، فانه ذكر أمورا لا بأس بالإشارة إليها ، وإلى ما فيها من كلام ، وهي :

الأمر الأول : ما ذكره في المقدمة الأولى ، من ان محل الكلام في المقام هو : الإطلاق المتصف به المعاني الإفرادية الموجب للتوسعة دائما ، اما الإطلاق المتصف به الجمل التركيبية - أعني به ما يوجبه طبع نفس القضية الموجب للتوسعة مرة وللتضييق أخرى - فلم يقع التكلم عنه في المقام لعدم ضابط كلي له يتكلم عنه في خصوص مورد ، بل التكلم انما وقع فيه باعتبار أنواعه في الموارد المناسبة له ، كمباحث الأوامر حيث يتكلم فيها عن اقتضاء إطلاق القضية للوجوب التعييني العيني النفسيّ ، وكمباحث المفاهيم التي يتكلم فيها عن اقتضاء إطلاق القضية الشرطية للمفهوم (1).

هذا كلامه قدس سره نقلناه بنصّه.

ويتوجه عليه :

أولا : انه لم يثبت للجملة التركيبية معنى ثالث غير معانيها الإفرادية ، كي يتمسك بإطلاقه ، فلا موضوع لكلامه.

وثانيا : ان ما ذكره من المثال ليس مثالا للتمسك بإطلاق الجملة ، بل هو من موارد التمسك بإطلاق المعاني الإفرادية ، فان الّذي يتمسك به في صيغة الأمر هو مدلول الهيئة - كما قد يظهر من بعض كلمات الكفاية (2) - أو المادة كما حققناه أو المادة المنتسبة - كما حققه قدس سره (3) - والجميع من المعاني الإفرادية وليس من معاني الجمل. وهكذا الّذي يتمسك به في مورد الشرط ، فانه اما أداة

ص: 419


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 516 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /108- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 169 - الطبعة الأولى.

الشرط أو نفس الشرط ، وكل منهما معنى افراده تجري فيه مقدمات الحكمة كما تجري في سائر موارد الإطلاق بلا فرق ، فالحديث فيها واحد لا يتعدد.

ثم ان التعبير بما يوجبه « طبع » نفس القضية لا يخلو عن تكلف ، فليس للقضية طبع يقتضي شيئا ، فتدبر.

الأمر الثاني : ما ذكره من اختلاف نتيجة الإطلاق من حيث البدلية والاستيعاب ، ببيان : ان المطلق تارة يكون مفاد اسم الجنس ، وهو الطبيعة غير المقيدة بشيء. وأخرى بكون مفاد النكرة ، وهي الطبيعة المقيدة بالوحدة المعبر عنها بالحصة. وكل منهما اما ان يقع في سياق النفي أو الإثبات. فعلى الأول كانا دالين على العموم والاستيعاب. وعلى الثاني يكون الحكم استيعابيا ، إلاّ إذا كان هناك ما يقتضي البدلية من طرف المادة كما في النكرة ، أو الهيئة كما في أسماء الأجناس المتعلقة للأمر ، لأن الأمر يتعلق بصرف الوجود ، وهو يتحقق بأول الوجودات لا بعينه (1).

أقول : هذا تعرض لأمر في غير محله. وقد تعرض له صاحب الكفاية بعد بيانه لمقدمات الحكمة ، وهو كما ينبغي بحسب فن التحرير وسيأتي هناك ما ينقح به أصل المطلب ، وان البيان الصحيح لاستفادة البدلية في متعلق الأمر غير ما ذكره. فانتظر.

الأمر الثالث : ما ذكره في مقام الفرق بين العام الأصولي والمطلق ، بان الشمول في العام بالدلالة اللفظية ، بخلافه في المطلق فانه بحكم العقل ، ولأجله يتقدم العام على المطلق الشمولي ، كما انه يتقدم المطلق الشمولي على البدلي (2).

أقول : وقع هذا الأمر - أعني تقديم العام على المطلق ، وتقدم المطلق

ص: 420


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 518 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 519 - الطبعة الأولى.

الشمولي على البدلي - محلا للكلام ، ويتعرض له مسهبا في مبحث التعادل والترجيح ، كما يشار إليه في مبحث دوران الأمر بين تقييد المادة وتقييد الهيئة ، وقد استشكل في تقديم المطلق الشمولي على البدلي ، لكن تقدم منا تصحيح ما أفاده المحقق النائيني فراجع تعرف.

الأمر الرابع : ما ذكره في تحقيق ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، ببيان : ان الوجود والعدم تارة يلحظان بالإضافة إلى نفس الطبيعة والماهية ، فيكونان متناقضين فلا يمكن اجتماعهما كما لا يمكن ارتفاعهما. وأخرى يلحظ العدم بالإضافة إلى ما يقبل الاتصاف بالوجود فيكون الملحوظ هو العدم الخاصّ وهو العدم الناعتي ، ففي مثل ذلك يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فعدم الملكة هو العدم فيما يقبل الاتصاف بالوجود ، كالتقابل بين البصر والعمى فان العمى هو عدم البصر في مورد يقبل الاتصاف بالبصر ، ولذا لا يقال للجدار انه أعمى ، والمتقابلان تقابل العدم والملكة يرتفعان عن المورد غير القابل للاتصاف.

وعليه ، فنقول : ان الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في مورد يقبل التقييد فيكونان من موارد العدم والملكة ، والوجه في ذلك هو ان الإطلاق عبارة عن تسرية الحكم لمورد القيد وغيره ، في قبال التقييد الّذي هو عبارة عن اختصاص الحكم بمورد القيد ، فلا بد من كون المطلق مقسما للمقيد وغيره ، وإذا لم يكن مقسما لها امتنع الإطلاق ، إذ لا معنى لتسرية الحكم لمورد القيد وغيره بعد ان لم يكن مورد القيد من اقسامه ، وعليه ففي كل مورد يمتنع فيه التقييد يمتنع فيه الإطلاق ، ولذا لا يصح الالتزام بإطلاق متعلق الوجوب في إثبات انه توصلي لامتناع تقييده بقصد القربة.

ثم ردّ على الشيخ في التزامه بالإطلاق في هذا المورد بعد التزامه بامتناع التقييد ، وفي التزامه بالإطلاق في إثبات عموم الحكم للعالم به والجاهل لامتناع

ص: 421

تقييده بالعلم به ، والتزامه به في إثبات عموم الوجوب الغيري لمطلق المقدمة وعدم اختصاصه بالموصلة لامتناع تقييده بالإيصال.

فانه التزام بالإطلاق في مورد يمتنع فيه التقييد. وقد عرفت امتناع الإطلاق مع امتناع التقييد (1).

أقول : هذا التحقيق منه قدس سره لا يخلو عن إشكال ، وذلك : لأن المراد من كون المطلق هو المقسم للمقيد وغيره اما ان يكون ما هو ظاهر عبارته من انه اللابشرط المقسمي ، وان معنى المطلق هو اللابشرط المقسمي فيتوجه عليه :

أولا : ان كون موضوع الحكم هو اللابشرط المقسمي التزام بكون موضوع الحكم امرا مهملا ، لإهمال اللابشرط المقسمي وتردده - كما عرفت - بين أنواع ثلاثة ، وقد صرح قدس سره مرارا بامتناع الإهمال في مقام الثبوت ، فلا بد من كون الموضوع معينا ويمتنع كونه مهملا (2).

وثانيا : ان اللابشرط المقسمي يجتمع مع التقييد الّذي هو البشرطشيء ، لأنه الجامع بينه وبين اللابشرط القسمي والبشرطلا ، فكيف يجعل مقابلا للبشرط شيء بنحو العدم والملكة. فهذا الاحتمال باطل جدا وبوضوح.

واما ان يريد به اللابشرط القسمي ، وهو يتوقف على كون الذات قابلة في نفسها للتقييد ، فان عدم التقييد في المورد غير القابل للتقييد لا يكون لا بشرط قسمي ، إذ معنى كونه قسما ثبوت قسم آخر وهو التقييد وهو ممتنع على الفرض ، فمع امتناع التقييد يمتنع الإطلاق بمعنى اللابشرط القسمي.

أو فقل : انه مع امتناع الحكم على الحصة المقيدة يمتنع الحكم على غير

ص: 422


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 520 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 565 - الطبعة الأولى.

المقيد ، لفرض وجود الجامع في ضمنه ، فالحكم عليه حكم على الجامع ، والمفروض امتناع الحكم على الجامع.

وهذا الوجه ليس بطلانه من الوضوح كالوجه السابق ، لكنه غير صحيح أيضا ، وذلك لأنه يرد على البيان الثاني : ان امتناع الحكم على بعض حصص الجامع لا ينافي ثبوته لغيره من حصصه ، فمثلا لو امتنع الحكم على عمرو وامتنع كونه فردا فعلا للإنسان لزم امتناع الحكم على زيد وغيره ، لوجود الطبيعي في ضمنه ، ولا يلتزم بذلك أحد. وعليه فامتناع الحكم على البشرطشيء القسمي ، وهو المقيد ، لا يلازم امتناع الحكم على اللابشرط القسمي.

وعلى البيان الأول : ان المأخوذ في الجامع والمقسم وتعدد الأقسام ليس الانطباق الفعلي كي يكون امتناع أحد الافراد موجبا لانتفاء فردية الأخرى وكونها قسما من الجامع ، بل الملحوظ هو الانطباق الشأني وقابلية الصدق ، وهي متحققة ولو امتنع الحكم فعلا على الفرد المعين.

والنتيجة : ان ما أفاده في تقريب بيان كون التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة لا يمكن الالتزام به.

والتحقيق : ما ذكرناه سابقا في مبحث التعبدي والتوصلي من : ان امتناع التقييد تارة يلازم امتناع الإطلاق ، وهو ما إذا امتنع الحكم على الخاصّ. وأخرى يلازم ضرورة الإطلاق ، وهو ما إذا كان الممتنع تخصيص الحكم بالفرد الخاصّ. فالتقابل تارة يكون من تقابل العدم والملكة. وأخرى من تقابل السلب والإيجاب فراجع ما تقدم تعرف حقيقة المطلب.

الأمر الخامس : ما ذكره من خروج الاعلام الشخصية عن محل الكلام - وهو ان الإطلاق بالوضع أو بمقدمات الحكمة - ، لعدم الإطلاق فيها الا من جهة الحالات ولا يحتمل الوضع فيها من هذه الجهة ، وخروج الهيئات التركيبية

ص: 423

أيضا بناء على عدم ثبوت الوضع المستقل لها ، وإلاّ كانت داخلة في البحث كأسماء الأجناس (1).

أقول : ما ذكره من وقوع البحث في الهيئة التركيبية بناء على ثبوت الوضع المستقل لها غير وجيه ، وذلك لأن البحث في ثبوت الإطلاق وعدمه انما هو بلحاظ الأثر الشرعي المترتب ، سواء كان الإطلاق في موضوع الحكم أم في متعلقه ، اما مع عدم الأثر الشرعي فإثبات الإطلاق والبحث فيه بلا محصل. وعليه فنقول : انه بناء على كون الهيئة التركيبية موضوعة لمجموع المعنى المستفاد من المفاهيم الإفرادية من هيئة أو مادة ، فلا أثر يترتب على إطلاق الهيئة التركيبية ، وذلك لأن الأثر انما يترتب بلحاظ مقام تعلق الحكم ، سواء كان الشيء متعلقا أو موضوعا ، ومن الواضح ان المفهوم التركيبي لا يكون في حال من الحالات موضوعا للحكم أو متعلقا له ، فمثلا المفهوم التركيبي لقول الآمر : « صلّ » ، نتيجة هو وجوب الصلاة ، ووجوب الصلاة بنحو المجموع لا يكون موردا للحكم ، كيف؟ وهو نتيجة تعلق الحكم بشيء وينتزع عن ثبوت الحكم فالبحث في إطلاقه لا محصل له ، نعم نفس الوجوب يصح فيه البحث عن الإطلاق ، وهكذا نفس الصلاة ، ولكن كل منهما مفهوم افرادي.

وخلاصة الحديث : ان ما ذكره في هذه المقدمات غير متين في أغلبه. فلاحظ.

ثم ان صاحب الكفاية قدس سره بعد ما أنهى الكلام عن الألفاظ المطلقة تعرض إلى أمر وهو : الّذي أفاده بقوله : « إذا عرفت ذلك ... » (2). وما ذكره لا يخلو عن غموض وخلط ، ولتوضيحه لا بد من التكلم في جهتين :

ص: 424


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 521 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /246- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الجهة الأولى : انه قد عرفت وقوع البحث في الموضوع له اسم الجنس ، وانه هل هو الطبيعة المهملة ، أو انه الطبيعة المقيدة بالإرسال بنحو البشرطشيء أو اللابشرط القسمي؟ وقد عرفت ان الإنصاف يقتضي وضعها لذات الماهية الموجودة في جميع التعينات والاعتبارات ، لشهادة الوجدان والارتكاز العرفي.

وقد أضاف المحقق النائيني إلى ذلك وجها آخر وهو : ان الحكمة تقضي بالوضع للماهية المهملة ، لأن حكمة الوضع هي التفهيم والتفهم ، وبما ان الماهية المهملة كثيرا ما تقع مورد التفهيم فلا بد ان يكون قد وضع لها ما يدل عليها ، وليس لدينا لفظ سوى اسم الجنس (1).

وهذا وجه خطابي لا بأس به والعمدة ما ذكرناه.

ويترتب على البحث في هذه الجهة ثمرتان :

الأولى : انه بناء على الوضع للماهية المهملة لا يكون التقييد مستلزما للتجوز إذا كان بنحو تعدد الدّال والمدلول ، وذلك لاستعمال اسم الجنس في معناه الموضوع له ، والخصوصية استفيدت من القيد. واما بناء على الوضع للماهية بقيد الإرسال ، فيكون التقييد مستلزما للتجوز لمنافاة القيد مع الإرسال ، فلا بد من استعمال اسم الجنس في غير معناه الموضوع له.

الثانية : انه بناء على الوضع للطبيعة المرسلة ، لو ورد اسم الجنس في الكلام وشك في إرادة الإطلاق منه كان المحكم أصالة الحقيقة ، فيستفاد إرادة العموم من اللفظ نفسه لوضعه له ، فالأصل الأولي هو العموم. واما بناء على الوضع للطبيعة المهملة ، فلا مجال لأصالة الحقيقة لإفادة الإطلاق ، بل يستفاد العموم بواسطة قرينة خارجية خاصة أو عامة كمقدمات الحكمة. وهذا أثر مهم جدا في مقام الاستنباط.

ص: 425


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 527 - الطبعة الأولى.

الجهة الثانية : ان لفظ : « المطلق » هل يصح إطلاقه على اسم الجنس بالمعنى الّذي ذكرناه أو لا؟. وقد ذكر صاحب الكفاية ان المعنى اللغوي لا يأبى مع إطلاقه على اسم الجنس ، ولم يثبت للقوم اصطلاح جديد فيه ، نعم لو تم ما نسب إلى المشهور من انه موضوع لما قيد بالإرسال والشمول البدلي لم ينطبق على اسم الجنس بالمعنى المذكور. ولا يخفى ان هذا البحث لغوي واصطلاحي صرف لا أثر له عملا أصلا ، وانما المهم البحث الأول.

إذا عرفت ذلك ، فقد ذكر صاحب الكفاية ان لفظ المطلق لو كان موضوعا للطبيعة المقيدة بالإرسال والشمول البدلي كان تقييد اسم الجنس موجبا للتجوز في الاستعمال.

وواضح ان ما ذكره خلط بين مقامين ، مقام المفهوم ومقام المصداق ، إذ التجوز يرتبط بتعيين الموضوع له في اسم الجنس كما عرفت ، ولا يرتبط بمفهوم المطلق والمراد من لفظ المطلق. فأيّ شيء كان الموضوع له لفظ المطلق لا علاقة له بحصول التجوز في اسم الجنس ، بل ما يرتبط بالمجاز هو تعيين الموضوع له في اسم الجنس ، لأنه هو الّذي يطرأ عليه التقييد ، فالتفت ولا تغفل وهذا المعنى لم نعهد أحدا تنبه إليه قبل الحين. فاحفظه.

ص: 426

مقدمات الحكمة

ثم انه إذا تبين ان اسم الجنس ونحوه موضوع للطبيعة المهملة ، فلا بد من استفادة إرادة الإطلاق منها من قرينة خاصة أو عامة تفيد ان الموضوع هو مطلق الافراد.

والبحث يقع هاهنا في القرينة العامّة ، فقد ادعي ثبوتها بنحو عام إذا تمت بعض المقدمات ، ويصطلح عليها بمقدمات الحكمة.

وهي - بحسب ما ذكره صاحب الكفاية - ثلاثة :

الأولى : كون المتكلم في مقام البيان.

الثانية : انتفاء ما يوجب التعيين.

الثالثة : عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ويراد به ما تكون نسبة الكلام إليه بنحو لو أريد غيره كان مستهجنا عرفا وبحسب المتفاهم العرفي ، كالمورد الّذي يقع محط السؤال ، فان إرادة غيره من الجواب المطلق مستهجن عرفا. وليس كذلك الحال في القدر المتيقن من الخارج ، فانه لا يرتبط بالكلام ، بل هو قدر متيقن ثبوتا ، فلا تكون إرادة غيره من الكلام امرا مستهجنا عرفا بالنظر إلى الأساليب الكلامية.

فإذا تمت هذه المقدمات الثلاثة ثبتت إرادة الإطلاق ، وذلك لأنه لو أراد المقيد لبيَّن ، لأنه في مقام البيان والمفروض انه لم يبين ، فإرادته المقيد مع عدم البيان خلف الفرض ونقض للغرض ، وهو امر لا يتحقق من الحكيم.

اما إذا انتفت إحدى هذه المقدمات لم يثبت الإطلاق.

فلو لم يكن في مقام البيان أصلا ، بل صدر منه الكلام لا بقصد التفهيم ، أو كان مقام البيان من غير الجهة المشكوكة الدخل في الحكم ولم يكن في مقام

ص: 427

البيان من تلك الجهة ، لم تكن إرادته المقيد مع عدم البيان خلف ، لأنه ليس في مقام بيانه مراده.

ولو كان في مقام البيان وكان هناك ما يوجب التعيين ، فعدم ثبوت الإطلاق واضح.

ولو كان في البين قدر متيقن في مقام التخاطب - وان كان في مقام البيان ولم يكن هناك ما يوجب التعيين - فلا يثبت الإطلاق ، وذلك لأنه لو كان مراده هو القدر المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه نقضا للغرض وخلفا ، لاستفادته من الكلام ، فمثلا إذا كان القدر المتيقن من قوله : « أكرم العالم » هو الفقيه ، كان وجوب إكرام الفقيه مستفادا من مقام المحاورة ، فلو كان هو تمام مرامه لم يكن مخلا ببيانه ، ولا يكون عدم التنصيص عليه منافيا لكونه في مقام بيان تمام مرامه.

ثم انه ذكر انه إذا كان بصدد بيان انه التمام كان مخلا ، وتوضيحه : ان المتكلم تارة : يكون في مقام بيان ذات المراد وواقعه ، ولو لم يعلم المخاطب انه تمام المراد ، وبعبارة أخرى : ما كان بالحمل الشائع تمام المراد. وأخرى : يكون في مقام بيان تمام المراد بما هو كذلك ، يعني مع بيان انه تمام المراد وإعلام المخاطب بذلك ، بعبارة أخرى : ما هو بالحمل الأولي تمام المراد.

فعلى الثاني : لا ينفع وجود القدر المتيقن في نفي الإطلاق ، إذ غاية ما يقتضيه التيقن هو اليقين بإرادة هذا المتيقن ، واما انه تمام المراد أو لا فلا يعرف بالقدر المتيقن ، بل يبقى ذلك مجهولا لدى المخاطب ، فلا يعلم إلاّ ان المتيقن مراد اما غيره فلا يحرز عدم إرادته ، فيمكن التمسك بالإطلاق وعدم التقييد ان المطلق هو المراد.

وعلى الأول : كان وجود القدر المتيقن مخلا بالإطلاق ، لأن تمام المراد لو كان هو المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه خلف الفرض ، لفرض فهمه في مقام الكلام ، كما ان جهل المخاطب بعدم كونه التمام لا يضر بعد ان لم يكن على المولى

ص: 428

رفع الجهل من هذه الناحية ، إذ ليس عليه الا بيان تمام المراد بواقعه لا بوصف التمامية.

وبما ان المتكلم في مقام بيان واقع تمام المراد لا وصف التمامية كان وجود القدر المتيقن مخلا بالتمسك بالإطلاق. فلاحظ.

هذا تمام مطلب الكفاية بتوضيح منا (1).

وقد استشكل في ما أفاده من مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب للإطلاق. وبالنقض بالقدر المتيقن من الخارج ، وانه إذا التزم بمانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب فلا بد من الالتزام بمانعية القدر المتيقن من الخارج ، وبأنه يستلزم عدم صحة التمسك بالمطلقات الواردة بعد السؤال عن حكم مورد خاص. وكلاهما لا يلتزم به صاحب الكفاية (2).

أقول : الإنصاف ان النقض عليه بالقدر المتيقن من الخارج غير وارد ، إذ لا يتأتى البيان المذكور في وجه مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب فيه ، إذ لا دلالة للكلام عليه بوجه من الوجوه ولا يفهم منه أصلا ، فإرادته من الكلام من دون التنصيص عليه خلف فرض كونه في مقام البيان.

ثم ان النقض به لا يرفع الإشكال بل يوسّع دائرته ، كما ان عدم التزام صاحب الكفاية بما أفاده في بعض الموارد لا ينفع في نفي المطلب إذا تم من الناحية البرهانية الصناعية ، فالمهم هو تحقيق انه تام في نفسه أو غير تام.

والحق انه غير وجيه لوجهين :

الوجه الأول : انه على تقدير تماميته ، فهو انما يتم في المطلق الشمولي لا البدلي ، وذلك لأن إرادة بعض الافراد في المطلق الشمولي لا يختلف الحال فيها

ص: 429


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /247- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 530 - الطبعة الأولى.

عملا بين إرادتها بالخصوص أو في ضمن المجموع ، إذ يجب إكرام كل فرد ولا يرتبط امتثال أحدها بامتثال الأخرى ، وهذا بخلاف المطلق البدلي ، فانه يختلف الحال عملا بين تعلق إرادته بالبعض وتعلقها بالمجموع ، إذ تعلقها مثلا بإكرام خصوص الفقيه - وهو القدر المتيقن فرضا - يلازم عدم صحة الامتثال بإكرام غيره ، بخلاف تعلقها بإكرام مطلق العالم فانه يصح معه الامتثال بإكرام غير الفقيه.

ومرجع هذا إلى التردد في ان الملحوظ في متعلق الحكم هو خصوصية الفقيه ، أو مطلق العالم ، فيتردد الأمر في مراده بين الخصوصيّتين.

وبالجملة : فيختلف الحال في الحكم البدلي بين إرادة المقيد والمطلق عملا وواقعا ، ووجود القدر المتيقن لا ينفع في إثبات الخصوص ، فلا يكتفي به في مقام البيان فيثبت الإطلاق بذلك.

ومن هنا نستطيع ان نقول : بعد مانعية القدر المتيقن في مورد الإطلاق الشمولي ، بعد فرض ان الحال في سائر المطلقات بنحو واحد ، بضميمة ان الشمولية والبدلية تستفاد ان من قرينة خارجية ، ومقدمات الحكمة تجري في مرحلة سابقة عن نحو تعلق الحكم ، وفي موضوع الشمول والبدلية - كما سيصرح به صاحب الكفاية فيما بعد - ، فإذا صح التمسك بالإطلاق في موارد الإطلاق البدلي مع وجود القدر المتيقن صح التمسك به في موارد الإطلاق الشمولي.

الوجه الثاني : ان ما أفاده غير تام في نفسه ، وذلك لأن ثبوت الحكم للقدر المتيقن يختلف بحسب الواقع بين ان يكون ثبوته له بخصوصه وبين ان يكون ثبوته له في ضمن المطلق ، إذ ثبوته له بخصوصه يقتضي دخالة عنوانه في ثبوته ، واما إذا كان ثابتا له في ضمن المطلق فلا يكون عنوانه دخيلا في ثبوته ، بل ثبوته له بما انه من افراد المطلق ، وهذه جهة واقعية وان لم يترتب عليها أثر عملي في

ص: 430

الإطلاق الاستغراقي.

وعليه ، فيتردد في ان موضوع الحكم هل هو الفقيه - مثلا - أو العالم؟ ، ووجود القدر المتيقن لا يرفع الشك من هذه الجهة ، بل غاية ما ينفع فيه هو ثبوت الحكم للفقيه ، اما انه بعنوانه أو بعنوان العالم ، فلا دلالة له على شيء منه ، فإذا لم يرد القيد يثبت ان موضوع الحكم هو المطلق لا المقيد.

ونتيجة ما ذكرناه هو : ان أخذ عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب في عداد مقدمات الحكمة لا وجه له ، لعدم إخلاله بثبوت الإطلاق.

وقد التزم المحقق النائيني قدس سره بثلاثية المقدمات أيضا ، لكنه أنكر كون عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من المقدمات ، والتزم بان أولى المقدمات لزوم كون اللفظ بمعناه مقسما للمقيد وغيره ، وإلاّ فمع عدم كونه كذلك لن يصح التمسك بعدم البيان في نفي التقييد (1).

والّذي نراه ان إدراج هذه المقدمة في مقدمات الحكمة غير متجه ، كإدراج عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب.

وذلك لأن المراد من كون المعنى مقسما ...

ان كان هو اللابشرط المقسمي ، وهو الطبيعة الملحوظة بالنظر إلى ما هو خارج عن ذاتها وذاتياتها في قبال الماهية من حيث هي ، فاعتباره لا إشكال فيه لتوقف الإطلاق والتقييد على لحاظ الماهية بالإضافة إلى الخارج عن ماهيتها من القيود ، فمع امتناع ذلك يمتنع الإطلاق قهرا ، لكنه لا يتلاءم مع تشبيهه وتنظيره لذلك بمثل مورد عدم إمكان أخذ قصد القربة وعدم إمكان أخذ العلم بالحكم ، إذ لا يمتنع لحاظ الماهية بالإضافة إلى هذه القيود ، وانما الممتنع أخذها في متعلق الحكم وموضوعه ، وهو غير امتناع لحاظ الماهية مضافة إليها.

ص: 431


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 528 - الطبعة الأولى.

وان كان المراد اشتراط كون مجرى الإطلاق مقسما فعليا للمقيد وغيره ، بمعنى انه ينقسم فعلا إليهما ، ففي مورد يمتنع الانقسام الفعلي - كمورد أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بناء على امتناعه - يمتنع الإطلاق.

ان أراد هذا المعنى ، فهو مما لا دليل عليه أصلا ، وقد عرفت المناقشة فيه فيما تقدم من البحث عن نوع تقابل المطلق والمقيد.

ونتيجة مجموع ما ذكرناه : هو ان مقدمات الحكمة ثنائية لا ثلاثية ، كما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية والمحقق النائيني ، إذ عرفت المناقشة فيما أفاداه. فمقدمات الحكمة عبارة عن كون المتكلم في مقام البيان ، وانتفاء ما يوجب التعيين.

ثم انه قد يشكل استفادة الإطلاق من مقدمات الحكمة ، وذلك باعتبار ان اللفظ موضوع للطبيعة المهملة - كما هو الفرض - ، والإطلاق والتقييد خصوصيتان تردان عليها ، فكما يحتاج التقييد إلى بيان زائد على اللفظ ، كذلك يحتاج الإطلاق إلى البيان الزائد ، لكون نسبة اللفظ إليهما على حد سواء ، فلا وجه لدعوى ان عدم ذكر القيد يكشف عن إرادة الإطلاق وإلاّ لزم الخلف ، إذ هذا يمكن عكسه فيقال : عدم ذكر الإطلاق يكشف عن إرادة المقيد وإلاّ لزم الخلف.

ولا يندفع هذا الإشكال إلاّ بدعوى ثبوت بناء عقلائي عرفي على انه إذا كان في مقام البيان ولم يذكر القيد كان مراده الإطلاق ، وبدون ذلك لا يمكن الالتزام بان هذه المقدمات تنفع في إثبات إرادة الإطلاق. فتدبر.

كما انه بشكل أيضا ما قيل في هذا الباب من : ان الإطلاق بمقدمات الحكمة لا بالوضع ، هو ان كون المتكلم في مقام البيان - بمعنى عدم إحراز انه في مقام جهة أخرى - مما يحتاج إليه في مطلق الظهورات حتى الوضعيّة ، فانه لا يمكن الاستناد إلى كلام المتكلم في تشخيص مراده ما لم يحرز انه في مقام البيان ،

ص: 432

وإلاّ فلو كان نطقه باللفظ الموضوع لأجل تجربة صوته لا يمكننا ان نقول ان مراده هو معنى اللفظ. وهكذا الحال في عدم القرينة ، فان وجود القرينة المنافية لمقتضى الوضع توجب الإخلال بظهور اللفظ في معناه وصرفه إلى معنى آخر.

فاذن هاتان المقدمتان لا بد منهما في تشخيص المراد الوضعي من اللفظ الموضوع لمعناه ، ولا اختصاص لهما في باب المطلق بحيث لا يحتاج إليهما في غير مورده.

والتحقيق : هو تعين الالتزام بان استفادة الإطلاق ليس بمقدمات الحكمة ، بل من ظهور الكلام في كون الطبيعة تمام الموضوع.

بيان ذلك : ان اللفظ المأخوذ في موضوع الحكم موضوع للطبيعة بما هي - كما عرفت -. وظاهر أخذ الطبيعة في موضوع الحكم انها تمام الموضوع ، كما ان ظاهر أخذ : « زيد » في الموضوع في قوله : « أكرم زيدا » انه تمام الموضوع. وهكذا ظاهر قوله : « أكرم ابن عمرو » ان : « ابن عمرو » تمام الموضوع. وهذا الظهور تصطلح عليه الظهور السياقي وهو ثابت لا كلام فيه ، وإذا كان الطبيعة تمام الموضوع ثبت الحكم في كل مورد تثبت فيه وتوجد ، فثبوت الإطلاق واستفادته من جهة أخذ الطبيعة في الموضوع وظهور ذلك في كونها تمام الموضوع ، ومما يؤيد ان الإطلاق يستفاد مما ذكرناه هو الاصطلاح على ظهور المطلق بالظهور الإطلاقي ، فانه ظاهر في وجود ظهور للمطلق ، وهو انما يتلاءم مع ما ذكرناه ، إذ ليس مرجع مقدمات الحكمة إلى ظهور اللفظ في شيء.

وعليه ، فلا نقع في الإشكال السابق وهو : ان الإطلاق خصوصية زائدة كالتقييد ، فكيف يثبت بعدم التقييد؟. كي نضطر إلى التخلص عنه بدعوى بناء العقلاء على الإطلاق عند عدم التقييد.

إذ ما التزمنا به يرجع إلى التمسك بظهور وضعي وظهور سياقي.

كما لا نقع في إشكال آخر من جهة لزوم إحراز كون المتكلم في مقام

ص: 433

البيان من جميع الجهات ، وسيأتي الكلام فيه. فانتظر.

ثم انه وقع الكلام في ان مجرى مقدمات الحكمة هل هو المراد الاستعمالي أو المراد الجدي الواقعي؟. فهل تجري في تنقيح المراد الاستعمالي بمعنى ما قصد المتكلم تفهيمه للمخاطب وإحضاره من المعنى في ذهن السامع لا ما اراده من نفس اللفظ - فلا يرد حينئذ بأنه لا معنى لأن يكون المراد الاستعمالي هو المطلق لعدم استعمال اللفظ فيه قطعا ، بل هو مستعمل في معناه وهو الطبيعة -؟ أو تجري في تنقيح المراد الواقعي ، وبيان ان المراد جدا هو المطلق؟. الّذي ذهب إليه صاحب الكفاية هو الأول (1). خلافا للشيخ رحمه اللّه حيث ذهب إلى الثاني (2). وتبعه عليه المحقق النائيني (3).

ولا تخفي ثمرة هذا الخلاف العملية ، حيث تظهر في موارد البحث عن انقلاب النسبة ، إذ المقيد المنفصل لا يخل بظهور المطلق في الإطلاق على رأي صاحب الكفاية ، بل يزاحمه في مقام الحجية.

ولكنه يخل بإطلاق المطلق على رأي الشيخ ، لكشفه عن تقيد المراد الجدي وعدم إطلاقه.

وقد استشهد صاحب الكفاية على مدّعاه : بان ما ذهب إليه الشيخ يلازم عدم إمكان التمسك بالمطلقات إذا قيدت بقيد منفصل ، لأنه يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان في كلامه ، فتنهدم أولى المقدمات بورود المقيد المنفصل ، وهذا اللازم باطل إذ لا يلتزم به أحد ، فيكشف عن بطلان المبنى الّذي يبتني عليه (4).

ص: 434


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /247- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطابع الأنظار /218- الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 529 - الطبعة الأولى.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

واستشكل فيما ذكره قدس سره : بان غاية ما يكشف عنه المقيد هو عدم كونه في مقام البيان من جهة القيد وعدمه ، اما سائر جهات المطلق فلا يرتبط بها المقيد ولا ينظر إليها ، فيمكن التمسك بالإطلاق من سائر الجهات.

ولم يفرض كونه في مقام البيان بالنسبة إلى تمام مراده بنحو العموم المجموعي من جهة الخصوصيات ، بل بنحو العموم الاستغراقي ، فانكشاف عدم كونه في مقام البيان من جهة لا يلازم انكشاف عدم كونه في مقام البيان من سائر الجهات (1).

ويمكن ان يوجه كلام صاحب الكفاية : بان الإطلاق من سائر الجهات في فرض التقييد موضوعه الحصة الخاصة ، فهو في طول المقيد ، لا ان الإطلاق والقيد يرد ان على الطبيعة في عرض واحد ، فإذا ثبت الحكم للعالم العادل ، فإطلاق الموضوع من حيث السيادة وعدمها موضوعه العالم العادل لا ذات العالم ، إذ لا معنى للإطلاق من حيث السيادة الا في حدود وإطار العالم العادل ، إذ لا يثبت الحكم - مع فرض موضوعه العالم العادل - للعالم المطلق من جهة السيادة وعدمها ولو لم يكن عادلا.

وبعبارة أخرى : ان الإطلاق بلحاظ تمام الموضوع لا بلحاظ كل جزء جزء ، وتمام الموضوع في الفرض هو الحصة الخاصة وذات الطبيعة جزء الموضوع وهو ليس مجرى الإطلاق الا في موارد خاصة ، ولذا لا يجري الإطلاق بالنسبة إلى كل جزء من اجزاء الصلاة ، بل إلى مجموع الصلاة في موارد تعلق الحكم بها.

وعليه ، فإذا ورد المقيد الكاشف عن كون الموضوع هو الحصة اختل التمسك بالإطلاق من جميع الجهات ، لأن ما ينبغي ان يكون مجرى المقدمات وموضوع الإطلاق هو الحصة لأنها تمام الموضوع ، والمتكلم لم يكن في مقام البيان

ص: 435


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 355 - الطبعة الأولى.

من جهاتها وخصوصياتها ، إذ لم يكن في مقام ذاتها. وما كان في مقام بيانه - وهو الطبيعة - ليس مورد الإطلاق بعد ورود المقيد لأنه ليس موضوع الحكم.

وقد يتوهم : ان هذا البيان مستلزم لمنع التمسك بالإطلاق مع كون المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى ، وذلك لاحتمال ان يكون مراده الواقعي من الجهة التي ليس في مقام منها هو الحصة الخاصة فيكون الإطلاق من الجهة الأخرى في طولها ، ومع هذا الاحتمال يمتنع التمسك بالإطلاق ، لأنه لا يحرز انه في مقام بيان الموضوع هو الطبيعة كي يتمسك بإطلاقها ، لأنه في مقام بيانها. وهو ليس في مقام بيان الحصة ، فان المفروض انه مهمل من هذه الجهة.

وبالجملة : إذا فرضنا انكشاف ان كون المراد الواقعي هو المقيد مانع عن التمسك بالإطلاق من سائر الجهات لعدم كونه في مقام بيان المقيد ، فاحتمال ذلك - مع عدم كونه في مقام بيانه - يكفي في المنع عن التمسك بالإطلاق ، لأنه انما يصح التمسك بإطلاق الموضوع الواقعي إذا كان المتكلم في مقام بيانه ، وهو مشكوك على الفرض ، فمثلا : لو قال : « أكرم العالم » ولم يكن في مقام البيان من جهة العدالة والفسق ، لم يصح التمسك بإطلاق العالم بالنسبة إلى السيادة وعدمها ، لعدم إحراز انه تمام الموضوع ، لاحتمال انه العالم العادل وهو ليس في مقام بيانه.

مع ان هذا اللازم لا يقول به أحد ، فان التفكيك في مقام البيان بين الجهات يلتزم به الكل ولا يرون فيه إشكالا.

ويندفع هذا التوهم : بالفرق بين مقام الحدوث والبقاء ، فانه مع الالتفات حدوثا إلى ان المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى كما لو صرح بذلك ، فمرجع ذلك إلى تصريحه - مثلا - بأنه مقام البيان من هذه الجهة - كجهة السيادة - بالنسبة إلى الموضوع الواقعي على واقعه المردد بين المطلق من الجهة الأخرى والمقيد - كالمردد بين العادل ومطلق العالم - من دون تعرض لبيان ما هو الموضوع

ص: 436

الواقعي ، فلو انكشف انه المقيد لم يضر بالإطلاق ، لأنه كان في مقام بيانه من الجهة الأخرى ، وهذا بخلاف ما لم يكن حدوثا كذلك ، فلا ظهور يدل على انه في مقام بيان الموضوع الواقعي على واقعه ، إذ لم يكن الكلام حدوثا ظاهرا في الإجمال ، بل ظاهرا في الإطلاق من هذه الجهة أيضا ، فإذا ورد القيد كشف عن كون الموضوع هو الحصة ولم يكن في مقام البيان بالنسبة إليها ، بل في مقام الذات لا غير فيكشف عن عدم كونه في مقام البيان بالنسبة إلى الموضوع الواقعي ، وإلاّ لنبّه على ذلك بعد ان لم يكن للكلام ظهور فيه. فالتفت فانه لا يخلو عن دقة.

وعليه ، فإيراد الكفاية موجه بالبيان الّذي عرفته.

ولكن هذا لا يصحح كلام الكفاية واختيار صاحبها ، أعني كون مجرى المقدمات هو المراد الاستعمالي فانه غير سالم عن الإشكال.

بيان ذلك : ان الواقع في باب الإنشائيات يختلف عنه في باب الإخباريات ، فان وجود واقع وراء الاستعمال امر متصور في باب الاخبار يحكي عنه الخبر ، يطابقه أو لا يطابقه ، وليس كذلك الحال في باب الإنشاء ، فان الأمور الإنشائية لا واقع لها سوى مقام الإنشاء ، والأحكام منها ، اذن فما هو المراد من المراد الواقعي في باب الأحكام في قبال المراد الاستعمالي ، بناء على ان واقع الحكم ليس إلاّ الإنشاء ، وهو استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائي أو اعتباري؟. لا يقصد من ذلك إلاّ مقام الداعي للإنشاء ، فإذا أنشأ الطلب بداعي البعث حقيقة كان وجوبا حقيقة ، وان إنشاءه بداعي غير البعث لم يكن وجوبا حقيقة ، فاتفاق المراد الواقعي مع المراد الاستعمالي معناه صدور الإنشاء بداعي البعث جدا واختلافه معناه صدور الإنشاء بداعي غير البعث كالتهديد.

وعليه ، فنقول إذا فرض ان المراد الاستعمالي هو المطلق ، بان أنشئ الحكم على جميع الافراد ، ولكن كان المراد الجدي على طبق المقيد بان كان الواجب حقيقة بعض الافراد فما هو الأثر من تفهيم المطلق؟. الّذي ذكره صاحب

ص: 437

الكفاية ان إنشاء الحكم على الكل بداعي ان يكون قاعدة وقانونا (1).

وقد تقدم الإشكال فيه في مبحث العموم : بأنه ان أريد قاعدة وكاشفا عن حكم الخاصّ بعد التقييد بما انه عام ، فهو خارج عن طريقة المحاورة ، إذ لا معنى لإنشاء الحكم على الكل وإرادة البعض ، فهو نظير ان يقول : « أكرم عشرة » ثم يبين انه يريد إكرام خمسة ، وبالخصوص إذا كان معنى الإطلاق ثبوت الحكم للطبيعة من دون أي خصوصية ، فانه ينافي التصريح بدخول الخصوصية بعد ذلك منافاة توصل الكلام الأول إلى حد الاستهجان. وان أريد كونه كاشفا عن حكم الخاصّ بما انه بعض مدلوله ، فهو يبتني على حجية الدلالة التضمنية لو سقطت المطابقية عن الحجية ، كما انه ما الملزم للاستعمال في العموم؟ مع إمكان ان ينشئ الحكم على المقيد رأسا.

هذا مضافا إلى ما أورده المحقق الأصفهاني من : ان الإنشاء بداعي البعث جدا بالنسبة إلى الجميع ممتنع لفرض إرادة المقيد لا المطلق ، والإنشاء بداعي البعث بالنسبة إلى البعض ، وبداعي آخر بالنسبة إلى البعض الآخر يستلزم صدور الفعل الواحد وهو الإنشاء عن داعيين وهو محال (2).

وان كان ما ذكره قابل للرد. فتأمل.

نعم ينحل الإشكال على صاحب الكفاية بالالتزام بكون الإنشاء بداعي البعث جدا بالنسبة إلى الجميع فيثبت الحكم الحقيقي للجميع ، ولكنه يرتفع عن البعض بورود المقيد لانتهاء مصلحته.

ولكنه التزام بتعدد الحكم وبالنسخ وهو غير صحيح قطعا لبداهة وحدة الحكم وعدم تعدده.

ص: 438


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 337 - الطبعة الأولى.

ونتيجة مجموع ما ذكرناه ان كلا المذهبين لا يخلو ان من إشكال.

والّذي نراه ان منشأ إشكال صاحب الكفاية على المذهب الآخر والجواب غير الصحيح عنه الّذي عرفته ، هو الغفلة عن شيء ، وهو : ان المدعي لكون المتكلم في مقام بيان المراد الجدي وجريان المقدمات في ذلك المقام يرى ان من المقدمات عدم القرينة إلى زمان لا يقبح تأخيرها عنه ، لا عدم القرينة في حال الخطاب.

وعليه ، فلا يكون ورود القيد كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان واختلال الإطلاق المنعقد بدوا ، بل لا ينعقد الإطلاق أصلا قبل ورود القيد ، نعم ينعقد بعد مرور زمان يقبح تأخير البيان عنه. فإذا ورد القيد قبل مرور هذا الزمان كان موجبا للإخلال بالمقدمة الثانية ، أعني عدم ما يوجب التعيين ، ولا يكون مخلا بالمقدمة الأولى ، إذ لا تنافي بين تأخير البيان عن الخطاب وكونه في مقام البيان. فإذا كان المتكلم في مقام بيان مرامه بالتدريج لم ينعقد الإطلاق قبل مرور الزمان الّذي يفرضه لبيان مرامه ، ولم يكن ورود القيد في الأثناء منافيا لكونه في مقام البيان ، فورود القيد في أثناء هذا الزمان يوجب انعقاد الظهور الإطلاقي في المقيد والحصة الخاصة ، لأنه كان في مقام بيانها.

وبالجملة : القيد المنفصل على هذا المذهب كالقيد المتصل يوجب انعقاد الظهور في المقيد.

ومنشأ إشكال الكفاية هو : تخيل ان المفروض انه في مقام البيان في مقام الخطاب ، ورود القيد المنفصل يستلزم الكشف عن عدم كونه في مقام البيان ، فيلزم المحذور السابق ، فإشكال الكفاية متجه بناء على هذا التخيل لكنه تخيل غير صحيح.

ويتلخص من مجموع ما ذكرناه مسالك ثلاثة :

الأول : ما قربناه من ان استفادة الإطلاق بواسطة ظهور أخذ الطبيعة

ص: 439

المدلول عليها باللفظ في موضوع الحكم في كونها تمام الموضوع ، وهذا الظهور يكون حجة على المراد الواقعي بمقتضى أصالة الظهور.

الثاني : ان استفادة الإطلاق بواسطة مقدمات الحكمة الجارية في تشخيص المراد الاستعمالي ، ويكون الظهور الإطلاقي حجة على المراد الواقعي بمقتضى حجية الظهور.

الثالث : ان استفادة الإطلاق بواسطة جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الواقعي رأسا.

والجميع يشترك في أمر ، وهو ان الدليل المقيد يتقدم على المطلق إذا لم يمض وقت بيان المراد الواقعي.

لكنه لا يتصرف في أصل الظهور على الأولين ، بل ينفي حجيته. ويتصرف فيه على الأخير بحيث ينعقد الإطلاق في المقيد رأسا.

والوجه في تقدم المقيد على المطلق في الفرض المزبور : اما على الأخير فواضح كما تقدم تقريبه ، انه كالقيد المتصل واما على الأولين ، فالظهور وان كان حجة على الواقع لكنه في مقام لا يكون من شأن المتكلم بيان الواقع ببيان متعدد ، اما إذا كان من شأنه ذلك كما هو الحال بالنسبة إلى الشارع الأقدس ، فلا يكون الظاهر حجة على الواقع ما لم يمض زمان البيان ، إذ مع عدم مضيه يكون الكلام في معرض التقييد ، ولا يكون حجة مع كونه كذلك.

ومن هنا يقال : بأنه يلزم على هذا عدم انعقاد الإطلاق للكلام ، أو عدم حجيته قبل انتهاء زمان الأئمة علیهم السلام لأن كلامهم بمنزلة كلام واحد ، ومن الواضح ان المطلق الّذي يصدر من السابق منهم علیهم السلام في معرض التقييد ممن يلحقه منهم علیهم السلام ، فلا يمكن الكشف عن المراد الواقعي بالتمسك بإطلاق كلامهم علیهم السلام ما لم ينته زمان البيان منهم.

وتحقيق الحال : ان لدينا صورا ثلاث :

ص: 440

الأولى : ان يكون السائل للمعصوم علیه السلام ممن لا يرجو لقاءه أو لقاء أحد الرّواة عادة ، كما إذا كان من البلاد البعيدة ، فلا معنى لأن يقال في مثل هذا الفرض ان الإمام علیه السلام في مقام بيان مرامه بكلام متعدد ، بل لا بد ان يكون في مقام بيان مرامه بنفس كلامه مع السائل ، فله التمسك بإطلاق الكلام واستكشاف المراد الواقعي به. فإذا ورد مقيد بعد حين كان معارضا للمطلق لا مقدما عليه رأسا ، بل تلحظ قواعد المعارضة بينهما.

الثانية : ان يكون السائل من يجتمع مع الإمام علیه السلام كثيرا وسؤاله لمعرفة الحكم وتعلمه كمثل زرارة. ففي مثل هذا الفرض يمكن ان يقال ان العادة على عدم بيان تمام مرامه في مجلس واحد وكلام واحد بل في مجالس متعددة.

وعليه ، فلا يمكنه التمسك بإطلاق كلامه الأول ما لم يمض وقت البيان عادة ولم يرد القيد ، فإذا ورد القيد في الأثناء كان مقدما على الإطلاق جزما.

الثالثة : ان يكون السائل كذلك ، لكن القيد يأتي من المعصوم اللاحق ، وفي مثله لا يمكننا ان نقول بان العادة على تأخير البيان والاعتماد على الإمام اللاحق علیه السلام بحيث يظهر ذلك من حال الإمام السابق علیه السلام .

وعليه ، فيمكن التمسك بالإطلاق ويكون المقيد معارضا له كما في الصورة الأولى ، ولا يصح تقديمه عليه إلاّ إذا كان أظهر ، على إشكال ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه تعالى.

فظهر انه لا معنى للجزم بتقديم المقيد على المطلق رأسا ، حتى بناء على كون مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الواقعي ، لانعقاد الإطلاق إذا مضى وقت البيان ولم يرد القيد.

وسيأتي إن شاء اللّه تعالى في مبحث الجمع بين المطلق والمقيد مزيد تحقيق وتوضيح. فانتظر.

ص: 441

في الشك في كون المتكلم في مقام البيان

ثم انه إذا أحرز كون المتكلم في مقام البيان فلا إشكال. ولو شك في كونه في مقام البيان فلدينا صورتان :

الأولى : ان لا يحرز انه في مقام البيان من أيّ جهة من الجهات ، بل يحتمل انه في مقام الإهمال من جميع الجهات.

الثانية : ان يحرز انه في مقام البيان من جهة ويشك في كونه في مقام البيان من جهة أخرى ، كما لو قال : « أكرم العالم » وأحرز انه في مقام البيان من جهة العدالة والفسق وشك فيه من جهة السيادة وعدمها.

اما الصورة الأولى : فلا إشكال في ان بناء العقلاء على حمل المتكلم على كونه في مقام البيان ، وحينئذ فيجوز التمسك بالإطلاق من جميع الجهات لعدم المرجح لإحداها على الأخرى.

واما الصورة الثانية : فظاهر الكفاية ثبوت البناء العقلائي على ان المتكلم في مقام البيان ، واستشهد على ذلك بالتمسك بالإطلاقات من دون فحص وإحراز لكون المتكلم في مقام البيان (1). وخالفه المحقق النائيني قدس سره فذهب إلى عدم الدليل على إثبات انه في مقام البيان من الجهة المشكوكة ، لارتفاع اللغوية بكونه في مقام البيان من الجهة الأخرى - كما هو الفرض - (2).

أقول : استدلاله قدس سره بعدم اللغوية في غير محله ، إذ لم يكن البناء على ان المتكلم في مقام البيان من جهة صون كلامه عن اللغوية ، كيف؟ وقد التزم قدس سره بإمكان ورود الكلام في مقام التشريع لا أكثر.

ص: 442


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 529 - الطبعة الأولى.

وتحقيق الحال : انه ان قلنا بان استفادة الإطلاق من مقدمات الحكمة أشكل الجزم بأحد الرأيين لعدم الطريق إلى تعيين الحق منهما ، وانّا إذا قلنا بان استفادة الإطلاق من ظهور ترتيب الحكم على الطبيعة في كونها تمام الموضوع - كما قرّبناه - فلا يعتبر إحراز كون المتكلم في مقام البيان ، وذلك لأن مقتضى أصالة الحقيقة هو إرادة المعنى الظاهر من الكلام ، ومقتضى حجية الظاهر مطابقة المراد الواقعي للظاهر ، ومقام الثبوت لمقام الإثبات.

وعليه ، فيكون الكلام دليلا على ثبوت الحكم للطبيعة بلا دخل الخصوصية ، وان شك في كون المتكلم في مقام البيان من جهتها ، لأن بناء العقلاء - بلا تشكيك - على العمل بظاهر الكلام بلا توقف وتردد ، وقد عرفت ان الظاهر هو ترتيب الحكم على ذات الطبيعة بلا دخل الخصوصية ، ومع الشك في إرادة الظاهر يرجع إلى أصالة الحقيقة كما هو الحال في كل مورد يشك في إرادة ظاهر الكلام منه.

نعم إذا أحرز انه ليس في مقام البيان من بعض الجهات ، وانه في مقام الإهمال من تلك الجهة ، لا يكون الظاهر حجة على مراده من تلك الجهة وهو واضح. فان بناء العقلاء على حجية الظاهر ما لم يحرز انه لا يقصد الكشف عن مراده الواقعي به.

فظهر ان ما اخترناه في بيان استفادة الإطلاق أمر عرفي خال عن بعض التكلفات ، كتكلف دعوى بناء العقلاء على إرادة المطلق لو لم ينصب قرينة على التقييد ، مع ان الإطلاق خصوصية زائدة كالتقييد ، وتكلف دعوى بناء العقلاء على كونه في مقام البيان ، مع الشك في جهة وإحراز انه كذلك من جهة أخرى.

ولكن ما ذكرناه انما ينفع في استفادة الإطلاق في موارد يؤخذ المعنى المقصود إثبات تعميمه لافراده في موضوع الحكم ، كي تتأتى دعوى ان أخذه في موضوع الحكم ظاهر في انه تمامه.

ص: 443

واما لو لم يكن ذلك ، فلا ينفع ما ذكرناه ، كما في المثال المذكور في أجود التقريرات (1) ، وهو قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ ) (2) حيث يشك في انه في مقام البيان من جهة نفي الحرمة الثابتة للميتة ، أو أعم منها ومن نفي الحرمة من جهة النجاسة باعتبار ملاقاة محل الإمساك. فان عدم الحرمة له فردان ، عدم الحرمة من جهة الميتة ، وعدم الحرمة من جهة النجاسة.

فإذا شك في ان المقصود بيانه هل هو عدم الحرمة من جهة الميتة أو الأعم ، لم ينفع البيان الّذي ذكرناه.

اما بالنسبة إلى إجرائه في نفس عدم الحرمة المدلول عليه بالهيئة ، فمضافا إلى انه معنى حرفي غير قابل للحاظ الاستقلالي ، انه لم يؤخذ في موضوع الحكم ، كي يقال بان ظاهر ترتيب الحكم عليه دخالته بنفسه من دون دخل خصوصية فيه ، بل لا معنى لذلك ، لأن مدلول الهيئة ليس مفهوم الحكم ، بل هو النسبة وهي معنى حرفي.

واما بالنسبة إلى إجرائه بالنسبة إلى الأكل بان يقال : ان الحكم ثابت لطبيعة الأكل ولم يقيد بما قبل الغسل وعدمه فيدل على ان ذات الأكل هو متعلق الحكم ، فلأنه لا يقتضي ان الحكم هو الأعم ، إذ نفي الحرمة من جهة الميتة ثابت للأكل قبل الغسل وبعده ، فإثبات إطلاق المتعلق أو الموضوع لا يلازم إثبات ان المنفي هي الحرمة من كلتا الجهتين.

وفي الحقيقة ان المورد ليس من موارد الإطلاق على جميع المسالك ، فانه لا معنى للالتزام بمقدمات الحكمة في إثبات الجواز الفعلي. لأنها ان لوحظت بالنسبة إلى مدلول الهيئة ، فقد عرفت ان مدلولها ليس مفهوم عدم الحرمة كي

ص: 444


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 529 - الطبعة الأولى.
2- سورة المائدة ، الآية : 4.

يتمسك بإطلاقه في إثبات كلا فرديه - أعني الجواز من جهة النجاسة ومن جهة الميتة. فيلازم الجواز الفعلي ، بل مدلولها النسبة الّذي لا يتصور فيها العموم ، مضافا إلى انه معنى حرفي ملحوظ آلة فلا تتم فيه مقدمات الحكمة.

وان لوحظت بالنسبة إلى المتعلق أو الموضوع ، فقد عرفت ان نفى الخصوصية لا يثبت الجواز من جميع الجهات فتدبر.

نعم لو كان الدليل متكفلا للجواز الفعلي تم ما ذكر ، لكنه هو محل الإشكال وهو موضوع النزاع. اذن فلا طريق لدينا إلى إثبات ان الآية تتكفل نفي الحرمة بالمعنى الأعم ، لا خصوص عدم الحرمة من جهة الميتة ، فتدبر ولا تغفل.

ص: 445

الانصراف

ثم انه بعد ان تقدم من ان استفادة الإطلاق بمقدمات الحكمة أو بما ذكرناه ، يقع الكلام في مانعية الانصراف إلى بعض الافراد أو الأصناف عن التمسك بالإطلاق.

وقد ذكر صاحب الكفاية للانصراف افرادا ثلاثة :

الأول : الانصراف البدوي الزائل بالتأمّل ، ومثل له بانصراف لفظ الماء إلى ماء الفرات أو دجلة في الموضع القريب منهما.

الثاني : الانصراف الملازم لظهور اللفظ في المنصرف إليه.

الثالث : الانصراف الملازم لتيقن المنصرف إليه ، مع عدم كونه ظاهرا فيه بخصوصه.

وقد حكم بعدم مانعية الأول من الإطلاق ، ومانعية الأخيرين من التمسك فيه (1).

وقد أوقع المحقق النائيني الحديث عن الانصراف ، وذكر له صورا ثلاثة أيضا :

الأول : الانصراف البدوي وهو الناشئ عن غلبه خارجا.

الثاني : الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهية بحسب متفاهم العرف ، بحيث يرى العرف خروج بعض الافراد عن كونه فردا للطبيعة ، كانصراف لفظ ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان.

الثالث : الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهية ، بحيث يشكك العرف

ص: 446


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /249- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

في مصداقية بعض الافراد ، كانصراف لفظ الماء إلى غير ماء الذاج والكبريت.

وقد ذكر ان القسم الأول لا مجال لتوهم مانعيته عن الإطلاق.

واما القسم الثاني فهو يمنع من التمسك بالإطلاق ، لأن المورد يكون من قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة ، فلا ظهور الا في غير ما ينصرف عنه اللفظ.

وهكذا الحال في القسم الثالث ، فانه يمنع من الإطلاق ، لكون المطلق فيه يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينة (1).

أقول : حصره الانصراف غير البدوي بالناشئ عن التشكيك في غير محله ، إذ قد يتحقق الانصراف في غير موارد التشكيك ، كما قد يدعي انصراف قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (2) إلى البيع الصادر من المالك لا مطلق البيع.

ثم ان جعله انصراف لفظ ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان من موارد الانصراف الناشئ من التشكيك يمكن ان يكون من جهة القوة وان يكون من جهة الضعف ، بان يقال ان الإنسان باعتبار انه أقوى افراد الحيوان ورافعها انصرف عنه لفظه ، أو يقال ان الحيوانية العرفية فيه ضعيفة فينصرف عنه لفظ الحيوان إلى البهيمة.

وعلى كل فهذا ليس بمهم وانما المهم تحقيق الكلام فنقول : لا كلام فيما ذكره المحققان من عدم مانعية الانصراف البدوي ، لعدم إخلاله بما يعتبر في باب الظهور ، كما لا كلام فيما ذكراه من مانعية القسم الثاني من الإطلاق على أي مسلك من مسالكه ، لأن وجود ما يوجب تعيين بعض الافراد يتنافى مع استفادة الإطلاق على جميع مسالكه وهو واضح.

ص: 447


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 532 - الطبعة الأولى.
2- سورة البقرة ، الآية : 275.

واما مورد الانصراف لأجل التشكيك في صدق المفهوم على بعض الافراد ، فقد عرفت تعليل مانعيته في كلام المحقق النائيني بأنه يكون من قبيل الاحتفاف بما يصلح للقرينية.

وتحقيق صحة هذا المعنى يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى. فالأولى تعليل المانعية بان الإطلاق إنما ينفع فيما إذا أحرز انطباق المعنى على المشكوك ثبوت الحكم له. فمع الشك فيه - يعني في الانطباق - لا ينفع الالتزام بان المراد هو المطلق ، إذ لا يتوصل إلى إثبات الحكم له مع الشك في كونه فردا للطبيعي.

ومن هنا يظهر ان مراد صاحب الكفاية في مانعية تيقن المنصرف إليه ان كان ما ذكرناه ، فيكون مراده تيقن الفردية دون غيره ، فهو تام لا إشكال فيه. وان كان من جهة وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، فيكون مراده تيقن الإرادة مع إحراز ان غيره فرد للطبيعة ، فقد عرفت الإشكال في مانعيته عن التمسك بالإطلاق فراجع.

ثم ان التعبير الوارد في تقريرات النائيني بان الانصراف ينشأ من رؤية العرف خروج بعض الافراد عن مصداقية الطبيعة (1) ، لا يخلو من تسامح ، إذ العرف مرجع في تعيين المفاهيم ، اما تشخيص المصاديق للمفهوم المحدود عرفا فلا يرجع إليه فيه. فلا بد ان يكون المراد ان العرف يرى ان مفهوم اللفظ بنحو لا ينطبق على هذا الفرد. فتدبر.

فصل : في المطلق والمقيد المتنافيين

إذا ورد المطلق وورد مقيد ينافيه ، فهل يقدم المقيد على المطلق أو لا؟.

وتحقيق المقام : ان الدليل المقيد على نحوين :

ص: 448


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 532 - الطبعة الأولى.

الأول : ما يكون متكفلا لحكم إرشادي من امر أو نهي ، فيكون الأمر فيه للإرشاد إلى جزئية أو شرطية ، متعلقة لموضوع الحكم ، والنهي فيه للإرشاد إلى مانعيته ، نظير الأوامر الواردة في باب المركبات الاعتبارية ، فانها ظاهرة في الإرشاد إلى أخذ متعلقها في المركب.

الثاني : ما يكون متكفلا لحكم مولوي متعلق بالمقيد.

ولا إشكال في تقديم المقيد - إذا كان بالنحو الأول - على المطلق ، فإذا ورد دليل يأمر بالصلاة بقول مطلق ، وورد دليل يأمر بها مع الركوع ، وكان ظاهرا في الإرشاد إلى جزئية الركوع ، قدم المقيد بلا كلام. وسنشير إلى وجه تقديمه.

وعلى كل ، فليس هذا النحو محل الكلام فيما نحن فيه ، وانها محل الكلام هو النحو الثاني ، كما إذا قال : « أكرم العالم » ثم قال : « يحرم إكرام العالم الفاسق » أو : « يجب إكرام العالم العادل ». فقد وقع الكلام في تقديم المقيد على المطلق وفي وجه تقديمه.

وعليه ، فما يظهر من أجود التقريرات من ابتناء التقديم وعدمه على النحوين في كيفية المقيد ، بمعنى انه ان كان ظاهرا في الإرشاد يقدم. وان كان ظاهرا في المولوية لا يقدم (1).

غير صحيح ، إذ محل الكلام في التقديم وعدمه ، وفي مسألة حمل المطلق علي المقيد هو : ما إذا كان المقيد واردا بالنحو الثاني فالتفت.

وعلى كل ، فقد تعرض المحقق النائيني قدس سره قبل الدخول في أصل البحث إلى أمر ذكره كمقدمة للبحث وتوطئة لتوضيح الحال فيه.

وهو : ان ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذي القرينة من دون ملاحظة أيهما الأقوى.

ص: 449


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 535 - الطبعة الأولى.

ولذا يقدم ظهور : « يرمي » في رمي النبل على ظهور : « الأسد » في الحيوان الخاصّ في قول القائل : « جاء أسد يرمي » ، مع ان ظهور يرمي انصرافي ، وظهور أسد وضعي ، وهو أقوى من الانصرافي.

ووجّهه بان الشك في إرادة ما يظهر فيه ذو القرينة مسبب عن الشك في إرادة ما تظهر فيه القرينة ، فالأخذ بظاهر القرينة يستلزم رفع الشك في المراد بذي القرينة وحمله على خلاف ظاهره الأوّلي ، لأن مؤدى القرينة بنفسها يرجع إلى تشخيص المراد بذي القرينة وتعيينه ، وليس الأمر كذلك بالعكس ، فان الأخذ بظاهر ذي القرينة لا يستلزم تعيين المراد من القرينة إلاّ بالملازمة العقلية - بلحاظ التنافي بين الظهورين - ، والأصل اللفظي وان كان حجة في اللازم. العقلي لمجراه ، لكنه انما يثبت به اللازم العقلي على تقدير جريانه في نفسه ، وأصالة الظهور في ذي القرينة لا تجري الا على وجه دائر ، لأن جريانها فيه يتوقف على عدم جريان أصالة الظهور في القرينة - إذ جريانها في القرينة يلغي الشك في ذي القرينة فلا مجال للأصل فيه - ، فلو كان عدم جريان أصالة الظهور في ناحية القرينة مستندا إلى جريانه في ذي القرينة لزم الدور.

وبهذا البيان يلتزم بتقدم الأصل الحاكم على الأصل المحكوم.

ولا يختلف الحال فيما ذكر بين القرينة المتصلة أو المنفصلة ، وان كان هناك فرق بينهما من ناحية أخرى ، وهي : ان القرينة المتصلة تصادم أصل الظهور التصديقي لذي القرينة ، المعبر عنه بالمراد الاستعمالي فتوجب التصرف فيه.

واما القرينة المنفصلة ، فهي تصادم كاشفية الظهور التصديقي لذي القرينة عن المراد الواقعي فتوجب التصرف في حجيته وكاشفيته لا فيه نفسه (1).

هذا ما أفاده قدس سره ، وقد ذكره مقدمة لبيان ان تقديم المقيد على

ص: 450


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 535 - الطبعة الأولى.

المطلق من جهة قرينية المقيد.

وهذا البيان منه لا يخلو من مناقشات من جهات عديدة.

الأولى : ما يظهر منه قدس سره من فرض ظهورين للقرينة ولذي القرينة ، يقع التصادم بينهما ويقدم أحدهما للحكومة بالوجه الّذي عرفته.

فان ذلك غير سديد ، فانه ليس لدينا في موارد القرينة المتصلة الا ظهور واحد ينعقد للكلام رأسا بلا ملاحظة ما ذكره من جهة التصادم والتقديم.

اما في مثل موارد التقييد مثل : « أكرم العالم العادل » فواضح ، بداهة عدم وجود ظهورين متصادمين يدور الأمر بين تقديم هذا أو ذاك منهما ، لعدم تصادم الظهور الأولي للعالم مع الظهور الأولي للعادل ، ولذا لا ينتقل السامع من الكلام رأسا إلا إلى الحصة الخاصة ، ويرى ان للكلام ظهورا واحدا منعقدا فيها وليس هناك أي تصادم بين ظهورين.

واما في مثل موارد المجاز نحو : « جاء أسد يرمي » فكذلك ، فان السامع ينتقل ذهنه رأسا إلى معنى واحد وهو الشجاع ، بحيث يرى الكلام ظاهرا فيه رأسا بلا ان يرى تصادما ويعمل ترجيحا لأحد الظهورين على الآخر.

ولعل السرّ فيه ، هو : انه وان كان للفظ : « أسد » ظهور طبعي لا يتلاءم مع ظهور لفظ : « يرمي » ، لكن الملحوظ في مقام التصادم ليس الظهور الطبعي للفظين ، إذ الظهور الطبعي لأي لفظ ثابت فيه ولو مع الجزم بإرادة خلافه ، كما انه ليس موضوعا لأي أثر وبناء عقلائي ، وانما التصادم - على تقدير وجوده - يكون بين الظهورين التصديقيين ، بمعنى يقع التصادم بين بناء العقلاء على إرادة كلا الظهورين الفعليين. ولكنه فيما نحن فيه غير ثابت ، إذ لا يتحقق بناء العقلاء على إرادة ظاهر أي لفظ ما لم يتم كلام المتكلم ، لأن موضوعه هو الظهور الفعلي لا الظهور الطبعي ، وهو لا ينعقد قبل تمامية الكلام ، فقبل ورود القرينة لا بناء للعقلاء على إرادة ظهور ذي القرينة ، وبعد ورودها في الكلام لا يكون للكلام

ص: 451

الا ظهور واحد يتناسب مع القرينة ، وهو موضوع بناء العقلاء ، فأين هو التصادم بين الظهورين ، وأين دوران الأمر بين تقديم هذا أو ذاك؟. بل ليس للكلام بملاحظة مجموعه إلا ظهور واحد يكون موضوعا لبناء العقلاء.

وبالجملة : الظهور الذاتي ليس موضوعا لبناء العقلاء كي يقع التصادم والدوران بين ترجيح ظهور القرينة وظهور ذيها ، بل هو الظهور الفعلي ، وهو ليس إلاّ ظهور واحد بملاحظة مجموع الكلام.

ومما يشهد لما ذكرنا من وحدة الظهور الفعلي هو : انه لو صدر الكلام من الغافل كالنائم ، ينتقل الذهن إلى المعنى المجازي.

وهذا يكشف عن ان ظهور اللفظ في المعنى المجازي أجنبي عن مسألة ترجيح الظهورين ، إذ لا مجال لاعمال قواعد الترجيح في الفرض لغفلة المتكلم.

وبعبارة أخرى مختصرة نقول : ان حديث ترجيح أحد الظهورين لا ربط له كلية بانعقاد ظهور الكلام في المعنى ، إذ لا ربط للبرهان العقلي في تشكيل ظهور اللفظ وحكايته عن المعنى فعلا الّذي هو موضوع أصالة الحقيقة.

وبهذا يندفع ما قد يتخيل من : ان مقصود القائل هو تصادم الظهورين.

الاقتضائيين في مقام انعقاد الظهور الفعلي ، إذ الظهور الاقتضائي يصير فعليا ما لم تقم قرينة على خلافه ، فيحصل التدافع بين ظهور القرينة وذيها.

وجه الاندفاع : ان حديث انعقاد الظهور لا يرتبط بالبرهان العقلي المزبور. فالتفت.

الثانية : ما ذكره من تطبيق الوجه العقلي في تقديم الحاكم على المحكوم على مورد القرينة ، وبيان ان تقدمها بهذا الوجه.

وهذا الوجه مأخوذ من الشيخ (1). ونقحه المحقق الخراسانيّ (2).

ص: 452


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /432- الطبعة الحجرية.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /256- الطبعة الأولى.

وهو - مع غض النّظر عن صحته وعدمها في نفسه ، فان لذلك مجالا آخر - لا ينطبق على ما نحن فيه.

وذلك لأنه انما يتأتى في الحاكم بلحاظ انه ينظر إلى موضوع المحكوم نفيا أو إثباتا ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، لأن القرينة وان رفعت الشك في ذي القرينة ، لكن ذلك بلحاظ نظرها إلى المراد بذي القرينة لا بلحاظ ان مدلولها إلغاء الشك فيه - كما هو الحال في مثال الأمارة مع الأصل بناء على الحكومة -.

وعليه ، فيتوجه عليه الإشكال الّذي ذكره هو وهو : ان الالتزام بظاهر ذي القرينة يوجب التصرف بظاهر القرينة بالملازمة. وتفصّيه عنه بما عرفت في غير محله ، إذ لا وجه لفصل المدلول الالتزامي عن المدلول المطابقي ، بحيث يلزم ان يجري الأصل بلحاظ أثر المدلول المطابقي أولا ثم يثبت المدلول الالتزامي ، بل يصح جريان الأصل بلحاظ المدلول الالتزامي رأسا ، وعليه فيلزم التحاكم من الطرفين ، فيقال أيضا : ان أصالة الظهور في القرينة تتوقف على عدم جريانها في ذي القرينة - لاستلزام جريانها فيه التصرف في ظهور القرينة - ، فلو توقف عدم جريانها في ذي القرينة على جريانها فيها لزم الدور.

الثالثة : ما ذكره من الفرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة ، في ان الأولى تتصادم مع أصل الظهور التصديقي. والثانية تتصادم مع كاشفيته وحجيته.

فانه مشكل من وجهين :

الأول : انه لا يتلاءم مع ما يذكره ويلتزم به من ان مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الواقعي ، بحيث لو ورد المقيد كشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان من جهة القيد ، فانه يستلزم كون المقيد المنفصل مخلا بالظهور الإطلاقي نفسه ، فكيف يقول : ان القرينة المنفصلة لا تصادم نفس الظهور؟ فما ذكره لا يتم في موضوع البحث على مسلكه قدس سره .

الثاني : ان هذا لا يلتزم به في موارد الأظهر والظاهر المؤديين لحكمين في

ص: 453

موضوع واحد ، كما لو قال : « أكرم زيدا » ثم قال : « يجوز ذلك ترك إكرامه » ، فانه يلتزم بحمل الأمر على الاستحباب وصرفه عن الوجوب ومن الواضح ان ما يلتزم به هو التصرف في المراد الاستعمالي لا خصوص المراد الجدي ، فلا يلتزم بان المستعمل فيه الصيغة هو الوجوب ، لكن المراد الواقعي هو الاستحباب لأن ذلك مستهجن لأهل المحاورة.

ثم انه قدس سره بعد ان ذكر : ان أساس حمل المطلق على المقيد على ثبوت التنافي بينهما وهو يتوقف على استفادة وحدة التكليف - في المتوافقين - التزم بتقديم المقيد للقرينية.

ولنا معه كلام في جهتين :

إحداهما : التزامه بان حمل المطلق على المقيد للقرينية.

وثانيتهما : التزامه بان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين لا من الخارج.

وهو في كلتا الجهتين يختلف مع صاحب الكفاية لأنه التزم بان حمل المطلق على المقيد للأقوائية ، كما التزم بان وحدة التكليف تستفاد من الخارج.

وعلى كل فما ذكره المحقق النائيني في كلتا جهتيه لا يمكننا الالتزام به.

اما تقديم المقيد على المطلق بملاك انه قرينة ، فلان الملاك في تقديم القرينة على ذي القرينة هو نظر القرينة إلى مدلول ذي القرينة وتصرفها فيه ، إذ من الواضح ان الدليل الّذي يكون ناظرا يتقدم على ما ينظر إليه بحسب بناء العقلاء بلا نظر إلى قوة مدلوله أو غير ذلك ، بل لا يعد منافيا للدليل الآخر ، وانما يستفيد العرف من المجموع حكما واحدا ، ولا فرق في النّظر بين ان يكون بمدلوله المطابقي ، كما إذا قال : « أكرم العالم » ثم قال : « أعني به العالم العادل » ، أو كان بالملازمة العقلية كدلالة الاقتضاء نظير : « لا شك لكثير الشك » بالنسبة إلى أدلة أحكام الشك ، فانه لو لا نظره إليها كان لغوا ، إذ نفي الشك أو إثباته لا

ص: 454

أثر له إذا لم يكن بلحاظ ما للشك من آثار.

وبهذا الملاك يتقدم الدليل الحاكم على المحكوم ، لأنه يتكفل بمدلوله النّظر إلى مدلول الدليل الآخر.

وبالجملة : كل دليل يكون ناظرا إلى الآخر ومتكفلا لبيان المراد منه يتقدم عليه عرفا وبحكم بناء العقلاء ، ولا معنى للتوقف في مراد المتكلم بعد تصريحه بان مرادي كذا. فالملاك في الحقيقة هو النّظر إلى الدليل الآخر.

وبذلك يلتزم بتقديم المقيد إذا كان يتكفل الأمر الإرشادي ، لأنه ناظر إلى المطلق ومبين للمراد منه فيكون حاكما عليه.

وإذا ظهر هذا الأمر وعرفت ان ملاك التقديم ليس عنوان القرينية ، بل نظر أحد الدليلين إلى الآخر ، فلا وجه للالتزام بتقديم المقيد على المطلق فيما نحن فيه بملاك القرينية ، إذ لا ظهور للدليل المقيد في كونه ناظرا إلى الدليل المطلق ، بل هو دليل مستقل يتكفل حكما مولويا على موضوع خاص كان هناك غيره أولا ، فأيّ نظر لدليل : « يحرم إكرام النحوي » إلى دليل : « أكرم العالم » ، كما لا نظر لدليل : « أكرم العالم العادل » إلى دليل : « أكرم العالم » ، ودليل : « أعتق رقبة مؤمنة » إلى دليل : « أعتق رقبة » ، ولم لا يلتزم بالعكس؟.

ثم انه لو كان المقيد قرينة على المطلق فلم لا يلتزم بالتقييد في المطلقات الشمولية ، وأيّ فرق بينها وبين المطلقات البدلية؟ كما لا حاجة إلى سرد البيان الطويل مقدمة لبيان تقديم المقيد على المطلق. فالتفت ولا تغفل.

فيتحصّل : ان ملاك تقديم المقيد على المطلق ليس هو القرينية ، بل هو أمر آخر نحققه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

واما ان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين ، فقد قرّبه - كما في أجود التقريرات - بان الأمر بالمطلق بما انه يتعلق بصرف الوجود ، فهو ينحل إلى حكمين ، حكم بالإلزام بنفس الطبيعة. وحكم بالترخيص في تطبيق الطبيعة على

ص: 455

كل فرد من افرادها. ومن الواضح ان الأمر بالمقيد يقتضي تعيين المقيد ، فيتنافى مع الحكم الترخيصي في المطلق الراجع إلى ترخيص المكلف في الإتيان بأيّ فرد من افراد الطبيعة ، لاستلزامه توارد النفي والإثبات على مورد واحد ، وهي الامتثال بغير المقيد ، فالإطلاق يجوّزه والمقيد ينفيه ، فلا يمكن الالتزام بحكمين ، بل بحكم واحد متعلق بالمقيد أو بالمطلق (1).

وهذا الوجه لا ينهض لإثبات غرضه ، فانه واضح الإشكال.

وذلك لأن ما ذكره من منافاة وجوب المقيد مع ترخيص تطبيق الطبيعة على أي فرد من افرادها لا يثبت وحدة التكليف ، بل هو متفرع على ثبوت وحدته ، فانه إذا ثبت ان التكليف واحد امتنع ترخيص الشارع في امتثاله بالإتيان بأيّ فرد كان وإلزامه بالمقيد.

واما إذا كان التكليف متعددا فترخيص الشارع في امتثال أحد التكليفين بأي فرد من افراد الطبيعة لا يتنافى مع إلزامه في امتثال الآخر بالإتيان بفرد معين ، لعدم توارد النفي والإثبات على موضوع واحد بل موضوعين.

فجعل هذا البيان طريقا لإثبات وحدة التكليف ، مع انه متفرع عليه ، عجيب منه قدس سره .

هذا مع ما تقدم منا في مبحث كراهة العبادة ، من منع ثبوت حكم آخر للمولى يتكفل الترخيص في تطبيق الطبيعة على جميع افرادها ، وان التزم به قدس سره ورتب عليه أثر في ذلك المبحث. فراجع (2).

وقد يدعي في مقام بيان طريقية التنافي المذكور لإثبات وحدة التكليف ، بان التكليف إذا كان متعددا ، فمقتضى الدليل المطلق وفاء المقيد بملاك التكليف

ص: 456


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 539 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 316 - الطبعة الأولى.

المتعلق بالمطلق ، إذ هو لازم الإطلاق ، فيكون المقيد وافيا بكلا الملاكين ، وعليه فمع لزوم الإتيان به بمقتضى الدليل الآخر ، لا يبقى مجال لبقاء المطلق على إطلاقه ، إذ الإلزام بالمقيد يتنافى مع الترخيص في الإتيان بغيره ، فلا بد من صرف الأمر المطلق إلى خصوص الخالي عن القيد ، ولكن بنحو التخيير ، بمعنى لزوم الإتيان به على تقدير عدم الإتيان بالمقيد ، وهذا المعنى تعسف يحتاج إلى مئونة زائدة ، فتعدد التكليف يلازم ما فيه تعسف.

ويرد هذا التوجيه بوجوه :

الأول : ما عرفته من عدم ثبوت حكم آخر للمولى يتكفل الترخيص ، بل لا حكم له إلاّ بلزوم الطبيعة من دون دخل خصوصية فيها.

الثاني : ان الترخيص في التطبيق ليس ترخيصا فعليا كي يتنافى مع الإلزام بالمقيد ، بل هو ترخيص طبعي ، بمعنى انه ترخيص في تطبيق الطبيعة على غير المقيد من جهة امتثال الأمر بالطبيعة ، فلا ينافيه إلزامه بالمقيد من جهة أخرى.

والثالث : انه لا مانع من الالتزام بلازمه من الوجوب التخييري ، وليس هو تكلفا زائدا بعد كونه مقتضى الدليل ، فإذا فرض ان مقتضى تعدد التكليف - الّذي هو ظاهر الدليلين - ذلك فيلتزم به ، كجميع موارد دلالة الاقتضاء ، فهو نظير الالتزام بالترتب.

والنتيجة : فما ذكره المحقق النائيني من ان استفادة وحدة التكليف من نفس الدليلين ، لا يمكننا الالتزام به ، فالصحيح ما أشار إليه صاحب الكفاية من انها تستفاد من دليل خارجي كإجماع ونحوه (1).

ثم انه لا يخفى انه لا يترتب على تحقيق هذا الأمر مزيد أثر عملي ، إذ ليس تشخيص موارد وحدة التكليف مما - لو لم تكن من نفس الدليل - يحتاج

ص: 457


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /251- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

إلى مئونة زائدة في الفحص والسبر ، كي يكون إثبات ان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين مما يوفر علينا هذه المئونة ، بل هو امر معلوم في غالب الموارد الا ما شذّ وندر ، كيف؟ والكثير من المطلقات والمقيدات واردة في موارد بيان الشروط والاجزاء (1) ، فانه يعلم وحدة الشرط أو الجزء ويدور امره بين المطلق والمقيد ، ولا يحتمل تعدد الجزء أو الشرط. ثم انه قدس سره ذكر في مقدمة استفادة وحدة التكليف امرين :

إحداهما : لزوم كون الحكمين مطلقين أو معلقين على أمر واحد ، وقد تعرض فيه إلى ما إذا كان أحد الحكمين مقيدا دون الآخر ، وانه هل يحمل المطلق على المقيد أو لا؟

وما ذكره في هذا الأمر قدس سره أولا في محله ، فان محل البحث فعلا والقدر المتيقن منه ما إذا اختلف المتعلقان بالإطلاق والتقييد. واما صورة اختلاف الحكمين في ذلك ، فيقع الكلام فيه بعد ذلك ، فتعرضه إليه سابقا إخراج عن الأسلوب الصناعي.

وثانيهما : كون الحكمين إلزاميين ، فلو كان الحكم المقيد استحبابيا لم يحمل عليه المطلق. وقد تعرض لذلك في ضمن تنبيهات المبحث وهو أنسب ، إذ لا بد من معرفة ملاك حمل المطلق على المقيد أولا ، ثم معرفة جريانه في المستحبات ، أو انه يختص بالواجبات. فتقديم التعرض إلى نفي حمل المطلق على المقيد في المستحبات خارج عن أسلوب البحث الصناعي أيضا. والأمر سهل.

ص: 458


1- لا يتوهم : ان هذا خارج عن موضوع البحث ، لأن أوامر الشروط إرشادية ، وذلك لأن ما هو خارج عن موضوع البحث ما إذا كان المقيد إرشادا إلى أخذ القيد في المطلق. وليس الحال كذلك في الفرض ، بل كل من المطلق والمقيد يتكفلان الإرشاد إلى أخذ متعلقهما في متعلق الوجوب. فيقع التنافي بينهما. وليس المقيد إرشاد إلى أخذ القيد في متعلق الدليل المطلق ، كي يكون خارجا عن موضوع البحث ، فمثلا ليس ما يدل على وجوب سورة التوحيد ناظرا إلى ما يدل على وجوب مطلق السورة ، بل هو ناظر رأسا إلى دليل وجوب الصلاة ، كنفس ما يدل على وجوب مطلق السورة ، فيتصادمان في مقام تقييد الصلاة. فالتفت ولا تغفل ( منه عفي عنه ).

ثم انه قدس سره في مقام بيان حمل المطلق على المقيد ، ذكر ان الأمر يدور بين احتمالات ثلاثة - على تقدير عدم التقييد - :

أحدها : حمل المقيد على الاستحباب ، وهو يتنافى مع ظهور الصيغة في الوجوب.

ثانيها : حمله على انه واجب في واجب ، وهو يتنافى مع ظهور كون الموضوع هو المجموع لا خصوص القيد ، مع ان ذلك نادر جدا.

ثالثها : حمله على انه واجب مستقل ، وهو يتنافى مع ظهور الدليلين في وحدة التكليف. فيتعين التقييد للقرينية.

ولا يخفى انه قدس سره وان أطال في بيان ذلك ، لكنه لا يختلف عن صاحب الكفاية الا في الأمرين اللذين عرفتهما - أعني : التقديم بالقرينية. وكون وحدة التكليف مستفادة من نفس الدليلين -. فالتفت والأمر هيّن. هذا كله فيما يرتبط بما أفاده المحقق النائيني ، فقد عرفت الخدشة فيه بجهاته.

واما صاحب الكفاية ، فقد ذكر في وجه الجمع وحمل المطلق على المقيد - بعد ان تعرض لما قيل من ان في الحمل جمعا بين الدليلين ، وللإيراد عليه : بان في حمل المقيد على الاستحباب جمعا بينهما أيضا ، ولما استشكل في الإيراد من ان التقييد ليس تصرفا في المطلق بخلاف الحمل على الاستصحاب ولإيراده على هذا الإشكال بان التقييد تصرف في المطلق لانعقاد ظهوره - ذكر بعد كل هذا مفصلا ، بان الأمر يدور بين ظهور الصيغة - في الدليل المقيد - في الإيجاب التعييني ، وظهور المطلق في الإطلاق ، لأن الإطلاق يتنافى مع تعيين وجوب المقيد ، بل يتلاءم مع التخيير بينه وبين غيره ، بما ان ظهور الصيغة في الإيجاب التعييني

ص: 459

أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق يقدم عليه (1).

وفيه :

أولا : ان ظهور الصيغة في الوجوب التعييني ليس ظهورا وضعيا ، بل هو ظهور إطلاقي أيضا ، كما مرّ تقريبه فيما سبق ، فقد تقدم ان الوجوب التعييني مقتضى الإطلاق.

وعليه ، فيدور الأمر بين الإطلاقين ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وما هو الوجه في أقوائية أحدهما على غيره.

وثانيا : ان هذا الوجه لو تم فهو يقرب حمل المطلق على المقيد في المتوافقين.

اما في المختلفين سلبا وإيجابا فلا يتأتى هذا الوجه ، وموضوع هذا الوجه وان كان هو المتوافقين إلاّ انه كان ينبغي عليه ان يتعرض لما به يقدم المقيد على المطلق في جميع الموارد. فالتفت.

والّذي يتعين ان يقال في المقام هو : ان المقيد إذا كان واردا قبل انتهاء زمان البيان كان مقدما على المطلق ، كما لو كان من عادة المتكلم بيان مرامه الواقعي في زمان محدود ، فورد المقيد قبل انتهائه ، وإذا كان واردا بعد انتهاء زمان البيان كان معارضا للمطلق.

اما تقديمه على المطلق لو كان واردا قبل انتهاء وقت البيان ، فبيان وجهه :

انك عرفت ان في الإطلاق مسالك ثلاثة :

الأول : ما سلكه الشيخ رحمه اللّه من إجراء مقدمات الحكمة في المراد الواقعي بحيث يكون ورود المقيد مخلا بالإطلاق (2).

ص: 460


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /250- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /218- الطبعة الأولى.

الثاني : ما سلكه المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه من جريان المقدمات في المراد الاستعمالي (1).

الثالث : ما سلكناه من ان الإطلاق نتيجة الظهور السياقي لا مقدمات الحكمة.

اما على مسلك الشيخ : فتقدم المقيد واضح جدا ، فان المتكلم إذا كان من عادته بيان مرامه الواقعي بكلام متعدد وفي مدة ممتدة ، فلا يكون لكلامه الأول ظهور في شيء ولا يمكن البناء على ان مراده كذا من أول الأمر ، بل تشخيص مراده وثبوت انه المطلق انما يكون فيما مضت تلك المدة ولم يرد دليل يدل على ان مراده الواقعي هو غيره. وعليه فإذا ورد المقيد في الأثناء لم يكن مصادما للمطلق لعدم انعقاد ظهور له في شيء ، بل ينعقد الظهور في المقيد ، فحال المقيد المنفصل على هذا المسلك حال المقيد المتصل في إخلاله بأصل الظهور الإطلاقي وعدم تصادم المقيد مع المطلق.

واما على المسلكين الآخرين : فقد يغمض تقديم المقيد ، لأن الكلام الأول انعقد له ظهور في الإطلاق ، فيكون المقيد مصادما لظهوره.

ولكن نقول : انه إذا كان من عادة المتكلم بيان مرامه الواقعي بكلام متعدد ، فلا يكون كلامه الأول - وان انعقد ظهوره - حجة على مرامه الواقعي عند العقلاء ، بل انما يكون حجة فيما هو ظاهر فيه إذا مضت مدة البيان ولم يرد منه ما يدل على ان مراده الواقعي مقيد - وبهذا الملاك يتوقف عن العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص ، لأنه في معرض التخصيص ، فلا يكون حجة عند العقلاء -.

وعليه ، فإذا ورد الدليل المقيد المصادم للمطلق في ظهوره يتقدم على المطلق ، لعدم حجية المطلق في مدلوله قبل انتهاء زمان البيان ، بل يكون العمل

ص: 461


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

به مراعى بعدم ورود ما يدل على تقييد المراد ، وإلاّ كشف عن عدم وروده مورد بيان الواقع ، فلا يكون حجة ، نظير المطلق المعلوم صدوره بداعي الهزل.

وبالجملة : لا يكون المطلق حجة فيما هو ظاهر فيه ما لم يحرز انه في مقام بيان مرامه الواقعي به ، ولذا لا يكون الكلام الصادر لا بداعي الجدّ حجة في مدلوله ، فان الكلام الّذي لا يقصد به المتكلم الكشف عن المراد الواقعي لا يكون ظهوره حجة في مراده ، بل لا بد من صدور الكلام بقصد الكشف عن المراد الواقعي ، وهذا المعنى غير محرز ما دام ان عادة المتكلم بيان مراده ببيان متعدد ، فإذا ورد في الأثناء ما يدل على ان مراده الواقعي مقيد ، لم يكن المطلق حجة لكشفه عن عدم وروده مورد بيان الواقع ، فليس تقديم المقيد من باب انه أقوى من المطلق أو من باب انه ناظر إليه ، بل من جهة كشفه عن اختلال شرط الحجية في المطلق ، وهو وروده مورد البيان للواقع.

ولا يرجع تقديم المقيد إلى كونه مبنيا للمراد الواقعي من المطلق كي يكون ناظرا إليه ، بل إلى بيانه مراد المتكلم في نفسه الملازم لكشفه عن عدم ورود المطلق في مورد البيان. وبهذا البيان يقدم على المطلق من دون ملاحظة قوة دلالته ، إذ لا يرتبط بها كما لا يخفى. فيكون حال المقيد المنفصل بالنسبة إلى حجية المطلق كحال المقيد المتصل بالنسبة إلى أصل الظهور.

واما إذا ورد المقيد بعد انتهاء وقت البيان ، لم يتأتى الوجه المزبور لانعقاد ظهور للمطلق في الإطلاق وحجيته فيه في نفسه على جميع المسالك ، فيتنافى مع المقيد ويقع التصادم بينهما في مقام الحجية. ولا وجه لتقديم المقيد على المطلق الا من باب انه أقوى الدليلين ، في مورد يكون ظهوره أقوى من ظهور المطلق ، إذ قد يشكك في ذلك في بعض الموارد ، ولكن قاعدة تقديم أقوى الدليلين غير مسلمة ، وتحقيق ذلك في مسألة التعارض الآتية إن شاء اللّه تعالى.

وإذا عرفت هذا الأمر - وقد أشرنا إليه قبل قليل - أشكل الأمر في تقديم

ص: 462

المقيدات الواردة في لسان الأئمة ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) على المطلقات بقول مطلق.

لما عرفت من ان لورود المطلق صورا ثلاث :

فتارة : يكون المطلق واردا في بيان الحكم لمن يريد العمل ولا يتشرف بخدمة الإمام علیه السلام ولا أحد الرّواة ، كما إذا كان من البلاد البعيدة فسأل الإمام وهو على وشك السفر.

وأخرى : يكون المطلق واردا لبيان الحكم فقط ، كما إذا كان السائل من رواة الحديث.

وهذا على نحوين : لأن المقيد تارة يرد في كلام نفس الإمام الصادر منه المطلق. وأخرى : في كلام من يلحقه منهم علیهم السلام .

ففي الصورة الأولى لا يمكن الالتزام بان العادة على تأخير بيان الحكم الواقعي إلى وقت آخر ، فإذا ورد دليل مقيد والحال هذه كان مصادما للمطلق ولم يقدم عليه.

وهكذا الحال في الصورة الثالثة ، إذ ليس من العادة تأخير بيان الحكم الّذي يريد ان يعرفه وينقله مثل زرارة الّذي هو من أصحاب الصادق علیه السلام إلى زمان الإمام العسكري علیه السلام .

نعم في الصورة الثانية ، يمكن الالتزام بان العادة جارية على بيان الحكم الواقعي في مجالس متعددة.

وعليه ، فلا بد من التأمل في المطلق والمقيد الواردين بأنهما من أيّ الأنحاء ، فيحكم بالتقديم إذا كان من قبيل الصورة الثانية. وبالتوقف إذا كان من قبيل الصورتين الأولى والثالثة ، ولعله لأجل ذلك نرى بعض الفقهاء يتوقفون من تقييد المطلق بالمقيد ، بدعوى انه وارد مورد البيان.

ولا ينحل الإشكال في الصورة الثالثة ، إلاّ بالالتزام بان الأئمة علیهم السلام حين

ص: 463

يبينون الحكم يبينونه بعنوان النقل والرواية عن النبي صلی اللّه علیه و آله غاية الأمر انهم لا تشملهم أدلة حجية الخبر للقطع بصدقهم - ، إذ على هذا الفرض لا يكون ورود المقيد متأخرا عن وقت البيان ، لصدوره من الأول ، نعم الاطلاع على صدوره يكون متأخرا عن وقت الحاجة ، وهو لا يضير في تقديمه على المطلق بعد صدوره من السابق ، فانه يكفي في عدم تأخره عن وقت البيان بيانه ولو للإمام اللاحق ، ولا يلزم بيانه لخصوص السائل ، إذ ليس المقام مقام عمل ، بل مقام معرفة الحكم وبيانه ، وقد بينه بقيده. نعم لو أراد ان يعمل لم يكن له حق التمسك بالإطلاق ما لم يسأل كل من يحتمل صدور القيد إليه. ومن هنا ظهر انه لا تنحل ذلك مشكلة تأخير القيد في الصورة الأولى ، لأن المفروض كون السائل في مقام العمل ، وتأخير بيان القيد له لا معنى له. وبالجملة : لا يتصور وجه لصحة تأخير بيان القيد في الصورة الأولى أصلا.

واما إذا قلنا بأنهم يبينون الحكم بعنوان الاستنباط من الكتاب والسنة والاطلاع على حكم اللّه تعالى ، لكنهم ليسوا كسائر المجتهدين باعتبار ان استنباطهم يطابق الواقع ولا يشوبه الخطأ بناء على هذا ، كان الإشكال متوجها ، لأن مقتضى الدليل المطلق ان الحكم الإلهي هو المطلق ، ومقتضى الدليل المقيد ان الحكم هو المقيد ، فيتصادمان كسائر موارد التعارض.

ولا يرتفع التعارض إلاّ بالالتزام بان المطلق لم يرد لبيان المراد الواقعي للمولى ولم يقصد به الكشف عن الواقع ، ولكنّه مشكل ، إذ بعد فرض كون السؤال عن الواقع لأجل العمل أو الاطلاع عليه ، لا معنى لأن يقال ان الإمام علیه السلام ليس بصدد بيان الواقع في جوابه ، فالتفت وافهم وتدبّر في أطراف ما ذكرناه فانه بالتدبّر حقيق ومن اللّه سبحانه نستمدّ التوفيق.

ثم انك قد عرفت في كلامنا مع المحقق النائيني : ان موضوع البحث مورد اختلاف المتعلق في الإطلاق والتقييد ، ومورد كون كلا الحكمين إلزاميين.

ص: 464

اما صورة اختلاف نفس الحكمين بالإطلاق والتقييد ، وكذا مورد كون الحكمين استحبابين. فالكلام فيه بعد ذلك.

وبما انه انتهى الكلام عن موضوع البحث ، فلا بد من التعرض لهاتين الجهتين - بعد فرض الالتزام بحمل المطلق على المقيد فيما تقدم -.

وعليه ، فيقع الكلام في امرين :

الأمر الأول : ما إذا كان الحكم في أحد الدليلين مطلقا والآخر مقيدا ، كما إذا قال : « أعتق رقبة » ثم قال : « ان ظاهرت فأعتق رقبة » ، فهل يحمل الحكم المطلق على المقيد أو لا؟.

والتحقيق : انه حيث عرفت ان أساس حمل المطلق على المقيد هو العلم بوحدة التكليف الموجبة لوقوع التنافي بين الدليلين. وعرفت أيضا ان طريق العلم بوحدته من الخارج من إجماع ونحوه. فلا مجال هاهنا لحمل المطلق على المقيد من الحكمين ، لعدم دليل على وحدة التكليف فيهما ، بل الدليل على خلافه ، فان ظاهر الدليلين تعدده ، إذ ظاهر المطلق - في المثال - ان الوجوب ثابت مطلقا حصل الظهار أم لم يحصل ، وظاهر المقيد ان الوجوب المنشأ به لا يتحقق إلا عند حصول الظهار ، وهذا ظاهر في تغاير الحكمين ، فلا مجال للحمل الا في مورد تقوم قرينة خارجية قطعية على ان التكليف واحد فتدبر.

هذا بناء على ما سلكناه في طريق استفادة وحدة التكليف.

واما بناء على ما سلكه المحقق النائيني من ان طريق استفادة وحدة التكليف نفس الدليلين ، باعتبار ان ترخيص تطبيق الطبيعة في مقام الامتثال على غير المقيد - الّذي هو مقتضى الدليل المطلق - يتنافى مع عدم جواز الامتثال به الّذي هو مقتضى الدليل المقيد لأنه يلتزم بالمقيد.

بناء على هذا المسلك يشكل الأمر ، باعتبار ان هذا البيان يتأتى بواقعه فيما نحن فيه ، إذ يقال : ان الدليل المتكفل للحكم المطلق يقتضي الالتزام بالعتق ،

ص: 465

ولو لم يتحقق القيد كالظهار. والدليل المتكفل للحكم المقيد ينفي الإلزام به قبل تحقق الظهار. فيتحقق التنافي الموجب للقول بوحدة التكليف المستلزمة للحمل والتقييد.

وليس له ان يتخلص عن هذه المشكلة ، بان التنافي فرع العلم بوحدة التكليف ، وإلاّ فمع فرض تعددهما لا تنافي بين الدليلين ، لأن ما يثبت حكما في صورة عدم القيد لا يتنافى مع ما ينفي حكما آخر في هذه الصورة.

فان هذا البيان هو ما ذكرناه ردا على ما ذكره سابقا ، من ان استفادة وحدة التكليف بنفس الدليلين ، فلو التزم به هاهنا ألزم به هناك.

ولا فرق فيما ذكرناه من ان لازم ما أفاده حمل المطلق على المقيد من الحكمين ، بين ان يكون متعلقهما متحدا كالمثال المتقدم ، وبين ان يكون مختلفا بالإطلاق والتقييد ، كما إذا قال : « أعتق رقبة مؤمنة » ثم قال : « ان ظاهرت فأعتق رقبة ».

ولكنّه قدس سره التزم بالحمل في الصورة الأولى دون الثانية ، بدعوى ان حمل المطلق من الحكمين على المقيد يتوقف على وحدة المتعلق ، ووحدة المتعلق تتوقف على وحدة الحكمين ، فيكون حمل المطلق على المقيد في الفرض مستلزما للدور (1).

وهذه الدعوى غير صحيحة ، لأنه قدس سره التزم بأنه إذا قام ما يدل على وحدة التكليف صح حمل المطلق على المقيد في المتعلق ، وهذا يعني منه انه لا يمكننا فرض وحدة المتعلق ولا تعدده قبل ملاحظة التكليف في حد نفسه ومع قطع النّظر عن المتعلق ، وقد عرفت قيام البرهان على وحدته بالبيان الّذي سلكه قدس سره ، ولا معنى لربط استفادة وحدة التكليف بوحدة المتعلق ، إذ بعد ان

ص: 466


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 537 - الطبعة الأولى.

كانت وحدته وتعدده ترتبط بوحدة التكليف وتعدده ، إذ لا ظهور للكلام في تعدد المتعلق ما لم يلحظ الحكم ودلالته عليه ، وإلاّ لجرى بيان الدور في صورة إطلاق الحكمين المطلق والمقيد ، الّذي كان موضوع الكلام ، فيقال : ان العلم بوحدة المتعلق تتوقف على وحدة التكليف لاحتمال تعدده ، وهي تتوقف على وحدة المتعلق. فتدبر.

ومنه ظهر انه لا وجه لما ذكره قدس سره في مقام عدم حمل أحد الحكمين على الآخر في هذه الصورة ، من ان انتفاء القيد لا يستلزم بمقتضى دليله الا انتفاء شخص الحكم الثابت لا طبيعي الحكم ، فمن الممكن ثبوت فرد آخر في غير مورد القيد ، لأنه يلازم القول بعدم الحمل في الصورة الأولى. فتدبر.

الأمر الثاني : ما ذا كان الدليلان يتكفلان حكمين ندبيين ، أحدهما متعلق بالمطلق. والآخر متعلق بالمقيد. كما إذا ورد : « يستحب زيارة الحسين علیه السلام » وورد : « يستحب زيارته علیه السلام مع الغسل ».

والتحقيق : انه لا وجه لحمل المطلق على المقيد ، إذ أساسه على ما عرفت ثبوت وحدة التكليف ، وطريقها الدليل الخارجي ، وهو غير موجود في باب المستحبات لتعارف اختلاف الافراد من حيث مراتب الاستحباب ، فلا طريق إلى إحراز وحدة التكليف ، بل يحمل المقيد على كونه أفضل الافراد.

نعم على مسلك المحقق النائيني في طريق استفادة وحدة التكليف لا بد من الالتزام بحمل المطلق على المقيد ، لأن ما ذكره في وجه عدم الحمل من : ان الدليل المقيد يتكفل الترخيص في الترك وجواز الامتثال بغيره فلا ينافي ما يدل على استحباب الكل (1). غير تام ، إذ الدليل المقيد يقتضي عدم جواز امتثال الحكم الاستحبابي بغير المقيد ، لفرض انه ظاهر في دخالة القيد فيه فينافي ما دل

ص: 467


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 539 - الطبعة الأولى.

على جواز الامتثال بأيّ فرد ولو كان غير المقيد.

فما ذكره قدس سره ناش عن البناء على ان عدم جواز الامتثال بغير المقيد من شئون الحكم الوجوبيّ ، فلا يثبت في مورد الاستحباب فلا يتحقق التنافي. ولكنّه غفلة عن انه لازم أعم للحكم الوجوبيّ والاستحبابي ، لأنه فرع أخذ القيد في متعلق الحكم أيّ حكم كان.

ولذا لو لم يكن في مورد الاستحباب غير المقيد لم يلتزم بجواز الإتيان بغيره امتثالا للحكم ، والترخيص في الترك الّذي هو لازم الاستحباب غير جواز امتثال الحكم الاستحبابي بغير المقيد. فان الترخيص في الترك يرجع إلى جواز عدم الامتثال لا جواز الامتثال بفرد آخر فالتفت.

وبالجملة : النفي والإثبات في مورد المستحبين يردان على موضوع واحد ، فيتعين حمل المطلق على المقيد بناء على الالتزام بهذا البيان. فتدبر جيدا.

هذا كله في ما إذا كان المطلق بدليا.

واما إذا كان شموليا ، كما إذا قال : « أكرم العالم » ثم قال : « أكرم العالم الفقيه » فهل يحمل المطلق على المقيد أو لا يحمل؟.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى عدم التقييد وبقاء المطلق على إطلاقه ، باعتبار ان أساس الحمل في مورد الإطلاق البدلي هو تعلق الحكمين بصرف الوجود المستلزم للتنافي فيستكشف وحدة التكليف ، وهو غير ثابت في مورد الإطلاق الشمولي ، لعدم تعلق الحكم بصرف الوجود كي تستكشف وحدة الحكم ، بل الحكم متعلق بكل فرد فرد فلا طريق لاستكشاف وحدة التكليف التي هي أساس حمل المطلق على المقيد (1).

أقول : عدم تأتي الوجه السابق لاختلاف الموضوع لا يلازم عدم الدليل

ص: 468


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 541 - الطبعة الأولى.

على وحدة التكليف ، بل وحدة التكليف في مورد الإطلاق الشمولي مما يلتزم بها كل أحد ، إذ لا يلتزم أحد ان هناك حكمين في مورد العالم العادل أو الفقيه ، بل ليس هناك إلاّ حكم واحد. ومن ذلك ما ستعرفه في ذيل الكلام.

وعليه ، فيشكل الأمر باعتبار ان القيد ظاهر في الاحترازية ، فهو يظهر في دخالة القيد في الحكم ولازمه انتفاء الحكم عن غير مورد القيد.

فالتحقيق في وجه عدم التقييد هو : ان الحكم الوارد على المقيد لا ظهور في كونه حكما تأسيسيا جديدا ، بل هو حكم مؤكد للحكم الثابت بالمطلق ، بمعنى ان الدليل المقيد يتكفل إنشاء نفس الحكم السابق ، غاية الأمر انه على بعض الافراد ، فهو من توابعه ، وإذا كان كذلك فلا ظهور حينئذ للقيد في كونه احترازيا ، لأن الحكم الثابت بالدليل الآخر ثابت لمطلق الافراد ، بل يلغو ظهوره في ذلك ويحمل على ذكره من باب انه أظهر الافراد أو أفضلها ، لأنه بيان للحكم السابق ، لا انه حكم جديد ، المفروض ان الحكم السابق ثابت لمطلق الافراد.

اما انه لا ظهور له في التأسيس ، بل هو حكم تأكيدي ، فيظهر مما تقدم في أواخر مبحث الأوامر من أن الأمرين إذا تعلقا بشيء واحد يدور الأمر بين المحافظة على ظهور كل منهما في التأسيس والتصرف في المتعلق بتقييده بمثل مرة أخرى. أو المحافظة على ظهور المتعلق والتصرف في ظهور الأمر في التأسيس بحمله على التأكيد ، وقد عرفت انه بذلك يسقط ظهور الأمر في التأسيس ، وهذا هو الطريق في الالتزام بعدم تعدد الحكم هاهنا الّذي عرفت انه من المسلمات. فراجع تعرف.

تذييل : ذكر في الكفاية ان قضية مقدمات الحكمة تختلف بحسب اختلاف المقامات ، فلا تلازم ثبوت الاستغراق دائما ، بل هي تتكفل بيان ان المراد هو ذات الطبيعة بلا تقييد ، فقد تقوم القرينة بحسب المقام على ان الحكم ملحوظ بنحو الاستغراق. وقد تقوم على إرادة العموم البدلي. كما قد تقوم على إرادة خصوص

ص: 469

فرد من الطبيعة المطلقة.

ومثل للأول بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، فان المراد به هو مطلق افراد البيع ، وذلك لأن إرادة البيع مهملا أو مجملا خلف فرض كون المتكلم في مقام البيان ، وإرادة العموم البدلي لا تناسب المقام ، فانه لا معنى لإرادة تحليل أحد البيوع ، كما لا معنى لإرادة بيع اختاره المكلف ، مع انه يحتاج إلى نصب دلالة ، إذ لا يفي الإطلاق به بدونها ، فيتعين ان يراد به الإطلاق الشمولي.

ومثّل للثاني بمتعلقات الأوامر ، لأن العموم الاستيعابي لا يمكن إرادته ، إذ لا يعقل إرادة جميع افراد الصلاة - في مثل صلّ - ، وإرادة غير العموم البدلي وان كانت ممكنة ، إلاّ انها منافية للحكمة وفرض كون المتكلم بصدد البيان.

ومثَّل للثالث : بإطلاق صيغة الأمر المقتضي للوجوب التعييني العيني النفسيّ ، لأن إرادة ما يقابلها تحتاج إلى بيان ، وإرادة جميع الافراد لا معنى له ، فيتعين حمل الإطلاق على التعييني العيني النفسيّ (1).

أقول : ما ذكره قدس سره من ان الإطلاق ومقدمات الحكمة انما تتكفل إثبات ملاحظة الطبيعة بنحو السريان ، وعدم دخل القيد فيها فحسب. اما استفادة الاستغراق أو البدلية أو غيرهما فهي ترتبط بقرائن المقام وجيه لا كلام لنا فيه.

وانما الإشكال في كلامه في موردين :

أحدهما : ما قرب فيه حمل الإطلاق في متعلقات الأحكام على البدلي لامتناع إرادة الاستيعابي.

فانه غير واضح ، إذا امتناع إرادة الاستيعابي لا بد وان يكون منشؤه عدم القدرة على جميع الافراد ، وهذا غير مانع لوضوح تقيد المتعلق بالقدرة عقلا ،

ص: 470


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /252- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فالمطلوب هو جميع الافراد المقدورة - بناء على الاستيعاب - وهو مما لا امتناع فيه.

فالوجه الصحيح في نفي الاستيعاب هو : ما أشرنا إليه في أول مباحث النواهي من ان الغالب في موارد الأمر حصول الغرض بوجود واحد من وجوداته ، في قبال النهي الّذي يكون الغالب فيه ثبوت المفسدة في جميع افراده.

وهذه الغلبة توجب ظهور الكلام في كون متعلق الأمر صرف وجود الطبيعة ، وهو ينطبق على أول وجود منها ناقض للعدم فيتحقق الامتثال به.

وثانيهما : ما ذكره في مقام التمثيل لما كان مقتضى الإطلاق إرادة خصوص فرد ، من ان مقتضى الإطلاق في صيغة الأمر هو إرادة خصوص فرد معين منه.

فانه غير واضح أيضا ، لما عرفت من ان مجرى مقدمات الحكمة انما هو المادة والمتعلق ، وهو يلازم ثبوت خصوص الوجوب التعييني وأخويه ، فلم يرد فرد خاص من المطلق وما هو مجرى المقدمات ، بل أريد به الاستيعاب من تلك الجهة ، وانما هي تلازم إرادة فرد خاص من غيره وهو الوجوب ، لأن مجرى المقدمات ليس هو الوجوب بل المتعلق.

نعم بناء على جريانها في خصوص الوجوب - الّذي عرفت فيما تقدم امتناعه - بدعوى ان خصوصية التعيين لا تحتاج إلى بيان بخلاف ما يقابلها ، فعدم البيان يقتضي حمل اللفظ المطلق عليه بعد دورانه بين الفردين - كما تقدمت هذه الدعوى من المحقق الأصفهاني (1) -.

بناء على هذا البيان يصح التمثيل بهذا المورد لما كان مقتضى الإطلاق فيه إرادة أحد الافراد.

فالتفت ولا تغفل والحمد لله أولا وآخرا.

ص: 471


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 141 - الطبعة الأولى.

تم مبحث المطلق والمقيد يوم الاثنين 25 ربيع الثاني سنة 1388 ومن اللّه نستمد التوفيق (1). ويقع الكلام بعده في مباحث القطع.

ص: 472


1- أهمل السيد الأستاذ - دام ظله - بحث المجمل والمبين لعدم أهميته. ( منه عفي عنه ).

الفهرس

النواهي

والكلام في جهات

الجهة الأولى : في مفاد صيغة النهي... 5

الجهة الثانية : في ان متعلق الطلب في النهي هل هو الترك أو عدم الفعل... 7

الجهة الثالثة : في كيفية امتثال النهي... 8

الجهة الرابعة : في استمرار النهي عند المخالفة وعدمه... 13

اجتماع الأمر والنهي : والكلام في جهات

الجهة الأولى : في عنوان البحث... 17

الجهة الثانية : في بيان المراد بالواحد... 19

الجهة الثالثة : في الفرق بين هذه المسألة ومسألة استلزام النهي الفساد... 20

الجهة الرابعة : في ان المسألة أصولية أم لا... 21

الجهة الخامسة : في كون المسألة عقلية... 22

الجهة السادسة : جريان النزاع في جميع أنواع الأمر والنهي... 22

الجهة السابعة : في أخذ قيد المندوحة... 24

الجهة الثامنة : في عدم ارتباط المسألة بمسألة تعلق الأحكام بالطبائع... 26

الجهة التاسعة : فيما يرتبط بملاك باب الاجتماع... 28

التزاحم

كلام المحقق النائيني رحمه اللّه في ضابط التزاحم... 31

الإيراد على كلام النائيني... 34

ص: 473

اختصاص التزاحم بصورة توارد الحكمين على موضوعين أو عدمه... 38

تقسيم المحقق النائيني للتزاحم من جهة عدم القدرة ومن غيرها... 40

إيراد السيد الخوئي على المحقق النائيني والردّ عليه... 41

مرجحات باب التزاحم

المرجح الأول : تقديم ما ليس له البدل على ما له البدل... 45

المرجح الثاني : تقديم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية... 51

المرجح الثالث : تقديم أسبق زمانا... 52

مسألة تزاحم النذر والحج... 60

في تزاحم الحكمين المشروطين بالقدرة عقلا... 65

في تقديم محتمل الأهمية وعدمه... 68

تنبيه : في صحة تقسيم المحقق النائيني للحكمين المتزاحمين... 71

بيان المختار في ضابط التزاحم... 74

توضيح كلام الكفاية في الأمر العاشر... 75

إيراد المحقق النائيني على الكفاية... 77

كلام الكفاية في امتناع اجتماع الأمر والنهي... 80

فيما يتعلق بكلام الكفاية في المقام... 81

تعدد العنوان هل يقتضي تعدد جهات الصدق... 90

الوجود الواحد إذا كان له جهتان هل يمكن ان يكون بإحداها متعلقا للأمر والآخر للنهي 99

كلام المحقق العراقي في المقام وبيان الإشكال فيه... 103

الصلاة في الدار المغصوبة وكلام المحقق النائيني فيها... 106

كلام المحققين الأصفهاني والعراقي في المقام والمناقشة فيه... 106

تفصيلات ذكرها المحقق الخراسانيّ

التفصيل الأول : ابتناء القول بالجواز على الالتزام بتعلق الأحكام بالطبائع... 111

التفصيل الثاني : ابتناء القول بالجواز على الالتزام باتحاد الجنس والفصل... 112

التفصيل الثالث : التفصيل بين القول بأصالة الماهية والوجود... 113

التفصيل الرابع : ابتناء القول بالجواز على كون الفرد مقدمة للطبيعي... 113

ص: 474

تنبيهات المسألة

التنبيه الأول : في العبادات المكروهة... 117

كلام المحقق النائيني في تصحيح القسم الأول... 123

عدم تمامية ما أفاده المحقق النائيني في المقام... 124

كلام الكفاية في القسم الثاني... 127

كلام المحقق النائيني في المقام وبيان الإيراد عليه... 128

بيان المختار في تصحيح القسم الثاني... 131

كلام الكفاية في القسم الثالث... 132

في التفصيل بين العقل والعرف في الجواز والامتناع... 134

التنبيه الثاني : الاضطرار إلى الحرام... 134

كلام الكفاية والتساؤل فيه... 134

كلام المحقق النائيني في المقام... 135

إيراد السيد الخوئي وبيان الإيراد عليه... 137

التوسط في الأرض المغصوبة... 140

كلام الشيخ في المقام... 140

إيراد الكفاية على الشيخ... 141

بيان مراد الشيخ... 142

بيان موضوع البحث وما هو المختار... 143

كلام المحقق النائيني في قاعدة الامتناع وموردها... 148

بيان ما يرد على المحقق النائيني في المقام... 149

إيضاح مطلب الكفاية في دفع القول بان الخروج مأمور به ومنهي عنه... 151

إيضاح مطلب الكفاية في مقام بيان ان الخروج يقع مبغوضا وعصيانا للنهي السابق... 153

ثمرة المسألة

تفصيل المحقق النائيني بالحكم بالبطلان في صورة العلم بالحرمة بناء على الجواز... 157

بيان المناقشة في كلام النائيني وبيان المختار في المسألة... 159

ص: 475

تفصيل الكفاية بالحكم بالصحّة في صورة الجهل أو النسيان بالحرمة بناء على الامتناع... 161

حكم الصلاة في الأرض المغصوبة اضطرارا... 164

اقتضاء النهي الفساد

بيان موضوع البحث... 166

كلام الكفاية في المقام وإيضاحه... 166

بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجتماع... 166

هل المسألة لفظية أم لا... 166

بيان المراد من النهي... 167

تعيين المراد من العبادة والمعاملة... 168

تفسير وصفي الصحة والفساد... 170

هل الصحة من الأمور المجعولة أم لا... 171

كلام الكفاية في المقام وما قد يرد عليه... 171

كلام المحقق النائيني في المقام وبيان الإيراد عليه... 177

تحقيق حال الأصل عند الشك... 181

صور النهي في العبادة... 184

تقسيم الكفاية في تعلق النهي بالعبادة... 184

جهات البحث في كلام الكفاية... 185

النهي عن العبادة... 191

إمكان تعلق الحرمة الذاتيّة بالعبادة وكلام الكفاية في المقام... 191

النهي عن المعاملة وتحديد محل الكلام... 195

الأقوال في المسألة... 197

توجيه المحقق النائيني للقول الأول... 200

مناقشة مع المحقق النائيني في المقام... 201

كلام أبي حنيفة وأبي الشيباني... 203

ما يرد على الكفاية في موافقته للقول الثاني... 204

ص: 476

المفاهيم

تعريف المفهوم وان البحث عن ثبوت المفهوم لا حجيته... 209

مفهوم الشرط

بيان معنى التعليق والترتيب واللزوم... 213

مفاد الجملة الشرطية من الربط... 214

تحديد موضوع البحث وكلام المحقق العراقي... 217

مناقشة مع المحقق العراقي... 219

بيان المراد بالسنخ... 220

كلام للمحقق الأصفهاني في المقام والمناقشة فيه... 222

ثبوت العلية المنحصرة للشرط بالتبادر... 223

ثبوت العلية المنحصرة بالانصراف... 223

ثبوت العلية المنحصرة بمقتضى الإطلاق ( الوجه الأول )... 227

الوجه الثاني : التمسك بإطلاق الشرط... 232

الوجه الثالث : التمسك بإطلاق الشرط في نفي البدل والعدل... 233

كلام المحقق النائيني في المقام والمناقشة فيه... 233

تحقيق الحال في القضايا الشرطية... 236

تنبيهات مفهوم الشرط

التنبيه الأول : ثبوت المفهوم عند انتفاء سنخ الحكم... 238

التنبيه الثاني : اتساع دائرة المفهوم عند تعدد الشرط... 242

التنبيه الثالث : تعدد الشرط واتحاد الجزاء... 247

التنبيه الرابع : تداخل الأسباب والمسببات... 251

كلام المحقق النائيني في عدم التداخل في الأسباب والمناقشة فيه... 253

خروج المورد غير القابل للتعدد عن محل الكلام... 257

وجه التداخل في باب الوضوء... 258

تحقيق صغرى البحث... 260

ص: 477

التفصيل بين الأسباب الشرعية... 261

تداخل المسببات والبحث فيه في مقامين... 265

مفهوم الوصف

وجوه الاستدلال على مفهوم الوصف ومناقشتها... 273

تحديد محل البحث... 277

مفهوم الغاية

والكلام في جهتين

الجهة الأولى : ثبوت المفهوم للغاية... 281

الجهة الثانية : هل الغاية داخلة في المغيا أم لا... 284

مفهوم الاستثناء - الحصر

حجة أبي حنيفة في إنكار مفهوم الاستثناء والجواب عنه... 288

دلالة الاستثناء على الحكم هل هي بالمفهوم أو بالمنطوق... 289

مفهوم اللقب والعدد

تمام الكلام فيهما... 291

العام والخاصّ

تعريف العام... 295

أقسام العموم... 296

صيغ العموم... 299

حجية العام المخصص في الباقي ( كلام الكفاية )... 305

إيراد المحقق الأصفهاني على الكفاية في المقام... 306

ما يندفع به أصل الإشكال... 308

كلام التقريرات ومناقشة الكفاية فيه... 310

توجيه المحقق النائيني لكلام التقريرات والمناقشة فيه... 311

أمور ينبغي التنبيه عليها... 313

إجمال المخصص مفهوما... 315

دوران الأمر بين الأقل والأكثر... 317

ص: 478

مناقشة مع المحقق النائيني فيما أفاده في المقام... 319

الشبهة المصداقية والكلام في مقامين... 321

المقام الأول : المخصص اللفظي... 322

المقام الثاني : المخصص اللبي... 335

نفي فردية المشكوك للخاص بأصالة العموم... 337

جريان الأصل في العدم الأزلي... 343

كلام المحقق النائيني والمناقشة فيه... 345

كلام المحقق الأصفهاني والمناقشة فيه... 348

كلام المحقق النائيني في المقدمة الثانية... 350

إيراد السيد الخوئي على المحقق النائيني والمناقشة فيه... 351

التحقيق في منع جريان الأصل في العدم الأزلي... 356

توضيح عبارات الكفاية في المقام... 362

تفصيل المحقق العراقي في جريان الأصل في العدم الأزلي والمناقشة فيه... 363

فصل : في التمسك بالعامّ مع الشك في فرد من غير جهة احتمال التخصيص... 366

فصل : في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص... 368

فصل : في الخطابات الشفاهية... 371

فصل : في تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده... 375

فصل : في جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة ... 381

فصل : فيما إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة... 389

فصل : في جواز تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد... 394

فصل : في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص... 397

المطلق والمقيد

تعريف المطلق... 407

ألفاظ المطلق : الأول : اسم الجنس... 407

الثاني : علم الجنس... 411

الثالث : المفرد المعرف باللام... 414

ص: 479

الرابع : النكرة... 418

مقدمات الحكمة... 427

عدم مانعية القدر المتيقن في التمسك بالإطلاق... 429

التزام المحقق النائيني بثلاثية المقدمات والمناقشة فيه... 431

مجرى المقدمات الحكمة هل هو المراد الاستعمالي أو الجدي... 434

فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام البيان... 442

الانصراف... 446

فصل : في المطلق والمقيد المتنافيين... 448

كلام المحقق النائيني في تقديم القرينة والمناقشة فيه... 449

التزام المحقق النائيني في تقديم المقيد للقرينية واستفادة وحدة التكليف من نفس الدليلين والمناقشة فيه 454

كلام الكفاية في وجه حمل المطلق على المقيد والمناقشة فيه... 459

تحقيق الحال في حمل المطلق والمقيد... 460

صورة اختلاف نفس الحكمين بالإطلاق والتقييد... 465

صورة ما إذا كان الدليلان يتكفلان حكمين ندبيين... 467

تذييل : في كلام الكفاية في اختلاف مقدمات الحكمة بحسب اختلاف المقامات والمناقشة فيه 469

الفهرس ... 473

ص: 480

المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1414 ه-.ق

الصفحات: 559

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء الرابع

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 4

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

تمهيد

جرت عادة المتأخرين على ذكر تقسيم يشير إلى موضوعات الأبحاث الآتية ، وأصول الأبواب التي سيقع الكلام فيها. واختلفوا في كيفية التقسيم إلى وجوه :

التقسيم الأول : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في الرسائل من تقسيم حالات المكلف إلى القطع والظن والشك (1).

وقد أورد عليه بوجوه :

أولها : ان المراد بالظن ما يعم الظن النوعيّ والشخصي لا خصوص الظن الشخصي ، إذ التعبد بالأمارات كما سيأتي من باب الظن النوعيّ. وعليه فلا مقابلة بين الظن والشك لاجتماع الظن النوعيّ مع الشك كما لا يخفى.

ثانيها : ان الشك ليس موضوعا للأحكام بعنوان ، بل الموضوع هو مطلق عدم العلم بالحكم والجهل به ولو كان ظنا - إذا لم يقم على اعتباره دليل - أو وهما.

ثالثها : ما ذكره في الكفاية من لزوم تداخل الأقسام (2). ويمكن ان يكون نظره إلى تداخلها بحسب المورد ، فقد يكون المكلف شاكا بالحكم ولكن قام لديه

ص: 5


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /2- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /258- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

دليل معتبر فلا يجري في حقه الأصل. كما انه لو كان ظانا بالحكم بظن غير معتبر كان موضوعا للأصل ، فيلزم ان يكون بعض موارد الظن محكوما بحكم الشك وبعض موارد الشك محكوما بحكم الظن. وإذا كان نظره إلى لزوم التداخل في المصداق - كما أشار إليه المحقق العراقي (1) - لم يرد عليه إشكال المحقق الأصفهاني بان هذا المعنى ليس من التداخل في شيء باعتبار ان الحجية - في بعض موارد الشك - لا تثبت للشك بعنوانه ، كما ان الأصل - في بعض موارد الظن - لا يثبت للظن بعنوانه (2). فالتفت.

وقد حاول المحقق العراقي تصحيح تقسيم الشيخ رحمه اللّه إلى هذه الأقسام الثلاثة ، بدعوى : ان تثليث الأقسام انما هو بلحاظ ما للاقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للحجية من حيث الوجوب والإمكان والامتناع ، إذ القطع بلحاظ كاشفيته التامة مما تجب حجيته عقلا ، والظن بلحاظ كاشفيته الناقصة مما يمكن حجيته ، والشك بلحاظ تردده بين محتملين يمتنع جعل الطريقية والحجية له ، لأنه مستلزم لجعل الطريق إلى المتناقضين وهو محال. فالتثليث انما هو للإشارة إلى الاختلاف من هذه الجهة ووقوع البحث فيها. واستشهد على ذلك بما ذكره الشيخ في أول البراءة (3).

ولكن هذه المحاولة فاشلة ، وذلك لأن البحث في إمكان جعل الحجية للظن ، تارة : يكون من جهة قابليته في نفسه وبلحاظ ذاته في قبال قسيميه ، وهو ما يشار إليه إجمالا ولا يوقع البحث فيه مفصلا ، بل يكتفي في بيانه بقليل الألفاظ كما بينه الشيخ رحمه اللّه في أول مباحث البراءة (4). وأخرى : يكون

ص: 6


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 5 - من القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 3 - الطبعة الأولى.
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 4 - من القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /190- الطبعة الأولى.

من جهة إشكال ابن قبة التي وقع البحث فيها مفصلا أخيرا ، ويصطلح عليها ب- « بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري » ، وهي غير مختصة بالظن وان وقع البحث فيها في أول مباحثه.

فان كان نظر المحقق العراقي إلى ان نظر الشيخ في التثليث إلى البحث عن إمكان حجية الظن من الجهة الأولى ، فقد عرفت انه بحث جزئي جدا ، فلا يناسب تقسيم الحالات في صدر الكتاب للإشارة إليه وهو واضح جدا. وان كان نظره إلى البحث من الجهة الثانية ، فهو وان كان بحثا مهما مفصلا لكنه ليس إلاّ بحثا واحدا من مباحث الكتاب ، كما انه ليس بحثا أصوليا ، بل هو بحث عن مبادئ المسألة الأصولية كما لا يخفى. فتقسيم الحالات في صدر الكتاب للإشارة إليه ليس كما ينبغي. هذا مع عدم اختصاص البحث في الظن ، بل يعم الشك الّذي يكون موضوعا لحكم ظاهري ، فالمقابلة في غير محلها.

والّذي يظهر من أجود التقريرات ، توجيه تقسيم الشيخ بعين ما وجهه المحقق العراقي (1).

كما يحتمل أن يكون نظره إلى بيان أن التقسيم الثلاثي باعتبار اختلاف الأقسام في الآثار.

والإشكال عليه واضح جدا إذ اختلاف الأقسام بعناوينها في الآثار هو محل الكلام ، وعدمه أساس الإشكال على الشيخ ، فكيف يدفع الإيراد على الشيخ بذلك؟ فالتفت.

التقسيم الثاني : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية أولا من : ان المكلف إذا التفت إلى حكم فعلي ظاهري أو واقعي فاما ان يحصل له القطع أو لا يحصل والثاني موضوع لحكم العقل من اتباع الظن - لو تم دليل الانسداد على الحكومة -

ص: 7


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 3 - الطبعة الأولى.

أو الرجوع إلى الأصول العملية.

وقد ذكر قدس سره في وجه العدول عن تثليث الأقسام كما ذكره الشيخ ، والالتزام بالتقسيم الثنائي ، ان أثر القطع يترتب عليه سواء تعلق بحكم واقعي أو ظاهري ، ولا تختص آثاره بما إذا تعلق بحكم واقعي (1). وإذا فرض تعميم متعلق القطع - لعدم اختصاص آثاره - دخلت موارد الأمارات والأصول الشرعية في عنوان القطع بالحكم ، فلا يتجه التثليث حينئذ.

ولا يخفى انه بهذا التقسيم يشير إجمالا إلى مباحث الكتاب ، فلا يرد عليه بأنه يمكن جعل القسم واحدا ، فيقال : ان المكلف إذا التفت إلى الحكم فلا بد من حصول الحجة على عمله ، إذ ليس في هذا العنوان إشارة ولو إجمالية إلى مباحث الكتاب ، والمفروض ان المقصود بالتقسيم ذلك.

ولكن يرد عليه - ما أشار إليه المحققان العراقي والأصفهاني - من انه ليس تقسيما للمباحث الأصولية الواردة في الكتاب ، إذ البحث يكون عن حجية الخبر مثلا أو ثبوت الاستصحاب ونحو ذلك ، وهذا مما يؤدي في صورة إعمال الاستنباط لليقين بالحكم الشرعي ، فاليقين بالحكم مما يترتب أحيانا على المباحث الأصولية.

وعليه ، فليس التقسيم تقسيما للمباحث المحررة ، بل تقسيما بلحاظ ما يترتب عليها أحيانا ، وهو خروج عن المفروض من كون الملحوظ في التقسيم ان تكون الأقسام عناوين إجمالية لأبحاث الكتاب (2).

التقسيم الثالث : ما ذكره قدس سره أيضا أخيرا وهو تقسيم المكلف إلى القاطع بالحكم ومن قام لديه الطريق المعتبر ومن لم يقم لديه الطريق المعتبر ،

ص: 8


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /257- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 5 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 3 - الطبعة الأولى.

والأخير موضوع الأصول الشرعية والعقلية. وقد ذكر هذا التقسيم تنزلا عن تقسيمه الأول وتمشيا مع دعوى ضرورة الإشارة التفصيلية إلى كل موضوع من الموضوعات الثلاثة ، كما يشير إليه قوله : « وان أبيت إلى ... » (1).

وانما نهج هذا النهج في التقسيم ، فرارا عن محذور التداخل الثابت في تقسيم الشيخ الثلاثي. كما انه لا يرد عليه غيره مما تقدم وروده على الشيخ كما هو واضح جدا.

ولكن يرد عليه : ان هذا التقسيم يتناسب مع فهرست الكتاب الّذي يذكر في ذيله للإشارة إلى مطالب الكتاب ، ولا يتناسب مع كونه تقسيما مذكورا للإشارة إلى ما سيقع فيه البحث ، وذلك لأن المبحوث عنه فيما يأتي هو اعتبار الأمارة وحجيتها ، فموضوع البحث ذات الأمارة لا الأمارة المعتبرة ، فقد أخذ الحكم في الموضوع في تقسيمه قدس سره وهو غير سديد. وقد ذكر المحقق الأصفهاني هذا الإشكال (2).

التقسيم الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، وهو تقسيم المكلف إلى من قام لديه طريق تام ، ومن قام لديه طريق ناقص لوحظ ، لا بشرط من حيث الاعتبار وعدمه ، ومن لم يقم لديه طريق ناقص كذلك أعم من عدم قيام طريق لديه أصلا ومن قيام طريق بشرط عدم الاعتبار. فالأوّل موضوع مباحث القطع ، والثاني إشارة إلى مباحث الأمارات. والثالث إشارة إلى مباحث الأصول لأن موضوعها من لم يقم لديه طريق ناقص لا بشرط (3).

وهذا التقسيم يسلم عما يرد على تقسيم الكفاية الثلاثي ، لعدم أخذه الحكم في الموضوع ، كما انه يسلم عما يرد على الشيخ أولا وثانيا ، إذ لم يجعل

ص: 9


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /257- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 3 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3. 3 - الطبعة الأولى.

المقابلة بين الشك والظن ، كما لم يأخذ الشك موضوع الحكم ، ولكن لا يسلم عما يرد عليه من استلزامه التداخل ، ولكنه من إحدى الناحيتين فانه وان لم يرد عليه لزوم دخول ما أخذ موردا للأصل في موضوع الحجية ، لأن ما أخذه موردا للأصل من لم يقم لديه طريق لا بشرط ، وهو لا يكون بوجه موضوعا للحجية والطريقية ، ولكن ما أخذه موضوعا للبحث في الأمارة يكون موضوعا للأصل في بعض افراده ، فان الطريق إذا لم يقم دليل على اعتباره كان مورده من موارد الأصول ، مع انه يصدق قيام الطريق لا بشرط من حيث الاعتبار وعدمه. فتدبر.

فيتحصل : انه لا تمامية لما ذكر من التقسيمات بل هي مخدوشة بأجمعها ، وان كان ما ذكره الأصفهاني أخف محذورا.

والأمر سهل ، إذ لا يترتب على صحة تقسيم منها أو غيره أي أثر عملي في مقام الاستنباط وهذا هو الّذي يهون الخطب.

ثم انه قد أورد على تقسيم الشيخ : بان المراد من الحكم اما ان يكون هو الحكم الفعلي أو الإنشائيّ.

فان كان هو الحكم الفعلي لم يكن وجه لأخذ الظن أو الشك به موضوعا للبحث ، إذ البحث في موارد الظن والشك في جعل حكم شرعي فعلي ظاهري ، ويمتنع ان يكون الظن أو الشك بالحكم الفعلي موضوعا لحكم فعلي آخر ، لاستلزامه الظن باجتماع الحكمين الفعليين أو الشك به ، وهو محال لمحالية اجتماعهما فيستحيل الظن به.

وان أريد من الحكم هو الحكم الإنشائي ، فيتوجه عليه بان آثار القطع انما تترتب عليه إذا تعلق بحكم فعلي دون غيره.

والتفكيك بين متعلق القطع ومتعلق الظن والشك لا معنى له بعد ان كان الترديد بلحاظ الالتفات إلى حكم واحد.

ص: 10

وقد ذكر ان هذا سبب أيضا لعدول صاحب الكفاية إلى تثنية الأقسام (1).

ولكن يندفع هذا الإيراد بما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من بيان عدم امتناع ثبوت الحكم الفعلي الظاهري في مورد الظن بالحكم الفعلي الواقعي أو الشك به في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري (2).

ثم ان هذا الإيراد لا يصلح سببا للعدول إلى تثنية الأقسام ، إذ بعد تعميم متعلق القطع إلى الحكم الواقعي والظاهري لا بد وان تكون الأقسام ثنائية حتى إذا لم يؤخذ الحكم بالمرتبة الفعلية ، ولو كان سببا للعدول للزم من عدمه تثليث الأقسام ، فالسبب للعدول إلى التثنية هو ما ذكره أولا من تعميم متعلق القطع للحكم الواقعي والظاهري.

هذا كله في ما يرتبط بعدد الأقسام وكيفية التقسيم.

وقد وقع البحث في أمر آخر في التقسيم ، وهو ان المراد من المكلف الّذي أخذ في موضوعه ، هل هو خصوص المجتهد أو ما يعم المجتهد والعامي.

وقد ذكر لتخصيصه بالمجتهد وجوه ثلاثة :

الأول : ان غير المجتهد لا يحصل لديه القطع والظن والشك لغفلته ، وحصولها يتفرع على الالتفات إلى الحكم بالبداهة.

الثاني : ان حجية الأمارات والأصول متوقفة على عدم المعارض والفحص عنه ، وهذا من شأن المجتهد لا المقلد ، إذ لا قدرة له على الفحص عن معارض الخبر - مثلا - والجزم بعدمه.

الثالث : ان موضوع حجية الأمارة أو الأصل لا يعم المقلد ابتداء ، لأن من جاءه النبأ أو الخبران المتعارضان أو من كان على يقين فشك هو المجتهد

ص: 11


1- حاشية المشكيني في ذيل قول الماتن : « ولذلك عدلنا ... ». كفاية الأصول1/ 6 - الطبعة المحشاة بحاشية المشكيني.
2- راجع 4 / 178 - 179 من هذا الجزء.

لا المقلد.

والوجهان الأولان ذكرهما المحقق العراقي (1) ، والأخير ذكره المحقق الأصفهاني (2).

وجميع هذه الوجوه مردودة.

اما الأول : فلوضوح تحقق القطع بالواقع لغير المجتهد بالمقدار الّذي يتحقق للمجتهد - لو لم يكن بأكثر - كالضروريات الدينية من وجوب الصلاة وعدد ركعاتها وبعض خصوصياتها الأخرى ، وجوب الصوم والحج وغير ذلك.

كما انه عند التفاته إلى الحكم يحصل له الشك غالبا والتردد في أحد طرفيه ، ومنع حصول الالتفات لديه ممنوع بالبداهة.

وهكذا يحصل له الظن ، شخصيا كان أو نوعيا ، إذ قد يعلم بورود خبر في حكم خاص ، كما قد يترجح لديه أحد احتمالي الحكم ثبوتا أو عدما.

وبالجملة : فمنع حصول الصفات الثلاث بالنسبة إليه مجازفة في الدعوى.

واما الثاني : فلإمكان اعتماده في مقام الفحص على المجتهد ، ولا يبتني الأخذ بقوله على حجيته في الموارد التي لا تحتاج معرفة المعارض وعدمه على إعمال النّظر والاستنباط ، بل يكفي حصول الاطمئنان بكلامه أو حجية قوله من باب حجية الخبر ، فهو نظير من يترجم لغيره كلاما بالفارسية موجها إليه فيخبره بأنه قال كذا ولم يذكر معارضا له في الكلام ، فانه لا يرتبط بحجية الفتوى أصلا.

ومعه لا حاجة إلى الالتزام في مقام رد الوجه الثاني ، بان المجتهد يقوم مقامه في الفحص - بمقتضى أدلة الإفتاء والاستفتاء - ، إذ عرفت ان من الموارد ما لا يحتاج الفحص فيها إلى إعمال النّظر.

ص: 12


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 2 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 2 - الطبعة الأولى.

واما الثالث : فلعموم آية النبأ ، ولا اختصاص لها بالمجتهد ، ودعوى : ان من جاءه النبأ هو المجتهد ، لا شاهد لها ، مع ان أدلة الخبر لا تختص بآية النبأ ، كيف؟ ودلالتها غير مسلمة ، بل العمدة هي سيرة العقلاء على حجية الخبر ، وعدم اختصاصها بالمجتهد واضح. بل ظاهر الخبر الّذي يحكي السؤال عن وثاقة يونس بن عبد الرحمن لأجل أخذ معالم الدين منه هو تعميم الحجية لغير المجتهد ، لظهور السؤال في كون السائل عاميا ، ولذا استدل به على حجية الفتوى. وهكذا الحال فيمن جاءه الخبران المتعارضان ، فانه لا وجه لتخصيصه بالمجتهد. كما لا وجه لتخصيص موضوع الاستصحاب به ، لإمكان حصول اليقين السابق والشك اللاحق لغيره بالنسبة إلى الحكم الكلي.

وبالجملة : لا وجه لدعوى اختصاص دليل الخبر ونحوه بالمجتهد ، سواء كان بلحاظ الحكم الأصولي وهو الحكم بحجية الخبر أو الحكم الفرعي وهو الحكم الّذي يتكفله الخبر ، بل الحكم الأصولي والفرعي يعم المجتهد والمقلد.

ويتحصل : انه لا وجه لتخصيص المكلف في موضوع التقسيم بالمجتهد ، بل هو أعم منه ومن غيره.

ثم انه لا ظهور لقول صاحب الكفاية : « ان البالغ الّذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعل واقعي أو ظاهري متعلق به أو بمقلديه » (1) في أخذه خصوص المجتهد في موضوع التقسيم ، بل يمكن ان يكون نظره إلى تعميم الآثار - في حالات المجتهد - بالنسبة إلى نفسه وإلى مقلديه لا ان الموضوع هو خصوص المجتهد. إذ قد يشكل في ثبوت الآثار لقطع المجتهد من جهتين :

إحداهما : ان بعض الأحكام التي يلتفت إليها المجتهد موضوعها غير المجتهد ، فلا علم له بالحكم الفعلي بالنسبة إليه كأحكام الحيض بالنسبة إلى

ص: 13


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /257- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المجتهد الرّجل.

ثانيتهما : ان بعض الأحكام وان كانت شاملة للمجتهد بحسب موضوعها ، لكن ليست محل ابتلائه فعلا ، فلا يتصور في حقه العمل كي يصح التعبد في حقه ، إذ التعبد بلحاظ الجري العملي.

ويجمع هاتين الجهتين عدم كون الحكم الملتفت إليه فعليا بالنسبة إليه.

فنظر صاحب الكفاية إلى ان الحكم الّذي يلتفت إليه المجتهد ، لا يلزم ان يكون متعلقا به ، بل أعم مما يكون متعلقا به أو بمقلديه. فهو ناظر إلى تعميم الأثر في حالة المجتهد ، ولا دليل على كون نظره إلى تخصيص الموضوع بالمجتهد.

وتحقيق الحال في ذلك : ان ما ذكره من الإشكال يرجع إلى دعوى اختصاص آثار القطع بما إذا كان الحكم متعلقا بنفس القاطع - مجتهدا كان أو مقلدا - ، إذ الحكم المتعلق بغيره ليس فعليا بالنسبة إليه ، فلا يتصور فيه التعبد ، فمن لم تقم عنده الأمارة لا معنى لإلزامه بمضمونها وتعبده به.

وعليه ، فلا معنى لتعميم الحكم إلى حكم المجتهد والمقلد لتخلفه في بعض الحالات ، وهي ما إذا كان الحكم مختصا بالمقلد فلا ينفع قيام الأمارة أو الأصل لدى المجتهد.

وعليه ، ان من قامت عنده الأمارة هو المجتهد دون المقلد. والمفروض ان المجتهد لا علاقة له بالحكم الّذي أدت إليه الأمارة ، فلا يتصور في حقه التعبد ، لعدم الأثر العملي بالنسبة إليه. كما ان من يتصور في حقه التعبد وهو المقلد لعلاقته بالحكم لم تقم لديه الأمارة.

وهكذا الحال في الاستصحاب ، فنقول : ان من كان على يقين فشك هو المجتهد ولكن لا أثر للتعبد في حقه ، لعدم علاقة الحكم به ، ومن يتصور في حقه التعبد وهو المقلد لم يكن على يقين فشك.

ص: 14

وعليه ، فجعل موضوع البحث مطلق من كان قاطعا بالحكم ولو لم يكن له أثر عملي بالنسبة إليه ليس كما ينبغي ، بل لا بد من ان يقيد متعلق القطع وغيره بما إذا كان ذا أثر عملي بالنسبة إلى المكلف نفسه.

وقد أجيب عن هذا الإشكال : بان مقتضى أدلة الإفتاء والاستفتاء تنزيل المجتهد منزلة المقلد ، فقيام الأمارة عند المجتهد قيام لها عند المقلد ، ويقين المجتهد وشكه بمنزلة يقين المقلد وشكه ، وإلاّ لكان الحكم بجواز الإفتاء والاستفتاء لغوا (1).

والإنصاف : ان الإشكال المزبور أجنبي عما نحن فيه ، بل هو يرتبط بمقام آخر ، فان ما نحن فيه هو تقسيم حالات المكلف بلحاظ الأبحاث الأصولية الآتية ، ومن الواضح ان ما يبحث فيه في باب الخبر هو أصل حجيته واعتباره بنحو القضية الحقيقية ، وهكذا البحث في الاستصحاب ، فانه يقع عن حجية الاستصحاب للموضوع الخاصّ. اما تعيين موارد صحة التعبد وتحقق الموضوع ، فليس يرتبط بأبحاث الأصول بل هو مرتبط بالبحث الفقهي.

اذن فما ذكر من الإشكال لا ينفي البحث عن حجية الخبر والاستصحاب وغيرهما بنحو مطلق ، لأنه يرتبط بمقام البحث عن أن الخبر أو الاستصحاب في حق هذا الشخص هل هو حجة أو لا ، باعتبار انه ليس بذي أثر عملي ، وهذا أجنبي عن البحث الأصولي ، إذ البحث الأصولي كما عرفت في حجية الاستصحاب ، يشترط فيه بنحو كلي ثبوت الأثر العملي ، اما ان هذا المورد من موارده أو لا فليس من شأن الأصول.

فما ذكره من الإشكال يرتبط بمقام آخر وهو مقام بيان ان المجتهد ، موضوع للأمارة أو الأصل المتكفلين لحكم غيره أو لا؟ وهذا ليس محلا للبحث

ص: 15


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 2 - الطبعة الأولى.

هاهنا.

والتحقيق في دفع هذا الإشكال عن ذلك المقام أيضا ان يقال : ان المجعول في باب الأمارات تارة : يكون هو الحكم الظاهري المماثل للواقع. وأخرى : يكون هو الحجية على اختلاف في المراد منها. فقيل : انه الطريقية. وقيل : انه المنجزية والمعذرية. وقيل : انه مفهوم الحجية نفسه.

فإذا قلنا بان المجعول هو الحكم الظاهري في حق من لا يعلم بالحكم الواقعي ، فقيام الخبر عند المجتهد على حكم الحائض غير العالمة بحكمها ، بضميمة دليل اعتباره الراجع إلى بيانه جعل مؤداه حكما ظاهرا ، يوجب حصول اليقين الوجداني للمجتهد بالحكم الظاهري الثابت في حق الحائض ، وليس في هذا أي محذور ، إذ لا محذور في حصول اليقين لشخص بحكم شخص آخر ، إذ ليس من التعبد في شيء كي يدعى استحالته لمن لم يكن له علاقة بالحكم عملا.

وإذا فرض ان يقين المجتهد المزبور حجة على الحائض بدليل التقليد ، جاز متابعته في يقينه.

واما إذا قلنا بان المجعول هو الحجية بأي معنى أريد منها ، فقد يشكل بان الحجية تتقوم بالوصول ، ولذا قيل : ان الشك فيها ملازم للقطع بعدمها. وعليه فهي غير مجعولة فعلا في حق الحائض ، لعدم وصول الخبر وحجيته إليها ، فلا يتحقق اليقين للمجتهد بحكمها. كما ان الحجية غير مجعولة في حقه لعدم ارتباط العمل به.

ولكن يندفع : بأنه وان سلم ما ادعي من ان الحجية متقومة بالوصول - إذ هو في نفسه محل إشكال كما سيأتي تحقيقه إن شاء اللّه تعالى -. لكن الكل يلتزم بان هناك أمرا مجعولا في حد نفسه له ثبوت واقعي ووصوله يستلزم فعليته ، إذ يستحيل تعليق جعل الحجية على وصولها للزوم الخلف أو الدور ، كأخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم. وعليه يكون حال الحجية حال الحكم الظاهري ،

ص: 16

فيتعلق بها اليقين وان لم تصر فعلية في حق المتيقن والمقلد ، لعدم وصوله للمقلد ، وعدم الأثر للفعلية بالنسبة إلى المجتهد فيجري الكلام السابق الجاري على القول بجعل الحكم الظاهري ، بالنسبة إلى هذا

الاحتمال أيضا ، فقيام الخبر لدى المجتهد ، بضميمة دليل اعتباره ، يوجب له العلم بحكم مقلده المجعول في حقه وان لم يكن فعليا في حق المقلد لعدم وصوله ، لكنه يصير فعليا بعد اخبار المجتهد به لحجية يقينه في حق مقلده فيكون قوله وصولا للحجية الإنشائية.

وقد عرفت ان تحقق العلم بحكم الغير لا محذور فيه.

والمتحصل : انه لا مورد للإشكال المزبور في موارد الأمارات ، لأن ما يحصل لدى المجتهد أمر واقعي وهو اليقين بحكم مقلده الثابت له في ظرف عدم العلم بالواقع ، لا أثر تعبدي كي يدعى أنه ليس موضوع التعبد لعدم الأثر العملي بالنسبة إليه.

ومنه ظهر انه لا حاجة في مقام دفع الإشكال إلى دعوى ان المجتهد - بمقتضى أدلة الفتوى - بمنزلة المقلد ، فقيام الخبر لديه قيام لدى المقلد ، لعدم وصول النوبة إليه لاندفاع الإشكال ولو لم يكن المجتهد منزلا منزلة المقلد.

هذا مع ان التنزيل المدعى لا يتلاءم مع دعوى حصر دليل التقليد بدليل الانسداد ، لإنكار جميع أدلته المذكورة له غيره. إذ لا اقتضاء لدليل الانسداد للتنزيل المزبور المستفاد من دلالة الاقتضاء ، وهي أجنبية عن مثل دليل الانسداد العقلي.

وعلى أي حال فقد عرفت خروج موارد الأمارات عن الإشكال المزبور وعدم تأتيه فيها.

واما موارد الاستصحاب ، فقد يتخيل عدم تأتى هذا الحلّ فيها ، بدعوى ان موضوع الحكم الاستصحابي هو اليقين السابق والشك اللاحق لا مطلق عدم العلم. وهو غير متحقق بالنسبة إلى المقلد ، لعدم يقينه السابق بالحكم فلا يتحقق

ص: 17

للمجتهد العلم بحكمه بمقتضى الاستصحاب. لأن يقين المجتهد وشكه لا ينفعان ، ولا يقين ولا شك للمقلد كي يثبت في حقه الحكم الظاهري. وبعبارة أخرى : الحكم الثابت للمقلد الّذي يحاول المجتهد الوصول إليه مقيد موضوعه بما لا يتحقق له في المقلد ، فلا يكون حكما للمقلد لعدم موضوعه. فلا يتحقق للمجتهد علم بحكم المقلد الظاهري الفعلي ، ولذا لا يكون الاستصحاب الجاري في حق شخص إذا حصل له اليقين والشك ، جاريا في حق غيره إذا لم يحصل له اليقين والشك ، ولا تترتب عليه آثاره.

وليس كذلك الحال في الحكم الثابت في باب الأمارة ، إذ لم يؤخذ في موضوعه اليقين السابق كي يدعى انتفاؤه لدى المقلد ، بل لم يؤخذ في موضوعه إلا عدم العلم بالواقع ، وهو متحقق لديه - على الفرض وإلاّ لم يكن مقلدا - فيثبت الحكم الظاهري في حقه ، فيمكن للمجتهد العلم به.

ولكن نقول : انه تارة نلتزم في باب الاستصحاب بما هو صريح صاحب الكفاية وظاهر الشيخ في بعض المواطن - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - من ان اليقين والشك مستعملان في أدلة الاستصحاب بنحو الاستعمال الكنائي من دون مدخلية لهما أصلا. فيراد بهما المتيقن والمشكوك ، ويكون مفاد أدلة الاستصحاب هو اعتبار بقاء الحادث. وبعبارة أخرى : مفادها اعتبار الملازمة بين الحدوث والبقاء وبذلك دفع صاحب الكفاية الإشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الثابتة حدوثا بدليل تعبدي ، من جهة عدم اليقين بالحدوث ، إذ لا يحتاج مع هذا إلى وجود اليقين بالحدوث ، بل ثبوت الحدوث بأي دليل يكفي لإثبات البقاء بعد كون مفاد دليل الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فما يدل على الحدوث يدل على البقاء بالملازمة بعد ضميمة الحكم بالملازمة بمقتضى الاستصحاب.

وبالجملة : تارة نقول بإلغاء صفة اليقين والشك عن الموضوعية بالمرة

ص: 18

بتاتا. وأخرى نلتزم بان لليقين والشك دخالة في ثبوت الحكم الاستصحابي ، أي شيء كان مفاد الاستصحاب - كما سيأتي التنبيه على اختلاف المسالك فيه ان شاء اللّه تعالى -.

فعلى الأول : لا إشكال أيضا ، بل حال الحكم المستصحب حال مؤدّى الأمارة. وذلك لأن أدلة الاستصحاب تفيد الملازمة بين الحدوث والبقاء ، من دون دخل لليقين بالحدوث. فإذا ثبت الحدوث لدى المجتهد ثبت لديه البقاء بمقتضى أدلة الاستصحاب ، فيحصل له اليقين بحكم المقلد الظاهري ، وهو لا محذور فيه كما عرفت ، فلا فرق بين الاستصحاب والأمارة على هذا المبنى.

وعلى الثاني : يكون للإشكال وجه ، لقوام الحكم الاستصحابي باليقين وهو غير حاصل للمقلد فلا يحصل للمجتهد اليقين بحكم المقلد.

ولكن يندفع : بان المجتهد ذو يقين وشك فموضوع الاستصحاب متوفر فيه ، لأنه كان على يقين بان حكم المقلد كان كذا وهو الآن يشك في بقاء حكم المقلد ، غاية الأمر دعوى ان الاستصحاب بالنسبة إليه ليس بذي أثر عملي فلا يصح ، إذ الحكم لا يرتبط به.

وتنحل هذه الدعوى بتصور أثر علمي لإجراء الاستصحاب بالنسبة إلى المجتهد ، وهو موجود ، إذ يترتب على إجراء الاستصحاب وثبوت الحكم ظاهرا به جواز الإفتاء به واسناده إلى المولى ، إذ بدونه يكون إسناده محرما لأنه تشريع وهذا أثر عملي يصحح إجراء الاستصحاب من قبل المجتهد نظير إجراء الاستصحاب في الأمور الموضوعية لترتب آثارها الشرعية ، وإجراء الحاكم الاستصحاب في بقاء ملكية زيد - مثلا - أو غيرها من الأحكام التي تكون موضوع الدعوى مع عدم ارتباطها به عملا أصلا ، لأجل ترتيب جواز الحكم بها لزيد.

وجملة القول : يجوز إجراء المجتهد الاستصحاب لترتيب أثره العملي

ص: 19

الثابت في حق نفسه وهو جواز الإفتاء به لا في حق مقلده ، كي يقال : انه لا يقين له ولا شك فلا حكم استصحابي في حقه ، فيستصحب المجتهد حكم المقلد الّذي كان على يقين منه ويبني على بقائه ليترتب عليه جواز الإفتاء به. وإذا أفتى به المجتهد ، جاز للمقلد بأدلة التقليد الأخذ به.

وخلاصة ما ذكرناه : ان عمدة الإشكال في باب الاستصحاب على المبنى الثاني فيه ، وقد عرفت عدم وصول النوبة في جميع الموارد إلى دعوى كون المجتهد بمنزلة المقلد بمقتضى أدلة التقليد ، كي يشكل الأمر فيما لم نقل بجواز التقليد من طريق الأدلة اللفظية ، بل من طريق دليل الانسداد الّذي هو ظاهر الشيخ قدس سره ، إذ لا مجال لحديث دلالة الاقتضاء في دليل الانسداد فتدبر جيدا.

هذا تمام الكلام فيما يرتبط بالتقسيم ، ويقع الكلام فعلا في كل قسم من الأقسام الثلاثة :

ص: 20

القطع

اشارة

ص: 21

ص: 22

القطع

ويقع الكلام فيه من جهات :

الجهة الأولى : في وجوب اتباع القطع ومنجزيته.

وقد ذكر صاحب الكفاية انه لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ، ولزوم الحركة على طبقه جزما ، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته وعذرا فيما أخطأ قصورا (1).

وكلامه ظاهر في ان للقطع أثرين عقليين. أحدهما : وجوب متابعة القطع ، والآخر : منجزيته بمعنى استحقاق العقاب على مخالفته.

أما الأثر الأول : وهو وجوب متابعة القطع ، فالذي تصدى إلى إطالة الكلام في البحث هذا وتحقيقه بتفصيل وتشريح هو المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، والّذي أفاده قدس سره مما هو مورد الحاجة : هو ان المقصود من وجوب العمل عقلا هو إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة المقطوع ، لا أن هناك بعثا وتحريكا من العقل أو العقلاء نحو المقطوع ، إذ ليس شأن القوة العاقلة الا إدراك الأشياء لا البعث والتحريك.

ص: 23


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /258- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ثم ان تأثير القطع في تنجز التكليف واستحقاق العقاب ليس أمرا ذاتيا قهريا ، بل هو امر جعلي عقلائي وذلك لأن استحقاق العقاب على المخالفة الواصلة ، من باب انها خروج عن زي الرقية والعبودية ، فتكون هتكا للمولى وظلما له ، وليس حسن العدل وقبح الظلم - بمعنى استحقاق المدح والذم عليه - من الأحكام العقلية الواقعية ، بل من الأحكام العقلائية ، وهي ما تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظا للنظام.

ويعبر عن ذلك بالقضايا المشهورة في قبال المدركات العقلية الداخلة في القضايا البرهانية. وقد علل عدم دخول هذا الحكم العقلي في القضايا البرهانية ، بان مواد القضايا البرهانية منحصرة في الضروريات السّت ، وهي الأوليات والحسّيات والفطريات والتجربيات والمتواترات والحدسيّات ، وليس حسن العدل وقبح الظلم من أحدها فيتعين ان يكون داخلا في القضايا المشهورة (1).

وبالجملة : يختار قدس سره ان استحقاق العقاب امر جعلي من قبل العقلاء ، ورتّب على ذلك قابلية هذا الحكم للمنع شرعا كسائر مجعولات العقلاء وبناءاتهم.

ولا يخفى ان هذا له أثر كبير في منجزية العلم الإجمالي وإمكان جعل الأصول في أطرافه ، ولأجل ذلك لا بد من تحقيقه فنقول :

ان ما ذكره من ان الحكم بحسن العدل بمعنى استحقاق المدح عليه والحكم بقبح الظلم بمعنى استحقاق الذم عليه ليس من الأحكام العقلية الداخلة في القضايا البرهانية ، بل من الداخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء وإنظارهم ، فيكون حكما مجعولا لا امرا واقعيا. - ما ذكره بهذا الصدد - غير صحيح ، وذلك لأن المراد من نظر العقلاء ليس إدراكهم وإلا كان

ص: 24


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 5 - الطبعة الأولى.

قبح الظلم امرا واقعيا ، بل المراد من النّظر ما يساوق بناء العقلاء في مقام العمل. وعليه فنقول : ان بناء العقلاء العملي يمتنع ان يكون عن ارتجال ، فان ذلك ينافى مع فرض كونهم عقلاء ، بل لا بد ان ينشأ بناءهم عن امر راجح ، بحيث يكون ما بنوا عليه من مصاديقه أو أسبابه.

وعليه ، فإذا فرض ان بناءهم على قبح الظلم ناش عن امر راجح كحفظ النظام مثلا فننقل الكلام في ذلك الأمر الراجح ، فهل يكون رجحانه وحسنه أمرا عقليا أو عقلائيا؟ فعلى الثاني ، ننقل الكلام فيما دعى إليه ويتساءل عن أنه امر عقلي واقعي أو عقلائي جعلي وهكذا. وعلى الأول ، يلزم ان لا يكون حسن العدل وقبح الظلم أمرا عقلائيا مجعولا ، بل أمرا عقليا واقعيا ، لأنه من مصاديق العنوان الراجح ، فالعدل حفظ النظام وهو حسن والظلم إخلال به وهو قبيح.

ثم انا نرى أن حسن العدل وقبح الظلم ثابت ولو لم يكن مستلزما لإخلال النظام ، فكيف يقال : ان حسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلائية ومما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع؟.

والتحقيق ان يقال : ان النّفس تشتمل على قوى متعددة كالقوة الغضبية والقوة الشهوية ، ولكل من هذه القوى ملائمات ومنافرات بالإضافة إليها وبلحاظها ، فالانتقام مما يلائم القوة الغضبية وينافرها عدم الانتقام. ومن قوى النّفس القوة العقلية ولها ملائمات ومنافرات أيضا. فالنفس تدرك ان هذا الأمر مما يلائم القوة العقلية وذلك ينافرها.

ولا يخفى ان شأن القوة العاقلة تعديل جميع القوى وتنظيمها بحساب العقل ، وعليه فنقول : ان العدل يلائم القوة العقلائية والظلم ينافرها ، فمعنى كون حسن العدل وقبح الظلم امرا عقليا ، ان العدل يلائم القوة العقلية والظلم ينافرها ، فالتحسين والتقبيح يرجعان إلى ملائمة القوة العاقلة ومنافرتها. فكما ان

ص: 25

الانتقام يلائم القوة الغضبية فالعدل يلائم القوة العقلية.

ومما يشهد لذلك : ان نفرة العقل من الظلم ثابتة ولو لم يرتبط بالإنسان أو بالنظام بأي ارتباط ، فمثلا لو سمعنا بان أحدا مثّل بغيره ولم يمت لنا ذلك الغير بصلة ، وكان تمثيله به في مكان بعيد عن الأنظار بحيث لا يوجب الجرأة من الغير ، فلا إشكال في حصول التنفر من هذا العمل بحساب العقل لو كان من دون حق وعدم التنفر منه لو كان بحق.

وبالجملة : الّذي نلتزم به حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم بمعنى ملائمة الأول ومنافرة الثاني للقوة العاقلة.

والتعبير بحكم العقل ، تعبير عرفي على حد التعبير بحكم القوة الغضبية على الإنسان بلحاظ ما للقوة من اقتضاء العمل الملائم. وليس المراد ما قد يظهر من بعض العبارات من ان له بعثا وتحريكا وزجرا كأحكام الشارع. فانه ليس شأن العقل هو البعث والزجر ، بل شأنه إدراك الأشياء.

وإذا ثبت حكم العقل بهذا المعنى بحسن العدل وقبح الظلم ، فهو يحكم بحسن الإطاعة وقبح المعصية من باب ان المعصية ظلم للمولى والإطاعة عدل ، ولكن هذا يثبت مترتبا على ثبوت المولوية والعبودية والإذعان بها ليثبت حق الإطاعة على العبد ، فتكون معصيته ظلما ، ففي أي مورد ثبت ذلك ترتب عليه الحكم العقلي.

ونتيجة ما ذكرناه : يثبت الأثر الأول الّذي ذكره صاحب الكفاية للقطع وهو وجوب متابعة القطع. إذ عدم متابعة القطع معصية للتكليف وقد عرفت ان المعصية ظلم للمولى وهو مما ينافر القوة العقلانية.

واما الأثر الثاني : وهو المنجزية ، بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة ، فهل هو مما يحكم به العقل أو لا دخل للعقل به؟

والتحقيق : انك عرفت حكم العقل - بمعنى إدراكه - بملائمة الإطاعة

ص: 26

للقوة العقلائية ومنافرة المعصية لها. ولا يخفى ان هذا التقبيح والتحسين يتعلقان بالافعال الاختيارية ، اما الفعل غير الاختياري فلا يلائم ولا ينافر القوة العقلية ، بل هو بلحاظ هذه القوة على حد سواء ، وان كان قد يختلف بلحاظ غيرها من قوى النّفس.

ثم ان هذا التقبيح انما يستتبع الحكم باستحقاق العقاب في المورد الّذي يترتب على العقاب فائدة لازمة بنظر العقل ، كالتأديب لأجل عدم تكرر العمل من نفس الشخص أو من غيره.

اما مع عدم ترتب أي أثر راجح على العقاب ، فلا يحكم العقل باستحقاق العقاب لأنه لغو محض ، وهو لا يصدر من العقل.

والتشفي وان كان منشئا لتحقق العقاب ، لكنه ليس منشئا عقلائيا ، بل هو يلائم القوة الغضبية للنفس.

وعليه : فيشكل القول باستحقاق العبد العقاب على مخالفة التكليف المولوي ، إذ المراد بالعقاب هو العقاب الأخروي ، وهو مما لا يترتب عليه أثر عملي من كفّ الشخص نفسه أو كفّ غيره عن العمل ، لانتهاء دور التكليف في الآخرة ، والتشفي مستحيل في حقه تعالى ، بل في حق كل عاقل كما عرفت ، فالالتزام باستحقاق العبد العقاب من اللّه تعالى ، التزام بصدور اللغو منه جلّ اسمه وتعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

وبالجملة : لا يحكم العقل باستحقاق العقاب بمعنى المجازاة على العمل للتأديب.

وبما ان النقل دل على ثبوت العقاب فهو ينحصر بأحد طرق ثلاثة.

الأول : الالتزام بتجسم الأعمال وانه من لوازمها الذاتيّة ، بمعنى ان نفس المعصية يتجسم بالعقاب ، بلحاظ اقتضاء ذاتها لذلك ، نظير تكوّن الشجرة من الحبة. وقد التزم بذلك بعض.

ص: 27

الثاني : انه طريق لتكميل النّفس وإيصالها إلى المرتبة الكاملة ، كما يقال في المرض في دار الدنيا.

الثالث : كونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الأخروي ، كاختلاف الأشخاص في دار الدنيا في الأحوال ، لكونه على طبق المصلحة النوعية للعالم الدنيوي.

ومن الواضح ان العقاب بأحد هذه الوجوه الثلاثة لا دخل لحكم العقل فيه ، بل هو يدور سعة وضيقا وتحديدا لموضوعه مدار الدليل النقلي ، إذا لا طريق للعقل إلى إدراك ما يكون من الأعمال سببا ذاتيا للعقاب ، أو إدراك ما هو من طريق كمال النّفس ، وما هو على طبق المصلحة النوعية ، فقد يعاقب المطيع لإكمال نفسه - كما يبتلي المؤمن في دار الدنيا - أو لأجل المصلحة النوعية وكيف يحكم العقل في عالم يجهل شئونه وخصوصياته.

وجملة القول : ان العقاب الثابت بعنوان التأديب - كالعقاب الدنيوي - لا يحكم العقل بثبوته في الآخرة لأنه لغو محض ، والثابت بعنوان آخر من العناوين الثلاثة لا طريق للعقل إليه ولا يكون من موارد حكم العقل.

ومن هنا يظهر : بطلان الالتزام بحكم العقل باستحقاق العقاب ومنجزية القطع ، خصوصا ممن يلتزم بان استحقاق العقاب من باب تطابق آراء العقلاء حفظا للنظام ، إذ لا معنى لبناء العقلاء عملا على استحقاق العقاب في الآخرة كما هو واضح جدا. ويقوي الإشكال على من يلتزم بذلك مع تقريبه لكون العقاب من لوازم الأعمال. إذ تجسم الأعمال لا يرتبط بحال ببناء العقلاء عملا ونظرهم ، كما هو أوضح من ان يبين.

كما ان القول بان مرجع الحكم باستحقاق العقاب ان العقاب لو وقع لكان في محله ، غير صحيح ، إذ بعد ان كان العقاب بأحد الطرق الثلاثة التي لا دخل للعقل في إدراك مواردها ، فكيف يحكم ان العقاب في هذا المورد في محله؟! إذ

ص: 28

كيف يدرك تجسم العمل في هذا الموضوع أو احتياج هذا الشخص للكمال النفسيّ أو ان عقابه يلائم المصلحة النوعية للنظام الأخروي؟!. فتدبر.

كما انه ظهر مما ذكرناه انه لا وجه حينئذ لدعوى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - في باب البراءة - ، إذ العقاب ليس بحكم العقل كي يكون هو المحكم في تحديد مورده ، بل المدار على الدليل النقلي ، فإذا دل على ترتب العقاب على المعصية كان مورده المخالفة العمدية مع العلم ، لظهور المعصية في ذلك ، واما إذا دل على ترتبه على مطلق المخالفة كما قد يستظهر من قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) ، كان العقاب محتملا في مورد الجهل البسيط بالحكم ، وقد تحمل المخالفة على المعصية. وتمام الكلام موكول إلى محله.

وينتج مما ذكرنا : ان الأثر العقلي الثاني للقطع وهو المنجزية لا أساس له ، وان كان أمرا مفروغا عنه في الكلمات والأذهان. فالتفت ولا تغفل.

ثم ان الشيخ قدس سره استدل على وجوب متابعة القطع والعمل على وفقه : بأنه بنفسه طريق إلى الواقع (2).

وقد يورد عليه : بان المراد من كونه طريقا ، انه واجب الاتباع ، فهو نفس المدعى فلا معنى لجعله تعليلا.

ويدفع هذا الإيراد : بان لدينا كبرى مسلمة ، وهي وجوب إطاعة حكم المولى وحرمة معصيته ، وغرض الشيخ رحمه اللّه تطبيق هذه الكبرى على مورد القطع. ومن الواضح تعارف تعليل ثبوت الحكم في مورد باندراجه تحت كبرى معلومة. فمثلا لو ثبت وجوب إكرام الفاضل ، صح ان يقال : أكرم زيدا لأنه مشتغل ذكي بلحاظ ملازمة ذلك لكونه فاضلا.

وبالجملة : القطع وان كانت حقيقته الانكشاف والطريقية ، ولكن لا يمتنع

ص: 29


1- سورة النور الآية : 63.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /2- الطبعة الأولى.

ان يعلل وجوب اتباعه ببيان حقيقته وإيضاحها لغرض درجة في الكبرى العقلية. وقد أشار إلى هذا الدفع المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1).

ثم انه لا إشكال في ان طريقية القطع غير قابلة للجعل أو الرفع ، لأنها من ذاتيات القطع أو عين ذاته ، ومن الواضح امتناع جعل الذاتي لما هو ذاتي له كما يمتنع رفعه عنه.

وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان كما ارتكبه البعض.

واما وجوب الإطاعة ومنجزية القطع ، فهي على مسلك المحقق الأصفهاني قابلة للجعل لأنها من الأمور الجعلية كما عرفت (2).

واما إذا كانت من الأحكام العقلية الواقعية ، فلا تقبل الجعل لأنها من لوازم القطع ويمتنع الجعل التأليفي بين الشيء ولوازمه - كما ذكر في الكفاية (3) - ، كما انه يمتنع رفع ذلك بعد ان كان من لوازم القطع ، لامتناع التفكيك بين الشيء ولوازمه. فإشكال المحقق الأصفهاني انما يرد على صاحب الكفاية لتعرضه للمنجزية وعدم قابليتها للجعل. ولا يرد على الشيخ ، لأنه لم يتعرض لمنجزية القطع وإنما ذكر طريقيته وعدم قابليتها للجعل والرفع أمر لا يقبل الإنكار.

ثم ان المنع المبحوث عنه ، تارة هو التكويني. وأخرى التشريعي ، وهو يرجع إلى رفع الحكم الّذي تعلق به القطع. والمحذور الّذي فيه هو استلزامه اجتماع الضدين. وسيأتي تعرض صاحب الكفاية إليه في الأمر الثالث والرابع - ونتعرض له فيما بعد إن شاء اللّه تعالى تبعا للكفاية -.

اما هنا فقد تعرض للمنع التكويني وقد عرفت عدم صحته ، ولا يخفى ان اجتماع الضدين لا يرتبط بالمنع التكويني.

ص: 30


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 4 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 5. الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /258- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فذكره قدس سره هاهنا وجها لعدم صحة المنع خلط بين المنع التكويني والمنع التشريعي.

ومما يشهد إلى ان نظر الكفاية إلى إرادة المنع التكويني ، انه لم يتعرض لمحذور استلزام الجعل لاجتماع المثلين ، مع انه سيأتي ذكره محذورا للجعل التشريعي ، كذكر اجتماع الضدين محذورا للمنع التشريعي. والأمر سهل.

الجهة الثانية : في كون المسألة أصولية أو لا.

وقد أشار الشيخ رحمه اللّه إلى عدم كونها أصولية ، بما ذكره من عدم صحة إطلاق الحجة عليه بمعنى الوسط في القياس ، فليس ما ذكره مجرد بحث لفظي ، بل يشير فيه إلى هذه الجهة ، وسيتضح ذلك في طي البحث.

ومن هنا يظهر أن صاحب الكفاية لم يغفل هذه الجهة في كلام الشيخ ، ولكنه اكتفي بالإشارة إليها بما ذكره من عدم كون المسألة أصولية (1).

وعلى كل فتحقيق الكلام : ان الحجة لها مصطلحات ثلاثة :

الأول : ما يحتج به المولى على العبد وبالعكس ، وبتعبير آخر : ما يكون قاطعا للعذر وهو المعنى اللغوي لها.

الثاني : ما يكون وسطا في القياس وهو المعنى المنطقي لها.

الثالث : ما يقع في قياس الاستنباط ، أو كبرى القياس ، وهو الاصطلاح الأصولي.

ولا يخفى ان القطع الطريقي بالمعنى الأول يكون حجة ، كيف؟ وإليه تنتهي سائر الحجج.

واما بالمعنى الثاني فليس حجة لأن الوسط اما ان يكون علة للأكبر أو معلولا له أو معلولين لعلة ثالثة والجامع وجود التلازم بين الوسط والأكبر. ومن

ص: 31


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /257- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواضح ان القطع لا ملازمة بينه وبين الحكم واقعا ، فليس هو علة له وليس معلولا ، كما انهما ليسا معلولين لعلة ثالثة ، بل قد يوجد القطع ولا حكم وقد يوجد الحكم ولا قطع.

واما بالمعنى الثالث فكذلك ليس القطع حجة ، إذ ليس القطع طريقا للاستنباط بحيث تترتب عليه معرفة الحكم ، بل هو عين انكشاف الحكم. هذا بلحاظ إطلاق الحجة عليه.

واما عدم كون المسألة أصولية ، فواضح ان قلنا بان المسألة الأصولية ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط لما عرفت من ان القطع لا يقع في قياس الاستنباط لعدم كونه طريقا لإثبات الحكم بل هو عين معرفة الحكم. وان قلنا بأنها ما تكون نتيجتها رافعة للتحير في مقام الوظيفة العملية فالامر كذلك أيضا ، إذ بالقطع يرتفع التحير موضوعا وحقيقة ، فليس نتيجة مسائله رفع التحير الموجود ، بل لا تحير مع القطع.

وبالجملة : نفي الحجية للقطع بالمعنى المنطقي يلازم نفي أصولية المسألة ، ومنه يظهر نظر الشيخ في تعرضه لنفي إطلاق الحجة عليه ، وانه ليس مجرد بحث لفظي وبيان لحكم من أحكام القطع وان لم يكن مرتبطا بالأصول. وهذا المعنى مغفول عنه في الكلمات ممن علق على الرسائل أو تعرض للبحث مستقلا.

هذا بالنسبة إلى القطع الطريقي ، واما الموضوعي فعدم كونه من مسائل الأصول واضح جدا ، إذ هو كغيره من الموضوعات ، فكما لا يتوهم فيها انها من مسائل الأصول كذلك الحال فيه. فلاحظ والتفت.

الجهة الثالثة : في الاطمئنان وان حجيته من باب حجية العلم أو من باب حجية الأمارات.

اما أصل حجيته فهو ليس محل تشكيك وبحث ، وذلك لأن السيرة من البشر جميعا في أعمالهم ، سواء ما يرتبط بتشخيص الأحكام أو الموضوعات جارية

ص: 32

على الأخذ بالاطمئنان ، إذ قل وندر مورد يحصل لهم العلم الجزمي ، الّذي لا يقبل التشكيك ، بل كل مورد يرتبون آثار الواقع فيه عملا ، ناشئ عن حصول الاطمئنان دون القطع ، لإمكان إثارة التشكيك فيه ، فلو لا الاطمئنان لتوقف العقلاء ، بل غيرهم في أغلب أمورهم العملية ، إذ لا طريق لديهم إلى حصول القطع.

وإذا ثبت هذا المعنى لدى أهل السيرة ، وثبتت حجيته بنظر الشارع أيضا إذ لو كان له طريق آخر غير الاطمئنان ، جعله لتشخيص أحكامه التكليفية والوضعيّة وموضوعات أحكامه. في جميع موارد العمل والحكم والقضاء وغير ذلك لكان عليه نصبه وبيانه وهو امر مقطوع العدم ، وبدونه يختل نظام الشرع الشريف ويقف العمل.

ومنه يظهر ان حجية الاطمئنان لو كانت جعلية بان كانت ببناء العقلاء وأمضاها الشارع لم تصلح الآيات الناهية عن العمل بغير العلم للردع عنه ، كما يدعى ذلك في خبر الواحد ، إذ لم يسنّ الشارع طريقا غير الاطمئنان ، ولا معنى للنهي عنه وعدم جعل غيره ، بخلاف مثل خبر الواحد لوجود غيره من الطرق وعدم الاختلال وتوقف الأعمال بدون حجيته ، فحجية الاطمئنان كحجية الظهور لا تصلح الآيات الناهية للردع عنه ، لعدم نصب غيره من الطرق لتشخيص مراد المتكلم ، فيلزم من الردع التوقف عن جميع الخطابات الشرعية وهو مما لا يمكن الالتزام به ، بل ما ندعيه من العمل بالاطمئنان لا إشكال ولا ريب انه كان في زمان الشارع بعد ورود الآيات الناهية ولم يظهر النهي عنه.

وإذا ثبتت حجية الاطمئنان بلا كلام ، فيقع الكلام في ان حجيته بحكم العقل كالقطع ، فلا يمكن الردع عنه ، أو ببناء العقلاء كالأمارات فيمكن الردع عنه. وان لم يثبت كما عرفت ، فالبحث علمي صرف. نعم لا مانع من الردع عن بعض افراده.

ص: 33

ولا يخفى ان هذا الترديد والبحث لا يتأتى على مسلك المحقق الأصفهاني القائل بان حجية القطع ببناء العقلاء (1).

وانما يتأتى على المسلك الآخر القائل بان حجيته عقلية.

وقد عرفت انه ذكر للقطع حكمان : أحدهما : وجوب الاتباع ، والآخر : المنجزية بمعنى استحقاق العقاب على المخالفة.

والكلام يقع بلحاظهما معا بناء على ثبوتهما - وإلاّ فقد عرفت إنكار المنجزية فلا موضوع لإلحاق الاطمئنان بالقطع فيها - فنقول :

اما وجوب الاتباع : فهو في الحقيقة حكم منتزع عن حكمين أحدهما حسن الموافقة والآخر قبح المخالفة. اما حسن الموافقة : فموضوعه ذات الموافقة من دون دخل للعلم فيه ، ولذا يحسن الاحتياط مع الجهل بالواقع بلا كلام. وعليه فلا موضوع للبحث في إلحاق الاطمئنان بالعلم بلحاظ هذا الأثر ، لأنه ليس من آثار العلم.

واما قبح المخالفة : فلا يمكننا ان نقول بان موضوعه ذات المخالفة ، لضرورة وجود الأحكام الظاهرية ونصب الطرق الظاهرية حتى عند العرف ، وهو لا يتلاءم مع قبح ذات المخالفة لإمكان خطأ الطريق والأمارة ، مع انها معذرة بلا إشكال ، بل موضوعه اما المخالفة المعلومة (2) أو ذات المخالفة مع عدم الترخيص من المولى.

ولا يخفى انه انما يحسن البحث في ان الاطمئنان كالقطع أو كالأمارة بناء على الأول دون الثاني ، إذ الحكم بالقبح على الثاني ليس من آثار العلم ، بل من

ص: 34


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 5 - الطبعة الأولى.
2- المقصود بالمخالفة التي قامت عليه الحجة ، فيقع الكلام ان القبح الثابت في مورد الاطمئنان هل هو بحكم العقل بحيث يترتب عليه هذا الأثر بنفسه ، كالعلم ، أو بتوسط جعل الشارع كالأمارة؟ ( منه عفي عنه ).

آثار الواقع وهو المخالفة وعدم الترخيص بها من المولى.

واما المنجزية واستحقاق العقاب على المخالفة : فهي أيضا غير مترتبة على ذات المخالفة الواقعية ، بل اما هي مترتبة على المخالفة المعلومة أو المخالفة في فرض عدم ثبوت الترخيص ، فيكون حكم العقل حكما تعليقيا ، يعني معلق على عدم ثبوت الترخيص.

والبحث المزبور في الاطمئنان يتأتى على المبنى الأول دون الثاني ، كما عرفت.

فيقع البحث في ان المنجزية الثابتة للاطمئنان هل هي بحكم العقل كمنجزية العلم أو بتوسط جعل الشارع كالأمارات؟.

ثم ان لازم المبنى الأول عدم الحاجة إلى إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في نفي العقاب في صورة الجهل ، للعلم بعدم العقاب لعدم موضوعه وهو العلم.

كما ان لازم الثاني عدم ثبوت هذه القاعدة ، لعدم ترتب العقاب على البيان ولا يدور مداره ، بل يدور مدار الترخيص وعدمه.

وعليه ، فما لم يثبت الترخيص شرعا لا تجري البراءة العقلية ، ومع ثبوته لا حاجة إلى القاعدة لانتفاء موضوع العقاب جزما ، ومنه يعلم التسامح فيما صرح به هاهنا من ان استحقاق العقاب مترتب على العلم والالتزام بإجراء البراءة العقلية في محله. فليكن هذا المطلب على ذكر منك حتى يأتي وقت بيانه مفصلا إن شاء اللّه تعالى.

ثم انه لو كان موضوع قبح المخالفة والمنجزية هو المخالفة مع عدم الترخيص ، يقع الكلام في إمكان الترخيص شرعا فالمخالفة مع العلم ، وعلى تقدير عدم إمكانه فهل الاطمئنان كالعلم أو لا ، فيصح الترخيص مع وجوده أو لا يصح؟. وسيأتي الكلام في ذلك ، وانما أخرناه تبعا لصاحب الكفاية. لأنه أخّر

ص: 35

البحث عن إمكان الردع الجعلي التشريعي عن القطع كما أشرنا ذلك فانتظر.

الجهة الرابعة : في التجري.

والبحث عن ان المخالفة الاعتقادية هل يترتب عليها ما يترتب على المعصية والمخالفة الواقعية أو لا؟

وهذه المسألة يمكن ان تحرر بأنحاء ثلاثة ، وتكون بإحداها أصولية وبالأخرى كلامية وبالثالثة فقهية.

اما تحريرها بنحو تكون أصولية فبوجهين - ذكرهما المحقق النائيني - :

الوجه الأول : ان يكون الكلام في أن مقتضى الإطلاقات المتكفلة لثبوت الأحكام للعناوين الواقعية هل هو شمول الحكم لمقطوع العنوان ولو لم يكن مصادفا للواقع كمقطوع الخمرية في مثل لا تشرب الخمر أو لا؟.

ولا يخفى ان المقصود تأسيس قاعدة كلية ، والبحث عن أمر عام يستنبط بضميمة الصغرى لها حكم كلي. لا البحث عن شمول إطلاق دليل معين خاص ، كي يقال : ان البحث يكون حينئذ فقهيا ، إذ أغلب المسائل الفقهية يقع البحث فيها عن شمول الدليل الحالة معينة. وعدم شمولها. فالبحث هاهنا نظير البحث في ظهور صيغة افعل في الوجوب ، لا نظير البحث عن ظهور صيغة معينة فيه بلحاظ قرائن المقام ، ونظير البحث في ان مقتضى إطلاق الجملة الشرطية ثبوت المفهوم وعدمه.

وعلى كل فقد يتوهم شمول الإطلاقات الأولية لعنوان المقطوع ، فيشمل إطلاق لا تشرب الخمر مقطوع الخمرية.

وقد قرب المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - منشأ التوهم ودليله بمقدمات ثلاث :

ص: 36


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 23 - الطبعة الأولى.

الأولى : ان القيود المأخوذة في الدليل إذا لم تكن اختيارية فلا بد من أخذها مفروضة الوجود وبنحو القضية الحقيقية ، وما يؤخذ في متعلق التكليف هو القطعة الاختيارية ، فمثل الخمر في « لا تشرب الخمر » يؤخذ مفروض الوجود فلا يثبت الحكم الا على تقدير ثبوته ، لعدم قابلية الأمر الخارج عن الاختيار لتعلق التكليف به.

الثانية : ان تمام المؤثر والعلة في حصول الإرادة التكوينية هو العلم والصورة النفسيّة ، لاستحالة تحقق الانبعاث أو الانزجار عن الوجود الخارجي بدون العلم ، فالعطشان يستحيل ان يتحرك نحو الماء إذا لم يعلم بوجوده لديه ، وقد يموت عطشا والماء عنده لجهله به ، وبالعكس يتحرك نحو الماء إذا علم بوجوده ولو لم يكن له في الخارج عين ولا أثر ، اذن فما يوجب الحركة هو العلم وحضور الصورة في النّفس من دون مدخلية للخارج فيها.

الثالثة : إن شأن التكليف هو تحريك الإرادة التكوينية من قبل العبد وإيجادها ، فهو بالنسبة إلى إرادة العبد نظير مفتاح الساعة بالنسبة إلى حركتها. ويترتب على ذلك : ان التكليف بحسب لسان الدليل وان كان يتعلق بنفس الموضوع الخارجي وهو الخمر مثلا ، إلا انه حيث انه انما يحرك إرادة العبد واختياره ، وقد عرفت ان الإرادة لا تكون الا في صورة العلم. فما يتمكن منه العبد هو ترك ما قطع بخمريته - مثلا - ، فيكون هو متعلق التكليف ، وإصابة الواقع وعدمها أجنبيتان عن الاختيار والإرادة.

وبالجملة : يشترك العاصي والمتجري في الجهة الاختيارية فيشتركان في التكليف.

هذا تقريب الاستدلال على المدعى ، وقد ناقشه المحقق النائيني قدس سره بان المقدمة الأولى وان كانت صحيحة لا مناص عن التزام بها كما حقق في الواجب المشروط ، لكن المقدمتين الأخريين ممنوعتان :

ص: 37

اما الثانية : فلان الإرادة وان كانت تنشأ عن العلم والصورة النفسيّة إلاّ انه انما تنشأ عنه بما انه طريق إلى الواقع لا بما ان له موضوعية ، فان القاطع بوجود الماء انما يتحرك باعتبار انكشاف الواقع لديه لا باعتبار وجود صفة نفسانية بما هي صفة ، فالتحرك عن الموجود الخارجي بعد الانكشاف.

واما الثالثة : فلان الإرادة التشريعية والتكليف وان كانت محركة للإرادة التكوينية كحركة المفتاح بحركة اليد ، إلا ان حركة الإرادة التكوينية غير مرادة استقلالا وبنحو المعنى الاسمي ، بل مرادة تبعا وبنحو المعنى العرفي ، فالمراد هو الفعل الصادر بالإرادة ، لأنه هو الّذي تترتب عليه المصلحة والمفسدة اللتان هما مناط التكليف.

وبمنع إحدى هاتين المقدمتين يبطل الاستدلال كما لا يخفى.

وببعض اختلاف في بيان أصل الاستدلال ومناقشته جاء هذا المطلب في تقريرات المرحوم الكاظمي (1).

والّذي يبدو للنظر عدم خلو ما جاء في كلام التقريرين من مناقشة ، ولوضوح بعض ذلك نتعرض أولا إلى ما يمكن به تقريب المدعى ومناقشته ، فنقول : الّذي يمكن به تقريب دعوى شمول الإطلاقات لعنوان المقطوع هو ان يقال : ان الإرادة لا تتحقق إلاّ بتحقق العلم وهو تمام المؤثر فيها والموضوع لها ، وبدونه لا تتحقق الإرادة ، وبما ان شأن التكليف تحريك الإرادة التكوينية للعبد وإيجادها ، كان التكليف ثابتا في فرض العلم ، إذ الإصابة وعدمها خارجان عن متعلق التكليف ولا يرتبطان به بأي ارتباط ، وانما المرتبط به هو العلم بالواقع سواء أصاب أم لم يصب فحقيقة التكليف حيث انها طلب الإرادة والاختيار ، وهي لا تتحقق الا في فرض العلم ، كان العلم مأخوذا في موضوع التكليف ولم يتحقق

ص: 38


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 39 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

التكليف إلا في فرض العلم ، فقول المولى لا تشرب الخمر ، يرجع في الحقيقة إلى طلب اختيار ترك شرب معلوم الخمرية.

هذا ما يصلح لتقريب الدعوى ويناقش :

أولا : بان ما ذكر من ان التحرك والانبعاث والإرادة مما يتوقف على العلم ، وان العلم تمام الموضوع بالنسبة إليها ، غير صحيح ، إذ الإرادة تتحقق في صورة الاحتمال فالعطشان لو احتمل وجود الماء لديه تحرك نحوه باحثا عنه في مظان وجوده ، ومن أقدم على فعل مع الاحتمال وتبين مصادفته للواقع ، يرتب عليه آثار الفعل الاختياري ، فلو رمى شخص شبحا بالرصاص محتملا انه إنسان كما انه يحتمل ان يكون شجرة ، فتبين أنه إنسان وقتل بالرصاص ، رتب على قتله آثار القتل الاختياري.

نعم الإرادة تتفرع عن الالتفات ولو لم يكن جزم ، فمع الغفلة عن شيء يستحيل التحرك نحوه ، ومن هنا لا يتحرك العطشان مع غفلته عن وجود الماء في الغرفة وقد يموت عطشا والماء لديه لغفلته عن وجوده.

وبالجملة : دعوى عدم تأثير الخارج في الإرادة والحركة وان كانت صحيحة ، بل قام عليها البرهان ، لأن الإرادة من صفات النّفس ويستحيل تأثير ما هو خارج عن أفق النّفس فيما هو من صفاتها ، وإلاّ لانقلب الخارج نفسا والنّفس خارجا. إلاّ ان دعوى عدم تحققها الا في صورة الإحراز غير صحيحة لتحققها مع الاحتمال كما عرفت ، ويترتب على الفعل آثار الفعل الاختياري ، ولذا يترتب على الانقياد المصادف للواقع أثر الإطاعة.

وثانيا : ان ارتباط الإرادة بالعلم وعدم ارتباطها بالخارج ، لا يعني عدم صحة أخذ الخارج في موضوع التكليف ، بل هو مأخوذ فيه ، وذلك لأن المطلوب ليس مطلق الإرادة وانما إرادة الفعل الخاصّ ، فالفعل الخاصّ مرتبط بمتعلق التكليف ، فإذا فرض عدم أخذه في المتعلق لعدم اختياريته فيكون مأخوذا في

ص: 39

الموضوع وبنحو فرض الوجود. فالإصابة بمعنى الخمرية الواقعية - مثلا - دخيلة في موضوع التكليف لارتباط متعلق التكليف بها ، إذ المطلوب إرادة الخمر لا مطلق الإرادة فتدبر.

وما ذكرناه في مقام بيان الدليل ومناقشة يظهر بعض موارد الإشكال والمؤاخذة في كلام المحقق النائيني قدس سره وهي موارد كثيرة نذكر بعضها لعدم استحقاق المطلب أكثر من ذلك :

الأول : ذكره المقدمة الأولى في تقريب الاستدلال ، مع انها غير دخيلة في إثبات الدليل ، إذ عرفت تقريبه بالمقدمتين الأخريين ، بل يمكننا ان نقول ان المقدمة الأولى مضرة بالدليل ، إذ مفادها ان كل قيد مأخوذ في لسان الدليل ولم يكن اختياريا يكون مأخوذا في الموضوع مفروض الوجود ، ومن الواضح ان متعلق العلم كالخمرية مأخوذ في لسان الدليل فلا بد ان يكون مأخوذا في الموضوع ، فان الخطاب ورد مترتبا على الواقع ، بل الواقع حتى بلحاظ ان المطلوب ترك معلوم الخمرية يكون مأخوذا لأنه قيد القيد.

الثاني : ظهور تسليمه المقدمة الثانية القائلة بدوران الإرادة مدار العلم ، بل تصريحه بذلك ، وانما ناقشها بان العلم مأخوذ بنحو الطريقية مع انك عرفت الإشكال فيها وعدم صحتها.

الثالث : مناقشته للمقدمة الثانية بان العلم مأخوذ طريقا إلى الواقع ولم يكن بنحو الموضوعية ، وهذه المناقشة غير تامة ، إذ أي منافاة بين كون مدار العلم ومدار الإرادة وكون ذلك بلحاظ طريقيته للواقع؟ إلاّ ان يريد ما سيأتي منه من منافاة أخذ العلم طريقا لكونه تمام الموضوع كما أشار إليه المقرر الكاظمي ، فانه عبر بالصفتية والطريقية. ولكن هذا تبعيد للمسافة وإيراد مبنائي لا يحل الإشكال ولا يدفع الدعوى.

الرابع : مناقشته للمقدمة الثالثة بان المطلوب هو الفعل الاختياري لا

ص: 40

اختيار الفعل ، فان هذه المناقشة لا تتلاءم مع مبنى المقدمة من أن شأن التكليف تحريك الإرادة فالمطلوب هو الإرادة بنحو المعنى الاسمي.

الخامس : ما ذكره بعد ذلك في مقام توضيح منع المقدمة الثانية من انه بانكشاف الخلاف ينكشف عدم المحرك وانما كان تخيل الحركة. فانه غريب ، إذ المفروض تحقق الحركة. ولكن لم تصادف الواقع ، كيف يحكم على شرب المائع انه حركة خيالية؟!.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول لتحرير المسألة بنحو تكون أصولية.

اما الوجه الثاني : فبأن يكون الكلام في أن عنوان المقطوعية وتعلق صفة القطع بشيء هل يمكن ان تكون من العناوين التي يتأكد بها الحكم أو يتبدل أو لا؟.

وتحقيق الكلام في ذلك - على غرار ما حرره النائيني ، ثم التعرض بعد ذلك لما أفاده غيره ، لأن ما ذكره النائيني أكثر ترتيبا وجمعا مما ذكره غيره - ان لدينا أمرين لا إشكال فيهما ولا ريب :

أحدهما : ان عنوان المقطوعية ليس من العناوين الموجبة للقبح والحسن بحيث يتبدل الواقع عما هو عليه بواسطته ، فان هذا المعنى مما لا يرتاب فيه أحد ، فلا يرتاب أحد في عدم تغير شرب الماء عما هو عليه بواسطة القطع بكونه مبغوضا شرعا أو محبوبا ، بل يبقى على ما هو عليه من الوصف لو لا القطع.

والآخر : ان الإقدام على ما يراه المكلف ويعتقده مخالفة للمولى يكشف عن سوء السريرة وخبث الفاعل ويعبر عنه بالقبح الفاعلي ، ولو لم يكن في الواقع مخالفة ، فلا إشكال في اتصاف المتجري بالقبح الفاعلي ، فان ذلك مما لا يشكك فيه اثنان.

وانما الإشكال والبحث في ان هذا القبح الفاعلي في موارد التجري هل يستتبع حكما شرعيا بتحريم الفعل المتجري به أو لا؟ والبحث تارة عن استتباع

ص: 41

القبح الفاعلي لحرمة الفعل المتجري به بنفس الحرمة الثابتة للعنوان الواقعي. وأخرى عن استتباعه لحرمته بملاك آخر ، يختلف عن ملاك حرمة العنوان الواقعي.

اما البحث عن استتباع القبح الفاعلي لحرمة الفعل بنفس حرمة العنوان الواقعي ، فلا يقصد به إثبات شخص الحكم الثابت للعنوان الواقعي ، إثباته للعنوان المقطوع والفعل المتجري به ، فان هذا مما لا يتفوه به أحد لوضوح استحالته ، إذ بعد فرض كونه ثابتا للعنوان الواقعي ومتقوما به يمتنع ان يثبت لغيره ، فانه من انتقال العرض من معروضه إلى غيره وهو محال.

وبالجملة : ثبوت الحكم الثابت للواقع بالنسبة إلى العنوان المقطوع خلف محال. وانما المقصود به إثبات سنخ الحكم الثابت للعنوان الواقعي بالنسبة إلى العنوان المقطوع ، بمعنى ان الحكم الاستغراقي الثابت للخمر - مثلا - هل يشمل مقطوع الخمرية أو لا؟ فيكون البحث في عموم الحكم الثابت للعناوين الواقعية بالنسبة إلى مقطوع العنوان.

ومن الواضح ان مرجع هذا البحث في الحقيقة إلى الوجه الأول إذ مرجعه إلى البحث عن ان مقتضى الدليل ما هو ، إذ لا وجه لتعدي ذلك؟ فلا معنى لتشكيل بحث جديد ، بل يحال تحقيقه على ما تقدم من الكلام في الوجه الأول.

هذا تحقيق الكلام عن هذه الجهة من البحث.

والّذي ذكره المحقق النائيني في مقام تحقيقها : هو انه يستحيل استتباع القبح الفاعلي لحرمة العنوان المقطوع بالحرمة الأولية الثابتة للعنوان الواقعي ، لأن القبح الفاعلي متأخر رتبة عن الحرمة الواقعية ، إذ هو ثابت بلحاظ ثبوت الحرمة للعنوان الواقعي الثابتة بالقطع ، ويستحيل استتباع ما هو متأخر عن الحكم الواقعي له وهو واضح ، ونظيره ما يقال : من امتناع أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم لتأخر العلم بالحكم عنه ، فكيف يكون موضوعا له ومستتبعا

ص: 42

لثبوته؟.

ثم أورد توهما حاصله : انه يمكن ان يكون مستتبعا للحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق لا بالإطلاق اللحاظي لامتناعه ، فكما يستتبع القبح الفاعلي تضييق الحكم الواقعي بنتيجة التقييد لا بنحو التقييد في مورد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز والتركيب الانضمامي ، حيث التزم بعدم شمول الأمر للحصة المقارنة لمورد النهي ، لمانعية القبح الفاعلي الناشئ من جهة الحرمة للتقرب بالعمل - كما مر بيانه مفصلا في محله - ، كذلك يستتبع هاهنا توسيع الحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق ، فيكون كالالتزام بشمول الحكم لصورتي العلم والجهل بنتيجة الإطلاق ، إذ يمتنع الإطلاق اللحاظي بعد امتناع التقييد.

وأجاب عنه : بالفرق بين المقامين ، وان إطلاق الخطاب بالنسبة إلى القبح الفاعلي فيما نحن فيه بلا موجب ولا مقتضى ، فتكون دعوى إطلاق الخطابات ولو بنتيجة الإطلاق للفعل الصادر من الفاعل بنحو قبيح - أعني : القبح الفاعلي - بلا برهان ولا دليل. وهو مما لا يمكن الالتزام به (1).

أقول : قد عرفت في تحقيق الحال انه لا مجال لتوهم ثبوت شخص الحكم الثابت للواقع ثبوته لعنوان المقطوع ، لأنه خلف. فتعرضه قدس سره إلى نفى هذه الدعوى وكأنها هي الدعوى المبحوث عنها ليس كما ينبغي. والأمر سهل من هذه الجهة.

انما الكلام معه فيما ذكره من توهم ثبوت الحكم لعنوان المقطوع بطريق نتيجة الإطلاق ، وجوابه بأنه مما لا دليل عليه. والكلام في نقطتين :

الأولى : في فرضه المورد من موارد نتيجة الإطلاق ، نظير ثبوت الحكم في

ص: 43


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 26 الطبعة الأولى.

صورة العلم به والجهل بنتيجة الإطلاق ، غاية الأمر انه أورد عليه بأنه مما لا دليل عليه.

الثانية : فيما ساقه مثالا ونظيرا للمورد وهو مورد اجتماع الأمر والنهي.

اما النقطة الأولى ، فتحقيق الحال فيها : ان الموارد التي يبحث فيها في صحة ثبوت الحكم مقيدا أو مطلقا ، ثم يدعى ثبوت الحكم بنتيجة التقييد أو الإطلاق ، هي الموارد التي يقع البحث فيها في تقييد الموضوع أو المتعلق بقيد خاص ، بحيث يحرم الإطلاق والتقييد على موضوع واحد ، فيكون ثبوت الحكم بدون القيد إطلاقا وعدم ثبوته تقييدا في موضوع الحكم ومتعلقه ، وبتعبير آخر أوضح. موضوع البحث المزبور هو الأمر الواحد بلحاظ حالة من حالاته كي يكون ثبوت الحكم له بدون تلك الحالة إطلاقا له من جهتها ، وعدم ثبوته له بدونها تقييدا له بها ، فيبحث حينئذ عن صحة الإطلاق والتقييد فيه بلحاظ تلك الحالة ، وذلك نظير البحث في صحة تقييد متعلق الأمر بقصد القربة وعدمه ، فان ثبوت الحكم للصلاة بدون قصد القربة إطلاق لمتعلق الأمر وعدم ثبوته بدونه تقييد له بقصد القربة ، ونظير البحث في صحة تقييد موضوع الحكم بالعلم بالحكم.

اما إذا فرض العلم بثبوت الحكم لمورد وكان الشك في ثبوته لمورد آخر بنفس دليل الحكم الأول ، فثبوته للمورد الآخر وعدم ثبوته أجنبيان عن الإطلاق والتقييد في الحكم ، إذ ثبوت الحكم لمورد آخر لا يعد إطلاق للحكم الثابت في المورد الأول ، كما ان عدم ثبوته لا يعد تقييدا فيه. ومن هذا الباب البحث عن تكفل الدليل الدال على ثبوت الحكم لبيان استمراره وبقائه ، فقد قيل : انه محال لأن استمرار الحكم فرع أصل ثبوته ، فلا يمكن ان يتكفل الدليل على أصل الثبوت بيان الاستمرار ، بل الاستمرار يستفاد من دليل خارجي وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : « حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى

ص: 44

يوم القيامة (1). كما ان منه البحث عن تكفل الدليل الدال على ثبوت حجية الخبر لإثبات حجية خبر الواسطة ، للإشكال المذكور في محله ، من ان دليل الحجية بمعنى وجوب الاتباع والتصديق انما تكون بلحاظ الأثر العملي ، والأثر العملي في حجية الخبر المخبر عن خبر شخص آخر ليس إلاّ نفس وجوب الاتباع فيلزم اتحاد الحكم والموضوع ، لأن الأثر بمنزلة الموضوع من الحجية. فإذا كان هو نفس الحجية كان الحكم عين الموضوع.

ولا يخفى ان هذه الموارد بقسميها - بناء على ثبوت الإشكال فيها - تشترك في شيء ، وهو عدم إمكان ثبوت الحكم في المورد المشكوك بالدليل الأول لتأخر الوصف عن ثبوت الحكم ، فلا يمكن ثبوت الحكم مترتبا عليه ، فقصد القربة متأخر عن الأمر ، وهكذا العلم بالحكم ، ومثلهما استمرار الحكم ، ونظيرها خبر الواسطة الثابت بواسطة نفس الحكم بالحجية.

لكن يختلف القسم الأول عن الثاني في شيء وهو تصور نتيجة الإطلاق والتقييد في الأول ، إذ يلتزم مثلا بتقييد المتعلق بقصد القربة بنحو نتيجة التقييد لامتناع التقييد ، أو عدم تقيده به بنحو نتيجة الإطلاق بناء على امتناع الإطلاق عند امتناع التقييد ، لما عرفت من ان ثبوت الحكم في مورد الشك في هذا القسم يرجع إلى السعة في متعلق الحكم أو التضييق ، لأن مورد الشك من الحالات التي تعرض نفس المتعلق أو الموضوع.

وعدم تصور الإطلاق والتقييد في الثاني ، لما عرفت من ان ثبوت الحكم في مورد الشك لا يرجع إلى التوسعة أو التضييق في الموضوع أو متعلق الحكم ، فاستمرار الحكم عبارة عن ثبوت الحكم في الأزمنة اللاحقة وهو لا يوجب سعة في أصل حدوث الحكم ، كما ان ثبوت الحكم الخبر الواسطة لا يوجب توسعة ثبوت

ص: 45


1- وسائل الشيعة ج 18 / 124 باب 12 من أبواب صفات القاضي ج 47.

الحكم الثابت لخبر من أخبر عنه ، لاختلاف الموضوعين وعدم كون خبر الواسطة من حالات خبر من أخبر عنه.

إذا اتضح ما عرفت ، فالمورد الّذي نحن فيه من القسم الثاني ، وذلك لأن معلوم الخمرية - مثلا - مع أصل الخمر الواقعي موضوعان وليس الأول من حالات الثاني ، فثبوت الحكم لمعلوم الخمرية لا يوجب توسعة للحكم الثابت للخمر ، وهل يتخيل أحد أن ما نقصده من تسرية نسخ الحكم الثابت للخمر إلى معلوم الخمرية يرجع إلى التوسعة في حكم الخمر نفسه؟ ، بحيث إذا دل الدليل عليه يكون من باب نتيجة الإطلاق؟ فجعل المورد من هذه الموارد ناشئ عن الخلط بين القسمين ، وتخيل ان اشتراكهما في استحالة ثبوت الحكم لمورد الشك بالدليل الأول يوجب اشتراكهما في جريان نتيجة الإطلاق والتقييد. مع انك عرفت وجود الفرق بينهما من هذه الجهة. فتدبر ولا تغفل.

واما النقطة الثانية ، فتوضيح الكلام فيها : ان المثال الّذي ذكره ليس من موارد امتناع التقييد ، إذ القبح الفاعلي فيه في عرض الحكم بالوجوب لا في طوله ، لأن القبح الفاعلي ناشئ من مخالفة الحرمة ، ولا امتناع في تقييد المتعلق بعدم القبح الفاعلي إذا كان في عرضه وناشئا من مخالفة حكم آخر لا من مخالفة نفس الحكم ، فلا اشتراك بين موردنا والمثال الا في اشتمالها على القبح الفاعلي ، فالتمثيل في غير محله. هذا إذا كان الملحوظ في التمثيل جهة التقييد بعدم القبح الفاعلي الناشئ من مخالفة لحرمة. اما إذا كان الملحوظ فيه جهة عدم حصول قصد القربة من جهة القبح الفاعلي ، فالتقييد به غير ممكن لتأخره عن الأمر ، فيتجه المثال ، ولكن نقول : ان المثال لا يكون مثالا لمورد خاص من موارد عدم قصد القربة وبيانا لمصداق من مصاديقه ، فلا يرتبط بباب نتيجة التقييد الا بواسطة انه مصداق من مصاديق موضوعها وهو التقييد بقصد القربة وعدمه بنحو كلي ، فإذا كان الملحوظ ذلك ، كان الأولى جعل المثال التقييد بقصد القربة

ص: 46

أو بعدمه بشكلها لا التقييد بعدم قصد القربة في خصوص هذا المورد. فالتفت.

هذا كله في استتباع التجري حرمة الفعل المتجري به بنفس حرمة العنوان الواقعي.

واما استتباعه حرمته بملاك آخر غير ملاك حرمة العنوان الواقعي ، فقد ذهب المحقق النائيني أيضا إلى استحالته وامتناعه بتقريب : ان عنوان المقطوع ليس شيئا زائدا على الواقع بنظر القاطع ، بل الانكشاف - بنظر القاطع - عين الواقع.

وعليه ، فيستحيل ان يكون العنوان مستتبعا لحكم آخر لاستلزامه اجتماع المثلين بنظر القاطع في شيء واحد ، فيكون البعث الثاني لغوا بعد ان كان المكلف يعتقد محاليته ، ومع كونه لغوا يكون ممتنعا واقعا (1).

أقول : هذا انما يتم في باب المحرمات لا الواجبات ، إذ مع اعتقاد وجوب شيء لا تكون الحرمة الناشئة من التجري واردة على نفس متعلق الوجوب ، بل الحرمة تتعلق بالترك لأنه عنوان المخالفة والعصيان ، ومن الواضح انه لا تماثل بين وجوب الفعل وحرمة الترك لاختلاف الموضوع ، ولذلك لم يستشكل أحد من هذه الجهة في استتباع وجوب الشيء لحرمة ضده العام المعبر عنه بالترك.

ثم انه لا بد من إيقاع البحث في ان المورد الواحد إذا ورد فيه حكمان متماثلان لجهة واحدة هل يكون من موارد اجتماع المثلين كي يستحيل كما قرره قدس سره ، أو من موارد التأكد فلا يستحيل حينئذ ثبوت الحكم الآخر في مورد التجري ، بل يكون مؤكدا للحكم المقطوع ، وهذا سيأتي تحقيقه بعد حين إن شاء اللّه تعالى.

نعم يستحيل ثبوت الحرمة في الفعل المتجري به بملاك استحالة تعلق

ص: 47


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 26 الطبعة الأولى.

الوجوب الشرعي بالإطاعة ، وهو ان الحكم الشرعي السابق في المرتبة ان كان فيه قابلية الدعوة والتحريك كان الحكم بلزوم اتباعه شرعا لغوا. وان لم يكن فيه القابلية كان جعله لغوا ، فليس استحالة تعلق البعث الشرعي من جهة لزوم التسلسل ، بل من هذه الجهة التي سنوضحها بعد حين إن شاء اللّه تعالى. ولأجل نفس هذا الملاك يستحيل تعلق الحرمة بالفعل المعنون بعنوان مقطوع الحرمة ، فيستحيل ثبوت حكم آخر في طول الحكم الواقعي المقطوع ، وهذا الوجه مختص بالمحرمات كما سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى. وقد أشار إلى هذا الوجه في تقريرات الكاظمي بعنوان انه عبارة أخرى عن الوجه السابق ، أعني دعوة استلزام ثبوت الحرمة لاجتماع المثلين. فلاحظ (1).

وينبغي ان يعلم ان موضوع البحث الّذي نحن فيه - أعني البحث في استتباع التجري حرمة الفعل - لا يختص بالمتجري ومن خالف قطعه الواقع ، وإلاّ لكان عدم استتباعه للحرمة واضحا ، إذ المتجري بعنوانه يستحيل ان يكون موضوعا للحكم ، إذ الحكم لا يصير فعليا ومحركا الا بفعلية موضوعه ، وهي تتحقق بالالتفات إليه ، ومن الواضح ان المتجري في حال تجريه لا يلتفت إلى كونه متجريا ، إذ التفاته إلى تجريه يساوق زوال علمه واعتقاده الملازم لعدم تجريه ، فالتجري من الموضوعات التي يكون الالتفات إليها مساوقا لزوالها نظير النسيان ، فكما لا يجوز أخذ النسيان في موضوع الحكم كذلك يمتنع أخذه بعنوانه في موضوع الحكم. نعم ذكر صاحب الكفاية إمكان أخذ الناسي في موضوع الحكم بعنوان آخر ملازم له (2) وتحقيقه ليس هاهنا.

وبالجملة : البحث فيما نحن فيه موضوعه مطلق القاطع بالحكم من دون

ص: 48


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 45 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /368- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تقييد بعدم المصادفة إلى الواقع فتدبر.

هذا كله فيما يتعلق بالمطلب الّذي ذكره المحقق النائيني ، وقد أشرنا إلى سبب اختيار ذكره أولا مع انه على خلاف البناء على انتهاج نهج الكفاية في تحرير المبحث ، هو كونه جامعا مستوعبا.

اما صاحب الكفاية ، فقد ذهب إلى بقاء الفعل المتجري به على ما هو عليه من الحسن أو القبح والمبغوضية أو المحبوبية بلا تغير فيه بواسطة القطع ، لوضوح ان القطع بالعنوان المحرم ليس من العناوين الموجبة للحسن والقبح أو المبغوضية والمحبوبية ، مضافا إلى ان القطع - في مقام العمل - يلحظ طريقا للواقع لا مستقلا ، فالإرادة والقصد انما يتعلقان بشرب الخمر لا بشرب معلوم الخمرية ، بل المعلومية مما لا يلتفت إليها غالبا ، ومعه لا يمكن تعلق الإرادة فيها ، إذا الإرادة فرع الالتفات ، ومع عدم كونه بالاختيار يتضح عدم كونه من موجبات الحسن والقبح لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية.

فيما ذكره صاحب الكفاية وجوه ثلاثة :

الأول : ان عنوان المقطوعية ليس من العناوين الموجبة للحسن والقبح بالبداهة ، وهذا مما وافقناه عليه كما تقدم ، ومنه يعلم جهة ارتباط ما تقدم بما ذكره صاحب الكفاية.

الثاني : ان هذا العنوان مما لا يقع اختياريا لعدم تعلق القصد به ، بل هو ملحوظ آلة وطريقا.

الثالث : انه مما لا يمكن وقوعه اختياريا للغفلة عنه ، ويمتنع تعلق الإرادة بشيء مع الغفلة عنه والفرق بين الوجهين الأخيرين واضح.

ثم ان صاحب الكفاية يذهب إلى امر فرضه مفروغا عنه ، وهو ان عنوان التجري وعنوان الهتك والخروج عن زي الرقية وغير ذلك من العناوين القبيحة مما لا تنطبق على الفعل الخارجي ، بل تنطبق على امر نفسي عبر عنه بالعزم على

ص: 49

العمل (1) ، ويكشف ذلك التزامه بقبح التجري واستلزامه لاستحقاق العقاب مع التزامه بعدم قبح الفعل ، فانه لا يتلاءم الا مع التزامه بان التجري عنوان لفعل النّفس ، فهذا الأمر مقدمة مطوية في كلامه. وقد خالفه في ذلك بعض من تأخر عنه ، فذهب إلى انطباق هذه العناوين على الفعل فيكون الفعل قبيحا.

وعليه ، فلا بد من البحث في ذلك ، ثم التعرض بعده إلى البحث في الوجهين الأخيرين اللذين ذكرهما في وجوه عدم كون عنوان القطع من العناوين المحسنة أو المقبحة.

فيقع البحث في ان التجري وما شاكله من العناوين هل هو عنوان لنفس الفعل الخارجي المتجري به أو لا؟ والحق مع صاحب الكفاية.

وقبل بيان الدليل ينبغي بيان شيء وهو انه لا إشكال في عدم صحة الذم بعنوان الجزاء والعقوبة على مجرد وجود صفة كامنة في النّفس ترجع إلى سوء السريرة مع المولى وخبث النّفس مع كون العبد في مقام العمل جاريا على طبق الموازين من دون ان يحدث نفسه بالخروج عن طاعة المولى.

نعم قد يذم على هذه الصفة من قبيل الذم على الصفات غير الاختيارية ، ومرجعه إلى عدم ميل النّفس إليها كعدم ميل النّفس لقبح الصورة. كما انه لا إشكال في صحة الذم بعنوان الجزاء على صيرورة العبد في مقام المخالفة ، فللمولى ان يستنكر على عبده عملا قام به معنونا بالطغيان عليه ومخالفته.

انما الإشكال فيما عرفت من ان عنوان التجري هل هو عنوان للخارج أو لا؟ ، وقد عرفت اختيارنا لرأي صاحب الكفاية الراجع إلى اختيار ان التجري من عناوين فعل النّفس لا الخارج.

والوجه فيه : ان العبد إذا صار بصدد الجري الخارجي فيما يخالف رضا

ص: 50


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /259- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المولى ويبغضه ، ولكن لم يتحقق منه أي عمل خارجي أصلا لمانع أقوى منه ، كما لو أراد ان يسب المولى فأغلق شخص فمه ومنعه عن التفوه بأي كلمة ، فانه لا إشكال في صدق التجري والهتك وغيرهما من العناوين المتقدمة على مجرد كون العبد في مقام الخروج عن العبودية وبصدد مخالفة المولى ، ومجرد التجري النفسيّ على طبق الصفة الكامنة في النّفس الّذي عبّر عنه صاحب الكفاية بالعزم على الفعل ، وإذا فرض صدق هذه العناوين على العمل النفسيّ في مورد لا يكون هناك عمل في الخارج ، كشف ذلك عن أن هذه العناوين ليست من عناوين الخارج ، بل من عناوين النّفس.

وعليه ، ففي المورد الّذي يصدر منه عمل خارجي لا يصدق التجري على العمل الخارجي ، إذ الجري النفسيّ وكونه في مقام العصيان امر سابق عليه ، وقد عرفت ان التجري يصدق عليه.

نعم العمل الخارجي يكون كاشفا عن عمل النّفس وما يتعنون بعنوان التجري. اذن فالفعل في الخارج لا ينطبق عليه العنوان القبيح ، وانما ينطبق على فعل النّفس.

هذا بالنسبة إلى تحقيق ما ينطبق عليه عنوان التجري.

واما ما ذكره من وجهي الاستدلال على عدم صحة كون القطع بشيء من العناوين الموجبة للحسن والقبح ، فكلاهما محل منع.

اما كون القطع مما لا يلتفت إليه غالبا ، فيمتنع ان يكون اختياريا لأن الإرادة فرع الالتفات ، فلان المراد بالالتفات هو حضور الشيء في النّفس ، والعلم بالشيء صفة حاضرة بنفسها في النّفس ، فكيف ينفي الالتفات إليها بعد ان كان الالتفات أمرا لازما للعلم؟.

نعم قد يكون ارتكازيا كامنا في النّفس. ولكنه لا يمنع من كونه إراديا كسائر موارد القصد الارتكازي.

ص: 51

وهذا ما ذكره المحقق النائيني في مقام الرد عليه (1).

واما عدم كون عنوان المقطوعية اختياريا لأنه ملحوظ طريقا لا استقلالا ، فتوضيح منعه : ان الفعل تارة : يرتبط بوصف الموضوع بنحو ارتباط نظير إعطاء الفقير ، فان الإعطاء يرتبط بجهة الفقر ويكون رافعا للاحتياج. وأخرى : لا يرتبط بوصف الموضوع بأي ارتباط كإعطاء العالم أو إطعامه ، فان الإطعام لا يرتبط بجهة العلم وانما يرتبط بنفس الجسم ، إذ لا دخل للعلم في الأكل أصلا ، نعم أخذ الرّأي من العالم يرتبط بجهة العلم كما لا يخفى.

فالقسم الأول : لا إشكال في تعلق الإرادة بالفعل المضاف إلى الوصف الخاصّ وهو لا يرتبط بما نحن فيه.

واما القسم الثاني : فتارة يكون الوصف غاية للعمل وداعيا لتحقق الفعل. وأخرى لا يكون كذلك ، بل ينشأ الفعل عن داع آخر. ففي الصورة الأولى لا إشكال في ترتب آثار الفعل الاختياري المضاف إلى الموصوف الخاصّ ، فإذا أكرم العالم تقديرا لعلمه ترتب على فعله آثار إكرام العالم بهذا الوصف وفي الصورة الثانية يشكل الأمر ويقع الكلام في ان الالتفات إلى وجود الوصف مع عدم كونه داعيا للعمل هل يكفي في اختيارية العمل مضافا إلى الموصوف الخاصّ أو لا يكفي مجرد الالتفات؟.

وهذه الصورة الأخيرة هي التي ترتبط بما نحن فيه ، وهي الإتيان بمعلوم العنوان كمعلوم الخمرية ، مع الالتفات إلى العلم من دون ان يكون إتيانه بداعي العلم ولأنه معلوم الخمرية ، بل لوحظ العلم طريقا كما هو المفروض. فانه إذا فرض ان حصول الالتفات إلى الوصف يكفي في اختيارية العنوان لم ينفع ما ذكره قدس سره من ان عنوان المقطوعية ليس اختياريا لعدم لحاظه

ص: 52


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 27 الطبعة الأولى.

بالاستقلال ، إذ المفروض تحقق الالتفات إليه وهو يكفي في كونه اختياريا.

وإذا دارت معرفة الحقيقة على معرفة ان مجرد الالتفات إلى الوصف يكفى في الاختيار أو لا ، فنقول : ان المرجع في مثل هذه الأمور هو بناء العقلاء والعرف ، وهو قائم على ترتيب آثار الفعل الاختياري المضاف إلى الوصف الخاصّ بمجرد الالتفات إلى الوصف ولو لم يصدر الفعل بداعيه ، فإذا فرض ان إهانة العالم كانت مورد الذم ، فأهان شخص عالما مع علمه بعالميته ولكن لم تكن إهانته باعتبار انه عالم بل بلحاظ امر آخر ، يترتب الذم الثابت لإهانة العالم على إهانة الشخص المزبور. وهذا المعنى ظاهر لكل من لاحظ الأمثلة والشواهد العرفية العقلائية.

ويتحصل ان كلا وجهي الكفاية ممنوعان. فالصحيح في إثبات المدعى الرجوع إلى الوجدان الشاهد بعدم كون عنوان القطع من العناوين المستوجبة للقبح والحسن كما تقدم منه ومنا.

بقي شيء : وهو ان صاحب الكفاية إذا كان يلتزم بقبح التجري وكونه عنوانا لفعل النّفس لا للخارج ، فيقع الكلام في حرمة ذلك الفعل النفسيّ القبيح ، كما وقع في حرمة الفعل الخارجي بناء على كونه معنونا بعنوان التجري. كما انه يسائل صاحب الكفاية عن وجه إغفاله هذه الجهة من البحث ، فكما أوقع البحث عن حرمة الفعل الخارجي المتجري به كان عليه ان يوقع البحث في حرمة الفعل النفسيّ خصوصا بعد ان كان معنونا بعنوان قبيح.

وهذا الاعتراض متوجه على صاحب الكفاية.

واما حقيقة المطلب : فهي انه يستحيل تعلق الحرمة بفعل النّفس ، والوجه في الاستحالة هو الوجه الّذي أشرنا إليه سابقا في بيان حرمة الفعل الخارجي المقطوع به ، والّذي سنتعرض إليه مفصلا عن قريب إن شاء اللّه تعالى. فالوجه في استحالة حرمة فعل النّفس والفعل الخارجي فيما نحن فيه هو الوجه في

ص: 53

استحالة البعث نحو الإطاعة شرعا الّذي سنوضحه إن شاء اللّه تعالى.

ويتحصل من مجموع ما ذكرناه : انه لا يمكن جعل الحرمة في مقام الثبوت كما انه لا دليل إثباتا عليها في بعض الصور.

هذا تمام الكلام في تحرير المسألة بنحو تكون أصولية.

واما تحريرها بالنحو الفقهي : فيرجع إلى البحث في قيام الدليل الخاصّ على حرمة التجري بعنوانه أو حرمة الفعل المتجري به كسائر موارد البحث عن حرمة الأفعال.

وتحقيق البحث : ان الّذي يمكن ان يتوهم كونه دليلا على حرمة التجري أمران :

الأول : ما ورد من الاخبار الدالة على ثبوت العقاب في مورد التجري على نية السوء وإرادة العمل التي ذكرها الشيخ (1) وادعى انها بحد التواتر ، بضميمة دلالة الوعيد بالعقاب بالدلالة الالتزامية العرفية على حرمة العمل ، ولذا تبين حرمة بعض المحرمات بطريق الوعيد بالعقاب عليها ، فانه ظاهر عرفا في الحرمة ، كما يدعى ان الوعد بالثواب دال عرفا على رجحان العمل ، ولأجله استظهر استحباب العمل الّذي وردت فيه رواية ضعيفة بواسطة اخبار : « من بلغه ثواب ... » - على ما سيأتي بيانه - وادعى وجوب الاحتياط في الشبهات بواسطة الوعيد بالوقوع في المهلكة على تركه الوارد في اخبار الاحتياط.

أقول : مع الغض عن المناقشة في كلية هذه الدعوى فان لها مجالا آخر ، ليس لنا الأخذ بنتيجتها ، لقيام البرهان على استحالة تعلق الحرمة في مورد التجري ، سواء بنية السوء أم بالجري النفسيّ أم الخارجي ، لا بملاك اجتماع المثلين ولا التسلسل وانما هو بملاك استحالة تعلق الوجوب الشرعي بالإطاعة

ص: 54


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /5- الطبعة الأولى.

الّذي سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، إذ الظهور العرفي لا يقاوم البرهان العقلي فلا نستطيع استكشاف التحريم من الروايات ولا من غيرها.

ومن هنا ظهر انه لا وجه لإيقاع البحث الفقهي المزبور بعد ان ثبت استحالة تعلق التحريم فيما تقدم.

وبذلك يظهر ان تعرض المحقق النائيني - إلى ما ورد من النصوص الدالة على حرمة نية السوء ودعوى معارضتها بما دل على العفو عن نية السوء وتعرضه إلى ما قيل في وجه الجمع من حمل ما دل على التحريم على إرادة نية السوء المنضمة إلى ما يظهرها خارجا وما دل على العفو على إرادة النية المجردة ، أو حمل ما دل على التحريم على إرادة النية مع عدم الارتداع ، وما دل على العفو على إرادة النية أولا ثم الارتداع بعد ذلك وانه جمع تبرعي لا شاهد له ، والنتيجة هي التساقط والرجوع إلى الأصول - (1). يظهر لنا ان تعرضه قدس سره إلى ذلك بالنحو الّذي عرفته ليس كما ينبغي ، لأن ظاهر كلامه ان عدم الالتزام بالحرمة لأجل المعارضة مع. انه ذهب إلى استحالة ثبوت الحرمة في مورد التجري كما بينا ذلك بملاك استحالة تعلق البعث الشرعي بالإطاعة. إلاّ ان يكون بحثه هاهنا بحثا تنزليا فلا بأس به.

الثاني : فهو دعوى الإجماع على حرمة التجري المستكشفة من قيام الإجماع على ثبوت الحرمة في بعض موارد التجري. وقد نوقش في الإجماع كبرويا وصغرويا.

اما النقاش الكبروي : فهو ما ذكره الشيخ في الرسائل من ان المسألة عقلية لا يكون الإجماع فيها حجة (2).

ص: 55


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 31 الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /5- الطبعة الأولى.

والمراد من كلامه يحتمل وجهين :

الأول : ان المرجع في هذه المسألة هو العقل لا الشرع ، لأنها ترتبط بحكم العقل باستحقاق العقاب وعدمه ، فلا يكون الإجماع فيها حجة بلحاظ كشفه عن قول المعصوم علیه السلام ، إذ البحث عن امر عقلي لا حكم شرعي.

وبهذا التفسير يكون كلام الشيخ أجنبيا عما نحن فيه بل يرتبط بالمسألة الكلامية.

الثاني : انه يحتمل استناد بعض المجمعين في فتواهم بالحرمة إلى حكم العقل بقبح التجري ، ومع هذا الاحتمال لا يكون الإجماع تعبديا فلا ينفع في إثبات المدعى. وبهذا الوجه يرتبط كلام الشيخ بما نحن فيه.

وبالجملة : لا نرى وجها لإطالة البحث أكثر من ذلك بعد ان عرفت استحالة ثبوت الحرمة وتعلقها بما هو في طول الحرمة الواقعية من نية السوء أو الجري النفسيّ أو الخارجي فتدبر.

يبقى الكلام في تحرير المسألة بالنحو الكلامي : وهو الّذي كان محط كلام الشيخ من دون ان يتعرض إلى تعلق الحكم الشرعي في مورد التجري ، بل مصب كلامه قدس سره هو الجهة الكلامية في المسألة ، وهي جهة استحقاق العقاب على التجري وعدمه ، ولا يخفى ان محل البحث تنزلي ، وإلاّ فقد عرفت (1) انه لا حكم للعقل باستحقاق العقاب في صورة المصادفة للواقع فضلا عن صورة عدم المصادفة ، والّذي ذهب إليه الشيخ رحمه اللّه عدم استلزام التجري لاستحقاق العقاب. بل غاية ما يترتب على التجري هو ذم المتجري باعتبار ما ينطوي عليه من سوء سريرة وشقاوة نفس ، وذلك وحده لا يكفي في ترتب العقاب وانما يترتب العقاب على الفعل القبيح ، وهو مفقود في صورة التجري.

ص: 56


1- لاحظ ما تقدم في تحقيق أثر المنجزية للقطع من هذا الجزء 4 / 26.

إذ الفعل المتجري به لا يكون قبيحا.

وبالجملة : الّذي يذهب إليه الشيخ هو انه ليس في مورد التجري سوى سوء السريرة وهو غير ملازم للعقاب ، لأن العقاب يترتب على القبح الفعلي لا الفاعلي (1).

وفي قباله ذهب صاحب الكفاية إلى ثبوت العقاب في مورد التجري على الجري النفسيّ على طبق الصفة الكامنة في النّفس الّذي عبر عنه بالقصد إلى العصيان - كما تقدمت الإشارة إليه (2) -. فمحط الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية هو ان صاحب الكفاية يرى ان هناك فعلا اختياريا من افعال النّفس يتعنون بعنوان قبيح فيترتب عليه العقاب كسائر الأفعال القبيحة النفسيّة والخارجية. والشيخ لا يرى سوى صفة نفسية غير اختيارية والتجري من عناوين الفعل الخارجي والفعل غير قبيح لعدم كونه معصية ، ولا معنى للعقاب على الصفة النفسيّة ، بل يترتب عليها الذم ، والذم الصادر في مورد التجري من باب انه كاشف عن الصفة النفسانيّة القبيحة لا من جهة نفس الفعل المتجري به كي يلازم العقاب.

والّذي نراه ان الحق مع الشيخ ، وان القبح الفاعلي الموجود في صورة التجري لا يلازم العقاب وانما الّذي يلازمه هو القبح الفعلي ، فلا وجه لما ذكره صاحب الكفاية من ثبوت العقاب على فعل النّفس ، ويدل على ما ندعيه وجهان :

الأول : انه لا إشكال في ثبوت العقاب على المعصية الحقيقية بحكم العقلاء فلو كان القصد إلى المعصية مستلزما للعقاب للزم ان يحكم العقل في مورد المعصية الحقيقية باستحقاق عقابين لحصول سببين له وهما - القصد إلى المعصية

ص: 57


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /5- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /260- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ونفس المعصية - وهذا مما لا يقول به أحد.

الثاني : ما ورد في الآيات والروايات من إثبات العقاب على المعصية الحقيقة ومخالفة المولى ، فيلزم ثبوت عقابين في موردها بناء على ان التجري موضوع العقاب ، لتعدد سببه.

وبالجملة : ما ذهب إليه صاحب الكفاية مستلزم لدعوى تعدد العقاب في مورد المعصية الحقيقية وهو مما لا يلتزم به هو ولا غيره ، فيكشف عن عدم كون القصد إلى فعل الحرام موردا للعقاب ، إذ ثبوت العقاب على نفس المخالفة مما لا إشكال فيه شرعا وعقلا كما عرفت فالحق مع الشيخ في عدم استحقاق المتجري للعقاب.

ثم ان المحقق النائيني تعرض إلى بيان تقريب استحقاق المتجري للعقاب بمقدمات أربع :

أولاها : ان الحكم بوجوب الإطاعة عقلي لا شرعي.

ثانيتها : ان الحكم العقلي بوجوب الإطاعة معلول للحكم الشرعي ، فهو يختلف عن مثل حكم العقل بقبح الظلم ، فانه علة للحكم الشرعي.

ثالثتها : ان تمام موضوع الحكم بوجوب الطاعة واستحقاق العقاب هو العلم سواء صادف الواقع أو لم يصادف.

رابعتها : ان القبح الفاعلي هو ملاك استحقاق العقاب لا القبح الفعلي ، وهو موجود في صورة التجري ، فيثبت العقاب في مورده (1).

ولا يخفى ان المقدمتين الأولتين لا دخل لهما في إثبات المطلب وهما من الواضحات ، ولعله لأجل ذلك أغفلهما المقرر الكاظمي في تقريراته واكتفي بذكر المقدمتين الأخيرتين (2).

ص: 58


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 28 - 29 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول3/ 39 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ثم انه يكفي في إثبات المطلوب ثبوت المقدمة الثالثة ، فانه إذا ثبت ان موضوع استحقاق العقاب هو العلم صادف أم لم يصادف ثبت العقاب في مورد التجري. بلا احتياج إلى المقدمة الرابعة ، بل في الحقيقة ان المقدمة الرابعة من فروع ونتائج المقدمة الثالثة ، أو انها تعبير آخر عنها ، وقد جعلها المقرر الكاظمي تعبيرا آخر عن المقدمة الثالثة ، ولكنه بعد ذلك ذكر ان المطلب يبتني على مقدمتين ثم ذكرهما بالنحو المتقدم ، كما حكم بالتلازم بينهما.

وعليه ، فلم يكن وجه لتعداد المقدمات وتطويل الكلام.

كما انه يرد على هذا النحو من البيان انه أخص من المدعي ، إذ التجري المبحوث عنه أعم من مورد العلم وغيره ، فالاستدلال على ثبوت العقاب بان موضوعه العلم لا يفي بإثباته في مطلق موارد التجري.

ثم انه اختلف التقريرات في الاستدلال على هذه المقدمة - أعني الثالثة - فقد جاء في تقرير الكاظمي الاستدلال عليها بان المصادفة وعدمها خارجة عن الاختيار فيمتنع ان يعلق ثبوت العقاب على المصادفة وجاء في تقريرات السيد الخوئي الاستدلال عليها بان دخالة مصادفة الواقع يستلزم عدم فعلية الحكم لعدم إحراز مصادفة القطع للواقع لاحتمال ان يكون قطعه غير مصادف.

ولا يخفى عليك ما في كلا الدليلين من الفساد.

اما الأول : فلان هذا الوجه ذكره الشيخ في الرسائل ودفعه بان المصادفة اختيارية ، راجع تعرف (1).

واما الثاني : فلان القاطع لا يحتمل الخلاف ، بل هو يرى مصادفة قطعه للواقع وإلاّ كان خلف فرض كونه قاطعا ، ومن الغريب انه لم يتعرض في مقام الرد إلى ذلك أصلا.

ص: 59


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /5- الطبعة الأولى.

ثم انه قدس سره ناقش كلتا المقدمتين :

فناقش الثالثة : بان العلم وان كان تمام الموضوع لكن في صورة انكشاف الخلاف لا علم ، بل لم يكن سوى الجهل المركب ولا معنى لترتيب آثار العلم عليه.

وناقش الرابعة : بان القبح الفاعلي المستلزم للعقاب هو الناشئ عن القبح الفعلي كما في موارد المعصية اما الناشئ من حيث الباطن وسوء السريرة فلا دليل على استلزامه للعقاب.

ولا يخفى ان مناقشة المقدمة الثالثة ليست على ما ينبغي ، فانه كان المتجه التعرض لدليل الخصم على عدم دخل المصادفة في ثبوت العقاب وإنكاره ، لا إنكار أصل الدعوى رأسا.

ولا بأس بالتنبيه على شيء وهو : ان الشيخ والمحقق النائيني عبر كل منهما بالقبح الفاعلي ، لكن اختلفا في المقصود منه ، فأراد المحقق النائيني به جهة صدور الفعل وهي تختلف بالمنشإ ، فتارة تنشأ عن القبح الفعلي وأخرى تنشأ عن خبث الباطن ، ولكن الشيخ أراد به نفس سوء السريرة وخبث الباطن ، ولذا نفى العقاب عليه لأنه وصف غير اختياري ، ولم يستطع المحقق النائيني نفي استحقاق العقاب عن القبح الفاعلي ، بل غاية ما استطاع هو التشكيك لأنه أراد به امرا اختياريا قابلا لاستحقاق العقاب عليه. فالتفت ولا تغفل.

ويتحصل : ان ما ورد في تقريرات المحقق النائيني من تقريب الاستدلال على ثبوت العقاب في مورد التجري وردّه مما لا محصل له ، فليته لم يتعرض إليه بهذا التفصيل.

يبقى الكلام فيما ذكره الشيخ قدس سره من وجود ما يدل من الكتاب والسنة على ثبوت العقاب على قصد المعصية ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : « نية

ص: 60

الكافر شرّ من عمله » (1) ، وما ورد من : « انه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل : يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنه أراد قتل صاحبه » (2) ، وما ورد في ثبوت العقاب على بعض المقدمات بقصد الحرام كغرس العنب لأجل الخمر (3) ، ومثل ما ورد من : « ان الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم وان على الداخل إثم الرضا وإثم الدخول » (4) ، وقوله تعالى : ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ ) (5) ، وغير ذلك ، ما يصل إلى حد التواتر.

وفي قبال هذه الأدلة روايات كثيرة دالة على العفو عن القصد وعدم ترتب العقاب.

ولأجل ذلك تصدى الشيخ للجمع بين الطائفتين دفعا للتعارض. فذكر للجمع وجهين :

الأول : ان يراد بما دل على العفو مجرد القصد من دون الاشتغال بأي مقدمة ويراد بما دل على العقاب القصد المستتبع للحركة.

الثاني : ان يراد بما دل على العفو القصد مع الارتداع بعده ويراد بما دل على العقاب القصد المستمر.

وقد مر إيراد المحقق النائيني قدس سره عليه بأنه جمع تبرعي لا شاهد عليه.

وعليه فتصل النوبة إلى التعارض والتساقط.

ولكن لا مجال لدعوى التساقط بعد ان كانت اخبار العقاب تصل إلى

ص: 61


1- الكافي ج 2 / 84 ج 2.
2- تهذيب الأحكام : 6 / 174 - باب 79 في النوادر - حديث 25.
3- وسائل الشيعة 11 / 411 و 12 / 165 - باب 55 من أبواب ما يكتسب به - حديث 4 و 5.
4- نهج البلاغة - شرح محمد عبده - 4 / 696 - قصار الحكم - الحكمة : 154.
5- سورة البقرة ، الآية : 284.

حد التواتر وكان بعض أدلته من الكتاب للقطع بالصدور ، فلا بد من طرح معارضة لأنه يباين الكتاب والسنة الواقعية.

هذا ولكن الإنصاف ان كثيرا ما سيق شاهدا على ثبوت استحقاق العقاب غير صالح للشهادة. وتوضيح ذلك :

اما ما ورد من ان الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم ، فهو وارد في الرضا وإقرار ما جاء به الغير من المعصية وليس مورده قصد إتيان المعصية ، الّذي هو محل الكلام ، فهو يرتبط بباب وجوب إنكار المنكر بالقلب إذا لم يتمكن من إنكاره باليد أو اللسان ، فلا يرتبط بما نحن فيه.

واما قوله تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ ) فليس المراد ثبوت العقاب على نية السوء ، بل المراد الظاهر منها هو ان ما فرض كونه محرما من الأمور القلبية الحال فيه سواء بين الإبداء والإخفاء لاطلاع اللّه تعالى عليه ، فموضوعه ما فرض كونه محرما من افعال النّفس كالشرك والنفاق ، وان الحال فيه إذا اختلف على الناس بين الإبداء والإخفاء فهو لا يختلف على اللّه سبحانه. فلا تكون الآية مرتبطة بتحريم مطلق نية السوء. والشاهد على ما ذكرنا هو عدم إرادة العموم منها جزما لو أريد منها المعنى الأول لعدم العقاب على ما في النّفس من الأمور غير الاختيارية كما لا عقاب على نية المباح والواجب والمكروه والمستحب والآية تأبى عن التخصيص مع انه تخصيص مستهجن لأنه بالأكثر.

واما ما ورد من العقاب على إرادة القتل ، فهو لا يدل على العقاب على مطلق قصد المعصية ، إذ من المحرمات ما يحرم جميع مقدماته شرعا أو بعضها نظير حرمة غرس العنب لأجل التخمير ، وحرمة مقدمات الرّبا ، والرواية تدل على ان إرادة القتل كذلك ، فهذه تكون محرمات نفسية كالفعل ، وليس العقاب عليها من باب انه تجرّ وقصد للحرام.

ص: 62

ومن الغريب ان الشيخ قدس سره ساق ما دل على ثبوت العقاب على غرس العنب للخمر من أدلة ثبوت العقاب على قصد المعصية مع انه يلتزم بان غرس العنب محرم شرعا نفسيا.

وبالتأمل فيما ذكرناه في هذه الموارد يظهر الإشكال في دلالة غيرها فلا حاجة إلى الإطالة.

وجملة القول : ان ما دل على ثبوت العقاب على القصد لو وجد فهو ليس بمقطوع الصدور فلا يعدو كونه خبرا واحدا ، فتقع المعارضة بينه وبين ما دل على العفو ، والنتيجة هي التساقط فتدبر.

وبالنتيجة : انه لا دليل من العقل ولا من الشرع على استحقاق المتجري للعقاب.

يبقى الكلام في جهات :

الأولى : ان موضوع البحث في التجري لا يختص بصورة العلم - كما أشرنا إليه سابقا - ، وانما يعم صورة قيام الأمارة على التكليف ، بل بعض صور احتمال التكليف كأحد الطرفين في العلم الإجمالي - ان لم نلحق المورد بالعلم - ، وكالشبهة البدوية قبل الفحص والجامع هو عدم المؤمن من الواقع ، بحيث لو صادف الواقع كان للمولى عقابه.

واما وجود الفرق بين القول بجعل الأمارة من باب السببية والقول بجعلها من باب الطريقية فلا نوقع البحث فيه لعدم الأثر المترتب عليه.

الثانية : انه بناء على ثبوت العقاب على التجري ففي مورد المعصية ومصادفة الواقع هل يتعدد العقاب أو يتحد؟ ، والمنسوب إلى صاحب الفصول هو القول بالتداخل (1).

ص: 63


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /87- الطبعة الأولى.

والاحتمالات أربعة :

الأول : ما ذهب إليه صاحب الكفاية من وحدة العقاب لوحدة سببه وهو كون العبد في مقام الطغيان (1).

الثاني : ما يظهر من المحقق الأصفهاني من وحدة العقاب لوحدة سببه ، وهو الهتك المعنون به الفعل ، سواء في التجري أو المعصية الحقيقة (2).

فالفرق بين القولين : ان منشأ العقاب على الأول وهو الهتك عنوان للفعل النفسيّ وهو واحد في كلا المقامين - أعني التجري والمعصية الحقيقية - وعلى الثاني عنوان للفعل الخارجي وهو أيضا واحد ، فمنشأ العقاب واحد.

الثالث : وحدة العقاب مع تعدد السبب من باب التداخل وهو المنسوب إلى صاحب الفصول.

الرابع : تعدد العقاب لتعدد سببه.

ثم ان إيقاعنا البحث في هذه الجهة تنزلي لما تقدم منا من إنكار استحقاق المتجري للعقاب ، وقد تقدم تقريبه.

ولا بأس بتوضيح الحال فيه فنقول : الّذي يمكن ان يتمسك به القائل باستحقاق العقاب - وهو الجامع تقريبا بين من أعطى المطلب صورة علمية ومن إعطاء صورة وجدانية - هو انه لا إشكال ولا ريب في ان العقلاء يرون صحة مؤاخذة المولى لعبده إذا صار في مقام الجريان على خلاف مقتضى العبودية ولو لم تصدر منه المخالفة الحقيقية ، فإذا رفع العبد يده لضرب المولى ولم يتمكن من ضربه كان للمولى عقابه وذمه ، لأنهم يرون ذلك هتكا وظلما للمولى وطغيانا عليه.

وهذا الوجه لا يخلو من مغالطة ، بيان ذلك : ان الظلم انما يتحقق بالخروج عن الحقوق المفروضة لشخص على غيره ، وفي قباله العدل فانه الاستقامة في

ص: 64


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /262- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2/ 14 - الطبعة الأولى.

هذا المقام وعدم الانحراف عن أداء الحق المفروض عليه.

وعليه ، فتصدي العبد للمعصية مع عدم الوقوع فيها.

تارة : ينشأ عن استخفافه بالمولى وأمره وبقصد توهينه والاستهزاء به وعدم المبالاة بما يترتب عليه المعصية من عقاب.

وأخرى : لا ينشأ من ذلك ، بل مقام المولى محفوظ في نفسه وخوفه من عقابه موجود ولكنه يرجو مغفرة المولى لعلمه بأنه رحيم أو يرجو شفاعة من هو مقرب عند المولى في حقه.

ففي الأول : يصدق الظلم والهتك ، ولكنه لا من باب التجري ، بل من باب ان الاستخفاف والاستهزاء ونحو ذلك مبغوض للمولى ، فالإتيان به يكون معصية حقيقية فيكون ظلما لأنه خروج عن زي العبودية ومقتضى الرقية ، إذ مقتضاها إطاعة المولى في أوامره ونواهيه. فهذا النحو خارج عن محل الكلام.

واما في الثاني : فلا تصدق العناوين المتقدمة إذ تصديه لا يعد ظلما لأنه لم يثبت تحريمه ومطالبة المولى بعدمه كي يكون خروجا عن مقتضى العبودية ، كما انه لا يعد هتكا بعد ان كان تصديه برجاء المغفرة أو الشفاعة ، مع ان الهتك يتقوم بالإعلان بالعمل ، والمبحوث عنه أعم من صورتي الإعلان والإسرار. نعم لو صادق المعصية استحق العقاب لأنه خالف مولاه فيكون ظلما له.

وبالجملة : الرقية والعبودية انما تقتضي إطاعة المولى فيما يريده وعدم الخروج عن مرادات المولى ، والتصدي إلى الخروج مع عدم الخروج لا يعد خروجا فلا يكون ظلما.

ولو سلمنا ذلك ، يقع الكلام في تعدد العقاب لو صادف المتجري المعصية الحقيقية.

والّذي نراه قريبا : هو التداخل في موضوع العقاب وسببه - لا في المسبب كي يشكل بان التداخل في المسببات انما يثبت في المورد غير القابل للتعدد

ص: 65

كالقتل لا في المورد القابل للتعدد نظير العقاب - بيان ذلك : انه لا إشكال في كون التجري من أوصاف وعناوين التصدي والعزم كما يراه صاحب الكفاية وتقدم تقريبه. كما انه لا إشكال في كون العقاب والثواب في مورد المعصية والطاعة على نفس ما به المخالفة وما به الموافقة ، فيعاقبه ويؤنبه على عدم سفره لو أمره بالسفر ولم يسافر ، كما يشكره على سفره لو سافر كما انه لا إشكال في عدم تعدد العقاب والثواب في مورد المعصية والإطاعة ، إذ المرجع هو الارتكاز العقلائي في هذا الباب وهو قاض بما ذكرناه ، إذ لا نرى ان السيد يعاقب العبد عقابين إذا خالف أمره أو نهيه ، ويثيبه ثوابين إذا وافق أحدهما ، ثواب على قصد الطاعة وثواب على نفس الطاعة ، فنستكشف من مجموع ذلك ان التجري انما يكون سببا وموضوعا للعقاب على تقدير عدم المصادفة وإلاّ فهو يندك في المعصية الحقيقية ويكون التأثير لها لا له.

ولعل هذا هو مراد الفصول. ومنه ظهر ما في الاحتمالين الأولين من النّظر كما لا يخفى. فتدبر.

الثالثة : في الثمرة العملية لهذا البحث ، وهي ما ذكره المحقق العراقي (1) رحمه اللّه بتوضيح منا : من انه بناء على قبح التجري ومبعديته وانطباقه على نفس العمل المتجري به ، لو قامت أمارة على حرمة شيء ذاتا كما لو قامت على حرمة صوم هذا اليوم كيوم العيد ، فلا يمكن الإتيان بهذا العمل برجاء المطلوبية واقعا ، لأنه قبيح ومبعد ، إذ الإتيان به تجرّ فلا يصلح للمقربية ولا يقع عبادة.

واما بناء على ما ذهب إليه الشيخ من انه لا قبح في العمل المتجري به وانما الذم على الصفة الكامنة في النّفس التي يكشف عنها التجري ، وهي خبث

ص: 66


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 42 ( القسم الأول ) طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

السريرة وسوء الباطن ، فلا مانع من الإتيان بالصوم برجاء المطلوبية ، لصلاحيته للمقربية في نفسه لعدم كونه قبيحا على تقدير عدم المصادفة ، وليس في البين إلاّ خبث السريرة وهو لا ينافي التقرب بالعمل.

واما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية من ان التجري من عناوين فعل النّفس والذم والعقاب عليه ، لا على الصفة الكامنة في النّفس ولا على الفعل الخارجي ، فنفس الفعل الخارجي يصلح للمقربية في نفسه لعدم انطباق العنوان القبيح عليه.

ولكن بناء على ما تقدم من انه يعتبر في المقربية أمران : أحدهما : صلاحية الفعل للمقربية في نفسه والآخر : ان لا يشتمل على القبح الفاعلي بمعنى قبح جهة الصدور. بناء على هذا لا يصح العمل لقبح جهة صدوره ، إذ المفروض ان قصد العمل قبيح لأنه معنون التجري.

فالنتيجة : ان العمل لا يصح إلاّ بناء على رأي الشيخ رحمه اللّه . فتدبر.

ثم ان الشيخ تعرض إلى بيان صور التجري ، ولا حاجة إلى التعرض إليها ، إذ ليس بذي أثر مهم.

الجهة الخامسة : في القطع الموضوعي.

وهو ما يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي بحيث يترتب الحكم على وجوده ، في قبال القطع الطريقي وهو ما يكون طريقا وكاشفا عن الواقع لا غير.

ومحل البحث في السابق هو القطع الطريقي.

اما الموضوعي فتحقيق الكلام فيه في هذه الجهة.

وقد تعرض إليه الشيخ في كلامه ، وعقد له صاحب الكفاية أمرا مستقلا (1) ، وذكر ان القطع بالحكم لا يمكن ان يؤخذ في موضوع حكم مماثل

ص: 67


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /266- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لحكم متعلقه أو مضاد له وانما يؤخذ في موضوع حكم يخالف الحكم الّذي تعلق به ، كما إذا قال المولى : « إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق » ، وقد أشار إلى الوجه في ذلك في الأمر الرابع ونوكله إلى محله ، ونتكلم الآن فيما أفاده ونفرضه مسلما. والكلام في القطع الموضوعي يقع من جهتين :

الجهة الأولى : في أقسامه. والّذي ذكره الشيخ وتبعه عليه صاحب الكفاية ان أقسامه أربعة : لأنه اما ان يكون جزء الموضوع أو تمامه ، وعلى كلا التقديرين اما ان يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه أو يؤخذ بما هو صفة خاصة ، وذكر صاحب الكفاية في مقام إيضاح القسمين الأخيرين ، ان العلم من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، ومنه قيل : ان العلم نور لنفسه ونور لغيره ، فلذا صح ان يؤخذ بما هو صفة خاصة بإلغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصية أخرى فيه مع جهة كاشفيته. وان يؤخذ بما هو طريق ومرآة لمتعلقه وحاك عنه.

فالذي يظهر من كلامه ان أخذ القطع بما هو صفة يكون بطورين :

أحدهما : يرجع إلى إلغاء جهة كشفه.

والآخر : يرجع إلى أخذ خصوصية أخرى فيه مضافا إلى جهة كشفه.

ولكن المحقق الأصفهاني ناقش في إمكان أخذ القطع بما هو صفة.

وأطال في نقاشه ، وخلاصة مناقشته : ان قوام القطع وذاته التي بها يتميز عن غيره من الصفات ويكون بها قطعا هو كاشفيته التامة ، فأخذه في الموضوع مع إلغاء جهة كشفه غير معقول ، فانه نظير أخذ الإنسان في موضوع الحكم مع إلغاء إنسانيته.

وتعرض إلى ما ذكره صاحب الكفاية من ان العلم نور لنفسه ونور لغيره وبيّن انه لا ينفع في الدعوى (1).

ص: 68


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 14 - الطبعة الأولى.

والّذي نقوله في المقام بنحو الاختصار النافع : ان أخذ القطع موضوعا بإلغاء جهة كشفه غير سديد ، لأنه ان أريد من إلغاء جهة كشفه ما هو الظاهر من عدم ملاحظة كاشفيته بالمرة ، فيرد عليه ما ذكره المحقق الأصفهاني ، من انه يتنافى مع أخذ القطع موضوعا. وان أريد منه عدم ملاحظة ارتباطه بمتعلقه وإضافته إليه ، فهو يلازم ثبوت الحكم عند ثبوت القطع بأي شيء كان ، إذ المفروض ان المأخوذ في الموضوع هو الكاشف التام بلا ملاحظة إضافته إلى متعلقه الخاصّ ، فلا خصوصية لتعلقه بهذا الأمر دون ذاك وهذا محذور كبير.

اذن ، فأخذ القطع موضوعا بنحو الصفتية بالطور الأول لا يمكننا الالتزام بصحته نعم أخذه بالطور الثاني لا مانع منه ، بان تلحظ في القطع مع جهة حكايته وكاشفيته عن المتعلق الخاصّ خصوصية أخرى فيه ، كخصوصية ركون النّفس واستقرارها بالنحو الخاصّ الملازمة للقطع ، إذ هي من آثار القطع بشيء ، ولا يترتب على غيره.

ومنه ظهر : انه توجيه أخذ القطع بنحو الصفتية بملاحظة هذه الجهة فيه ، أعني جهة ركون النّفس وثباتها - كما ورد في تقريرات بحث السيد الخوئي - ، لا يجدي في دفع الإشكال السابق ، لما عرفت من ان أخذ القطع بلا ملاحظة جهة كشفه امر لا يمكن القول به. فما ذكر خلط بين الطورين ، فالتفت.

وكما أنكر المحقق الأصفهاني أخذ القطع موضوعا بنحو الصفتية ، أنكر المحقق النائيني أخذ القطع تمام الموضوع بنحو الطريقية ، فذهب إلى انه لا بد ان يكون مأخوذا جزء الموضوع ، فالأقسام لديه ثلاثة ، وعلل ذلك بان النّظر الاستقلالي في القطع الطريقي يتعلق بمتعلقه وبالواقع المنكشف به وبذي الطريق ، اما القطع فهو مغفول عنه وملحوظ مرآة للغير شأن كل كاشف وطريق ، وأخذه في تمام الموضوع يلازم غض النّظر عن الواقع وملاحظته القطع

ص: 69

مستقلا ، وهذا خلف (1).

ولكن هذا التعليل عليل ، وهو ناش من الخلط بين مقام الجعل ، ومقام تعلق القطع بشيء ، بيان ذلك : ان من ينظر إلى الكتاب بواسطة نظارته يغفل عن نظارته وانما نظره المستقل متعلق بالكتاب الّذي جعل النظارة طريقا إليه ، ولكن الشخص الّذي ينظر إلى هذا الناظر ويرى كاشفية وآلية النظارة ، يستطيع ان يتعلق نظره مستقلا وغرضه بالنظارة ذاتها من دون ان يكون للكتاب أي دخل فيه.

وفي ما نحن فيه من هذا القبيل ، فان من يتعلق نظره الاستقلالي بالمقطوع ويغفل عن القطع هو القاطع نفسه ، إذ كون القطع طريقا لديه يلازم لحاظه آلة وبنحو المرآتية (2) ، اما الجاعل الّذي يريد ان يجعل حكما على هذا القطع له ان يقصر نظره على القطع ، بمعنى انه يرتب الحكم على القطع بلحاظ كشفه لكن من دون ان يكون لوجود المتعلق في الخارج أي أثر ، لتمكنه من لحاظ القطع بنحو الاستقلال لا الآلية والمرآتية ، نظير من ينظر إلى المرآة لا ليرى صورته بها ، بل ليرى جودتها وجنسها. فظهر لك الخلط بين المقامين.

وعلى هذا فلا مانع من أخذ القطع بنحو الطريقية تمام الموضوع بان لا يكون للمصادفة أي دخل في ثبوت الحكم.

الجهة الثانية : في قيام الأمارات والأصول مقام القطع الطريقي والموضوعي بأقسامه.

لا إشكال بين الاعلام في قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع الطريقي ، بمعنى ان نفس ما يترتب على القطع من المنجزية والمعذرية يترتب

ص: 70


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 5 - الطبعة الأولى.
2- أنكر المحقق الأصفهاني صحة التعبير باللحاظ الآلي والاستقلالي بالنسبة إلى القطع ، وليس محل البحث فيه هاهنا ، ونحن انما عبرنا بذلك تمشيا لا التزاما بصحته ، لعدم تنقيح أحد الطرفين.

على الأمارة.

انما الإشكال والكلام في قيامها بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي بأقسامه.

وقد ذهب الشيخ إلى قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الصفتي (1) وتبعه على ذلك المحقق النائيني (2).

وأنكر صاحب الكفاية قيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه ، وابتدأ بنفي قيام الأمارة مقام القطع الصفتي ، ثم عطف عليه قيام الأمارة مقام الموضوعي الطريقي ونفاه بعين ما نفي به قيامها مقام الصفتي (3) ، ولأجل ذلك قد يتساءل عن وجه التفكيك بين القسمين في البيان مع اشتراكهما في الحكم والدليل.

ولوضوح الجواب عن هذا التساؤل نقول : علل صاحب الكفاية عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية ، بان قضية حجية الأمارة ترتيب ما للقطع من الآثار بما هو حجة لا بما هو موضوع ، لأنه يكون كسائر الموضوعات.

وتوضيح ذلك : ان ما يحتمل في مفاد دليل الاعتبار وجوه ، مثل جعل المؤدى أو جعل الوسطية في الإثبات والطريقية وجعل المنجزية والمعذورية وجعل الحجية - كما يأتي تفصيل ذلك في محله - ، ومن الواضح ان مفاد دليل الاعتبار بأي نحو من هذه الأنحاء كان لا يرتبط بالقطع الملحوظ بما انه صفة خاصة اما بإلغاء جهة كشفه أو بأخذ خصوصية أخرى فيه معه ، فجعل المؤدى أجنبي بالمرة عن تنزيل الأمارة منزلة القطع ، وجعل الطريقية والكاشفية لا ينفع بعد ان فرض

ص: 71


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /4- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 21 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /263- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان جهة الكشف ملغاة في القطع الصفتي ، أو انها معتبرة بضميمة خصوصية أخرى ، وهكذا الحال في جعل المنجزية أو الحجية.

وبالجملة : القطع المأخوذ موضوعا بنحو الصفتية كغيره من موضوعات الأحكام لا ينظر إليه دليل اعتبار الأمارة بأي نحو كان مفاده.

ولكن الأمر ليس بهذه المثابة من الوضوح بالنسبة إلى القطع الموضوعي الطريقي ، فقد يتخيل ارتباط دليل اعتبار الأمارة به.

ولكنه نفاه أيضا بأنه ذو جهتين وأثرين : أحدهما : أثره المتأخر عنه ، وهو ما يترتب عليه وبه يكون موضوعا للحكم. والآخر : الأثر السابق عليه وهو ما تعلق به وبه يكون طريقا للحكم وكاشفا. ودليل الاعتبار بأي نحو كان مفاده انما يتكفل جعل الأمارة بلحاظ الواقع السابق على القطع لا اللاحق ، بل القطع بلحاظ اثره اللاحق كسائر موضوعات الأحكام لا ينظر إليه دليل اعتبار الأمارة.

ثم تعرض إلى ما قد يقال في تقريب قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي بنحو الطريقية : من ان دليل الاعتبار يتكفل نفي احتمال الخلاف ، فهو ينزل الأمارة منزلة العلم ، ومقتضى إطلاقه تنزيل الأمارة منزلة العلم من جهة كونه طريقا ومن جهة كونه موضوعا ، فتقوم الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي (1).

وحكم بفساده ، والوجه فيه : ما ذكره من انه لا بد في التنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه ، ولحاظ القطع والأمارة في تنزلهما منزلة القطع الطريقي لحاظ آلي ، لأن النّظر في الحقيقة إلى الواقع والمؤدى ، ولحاظهما في تنزيلها منزلة القطع الموضوعي استقلالي ، لأن النّظر إلى أنفسهما ، فيلزم من تكفل الدليل الواحد

ص: 72


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /4- الطبعة الأولى.

لكلا التنزيلين اجتماع لحاظين الآلي والاستقلالي في شيء واحد وهو محال ، فلا بد ان يكون الدليل متكفلا لأحدهما ، وهو تنزيلها منزلة القطع الطريقي لأنه هو الظاهر من دليل الاعتبار.

وأضاف إلى ذلك : انه لو لا المحذور الّذي ذكرناه لأمكن ان يلتزم بان مقتضى إطلاق دليل اعتبار الأمارة المتكفل لإلغاء احتمال الخلاف قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بجميع اقسامه حتى المأخوذ بنحو الصفتية هذا ما أفاده في الكفاية (1).

وخالفه المحقق النائيني - كما أشرنا إليه - فذهب إلى قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي الطريقي دون الصفتي ، وقدم لإيضاح ذلك مقدمات أطال في الكلام فيها ، فانه بعد ما ذكر ان المجعول في باب الأمارات هو الكاشفية التامة والمحرزية ، وان الدليل الدال على اعتبارها يتكفل تنزيلها منزلة القطع من جهة كاشفيته عن الواقع ومحرزيته له ، وذكر ان حكومة الأمارة على أدلة الأحكام الواقعية حكومة ظاهرية ، وعبّر عنها تارة : بالحكومة في مقام الإثبات في قبال الحكومة الواقعية ، وهي الحكومة في مقام الثبوت ، باعتبار ان دليل الأمارة لا يتكفل التوسعة أو التضييق في الواقع ، بل في طريق إحرازه. وأخرى : بأنها ما كانت في طول الواقع ، باعتبار ان حكومة دليل الأمارة بلحاظ وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به ، لا بلحاظ التوسعة في رتبة الواقع نفسه.

بعد ان ذكر ذلك بتفصيل ، ذكر ان كلام الكفاية واشكالها يتأتى بناء على جعل المؤدى في باب الأمارة. اما بناء على ما اختاره من جعل المحرزية والكاشفية والوسطية في الإثبات ، فلا يتم ما ذكره صاحب الكفاية ، إذ لم يلحظ

ص: 73


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /264- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواقع والمؤدّى في مقام التنزيل كي يرد عليه انه مستلزم لاجتماع اللحاظين ، بل لم يلحظ سوى الأمارة والقطع ، ودليل الاعتبار يتكفل جعلها بمنزلة القطع في المحرزية فتقوم بمقتضى هذا المقام مقام القطع الطريقي المحض والموضوعي إذا كان بنحو الطريقية ، كما هو واضح جدا (1).

وأنت خبير بان ما ذكره ليس دفعا للإشكال حقيقة ، بل التزام به على المبنى الّذي بنى عليه من جعل المؤدى الّذي يظهر من كلمات الشيخ (2) وبعض كلمات صاحب الكفاية (3) ، وانما هو حل للمشكلة بالتزامه في باب الأمارة بان المجعول هو المحرزية ، وهذا لا يجدي في رفع الإشكال عن الشيخ ومن يلتزم بمبناه.

ثم ما ذكره من الحكومة الظاهرية واختلاف التعبير عنها ، للبحث عن صحته وسقمه مجال آخر ليس محله هاهنا ، إذ لا يرتبط بما نحن فيه قيد شعرة ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى مفصلا وستعرف انه مجرد اصطلاح لا واقع له. فانتظر.

وانما الّذي نورده عليه هاهنا باختصار : هو ان الحكومة كما فسرها هو وغيره تتقوم بنظر أحد الدليلين إلى الآخر بتضييق في مدلوله أو توسعة ، فإذا كان دليل اعتبار الأمارة يتكفل جعل الكاشفية وتنزيل الأمارة منزلة العلم في الوسطية في الإثبات - كما التزم به مع الغض عن مناقشته - كان ناظرا إلى الدليل الواقعي المتكفل لترتيب الأحكام على القطع ، وعليه تكون حكومته عليه حكومة واقعية ليس فيها كشف خلاف ، بل يكون انكشاف خلاف الأمارة من باب تبدل الموضوع ولا نظر له إلى الواقع بحال كي يدعى ان حكومته عليه

ص: 74


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 21 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /25- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول 277- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالحكومة الظاهرية.

وبالجملة : لو كان دليل الاعتبار ناظرا إلى ترتيب آثار الواقع كان لما ذكره من دعوى الحكومة الظاهرية صورة - وان كان في نفسه محل إشكال - ، ولكنه ليس كذلك ، بل هو ناظر إلى ترتيب آثار القطع ، فالحكومة على هذا واقعية. فتدبر.

ثم ان المحقق الأصفهاني قدس سره بعد ان استشكل في صحة دعوى تعلق اللحاظ آليا كان أو استقلاليا بالقطع ، لأنه هو عين الحضور واللحاظ فلا يقبل تعلق اللحاظ ، وليس هو واسطة في اللحاظ كالمرآة ، تعرض إلى ما ذكره صاحب الكفاية ، ومحصل ما ذكره : هو ان تكفل الدليل الواحد تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي والموضوعي غير ممكن لكنه لا من جهة استلزام اجتماع اللحاظين في شيء واحد ، بل من جهة أخرى ، فهو يشترك مع صاحب الكفاية في النتيجة ويختلف معه في طريق الوصول إليها.

اما ما أفاده بتوضيح منا وتصرف ، فهو : ان الدليل المبحوث عنه تارة : يكون لسانه تنزيل الظن منزلة القطع. وأخرى : يكون لسانه تنزيل المظنون منزلة المقطوع.

فان كان بالنحو الأول : فالقطع ليس من وجوه متعلقه حتى يدعى انه يمكن الحكم على متعلقه بواسطته ، فيلزم من الحكم عليه وعلى متعلقه اجتماع اللحاظ الاستقلالي والآلي ، إذ ليست نسبته إلى متعلقه نسبة الكلي إلى فرده ولا نسبة العنوان إلى معنونه ، لكنه حيث كان من الصفات التعليقية التي تتقوم في وجودها بمتعلقها ، كان تصور مفهوم القطع ملازما لحضور وصورة المقطوع في الذهن.

وعليه فإذا أريد الحكم على المظنون بواسطة الكناية عنه بالظن لزم أخذ الظن قنطرة للانتقال إلى لازمه ، وإذا أريد الحكم عليه لزم أخذه على وجه

ص: 75

الأصالة والحقيقة ، فيلزم من تعدد التنزيل أخذ الظن قنطرة وعدم أخذه كذلك. وهو ممتنع لأنه من باب اجتماع النقيضين ، فالقضية الواحدة لا تعقل ان تكون كنائية وحقيقية ، إذ المحذور فيه نظير محذور اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي.

ودعوى : انه بعد فرض التلازم بين الظن والمظنون والقطع والمقطوع ، لا يحتاج إلى الكناية بل يمكن تأدي كلا التنزيلين بلا أي محذور ، بل يكون أحدهما مؤدى المدلول المطابقي والآخر مؤدى المدلول الالتزامي ، فهناك مفهومان مستقلان متلازمان كل منهما يفيد شيئا غير ما يفيده الآخر ، نظير ان تقول « زيد كثير الرماد » وتقصد الاخبار عن كثرة رماده بالمطابقة وكرمه بالالتزام.

تندفع : بان هذا انما يصح لو كان التلازم بين الحكمين نظير : « زيد كثير الرماد » ، فان إثبات أحد الحكمين يلازم ثبوت الآخر ، فيمكن ان تقصد تأديته بالمدلول الالتزامي ، وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ التلازم بين الموضوعين ، إذ لا ملازمة بين تنزيل الظن منزلة القطع وتنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وانما التلازم بين الظن والمظنون لا أكثر ، فليس الحكم الآخر مدلول التزامي للقضية كي يمكن قصد تأديته بنحو الالتزام ، فلا يكون الدليل على أحدهما دليلا على الحكم الآخر بالالتزام ، فتتوقف إفادة الحكم الآخر على الكناية.

وان كان بالنحو الثاني : فالمظنون والمقطوع وان كان وجهين لمتعلق الظن والقطع ، فيمكن لحاظهما طريقا لذات المظنون والمقطوع كما يمكن لحاظهما بأنفسهما ، وحينئذ يمكن دعوى استلزام جعل كلا التنزيلين لاجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي في أمر واحد.

ولكن الإشكال ليس من هذه الجهة لاندفاعها بان الحكم على كلا التقديرين ليس على عنوان المقطوع والمظنون بالحمل الأوّلي ، وانما هو على ما هو مقطوع ومظنون بالحمل الشائع ، غاية الأمر ان الحكم على ذات المظنون على تقدير وعلى الذات بما هو مظنون على تقدير آخر ، فاذن العنوان على كلا

ص: 76

التقديرين ملحوظ آلة والمعنون على كلا التقديرين ملحوظ استقلالا.

وانما الإشكال من جهة أخرى وهي : ان الحكم على ذات المظنون يرجع إلى إلغاء دخالة تعلق الظن بها باعتبار ان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بين القيود ، والحكم على المظنون بما هو مظنون يرجع إلى اعتبار تعلق الظن ، ولا يمكن ان يتكفل الدليل الواحد بيان كلتا الجهتين ، أعني عدم دخالة تعلق الظن ودخالته ، لأنه بيان للمتناقضين. فتدبر.

ثم انه نبه في ضمن كلامه إلى ان موضوع الأدلة هو الظن والقطع لا المظنون والمقطوع. فانتبه (1).

أقول : قد أشرنا إلى ان المحقق الأصفهانيّ يتفق بالنتيجة مع صاحب الكفاية ، ولكنه يختلف معه في الطريق ، فكلامه هاهنا أشبه بما تقدم منه من إيراده على صاحب الكفاية في منعه لأخذ قصد الأمر في متعلق الأمر لأنه دور ، - إيراده عليه - بأنه ليس بدور ولكنه خلف ، فليس بذي ثمرة عملية ، وانما هو ذو ثمرة علمية اصطلاحية ، فكان علينا عدم التعرض إليه.

ولكن المحقق الأصفهاني وان انتهى بكلامه إلى موافقة صاحب الكفاية في الاختيار ، لكننا بكلامه ننتهي إلى مخالفتهما معا - وبذلك تظهر لك ثمرة التعرض لكلامه -.

وذلك : لأن ما ينتهي إليه كلام المحقق الأصفهانيّ في النحو الأول هو كون المحذور في عدم تكفل الدليل لكلا التنزيلين محذورا إثباتيا لا ثبوتيا.

وذلك : لأن كلا من مفهومي القطع والمقطوع والظن والمظنون حاضر في الذهن مستقلا بنفسه لغرض الملازمة بين القطع والظن وبين المقطوع والمظنون ، فإذا جاء اللفظ الدال على القطع انتقل الذهن إليه كما انتقل إلى لازمه وهو

ص: 77


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 16 - الطبعة الأولى.

المقطوع ومثله الظن.

وعليه ، فلا مانع من ان يتكفل الدليل الواحد لكلا التنزيلين ، إذ ليس فيه أي محذور بعد ان كان المفهومان حاضرين بأنفسهما في الذهن.

وانما الكلام في دلالة الدليل على كلا التنزيلين. وهو بحث إثباتي.

وبهذا البيان يظهر لك الفرق بين كلام الكفاية وكلام الأصفهانيّ ، فان كلام الكفاية يرجع إلى كون المحذور ثبوتيا لا يرتبط بالدليل أصلا ، بل يرتبط بمقام الجعل ، إذ هو يرى انه لا يحضر في الذهن الا مفهوم واحد وهو مفهوم القطع ، فإذا أريد جعل كلا الأمرين لزم لحاظه استقلاليا وآليا وهو ممتنع. واما ما ذكره المحقق الأصفهاني فهو ينتهي إلى ان الحاضر في الذهن كلا المفهومين فلا يلزم من اعتبار الأمرين أي مانع.

وبما ان كلام الأصفهاني متين لا شائبة فيه ، فلا بد من إيقاع البحث في مقام الإثبات. وعليه فان قامت قرينة على تكفل الدليل لكلا التنزيلين فلا مانع من الأخذ به.

ولا يخفى ان الّذي يحتاج إلى القرينة هو تنزيل المؤدى منزلة المقطوع ، إذ تنزيل الأمارة منزلة القطع هو ظاهر الكلام الأوّلي وغيره يحتاج إلى قرينة ، والانتهاء إلى هذا الوجه وان تفردنا به لكن منشأه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس سره .

وبما ذكرناه تنحل لدينا مشكلة كبيرة ، إذ تنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي له أثر عملي كبير يظهر ذلك في موارد متعددة في الفقه والأصول. فمن الموارد : مورد استصحاب الحكم السابق الثابت بالأمارة ، إذ وقع الكلام فيه باعتبار انه يعتبر في موضوع الاستصحاب اليقين السابق ولا يقين في المورد المزبور لأن الحكم ثابت بواسطة الأمارة.

وقد تفصى عنه صاحب الكفاية : بان دليل الاستصحاب يتكفل جعل

ص: 78

الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فالدليل الدال على الحدوث يدل على البقاء بضميمة دلالة الاستصحاب على الملازمة (1).

وهذا المعنى قابل للمناقشة والرد كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى في محله.

ولا يخفى انه إذا قلنا بان الأمارة تقوم مقام القطع الموضوعي تنحل المشكلة ، إذ الاستصحاب كما يترتب على اليقين بالحدوث يترتب على قيام الأمارة عليه. فلاحظ والتفت.

ثم ان إشكال صاحب الكفاية رحمه اللّه انما يجري بناء على ان المجعول في باب الأمارات هو المؤدى ، بمعنى تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي يرجع إلى جعل المؤدى بمنزلة الواقع.

واما بناء على كون المجعول هو المحرزية والكاشفية أو الحجية أو المنجزية ، بمعنى انه يتكفل تنزيلها منزلة العلم في إحدى هذه الجهات - على اختلاف الآراء - وهي تقوم مقام القطع الطريقي بهذا اللحاظ ، بناء على ذلك لا مانع من تكفل دليل الاعتبار لكلا التنزيلين ، إذ لم يلحظ سوى العلم والأمارة ، فيمكن ان يقصد تنزيل الأمارة منزلة العلم في مطلق آثاره الشرعية والعقلية ، فالتفت ولا تغفل.

هذا كله في قيام الأمارات مقام القطع.

واما الأصول : فقد أوقع صاحب الكفاية الكلام أولا في غير الاستصحاب فذكر انها لا تقوم مقام القطع أصلا حتى الطريقي المحض ببيان : ان المراد من قيامها مقام القطع ترتيب آثاره وأحكامه من التنجيز وغيره في موارد جريانها ، ولا يخفى ان الأصول العملية عبارة عن وظائف عملية مقررة للجاهل شرعا أو عقلا ، فهي في طول فقد المنجز والحجة على الواقع.

ص: 79


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /405- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ثم أورد على نفسه : بان الاحتياط منجز للواقع فلا مانع من الالتزام بقيامه مقام القطع الطريقي. وأجاب عنه بان : الاحتياط قسمين : عقلي وشرعي.

اما العقلي : فليس هو إلاّ حكم العقل بالتنجز وليس شيئا يترتب عليه التنجز. واما النقلي : فإلزام الشارع به وان كان يترتب عليه التنجيز لكنا لا نقول به في الشبهة البدوية وليس شرعيا في المقرونة بالعلم الإجمالي (1).

أقول : البحث في الأصول من هذه الجهة بحث لفظي صرف ، إذ انه لا موهم لقيامها مقام القطع الموضوعي ، فينحصر البحث في قيامها مقام القطع الطريقي.

ومن الواضح : ان مرجع البحث في هذه الجهة إلى ان الأصل المعلوم مفاده واثره والمعلوم جريانه في موارده المقررة بلا شبهة ولا إشكال ، هل مقتضى اثره الثابت كونه قائما مقام القطع الطريقي أو لا؟.

ولا يخفى ان ذلك بحث لفظي ، إذ لا يترتب على إثبات ذلك أو نفيه أي أثر وأي تغيير في مقام جريان الأصل وترتيب آثاره.

ولأجل ذلك لا يحسن بنا إطالة الكلام مع صاحب الكفاية والتعرض إلى نقاط الإشكال في كلامه.

وامّا الاستصحاب : فقد ذكر صاحب الكفاية ان دليل اعتباره لا يفي بقيامه مقام القطع الموضوعي ، إذ دليله لا بد ان يكون مسوقا اما بلحاظ اليقين أو بلحاظ المتيقن لما تقدم في الأمارة (2).

أقول : عرفت الحال هناك فلا نعيد.

ثم انه يبتني على الالتزام بجعل المستصحب في باب الاستصحاب.

ص: 80


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /265- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /265- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

واما بناء على ان دليل الاعتبار يتكفل جعل اليقين فمن الممكن ان يتكفل بإطلاقه تنزيله بلحاظ الموضوع والطريق.

واما بناء على ان المجعول في باب الاستصحاب هو اليقين ولكن بلحاظ الجري العملي - كما عليه المحقق النائيني وناقشناه في محله - لا بلحاظ الكشف والوسطية في الإثبات ، فلا يقوم الاستصحاب مقام القطع الموضوعي أصلا حتى الطريقي منه إذ لم تلحظ فيه جهة الكاشفية ، وانما يقوم مقام القطع الطريقي الصرف ، فالتفت. هذا تمام الكلام في أصل المطلب.

يبقى الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل في تصحيح قيام الأمارة أو الاستصحاب مقام القطع الموضوعي إذا كان جزء الموضوع.

وبيان ما أفاده : ان دليل الأمارة والاستصحاب وان تكفلا جعل المؤدى والمستصحب وتنزيلها منزلة الواقع ، لكن يثبت بطريق الملازمة ان القطع بهما - بما هما منزلان منزلة الواقع - بمنزلة القطع بالواقع ، فيثبت أحد جزئي الموضوع بنفس مفاد دليل الاعتبار ويثبت الجزء الآخر بالملازمة ، وبه يتم المطلب (1).

وقد حكم في الكفاية بان هذا الوجه لا يخلو من تكلف بل تعسف ، وعلل ذلك : بان الموضوع إذا كان مركبا من جزءين فلا يصح التعبد بأحد الجزءين ما لم يكن الجزء الآخر محرزا بالوجدان أو بالتعبد في عرضه ، إذ لا يعني للتعبد بالموضوع الا ترتيب الأثر الشرعي عليه ، والأثر لا يترتب إلا على كلا الجزءين لا على أحدهما.

والتعبد بأحد جزئي الموضوع فيما نحن فيه وهو القطع بالواقع في طول التعبد بالجزء الآخر وهو الواقع.

ص: 81


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /8- 9 الطبعة الأولى.

وذلك : لأن الملازمة المدعاة هي الملازمة بين تنزيل القطع بالواقع التنزيلي الحقيقي وبين تنزيل المؤدى منزلة الواقع.

ومن الواضح ان القطع بالواقع التنزيلي في طول تنزيل المؤدى فما لم يتحقق تنزيل المؤدى لا يحصل القطع بالواقع التنزيلي ، كي يتحقق تنزيله منزلة القطع بالواقع الحقيقي.

وعليه ، فالتعبد بأحد الجزءين في طول التعبد بالجزء الآخر ، وهو لا ينفع ، ففي ظرف التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى منزلته لا أثر شرعيا يترتب عليه فلا يصح التعبد به ، هذا خلاصة ما ذكره صاحب الكفاية ببعض توضيح منا (1).

والكلام في مقامين :

الأول : في أصل الوجه.

الثاني : في ما ذكره من منعه.

اما أصل الوجه الّذي في الحاشية : فالكلام فيه من جهتين :

إحداهما : في بيان المراد من الملازمة المدعاة.

وقد قيل في بيانه وجوه ثلاث :

الأول : ان المراد بها الملازمة العقلية وبنحو دلالة الاقتضاء ، إذ التعبد بأحد الجزءين لا يصح من دون التعبد بالجزء الآخر ، فإذا دل الدليل على التعبد بأحدهما يدل بدلالة الاقتضاء وصونا لكلام الحكيم عن اللغوية على التعبد بالجزء الآخر (2).

الثاني : ان المراد بها الملازمة العرفية ، بمعنى ان الدليل الدال على التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى منزلته يدل عرفا بالالتزام على تنزيل القطع بالواقع الجعلي

ص: 82


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 226 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الرشتي الشيخ عبد الحسين. في حاشيته على الكفاية -2/ 20 - الطبعة الأولى.

منزلة القطع بالواقع الحقيقي (1).

الثالث : - وهو ما ذكره المحقق الأصفهاني - ان يراد بها مجموع الدلالتين ، فان الدليل إذا دل على التعبد بأحد الجزءين يدل اقتضاء على التعبد بالجزء الآخر. اما ان أي شيء نزل منزلة الجزء الآخر فهذا لا يرتبط بالعقل ، بل العرف يحكم به بحسب ما يراه مناسبا. ففيما نحن فيه إذا دل الدليل على التعبد بالواقع فهو يدل اقتضاء على التعبد بالقطع ، والعرف هو الّذي يحكم بان ما نزل منزلة القطع هو القطع بالواقع الجعلي (2).

ولا يخفى : ان الوجه على جميع احتمالاته غير تام - مع قطع النّظر عن إشكال صاحب الكفاية عليه - لأنه ..

ان أريد به استلزام التعبد بالواقع للتعبد بالقطع بدلالة الاقتضاء ، ففيه : ان هذا لو تم في نفسه فانما يتم لو كان دليل التعبد بالواقع دليلا خاصا ، بحيث إذا لم نلتزم بالتعبد بالجزء الآخر كان لغوا ، لا ما إذا كان مطلقا لا يلزم من عدم الالتزام بالتعبد بالجزء الآخر سوى عدم شموله للمورد مع شموله لموارد أخرى ، وما نحن فيه كذلك ، إذ دليل اعتبار الاستصحاب والأمارة مطلق يشمل هذا المورد وغيره في نفسه لكنه لا يشمله فعلا لتوقفه على مئونة زائدة لا تثبت بالإطلاق.

ولعل هذا الوجه هو الّذي دعا إلى تفسير الملازمة في كلام الكفاية بالملازمة العرفية. ومنه ظهر الإشكال في الوجه الثالث.

وان أريد بالملازمة الاستلزام العرفي ، ففيه : انه مجرد دعوى بلا شاهد عليها من الوجدان ، إذ لا يرى العرف والوجدان هذه الملازمة. فتدبر.

ص: 83


1- الواعظ محمد سرور. مصباح الأصول2/ 41 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 28 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 21 - الطبعة الأولى.

واما ما ذكره في وجه المنع ، فقد تطابق الأعلام الثلاثة « النائيني والأصفهاني والعراقي » على تفسيره بالدور (1) ، ببيان : ان تنزيل القطع بالواقع التنزيلي يتوقف على القطع بالواقع التنزيلي ، وهو يتوقف على الواقع التنزيلي ، وهو يتوقف على تنزيل القطع به منزلة الواقع ، من باب توقف التعبد بأحد جزئي الموضوع على التعبد بالجزء الآخر.

ولكن لا صراحة ، بل لا ظهور في كلام صاحب الكفاية فيما حمل عليه.

نعم في تعبيره بالتوقف مجرد إشعار ، ولكنه كما يمكن ان يريد به ذلك يمكن ان يريد به التوقف بمعنى التلازم ، كما يقال : أحد الضدين يتوقف على عدم الآخر ، مع انه لا عليه ولا معلولية بينهما.

وعليه ، فمن الممكن ان يقال ان مراد صاحب الكفاية ليس هو محذور الدور ، بل ما ذكرناه سابقا في مقام بيان مراده ، من ان التعبد بأحد الجزءين - فيما نحن فيه - لما كان في طول الآخر ، كان التعبد بالآخر في ظرفه ممتنعا لعدم ترتب الأثر عليه وحده ، والغرض ان الجزء الآخر لا يتحقق إلاّ بعد التعبد به. فملخص الإشكال ، ان التعبد بالمؤدى لا أثر له شرعا وهو يمتنع من صحة التعبد ، إذ التعبد بالموضوع لا معنى له إلاّ التعبد بالحكم.

فمرجع كلام الكفاية : إلى انه لا بد ان يكون التعبد بأحد الجزءين في حين التعبد بالجزء الآخر ، لا ان التعبد بأحدهما يتوقف على التعبد بالآخر. وإلاّ لزم الدور حتى في مورد التعبد بالجزءين في عرض واحد كما لا يخفى. وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني : بان الحكم الثابت للموضوع المركب ان كان قابلا للتحليل أمكن التعبد بكل جزء على حدة لترتب الأثر عليه نفسه ، وان لم يكن قابلا

ص: 84


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 22 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 3 / 28 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 3 / 26 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

للتحليل - كما هو الحال فيما نحن فيه ، إذ التركيب في الموضوع لا المتعلق - لا معنى للتعبد بأحد الجزءين ، إذ لا يترتب الأثر عليه ، فالمحذور من هذه الجهة لا من جهة الدور. انتهى ملخصا.

وأنت خبير بان هذا الإيراد يبتني على تفسير كلام الكفاية بإرادة الدور ، ولكن عرفت انه يمكن حمل كلامه على غير الدور ، وهو ما ذكرناه الّذي يتفق مع إيراد الأصفهاني ، فاذن لا وقع لكلام الأصفهاني.

وقد تفصى المحقق العراقي عن محذور الدور السابق ، بان ما يترتب على التعبد بالواقع وتنزيل المؤدى هو الحكم التعليقي وهو الّذي يتوقف عليه التعبد.

اما ما يترتب على مجموع الجزءين فهو الأثر الفعلي فيتغاير الموقوف عليه مع الموقوف عليه.

ولم يرتض المحقق الأصفهاني هذا التفصي ، واستشكل فيه بما لا يخلو عن غموض وإجمال.

وتوضيح الإيراد عليه : انه يقع الكلام في مبحث استصحاب الحكم التعليقي في واقع الحكم التعليقي ، والاحتمالات فيه ثلاثة :

أحدها : انه عبارة عن حكم وضعي ينتزع عن حكم تكليفي ، كسائر الأحكام الوضعيّة على رأي الشيخ الأنصاري ( رحمة اللّه ).

ثانيها : انه عبارة عن مرتبة من مراتب الحكم نظير اختلاف الحكم في الإنشاء والفعلية.

ثالثها : انه عين الحكم الفعلي ولكنه بإضافته إلى مجموع الجزءين حكم فعلي وبإضافته إلى أحد جزئي الموضوع حكم تعليقي ، فالفعلية والتعليقية وصفان لحكم واحد يتحققان باختلاف الإضافة.

وقد أورد على الأول : بأنه لا يصحح جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، لأنه وان كان امرا بيد الشارع بلحاظ منشأ انتزاعه لكن استصحاب

ص: 85

الأمر الانتزاعي لا ينفع في إثبات الحكم الفعلي في الخارج إلاّ بنحو الأصل المثبت.

واما الثاني : فلم يتوهمه أحد كي يرتفع به محذور الدور.

فيتعين الاحتمال الثالث ، ومعه لا يرتفع محذور الدور إذ الحكم واحد لا تعدد فيه ، وثبوته يتوقف على التعبد بكلا الجزءين. فالتفت.

والمتحصل : انما ذكره صاحب الكفاية في الحاشية ، مضافا إلى عدم الدليل عليه يستلزم المحذور المتقدم. فتدبر جيدا.

الجهة السادسة : في القطع بالحكم المأخوذ موضوعا للحكم وصوره أربعة :

الأولى : ان يكون مأخوذا في موضوع نفس الحكم الّذي تعلق به.

الثانية : ان يكون مأخوذا في موضوع حكم مماثل لما تعلق به.

الثالثة : ان يكون مأخوذا في موضوع مضاد لما تعلق به.

الرابعة : ان يكون مأخوذا في موضوع حكم مخالف لما تعلق به ، كما إذا قال المولى : إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق أو يستحب أو نحو ذلك.

ولا إشكال في صحة القسم الأخير ، إذ لا وجه لتوهم عدم صحته أصلا. وانما الإشكال في الأقسام الأخرى.

اما القسم الأول : وهو ما أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم الّذي تعلق به القطع ، فلا إشكال في امتناعه وعدم إمكانه.

إلاّ انه وقع الكلام في بيان سرّ الامتناع وجهته وقد ذكرت في هذا المقام وجوه :

الأول : ما أشار إليه صاحب الكفاية من استلزامه الدور.

وقد قرب استلزامه الدور : بان القطع بالحكم مما يتوقف على الحكم بداهة

ص: 86

توقف العارض على معروضه ، فإذا أخذ القطع به موضوعا له كان متوقفا عليه توقف الحكم على موضوعه. ونتيجة ذلك توقف الحكم على نفسه (1).

وأورد عليه المحقق الأصفهانيّ بما حاصله : ان ما يتوقف على القطع غير ما يتوقف عليه القطع ، فان ما يتوقف عليه القطع هو الصورة الذهنية للحكم ، لأن القطع لا يتعلق بالموجودات الخارجية ، لأنه من الأمور النفسيّة الذهنية ، وهي انما تتعلق بالصور الذهنية دون الخارجية ، وإلاّ لزم انقلاب الذهن خارجا أو الخارج ذهنا ، فالقطع عارض على الوجود الذهني للحكم ، وما يتوقف على القطع هو الوجود الخارجي للحكم ، وعليه فيتغاير الموقوف عليه والموقوف عليه (2).

وبنظير هذا البيان يدفع محذور الدور الّذي ذكره في الكفاية في أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ، وقد ذكره صاحب الكفاية هناك وقرره ولم يدفعه (3).

ولأجل ذلك لا يمكننا اسناد هذا البيان للدور إلى صاحب الكفاية بعد وضوح اشكاله وتقرير صاحب الكفاية نفسه للإشكال.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني ونقله عنه المحقق الأصفهاني باختصار : من استلزام أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه للدور أيضا ، ولكن بتقريب آخر غير السابق ، وهو : ان موضوع الحكم يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود بمعنى ان الحكم يثبت عند فرض وجود الموضوع ، وكما يؤخذ نفس الموضوع مفروض الوجود كذلك يؤخذ متعلق الموضوع وقيده ، فإذا فرض كون القطع بالحكم موضوعا يلزم ان يكون القطع مأخوذا بنحو فرض الوجود ، فكذلك متعلقه وهو الحكم يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود ، فيلزم فرض ثبوت الحكم عند فرض وجوده وثبوته ، وهذا يستلزم فرض ثبوت الحكم قبل ثبوته أو تعليق الحكم على

ص: 87


1- و (2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 22 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 22 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -2. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

نفسه ، وفرض ثبوت الشيء قبل ثبوته أو تعليق الشيء على نفسه محال واضح (1).

وهذا البيان للدور ذكره في مورد أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ، وذكر انه سار لأخذ كل قيد يكون لاحقا عن الحكم ، كالعلم بالحكم ونحوه.

ورده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه بوجهين :

أحدهما : ان متعلق العلم لما كان هو الوجود الذهني للحكم ، سواء كان هناك خارج أم لا ، كان مفروض الوجود هو الوجود الذهني له ، والثابت على تقديره ومعلقا عليه هو الوجود الخارجي له ، فلا يلزم تعليق الشيء على نفسه أو فرض ثبوت الشيء قبل ثبوته ، للتغاير بين الوجود الخارجي للحكم والذهني.

وثانيهما : ان الوجود الفرضي للشيء غير الوجود التحقيقي له ، ولا مانع من تعليق الوجود التحقيقي للحكم على الوجود الفرضي له ، والمأخوذ في الموضوع هو الوجود التقديري الفرضي للحكم وهو غير وجوده التحقيقي ، فتدبر (2).

ويمكن الخدشة في كلا الوجهين :

اما الأول : فلأنه انما يتم لو كان المأخوذ في موضوع الحكم مجرد العلم به بلا قيد مصادفته للواقع - بان لم يتعلق الغرض بالواقع بالمرة - ، فانه يقال حينئذ : بان فرض العلم بالحكم لا يلازم فرض الوجود الواقعي للحكم ، بل غاية ما يلازم فرض الوجود الذهني له ، لأنه هو متعلق العلم ، ولا ملازمة بين العلم والواقع بحال.

واما إذا فرض ان المأخوذ هو العلم المصادف للواقع ، فلا يتم ما ذكره لأن متعلق العلم وان لم يكن هو الواقع ، بل كان الوجود الذهني للحكم ، لكن فرض

ص: 88


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1/ 148 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 23 - الطبعة الأولى.

العلم بهذا القيد ملازم لفرض الوجود الواقعي للحكم ، وعليه فيستلزم فرض ثبوت الحكم قبل ثبوته ، وهو محذور الدور.

نعم ، التقريب المذكور وان تم على ما ذكرناه ، لكنه يكون أخص من المدعى ، إذ المدعى امتناع أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم مطلقا ، أخذ بلا قيد المصادفة أم معه.

ثم ان التقريب المزبور انما يفرض في مورد فرض أخذ القطع بالحكم الفعلي المتحقق - بنحو يساوق الماضوية وخصوصية الفعل الماضي المدعاة فيه بعد إنكار دلالته على الزمان الماضي وهي خصوصية التحقق -.

وعليه ، فلا يتوجه عليه ما أشير إليه أيضا في كلام المحقق الأصفهاني ، بان العلم لا يلازم وجود متعلقه فعلا ، بل يمكن ان يوجد في المستقبل ، فيوجد العلم فعلا ويوجد متعلقه استقبالا ، وذلك لأنه انما يتم لو كان متعلق العلم امرا استقباليا لا امرا فعليا متحققا كما هو المفروض. فلاحظ.

واما الثاني : فهو غريب الصدور من مثل المحقق الأصفهاني ، إذ المحقق النائيني وان عبر بفرض الوجود ، لكنه لا يقصد كون موضوع الحكم هو الوجود الفرضي للشيء المأخوذ في لسان الدليل ، بل يقصد ان مفاد القضية الشرعية المتكفلة للحكم الشرعي مفاد الفرض والتقدير ، فهي تفيد فرض الحكم عند فرض وجود الموضوع ، ومرجع ذلك إلى تعليق نفس وجود الحكم على وجود الموضوع حقيقة ، ولذا لا يلتزم بترتب الحكم فعلا الا عند وجود الموضوع حقيقة وخارجا. اذن فالمعلق عليه في الفرض هو الوجود التحقيقي للحكم لا الفرضي ، فيلزم المحذور المزبور.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية تحت عنوان « والتحقيق ... » وتوضيحه بتلخيص : ان الحكم معلقا على القطع بالحكم تارة يكون بنحو القضية الخارجية. وأخرى بنحو القضية الحقيقية.

ص: 89

فعلى الأول : بان يحكم المولى على من حصل لديه العلم بالحكم ، لا خلف ولكن لازمه اللغوية ، إذ الحكم انما هو لجعل الداعي ، ومع علم المكلف بالحكم لا يكون جعل الحكم في حقه ذا أثر من هذه الجهة.

وعلى الثاني : يلزم الخلف ، إذ مع جعل المولى هذه القضية ، أعني ثبوت الحكم عند تحقق العلم به ووصولها إلى المكلف ، يستحيل ان يتحقق العلم بالحكم ، وما يبتني على امر محال محال (1).

الرابع : وهو ان تعليق الحكم في الذهن على العلم به يستلزم عدم محركيته وداعويته ، وذلك لأن المكلف إذا فرض انه جزم بثبوت الحكم خارجا واعتقد بتحققه فهو يرى ان الحكم موجود في الخارج ، والموجود لا يقبل الوجود والتحقق ثانيا.

وعليه ، فهو يرى ان ثبوت الحكم عند علمه به محال ، ومعه لا يكون الحكم محركا وداعيا ، إذ الداعوية تتقوم بالوصول ، والمفروض ان المكلف يرى محالية ثبوته ، فيستحيل جعله حينئذ. وهذا وجه بسيط لا التواء فيه.

ونتيجة ذلك : ان تعليق الحكم على العلم به أمر ممتنع عقلا ولا يمكن الالتزام به.

واما القسم الثاني والثالث : أعني كون القطع بالحكم مأخوذا موضوعا لحكم مماثل لمتعلقه أو مضاد له. فقد ذهب صاحب الكفاية إلى محاليتها استلزام الأول اجتماع المثلين والثاني اجتماع الضدين (2).

والتحقيق : انه قد تقدم الكلام في تضاد الأحكام وتماثلها - في مبحث اجتماع الأمر والنهي - وقد عرفت التزام المحقق الأصفهاني بعدم تضادها الا من

ص: 90


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 23 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق - الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /267- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ناحية المنتهى ، أعني مقام الامتثال ، إذ يمتنع امتثال الحكم الزاجر والحكم الباعث في عرض واحد ، لامتناع تحقق الانزجار والانبعاث في آن واحد ، وهكذا يمتنع تحقق داعيين مستقلين نحو فعل واحد في آن واحد ، ونتيجة ما ذكره : انه لا يتحقق التعارض فيما لو كان أحد الحكمين مجهولا لعدم محركية نحو متعلقه ، فلا يتحقق التكاذب بين دليليهما ، على خلاف الحال فيما لو قيل بتحقق التضاد في المبدأ إذ لا يرتبط ذلك بالعلم والجهل ، بل وجود المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة واقعي (1).

كما عرفت - هناك - مخالفتنا مع المحقق الأصفهاني والتزامنا بالتضاد في المبدأ أيضا ، إذ لا يمكن اجتماع مصلحة ومفسدة ملزمتين ، ونتيجته عدم اجتماع الكراهة والإرادة لأنهما ينشئان بلحاظ وجود المفسدة الراجحة والمصلحة الراجحة ، بل اما ان تتساوى المصلحة والمفسدة فلا إرادة ولا كراهة ، واما ان ترجح المصلحة فتتحقق الإرادة أو المفسدة فتتحقق الكراهة. وهكذا يلتزم بعدم إمكان تحقق إرادتين مستقلتين بفعل واحد ، لا من جهة عدم إمكان تحقق مصلحتين ملزمتين ، فانه ممكن لا محذور فيه ، وانما هو من جهة ان تعدد المصلحة لا يصير منشئا لتعدد الإرادة ، بل يصير منشئا لحصول إرادة واحدة أكيدة.

فعدم اجتماع المثلين يختلف عن عدم اجتماع الضدين من الحكمين ، فالمقصود من عدم اجتماع المثلين عدم اجتماعهما بحدهما مع وجودهما بواقعهما ، بخلاف المقصود من عدم اجتماع الضدين فان المراد به عدم اجتماعهما بواقعهما - نعم لا تضاد ولا تماثل بين الإنشاءين ، فان الإنشاء خفيف المئونة -.

وعلى ما ذكرناه واخترناه نقول : انه لا يمكن اجتماع حكمين متماثلين - كوجوبين - مستقلين في الداعوية والحد ، بل يمكن اجتماع حكمين بنحو التأكد ،

ص: 91


1- راجع 3 / 81 - 82 من هذا الكتاب.

بمعنى ان يكون هناك حكم واحد مؤكد لإمكان اجتماع مصلحتين توجبان تأكد الإرادة وهي توجب تأكد البعث ، بمعنى أنها توجب إنشاء البعث المؤكد ، فان الحكم هو التسبيب للبعث الاعتباري العقلائي ، وبما ان البعث يتصف خارجا بالشدة والضعف أمكن اعتبار البعث الأكيد كما أمكن اعتبار البعث الضعيف.

ومما يشهد لصحة ما ذكرناه صحة تعلق النذر بواجب وانعقاده ، ولازمه تأكد الحكم ، ولم يتوهم أحد ان وجوب الوفاء بالنذر في المقام يستلزم اجتماع المثلين المحال ، كما يشهد له شمول الحكمين الاستغراقيين لما ينطبق عليه موضوعاهما نظير العالم الهاشمي الّذي ينطبق عليه : « أكرم العالم » و « أكرم الهاشمي » ، ولم يتوهم خروج المورد عن كلا الحكمين لاستلزامه اجتماع المثلين. ومما يقرب ما نقوله أيضا في اجتماع المثلين ، انه لم يرد في العبارات بيان امتناع وجوب الإطاعة شرعا من باب انه يستلزم اجتماع المثلين ، مع ان البعض يرى ان الإطاعة عبارة عن نفس العمل ، أو انها وان كانت من العناوين الانتزاعية ، لكن الأمر بالأمر الانتزاعي يرجع إلى الأمر بمنشإ انتزاعه - كما عليه المحقق النائيني - ، بل ادعى كون محذوره التسلسل ونحوه مما يظهر منه ان اجتماع المثلين بالنحو الّذي ذكرناه أمر صحيح ارتكازا.

وبالجملة : التماثل بمعنى التأكد ووجود واقع الحكمين لا مانع منه. واما اجتماع حكمين مستقلين متماثلين ، فلا نقول به لامتناعه مبدأ ومنتهى.

وعليه ، فلا مانع من تعليق حكم مماثل على القطع بالحكم إذا كان بنحو التأكد.

واما ثبوت حكمين متضادين فهو غير معقول - كما عرفت - ، إذ مع اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين اما لا إلزام إذا تساويتا أو تترجح إحداهما فيكون الحكم على طبقها.

وعليه ، فأخذ القطع بالحكم موضوعا لحكم مضاد لمتعلقه ممتنع.

ص: 92

واما ما ذكره المحقق الأصفهاني تابعا للمحقق الطهراني في ان البعث امر انتزاعي ينتزع من الإنشاء (1) ، فهذا مما لا أساس له ، وسيأتي التعرض لتحقيق ذلك في غير مجال إن شاء اللّه تعالى.

ثم انه ذكر صاحب الكفاية وانه لا مانع من أخذ القطع بمرتبة من مراتب الحكم موضوعا لنفس الحكم في مرتبة أخرى أو لمثله أو ضده. وقبل تحقيق هذه الجهة لا بأس بالتعرض إلى بيان مراتب الحكم وما قيل حول كلام الكفاية ، إذ قد تكرر التعرض لها في الكفاية تصريحا وإشارة ولم يسبق منا تحقيق الكلام فيها ، فنقول ومن اللّه نستمد العصمة والتوفيق : ذكر صاحب الكفاية ان الحكم مراتب أربعة :

أولها : مرتبة الاقتضاء وهي ان يكون له شأنية الثبوت بلحاظ وجود المصلحة المقتضية له.

ثانيها : مرتبة الإنشاء ، وهي ان ينشأ الحكم ويوجد بوجود إنشائي بلا ان يصل إلى مرحلة البعث أو الزجر.

ثالثها : مرتبة الفعلية ، وهي ان يصل الحكم إلى مرحلة البعث أو الزجر أو الترخيص الفعلي.

رابعها : مرتبة التنجز ، وهي ان يكون الحكم مما يعاقب العبد على مخالفته (2).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية في عدّ مرحلة الاقتضاء ومرحلة التنجز من مراحل الحكم ، ومنع صحة صدق الحكم الاقتضائي ،

ص: 93


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 270 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /36- الطبعة الأولى. الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 258 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

وأطال في بيان ذلك (1).

والواقع : ان المناقشة لفظية اصطلاحية ، إذ الواقع الّذي يقول به صاحب الكفاية ويعرف به كلتا المرتبتين لا ينكره أحد ، فلا ينكر أحد انه قد يوجد ملاك الحكم ومصلحته الباعثة لجعله ولكن يكون مانع يمنع عن إنشائه كغفلة المولى أو نحو ذلك ، كما لا ينكر أحد ان الحكم قد يصل إلى حد يحكم العقل بقبح مخالفته واستحقاق العقاب عليها.

وانما الإشكال في صحة إطلاق الحكم الاقتضائي على الحكم بلحاظ المرحلة الأولى ، وان الأولى إطلاق الحكم الشأني عليه ونحو ذلك.

واما مرتبتا الإنشاء والفعلية ، فهما ليستا من مختصات صاحب الكفاية ، بل ذهب إليهما المحقق النائيني بفصله مرتبة الجعل عن مرتبة المجعول ، وان مرتبة الجعل هي إنشاء الحكم فقط واما المجعول فهو الحكم الفعلي (2).

لكن المحقق الأصفهاني استشكل في وجود مرتبة الفعلية غير مرتبة الإنشاء والتنجز ، فذكر ان المقصود بالفعلي ان كان هو الفعلي من قبل المولى ، فهو ليس إلاّ الإنشاء. وان كان هو الفعلي بقول مطلق ومن جميع الجهات فهو يساوق الوصول ، فيكون هو الحكم المنجز.

واوضح كون الفعلي من قبل المولى عين الإنشاء ، ببيان : إن الإنشاء ان كان بلا داع فهو محال عقلا على الحكيم لكونه لغوا. وان كان بداعي غير جعل الداعي كالتهديد أو التمني أو غيرها فلا يكون مصداقا للحكم بحال من الأحوال ، ولا يكون من مراحل الحكم ، بل يكون مصداقا للتهديد أو غيره. وان كان بداعي جعل الداعي فهو الفعلي من قبل المولى (3).

ص: 94


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 6 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 127 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 24 - 25 - الطبعة الأولى.

أقول : من الواضح الّذي لا يقبل الإنكار ان الحكم وجودا بعد الإنشاء ، فيقال : بان وجوب الصلاة ثابت وحرمة شرب الخمر ثابتة ، ولا يمكن ان يقصد من الحكم المتصف بالثبوت الفعلي هو الإنشاء ، إذ الإنشاء ليس إلاّ استعمال اللفظ في المعنى بقصد خاص ، وهو امر متصرم الوجود لا بقاء له ، ولا يمكن ان يكون الحكم الثابت امرا انتزاعيا انتزع عن نفس الإنشاء لأن الأمر الانتزاعي يدور مدار منشأ انتزاعه ، وقد عرفت ان الإنشاء متصرم الوجود ، فلا بد ان يكون امرا اعتباريا عقلائيا - لا شخصيا لعدم التزامه به - مسببا عن الإنشاء ، وإذا فرض ان الحكم امر اعتباري مسبب عن الإنشاء فقد ينشأ الحكم ويقصد تحقق اعتباره فعلا فلا ينفك عن الإنشاء ، كما يمكن ان يقصد تحققه بالإنشاء على تقدير وجود أمر غير حاصل ، فينفك الحكم الفعلي عن الإنشاء. إذن فالحكم الفعلي غير الإنشاء ويمكن انفكاكه عنه.

ونظيره تشريع القوانين في المجالس النيابية ، ولكن لا تنفذ وتكون فعلية المجرى إلا بعد مدة طويلة حتى مع علم الناس بتشريعها.

وبالجملة : انفكاك الإنشاء عن فعلية الحكم امر واضح في العرفيات والشرعيات.

واما ما ذكره من البيان لتقريب ان الإنشاء عين الفعلية.

فيمكن دفعه : بأنه يمكن ان يكون الإنشاء بداعي جعل الداعي لكن لا فعلا ، بل على تقدير حصول شرط خاص ، وهذا يكفي في رفع اللغوية ، كما يصحح وقوع الإنشاء في مراحل الحكم وصيرورته مصداقا للحكم ، بل قد يحتاج إليه المولى كما لو علم انه يكون نائما عند حصول الشرط.

وملخص الجواب : ان الإنشاء بهذا الداعي قابل التحقق ، وهو لا يساوق فعلية الحكم وثبوته في مقام الاعتبار ، كما يكون مصداقا للحكم عند حصول شرطه ، وليس نظير الإنشاء بداعي التهديد ، فإذا تحقق الشرط تحققت الإرادة

ص: 95

الجدية وتحقق البعث الاعتباري الفعلي ، وانما يتنجز بالوصول. اذن فالمراتب ثلاثة.

ونتيجة الكلام : هو ان الإنشاء غير الفعلية.

لكن يبقى شيء وهو : دعوى ان الحكم الإنشائي خارجا لا ينفك عن الحكم الفعلي.

وذلك : لأن المنشأ ان كان هو الحكم بلا تقدير شيء ثبت الحكم الفعلي بمجرد الإنشاء ، وان كان هو الحكم على تقدير شيء لم يحصل بعد ، فكما لا يثبت الحكم الفعلي لعدم حصول شرطه كذلك لا يثبت الحكم الإنشائي للمكلف الفاقد للشرط ، إذ المنشأ كان هو الحكم على تقدير فلا معنى لأن يقال لفاقد الشرط انه قد أنشئ الحكم في حقه.

فملخص الدعوى : هو منع انفكاك الحكم الإنشائي عن الفعلي في مقام الارتباط بالموضوع الخارجي ، وان صحت دعوى انفكاك الإنشاء عن الفعلية في أنفسها.

ولا يخفى : ان تحقيق هذه الجهة ينفعنا في مقامات كثيرة.

منها : مسألة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي حيث التزم البعض (1) بان الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل هو إنشائي لا فعلي.

وهذا يبتنى على إمكان التفكيك بين المرحلتين خارجا ، وبالإضافة إلى الموضوع الخارجي كما لا يخفى.

وعليه نقول : ان هذا الإشكال انما يرد ، وهذه الدعوى انما تتوجه ، بناء على الالتزام في معنى الإنشاء بما هو المشهور من انه استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى في وعائه الاعتباري المناسب له ، فانه إذا التزم بذلك يتوجه عليه :

ص: 96


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /37- الطبعة الأولى.

أولا : بأنه ليس لدينا ما نعبر عنه بالحكم الإنشائي ، إذ ليس لدينا إلاّ الإنشاء والاعتبار العقلائي ، وكل منهما ليس هو الحكم الإنشائي ، إذ الإنشاء متصرم الوجود كما عرفت والاعتبار العقلائي هو الحكم الفعلي ، فأين هو الحكم الإنشائي الّذي يدعى ثبوته للمكلفين مع عدم الفعلي.

ثانيا : - لو أغمضنا النّظر عن هذا الإيراد - بان الحكم الإنشائي المفروض ثبوته لا يمكن انفكاكه خارجا عن الحكم الفعلي ، لما تقدم من انه اما ان ينشأ الحكم بلا تقدير أو مع تقدير ، فعلى الأول : يتحقق الحكم الفعلي كما يتحقق الإنشائي بمجرد الإنشاء. وعلى الثاني : كما لا يتحقق الفعلي عند الإنشاء كذلك لا يتحقق الإنشائي وانما يتحققان معا عند تحقق التقدير.

واما بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية في معنى الإنشاء من انه إيجاد المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي ولآثار (1) ، فلا تتوجه عليه الدعوى المتقدمة.

وذلك : لأن إنشاء الحكم عبارة عن إيجاده بنحو وجود إنشائي ويترتب عليه الاعتبار العقلائي.

وعليه ، فلا يرد الوجه الأول ، إذ لدينا ما نعبر عنه بالحكم الإنشائي غير الإنشاء والاعتبار العقلائي وهو الحكم الإنشائي للحكم ، ولا يرد الوجه الثاني ، إذ التفكيك بين الوجود الإنشائي للحكم والوجود الفعلي الحقيقي ممكن ، إذ يمكن ان يكون القيد المأخوذ قيدا للاعتبار والحكم الفعلي دون الوجود الإنشائي ، فيتحقق الوجود الإنشائي قبل القيد ولا يتحقق الفعلي.

نعم ، يبقى سؤال وهو : انه ما الأثر في الوجود الإنشائي مع عدم الفعلية؟.

وجوابه : ما تقدم من انه يكفي أثر له ، انه يكون موضوعا للاعتبار

ص: 97


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /66- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العقلائي عند تحقق شرطه بلا احتياج إلى إنشاء جديد ، بل يثبت ولو كان الآمر غافلا بالمرة ، فيكون المقصود بإيجاد الحكم إنشاء هو جعل الداعي على تقدير حصول الشرط ، وهذا أثر مصحح للعمل ، وموجب لأن يكون الوجود الإنشائي من مراحل الحكم ، لا كما إذا كان المقصود منه التهديد ونحوه.

وبما انه ابتني الإشكال إثباتا ونفيا على مذهب المشهور ومذهب صاحب الكفاية في معنى الإنشاء فلا بد من نقل الكلام إلى ترجيح أحد المذهبين.

والّذي نراه ان مذهب صاحب الكفاية هو المتجه ، فانه وان ذكره صاحب الكفاية بنحو الدعوى بلا ان يقيم الدليل عليه ، لكنه لا يحتاج إلى كثير استدلال ، فانه امر وجداني ، ولذا نرى من ينكر على صاحب الكفاية مذهبه ، يلتزم به ارتكازا كالمحقق النائيني (1) الّذي التزم - في مقام تصحيح عقد الفضولي بالرضا المالكي المتأخر - بان الإمضاء والرضا يتعلق بوجود مستمر للمعاملة لا بنفس الإنشاء لعدم صحة تعلق الرضا بالإنشاء ، وبذلك يربط المعاملة بالمالك فيشملها دليل ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) - مثلا - ، وان قامت القرينة القطعية على إرادة البيع الصادر من المالك.

والتزم أيضا بان الفسخ يتعلق بالوجود الإنشائي للحكم لا بالمجعول مع انه يقول ليس لدينا إلاّ جعل ومجعول ، وقد تصرم الجعل لأنه الإنشاء.

كما ان بالالتزام بمذهب صاحب الكفاية ينحل الإشكال في مثل معاملة الغاصب والفضولي ، فان الإنشاء إذا كان بقصد تحقق المعنى في عالم الاعتبار العقلائي - كما عليه المشهور - لم يتأت القصد من الغاصب والفضولي لعلمهما بعدم ترتب الاعتبار على مجرد إنشائهما.

وعليه فلا يتأتى الإنشاء من الغاصب ، مع ان تحقق البيع منه ونسبته إليه

ص: 98


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 88 - الطبعة الأولى.

امر لا يقبل الإنكار.

وهو يتجه على مذهب صاحب الكفاية ، إذ إيجاد البيع إنشاء يتأتى منهما ، فيصح ان يقصد بالإنشاء وجوده إنشاء ، وان لم يترتب الاعتبار عليه ما لم ينضم إليه رضا المالك.

وبالجملة : ان الأعلام وان لم يصرحوا بالتزامهم بمذهب صاحب الكفاية لكنهم صرحوا في بعض الموارد بما يستلزمه والتزموا بآثاره. فتدبر.

يبقى الكلام : فيما ذهب إليه المحقق النائيني من وجود مقامين للحكم : أحدهما : مقام الجعل. والآخر : مقام المجعول. وان مقام الجعل قد ينفك عن المجعول ، فيتحقق إنشاء الحكم ، ولكن لا يكون فعليا الا بعد حصول شرطه - لو كان له شرط -. فانه قد تكرر منه التصريح بهذا المطلب (1).

وأورد عليه المحقق الأصفهاني : بان الجعل والمجعول كالإيجاد والوجود متحدان واقعا وحقيقة ومختلفان اعتبارا ، فكيف يمكن تصور انفكاك أحدهما عن الآخر (2)؟.

وتفصى المحقق العراقي عن ذلك : بان المجعول لا ينفك عن الجعل ، بل يكون فعليا بالجعل ، لكن لا يلزم ان تترتب عليه الآثار العقلائي بمجرد الجعل ، بل يمكن ان يكون ترتبها معلقا على شيء فالتعليق والتقدير لا يرجع إلى فعلية المجعول وانما يرجع إلى فاعليته ، بمعنى ترتب الآثار عليه ، ولا مانع من التفكيك بين فعلية شيء وفاعليته.

أقول : لا بد من إيقاع البحث من جهتين :

ص: 99


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 141 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 297 هامش رقم (1) طبعة مطبعة الطباطبائي.

الأولى : ما تقدم من الإشكال على المذهب المشهور في الإنشاء القائل بان الإنشاء عبارة عن الاستعمال بقصد تحقق معناه في الوعاء المناسب له ، من انه يلزم ان لا يكون لدينا حكم إنشائي إذ الإنشاء متصرم الوجود ، كما لا يمكن تحقق الحكم الإنشائي خارجا قبل الحكم الفعلي ، فانه بعينه يرد على مذهب المحقق النائيني ، إذ لا يرى وجودا سوى الجعل وهو الإنشاء والمجعول وهو الحكم الفعلي ، فأين هو الحكم الإنشائي؟ وكيف ينفك خارجا عن الحكم الفعلي؟.

وقد عرفت انحصار التخلص عن هذا الإشكال بالالتزام بمذهب صاحب الكفاية في الإنشاء. فراجع.

الثانية : في أصل مطلبه من انفكاك الجعل عن المجعول وانه صحيح أو لا.

والحق : ان إيراد المحقق الأصفهاني غير وارد ، وذلك لأن الجعل في نظر المحقق النائيني هو إنشاء الحكم والمجعول هو نفس الحكم الّذي حقيقته حقيقة اعتبارية تدور مدار اعتبار المعتبر وجودا وعدما.

وإذا فرض ان الحكم امر اعتباري - إذ لو كان عبارة عن الإرادة والكراهة لم يكن لدينا جعل ومجعول - ، فليست نسبة الإنشاء إليه نسبة الإيجاد والوجود والتصور والمتصور ، إذ تحقق الحكم بالاعتبار وهو فعل العقلاء أنفسهم ، وهل يتوهم انه متحد مع إنشاء المولى؟ ، وقد نظره بالرمي الّذي يكون سببا لإصابة الهدف فان إصابة الهدف تنفك عن الرمي ، وبالوصية التمليكية فان الملكية بعد الموت والوصية قبله.

نعم ، الاعتبار والمعتبر كالتصور والمتصور والإيجاد والوجود لا ينفكان ، ولكنه قدس سره لم يرد من الجعل الاعتبار ، بل أراد به الإنشاء.

وبالجملة : لا وجه للإيراد عليه بان الجعل والمجعول متحدان حقيقة بعد ان كان المراد من الجعل هو الإنشاء ومن المجعول هو الحكم الاعتباري ، وقد عرفت فيما مر بيان إمكان انفكاك الإنشاء عن الحكم الاعتباري.

ص: 100

نعم ، يبقى سؤال : وهو انه ما الوجه في إطلاق الجعل على الإنشاء؟ ، وجوابه : ان الاعتبار العقلائي لا يتحقق بدون الإنشاء ، فالبناء النفسيّ على تمليك زيد داره لعمرو وانها ملك له بمائة دينار لا يوجب اعتبار البيع عند العقلاء ما لم ينشأ البيع ، وعليه فالإنشاء بمنزلة الموضوع والسبب للاعتبار العقلائي نظير الملاقاة للنجس في كونها سببا لحكم الشارع بالنجاسة ، وإيجاد الموضوع للحكم يصحح عرفا إطلاق إيجاد الحكم ونسبته لموجود الموضوع ، ولذلك يقال : « ان زيدا نجّس يده » ، كما يقال انه : « ملّك عمرا داره » ، مع ان الحكم بالنجاسة شرعي وبالملكية عقلائي ، فإطلاق الجعل على الإنشاء إطلاق مسامحي يصححه كون الإنشاء سببا للاعتبار ، فالتفت وتدبّر.

وهذا امر واضح. وانما الأمر الّذي لا بد من إيقاع البحث فيه : هو ان الاعتبار الّذي لا ينفك عن المعتبر في موارد كون المنشأ هو الحكم على تقدير ، هل هو فعلي بمعنى انه يتحقق حال الإنشاء وان كان لا يترتب عليه الأثر الا عند حصول التقدير ، بان يعتبر العقلاء الوجوب عند الزوال من الآن؟ ، أو انه استقبالي بمعنى ان الاعتبار لا يتحقق إلاّ عند تحقق التقدير فقبل تحققه لا وجود الا للإنشاء؟ ، ولا يخفى ان هذا أجنبي عن إمكان انفكاك الحكم عن إنشائه الّذي عرفت تعين الالتزام به ، إذ هو بحث عن تحقق الانفكاك وعدمه.

والظاهر الّذي يجده الإنسان من نفسه الّذي به يميز ويدرك حكم العقلاء وعملهم ، هو ان اعتبار الحكم لا يكون إلاّ عند تحقق التقدير ، فقبله لا حكم ولا اعتبار ، فمن ملك زيدا داره على تقدير سفره ، لا يعتبر العقلاء ملكية زيد للدار الا في حال سفر المملك. ولكن هذا المعنى تام بناء على الالتزام في باب الاعتبارات بالاعتبار العقلائي ليس إلاّ ، اما بناء على الالتزام بوجود اعتبار شخصي للمنشئ يكون موضوعا للاعتبار العقلائي ، فلا يتم الكلام المزبور ، إذ الاعتبار الشخصي لا يكون إلاّ في حال الإنشاء ، إذ قد لا تكون للمنشئ

ص: 101

أهلية الاعتبار عند حصول التقدير كما إذا كان نائما أو غافلا أو ميتا - كما في الوصية التمليكية -.

هذا ، ولكن الالتزام بثبوت الاعتبار الشخصي قد عرفت نقضه في مبحث الخبر والإنشاء في أوائل الكتاب ، مع ان الاعتبار الشخصي موضوع للاعتبار العقلائي الّذي يكون محط الآثار العملية. وقد عرفت ان الاعتبار العقلائي منفك خارجا عن الإنشاء.

والمتحصل : ان الحكم المجعول ينفك عن الإنشاء إمكانا ووقوعا.

ونتيجة ما حققناه : هو تصور وجود حكم إنشائي غير الحكم الفعلي وإمكان انفكاك الإنشائي عن الفعلي خارجا.

وعليه : فما ذكره صاحب الكفاية من إمكان أخذ العلم بالحكم الإنشائي في موضوع الحكم الفعلي لا إشكال فيه ، لعدم تأتي أي محذور فيه من المحاذير المتقدمة.

نعم ، يبقى بحث مع المحقق النائيني في إمكان أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ، وسيأتي التعرض إليه إن شاء اللّه تعالى في أوائل مباحث الأمارات. فانتظر.

ثم ان صاحب الكفاية رحمه اللّه تعرض للظن كما تعرض للعلم ، فذكر انه لا يمكن أخذ الظن بالحكم في موضوع نفس الحكم ، وهو صحيح لعين ما مرّ في أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

واما أخذ الظن بالحكم في موضوع مثله أو ضده فلا مانع منه بالنحو الّذي يلتزم به في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري على ما سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى. ويأتي هناك إن شاء اللّه تعالى بيان المقصود من عبارة الكفاية من ان الحكم الواقعي يكون فعليا ، بمعنى انه لو قطع به من باب الإتقان لتنجز. وبيان النكتة في قيد « الاتفاق » الّذي أخذه فانتظر واللّه سبحانه

ص: 102

الموفق للصواب.

الجهة السابعة : في الموافقة الالتزامية.

وربطها بالأصول باعتبار ان البحث فيها انما يكون لمعرفة وجود المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف الدائر بين الوجوب والحرمة ، المصطلح عليه بدوران الأمر بين محذورين ، بيان ذلك : ان جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي مطلقا ..

تارة : ينفي بلحاظ عدم المقتضى له إثباتا ، كما ذهب إليه الشيخ في الاستصحاب باعتبار ان شمول دليله لموارد العلم الإجمالي يستلزم حصول التناقض بين الصدر والذيل ، ببيان يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى (1).

وأخرى : ينفى - بعد تسليم وجود المقتضي له إثباتا في نفسه بمنع ما ذكره الشيخ رحمه اللّه - بأنه يستلزم المخالفة القطعية العلمية للتكليف المنجز بالعلم الإجمالي (2).

وثالثة : ينفي في مورد عدم توفر هذا المانع كما في دوران الأمر بين محذورين ، إذ لا تمكن المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية ، بان الأصل لا أثر له عملا بعد عدم خروج المكلف عن الفعل والترك ، والأصل انما يجري بلحاظ الأثر العملي وبدونه لا يجري.

وفي هذا الفرض إذا التزم بجريان الأصل بإنكار ضرورة وجود الأثر العملي لجريان الأصل يقع البحث عن وجود مانع من جريانه ، وهو استلزامه لعدم الموافقة الالتزامية الواجبة ، ولأجل ذلك يبحث في وجوب الالتزام بالاحكام مضافا إلى وجوب الامتثال العملي ، بمعنى انه هل هناك وجهان أحدهما العمل

ص: 103


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /429- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 693 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والآخر الالتزام بوجوبه ، أو ليس في البين إلاّ وجوب العمل فقط؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى عدم وجوبه ، واستدل بالوجدان الحاكم في باب الإطاعة ، وانه لا يرى استحقاق العبد للعقاب إذا جاء بمتعلق التكليف بدون التزامه به وانقياده له.

وانتهى بذلك إلى عدم المانع من جريان الأصل في مورد دوران الأمر بين محذورين.

ثم ذكر انه على تقدير البناء على وجوب الالتزام فليس يمنع عن جريان الأصل ، لأن الواجب - على تقدير وجوبه - فهو الالتزام بحكم اللّه الواقعي على واقعة ، وهذا ممكن في مورد دوران الأمر بين محذورين ، ولا يتنافى مع جريان أصالة الإباحة في كلا الطرفين ، إذ يمكن ان يلتزم العبد بحكم اللّه الواقعي من وجوب أو حرمة على واقعه ، ويبنى على إباحة كل من الطرفين ظاهرا ، وليس الواجب هو الالتزام بحكم اللّه بعنوان الخاصّ من وجوب أو حرمة ، إذ لا دليل لو سلم الا على النحو الأول لأن الدليل المفروض هو وجوب التصديق بما جاء به النبي صلی اللّه علیه و آله وهو لا يقتضي أكثر مما ذكرناه.

ولو تنزلنا وقلنا : بان الالتزام الواجب هو الالتزام بحكم اللّه الواقعي بعنوانه الخاصّ ، فهو غير ممكن في الفرض ، فيسقط لعدم العلم به بعنوانه ، وهو مما يتوقف عليه الالتزام.

ودعوى : ان مقتضى العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة هو العلم إجمالا بلزوم الالتزام بأحدهما ، وحيث انه لا يمكن الموافقة القطعية بالالتزام بهما معا يتنزل إلى الموافقة الاحتمالية من باب التوسط في التنجيز ، فيلتزم بأحدهما تخييرا كما في صورة الاضطرار إلى أحد المشتبهين.

تندفع : بان الموافقة الاحتمالية هاهنا غير مقدورة إلاّ بنحو محرم ، وذلك لأن الالتزام بكل واحد من الحكمين غير ممكن مع الشك به وانما يمكن مع البناء

ص: 104

النفسيّ عليه وتشريعه وهو محرم. وهذا الجواب هو ظاهر الكفاية (1).

وهو أفضل من الجواب المذكور في حاشيته على الرسائل من نفي منجزية العلم الإجمالي مع عدم التمكن من أحد الطرفين والاضطرار إلى أحدهما وعدم الالتزام بالتوسط في التنجيز (2). لأنه جواب مبنائي لا يتناسب مع البحث العلمي التحقيقي ، بخلاف جواب الكفاية هذا توضيح بعض ما جاء في الكفاية في المقام.

وللمحقق الأصفهانيّ في حاشيته على الكفاية كلام مرجعه إلى الاعتراض على صاحب الكفاية. وبيانه : ان البحث في وجوب الالتزام ..

تارة : يكون بلحاظ اقتضاء نفس التكليف ذلك كما يقتضي العمل.

وأخرى : يكون بلحاظ اقتضاء دليل من الخارج له.

والبحث من الجهة الأولى يناسب مباحث القطع ، لأنه بحث عن شئون التكليف المعلوم من حيث الإطاعة والمعصية عقلا. إلاّ ان البحث في لزوم الموافقة الالتزامية انما هو لأجل معرفة وجود المانع عن إجراء الأصول العملية مع تمامية المقتضي لها ، فان ارتباطها بالأصول من هذه الجهة ، ومن الواضح ان ذلك يقتضي بلزوم إيقاع البحث فيها من كلتا الجهتين ، ولا يصح ان يبحث فيها من جهة دون جهة ، إذ لا اختصاص للمانعية وعدمها في ثبوتها من إحدى الجهتين.

وعليه ، فإيقاع البحث فيها من خصوص الجهة الأولى في المقام كما جاء في الكفاية ليس كما ينبغي ، إذ لا يتناسب مع أصولية المسألة.

ثم ذهب قدس سره إلى ان ما دل على لزوم تصديق النبي صلی اللّه علیه و آله فيما جاء به لا يقتضي وجوب الموافقة الالتزامية ، إذ غاية ما يقتضيه

ص: 105


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /268- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /27- الطبعة الأولى.

هو ان ما أوجبه النبي صلی اللّه علیه و آله وأخبر به هو واجب من قبله تعالى ، وهو يجتمع مع عدم الالتزام بحكمه تعالى كما لو علم به مباشرة من دون توسط اخبار النبي صلی اللّه علیه و آله .

ثم ذكر قدس سره : « غاية الأمر أن المخالفة الالتزامية فيها - التعبديات - لا ينفك عن المخالفة العملية وتنفك المخالفة العملية عن المخالفة الالتزامية ، لأن الالتزام بالحكم لا يلازم العلم ، والعمل العبادي يلازم الالتزام بالحكم » (1).

أقول : ما ذكره أولا لا بأس به ولا كلام لنا معه.

واما ما ذكره أخيرا من ان عدم الالتزام في التعبديات ينافي التقرب المعتبر في العبادة فيكون مستلزما للمخالفة العملية.

ففيه : ان الحكمين التعبدين أو التعبدي والتوصلي المعلوم إجمالا ثبوت أحدهما ، اما ان نلتزم بإمكان المخالفة العملية القطعية في الفرض ، أو نلتزم بعدم إمكانه كالتوصليين ، فان التزمنا بالأول كما هو الحق على ما بين في محله ، فلا تجري الأصول لأجل استلزامها المخالفة العملية ، فيكون الأصل محفوفا بالمانع مع قطع النّظر عن وجوب الالتزام ، فلا تصل النوبة إلى البحث فيه من هذه الجهة ، نعني جهة مانعيته عن جريان الأصل. وان التزمنا بالثاني - ولو فرضا - فدعوى ان عدم الالتزام يلازم المخالفة العملية القطعية خلف كما لا يخفى ، فتدبر جيدا.

ثم ان صاحب الكفاية رحمه اللّه ذكر انه لا يمكن ان يكون إجراء الأصل نافيا لوجوب الالتزام لو فرض وجوبه في نفسه ومنافاة مفاد الأصل له ، وقد أشار بذلك إلى ما ذكره الشيخ في رسائله من ان إجراء الأصل في الشبهة

ص: 106


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 26 - الطبعة الأولى.

الموضوعية يخرج مورده عن موضوع وجوب الالتزام ، فان أصالة عدم الحلف على ترك الوطء وعدم الحلف على الوطء - في موارد دوران الأمر بينهما - تخرج كلا من الطرفين عن موضوع الوجوب والحرمة ، فلا يجب الالتزام بهما لعدم ثبوتهما.

ولكنه قدس سره بعد ان ذكر ذلك ان التحقيق خلافه ونفى صحته (1).

ومن الغريب جدا ما يظهر من حاشية المحقق الأصفهاني قدس سره من نسبة الوجه المذكور إلى الشيخ مع ما عرفت من نفيه صحته في نفس المطلب (2).

وعلى كل حال ، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى بطلان هذا الوجه ، لأنه يستلزم الدور ، وذلك لأن إجراء الأصل في كل من الطرفين المدعى انه يرفع وجوب الالتزام المنافي له انما يكون مع عدم المانع وعدم المانع هاهنا وهو وجوب الالتزام يتوقف على إجراء الأصل.

وبالجملة : جريان الأصل يتوقف على عدم ثبوت وجوب الالتزام لأنه مناف له ، وعدم ثبوته يتوقف على جريان الأصل كما هو مقتضى الوجه ، فيلزم الدور.

أقول : بنظير هذا البيان يقرب التحاكم أو التوارد بين الأصل السببي والمسببي.

ولكنه يدفع : بان الأصل السببي حيث يكون رافعا لموضوع الأصل المسببي ، فالأخذ به لا يستلزم رفعا لليد عن دليل المسببي لعدم موضوعه ، اما

ص: 107


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /268- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . الانصاري المحقق الشيخ مرتضی فرائد الاصول 19 - الطبعة الأولی.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 28 - الطبعة الأولى.

الأخذ بالأصل المسببي فهو يستلزم رفع اليد عن دليل السببي اما بلا وجه أو بوجه دوري ، وهو بان يستند في رفع اليد عن دليل السببي إلى الأخذ بالأصل المسببي المتوقف على عدم الأخذ بالأصل السببي - إذ لو أخذ به رفع موضوعه كما هو الفرض - المفروض توقفه على الأخذ بالأصل المسببي.

والّذي نراه ان تقريب المذكور في كلام الشيخ بما دل ان يجعل نسبة جريان الأصل إلى وجوب الالتزام نسبة الأصل السببي إلى الأصل المسببي فيتأتى فيه هذا البيان ولا دور.

بيان ذلك : ان وجوب الالتزام موضوعه هو الحكم الثابت ، فالأصل النافي للحكم يرفع موضوع وجوب الالتزام ، فلا يكون إجراؤه موجبا للتصرف في دليل وجوب الالتزام ، وهذا بخلاف جريان الأصل ، فان موضوعه الشك ، فلم يؤخذ في موضوعه عدم وجود حكم ينافيه ، وانما لا يجري من جهة حكم العقل بحصول المنافاة ، نظير عدم اجتماع حكم الأصل السببي مع المسببي بحيث لو قام دليل بالخصوص على ثبوت الحكم المسببي لم يجر الأصل السببي مع انه لم يرتفع موضوعه.

وعليه ، فيكون الأخذ بوجوب الالتزام مستلزما لرفع اليد عن دليل الأصل اما بلا وجه أو على وجه دائر.

اذن فما جاء في الكفاية في مناقشة هذا الوجه غير وجيه (1) ، وانما الصحيح ما أشار إليه الشيخ في رسائله من ان عدم جريان الأصل على تقدير ثبوت وجوب الالتزام من جهة منافاته للتكليف المعلوم بالإجمال ، ولا يتكفل الأصل رفع موضوع وجوب الالتزام ، لأن الأصل انما يجري في كل من الطرفين بلحاظ

ص: 108


1- [1] من المحتمل قويا ان يكون منظور الكفاية إلى هذا البيان وملاحظته ملاكا لإيراده بالدور. فتأمل. ( منه عفي عنه ).

الشك ، ولكنه لا ينفي الحكم الواقعي المعلوم ، لأنه معلوم إجمالا فلا موضوع للأصل بلحاظ الواقع.

وعليه ، فلا ينفع في نفي وجوب الالتزام لعدم رفعه لموضوعه.

وهذا نظير عدم جريان الأصل في الطرفين إذا استلزم المخالفة العملية القطعية ، لأجل منافاته للتكليف المعلوم إجمالا وعدم تكفله لنفيه كيف؟ وموضوعه الشك والفرض هو العلم بالواقع ، وانما يجري في الطرفين. فالتفت وتأمل.

الجهة الثامنة : في ما ذهب إليه الأخباريون من عدم حجية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة كما نسب إليهم.

وقد ذهب صاحب الكفاية تبعا للشيخ كما تبعه غيره إلى ان حجية القطع لازمة له مطلقا من غير فرق بين أسبابه وموارده ومن يتحقق عنده.

ثم شكك في صحة نسبة عدم حجية القطع غير الحاصل من الكتاب والسنة إلى الأخباريين ، وذكر بعض الكلمات لبعض أعلامهم تأييدا لتشكيكه ، بل تكذيبه للنسبة المزبورة ، حيث انها ظاهرة في منع الملازمة بين حكم العقل لوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه ، أو ظاهرة في منع الاعتماد على المقدمات العقلية لأنها لا تنتهي إلى الظن واكتفى قدس سره بهذا المقدار من التحقيق (1) ، وتابعة على إهمال ذلك بعض الاعلام المتأخرين عنه.

ولكن الّذي يظهر من مراجعة رسائل الشيخ وما جاء فيها من كلمات الأخباريين هو صحة النسبة المذكورة.

وعلى كل فقد أطال الشيخ الكلام في نقل كلماتهم وتفنيدها. وانما المهم من كلامهم ما ذكره بعد ذلك تحت عنوان : « فان قلت : ». وأهم منه ما ذكره في آخر كلامه بعد الجواب عن الشبهة الأولى تحت عنوان « إلاّ ان يدعى ان الاخبار »

ص: 109


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /270- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهو العمدة في دعوى الأخباريين.

اما الشبهة الأولى : الّذي ذكرها تحت عنوان : « فان قلت » فمحصلها : هو ان مقتضى كثير من النصوص كرواية زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « ... ولو ان رجلا قام ليله وصام نهاره وحج دهره وتصدق بجميع ماله ولم يعرف ولاية ولي اللّه فتكون أعماله بدلالته فيواليه ما كان له على اللّه ثواب » (1) وغيرها ، هو عدم وجوب إطاعة الحكم وامتثاله إلاّ إذا وصل من طريق النقل وما لم يصل من طريق النقل ملغى بنظر الشارع وان كان ثابتا في الواقع.

وأجاب الشيخ رحمه اللّه عن هذه الشبهة بوجهين :

الأول : انه إذا أدرك العقل قطعا وجوب شيء فعلا وان اللّه لا يرضى بتركه يمتنع ان يقال انه لا تجب إطاعة هذا الحكم ، والأخبار لا تدل على هذا المطلب ، بل هي في مقام النهي عن العمل بالمقدمات العقلية المنتهية إلى الظن كالقياس والاستحسان ، والقرينة على ذلك هو اهتمام المعصومين علیهم السلام في بيان هذا الأمر الّذي يظهر منه كونه امرا متعارفا ومباينا للواقع كي يستدعي الاهتمام ، ومن الواضح ان ما كان متعارفا هو الاستناد إلى المقدمات العقلية الظنية.

اما الاستناد إلى العقل القطعي المخالف للكتاب والسنة ، فهو نادر جدا لا يستدعي مثل هذا الاهتمام.

واما نفي الثواب على التصدق بجميع المال مع عدم كونه بدلالة ولي اللّه ، فلا يمكن الأخذ بظاهره لأن حسن التصدق بالمال مما يحكم به العقل الفطري - وهو مما يعترف الاخباري بحجيته والركون إليه - فلا بد ان يراد به التصدق على المخالفين لأجل مخالفتهم - فينتفي بهذا القيد حسنه - نظير تصدق الشيعة

ص: 110


1- الوسائل : 1 / 91 - باب 29 من أبواب المقدمات - حديث 2 مع اختلاف في بعض العبارات.

على فقراء الشيعة لأجل تشيعهم أو بغضهم لأعدائه أو يراد به إحباط ثواب التصدق من جهة عدم معرفتهم لولي اللّه.

الثاني : انه لو تنزلنا وسلمنا مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الإطاعة ، فلا ينفع في إثبات المدعى لأنه قد ورد ان الرسول صلی اللّه علیه و آله قال في خطبة الوداع : « معاشر الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار الا أمرتكم به وما من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة الا وقد نهيتكم عنه » (1) ، فإذا قطع المكلف بحكم من طريق العقل يقطع بضميمة هذه الرواية ان الحكم الّذي قطع به بينه النبي صلی اللّه علیه و آله وصدر عنه.

واما الشبهة الثانية : وهي التي ذكرها بعد ما تقدم تحت عنوان : « إلاّ ان يدعى ان الاخبار ... » فمحصلها : هو ان الاخبار تدل على ان الحكم انما يصير فعليا إذا بلّغه الحجة ووصل إلينا عن طريقه وبدون التبليغ ووصوله عن طريقه علیه السلام لا يصل إلى مرحلة الفعلية. وعليه فالقطع بالحكم من طريق العقل لا يكون قطعا بالحكم الفعلي كي يلازمه حكم العقل بوجوب الإطاعة ، ولا ينفع العلم بالصدور الواقعي وانما اللازم هو العلم بطريقهم علیهم السلام وبواسطة بيانهم اما مباشرة أو بالواسطة كالاخبار المعتبرة.

وقد ناقشها الشيخ رحمه اللّه بقوله : « لكن قد عرفت عدم دلالة الاخبار ، ومع تسليم ظهورها ، فهو أيضا من باب التعارض بين النقلي الظني والعقلي القطعي ولذلك لا فائدة مهمة في هذه المسألة ، إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضاء اللّه جل ذكره بمخالفته فلا يعقل ترك العمل لذلك ما دام هذا القطع باقيا ، فكلما دل على خلاف ذلك فمؤول أو مطروح ».

ص: 111


1- المحاسن كتاب مصابيح الظلم باب البيان والتعريف ولزوم الحجة 39 حديث 399.

انتهى ما أفاده الشيخ في هذا المقام (1).

ولكن الإنصاف ان هذه الشبهة أعني الأخيرة شبهة قوية متينة لا تتنافى مع العقل أصلا ، وانما المهم استفادتها من الاخبار المزبورة.

وتقريب ذلك : ان بيان الحكم قد يكون بإنشائه بما يدل عليه من الصيغ وقد يكون ببيان ترتب الثواب أو العقاب على متعلقه ، فيستفاد تحريم القتل من قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ... ) (2) كما يستفاد استحباب الصبر من قوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ... ) (3).

ومن هنا ادعي دلالة اخبار « من بلغ » على استحباب العمل الّذي ورد في استحبابه خبر ضعيف ، وان نوقشت دلالتها من جهة أخرى تذكر في محلها.

وكما ان إثبات الثواب على عمل ظاهر عرفا في تعلق الأمر به كذلك نفى الثواب عليه ظاهر عرفا في عدم مطلوبيته وعدم تعلق الأمر به إلاّ إذا قامت قرينة على ثبوت الأمر به كالالتزام بتوجه الأمر إلى المخالفين مع عدم ترتب الثواب على أعمالهم لفقدان الولاية - ما حققناه في الفقه - ، ولا مانع من نفى الثواب مع وجود الأمر بلحاظ صدور امر مكروه من العبد بكراهة شديدة تنفي استحقاقه العقاب لعبده عن المولى ، وترك الولاية من قبيل ذلك.

وعليه : فرواية زرارة المتقدمة ظاهرة في نفي الثواب عن كل عمل لم يكن بدلالة ولي اللّه تعالى ، ومقتضى ذلك عدم الأمر به مع عدم دلالة ولي اللّه تعالى ، فتكون ظاهرة في أخذ دلالة ولي اللّه في موضوع الأحكام ، ولا محذور فيه عقلا لما عرفت من صحة أخذ العلم بمرتبة الإنشاء في موضوع الفعلية.

يبقى سؤال : وهو ان التصدق بجميع المال من أظهر مصاديق الإحسان

ص: 112


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول11 - 12 - الطبعة الأولى.
2- سورة النساء الآية : 93.
3- سورة البقرة ، الآية : 155.

وهو حسن بحكم العقل الفطري فكيف ينفي الثواب عنه؟ مع عدم دخالة دلالة الحجة في حسنه ، بل هو حسن بذاته.

والجواب : ان حكم العقل بحسن الشيء لا يلازم حكمه باستحقاق الثواب على المولى ، إذ الثواب هو الجزاء على العمل الّذي جاء به العبد مرتبطا بمولاه. فمن أحسن إلى فقير لا يستحق على زيد ثوابا بحيث له ان يطالبه به ، وانما يستحق الثواب من زيد إذا كان زيد يرغب في الإحسان إلى الفقير وجاء به عمرو من هذه الجهة.

وعليه : فليس مجرد الإتيان بالحسن موجبا لاستحقاق الثواب ، بل يتوقف على ان يكون ذلك العمل مرادا ومحبوبا لله تعالى ، وجاء به العبد من تلك الجهة ، فإذا فرض ان اللّه لا يريد هذا الحسن الا في ظرف مخصوص لم يكن فعله في غير ذلك الظرف موجبا للثواب وان كان حسنا.

ومن هذا القبيل التصدق ، فان الرواية ظاهرة في ان اللّه تعالى لا يريده إلاّ إذا كان بدلالة الحجة ، فبدونها لا يستحق الثواب وان جاء بالحسن.

ونتيجة ما ذكرناه : ان دعوى الأخباريين ترجع إلى ان العلم من طريق خاص ، وهو طريق النقل مأخوذ في موضوع الحكم الفعلي ، وقد تقدم ان تقييد العلم الموضوعي بصنف خاص لا مانع منه. ومن هنا يظهر ما في جواب الشيخ الأخير الّذي نقلناه بنصه من المسامحة. إذ لم يتقدم منه نفي دلالة الخبر على هذه الدعوى ، وانما تقدم منه نفي دلالتها على نفي المنجزية وإثبات دلالتها على نفى الطرق العقلية الظنية.

وقد عرفت انه انما التزم بذلك - مع انه خلاف ظاهر الاخبار - باعتبار الاهتمام الظاهر من الاخبار ، وهو لا يتناسب مع نفي المنجزية لندرة مخالفة القطع مع الطريق السمعي.

ومن الواضح ان الدعوى الأخيرة الراجعة إلى تقييد موضوع الحكم

ص: 113

بالعلم به بطريق النقل ، امر يحتاج بيانه إلى الاهتمام والتأكيد.

كما ان ما ذكره من انه مع تسليم الدلالة فتكون من موارد معارضة النقلي الظني مع الدليل العقلي القطعي غير واضح المراد ، إذ بعد تسليم ظهور هذه الرواية والاطلاع عليها لا يحصل القطع بالحكم الفعلي من غير طريق النقل أصلا ، ومعه لا حكم بالمنجزية فأين هو الدليل العقلي القطعي الحاكم بوجوب الإطاعة في غير مورد النقل كي يدعى معارضته مع هذه الرواية.

ومن هنا صار هذا الكلام من الشيخ موردا للاعتراض عليه من قبل بعض الأخباريين ونسبته إلى ما لا يتناسب مع ما عرفت من الشيخ من مقام ديني وعلمي.

وقد جاء في أجود التقريرات بعد بيان هذه الدعوى من قبل الأخباريين وعدم المحذور العقلي فيها ، انه لا يساعدها مقام الإثبات لأن الاخبار على طائفتين : إحداهما : ما كان في مقام اعتبار الولاية في صحة العمل أو قبوله. والأخرى : ما كان في نفي الاعتماد على الظن الحاصل من المقدمات العقلية من قياس واستحسان وغيرهما. وكلا الطائفتين أجنبيتان عن دعوى الأخباريين (1).

ولكنك عرفت تقريب دلالة رواية زرارة على الدعوى فلا ينفع ما ذكره في أجود التقريرات.

ثم ان المحقق العراقي تعرض إلى هذه الدعوى ثم استبعد ان تكون هي دعوى الأخباريين باعتبار ان هذه الدعوى تستدعي عدم حصول العلم من غير طريق الكتاب والسنة ، مع ان ظاهر الأخباريين نفي حجية العلم ولزوم اتباعه لا إنكار حصوله. ولو كان مرادهم هذه الدعوى لم يكن وجه لإنكار الشيخ عليهم الإنكار الشديد واستيحاشه من مقالتهم. نعم ذكر الشيخ في أول

ص: 114


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 40 - الطبعة الأولى.

الكتاب من أمثلة القطع المأخوذ في الموضوع ما ذهب إليه بعض الأخباريين من تقييد الحكم بالعلم به من طريق خاص ، ولكنه ذكر ان تعرض الشيخ له من باب التمثيل لا لأجل تصحيح كلام الأخباريين. هذا ما أفاده العراقي رحمه اللّه (1).

ونحن لا نريد ان نطيل البحث في هذه الجهة ، وان هذه الدعوى هل هي مقالة الأخباريين أو لا؟ ، فليس هذا مهما ، إذ هي شبهة متينة في نفسها ذهب إليها الأخباريون أو لم يذهبوا إليها ، فان اللازم التعرض لدفعها ونقضها.

والتحقيق في دفع هذه الشبهة : ان الرواية ظاهرة في لزوم متابعة الأئمة علیهم السلام والانقياد لتعليماتهم والمنع عن تشكيل مقام ديني يناقض مقامهم وفي قبالهم علیهم السلام ، وهي تنفي الثواب عند حصول هذا المعنى نظير نفيها الثواب عند عدم الولاية نفسها ، لأجل ان هذا المعنى معصية شديدة المبغوضية فتستلزم عدم الثواب.

واما القرينة على هذا الظهور ، فمن الرواية نفسها ، وذلك لقوله علیه السلام « فيواليه » - الّذي يظهر انه هو القيد لظهور تفرعه على ما تقدم في ذلك - بعد قوله : « ولم يعرف ولاية ولي اللّه فتكون أعماله بدلالته » ، ومن الواضح انه ليس المراد منه الولاية بمعنى الاعتقاد بالإمامة ، إذ هي سابقة على كون الأعمال بدلالة الولي لا متأخرة ، فالمراد بها المتابعة والانقياد.

وواضح انه مع أخذ أكثر الأحكام منهم وعدم القيام بما يظهر منه الاستقلال عنهم ، يحقق المتابعة والانقياد بحيث لا يكون القطع بحكم من طريق العقل منافيا لهذا الانقياد.

وعليه ، فلا تنفي الرواية فعلية الحكم إلاّ إذا تعلق به القطع من طريق

ص: 115


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 44 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

النقل ، بل تنفي الفعلية فيما إذا كان المكلف في مقام الاستقلال عن الأئمة علیهم السلام والسير في غير طريقهم.

ومثل هذا لا ينطبق على المؤمن التابع لهم الّذي يحصل له القطع بالحكم في غير طريقهم في بعض الأحيان.

ولو لا هذه القرينة لما كان محيص عن الالتزام بدلالة الرواية على الدعوى ولتعين الالتزام بالدعوى عملا بالرواية وعدم أي مانع عقلي منها. فالتفت.

الجهة التاسعة : في قطع القطاع.

وقد نسب إلى كاشف الغطاء القول بعدم حجيته وعدم الاعتناء به (1).

والمراد بقطع القطاع : هو القطع الحاصل من أسباب وطرق لا تستلزم القطع عند متعارف الناس وبحسب العادة. فلا يشمل القطع الحاصل للشخص دون سائر الناس من جهة ذكائه وسعة اطلاعه والتفاته إلى بعض اللوازم والخصوصيات التي تكتنف بها الواقعة المستلزمة للقطع مما لا يتوفر لسائر الناس ، وان كانت بحيث لو توفرت لكل أحد يحصل منها القطع.

وقد تعرض الشيخ رحمه اللّه إلى مناقشة هذا القول ببيان ملخصه :

انه ان أريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في مورد يكون القطع موضوعا للحكم ، فلا بأس به لانصراف القطع المأخوذ في الموضوع إلى الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول القطع منها ، نظير انصراف الظن والشك في موارد أخذهما في الموضوع إلى المتعارف منهما.

وان أريد نفي اعتباره في مقام يكون القطع طريقيا ، فان أريد نفي إجزاء ما قطع به عن الواقع لو انكشف الخلاف فهو حق أيضا ، لكنه لا يختص بقطع

ص: 116


1- كاشف الغطاء المحقق الفقيه الشيخ جعفر كاشف الغطاء / 64 - المقصد العاشر - الطبعة الأولى.

القطاع ، بل يعم غيره لعدم إجزاء الأمر التخيلي - كما حقق في مبحث الإجزاء -. وان أريد وجوب ردعه عن قطعه ورفعه عنه وتنبيهه على مرضه أو يقال له : ان اللّه لا يريد منك الواقع إذا كان غافلا عن القطع بحيث تلتبس عليه المغالطة ، فهو حق أيضا في موارد القطع بخلاف الواقع مما يرتبط بالنفوس والاعراض والأموال التي تجب المحافظة عليها ، لكنه لا يختص بقطع القطاع بل يعم مطلق القطع المخالف للواقع ولو كان متعارفا.

وان أريد انه حال العلم بحكم الشاك فهو ممنوع. إذ القاطع بالحكم لا يمكن إرجاعه إلى أحكام الشك من الأصول العملية لعدم شمولها له ، فنفي حجية قطعه يعني تركه متحيرا متخبطا لا يعرف ما يقوم به. هذا ملخص ما أفاده الشيخ (1).

والعمدة في وجه المناقشة التي ترتبط بما نحن فيه هو الشق الأخير من الترديد. وهو عدم إمكان فرض العالم بحكم غير العالم وإرجاعه إلى حكم الشاك. وهو الّذي يرتبط بمنع عدم حجية القطع.

وكلامه لأول وهلة يظهر منه انه قدس سره أغفل المناقشة من هذه الجهة ونقل المناقشة إلى موضوع آخر لا يمت لدعوى عدم حجية القطع بصلة.

وعلى كل فمناقشة الشيخ المزبورة متينة وجيهة.

واما ما جاء في أجود التقريرات من مناقشة الدعوى المزبورة بان حجية القطع ذاتية فلا يمكن تخلفها عنه في مورد من الموارد.

ففيه : انه لم يتقدم ان حجية القطع من ذاتياته ، وانما تقدم انها بحكم العقل وإدراكه ، فلا بد من إيقاع البحث في أن العقل هل يدرك حجية القطع مطلقا أو في بعض صوره.

ص: 117


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /13- الطبعة الأولى.

نعم ، تقدم ان طريقية القطع ذاتية لكنها غير حجيته.

واما مناقشة الشيخ ، فيمكن ان يقال في دفعها :

أولا : بالنقض بمورد الجاهل المركب المقصر ، فانه في حال علمه لا يمكن ثبوت أحكام الشك له ، ولكنه لا يكون معذورا في مخالفته للواقع مع انه قاطع.

وثانيا : بأنه وان سلم ان القاطع في حال قطعه لا يمكن إرجاعه إلى أحكام غير القاطع بما هي أحكام لغير القاطع ، لكننا يمكننا ان ندعي هذا القاطع لا يكون معذورا لو خالف قطعه الواقع ، وهذا هو المراد من نفي حجية قطعه.

بيان ذلك : ان حجية القطع ترجع إلى وجوب متابعته ومنجزيته للواقع لو صادفه ومعذريته لو خالف قطعه الواقع.

فالذي ندعيه : ان العقل لا يحكم بمعذرية قطع القطاع لو خالف الواقع. وهذا لا محذور فيه أصلا ولا يتنافى مع لزوم متابعة القطع الحاصل بنظر القاطع.

وعليه ، فيكون الكلام في أن الحكم العقلي بمعذرية القطع وعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع الّذي تعلق القطع بخلافه ، هل هو ثابت لجميع افراد القطع اما انه ثابت لبعض الافراد دون بعض؟.

ولا يخفى ان التشكيك في ذلك يكفي في عدم ثبوت المعذرية ولا نحتاج إلى إثبات العدم ، وانما الّذي يحتاج إلى الإثبات هو القول بالحجية.

ولكن الإنصاف عند ملاحظة حال العقلاء ومعاملاتهم فيما بينهم ومع عبيدهم - التي هي الطريق لتشخيص أصل حجية القطع في الجملة - هو عدم معذورية القاطع إذا كان قطعه من غير طريق متعارف ، فمن امر وكيله بشراء خاصة له بالقيمة السوقية فاشتراها الوكيل بأزيد منها استنادا إلى قطعه بان الثمن يساوي القيمة السوقية ، لكنه ملتفت إلى ان قطعه غير ناش عن سبب متعارف فللموكل ان لا يعذر وكيله ويعاتبه كما لا يخفى.

وليس هذا امرا بعيدا بعد التزام الفقهاء بمعاقبة الجاهل المركب المقصر

ص: 118

في أصوله وفروعه ، وليس ذلك إلاّ لعدم كون قطعه معذرا بعد تقصيره في المقدمات التي تسبب القطع.

وبعد التزام الشيخ بان التقصير المسبب للنسيان يمكن ان يستلزم العقاب على المنسي لو لا حديث الرفع الراجع إلى نفي وجوب التحفظ ، مع انه لا حكم للناسي في حال نسيانه ، ولا يمكن مخاطبته باحكام الملتفت.

وبالجملة : عدم إمكان إثبات حكم للقاطع ينافي ما قطع به في حال قطعه ، لا يتنافى مع عدم حجية القطع بمعنى عدم كونه معذورا لو انكشف ان قطعه مخالف للواقع ، إذ عدم المعذورية انما يحكم به بعد زوال القطع فلا محذور فيه.

ومن هنا يظهر : انه يمكن تصحيح دعوى الأخباريين الراجعة إلى نفى حجية القطع - هذا مما احتمله الشيخ في مراد الأخباريين فراجع صدر كلامه - بإرجاعها إلى نفي معذورية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة ، وهي دعوى لا بأس بها ، إذ بعد ورود الروايات الكثيرة الدالة على ان الدّين لا يصاب بالعقول ، وكثرة وقوع الخطأ في الأحكام إذا كانت مدركة من طريق العقل ، لا يحكم العقل والعقلاء بمعذورية القاطع من غير طريق الكتاب والسنة ، بل يعدونه مقصرا في المقدمات فيصح عقابه. وان لم يمكن نفي وجوب الإطاعة في حال قطعه. فالتفت وتدبر.

وإلى ما ذكرناه من نفي معذورية القطع أشار المحقق العراقي كما في نهاية الأفكار (1) فلاحظ.

الجهة العاشرة : في العلم الإجمالي.

والكلام فيه في مقامين :

المقام الأول : في إثبات التكليف به ، وقد وقع الكلام بين الاعلام ( قدس

ص: 119


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 44 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

سرهم ) في ان العلم الإجمالي بالتكليف هل يوجب تنجزه أو لا؟.

والأقوال متعددة :

منها : انه علة تامة لتنجيز التكليف كالعلم التفصيليّ.

ومنها : انه مقتض للتنجيز بحيث يؤثر فيه لو لم يمنع مانع من تأثيره. وهو رأي صاحب الكفاية في هذا المقام (1) امّا في مبحث الاشتغال ، فقد توهم عبارته خلاف ذلك وسيأتي دفع هذا التوهم إن شاء اللّه تعالى.

والّذي ذهب إليه صاحب الكفاية يبتني على مقدمات ثلاث :

الأولى : ان العلم لا يكون منجزا إلاّ إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية من جميع الجهات - كما مرت الإشارة إلى ذلك فيما تقدم -.

الثانية : ان الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية انما هو بالالتزام بان الحكم الواقعي فعلي لكن لا من جميع الجهات الّذي عبر عنه بأنه لو علم به لصار فعليا وتنجز (2) ، وهو راجع إلى أخذ العلم في موضوع الفعلية ، وقد نبه على عدم ورود الإشكال عليه بان العلم إذا أخذ موضوعا لم ينفع قيام الأمارة في صيرورة الحكم الواقعي فعليا لعدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنظره - نبه على عدم ورود هذا الإشكال - بان قيد الموضوع ليس هو العلم وانما المانع من الفعلية هو الأمارة أو الأصل على الخلاف ، فإذا لم تقم الأمارة فقد ارتفع المانع فتحقق الفعلية ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح مرام الكفاية والنّظر فيه نفيا وإثباتا.

وعلى كل ، فالمقصود من هذه المقدمة هو بيان : انه مع وجود الأصل أو الأمارة على خلاف الواقع لا يكون الواقع فعليا من جميع الجهات وانما يكون فعليا على تقدير - بتعبير - أو فعليا من جهة دون جهة - بتعبير آخر -.

ص: 120


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /272- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /278- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثالثة : ان مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في موارد العلم الإجمالي ، إذ كل من الطرفين مشكوك الحكم ومجهوله ، فيكون موردا للأمارة وموضوعا للأصل.

ومن هنا تظهر نكتة التعبير بالمرتبة لا الموضوع ، إذ الجهل ليس موضوعا للأمارة - كما يقال - ، وانما هو مورد لها ولوحظ فيها بنحو الموردية لا الموضوعية ، فمقصوده بانحفاظ المرتبة ثبوت محله ومقامه أعم من الموضوع والمورد.

وبهذه المقدمات تعرف ما ذهب إليه صاحب الكفاية من عدم كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز ، إذ مع شمول دليل الأصل للطرفين وثبوت حكم الأصل الظاهري - كما هو مقتضى المقدمة الثالثة - لا يكون الحكم الواقعي المعلوم تام الفعلية - كما هو مقتضى المقدمة الثانية - وعليه فلا يكون العلم به منجزا - كما هو مقتضى المقدمة الأولى -.

نعم ، لو لم يثبت حكم الأصل يرتفع المانع عن فعلية التكليف ، فيكون العلم به منجزا. وهذا هو معنى اقتضائه للتنجز ، فالمراد به انه يكون منجزا لو لم يمنع مانع.

فليس العلم الإجمالي كالشك لا يؤثر في التنجيز أصلا ، إذ يكون مؤثرا فيه بالوجدان مع عدم المانع بحيث تصح مؤاخذة العبد على مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال ، وليس هو كالعلم التفصيليّ في كونه علة تامة للتنجيز ، لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في مورد العلم التفصيليّ فلا مانع من فعلية التكليف وانحفاظها في مورد العلم الإجمالي فيأتي فيه الكلام السابق.

ولا يخفى عليك ان المقدمة الأولى والمقدمة الثالثة - بالمعنى الّذي عرفته - لا تقبلان المناقشة ، إذ لا مجال للمناقشة في ان العلم لا يكون منجزا إلاّ إذا تعلق بحكم فعلي وأصل إلى مرحلة البعث والزجر فعلا. ولا للمناقشة في ان كلا من الطرفين مجهول ، وهو مقام الحكم الظاهري.

فإذا كانت هناك مناقشة فلا بد ان تتركز على المقدمة الثانية. ومع تماميتها

ص: 121

لا يكون مجال للإشكال فيه ، بل يكون ما أفاده قدس سره متينا يتعين الالتزام به.

وغريب من المحقق النائيني ان يكتفي في مقام مناقشة صاحب الكفاية في التعرض إلى ما ذكره من انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري بعد تقريبه : بان العلم في موارد العلم الإجمالي تعلق بالجامع ، وبهذا المقدار لا يمكن جعل الحكم الظاهري على خلافه ، واما كل واحد من الأطراف فهو مجهول الحكم ، والجهل موضوع الحكم الظاهري فيجري الأصل في كل واحد من الأطراف.

فذكر في مناقشته ان البحث تارة في تقييد الأحكام الواقعية بالعلم التفصيليّ ، وهو وان كان ممكنا على نحو نتيجة التقييد ، لكنه على خلافه الإجماع لأنه تصويب. وأخرى في جريان الأصول مع بقاء الواقع على واقعه من ان جريان الأصل يستلزم المناقضة كما في الأصول التنزيلية ، أو المخالفة العملية كما في غير الأصول التنزيلية في موارد العلم بالتكليف وكلاهما ممتنع.

ووجه الغرابة : ان مقصود صاحب الكفاية من انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري ما يساوق ثبوت موضوعه ، وهو امر لا إشكال فيه ، انما الكلام في منافاته للحكم الواقعي المعلوم ، وقد عرفت تقريب عدم منافاته. فدعوى مناقضته للأصول بدون نفي الجهة التي اعتمد عليها صاحب الكفاية في نفى المناقضة ليست كما ينبغي.

وأيضا لا وجه لاحتمال ان يريد صاحب الكفاية تقييد الأحكام الواقعية بالعلم التفصيليّ كي يشكل عليه انه تصويب ، بل هو يلتزم بوجود حكم إنشائي يشترك بين العالم والجاهل. نعم فعلية الواقع تتوقف على عدم الأمارة أو الأصل على الخلاف وهو لا ضير فيه ، إذ القدر المتيقن من الإجماع هو الاشتراك في الحكم الإنشائي لا أكثر. وقد عرفت تصوير وجود الحكم الإنشائي في قبال الفعلي.

ص: 122

كما ان من الغريب جدا إغفال المحقق العراقي لمناقشة صاحب الكفاية ، واكتفائه في تقريب منجزية العلم الإجمالي بنحو العلية التامة ، بان الوجدان يقتضي بمناقضة العلم الإجمالي لجريان الأصول في أطرافه وقبح الترخيص في مخالفته ، وهو امر مرتكز يكشف عن العلية التامة للتنجيز بالنسبة إلى العلم الإجمالي (1).

وأنت خبير بان هذا المقدار لا ينفي كلام الكفاية الّذي يرجع إلى نفى فعلية الحكم المعلوم بالإجمال ، وبه ترتفع المناقضة وقبح المخالفة كما قربه في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

كما يؤاخذ المحقق الأصفهاني على ترديده في مراد صاحب الكفاية من انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري بين احتمالات أربعة :

أحدها : ان يراد ان حكم العقل تعليقي معلق على عدم المؤمّن في الأطراف ، فمع ثبوته يرتفع موضوع حكم العقل.

ثانيها : ان يراد تقييد الحكم الواقعي بالعلم التفصيليّ.

ثالثها : ان يراد ان غرض المولى من متعلق التكليف بنحو لو وصل من باب الاتفاق كان منجزا على المكلف

ولزم عليه تحصيله ، فلا ينافيه جعل الحكم الظاهري وفواته به.

وهذا ينشأ عن كون أحد الإشكالات في جعل الحكم الظاهري هو منافاته لغرض المولى الملزوم لتفويته به ، فيلزم من جعله نقض الغرض. فيجاب : انه انما يلزم نقض الغرض لو كان ملزما بحد يبعث المولى إلى إيصاله إلى المكلف ولو بجعل الاحتياط. اما لو كان بحد لو وصل من باب الاتفاق لتنجز وكان على المكلف تحصيله فلا يكون جعل الحكم الظاهري مع عدم وصوله اتفاقا نقضا

ص: 123


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 46 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

للغرض.

رابعها : ما ذكرناه من التوجيه من ان موضوع الحكم الظاهري يتحقق والحكم الواقعي لا يكون فعليا من جميع الجهات بل من جهة دون أخرى (1).

وجه المؤاخذة : انه لا موهم في عبارة الكفاية في كون المراد من انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري هو تعليقة حكم العقل بالمنجزية ، أو تقييد الأحكام بالعلم التفصيليّ ، أو ان غرض المولى بنحو خاص لا ينافيه جعل الحكم الظاهري ، فليس نظره إلى إمكان جعل الحكم الظاهري ثبوتا ، بل نظره إلى ثبوت موضوعه المأخوذ في لسان أدلته ، وبثبوته لإطلاق دليله نستكشف عدم فعلية الواقع التامة على ما بينّاه.

وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بما التزم به من ان الحكم الفعلي من قبل المولى هو الإنشاء بداعي جعل الداعي ، وهو يتنجز بالوصول ، وقد تحقق بالعلم الإجمالي ، والمفروض وجود الإنشاء بداعي جعل الداعي فالحكم الواقعي فعلي تام الفعلية. ولكن تقدم مناقشة هذا المبنى ، وتصوير الحكم الفعلي غير ما ذكره.

وقد تعرض قدس سره إلى مناقشة الاحتمالات الأخرى ، ولا يهمنا ذلك بعد عدم ارتباطها بالبحث.

وعلى أي حال : فتمامية كلام صاحب الكفاية تدور مدار ما سيأتي تحقيقه في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فان انحصر طريق الجمع بما التزم به صاحب الكفاية أو بما يشاركه في نفي فعلية الواقع كان ما ذكره هنا تاما لا شبهة فيه لتمامية مقدماته كلها ، وان لم ينحصر طريق الجمع بذلك ، بل أمكن الالتزام بفعلية الواقع مع الحكم الظاهري لم يتم ما ذكره لحكم العقل بتنجز المعلوم بالإجمال لكونه فعليا فلا يمكن جعل الأصول في أطرافه. فانتظر.

ص: 124


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 33 - الطبعة الأولى.

ثم ان صاحب الكفاية تعرض لما التزم به الشيخ قدس سره من ان العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتض بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية. فذكر انه ضعيف جدا ، لأن ملاك كون العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ، وعدم جريان الأصول في الأطراف ، هو استلزام الإذن في الأطراف القطع باجتماع الضدين وهو محال.

ولا يخفى ان الإذن في بعض الأطراف يستلزم احتمال اجتماع الضدين لاحتمال تعلق الحكم المعلوم بالطرف المرخّص فيه ، واحتمال اجتماع الضدين محال كالقطع به (1).

اذن فالالتزام بأنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ملازم للالتزام بأنه علة تامة بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

نعم ، مع الالتزام بأنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى كليهما يمكن ان يلتزم بثبوت المانع بالنسبة إلى تأثيره في وجوب الموافقة القطعية ، وعدم ثبوته بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، إذ لا تلازم في ثبوت المانع وعدمه بين الجهتين.

أقول : ان كان محذور المخالفة القطعية هو اجتماع الضدين كان ما ذكره قدس سره من التلازم بين الجهتين في العلية التامة تاما ، لاستلزام تجويز المخالفة القطعية القطع باجتماع الضدين وتجويز المخالفة الاحتمالية احتمال اجتماع الضدين.

واما إذا كان المحذور ليس ذلك ، بل هو استلزام تجويز المخالفة القطعية الترخيص في المعصية ، بمعنى المخالفة المعلومة الّذي هو قبيح عقلا فلا تلازم ، إذ ليس في جواز المخالفة الاحتمالية ترخيص في المخالفة المعلومة لعدم العلم

ص: 125


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /273- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالمخالفة.

ولم يثبت ان التزام الشيخ بحرمة المخالفة القطعية من جهة محذور تضاد الأحكام ، بل يظهر منه انه من جهة انه ترخيص في المعصية وهو قبيح عقلا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك مفصلا.

ثم انه قدس سره ذكر بعد ذلك : ان المناسب للمقام البحث عن تأثير العلم الإجمالي في التنجيز ومقدار تأثيره ، لأن ذلك من شئون العلم وآثاره ، والمناسب في باب البراءة والاشتغال - بعد الفراغ عن ان تأثيره بنحو الاقتضاء - هو البحث عن ثبوت المانع من التأثير شرعا أو عقلا ، لأن ذلك من شئون الجهل وآثاره. ولا مجال للبحث عن المانع هناك بعد الالتزام ان تأثيره بنحو العلية التامة ، إذ لا يتصور وجود المانع عنه. كما لا يخفى.

أقول : مقتضى ما ذكره ان البحث في مسألة الاشتغال بناء على الالتزام بان تأثير العلم الإجمالي بنحو الاقتضاء ينحصر في ان دليل الأصول هل يشمل مورد العلم الإجمالي أو لا؟. ويقع البحث في ذلك بلحاظ دعوى ان شموله لأطرافه يستلزم المناقضة بين الصدر والذيل - كما ذكره الشيخ رحمه اللّه -.

ومع الالتزام بشمولها - كما ذهب إليه صاحب الكفاية - يتعين الالتزام بالأصل في مورد العلم الإجمالي لإطلاق دليله.

ولا يخفى ان ذلك يوجب تقليل أهمية مبحث الاشتغال إلى حد كبير ، لأن هذه الجهة مختصرة ، ويبحث عنها استطرادا.

وعلى كل حال فيما ذكره بالنسبة إلى مبناه لا محيص عنه.

واما بناء على الالتزام بأنه علة تامة ، فحيث عرفت انه يمكن التفكيك في ذلك بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، فنقول : انه إذا التزم بأنه علة تامة للمخالفة القطعية ، يمكن ان يقع البحث في ان مقتضى ذلك عدم إمكان جريان الأصل في كلا الطرفين وان العلم الإجمالي ينافي الأصل في كليهما - فتكون

ص: 126

نتيجته وجوب الموافقة القطعية - ، أو انه ينافي الأصل في أحدهما. وبتعبير آخر ينافى مجموع الأصلين لا كلا منهما ، فلا يمتنع جريان أحدهما ، ونتيجته عدم وجوب الموافقة القطعية.

وهذا البحث يوكل إلى مبحث الشك لأنه يرتبط به ، وبما هو مفاد دليل الأصل ومقدار منافاته.

فما فرعه قدس سره على هذا المبنى ممنوع على إطلاقه.

وللمحقق الأصفهاني كلام طويل يدور حول صحة إطلاق المقتضي على العلم الإجمالي ، ويمكننا ان نقول ان على طوله يدور حول مناقشة اصطلاحية لا واقعية فطالعه تعرف اللّه سبحانه هو المسدد للصواب (1).

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

واما المقام الثاني : فهو في البحث عن كفاية الامتثال الإجمالي. والكلام تارة في التوصليات. وأخرى في العبادات.

اما التوصليات : فلا إشكال في كفاية الامتثال الإجمالي فيها ، لعدم تصور محذور فيه مما يتأتى في العبادات كما سيجيء ، فان الغرض من التوصلي يحصل بالإتيان بمتعلقه بأي كيفية وبأي نحو.

واما العبادات : فالكلام فيها في مقامين :

الأول : فيما يستلزم التكرار كتردد امر الصلاة الواجبة بين القصر والتمام.

ويقع الكلام فيه : تارة فيما يتمكن من العلم التفصيليّ بالواجب.

وأخرى : فيما يتمكن من الظن التفصيليّ المعتبر. وثالثة : فيما لا يتمكن من أحدهما.

اما مع التمكن من العلم التفصيليّ : فقد ذهب الأكثر إلى عدم جواز

ص: 127


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 35 - الطبعة الأولى.

الاحتياط المستلزم للتكرار. وتابعهم على ذلك الشيخ والمحقق النائيني (1).

وقد استدل لعدم اجزائه بفقدانه لقصد الوجه وقصد التمييز المعتبرين في العبادة. وهما وجهان غير صحيحين لما تقرر في محله من عدم اعتبارهما تمسكا بأصالة البراءة أو بالإطلاق المقامي.

وهناك وجهان آخران استدل بهما على عدم الاجزاء.

أحدهما : ما ذكره الشيخ - في مبحث شرائط الأصول - من ان التكرار عبث بأمر المولى فينافي العبادية (2). وردّه صاحب الكفاية : بأنه يمكن ان يكون التكرار لداع عقلائي كما إذا كان أسهل من الفحص وتحصيل العلم. مع انه ليس لعبا بأمر المولى ، بل في كيفية إطاعته ولا ضرر فيه (3).

ثانيهما : ما ذكره المحقق النائيني قدس سره : من ان مرتبة الامتثال التفصيليّ مقدمة بحكم العقل على مرتبة الامتثال الإجمالي ، فالاندفاع والانبعاث إذا أمكن ان يكون عن نفس الأمر فهو مقدم على الانبعاث عن احتمال الأمر - كما هو الحال في مورد الامتثال الإجمالي - ، وقد استدل على ذلك بان مرتبة العين أسبق من مرتبة الأثر.

وقد أطال قدس سره الكلام في تعداد مراتب الامتثال وتقديم أحدها على الآخر ، وليس ذكره ضروريا فيما نحن فيه (4).

والتحقيق : ان ما ذهب إليه القوم من عدم كفاية الامتثال الإجمالي المستلزم للتكرار حق لا محيص عنه. لكن نختلف في تقريبه مع ما ذكر له من التقريبات.

ص: 128


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /15- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /299- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /374- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
4- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 44 - الطبعة الأولى.

وبيانه : ان التقرب يحصل بإتيان العمل بداع مقرب.

ومن الواضح ان الداعي يكون متأخرا بوجوده الخارجي عن العمل ومترتبا عليه ، ولكنه بوجود التصوري العلمي سابق على العمل.

ولأجل ذلك يمتنع ان يؤتي بالعمل بداعي الأمر ، لأن نفس الأمر مما لا يترتب بوجوده الخارجي على العمل ، بل هو سابق عليه.

وانما الصحيح الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر وتحقق موافقته خارجا ، فانه مما يترتب على العمل ومن الأمور المقربة.

ولا يخفى انه في مورد دوران الواجب بين عملين يحتمل في كل منهما ان يكون هو الواجب يمتنع ان يؤتى بكل منهما بداعي احتمال الأمر ، إذ احتمال الأمر كالعلم به سابق على العمل غير مترتب عليه خارجا فلا يصلح للداعوية ، ولا يمكن الإتيان بكل منهما بداعي تحقق الموافقة ، إذ لا علم بتعلق الأمر به فيستلزم ذلك التشريع المحرم.

نعم أحد الفعلين موافق للأمر قطعا ولكنه لا يعلمه بعينه ، فهو حين يأتي بالفعلين يدعوه داعيا ، أحدهما تحصيل الموافقة والآخر التخلص من تعب تحصيل العلم - مثلا -.

والأول داع إلهي قربي والآخر غير قربي - وان كان عقلائيا -.

ومن الواضح ان الداعي الإلهي لا يتعين واقعا لموافق الأمر وغيره لمخالفه ، كي يصدر العمل الواجب عن داع قربي خالص ، بل نسبة الداعيين إلى كل من الفعلين على حد سواء ، بمعنى انه لا تمييز لأحدهما على الآخر في مقام الداعوية ، وعليه فيصدر كل من الفعلين عن داعيين ، أحدهما إلهي ، والآخر دنيوي وهو ينافي المقربية.

ولعل هذا هو مراد الشيخ من ان التكرار عبث ولعب بأمر المولى ، فلا يتجه الإيراد عليه بأنه يمكن ان يكون التكرار لداع عقلائي ، إذ عرفت ان جهة

ص: 129

الإشكال ليس صدور الفعل عن داع لغوي ، بل صدوره عن غير داع إلهي يخل بالمقربية المعتبرة في العبادة.

وهاهنا توهمات لا بد من ذكرها وتفنيدها ليتضح المطلب كاملا :

الأول : دعوى إمكان الإتيان بالعمل بداعي الموافقة الاحتمالية ، فانها تترتب بالوجدان على العمل وليست سابقة عليه ، إذ قبل الإتيان بكل من الفعلين يعلم بعدم تحقق الموافقة ، ومع إتيان أحدهما تتحقق الموافقة احتمالا ويزول العلم بالعدم.

وبالجملة : ترتب الإتيان بالموافق احتمالا على إتيان كل من العملين مما لا ينكر ، فيمكن الإتيان بكل منهما بهذا الداعي ويتحقق التقرب لأنه من مصاديق الانقياد.

ويندفع هذا التوهم : بان الداعي على ما عرفت ما تكون نسبته إلى الفعل نسبة المسبب إلى السبب ، لأنه ما يترتب على الفعل ويتحقق به ، وعليه فما يكون نسبته إلى الفعل نسبة العنوان إلى المعنون أو الطبيعي إلى فرده لا يصلح ان يكون داعيا للفعل ، إذ لا يترتب على الفعل ، بل وجوده بنفس وجود الفعل.

نعم قد يطلق عليه الداعي مسامحة بلحاظ انه معرف للداعي الحقيقي الّذي يكون مسببا عن العمل ، فإكرام زيد الّذي يكون جارا له لا يصلح ان يكون بداعي إكرام جاره لاتحاد وجود إكرام الجار مع وجود إكرام زيد ، ولكنه يعتبر بأنه أكرم زيدا بداعي إكرام جاره ، وهو تعبير مسامحي يلحظ فيه ما يترتب على إكرام الجار من فوائد.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان إتيان الموافق احتمالا متحد مع المأتي به اتحاد الطبيعي وفرده ، فلا يصلح ان يكون داعيا ، إذ ليس هو مما يترتب عليه وتكون نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب.

فان قلت : ان التعظيم من عناوين الفعل ، ولذا يقال للقيام مثلا انه

ص: 130

تعظيم ، ومن الواضح ان الفعل يؤتي به بداعي التعظيم ، فليس كل ما يكون عنوانا للفعل لا يصلح ان يكون داعيا إليه.

قلت : التعظيم امر اعتباري يتحقق بالفعل الّذي يقصد به تحققه نظير سائر الأمور الاعتبارية.

وعليه ، فهو مسبب عن العمل ومترتب عليه ، ولو لا الاعتبار لم يتحقق التعظيم ، ولذا يختلف ما به التعظيم باختلاف الأنظار.

فان قلت : ان الاندفاع عن الاحتمال عليه سيرة العقلاء في أمور معاشهم وتصرفاتهم ، كما هو ظاهر حال الكاسب الّذي يذهب صباحا إلى دكانه لأجل الربح وبداعي المنفعة المحتملة.

قلت : اندفاع العقلاء في أمورهم لا ينشأ عن داعي المصلحة المعلومة فضلا عن المحتملة ، إذ تحقق الربح والمنفعة وترتبها على الفعل يتوقف على مقدمات غير إرادية للمكلف ، كمجيء المشتري - مثلا - وإعجابه بالسلعة وغير ذلك ، وانما ينشأ عما هو يترتب على تصرفاتهم ، وهو التهيؤ لتحقق الربح والاستعداد لذلك. فتدبر.

فان قلت : كما انه في مورد العلم بالأمر يؤتى بالعمل بداعي الموافقة القطعية كذلك في موارد الاحتمال يؤتى به بداعي الموافقة الاحتمالية ، ولا يؤتى بداعي إتيان الموافق احتمالا كي يقال انه عنوان للعمل لا مسبب عنه.

قلت : فرق بين الموافقة القطعية والاحتمالية فان الأولى تنتزع عن إتيان ما يوافق المأمور به ، فتكون مسببة عن العمل فتصلح لأن تكون داعيا مقربا. واما الموافقة الاحتمالية فهي ليست مسببة عن إتيان الموافق احتمالا.

الثاني : ان انضمام داع مباح غير قربي إلى الداعي القربي لا يضر في مقربية العمل وصحته عبادة كما هو محرر في الفقه ، فلو جاء بالصلاة في مكان معين بداعي انه أكثر برودة من غيره لم يضر بعبادية الصلاة ، فليكن الحال فيما

ص: 131

نحن فيه كذلك.

ويندفع هذا التوهم : بان الموارد التي يلتزم فيها بعدم قدح الضميمة المباحة تختلف عما نحن فيه ، إذ في تلك الموارد توجد جهتان نفس العمل بذاته وتطبيقه على فرد خاص أخذت الطبيعة بالإضافة إليه لا بشرط ، والمكلّف يأتي بالعمل بداع قربي لكنه يأتي بالخصوصية بداع غير قربي وهو لا يضر لتباين الخصوصية عن ذات العمل ، بل لا يمكن الإتيان بالخصوصية بداع قربي بعد أخذ الطبيعة بالنسبة إليها لا بشرط ، إلاّ ان يقوم دليل على استحبابها في نفسها كالصلاة في المسجد فالضميمة المباحة في هذه الموارد لا تدعو إلى نفس العمل ، بل إلى خصوصيته. وليس الحال فيما نحن فيه كذلك ، بل العمل نفسه يؤتى به عن داعيين كما تقدم.

الثالث : دعوى إمكان الإتيان بالمأمور به الواقعي بداعي الموافقة والإطاعة. ببيان : ان كلا من الفعلين يؤتى به بداعي موافقة الأمر على تقدير الأمر به ، فعلى تقدير تعلق الأمر به واقعا يكون قد أتى به بداعي الموافقة ، لأن حصول المقدر عليه يقتضي حصول المقدر. فالواجب الواقعي من بين العملين قد أتي به بقصد الموافقة وهو قصد مقرب كما عرفت.

ويندفع هذا التوهم : بان الإرادة المنجزة المتعلقة بالفعل يمتنع ان تصدر عن مجرد الموافقة على تقدير ، إذ من المحتمل ان لا يتحقق التقدير والحال ان الإرادة حاصلة ، فلا بد ان تتحقق بلحاظ كلا تقديري الفعل ، والداعي يختلف باختلاف التقديرين ، فتكون صادرة عن داعيين على تقديرين ، يعنى : انه يدعو إلى الفعل الموافقة على تقدير تعلق الأمر به والتخلص عن التعب في تحصيل العلم على تقدير عدم تعلق الأمر به ، فيحصل التشريك في مقام الداعوية المستلزم لاختلال العبادية والتقرب.

وخلاصة المحذور الّذي يستلزمه التكرار هو عدم صدور الفعل عن داع

ص: 132

قربي خالص ، بل هو صادر عن داعيين أحدهما قربي والآخر دنيوي. فتدبر.

واما استدلال المحقق النائيني على ما ذهب إليه من ان مرتبة العين متقدمة على مرتبة الأثر - الّذي جاء في أجود التقريرات (1) - فهو عجيب ، إذ أي ربط للتأخير الرتبي والتقدم الرتبي في العارض والمعروض ، بالنسبة إلى الاكتفاء في مقام الامتثال : الّذي ملاكه حصول المقربية والعبادية؟ ، وهل يمتنع ان يترتب أثر واحد على كل من العارض والمعروض ، بل العلة والمعلول؟ ، بل هل يمتنع ان يترتب الأثر على المعلول دون العلة؟ ، فتأخر الاحتمال عن نفس الأمر رتبة - تأخر العارض عن المعروض - لا يلازم - بتاتا - تأخر الانبعاث عن احتمال الأمر عن الانبعاث عن نفس الأمر رتبة وفي مقام الامتثال. ولو اكتفى قدس سره بمجرد الدعوى والإحالة على الوجدان كما انتهج في تقريرات الكاظمي كان أفضل وأولى.

ثم ان المحقق الأصفهاني ناقش المحقق النائيني قدس سره بوجوه :

منها : ان الإتيان بالعمل بداعي الموافقة الاحتمالية انقياد ، وهو من العناوين المقتضية للحسن ، بحيث لو خليت وطبعها لازمت الحسن ، وواضح ان التمكن من العلم التفصيليّ والموافقة التفصيلية ليس من موانع اقتضاء الانقياد للحسن نظير الضرر المترتب على الصدق (2).

والإنصاف : ان ما أفاده غير وارد ، وذلك لأن الإتيان بمحتمل الموافقة مع التمكن من الموافقة التفصيلية لا يكون مقربا وانقيادا بنظر المحقق النائيني ، فلا معنى لأخذه مفروغا عنه ، بل هو محل البحث والإشكال ، فالإشكال في صغرى المطلب. فتدبر جيدا والتفت.

ص: 133


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 44 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 40 - الطبعة الأولى.

ثم ان المحقق النائيني ذكر : في ان مقتضى الأصل مع الشك في اعتبار الامتثال التفصيليّ مع التمكن منه في تحقق الامتثال هو الاحتياط وعدم الاكتفاء بالامتثال الإجمالي (1).

وأورد عليه : بان كان الامتثال التفصيليّ دخيلا في الغرض كان على المولى بيانه لأنه مما يغفل عنه غالبا ، فعدم بيانه دليل على عدم دخالته في الغرض فلا يجب ، وان لم يحتمل دخله في الغرض فلا وجه للاحتياط ، إذ لا يضر عدمه في صحة العمل (2).

أقول : هذا الإيراد غير متجه ، لأن الشك ليس في اعتباره دخيلا في المأمور به أو الغرض زائدا على سائر الشروط كي ينفي بأصل البراءة أو الإطلاق ، بل الشك في دخالته في حصول التقرب المعتبر ، فان المحقق النائيني حين ذهب إلى اعتباره ذهب إليه من باب انه مع التمكن عنه لا يتحقق الإطاعة المعتبرة في العبادة بدونه ، فالشك في اعتباره يرجع إلى الشك في تحقق الإطاعة المعتبرة بدونه وعدمه ، فالشبهة موضوعية لا حكمية ، ومقتضاها الاحتياط لقاعدة الاشتغال. هذا مع التمكن من العلم التفصيليّ.

فاما مع عدم التمكن منه والتمكن من الظن التفصيليّ ، فالحال فيه كذلك أيضا ، إذ مرجع حجية الظن إلى ترتيب آثار العلم وصحة إسناد المؤدى إلى اللّه سبحانه وتحقق الامتثال به جزما ، فالعدول عنه إلى الموافقة الإجمالية يلازم التشريك في الداعي في كل من العملين بالبيان المتقدم ، فتختل المقربية المعتبرة في العبادة.

واما مع عدم التمكن من العلم التفصيليّ والظن التفصيليّ ، جاز التكرار ،

ص: 134


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 45 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ محمد سرور. مصباح الأصول2/ 82 - الطبعة الأولى.

وذلك لأن الداعي الآخر الّذي يكون داعيا للعمل على التقدير الآخر ، أعني غير الموافقة لا يكون هو التخلص من التعب ، وانما ينحصر في كونه التخلص من تبعة التكليف المعلوم والفرار من العقاب وهذا لا يضر بعبادية العمل كما لا يخفى.

هذا مع انه لو تنزلنا والتزمنا بمنافاة مثل هذا الداعي للعبادية ، فلا بد من الالتزام بالاكتفاء بهذا المقدار من العبادية ، إذ أكثر منه غير مقدور ، فلو اعتبر الخلوص لزم سقوط التكليف لعدم القدرة على امتثاله ، وهو خلف فرض تعلق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، فنفس العلم بالتكليف يلازم القطع بالاكتفاء بهذا المقدار في مقام الامتثال وإلاّ لسقط التكليف فالتفت.

هذا كله في المقام الأول وهو ما استلزم الاحتياط التكرار.

واما المقام الثاني : وهو مما لا يستلزم الاحتياط فيه التكرار فله صور ثلاث :

الأولى : الشبهة البدوية واحتمال تعلق التكليف بعمل معين عبادي.

الثانية : دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

الثالثة : دوران الجزء بين نحوين ، بحيث يستلزم الاحتياط فيه تكرار الجزء كدوران امر القراءة بين الجهر والإخفات - على ما قيل (1) -.

اما الصورة الأولى ، فهي كما لو احتمل لزوم الدعاء عند رؤية الهلال بنحو عبادي أو صلاة ركعتين عندها ، وتمكن من تحصيل العلم أو الظن الخاصّ ، ولا يخفى انه بناء على نفي جواز الاحتياط فيه يترتب بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد الّذي ذهب إليه البعض.

ص: 135


1- إشارة إلى احتمال انه من موارد تكرار نفس العمل ، لاحتمال مانعية تكرار السورة والفاتحة في العمل الواحد لاستلزامه القرآن ( منه عفي عنه ).

وعلى كل قد ذهب المحقق النائيني إلى عدم جوازه بانيا له على ما أسسه من عدم كفاية الانبعاث عن احتمال الأمر في الإطاعة مع التمكن من الانبعاث عن نفس الأمر - كما تقدم (1) -.

ولكن عرفت ما فيه وانه قول لا يسنده برهان ولا وجدان.

واما على ما اخترناه من وجه بطلان الاحتياط المستلزم للتكرار ، فلا يتأتى هاهنا.

ص: 136


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 27 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبوالقاسم اجود التقريرات 44/2- الطبعة الأولی.

الأمارات

اشارة

ص: 137

ص: 138

« الكلام في الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا »

وقبل إيقاع الكلام في ذلك لا بد من البحث في جهات عديدة :

الجهة الأولى : من جهات مباحث الأمارات. ذكر صاحب الكفاية ان الأمارة غير العلمية ليست كالقطع في استلزامها الحجية عقلا ، بل ثبوت الحجية لها يحتاج إلى جعل شرعي ، أو طروء بعض الحالات المستلزمة لحجيتها عقلا بناء على الحكومة في نتيجة دليل الانسداد ، فان غير العلم بنظر العقل لا يقتضي الحجية ، وليست الحجية من لوازمه العقلية. وذلك في مقام ثبوت الحكم بالظن مما لا خلاف فيه. واما في مقام الامتثال وسقوط الحكم فقد يظهر من بعض المحققين - ويقال : انه المحقق الخوانساري - الاكتفاء بالظن بالفراغ.

وقد احتمل صاحب الكفاية ان يكون منشؤه عدم لزوم دفع الضرر المحتمل (1).

وفيه : انه يرد عليه - مع غض النّظر عما ورد في الحواشي من الإشكالات -

ص: 139


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /275- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان لزوم القطع بالامتثال وتنجز الاحتمال الموهم ليس من باب لزوم دفع الضرر المحتمل كي ينفي بعدم لزوم ذلك وانما هو من جهة تحقق العلم بالتكليف الّذي يستلزم تنجزه ، فلزوم القطع بالامتثال لأجل لزوم العلم بالفراغ من التكليف المعلوم المنجز ، ولزوم رفع احتمال الشغل ليس من جهة تنجزه بنفسه ، بل من جهة تنجز التكليف المعلوم. فلاحظ.

الجهة الثانية : من جهات مباحث الأمارات. في إمكان التعبد بغير العلم ، ويقصد من الإمكان المبحوث عنه هو الإمكان الوقوعي الّذي يرجع إلى نفي استلزام التعبد بالظن المحال في قبال دعوى الامتناع الراجعة إلى دعوى استلزامه المحال - كما ستعرف -. لا الإمكان الذاتي وهو كون الشيء بحسب ذاته ممكن الوقوع ، في قبال الامتناع الذاتي وهو كون الشيء بحسب ذاته ممتنع الوقوع كاجتماع النقيضين ، إذ لا إشكال في عدم كون التعبد بالظن ممتنع التحقق ذاتا وبالنظر إلى نفسه بلا لحاظ مستلزماته.

والبحث في هذه الجهة من ناحيتين :

الناحية الأولى : فيما هو مقتضى الشك في الإمكان ، بمعنى انه إذا لم يقم دليل على الإمكان ولا على الاستحالة وكان كل منهما محتملا فما هو المتبع؟. ذكر الشيخ ان الإمكان أصل لدى العقلاء مع احتمال الامتناع وعدم قيام الدليل عليه ، فانهم يرتبون آثار الممكن على مشكوك الامتناع (1). وناقشه صاحب الكفاية بوجهين :

أحدهما : انه لم يثبت بناء العقلاء على ذلك ، ولو سلم فلا دليل قطعيا يدل على حجية هذا البناء والظني لا ينتفع به إذ الكلام في إمكان حجيته وامتناعها.

ثانيهما : انه إذا دل دليل على وقوع التعبد بالظن فهو دليل على إمكانه

ص: 140


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /24- الطبعة الأولى.

وعدم استلزامه لأي محذور ، إذ لو كان ممتنعا لما وقع. وإذا لم يكن هناك دليل على وقوع التعبد به فلا فائدة في البحث عن إمكانه وعدمه ، لذا الأثر العملي لوقوع التعبد به لا لإمكانه مع عدم وقوعه (1).

وتوضيح هذا الوجه. انه قدس سره استظهر من كلام الشيخ رحمه اللّه ان للعقلاء في مورد التعبد بالظن بناءين. أحدهما : بناؤهم على إمكان التعبد به. والآخر : بناؤهم على التعبد به وحجيته (2).

فناقشه : قدس سره بأنه إذا ثبت البناء على التعبد فلا حاجة لبنائهم على إمكانه ، وإذا لم يثبت بناؤهم على الحجية فلا أثر لبنائهم على إمكانه ، فالمهم هو إثبات بنائهم على تحقق التعبد وعدمه.

وهذا نظير ما يورد على الالتزام بجعل السببية في باب المعاملات والمسببات الاعتبارية كسببية البيع للملكية ، من انه ان اعتبر الشارع أو العقلاء الملكية عند تحقق البيع - مثلا - لم يكن احتياج لاعتبارهم سببية البيع للملكية وان لم تعتبر الملكية عند البيع فاعتبار السببية وحدها عديم الأثر.

هذا ومن الممكن ان لا يكون كلام الشيخ رحمه اللّه ناظرا إلى تعدد الاعتبار والجعل فيما نحن فيه ، بل إلى انه مع قيام الدليل القطعي على التعبد بالظن كحجية الظواهر لا يعتني العقلاء في مقام عملهم باحتمال الاستحالة والشك فيها ، بل يرتبون آثار الاعتبار والحجية بلا التفات إلى احتمال الاستحالة. وبذلك لا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية بوجهيه كما لا يخفى.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى ما يحكى عن الشيخ الرئيس من قوله :

ص: 141


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /276- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- حمل سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الكفاية أولا على ان قيام الدليل على الوقوع قيام له بالملازمة على الإمكان ، ومعه لا حاجة إلى الأصل ، إذ الدليل حاكم عليه ، وبدون الدليل لا ينفعنا الأصل بشيء ثم فسرها بما يأتي ( منه عفي عنه ).

« كلما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان » ، وذكر ان المراد منه ليس بيان ان الإمكان أصل مع الشك فيه ، بل مراده من الإمكان هو الاحتمال ، وهذا امر وجداني لا يمكن إنكاره إذ كل شيء محتمل الوقوع قبل قيام البرهان على استحالته أو وجوبه (1).

واما ما ذكره المحقق النائيني في مناقشة أصالة الإمكان ، من ان البحث عن الإمكان في عالم التشريع بمعنى عدم لزوم المحذور في التشريع لا الإمكان التكويني المختص بالأمور الخارجية حتى يبحث عن ان الأصل العقلائي هل هو الحكم بالإمكان حتى يثبت الامتناع أو لا (2)؟.

فهو مما لا نكاد نفهمه بأكثر من صورته اللفظية ، وذلك فان التشريع وجعل الحكم فعل تكويني للمولى كسائر الأفعال التكوينية له وان اختص باسم التشريع ، فيقع البحث في انه يستلزم المحال أو لا؟ ومع الشك ما هو الأصل والقاعدة؟.

وبالجملة : التعبير بالإمكان التشريعي والتكويني لا يرجع إلى اختلاف واقع الإمكان ، بل هو تقسيم بلحاظ متعلقه.

ولنكتف في البحث في هذه الناحية بهذا المقدار ، إذ ليس ذلك بذي جدوى. وانما المهم هو البحث في ...

الناحية الثانية : وهي في بيان ما ذكره من وجوه استحالة التعبد بالظن والنّظر فيها.

وقد ذكرها صاحب الكفاية ثلاثة ، وجمعها تحت دعوى استلزام التعبد بالأمارة غير العلمية اما المحال أو الباطل.

الأول : استلزام التعبد بغير العلم اما التصويب الباطل لو التزم بعدم بقاء

ص: 142


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /276- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 88 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الواقع على واقعه. واما اجتماع المثلين فيما إذا وافق الحكم الّذي قامت عليه الأمارة الواقع من وجوبين أو تحريمين أو غيرهما ، أو اجتماع الضدين فيها إذا تخالف الواقع مع مؤدى الأمارة من وجوب وحرمة - مثلا - واردة وكراهة ، ومصلحة ملزمة ومفسدة كذلك. وهذا فيما إذا التزم ببقاء الواقع على واقعه.

الثاني : استلزامه طلب الضدين فيما إذا أدت الأمارة إلى طلب ضده الواجب ، وهو محال من الحكيم تعالى.

الثالث : استلزامه تفويت المصلحة فيما لو أدت إلى عدم وجوب الواجب أو الإلقاء في المفسدة فيما لو أدت إلى عدم حرمة الحرام ، وهو قبيح عليه تعالى.

وقد تصدى الاعلام لحل هذه الإشكالات وأطلق على البحث في هذه الجهة ب- : « مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ».

وقد ذكر صاحب الكفاية وجوها ثلاثة للتخلص من هذه المحاذير جمعها بقوله : « ان ما ادعى لزومه اما غير لازم أو غير باطل » (1).

الوجه الأول : ان المجعول في مورد التعبد بالأمارة ليس حكما شرعيا تكليفيا ، بل المجعول هو الحجية من دون ان يكون هناك أي حكم ظاهري مجعول في موردها ، وأثر ذلك هو التنجيز والتعذير.

وعليه ، فليس لدينا وجوبان - مثلا - أو وجوب وحرمة ولا مصلحة ومفسدة ولا إرادة وكراهة. كما انه ليس لدينا طلب الضدين.

واما محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيرتفع بوجود مصلحة في التعبد بالظن غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

وقد اكتفى قدس سره في دفع محذور التفويت بهذا المقدار من البيان مع انه يستدعي إطالة البحث وسنتكلم فيه إن شاء اللّه على حده - بعد التعرض

ص: 143


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /277- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لوجوه الجمع المتكفلة لدفع محذور اجتماع الضدين أو المثلين - ونتكلم فيما أفاده الشيخ قدس سره من الالتزام بالمصلحة السلوكية. فانتظر.

الوجه الثاني : انه لو التزم بوجود حكم ظاهري تكليفي في موارد الأمارات اما بدعوى استتباع جعل الحجية لذلك أو بدعوى انه لا معنى لجعل الحجية إلاّ جعل الحكم التكليفي ، بمعنى انها منتزعة عن الحكم التكليفي الظاهري ، فلا محذور أيضا وان اجتمع الحكمان ، وذلك لأن الحكم الظاهري حكم طريقي ، بمعنى انه ناشئ عن مصلحة في نفسه أوجبت إنشاءه المستلزم للتنجيز والتعذير. والحكم الواقعي حكم فعلي ناشئ عن مصلحة في متعلقه.

وعليه فلا يلزم اجتماع الضدين ، لأن تضاد الحكمين من جهة تضاد مبدئهما وهو الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة ، والمفروض ان ما فيه المصلحة في الحكم الظاهري نفس الحكم لا المتعلق الّذي فيه المفسدة الموجبة للحكم الواقعي ، فمركز المصلحة والمفسدة مختلف وباختلافه يختلف متعلق الإرادة والكراهة ، إذ هما يتبعان المصلحة والمفسدة ، فلا تتعلق الإرادة بمتعلق الحكم الظاهري ، بل بنفس الحكم لأنه مركز المصلحة.

واما نفس الحكمين بما هما إنشاءان مع قطع النّظر عن مبدئهما فلا تضاد ولا تماثل بينهما ، فان الإنشاء خفيف المئونة كما قيل. وقد أشار قدس سره إلى حديث تحقق الإرادة من المبدأ الأعلى ونفي تحققها ، وان الموجود في نفس المبدأ الأعلى ليس إلاّ العلم بالمصلحة والمفسدة ، وان الإرادة انما تتحقق في النّفس النبوية أو الولويّة حين يوحى الحكم الشأني إلى النبي صلی اللّه علیه و آله أو يلهم به الولي ، وهو حديث خارج عما نحن بصدده نوكله إلى أهله في محله.

الوجه الثالث : الالتزام بعدم كون الواقع فعليا تام الفعلية ومن جميع الجهات.

ببيان : ان الحكم الفعلي هو الحكم الواصل إلى مرحلة البعث والزجر ،

ص: 144

وذلك انما يكون إذا كانت على طبقه الإرادة والكراهة فعلا ، فيلتزم بان إرادة الواقع معلقة على صورة عدم ثبوت الإذن على خلافه ، فإذا كان هناك اذن فعلي كما في موارد أصالة الإباحة لم يكن الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات ، إذ هو فعلي على تقدير ولم يتحقق التقدير لفرض ثبوت الاذن.

وقد أشرنا سابقا إلى ان عبارته بدوا توهم تعليق فعلية الحكم على العلم به ، فيشكل عليه بعدم كون قيام الأمارة المصادفة للواقع موجبا للفعلية لعدم قيامها مقام القطع الموضوعي ، وبينا انه التفت إلى هذا الإشكال ، فذهب إلى ان فعلية الواقع معلقة على عدم الإذن على خلافه لا على العلم به كما هو صريح ذيل عبارته فلاحظها (1).

كما ان ظاهر عبارته أولا ان الحكم الواقعي فعلي بنحو لو علم به لتنجز.

وهذا ليس طريقا لحل الإشكال إلاّ إذا قلنا بان مراده كما هو ظاهر كلامه انه لو علم به لصار فعليا وتنجز ، فيكون العلم موجبا للفعلية والتنجز في آن واحد وهو واضح.

وعلى كل فالالتزام بعدم فعلية الواقع التامة لتعليقها على عدم الاذن يوجب عدم اجتماع الضدين أيضا ، لعدم الإرادة والكراهة في شيء واحد ، إذ الواقع ليس مرادا كما انه ليس بذي مصلحة ملزمة فعلا ، فلا تنافي بين الحكمين حينئذ وقد أشار إلى هذا الوجه مكررا مع اختلاف في التعبير ، وقد عبر في بعض الأحيان عن الواقع بأنه لو علم به من باب الاتفاق ، فلا بد من الحديث عن هذا القيد وما هو المقصود به كما وعدناك سابقا وسيجيء إن شاء اللّه تعالى.

وهذا الوجه ذكره عدولا عن الوجه الثاني لعدم تأتيه - كما ذكر - في مورد بعض الأصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية ، وعلله بان الإذن في الإقدام

ص: 145


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /278- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والاقتحام ينافي المنع فعلا كما فيما صادف الحرام ، وان كان الاذن لأجل مصلحة فيه لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه.

وقد وقع الكلام في بيان جهة الإشكال في مورد أصالة الإباحة وما هو المنظور في كلام الكفاية؟. فذهب البعض إلى انه استدراك من الوجه الأول ، حيث انه لا معنى لجعل الحجية في أصالة الإباحة شرعا ، بل المجعول رأسا هو الترخيص والاذن.

ولا يخفى ما في هذا التوجيه ، فانه خلاف صريح العبارة كقوله : « وان كان الاذن فيه لأجل مصلحة فيه ... » ، فانه صريح في انه استدراك عن الوجه الثاني الّذي يرجع إلى الالتزام بكون الحكم الظاهري طريقيا ناش عن مصلحة في نفسه.

ثم انه لو انحلت المشكلة بالالتزام بالوجه الثاني في موارد بعض الأصول - كما يراه الموجه - فأي معنى لقوله : « فلا محيص الا عن الالتزام ... ».

وعليه ، فما يوجّه به كلامه قدس سره بعد البناء على انه استدراك من الوجه الثاني هو ان يقال : ان التضاد بين الأحكام من ناحية المبادئ ، فالتضاد بين الوجوب والحرمة من جهة اجتماع الكراهة والإرادة في شيء واحد لا من جهة أنفسهما ، ولكن إذا فرض وجود مصلحة في الفعل تدعو إلى إرادته واقعا ومصلحة في نفس الاذن في تركه ظاهرا كان وجود المصلحة في نفس الإذن موجبا لكون المولى لا اقتضاء نفسيا بالنسبة إلى الفعل ، وهو يتنافى مع إرادته الفعل.

ولكن هذا التوجيه صوري لا أكثر ، إذ يرد عليه :

أولا : ان مقتضاه سراية الإشكال إلى موارد قيام الأمارة على الإباحة ولا اختصاص له بمورد الأصل العملي.

وثانيا : انه ما الفرق بين الإذن وسائر الأحكام؟ فكما ان مصلحة الاذن تلازم كون المولى لا اقتضاء نفسيا بالنسبة إلى الفعل والترك المنافي لإرادة الفعل

ص: 146

واقعا ، كذلك مصلحة الحرمة ظاهرا تلازم كون تعلق كراهة المولى بالفعل المنافية لإرادته الواقعية.

وعليه ، فهذا الاستدراك لا نعرف له وجها صحيحا. فالتفت.

وعلى أي حال ، فلا يهم في المطلب صحة الاستدراك المزبور وعدمه ، انما المهم هو بيان وجوه الجمع المذكورة في الكفاية وغيرها والنّظر في ما يمكن الالتزام به منها.

فلنتعرض أولا إلى وجوه الكفاية الثلاثة ، فنقول :

اما الوجه الأول : فقد نسب إلى صاحب الكفاية انه يريد به كون المجعول هو نفس المنجزية والمعذرية ، كما قد يظهر من التزام المحقق الأصفهاني بان المجعول مفهوم الحجية على انه رأي شخصي له (1).

وذلك وان كان قد يظهر من بعض عباراته في غير المقام ، لكن عبارته في المقام ظاهرة في ان المجعول هو الحجية ويترتب عليه المنجزية والمعذرية (2).

وعلى كل ، فقد أورد عليه المحقق النائيني : بان المجعول ان كان هو المنجزية فهو محال ، إذ مع فرض الجهل بالواقع وعدم وجود ما يوجب التنجز يحكم العقل بقبح العقاب عليه ، فجعل العقاب على مثل ذلك يكون جعلا له بلا سبب وبلا وجه ، ويكون مستلزما لتخصيص الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان وهو ممتنع. وان كان المجعول امرا يترتب عليه التنجيز رجع إلى ما ذكرناه من كون المجعول هو الوسطية في الإثبات بتعبير ، أو الطريقية بتعبير آخر ، أو الوصول بتعبير ثالث (3).

وأورد عليه أيضا المحقق الأصفهاني : بان المنجزية واستحقاق العقاب

ص: 147


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 44 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /277- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 76 - الطبعة الأولى.

فرع قيام الحجة على التكليف ، وإلاّ فالتكليف مع عدم الحجة عليه لا يستحق العقاب على مخالفته.

وعليه ، فترتب الحجية على جعل المنجزية يستلزم الدور ، هذا إذا كان المجعول نفس المنجزية ، وان كان المجعول خصوصية يترتب عليها التنجز فلا بد من البحث عن تلك الخصوصية المجعولة وما هي (1).

فخلاصة الإيرادين : ان جعل المنجزية يستلزم تخصيص حكم العقل ، ويستلزم الدور وكلاهما محال.

والّذي نراه عدم صحة الإيرادين كليهما :

اما بناء على ما قربناه سابقا من ان الحكم باستحقاق العقاب لا يد للعقل والعقلاء فيه ولا دخل ، وانما هو يدور مدار ما يدل عليه الدليل الشرعي ، نظير عقاب السّارق بالحدّ في الدنيا فانه لا يحكم به العقل ولا العقلاء ، فلو دل على ان العقاب على الواقع بواقعه علم به أو جهل قامت الحجة عليه أو لا لم يكن لدينا كلام ولما كان منافيا لحكم عقلي ، فواضح جدا إذ لا حكم للعقل بقبح العقاب بلا بيان ، ولا تفرع للعقاب على قيام الحجة ، فقيام الدليل على ثبوت العقاب عند قيام الأمارة لا يستلزم تخصيص الحكم العقلي ولا الدور.

واما بناء على المذهب المشهور من ان الحكم باستحقاق العقاب عقلي وللشارع تحديد مقداره لا أكثر ، فلان جعل العقاب من قبل الشارع على الواقع عند قيام الأمارة يكون بنفسه بيانا رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا مخصصا له ، إذ الحكم بقبح العقاب بلا بيان يكون حكما عقليا تابعا للملاكات الواقعية وليس حكما جعليا كي يكون تابعا للبناء والجعل.

وإذا فرض ان اعتبار الطريقية - كما عليه المحقق النائيني - أو مفهوم

ص: 148


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 44 - الطبعة الأولى.

الحجية - كما عليه المحقق الأصفهاني - يستلزم ارتفاع موضوعه وتصحيح العقاب على الواقع المجعول من دون ان يتغير الواقع بالاعتبار ، فليكن الأمر كذلك في اعتبار نفس المنجزية رأسا ، إذ دعوى الفرق بين الاعتبارين في تغيير الحكم العقلي التابع للملاك الواقعي - دعوى - لا تستحق الالتفات والسماع.

وبالجملة : نفس جعل المنجزية بيان للواقع المجعول يصحح العقاب ويرفع موضوع القاعدة لا انه يوجب تخصيصها ، كما انه لا يتوقف على جعل الحجية قبل ذلك فالتفت.

واما ما ذكره المحقق النائيني من انه لو أريد من المجعول امرا يترتب عليه التنجيز فهو يرجع إلى جعل الطريقية الّذي اختاره قدس سره ، فصحته تتوقف على امتناع فرض مجعول آخر غير الطريقية.

وهذا ما ستعرفه بعد حين.

والمتحصل : ان ما أفاده العلمان في مقام الإيراد على الوجه الأول غير تام.

والّذي ينبغي ان يقال : هو ان مقصود صاحب الكفاية ان كان هو جعل المنجزية - والمراد بها الوعيد بالعقاب لا جعل الاستحقاق كما لا يخفى - عند قيام الأمارة مطلقا صادفت الأمارة الواقع أم لم تصادف فلازمه ترتب العقاب على التجرّي وهو لا يلتزم به. وان كان جعل المنجزية بالنسبة إلى الأمارة على تقدير مصادفتها للواقع ، فحيث لا يعلم المصادفة لم يترتب على قيام الأمارة استحقاق العقاب ، لعدم صلاحية المشكوك المصادفة للبيانية. هذا مع ان جعل المنجزية مطلقا ينافي جواز اسناد مؤداها إلى اللّه سبحانه الّذي هو أثر حجية الأمارة الظاهر ، كما لا يخفى ، وعليه ينسد باب الإفتاء بمؤدى الأمارة.

واما الوجه الثاني : فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني من ناحيتين :

إحداهما : فيما ذكره من استتباع الحجية للحكم التكليفي ، فقد استشكل فيه بان استتباع الحجية للحكم التكليفي اما بنحو استتباع الموضوع لحكمه أو

ص: 149

بنحو استتباع منشأ الانتزاع للأمر الانتزاعي ، وكل منهما محل نظر.

اما الاستتباع بالنحو الأول : فلان الحجية ليست نظير الملكية ذات أثر شرعي ، بل لم يرتب عليها أي حكم شرعي ولا يعقل ذلك ، إذ جعل الحجية يكفي في انبعاث المكلف نحو العمل ويكفي في تنجز الحكم ، ومعه يكون جعل وجوب العمل حقيقيا بداعي البعث أو طريقيا بداعي التنجيز لغوا.

واما الاستتباع بالنحو الثاني : فلان الحكم الوضعي هو الّذي يصح انتزاعه عن الحكم التكليفي ، كالجزئية المنتزعة عن التكليف بالمركب ، دون العكس ، لأن تحقيق الحكم التكليفي انما هو بالإنشاء بداعي جعل الداعي وهو مما لا يقبل الانتزاع عن حكم وضعي.

الثانية : فيما ذكره من ان الحكم المجعول طريقي ، الّذي حمله المحقق الأصفهاني على الحكم المنشأ بداعي التنجيز فلا يتنافى مع الحكم المنشأ بداعي البعث.

وأورد عليه : بان جعل الحكم بداعي التنجيز غير معقول ، وذلك لأن ما يتنجز بالإنشاء هو المادة التي يقع عليها الإنشاء ، ومن الواضح ان ما يقبل التنجز هو الحكم لا متعلقه ، وما عليه الإنشاء وما هو مدلول المادة نفس المتعلق كالصلاة لا حكمها ولا معنى لتنجزه.

ونظير ذلك الإنشاء بداعي البعث ، فان المبعوث نحوه هو المادة التي يقع عليها الإنشاء.

وقد أطال قدس سره في بيان ذلك وانما نقلناه ملخصا للاكتفاء بمجرد ذلك فيما هو المهم.

ثم ذكر قدس سره ان الحكم الطريقي بمعنى آخر معقول ، وهو الحكم المنشأ بداعي البعث إلى الواقع لكن لا بعنوان ، بل بعنوان آخر وهو عنوان ما قامت عليه الأمارة. ولكنه خلاف ظاهر العبارة ، لأن ظاهرها ان الحكم الطريقي

ص: 150

حيث انه ليس جعلا للداعي فلا تماثل ولا تضاد بينه وبين الحكم الواقعي ، فلا بد ان يريد به المعنى الأول (1).

والتحقيق : ان اشكاله قدس سره من الناحية الأولى انما يتم لو كان المراد بالاستتباع الاستتباع في مقام الثبوت ، اما لو أريد بالاستتباع الاستتباع في مقام الإثبات ، بمعنى ان الدليل وان دل على جعل الحجية لكنه يراد به الدلالة على لا جعل الحكم الظاهري رأسا ، فلا إشكال إذ لا تعدد للمجعول ، وحينئذ فالاختلاف بين الترديدين المذكورين في هذا الوجه يرجع إلى ان المقصود بالأول هو ان واقع جعل الحجية إثباتا جعل الحكم ، وبالثاني هو ان واقع جعل الحجية ثبوتا هو جعل الحكم. فالتفت.

واما اشكاله من الناحية الثانية فمردود بأنه : لا ظهور لكلام صاحب الكفاية في إرادة الطريقية بالمعنى الأول ، بل لم يتبادر إلى الذهن الا الثاني منهما. ولو سلم ذلك فكلامه لا يأبى الحمل على المعنى الثاني للطريقية تخلصا عن إيراد عدم معقولية المعنى الأول ، واما استشهاده بما عرفت فمنشؤه قول الكفاية : « وانما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا أو زجرا وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا ... » (2) ولكنه غير صريح في المطلوب ، فمن الممكن ان يراد به المعنى الثاني ويكون نظره في نفي التضاد إلى بيان اختلاف متعلق الإرادة والكراهة كما عرفت فتدبر.

ثم ان المحقق النائيني رحمه اللّه نسب إلى صاحب الكفاية - استنادا إلى تعليقته على الرسائل - التزامه في مقام الجمع ، بان الأحكام الواقعية إنشائية وانه عبر عنها في بعض عباراته بأنها شأنية.

ص: 151


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 49 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /278- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأطال قدس سره في مناقشته بان مراده من الحكم الشأني ..

ان كان ثبوت الحكم في مرتبة ثبوت ملاكه ومقتضية. وبعبارة أخرى : ليس الموجود سوى ملاك الحكم ، فهو التزام بالتصويب وعدم وجود حكم يشترك فيه العالم والجاهل.

وان كان ثبوت حكم حقيقي في الواقع ، ولكنه حكم أولي لا يتنافى مع عروض عنوان ثانوي يغيره كموارد الضرر والحرج ، فهو يستلزم ان يكون قيام الأمارة على الخلاف موجبا لانقلاب الواقع كانقلابه بعروض الضرر ، وهو التزام بالتصويب أيضا.

وان كان ثبوت حكم مهمل من حيث ما يطرأ عليه من العناوين فهو غير معقول ، لأن الإهمال في مقام الثبوت محال ، وانما الإهمال المعقول هو الإهمال في مقام الإثبات.

هذا إذا كان مراده من الشأني غير الإنشائي. واما إذا أريد به الإنشائيّ كما هو ليس ببعيد ، فيرده ما ثبت من ان الأحكام الشرعية ليست إلاّ أحكاما فعلية حقيقة ثابتة لموضوعاتها المقدرة الوجود ، وانه ليس لدينا إلاّ مقام الجعل وهو الإنشاء ومقام المجعول وهو الحكم ، وهو لا يخلو اما ان يكون مقيدا بغير من قامت عنده الأمارة أو مطلقا ، فعلى الأول يستلزم التصويب وعلى الثاني يكون فعليا لحصول موضوعه ويستحيل تخلفه عن موضوعه.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره (1) والّذي يؤاخذ به :

أولا : نسبة هذا الوجه إلى صاحب الكفاية وعدم تعرضه إلى الوجه الثالث الّذي ذكره في الكفاية بقليل ولا كثير ، مع تبني صاحب الكفاية له والتزامه به كما أشرنا إليه ، وعدوله عن الالتزام بكون الحكم الواقعي إنشائيا.

ص: 152


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 101 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وثانيا : التزامه بعدم وجود حكم إنشائي ، وهذا مما عرفت الإشكال فيه سابقا ، وقد أشبعنا الكلام في إثبات حكم إنشائي غير الإنشاء والفعلية فراجع (1).

واما الوجه الثالث من وجوه الجمع في الكفاية : فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني قدس سره بأنه ...

ان أريد من كون الحكم الواقعي فعليا من جهة وليس تام الفعلية انه فاقد لبعض شرائط الفعلية ، فهو على هذا حكم إنشائي لا فعلي.

وان أريد انه واجد لمرتبة من الفعلية دون أخرى - بالبناء على ان الفعلية ذات مراتب - ، فشدة المرتبة وضعفها لا يوجب رفع التضاد أو التماثل ، فالبياض بمرتبته الضعيفة لا يجتمع مع السواد بأي مرتبة منه.

وان أريد انه حكم بداعي إظهار الشوق لا بداعي البعث والتحريك ، فهو فعلي من قبل هذه المقدمة.

ففيه : ان الشوق إذا بلغ حدا تتحقق به الإرادة التشريعية كان منافيا لإرادة أخرى على خلافها ، وان لم يبلغ هذا الحد لم يكن العلم به موجبا للامتثال لعدم تعلق الإرادة بالعمل.

ثم ذكر قدس سره انه ان أراد ما ذكرناه من كون الحكم فعليا ، بمعنى انه فعلي من قبل المولى ، وهو الإنشاء بداعي جعل الداعي ، حيث ان هذا هو تمام ما بيد المولى تم ما ذكره ، ومثل هذا الحكم لا يكون قابلا للداعوية الا بعد الوصول ، وعليه فلا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري الفعلي الواصل ، إذ لا دعوة للحكم الواقعي مع الجهل به (2).

ومن كلام صاحب الكفاية الراجع إلى إنكار التضاد من حيث المبادئ ،

ص: 153


1- في مسألة انفكاك الحكم الإنشائي عن الفعلي خارجا في مبحث القطع بالحكم المأخوذ موضوعا للحكم.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 54 - الطبعة الأولى.

وهذا الكلام الراجع إلى إنكار التضاد من حيث المقتضى ، يمكن تشكيل وجه مستقل للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كما ذهب إليه بعض ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

أقول : المهم في جهة الإشكال هو ما ذكره أولا من ان فقدان بعض شرائط الفعلية يوجب كون الحكم إنشائيا ، ولا يكون فعليا.

ويندفع هذا الإشكال : انه ليس المهم بنظر الكفاية هو تسمية الحكم الواقعي فعليا وعدم تسميته إنشائيا ، إذ لا أثر للتسمية في واقع المطلب ، وانما المهم هو التزامه بان الحكم الواقعي بنحو يكون العلم به أو قيام الأمارة عليه منجزا له ، سواء سمّي الحكم الواقعي إنشائيا أم فعليا ، في قبال الالتزام بأنه إنشائي صرف بحيث لا يكون العلم به منجزا - كما ينسب إلى الشيخ -.

ولا يخفى ان ما ذكره المحقق الأصفهانيّ لا ينفي واقع هذا الأمر ، وانما ينفي صحة تسمية الحكم الواقعي بالفعلي ، فلو وافقناه في انه حكم إنشائي لم يختل الجمع بهذا الوجه ولم ينتف ما رتبه صاحب الكفاية عليه من ان عدم الاذن على الخلاف يحقق فعليته المستلزمة للبعث والزجر ، إذ لا مانع ان يكون الحكم الواقعي إنشائيا ولكنه بهذه الصفة.

وبعبارة أخرى : ان تسمية ما سماه صاحب الكفاية بالفعلي من جهة بالإنشائي لا يوجب وقوع صاحب الكفاية فيما فر منه من الالتزام بان الواقع إنشائي صرف لا يتنجز بالعلم ، وهذه الدعوى هي مهمة صاحب الكفاية فان مهمته واقعية لا لفظية.

ولم يتعرض المحقق العراقي لهذا الوجه أصلا ، وانما تعرض للوجهين الأولين وناقشهما بما هو خارج عن محل الكلام ، من إشكال التضاد ، وهو لزوم نقض الغرض وتفويت المصلحة الّذي سيأتي الكلام فيه على حده إن شاء اللّه

ص: 154

تعالى (1).

ونتيجة ما ذكرناه : ان وجوه الجمع الثلاثة المذكورة في الكفاية معقولة كلها وليس فيها إشكال ثبوتي يوجب رفع اليد عنها.

واما الوجوه الأخرى المذكورة في مقام الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية غير ما أفاده صاحب الكفاية فهي متعددة.

منها : ما أشار إليه في الكفاية من ان الحكم الواقعي إنشائي والحكم الظاهري فعلي ، ولا تضاد بينهما كذلك ، إذ التضاد انما هو بين الحكمين الفعليين (2) وينسب هذا الوجه إلى الشيخ الأنصاري قدس سره . واستشكل فيه في الكفاية بوجهين.

الأول : ان لازمه عدم لزوم امتثال ما قامت عليه الأمارة من الأحكام ، إذ الحكم الإنشائي لا يلزم امتثاله كما تقدم في أوائل مباحث القطع ، من ان القطع انما يكون منجزا إذا تعلق بحكم فعلي دون ما إذا تعلق بحكم إنشائي ، مع ان لزوم امتثال ما قامت عليه الأمارة من الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان.

والتفصي عن هذا الإشكال : بان قيام الأمارة يوجب فعلية الحكم الواقعي الإنشائي فيلزم امتثاله لصيرورته فعليا بقيام الأمارة.

مندفع : بان لازم ذلك بان موضوع الفعلية هو الحكم الواقعي الإنشائيّ الّذي قامت عليه الأمارة ، ولا يخفى انه لا بد من إحراز ذلك اما تعبدا أو حقيقة في الحكم بالفعلية (3).

وعليه فنقول : ان أريد ان دليل حجية الأمارة بنفسه يتكفل التعبد بهذا الموضوع. ففيه : ان دليل الحجية انما يتعبد بما هو مؤدى الأمارة وهو نفس الواقع

ص: 155


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 69 - 70 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /279- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /278- 279 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإنشائي لا أكثر.

وان أريد ان الموضوع مركب من جزءين : أحدهما : الحكم الإنشائي ، وهو محرز بالتعبد ، والآخر : قيام الأمارة وهو محرز بالوجدان فتترتب الفعلية كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض اجزائها بالتعبد وبعضها الآخر بالوجدان. ففيه : ان الجزء الآخر ليس هو مجرد قيام الأمارة بل هو قيام الأمارة على الواقع الّذي هو عبارة أخرى عن مصادفة الأمارة للواقع. وهذا غير ثابت لا وجدانا ولا تعبد إذ لا نظر لدليل الحجية إلى إثبات المصادفة والتعبد بها.

وبعبارة أخرى : ان قيام الأمارة لوحظ بنحو التقييد لا التركيب ، ومن الواضح ان لازم دليل الحجية ليس إلاّ إحراز قيام الأمارة على الواقع التنزيلي لا الواقع الحقيقي ، فلا يثبت الموضوع المقيد لا وجدانا ولا تعبدا.

الثاني : ان الالتزام بكون الحكم الواقعي إنشائيا لا ينفي احتمال فعلية الواقع ، ولازمه تحقق احتمال اجتماع الحكمين الفعليين وهو محال لأن احتمال اجتماع الضدين محال كنفس اجتماعهما (1).

وهذا الإشكال غير واضح المرمي ، وهو بظاهره مندفع ، إذ نظير هذا الاحتمال يتأتى على ما اختاره قدس سره من وجه الجمع ، إذ يقال له : ان الالتزام بكون الحكم الواقعي فعليا من جهة دون أخرى لا ينفي احتمال فعلية الواقع التامة ، فيلزم محذور احتمال اجتماع الحكمين الفعليين ، فإن أجاب عن نفسه بانحصار الحل فيما ذكره فلا احتمال حينئذ ، فكذلك يجيب غيره بانحصار الحل في مختاره فلا احتمال. فلاحظ.

ومنها : ما أشار إليه في الكفاية أيضا : من تعدد مرتبة الحكمين الظاهري والواقعي واختلافهما ، فان الحكم الظاهري بما ان موضوعه الجهل بالواقع يكون

ص: 156


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /279- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين.

وردّه في الكفاية : بان الحكم الظاهري وان لم يكن في تمام مراتب الحكم الواقعي إلاّ ان الحكم الواقعي ثابت في مرتبة الحكم الظاهري لشموله لحال الجهل ، فيجتمع الحكمان المتنافيان (1).

أقول : اكتفي صاحب الكفاية في نقل هذا الوجه والإشكال عليه بهذا المقدار.

وتحقيق الحال فيه يستدعى التعرض إلى بيان ما يصلح تقريبا له والنّظر فيه ، وهو وجوه متعددة :

الوجه الأول : ما يمكن ان يستفاد من كلام المحقق الأصفهاني قدس سره وتوضيحه : ان الأحكام لا تنافي بينهما من حيث أنفسهما وانما التنافي من حيث المبدأ وهو الكراهة والإرادة والمنتهى وهو مقام الامتثال ، وقد التزم قدس سره بعدم انقداح الإرادة في الأحكام الشرعية ، بلحاظ ان الشوق نحو الفعل انما ينقدح فيما إذا كان في الفعل مصلحة تعود على المشتاق نفسه ، والأمر ليس كذلك في موارد الأحكام ، إذ المصلحة في الفعل تعود على المكلّف - بالفتح لا المكلف - بالكسر - وعليه ، فينحصر محذور تضاد الحكمين من جهة المنتهى ، فان الحرمة والوجوب يتضادان في مقام التحريك ، إذ أحدهما يدعو إلى الفعل والآخر يزجر عنه أو يدعو إلى الترك.

وهذا المحذور مفقود فيما نحن فيه. لأن الحكم الظاهري لما كان ثابتا في مورد الجهل بالحكم الواقعي لم يكن منافيا له في مقام الامتثال ، لأن الحكم انما هو إنشاء ما يمكن ان يكون داعيا ، وإمكان الداعوية لا يثبت إلاّ بالوصول ، وإلاّ فالإنشاء بنفسه بدون الوصول لا يترتب عليه إمكان الداعوية.

ص: 157


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /279- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فالحكم الواقعي في موارد ثبوت الحكم الظاهري لا داعوية له لا فعلا ولا إمكانا ، فبتعدد مرتبة الحكمين ارتفع محذور التنافي بينهما في مقام الامتثال فلا مانع من اجتماعهما (1).

ويؤاخذ هذا الوجه بشئونه من جهات ثلاث :

الأولى : انما ذكره من عدم عود مصلحة إلى المكلف - بالكسر - في موارد الأحكام غير تام على إطلاقه ، إذ هو مسلم بالنسبة إلى المبدأ الأعلى جل اسمه. واما بالنسبة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله أو الولي علیه السلام فغير مسلم لتصور مصلحة عائدة إليهما من الأفعال ، ولو بلحاظ كمال الأمة المنسوبة إليهم فانه مما يوجب تحقق الشوق إلى ما يوجب كمالها ، نظير الشوق لما فيه مصلحة الابن خاصة باعتبار انتسابه إلى أبيه.

وعليه ، فتحقق الإرادة والكراهية في نفس النبي صلی اللّه علیه و آله أو الولي علیه السلام ممكن.

الثانية : فيما ذكره من ان حقيقة الحكم جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وان إمكان الداعوية لا ثبوت له الا في حال الوصول ، فانه لازمه كون الأحكام الفعلية مقيدة بالوصول بنحو الوجوب المشروط ، إذ لا معنى للجعل في حال عدم الوصول بعد عدم إمكان الداعوية ، والمفروض ان الحكم حقيقته جعل ما يمكن ان يكون داعيا. وعليه فلا يكون فعليا قبل الوصول نظير الواجب المشروط بغير الوصول. وهذا خلاف ما التزم به من ان الفعلية من قبل المولى تتحقق قبل الوصول.

الثالثة : فيما ذكره من ان إمكان الداعوية لا يثبت إلاّ في حال الوصول فانه ممنوع وذلك : لأن داعوية الأمر نحو متعلقه في صورة العلم ليست تكوينية

ص: 158


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 42 - 43 - الطبعة الأولى.

قهرية نظير تأثير الأسباب التوليدية في مسبباتها كالنار في الإحراق. وانما هي بلحاظ ما يترتب على الموافقة والمخالفة من ثواب وعقاب ، وهذا الملاك بعينه ثابت في صورة الجهل البسيط واحتمال الأمر ، إذ يقطع بترتب الثواب عند الإتيان بالعمل ويحتمل العقاب - مع غض النّظر عن المعذر - ، وهذا يكفي في الداعوية نحو الفعل ، وعليه فلا يتوقف إمكان الداعوية على الوصول.

والنتيجة : ان ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره غير مسلم.

وقد حاول بعض الاعلام الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بوجه مؤلف مما أفاده صاحب الكفاية والمحقق الأصفهاني ببيان : ان التنافي بين الحكمين ان كان بلحاظ المبدأ وهو الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة ، فلا تنافي لا بين الحكم الواقعي والظاهري لأن الحكم الظاهري ناشئ عن مصلحة في نفسه لا في متعلقه. وان كان بلحاظ المنتهى وهو مقام الامتثال فلا تنافي أيضا لأن الحكم الظاهري ثابت في صورة الجهل والحكم الواقعي لا داعوية له في هذا الفرض. وانتهى ملخصا (1).

أقول الحكم التكليفي بجميع مباني حقيقته من كون الإنشاء بداعي جعل الداعي أو جعل الفعل في العهدة أو غيرهما يتقوم بإمكان داعويته اما من جهة انه مقوم لحقيقته أو لازم لها ولا يتخلف عنها ، ففي المورد الّذي لا يمكن الانبعاث يلغو جعل الحكم. ولأجل ذلك اعترف القائل بامتناع جعل التكليف في صورة الجهل المركب على خلافه وصورة الغفلة لعدم تصور الداعوية فيه.

وقد صححه في صورة الجهل البسيط والتردد بإمكان الانبعاث احتياط. لكن يشكل : بأنه مع قيام الأمارة على خلاف الواقع وكان مفادها حكما إلزاميا - كما لو قامت الأمارة على الحرمة وكان الواقع الوجوب - يمتنع بقاء الواقع لعدم

ص: 159


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 109 - الطبعة الأولى.

قابليته الدعوة مع تنجز الحرمة في حق المكلف. فتدبر.

الوجه الثاني : ما نقله المحقق الأصفهاني عن بعض الأجلة ، وهو يرجع إلى دعوى عدم اجتماع الحكمين في موضوع واحد. ببيان : ان الحكم لا تعلق له بالموجود الخارجي ، بل انما يتعلق بالموجود الذهني بما هو حاك عن الخارج ، وليس لدينا مجمع في الذهن للعنوان المتعلق للحكم الواقعي والعنوان المتعلق للحكم الظاهري ، لأن موضوع الحكم الواقعي هو الفعل المجرد عن لحاظ العلم بحكمه والشك فيه ، وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بوصف كونه مشكوكا حكمه ، ومن الواضح انه لا مجمع للفعل بما هو مجرد والفعل بما هو متصف بالشك.

ولا يخفى ان هذا الوجه يبتني على امرين : أحدهما : امتناع تقييد الحكم بصورة العلم به. والآخر : انه إذا امتنع التقييد امتنع أخذه مطلقا بحيث يشمل صورة العلم والجهل ، لكون التقابل بين التقييد والإطلاق تقابل العدم والملكة.

ونتيجة هذين الأمرين : كون الحكم الواقعي مهملا من هذه الجهة. وهو غير خال عن الإشكال لامتناع الإهمال في مقام الثبوت كما بيناه مكررا ، إذ الحاكم يمتنع ان يتردد في حكمه وموضوعه.

وليس امتناع التقييد مستلزما لامتناع الإطلاق مطلقا ، بل هو يستلزم ضرورة الإطلاق في بعض الأحيان ، وهو كما في صورة امتناع تقييد الحكم لا في صورة امتناع قصر الحكم على المقيّد فقط - وقد أوضحناه في مبحث التعبدي والتوصلي -.

وبالجملة : فالحكم الواقعي لا بد ان يكون مطلقا شاملا لكلا الحالين حال العلم وحال الجهل.

ومعه يكون لموضوعه وموضوع الحكم الظاهري مجمع ذهني نظير الصلاة في الدار المغصوبة.

وقد أطال المحقق الأصفهاني قدس سره في مقام الرد على هذا الوجه ،

ص: 160

ببيان مقدمة أبان فيها اعتبارات الماهية ، ثم تعرض إلى بيان ان امتناع التقييد لا يستلزم دائما امتناع الإطلاق ، بل قد يستلزم ضرورة الإطلاق كما فيما نحن فيه.

ولا نرى حاجة ملحة إلى سرد كلامه فمن أراد الاطلاع عليه فليراجعه في حاشيته على الكفاية (1).

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق النائيني قدس سره ، وقد اختلف تقريرا بحثه في بيان هذا المطلب.

فقد جاء في أجود التقريرات إيضاح هذا المطلب - بعد دعوى ان المراد به الترتب الرافع للتنافي بين الحكمين - بمقدمات ثلاث نذكر منها اثنين إذ الثالثة أجنبية عما نحن فيه.

الأولى : ان للشك جهتين : إحداهما : انه حالة من حالات المكلف والأخرى : انه مستلزم للحيرة والتردد وهو بلحاظ الجهة الأولى مشمول للحكم بنتيجة الإطلاق ومتمم الجعل. وبلحاظ الجهة الثانية موضوع الحكم الظاهري.

الثانية : ان التكليف الّذي لا يفي بالملاك المقتضي لجعله يحتاج إلى متمم الجعل ، بان يثبت تكليف آخر بضميمته إلى التكليف الأول يصل المكلف إلى تمام الملاك. وموارد متمم الجعل متعددة كمورد أخذ قصد القربة ، ومورد عموم الحكم لصورتي العلم والجهل به ، ومورد المقدمات المفوتة ، ومورد وجوب الاحتياط ، والجامع بين هذه الموارد هو كون التكليف الأولي بمتعلقه غير واف بالملاك وانما يحتاج إلى المتمم في ثبوت المطلوب. نعم تختلف هذه الموارد من جهة أخرى لا يهم بيانها.

وبعد ذلك ذكر ان الحكم الواقعي في مورد الجهل به والشك لا داعوية

ص: 161


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 57 - الطبعة الأولى.

له ، لأن قوام الداعوية بالوصول ومع الشك ليس إلاّ الحيرة والتردد. فيحتاج في شموله لهذه الحال متمم الجعل.

وعليه : فلا بد من ملاحظة ملاك الحكم الواقعي فهل هو مهم بحيث يلزم استيفاؤه في ظرف الجهل كموارد الإعراض في الجملة أو لا؟.

ففي المورد : لا بد من متمم الجعل لاستيفاء الغرض وهو إيجاب الاحتياط. ولا يخفى انه لا ينافي الحكم الواقعي لأنه متفرع عليه وقد أخذ في موضوعه الحكم الواقعي فكيف ينافيه.

واما في الثاني : فللمولى ان يوكل المكلف إلى ما يحكم به عقله من براءة كما في الشبهة البدوية أو اشتغال كما في الأقل والأكثر عند بعض. ولو ان يجعل البراءة المؤمنة عن الواقع وهي لا تنافي الواقع لأنها في طوله ومتفرعة عليه. ثم انه بعد فصل طويل يتعرض إلى بيان حقيقة وجوب الاحتياط والبحث في ان المؤاخذة على وجوب الاحتياط أو عند خصوص مصادفة الواقع.

فيبين ان وجوب الاحتياط حيث انه ناشئ عن المحافظة على ملاك الواقع ففي مورد المصادفة يكون عين الواقع وليس غيره. وفي مورد المخالفة لا يكون إلاّ حكما صوريا لا وجود له حقيقة.

ومن هنا ذهب إلى ان العقاب يختص بصورة المصادفة إلاّ ان يقال بثبوت العقاب في مورد التجرّي.

هذا خلاصة ما ورد في أجود التقريرات (1).

وهو لا يخلو عن إشكال من جهات عديدة :

الأولى : ما ذكره من تعدد جهتي الشك ، وان ثبوت الحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق بلحاظ الجهة الأولى دون الثانية ، ولثبوت الحكم الظاهري بلحاظ

ص: 162


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 78 - 85 - الطبعة الأولى.

الثانية دون الأولى.

إذ المقصود من هذا المطلب ان كان بيان ان في الشك جهتين واقعيتين منفصلتين ، ونتيجته انه إذا ثبت حكم بلحاظ إحداهما وأخر بلحاظ الأخرى لا يكون من اجتماع الضدين ، بل من اختلاف المتلازمين في الحكم ، فالمحذور لو كان فهو محذور التزاحم لا التضاد. ففيه :

أولا : انه ينافي ما تقدم منه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من ان الجهات المتعددة انما تكون تقييدية إذا كانت في متعلق التكليف فان التركيب بينها انضمامي لا ما إذا كانت في الموضوع ، فان تعدد العناوين الاشتقاقية المأخوذة في الموضوع لا يوجب تعدد المعنون لأن التركيب بينها اتحادي وهي جهات تعليلية لا تقييدية.

وذلك لأن المأخوذ في الموضوع هو الشاك لا الشك انه مبدأ الاشتقاق ، فموضوع الحلية مثلا هو الشاك لا الشك ، وعليه فتعدد الجهة فيه لا يوجب تعدده واقعا بل المجمع واحد ينطبق عليه عنوانا اشتقاقيان.

وثانيا : ان كون الشك حالة من حالات المكلف ليست جهة واقعية تغاير الجهة الأخرى ، بل هو نظير كونه عرضا للمكلف وكونه صفة له ، فذلك من قبيل تعدد العناوين الانتزاعية في البياض وليست هي جهة في قبال كونه كيفا. فلاحظ.

وان كان المقصود من كون الحكم الواقعي يثبت للشك بلحاظ الجهة الأولى دون الثانية انه مهمل بلحاظ الجهة الثانية ، بمعنى انه يمكن ان يثبت له الحكم بلحاظ جهة الحيرة لكن لا يمكننا الالتزام به إثباتا لقصور الدليل ونتيجة إنكار الواقع كما هو الظاهر من الكلام.

ففيه : انه خلف فرض وجود الواقع وعدم الالتزام بالتصويب.

وان كان المقصود ان الحكم الواقعي ثابت بلحاظ الجهة الثانية لكنه لا

ص: 163

يترتب عليه اثره بلحاظها.

ففيه : انه لا معنى لبيان هذا الأمر بان إطلاق الحكم ثابت من جهة دون أخرى ، لأن الحكم ثابت بلحاظ الجهة الثانية لكن لا داعوية له ، فيكتفي في ذلك بما بينه من عدم داعوية الحكم الواقعي في صورة الجهل ، ولا نحتاج إلى المقدمة الأولى ، بل يتمحض البحث في ان الحكم الواقعي له داعوية في حال الجهل أو لا.

واما المقدمة الثانية : فلا بأس بها ، ولكن لا بد من إيقاع البحث فيه في مورد تعميم الحكم لصورتي العلم والجهل وله مجال آخر ليس هاهنا.

الثانية : ما ذكره من ان الحكم الواقعي لا داعوية له قبل الوصول ، إذ فيه ما عرفت من إمكان الداعوية مع فرض الجهل ، فراجع.

الثالثة : ما ذكره في تقريب عدم المنافاة بين وجوب الاحتياط والحكم الواقعي من تفرع الاحتياط على الواقع وكونه في طوله. إذ فيه :

أولا : ان تفرع وجوب الاحتياط عن الواقع انما يتم لو كان الواقع هو الوجوب أيضا.

اما إذا كان الحكم الواقعي إباحة فلا معنى لتفرع وجوب الاحتياط عليه وكونه بملاك المحافظة عليه على ملاكه ، فان وجوب الاحتياط انما يتفرع عن الوجوب الواقعي لا الإباحة الواقعية.

وثانيا : ان التفرع والطولية لا تنفي التضاد أو التماثل ، فهل ترتفع منافاة البياض للسواد بفرض السواد على تقدير البياض؟ فان الفرض لا يرفع التضاد أو التماثل الموجود بين الحكمين.

الرابعة : ما ذكره أخيرا من ان وجوب الاحتياط عند المصادفة حكم حقيقي وعند المخالفة حكم صوري تخيلي. إذ فيه : ان الالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار منجزية وجوب الاحتياط ، إذ المكلف يشك في مصادفة وجوب الاحتياط

ص: 164

للواقع وعدمه ، ومعه يشك في ان الحكم حقيقي فيستلزم التنجز أو صوري فلا يستلزمه ، ومع هذا الشك لا يصلح الوجوب للتنجيز والبيانية فيكون المورد من مصاديق قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فالتفت. والإشكال من هذه الجهة مشترك الورود على أجود التقريرات وتقريرات الكاظمي لأن هذه الجهة ذكرها الكاظمي أيضا في تقريراته (1).

ولكن لا يرد على الكاظمي الإشكال من الجهة الثالثة ، لأنه لم يقرب عدم المنافاة بين الحكم الواقعي ووجوب الاحتياط ، بتفرع إيجاب الاحتياط عن الواقع بل قرّبه بان وجوب الاحتياط عن الواقع على تقدير المصادفة وحكم صوري وهمي على تقدير المخالفة فلا منافاة. وعلى هذا لا يرد أحد الوجهين المتقدمين. فلاحظ.

كما انه يرد عليه الإشكال من الجهة الثانية لأنه ذكرها أيضا.

واما الجهة الأولى : فقد تعرض لذكرها الكاظمي لكن لا بنحو انها أساس المطلب كما ذكرها بهذا النحو في أجود التقريرات.

ثم انه ورد في بعض عباراته ان الحكم لا يكون مبينا لوجوده وان كان ثابتا. وهذا التعبير مجمل المراد ، فان نفس الشيء يستحيل ان يكون مبينا لوجود نفسه لكن دليله لا مانع من تكفله بيان وجوده في صورة الشك. ولعل المراد منه ما سيجيء هنا في تحقيق المراد من تعدد الرتبة.

الوجه الرابع : ما يجئ في الذهن ، وهو ان يكون المراد من اختلاف الرتبة وتعدده ، هو انه ليس ان الحكم الواقعي لا إطلاق له يشمل صورة الجهل ، وان الحكم الظاهري ثابت في تلك الصورة ، كي يرد عليه تارة بان الإهمال ممتنع ثبوتا

ص: 165


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 117 - 118 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ان أريد كونه مهملا بالنسبة إليه ، وأخرى : بان تخصيص الحكم بالعالم يستلزم التصويب ان أريد عدم ثبوت الحكم للشاك. بل المراد ان الحكم الواقعي لا نظر له ولا اقتضاء بالنسبة إلى الوظيفة العملية في حال الشك فيه.

بيان ذلك : ان المكلف عند الشك في الحكم الواقعي يتحير بالنسبة إلى وظيفته على تقدير وجود الحكم واقعا.

ومن الواضح ان الحكم الواقعي بالنسبة إلى هذه الجهة لا معنى لأن يكون له إطلاق أو تقييد ، ولا يمكن ان يكون له نظر إلى وظيفة المكلف عند الشك فيه. فإذا فرض ان العقل حكم بالبراءة أو الاحتياط لم يكن منافيا لوجود الواقع كيف؟ وقد فرض الواقع ثابتا ، إذ التحير في الوظيفة على تقدير وجود الواقع.

وعليه فنقول : ان الحكم الظاهري ثابت في هذه المرحلة التي لا نظر للحكم الواقعي إليها ، وقد يتصرف في موضوع الحكم العقلي كما لو كان العقل يحكم بالبراءة ، فحكم الشارع بالاحتياط أو العكس. فلا تنافي بين الحكم الظاهري والواقعي لأجل ثبوت الحكم الظاهري في مرحلة لا نظر للواقع إليها ، كما انه لم يلزم إنكار الواقع ، إذ عرفت انه مفروض الوجود في جعل الحكم الظاهري ، بل ولا داعويته كي يرد عليه إشكال اللغوية السابق ، بل الملتزم به هو إنكار نظر الواقع لتعيين وظيفة الجاهل به ، وهو إثبات الحكم الظاهري في هذه المرحلة ، أعني مرحلة تعيين الوظيفة فلا منافاة. فتدبر.

وليكن هذا الوجه على ذكر منك لأنّا سنتعرض إلى إيضاحه فيما بعد.

وتحقيق المقام في الأحكام الظاهرية والجمع بينها وبين الأحكام الواقعية ، ان يقال : ان عمدة الإشكالات في ثبوت الحكم الظاهري مع الواقعي امران : تفويت المصلحة ، ولزوم نقض الغرض.

اما الإيراد الأول : وهو الإيراد باستلزام الحكم الظاهري تفويت

ص: 166

المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، فقد اختلفت العبارات في تقريبه ، واكتفي صاحب الكفاية في تقريبه والإجابة عنه بالإجمال كما - تقدم (1) -. وتقريبه الدّقيق بتلخيص هو : ان الحكم الواقعي ثابت بلحاظ المصلحة في متعلقه ، فالحكم الظاهري ان ثبت بلا ملاك يقتضيه كان خلاف الحكمة. وان ثبت بواسطة ملاك فاما ان يكون في متعلقه أو فيه نفسه ، فان كان الملاك في متعلقه لا بد من حصول الكسر والانكسار بين ملاك الواقع وملاك الظاهر فاما ان يغلب ملاك الواقع فلا حكم ظاهري أو يغلب ملاك الظاهر فلا حكم واقعي ويمتنع ثبوت كلا الحكمين. وهكذا الحال فيما إذا كان الملاك في نفس الجعل ، لأنه اما ان يكون أهم من ملاك الواقع فيلزم انتفاء الواقع ، واما ان يكون ملاك الواقع أهم منه فيلزم انتفاء الظاهر.

وهذا الإيراد يرجع إلى عدم إمكان ثبوت الحكمين من باب التزاحم بين المقتضيين والملاكين ، لا من باب تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته الّذي مر تقريبه في الكفاية.

وقد تصدى الشيخ رحمه اللّه إلى دفع محذور التفويت ببيان طويل ملخصه : ان التعبد بالأمارة اما ان يكون في فرض انسداد باب العلم بالاحكام. واما ان يكون في فرض انفتاح باب العلم بها.

فعلى الأول : لا قبح في التعبد بها ، إذ يدور الأمر بين الاحتياط وهو مقطوع العدم وبين إهمال امتثال الأحكام وهو ممنوع كالأول ، فيتعين إيكال المكلف إلى طريق ظني يوصله إلى الواقع.

وبالجملة : لا يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة لغرض فواتها بدون التعبد لعدم العلم بالاحكام.

ص: 167


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /277- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعلى الثاني : فاما ان يكون التعبد بالأمارة بلحاظ مجرد كاشفيتها وطريقيتها ، أو يكون بلحاظ ثبوت مصلحة بسبب قيامها.

فعلى الأول : فتارة يعلم الشارع بدوام موافقة الأمارة للواقع وان لم يعلم المكلف بها. وأخرى : يعلم الشارع بأنها غالبة المطابقة للواقع. وثالثة : يعلم بأنها أغلب مطابقة من الطرق العلمية التي يسلكها المكلف. وقبح التعبد بالأمارة انما يتم في الفرض الثاني دون الأول والثالث ، إذ لا يلزم على الأول أي تفويت ، ولا يلزم على الثالث تفويت من جهة الأمارة بحيث لولاها لم يفته شيء.

وعلى الثاني : - أعني حدوث مصلحة بقيام الأمارة - فلا قبح في التّعبد إذا كانت هذه المصلحة مما يتدارك بها مصلحة الواقع ، إذ لا يلزم من التعبد تفويت للمصلحة بعد التدارك ، وتكون هذه المصلحة بمقدار ما يفوت من الواقع من مصلحة.

يبقى إشكال استلزام ثبوت المصلحة على طبق الحكم الظاهري للتصويب. وقد تخلص عنه بالالتزام بان المصلحة انما هي في نفس سلوك الأمارة لا في متعلق الحكم نفسه كي يحصل الكسر والانكسار.

هذا ملخص ما أفاده الشيخ رحمه اللّه مما يتعلق بالمقام ويهم ذكره (1).

وقد تابعة فيما ذكره المحقق النائيني قدس سره ، إلاّ انه اختلف عنه بان النوبة لا تصل إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لأن المقصود من انفتاح باب العلم ليس انفتاحه الفعلي ، بل التمكن من تحصيل العلم بسؤال الإمام علیه السلام - مثلا - ، لكن المكلف لا يتصدى إلى ذلك عادة ، بل يعتمد على الطرق العلمية القابلة للخطإ ، وبما ان الطرق العلمية ليست بأقل خطا من الطرق الظنية فلا يلزم التفويت من التعبد بالأمارة لأنها فائتة على كل حال. هذا أولا.

ص: 168


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /25- الطبعة الأولى.

وثانيا : ان الأمارات المعتبرة ليست معتبرة ابتداء ، بل اعتبرت إمضاء لسيرة العقلاء ، فلا يلزم من الشارع تفويت بعد ان كانت السيرة العقلائية على العمل بهذه الأمارات كالظهور وخبر الواحد.

نعم لو تنزلنا عن ذلك كله فلا بأس بالالتزام بالمصلحة السلوكية التي يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة (1).

ولا يخلو ما أفاده من إشكال ، لحصره موضوع البحث في التعبد بالأمارات على الأحكام ، مع ان البحث يعم مطلق موارد جعل الحكم الظاهري ، وبعضها لا يتأتى فيه ما ذكره من كونها أقرب من الطرق العلمية أو انها أحكام إمضائية. وذلك كبعض الأمارات القائمة على الموضوع - على الخلاف فيها من كونها إمارة أو أصلا - كقاعدة التجاوز أو الفراغ ، فانه أي سيرة عقلائية عليها وأي أقربية لها للواقع من طرق العلم؟! ، وكأصالة الصحة في عمل الغير وكموارد الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية التي لا يشملها القول بالتصويب ، لأن التصويب انما يلتزم به في الشبهات الحكمية لا الموضوعية ، فيقع في اشكالها القائل بالتصويب أيضا.

نعم الأصول الحكمية لا إشكال فيها ، لأنها انما تجري بعد الفحص واليأس عن الدليل فلا يتصور فيها انفتاح باب العلم ، بخلاف الأصول الموضوعية ، إذ لا يجب في إجرائها الفحص ، بل هي تجري حتى مع التمكن من تحصيل العلم.

ولا معنى لأن يقال : ان الأصل أقرب إلى الواقع من الطرق العلمية ، أو يقال انه حكم إمضائي.

وبالجملة : فما أفاده قدس سره لا يحلّ الإشكال في مطلق الموارد. وعليه

ص: 169


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 90 - 94 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فتصل النوبة إلى الكلام في المصلحة السلوكية.

وقد عرفت التزام الشيخ بها وغايته هو الجمع بين تدارك مصلحة الواقع مع الالتزام ببقائه على ما هو عليه ، وعدم الانتهاء إلى التصويب المحال أو الباطل - على الوجهين اللذين ذكرهما -.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني فيما أفاده قدس سره - بعد إيضاح مراد الشيخ رحمه اللّه بان المصلحة في سلوك الأمارة الحاكية عن الحكم الواقعي وفي تطبيق العمل عليها من حيث ان مدلولها حكم واقعي ، فعنوانها مقتض لثبوت الحكم الواقعي لا مناف له ، ولذا قال ان هذا من وجوه الرد على المصوبة لا أنه تصويب - بما حاصله :

ان المراد ان كان مجرد ثبوت الحكم الواقعي عنوانا بلحاظ ان الأمر بتطبيق العمل على الأمارة بملاحظة كون مدلولها حكم اللّه. ففيه : ان ثبوت الحكم عنوانا لا ينفع في رد التصويب مع ثبوته واقعا ، ولا ملازمة بين ثبوت الشيء عنوانا وثبوته واقعا ، بل قد يثبت عنوانا ولا وجود له واقعا.

وان كان المراد ان المصلحة قائمة بالفعل بعنوان آخر فلا تزاحم مصلحة الواقع. ففيه : ان المصلحة.

ان كانت قائمة بعنوان منطبق على الفعل ، فيتحقق التزاحم بين المصلحتين ، إذ لا فرق في تحقق التزاحم بين كون الملاكين قائمين بذات الفعل ، أو كان أحدهما قائما بذات الفعل والآخر بعنوانه المتحد في الوجود معه.

وان كانت قائمة بعنوان الاستناد ، وهو ليس من عناوين الفعل. ففيه : ان المصلحة ان كانت قائمة بالفعل المستند إلى الأمارة فلا ينفع في رفع التزاحم ، لأن تعدد الحيثية في تعدد الملاك لا يجدي في رفع التزاحم مع وحدة الوجود المجمع للملاكين. وان كانت قائمة بنفس الاستناد الّذي هو فعل قلبي. ففيه : ان الاستناد لا يجب في غير التعبديات. هذا مع ان ثبوت المصلحة في شيء يستلزم

ص: 170

الأمر به والدعوة إليه لا إلى غيره وان لازمه ، فلا معنى للدعوة إلى الفعل مع كون المصلحة في نفس الاستناد.

ثم تعرض إلى ما في بعض نسخ الرسائل من فرض المصلحة في الأمر ، وانه غير صحيح (1).

أقول : ما ذكره أولا من ان ثبوت الواقع عنوانا لا يلازم ثبوته واقعا الّذي يقصد به نفي ما ذهب إليه الشيخ من ان هذا الوجه من وجوه الرد على المصوبة لأنه فرع ثبوت الواقع. لا يخلو عن إشكال.

وذلك لأن مراد الشيخ لو كان مجرد ان التعبد بالأمارة بعنوان مؤداها الواقع ، كان ما إفادة في مقام الإشكال عليه في محله ، فان التعبد بشيء بعنوان انه وجود زيد لا يستلزم وجوده واقعا ، بل يجتمع حتى مع عدمه وفرض عدمه.

واما لو كان مراد الشيخ قدس سره ان التعبد بالأمارة وقيام المصلحة في فرض وجود الواقع - يعني على تقدير وجود الواقع - ، ففي السلوك مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، فالالتزام بالمصلحة السلوكية على تقدير وجود الواقع. فلا يتم ما ذكره ، بل يتم ما ذكره الشيخ من انه التزام بعدم التصويب ، إذ يمتنع ان تكون المصلحة الثابتة على تقدير وجود الواقع نافية للواقع ، وإلاّ لزم من وجودها عدمها - كما لا يخفى -.

وبالجملة : فهذا التزام ببقاء الواقع وثبوته.

ومجرد احتمال إرادة الشيخ لهذا المطلب يكفي في رد الإشكال عليه ، بل فسرت عبارته به أو بما يقاربه في بعض تعليقات (2) الرسائل على ما يخطر بالبال.

هذا ولكن ما يشكل ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من ان قيام مصلحتين في

ص: 171


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 48 - 49 - الطبعة الأولى.
2- الآشتياني الشيخ ميرزا محمد حسن. بحر الفوائد /72- الطبعة الأولى.

الفعل مستلزم لوقوع التزاحم بينهما في مقام اقتضاء الحكم وتحقق الكسر والانكسار. فان كانت مصلحة الظاهر هي الغالبة - كما هو المفروض - ، لزم انتفاء الحكم الواقعي. وهذا امر وجداني في كل موارد تعلق الإرادة والكراهة ونحوهما.

واما ما ذكرناه من ان استلزام مصلحة الظاهر لنفي الحكم الواقعي يستلزم محذور استلزام وجود الشيء لعدمه بعد أخذ مصلحة الظاهر على تقدير وجود الواقع. فهو بنفسه دافع لكلام الشيخ لا شاهد.

وذلك لأنه بعد الفراغ عن امتناع اجتماع مصلحتين من دون كسر وانكسار ، يجري هذا البيان في وجود مصلحة الظاهر المعلقة على وجود الواقع ، فيقال : ان وجود مصلحة الظاهر يستلزم نفي الواقع ، ونفي الواقع يستلزم انتفاء مصلحة الظاهر ، فيكون وجود المصلحة الظاهرية مستلزما لعدمها. ومنشأ المغالطة السابقة هو إجراء هذا الحديث في مانعية مصلحة الظاهر وقصر النّظر عليها فقط.

وبالجملة : مانعية المصلحة الظاهرية وان استلزمت الخلف ، لكن ذلك ينتهي إلى إنكار إحدى المصلحتين للفراغ عن لزوم تحقق الكسر والانكسار وامتناع وجود مصلحتين كذلك بدون كسر وانكسار ، والكسر والانكسار مستلزم للخلف فلا بد من إنكار إحدى المصلحتين. فتدبر فانه دقيق.

وعليه ، فالالتزام بالمصلحة السلوكية على ما ذكره الشيخ ممتنع.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني قدس سره إلى دفع إشكال تفويت المصلحة وما يتفرع عليه بما حاصله : ان تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ليس من العناوين القبيحة ذاتا وبنحو العلة التامة للقبح ، بل هي بالنسبة إلى القبح بنحو الاقتضاء فقد يطرأ عليها عنوان يوجب حسنها نظير الكذب النافع.

وعليه ، فإذا فرض وجود جهة حسنة في التعبد بالأمارة تغلب على مفسدة تفويت الواقع ، فلا مانع من التعبد بها ، والأمر في المقام كذلك ، لأن تحصيل العلم

ص: 172

بالاحكام يشتمل على مفسدة غالبة على ما يفوته من المصلحة أو يقع فيه من المفسدة ، فالتعبد بالأمارة يوجب صرفه عن تحصيل العلم المستلزم لذلك ، فتكون جهة حسنة أقوى من مفسدة التفويت أو الإلقاء.

هذا على الطريقية المحضة.

واما على الموضوعية والسببية ، فلا تفوت المصلحة ، لكن الشأن في الالتزام بالمصلحة بنحو لا يستلزم التصويب. وتحقيقه : ان الواجب الواقعي لو كان هو الظهر وقامت الأمارة على وجوب الجمعة ، فكل من الصلاتين مشتمل على مصلحة ، وهما اما متغايرتان أو متضادتان أو متسانختان. فان كانتا متغايرتين فقد يتخيل وقوع التزاحم بينهما - بعد الفراغ عن كون الواجب أحدهما وامتناع وجوب كلتا الصلاتين -. ودعوى ان الغالب هو وجوب الجمعة لقيام الدليل عليه فيستلزم انتفاء الواقع وهو التصويب. لكن يندفع بان التزاحم بين المقتضيين انما يكون إذا كان بين مقتضاهما تناف ، ولا تنافي بينهما ، إذ الوجوب الواقعي للظهر لا ينافي الوجوب الظاهري للجمعة كما تقدم تقريبه (1).

وعليه ، فكل من الحكمين ثابت. هذا ملخّص ما أفاده (2) ، وقد أطال قدس سره في بيان ذلك وبيان الشقوق الأخرى ولا يهمنا التعرض لجميع كلامه ، لوضوح الحال بهذا المقدار.

وعلى كل فكلامه لا يخلو عن إشكال بكلام جهتيه :

اما ما ذكره بناء على السببية من عدم تزاحم المصلحتين لعدم تزاحم مقتضاهما. ففيه :

أولا : انه يختص بما إذا تعدد متعلق الحكم الواقعي والظاهري. اما إذا

ص: 173


1- راجع 4 / 166 من هذا الكتاب.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 45 - 49 - الطبعة الأولى.

اتحد ، كما إذا قامت الأمارة على حرمة ما هو واجب واقعا فلا يتم ما ذكره ، إذ تحقق التزاحم بين المصلحة الواقعية والمفسدة الظاهرية وتحقق الكسر والانكسار امر وجداني ولا يرتبط بتزاحم المقتضيين ، لعدم صلاحية المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة للتأثير في الوجوب والحرمة.

وثانيا : انه غير تام في المثال الّذي ساقه ، إذ الأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة تنفي بالملازمة وجوب الظهر ، فهنا أمارتان إحداهما تقوم على وجوب الجمعة ، والأخرى تقوم على عدم وجوب الظهر ، والأمارة الثانية مقتضاها حدوث مصلحة تقتضي نفي وجوب الظهر ، فيتحقق التزاحم بين المصلحتين ويتحقق الكسر والانكسار لوحدة المتعلق ، فيكون المثال من موارد وحدة المتعلق بلحاظ المدلول الالتزامي للأمارة الّذي هو مدلول أمارة أخرى. فلاحظ.

واما ما ذكره بناء على الطريقية من وجود جهة محسنة في التعبد بالأمارة تتغلب على جهة قبح التفويت ، وهي جهة الفرار عن مفسدة تحصيل العلم التي هي أهم من مفسدة فوات مصلحة الواقع ، ففيه : ان مراده.

ان كان وجود المصلحة في نفس الأمر بالعمل بالأمارة - كما قد يحتمله كلامه -.

فيرده : انه يبنى على ان المصلحة في نفس الأمر غير معقولة ، كما ذكره في ذيل مناقشته للشيخ في التزامه بالمصلحة السلوكية.

وان كان مراده ان في تحصيل العلم مفسدة غالبة على مصلحة الواقع.

فيرده : ان الحكم الواقعي إذا فرض ان امتثاله يستلزم مفسدة أهم من مصلحة متعلقه كان ذلك سببا لاضمحلاله وعدم جعله ، إذ يقبح جعل الحكم مع استلزام امتثاله للمفسدة العظيمة المهمة.

والنتيجة : ان إشكال تفويت المصلحة بالنحو الّذي قربناه لا طريق إلى حلّه.

ص: 174

نعم. بالنحو الّذي مرّ في الكفاية ينحل بالالتزام بوجود المصلحة في التعبد بالأمارة ، لكن عرفت انه يوقعنا في محذور التصويب.

وهذا الإشكال لا يختص بمبنى معين في المجعول في الأمارات ، بل يعم جميع المباني ، إذ جميعها يشترك في الإلزام بالعمل بالأمارة وهو يستلزم التفويت مع عدم المصلحة والتصويب مع المصلحة. فلاحظ.

وقد تعرض المحقق العراقي إلى هذا الإشكال ودفعه بنحو مختصر جدا (1).

ثم انه قد مرّ من الشيخ والمحقق النائيني ( رحمهما اللّه ) ان هذا الإشكال مندفع في صورة انسداد باب العلم بالاحكام ، إذ ليس العمل بالأمارة هو سبب التفويت.

فقد يتخيل انحلال الإشكال والخلاص من المحذور في هذا الزمن لانسداد باب العلم ، فيكون الحديث السابق الطويل حديثا علميا لا عمليا.

ولكنه وهم محض. لما عرفت من عدم اختصاص الأحكام الظاهرية بموارد الأمارات القائمة على الأحكام بل يعم الأمارات والأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، أو الجارية في إحراز الامتثال ، كقاعدة الفراغ والتجاوز. وليس طريق العلم بالواقع منسدا في كثير من تلك الموارد.

نعم ، مثل اليد القائمة على الملكية قد يقال بانسداد باب العلم بالواقع في مواردها ، إذ العلم بالملكية الواقعية في أغلب الموارد - الا ما شذّ - ممتنع.

اذن فالإشكال بالنسبة إلى أزماننا ثابت لا خلاص منه.

واما الإيراد الثاني : فتقريبه : ان الداعي من جعل الحكم هو تحقق البعث والزجر أو غيرهما ، ومن الواضح ان جعل الحكم الآخر على خلافه المانع من

ص: 175


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 59 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

تحقق الانبعاث والانزجار نقض للغرض من الحكم الأول ، ومثله لا يصدر من الحكيم. فجعل الحكم الظاهري مستلزم لنقض الغرض من الحكم الواقعي وهو تحقق الداعي للمكلف أو الزاجر أو غيرهما.

وقد تفصى عنه المحقق الأصفهاني : بان الحكم الظاهري إذا كان يتكفل تنجيز الواقع فهو مؤكد لداعوية الواقع وليس منافيا لها كي يستلزم نقض الغرض. وإذا كان يتكفل التعذير والمؤمنية من الواقع فهو لا ينافي الغرض من الواقع ، إذ الغرض من الحكم الواقعي ان كان هو تحقق الداعي الفعلي للمكلف ، كان جعل الحكم على خلافه نقضا للغرض.

ولكن الغرض ليس ذلك بل الغرض هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وإمكان الداعوية لا يتنافى مع جعل المؤمن عن الواقع على تقدير تحققه (1).

وهذا الوجه ممنوع - مع الغض عن منافاة ما تصوره فعلا من إمكان الداعوية في صورة الجهل وما مرّ منه من عدم إمكان الداعوية قبل الوصول - ، فانه قد يسلم عدم منافاة الحكم الظاهري لإمكان داعوية الواقع في ما إذا كان الحكم الظاهري ترخيصيا في صورة احتمال الإلزام ، إذ من الممكن الاحتياط الّذي يحكم العقل بحسنه.

اما فيما كان الحكم الظاهري إلزاميا على خلاف الحكم الواقعي الإلزامي ، بان كان الحكم الظاهري الوجوب والواقعي الحرمة ، فلا يتصور إمكان داعوية الحكم الواقعي في هذا الحال ، وكيف يتصور في مثل هذا الحال ان يكون الحكم الظاهري المستلزم للتنجيز مؤكدا لداعوية الواقع كما ذكر قدس سره ؟!. فلاحظ وتدبر.

اذن فإشكال نقض الغرض في مثل هذه الصورة غير مندفع.

ص: 176


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 46 - الطبعة الأولى.

فيتحصل لدينا : ان كلا الإيرادين لا دافع لهما.

وعليه : فلا طريق إلى التخلص منهما إلا الالتزام بان الحكم الواقعي إنشائي الّذي تصورنا سابقا ثبوته وبينا إمكانه خلافا لبعض الأعلام.

وبالالتزام بذلك لا يبقى مجال للإيرادين ، إذ الحكم الإنشائي لا يلزم ان ينشأ عن مصلحة في متعلقه كي يلزم الكسر والانكسار على ما تقدم ، كما ان الداعي فيه ليس هو جعل الداعي ، فلا نقض للغرض لو جعل الحكم على خلافه.

ولا محذور في الالتزام بذلك ، إذ لم يقم دليل على اشتراك الجاهل والعالم في الحكم الفعلي وان ادعاه المحقق النائيني (1).

ومع ذلك لا تصل النوبة إلى إشكال تضاد الحكمين ، إذ التضاد بين الأحكام لدى القائل به انما هو بين الأحكام الفعلية دون الإنشائية ، فان الإنشاء كما قيل خفيف المئونة.

ولو أردنا ان نغض النّظر عن الإيرادين السابقين ونلتزم بفعلية الحكم الواقعي ، يرد إشكال اجتماع الضدين ، فإشكال التضاد في طول الإشكالين الآخرين.

والتحقيق في التخلص عنه ان يقال : ان التضاد بين الأحكام اما من ناحية المبدأ ، وهو المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة. واما من ناحية المنتهى ، وهو مقام الداعوية والامتثال.

اما التضاد من ناحية المبدأ ، فيرتفع بما أفاده في الكفاية من كون الحكم الظاهري حكما طريقيا ناشئا عن مصلحة في نفسه ، فانه يتعدد موضوع المصلحة والمفسدة (2).

ص: 177


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 103 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /277 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كما انه مع فرض كون المصلحة في نفس الحكم لا تكون هناك إرادة متعلقة بالفعل ، فلم تجتمع المصلحة والمفسدة ولا الإرادة والكراهة في شيء واحد.

واما التضاد من ناحية المنتهى ، فيرتفع بما قربنا به سابقا الالتزام بتعدد الرتبة. وتوضيحه : ان الحكم الواقعي وان كان له ثبوت في حال الجهل ، إلاّ انه لا نظر له إلى تعيين الوظيفة العملية بلحاظ تحير الجاهل المتردد ، فان المتردد في ثبوت الحكم الواقعي يتحير فيما هو وظيفته عملا في هذا الحال لعدم معرفته بما يترتب على مخالفة الواقع لو كان ثابتا من العقاب وعدمه.

والحكم الواقعي لا نظر له إلى تعيين وظيفة المتحير ورفع تحيره ، فإذا جرت البراءة العقلية وحكم العقل بالأمارة من العقاب على تقدير الواقع ، فلا يكون الحكم الواقعي في مثل الحال داعيا فعلا للمكلف ، لأن داعويته نوعا بلحاظ ما يترتب على مخالفته ، ومع حكم العقل بالأمان وعدم استحقاق العقاب لا تتحقق دعوته الفعلية. ولا يخفى انه لا تنافي بين هذا الحكم العقلي أو الحكم العقلي بالاحتياط وبين الوجود الواقعي للحكم ، ولذا لم يتخيل أحد ذلك ولم يدعه ، أو يستشكل من جهته كي يصير في مقام دفعه.

وعليه ، فنقول : ان الحكم الظاهري الشرعي في مرتبة حكم العقل بالبراءة أو الاحتياط ، فإذا حكم بالوجوب كان رافعا لأصل البراءة في مورده لارتفاع موضوعها ، وإذا حكم بالإباحة كان رافعا للاحتياط في مورده.

وكما انّ حكم العقل لا يتنافى مع الحكم الشرعي الواقعي فكذلك الحكم الشارع الظاهري.

وبالجملة : ان الحكم الظاهري يلحظ فيه تعيين الوظيفة العملية للمتحير ، والحكم الواقعي لا نظر له إلى هذه الجهة ولا داعوية فعلية له في حال جعل المؤمن الشرعي ، فلا يتحقق التنافي بينهما.

ولعل هذا هو المراد للقائل بتعدد الرتبة بان الحكم الواقعي لا إطلاق له

ص: 178

يشمل حال الجهل ، لا انه لا ثبوت له حقيقة كي يشكل عليه بأنه التزام بالتصويب.

ولقد أحسن المحقق النائيني حين ذكر : ان الشك بنفسه ليس موضوعا للحكم الظاهري بل بما هو مستلزم للتحير والتردد (1).

وإذا اتضح عدم التنافي بين الحكمين في مقام الداعوية ، فلا تضاد بينهما ، فيمكن القول بان الحكم الواقعي فعلي ، بمعنى ان المجعول ما يمكن ان يكون داعيا.

يبقى سؤال وهو : ان الحكم وان كان جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهذا متصور فيما نحن فيه ، إلاّ انه إذا لم يترتب عليه الداعوية الفعلية كان لغوا.

والجواب : ان الحكم قابل لأن يترتب عليه الانبعاث الفعلي بلحاظ ما ثبت من حسن الاحتياط ، فانه يحقق الانبعاث نحو لعمل.

هذا ولكنه انما يختص بما إذا كان الحكم الظاهري لا اقتضائيا كالإباحة ، والحكم الواقعي المحتمل اقتضائيا كالوجوب. ولا يشمل ما إذا كان الحكم الظاهري اقتضائيا على خلاف الحكم الواقعي الإلزامي ، كالوجوب والحرمة ، فانه في مثل الحال لا يحسن الاحتياط بموافقة احتمال الحرمة مع قيام الأمارة على الوجوب. فلا يصل الحكم الواقعي إلى مرحلة الداعوية الفعلية فيكون لغوا.

فلا محيص الا عن الالتزام بان الحكم الواقعي في مثل هذه الصورة إنشائي.

وبضميمة عدم القول بالفصل بين هذا المورد وغيره يلتزم بان الحكم الواقعي مطلقا إنشائي.

ص: 179


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 115 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والنتيجة : انه ينحصر التخلص عن هذه المحاذير بالالتزام بكون الحكم الواقعي إنشائيا.

واما الإيراد على هذا الالتزام : بان الحكم الإنشائي لا يلزم امتثاله ، فيكون التعبد بالأمارة القائمة عليه لغوا كما جاء في الكفاية (1).

ففيه : ان الحكم الإنشائي بضميمة العلم به يصير فعليا.

والإيراد على ذلك : بان أخذ العلم جزء لموضوع الفعلية لا ينفع في ثبوت الأثر على قيام الأمارة ، لامتناع قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي والطريقي ، كما تقدم من صاحب الكفاية (2).

مندفع - بعد الالتزام بان الحكم الإنشائي الّذي يصير بالعلم فعليا مطلق الحكم الإنشائي أعم من الواقعي والظاهري - : بان الالتزام بامتناع قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي والطريقي يبتني على الالتزام بان المجعول في باب الأمارات هو المؤدى - كما تقدم إيضاحه -.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على حكم إنشائي واقعي كان قيامها مستلزما لجعل حكم إنشائي في مرحلة الظاهر ، وهذا الحكم الإنشائي الظاهري متعلق للعلم وجدانا فيصير فعليا ، فلا إشكال ولا يكون التعبد بالأمارة لغوا.

ولعمري هذا واضح لا شبهة فيه ، فكيف غفل عنه صاحب الكفاية وأورد على الشيخ رحمه اللّه ما تقدم. فتدبر.

هذا تمام الكلام في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

يبقى الكلام في جهتين :

إحداهما : بيان المجعول في باب الأمارات والاستصحاب.

ص: 180


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /278- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /263- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأخرى : في بيان ملازمة الإجزاء للتصويب وعدمها.

اما الكلام في الجهة الأولى ، فهو في مقامين :

المقام الأول : في بيان المجعول في باب الأمارات

. والوجوه المعروفة فيه أربعة : الأول : ما ينسب إلى الشيخ رحمه اللّه من كون المجعول هو المؤدى (1).

الثاني : ما ينسب إلى صاحب الكفاية رحمه اللّه من كون المجعول هو المنجزية والمعذرية (2).

الثالث : ما اختاره المحقق النائيني رحمه اللّه وهو كون المجعول هو الطريقية (3).

الرابع : ما قربه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من كون المجعول هو نفس الحجية (4).

ولا بد من إيقاع الكلام في كل واحد من هذه الوجوه ليتميز ما يمكن اختياره منها.

ولا يخفى اختلاف هذه الوجوه بلحاظ الأثر العملي ، ويظهر ذلك في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي بدليل واحد ، فانه غير ممكن بناء على جعل المؤدى ، وممكن بناء على غيره كما تقدم. كما يظهر في وجه تقدم الأمارات على الأصول وانه الحكومة أو الورود كما يأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّه تعالى.

اما جعل المنجزية فقد تقدم ما أورده عليه المحققان النائيني والأصفهاني

ص: 181


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /27- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - 277 و405- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 108 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 44 - الطبعة الأولى.

وتقدم دفعه (1).

وتحقيق الكلام فيه : ان المراد من المنجزية.

ان كان استحقاق العقاب الّذي هو من مدركات العقل لا الشارع بما هو شارع ، فهذا غير قابل للإثبات شرعا ، إذ إثباته اما ان يكون بنحو الاخبار ، أو يكون بنحو الإنشاء والاعتبار. والأول لا معنى له بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

والثاني غير ممكن لأن الاستحقاق امر عقلي لا جعلي فلا يصح جعله شرعا.

وان كان المراد نفس العقاب الّذي يرجع إلى جعل الوعد بالعقاب ، وهو امر إنشائي يقبل الجعل شرعا. ففيه : ان جعل الوعد ان كان على مخالفة الأمارة فهو مما لا يلتزم به ، وان كان على مخالفة الواقع فهو كسائر الأدلة الدالة على ثبوت العقاب على فعل شيء أو تركه لا يصلح للبيانية ، بل هو كسائر أدلة الأحكام متكفلة لبيان الحكم بجعل العقاب ، كقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (2) ، فيكون دليل الأمارة دليلا آخر على ثبوت الحكم الواقعي ، وذلك لا ينافي عدم تنجزه في صورة الجهل بالواقع كما لا يتنافى عدم تنجزه مع أصل ثبوته بدليله.

ودعوى : ان المفروض ان مورد الأمارة هو صورة الجهل بالواقع ، فإثبات العقاب في هذا الحال يصلح البيانية.

مندفعة : بان اختصاص الأمارة بصورة الجهل انما يلتزم به فيما كان مفاد دليلها التعبد بشيء ، إذ يلغو التعبد مع العلم. وليس الأمر على هذا التقدير

ص: 182


1- راجع 4 / 148 من هذا الكتاب.
2- سورة النساء الآية : 93

كذلك ، إذ مفادها جعل العقاب وهو لا مانع منه في صورة العلم.

وعليه ، فيكون الدليل مطلقا في حد نفسه ، ويقيد في صورة الجهل بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما تقيد به آية : ( وَمَنْ يَقْتُلْ ... ) وغيرها مما كان لها إطلاق في حد نفسها يشمل صورة الجهل.

ونتيجة ما ذكرناه : ان جعل المنجزية مما لا محصل له. واما جعل الطريقية ، فقد يورد عليه : ان الطريقية من الأمور الواقعية لا الجعلية التعبدية ، وليست بذات أثر شرعي وانما يترتب عليها المنجزية وهي أثر عقلي ، فلا تقبل الجعل والاعتبار لا بلحاظ نفسها ولا بلحاظ أثرها.

ويندفع هذا الإيراد : بالالتزام بان المنجزية تترتب على الطريقية أعم من وجودها الواقعي والاعتباري ، فللشارع ان يعتبر الطريقية والوصول ويترتب عليها المنجزية عقلا.

وهذا الدفع يصطاد من كلمات المحقق النائيني قدس سره في موارد مختلفة (1).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه : بان مقتضاه ان يكون الأثر العقلي مرتبا على الوصول الأعم من الوصول الحقيقي والاعتباري ، ومن الواضح ان ترتب الأثر على الوصول ليس بنحو ترتب الحكم الكلي على الموضوع الكلي من باب القضية الحقيقية كي يكون تحقيق الموضوع ولو اعتبارا موجبا لترتب الأثر عليه ، إذ ليس للعقلاء بناء في المقام بنحو القضية الحقيقية نظير الأحكام الشرعية ، بل الأثر بنحو مستفاد من بنائهم العملي الخارجي على المؤاخذة في مورد الوصول القطعي وخبر الثقة ، فمع عدم بناء العقلاء في مورد لا معنى لتحقيق الموضوع ، ومع بنائهم العملي كخبر الثقة لا احتياج إلى اعتباره

ص: 183


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم - أجود التقريرات 2 / 76 - الطبعة الأولى.

في ترتيب الأثر إلاّ بنحو الإمضاء (1).

هذا ما أفاده قدس سره ومحصله : ان ترتيب الأثر ان كان بنحو القضية الحقيقية ، كان لاعتبار الوصول أثر ، ولكن الأمر ليس كذلك. وان كان بنحو القضية الخارجية ، لم ينفع جعل الوصول في مورد عدم ثبوت اعتبارهم ، كما لا حاجة إلى جعله في مورد ثبوت اعتبارهم.

ونجيب عن هذا الإيراد : بالنقض بكثير من موارد الاعتبارات الشرعية التي يقصد بها ترتيب الآثار العقلائية. كالأمر ، فان اعتباره لأجل ترتب الأثر العقلائي عليه ، وهو لزوم الإطاعة ، مع ان الترديد المزبور يتأتى فيه حذو القذة بالقذة وكاعتبار الملكية من الشارع وبلحاظ ترتب الآثار العقلائية عليها.

وحل المشكلة في الجميع : هو تصور شق ثالث في بناء العقلاء ، فليس هو بنحو القضية الحقيقية ، ولا بنحو القضية الخارجية التحقيقية ، بل بنحو القضية الخارجية التعليقية ، بمعنى ان العقلاء يبنون على ترتيب الآثار عند تحقق الاعتبار ، فليس لديهم حكم كلي فعلا ، بل يثبت حكمهم إذا تحقق أحد الافراد ، وهذا يصحح الاعتبار ، فكما ان العقلاء يرتبون آثار الملكية عند اعتبارها ممن بيده الاعتبار ، ويرتبون آثار الأمر عند اعتباره ممن بيده الاعتبار أيضا كالمولى ، كذلك يمكن ان يلتزم بأنهم يرتبون آثار الوصول عند اعتباره ممن بيده الاعتبار.

وبالجملة : لم يظهر لنا وجه الفرق بين ما نحن فيه وسائر موارد الاعتبارات. نعم الّذي ينبغي ان يوقع الكلام فيه هو نقطة واحدة ، وهي ان الأثر العقلائي هل يترتب على خصوص الوجود الحقيقي للوصول أو على الأعم منه ومن الوصول الاعتباري؟ فعلى الأول لا ينفع اعتبار الوصول. وعلى الثاني يجدي.

ص: 184


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 44 - الطبعة الأولى.

ومن هنا يظهر أن جعل الطريقية - بناء على كون الأثر مترتبا على مطلق الوصول الحقيقي والاعتباري - مما لا محذور فيه ثبوتا.

واما إثباتا. فان لم يتصور وجه معقول غيره تعين الالتزام به ، وإلاّ فيحتاج تعيينه إلى دليل ، وسيجيء الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

واما جعل الحجية ، فقد قرّبه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، ببيان إليك نصه : « واما الثالث ، وهو اعتبار نفس معنى الحجية. فتوضيح القول فيه : ان الحجية مفهوما ليست الا كون الشيء بحيث يصح الاحتجاج به ، وهذه الحيثية تارة تكون ذاتية غير جعلية ، كما في القطع ، فانّه في نفسه بحيث يصحّ به الاحتجاج للمولى على عبده. وأخرى تكون جعلية ، اما انتزاعية كحجية الظاهر عند العرف وحجية خبر الثقة عند العقلاء ، فانه بملاحظة بنائهم العملي على اتباع الظاهر وخبر الثقة والاحتجاج بهما يصح انتزاع هذه الحيثية من الظاهر والخبر. واما اعتبارية كقوله علیه السلام : « حجتي عليكم وانا حجة اللّه » ، فانه جعل الحجية بالاعتبار. والوجه في تقديم هذا الوجه على سائر الوجوه مع موافقته لمفهوم الحجية ، فلا داعي إلى اعتبار امر آخر غير هذا المفهوم هو : ان المولى إذا كانت الحجية ، فلا داعي إلى اعتبار امر آخر غير هذا المفهوم هو : ان المولى إذا كانت له أغراض واقعية وعلى طبقها أحكام مولوية وكان إيكال الأمر إلى علوم العبيد موجبا لفوات أغراضه الواقعية اما لقلة علومهم أو لكثرة خطائهم ، وكان إيجاب الاحتياط تصعيبا للأمر منافيا للحكمة ، وكان خبر الثقة غالب المطابقة ، فلا محالة يعتبر الخبر بحيث يصح الاحتجاج به ، وكل تكليف قام عليه ما يصح الاحتجاج به اعتبارا من المولى كان مخالفته خروجا عن زي الرقية ورسم العبودية ، وهو ظلم على المولى والظلم مما يذم عليه فاعله. ولا حاجة بعد تلك المقدمات إلى اعتبار الخبر وصولا وإحرازا ، إذ لو لم تكن تلك المقدمات لم يجد اعتبار الوصول » (1).

ص: 185


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 44 - الطبعة الأولى.

وكلامه هذا لا يخلو عن مناقشات من جهات.

الأولى : ما ذكره من ان حجية القطع ذاتية. فانه ينافي ما تقدم منه من انها ببناء العقلاء واعتبارهم.

الثانية : ما ذكره من ان حجية الظاهر جعلية انتزاعية. فانه انما يتم لو كان بناؤهم رأسا على نفس الاحتجاج كي يقال انه ينتزع منه كون الشيء بنحو يصح الاحتجاج فيه الّذي هو معنى الحجية ، وليس الأمر كذلك ، بل ليس بناؤهم الا على صحة الاحتجاج وانه للمولى الاحتجاج بالظاهر على العبد ، فمفهوم الحجية - وهو كون الشيء بنحو يصح الاحتجاج به - مجعول بنفسه في باب الظواهر.

الثالثة : ان حجية الظاهر لدى العقلاء وهكذا خبر الثقة في قضاياهم العقلائية - في الغالب - من باب الاطمئنان وحصول الجزم بالمراد بحيث لا يتأتى في أذهانهم احتمال الخلاف أو لا يرونه عقلائيا. فإذا أخبرنا الثقة بمجيء زيد في مقام يكون بيان مراد ، فقال : « جاء زيد » لا نرى ان مقصوده من كلامه سوى مجيء زيد ويحصل لنا الجزم بمراده من دون التفات إلى جعل حجية الظاهر ونحو ذلك. كما اننا نجزم بمجيء زيد من طريق اخباره ويحصل لنا الاطمئنان بذلك.

والّذي نراه في حجية الاطمئنان انها على حد حجية العلم القطعي ، بمعنى ان الملاك الّذي يتبع به العقل أو العقلاء القطع بعينه هو الملاك الّذي يتبع به الاطمئنان.

نعم يختلف الاطمئنان عن القطع في جواز ردع الشارع عنه لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري معه : فلا يلزم التناقض اللازم في ردعه عن العمل بالقطع.

وبالجملة : فلا نرى فرقا ظاهرا بين حجية الظاهر وحجية القطع في مقام لزوم الاتباع والجري على طبقه.

الرابعة : ان مفهوم الحجية مساوق للمنجّزية والمعذرية ، إذ معنى الحجية

ص: 186

يرجع إلى استحقاق المؤاخذة وعدم استحقاقها فانه ليس لدينا مقامان : مقام الرد والبدل ، ومقام إثبات استحقاق المؤاخذة ، بل لدينا مقام واحد وهو مقام إثبات استحقاق العقاب ، ومعنى الحجية مساوق لذلك ، فان معنى صحة الاحتجاج يرجع إلى صحة المؤاخذة. وعليه فما يرد على جعل المنجزية يرد على جعل الحجية.

الخامسة : ما ذكره من الدليل الإثباتي على كون المجعول هو الحجية. فانه غير واضح النتيجة ، فانه إذا فرضنا ان جعل الطريقية أو غيرها ممكن ثبوتا فلا مرجح بعد طي المقدمات المذكورة في كلامه لكون المجعول هو الحجية ، بل يكون كل من هذه الاحتمالات ممكنا.

نعم لو فرض منع غير احتمال الحجية ثبوتا كان احتماله متعينا - لو فرض إمكانه - ، ولكن ذلك يخرج عن طور الاستدلال وتقريب بعض الاحتمالات دون بعض فالتفت.

واما جعل المؤدى ، فلا محذور فيه الا ما تخيله المحقق النائيني من : ان الأحكام الواقعية فعلية ، فلا يمكن اجتماع الحكمين الواقعي والظاهري (1).

ولكن عرفت سابقا نفي ذلك وبيان ان الحكم الواقعي إنشائي فلا يمتنع جعل المؤدى.

هذا كله في مقام الثبوت.

اما مقام الإثبات ، فالبحث فيه يقع لو فرض تعدد المحتملات الثبوتية.

واما لو فرض انحصارها في واحد فهو المتعين إثباتا.

وعلى كل ، فنحن نوقع البحث مع التنزل عن الإشكالات الثبوتية في غير احتمال جعل المؤدى من الاحتمالات.

ص: 187


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 103 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وقد يستدل على جعل الطريقية : بان الأمارات الشرعية إمضائية وليست مجعولة بالاستقلال والعقلاء يرون خبر الثقة - مثلا - طريقا ، فلا بد ان يكون المجعول الشرعي ذلك أيضا.

كما قد يستدل عليه بقوله علیه السلام : « العمري وابنه ثقتان فما أديا عني فعني يؤديان » (1). وبقوله علیه السلام : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقات شيعتنا » (2). فان نفي التشكيك يرجع إلى جعل العلم والوصول.

وفي جميع ذلك نظر ..

اما دعوى بناء العقلاء على الطريقية. فيدفعها : ان الرؤية لها معنيان : أحدهم : الانكشاف والعلم. والآخر : البناء العملي والاعتبار.

والعقلاء يرون خبر الثقة طريقا بالمعنى الأول للرؤية ، إذ يحصل لهم الاطمئنان بخبر الثقة والظواهر غالبا على ما عرفت ، لا بمعنى انهم يعتبرون طريقيتها ويبنون عليها مع عدم ثبوتها واقعا.

وعليه : فلا يقاس عليه ما لا طريقية له بنظر العقلاء ولا يحصل به الاطمئنان كخبر الثقة في الأحكام بالنسبة إلينا لتعدد الوسائط وبعد الزمن وعدم الاطمئنان بتوثيق رجال السند ، وانما يعمل به من باب قيام البينة على الوثاقة.

وبالجملة : لم يثبت اعتبار الطريقية من العقلاء. وانما الثابت ثبوت الطريقية الواقعية لبعض الأمارات وهي غير متحققة لدينا فتدبر.

واما الرواية الأولى ، فلا دلالة لها على جعل الطريقية ، بل هي ظاهرة في

ص: 188


1- وسائل الشيعة 18 / 100 باب : 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 4.
2- وسائل الشيعة 18 / 108 باب : 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 40.

جعل المؤدى ، وان ما يؤديه العمري وابنه الحكم الواقعي الّذي قاله الإمام علیه السلام .

واما الرواية الثانية ، فهي ظاهرة في جعل المنجزية ، إذ المراد من التشكيك المنفي هو التشكيك العملي ، يعني ان يصير عمله عمل الشاك ، إذ الشك حاصل قهرا وقطعا.

والّذي يقرب في الذهن ، هو كون المجعول هو المؤدى دون غيره من المحتملات. وذلك لأنه من المسلمات القطعية بين العلماء جميعا هو ان قيام الأمارة يصحح نسبة مؤدّاها إلى اللّه سبحانه ، كما يصحح الإتيان بمؤداها بداعي الأمر الإلهي ، وهذا لا يتلاءم الا مع جعل المؤدى شرعا ، إذ جعل المنجزية أو الحجية لا يثبت الحكم الواقعي بنحو من الأنحاء كي يصح نسبته إلى المولى أو الإتيان بمؤداها بداع الأمر. مع ان المجتهد يفتي بمضمون الأمارة.

واما جعل الطريقية ، فهو لا يجدي أيضا في صحة الاستناد والإسناد. وان كان قد يتخيل ذلك بتوهم : ان الجاعل يعتبر وصول الحكم فيصح اسناده. لكن الاستناد من الآثار العقلية الواقعية للوصول الواقعي للحكم ، فلا ينفع اعتبار الوصول في إخراجه عن التشريع.

ويشهد لذلك ان العقلاء إذا قامت لديهم أمارة على امر من أمورهم ، ولم يكن اتباعها من باب الاطمئنان وانكشاف الواقع ، بل كان من باب الاعتبار والتعبد ، لا يمكنهم اسناد مؤدى الأمارة إلى المتكلم واقعا ، إذ لا معنى لجعل المؤدى لدى العقلاء ، فالمجعول هو الطريقية أو غيرها ، وهو لا يصحح نسبة المؤدى واقعا إلى المتكلم ، فليس للمخاطب ان يقول مراد المتكلم واقعا كذا.

وإذا ثبت ذلك يثبت ما ذكرناه من ان المجعول هو المؤدى دون غيره ، فانه يصح اسناده إلى المولى في مقام الفتوى والعمل.

ولا يمكننا التنزل عن صحة الإسناد والاستناد ، فانه من المرتكزات

ص: 189

الشرعية والمسلمات الفقهية ، ولو أراد أحد ان يوجه فتوى المجتهد بأنه يريد في فتواه بيان الوظيفة الظاهرية أعم من الوجوب العقلي أو الشرعي - مثلا - ، لا بيان الحكم الشرعي الواقعي. فلا يستطيع توجيه صحة الإتيان بالعمل بداعي الأمر وتحقق العبادية به إلاّ بفرض المجعول هو المؤدى. فتدبر والتفت.

المقام الثاني : في بيان المجعول في الاستصحاب. والاحتمالات فيه ثلاثة :

الأول : ما اختاره الشيخ والمحقق الخراسانيّ ، وهو كون المجعول فيه هو المتيقن لا نفس اليقين (1).

الثاني : ان المجعول هو اليقين بلحاظ طريقيته وكاشفيته عن الواقع.

الثالث : ان المجعول اليقين ، لكن لا من جهة الطريقية بل بلحاظ الجري العملي. وهو اختيار المحقق النائيني ورتب عليه تقدم الأمارات على الاستصحاب ، باعتبار ان المجعول فيها جهة الطريقية وهي متقدمة على جهة الجري العملي.

وقد أوضح ذلك ببيان ما في القطع من جهات فراجع كلامه (2).

وقد يورد على هذا الاختيار - أعني : الأخير - بأنه ممتنع ثبوتا ، لأن المراد به ان المجعول نفي الجري العملي ، يعني يقع التعبد بكون المكلف جرى عملا على طبق التكليف ، فهو لا يرتبط بمفاد الاستصحاب ، إذ المقصود بالاستصحاب إثبات التكليف أو نفيه كي يتحقق العمل أو لا يتحقق.

نعم مثل ذلك يتناسب مع قاعدة الفراغ مما فرض في موردها ثبوت تكليف ، وانما الشك في تحقق امتثال ، فيقال انها تتكفل التعبد بالامتثال والجري

ص: 190


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /336- الطبعة الأولى. الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 392 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 15 - 18 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

العملي على طبق التكليف المفروض. لا في مثل موارد الاستصحاب مما يشك في أصل التكليف فلا معنى للتعبد بالجري العملي.

هذا مع ان لازمه عدم حركة المكلف نحو العمل ، إذ مفاده تحقق العمل منه. فلاحظ.

وان كان المراد ان المجعول اليقين ولكن بلحاظ الجري العملي - الّذي هو ظاهر الكلام - ، فمن الواضح ان الجري العملي انما يتفرع عن انكشاف الواقع بواسطة اليقين فيرجع الجعل إلى جعل الكاشفية والطريقية التي هي منشأ الجري العملي.

ويمكن الجواب (1) عن هذا الإيراد : بتصور شق ثالث ، وهو كون المجعول اليقين بلحاظ منشئيته للجري العملي.

وبيان ذلك : ان اليقين كما تكون فيه جهة الطريقية والانكشاف تكون فيه جهة منشئية للعمل والجري نحو المتيقن ، إذ ترتب العمل على اليقين أمر لا إشكال فيه ، كيف؟ وقد قيل ان ما يؤثر في الإرادة هو الوجود العملي للشيء لا الوجود الحقيقي. فهو كالنار بالنسبة إلى الإحراق ، فانها تشتمل على خصوصية في ذاتها تكون بها منشأ لترتب الإحراق عليها ، فتكون فيها جهتان.

وعليه ، فيمكن ان يدعى ان المجعول هو منشئيته للجري العملي ، وهي خصوصية واقعية يكون اعتبارها موردا للآثار العقلائية ولا محذور فيه.

ولو دار الأمر بين هذا الوجه وسابقه - أعني : جعل الطريقية - ، فهذا هو المتعين لما فيه من الجمع بين جعل اليقين وفرض المكلف شاكا المستفاد من أدلة الاستصحاب ، فان ظاهرها فرض المكلف شاكا وان الواقع مستور عنه ، وهذا لا يتناسب مع جعل الطريقية وانكشاف الواقع ، إذ لا معنى للتعبد بان المكلف

ص: 191


1- [1] هذا من مختصات هذه الدورة ( منه عفي عنه ).

منكشف لديه الواقع وهو شاك متردد.

ولعل هذا البيان هو الّذي دعا المحقق النائيني إلى اختياره.

ولكن التحقيق : ان النوبة لا تصل إلى دوران الأمر بين هذين الوجهين ، بل الظاهر من الأدلة كون المجعول هو المتيقن ان كان المستصحب حكما ، وحكمه ان كان موضوعا كما عليه الشيخ وصاحب الكفاية ( قدس اللّه سرهما ) (1). ويشهد لذلك.

مضافا إلى التردد في ترتب الأثر العقلائي على اليقين الاعتباري واحتمال اختصاصه بالوصول الحقيقي.

وإلى ان جواز الإسناد والاستناد لا يترتب على جعل اليقين بكلا نحويه ، كما هو واضح خصوصا على النحو الثاني ، مع فرض ان ترتبهما على الاستصحاب من المسلمات الفقهية والمرتكزات عند المتشرعة كترتيبهما على الأمارات.

مضافا إلى هذين الأمرين ، مفاد دليل الاستصحاب نفسه ، وبيان ذلك : ان ما يتكفل عدم نقض اليقين بالشك من أدلة الاستصحاب بلسان الإنشاء (2) لا يمكن ان يراد به النهي عن النقض الحقيقي لليقين ولا المتيقن ، إذ اليقين المفروض هو اليقين بالحدوث وهو ثابت لا انتقاض له ، وبلحاظ البقاء منتقض حقيقة لفرض حصول الشك فلا معنى للنهي عن عدم نقضه.

واما المتيقن فان كان حكما ، فهو من افعال المولى الاختيارية وليس هو

ص: 192


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /392- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 336 - الطبعة الأولى.
2- تخصيص الكلام بما كان لسانه الإنشاء من جهة ان ما يكون لسانه الإخبار لا يتردد بين احتمالين ، لتوجه النقض إلى نفس اليقين. بخلاف الإنشاء ، فانه حيث يمتنع حمله على ظاهره ، وانما يكون كفاية عن الإبقاء العملي ، وهو أعم من إبقاء المتيقن أو نفس اليقين. كان للتردد بين الاحتمالين فيه مجال واسع. هكذا أفاد سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) في بيان ذلك فافهم. ( منه عفي عنه ).

تحت اختيار المكلف ، وهكذا إذا كان موضوعا في بعض صوره.

وعليه : فلا بد ان يراد من النهي عن النقض هو النهي عن النقض عملا ، بمعنى انه يجب عليه ان يبقى على عمله السابق (1) ولا يخفى ان الإبقاء العملي لازم لأمرين : اليقين بالحكم ونفس الحكم.

وعليه ، فيصلح الدليل للتعبد ببقاء اليقين وببقاء المتيقن بنحو الاستعمال الكنائي ، بان يستعمل في اللازم ويراد به الملزوم ، فيستعمل في النهي عن النقض العملي لليقين ويقصد به التعبد ببقاء اليقين أو المتيقن. وإذا ثبت صلاحية الدليل لبيان كلا الاحتمالين فالمتعين ان يراد به التعبد ببقاء المتيقن لوجهين :

الأول : ان المسئول عنه في صحيحة زرارة أولا هو وجوب الوضوء بالخفقة والخفقتين ، فنفاه الإمام علیه السلام ، ثم سئل علیه السلام عن وجوبه في مورد الشك في تحقق النوم ، فنفاه أيضا وطبّق فيه قاعدة الاستصحاب ، فالمنفي في كلام الإمام علیه السلام هو نفس الحكم المسئول عنه وهو وجوب الوضوء أو ارتفاع الطهارة ، لوحدة المسئول عنه في الشبهة الموضوعية مع المسئول عنه في الشبهة الحكمية ، لو السؤال في الشبهة الحكمية عن الحكم - كما عرفت -.

وعليه ، فتطبيق الاستصحاب في مورد بيان عدم انتقاض الطهارة ووجوب الوضوء يكشف عن ان المجعول نفس المتيقن السابق ، فقوله علیه السلام : « لا » في جواب السائل في قوله : « فان حرك في جنبه ... » يراد به عدم وجوب الوضوء. وذلك لا يعني إلاّ جعل المتيقن لا اليقين ، إذ جعل اليقين لا يرجع إلى نفي الوجوب شرعا.

الثاني : ان الطهارة الحدثية شرط للصلاة بوجودها الواقعي لا بوجودها العلمي ، فجعل اليقين بها لا ينفع في ترتب أثرها عليها من الدّخول في الصّلاة

ص: 193


1- [1] سيأتي منه ( دام ظله ) مناقشة هذا البيان في باب الاستصحاب ( منه عفي عنه ).

وغيره ، وانما المجدي هو التعبد ببقائها بنفسها ، فتطبيق الاستصحاب في مورد إثبات الطهارة بقاء يرجع إلى كون المجعول فيه هو المتيقن لا اليقين ، وإلاّ لم ينفع في إثبات وجود الطهارة بعنوان الواقع فلا تترتب عليها آثارها مع كون المقصود من الاستصحاب ترتيب الآثار على المستصحب.

هذا ما لدينا الآن في بيان المجعول في الاستصحاب ، وسيجيء إن شاء اللّه تعالى في مبحث الاستصحاب ما له نفع في المقام واللّه سبحانه ولي التوفيق.

واما المجعول في سائر موارد الأصول العملية ، فليس فيه مزيد بحث وسيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى في محله.

واما الكلام في الجهة الثانية ، فهو في ناحيتين :

إحداهما : في بيان مراد الشيخ من قوله قدس سره : « واما على القول باقتضائه له - يعني : الاجزاء - فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتصويب ... » (1).

الأخرى : في بيان أصل المسألة وهي ان الاجزاء هل يلازم التصويب أم لا؟.

اما مراد الشيخ قدس سره ، فيتضح في انه بعد ان اختار المصلحة السلوكية وانها لا تكون إلاّ بمقدار ما يفوت من الواقع ، فلو انكشف الخلاف في أثناء الوقت فالمصلحة السلوكية بمقدار ما فات من مصلحة أول الوقت دون أصل العمل للتمكن من تداركه ، وهكذا. وبعد بيان ان غير ذلك مستلزم للقول بالتصويب. ومن الواضح ان الالتزام بالمصلحة السلوكية بالنحو الّذي بينه لا يلازم الاجزاء ، فلو قيل بالاجزاء أشكل الفرق بينه وبين التصويب ، إذ القول به يرجع إلى الالتزام بالمصلحة بنحو غير ما اختاره ، وقد عرفت ان غير هذا

ص: 194


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /29- الطبعة الأولى.

النحو يرجع إلى الالتزام بالتصويب. فالتفت.

واما أصل المسألة. فتحقيق الكلام فيها :

انه ان التزم بما التزم به صاحب الكفاية من : ان الحكم الواقعي الّذي يشترك فيه العالم والجاهل هو الحكم الإنشائي دون الحكم الفعلي ، وان الحكم الواقعي عند قيام الأمارة على خلافه إنشائي (1). فلا يلازم القول بالإجزاء وسقوط الواقع بالإتيان بمؤدى الأمارة الالتزام بالتصويب لعدم منافاة ذلك مع القول بكون الحكم الواقعي إنشائيا حين قيام الأمارة ، فلا تصويب.

وان التزم ، بما التزم به المحقق النائيني من : ان الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل هو الحكم الفعلي (2) ، كان القول بالإجزاء ملازما للقول بالتصويب ، لأن القول بالإجزاء يلازم الالتزام بعدم فعلية الواقع في حق من قامت عنده الأمارة وهو عين التصويب ، بيان ذلك : ان الحكم الفعلي انما يصح في مورد يكون مؤثرا في الانبعاث أو يكون له قابلية الوصول إلى هذه المرحلة ، اما مع عدم قابلية الحكم للتأثير في حال من الأحوال فيمتنع ان يكون فعليا.

والأمر بناء على الإجزاء كذلك ، وذلك لأنه عند قيام الأمارة على الخلاف وقبل انكشاف الخلاف لا يصلح الحكم الواقعي للتأثير ، وبعد انكشاف الخلاف يلتزم بالإجزاء وسقوط الواقع لو كان ، ففي أي حال يكون الحكم الواقعي قابلا للتأثير كي يصح جعله.

وعليه ، فلا يكون فعليا فيلزم التصويب.

هذا تمام الكلام في مبحث إمكان التعبد بالظن وذيوله. والحمد لله أولا وآخرا.

ص: 195


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 278 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 3 / 103 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الجهة الثالثة من جهات مباحث الأمارات.

في تأسيس الأصل عند الشك في حجية ظن وأمارة.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى ان الأصل عدم الحجية. ببيان : ان آثار الحجية انما تترتب على الاعتبار بوجوده العلمي ، فمع الشك في الاعتبار يقطع بعدم ترتب الآثار على المشكوك للقطع بعدم الموضوع.

اما انحصار ترتب آثار الحجة على الحجة المعلومة ، فلأنه بدون العلم باعتبار الأمارة لا يتنجز بها التكليف عقلا ، فلا يصح للمولى العقاب استنادا إليها كما لا تكون معذرة للعبد.

وبالجملة : الّذي يراه صاحب الكفاية ان الشك في التعبد بالظن يلازم القطع بعدم حجيته ، بمعنى عدم ترتيب الآثار المرغوبة من الحجة عليه. هذا خلاصة ما ذكره في الكفاية في هذا المقام (1).

وقد استدل الشيخ رحمه اللّه على نفي حجية المشكوك بما دل على عدم جواز الاستناد والإسناد مع عدم العلم (2).

وناقشه صاحب الكفاية : بان جواز الاستناد والإسناد ليس من آثار الحجية ، بل بينهما عموم من وجه ، فقد تثبت الحجية ولا يجوز الاستناد كموارد الظن الانسدادي بناء على حجيته عقلا على تقرير الحكومة ، كما انه لو فرض صحة الاستناد مع الشك شرعا لم يثبت به حجية الظن (3).

والّذي يرتبط من كلام الكفاية بكلام الشيخ هو الشق الأول. اما الثاني فهو توسع في الحديث والبحث ، وإلاّ فهو لا ينفي كلام الشيخ ، إذ عدم ثبوت

ص: 196


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /279- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 30 و31- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /280- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الحجية مع جواز الاستناد لا ينفي استفادة عدم الحجية من عدم جواز الاستناد ، إذ من الممكن ان يكون جواز الاستناد لازما أعم للحجية وغيرها ، فإثباته لا يثبت الحجية بخلاف نفيه فانه ينفي الحجية.

وعليه ، فنقطة مناقشة الكفاية مع الشيخ رحمه اللّه في الشق الأول ، وهو يتكفل ببيان أمرين :

أحدهما : كلية ان عدم الاستناد لا يلازم عدم الحجية.

الآخر : تطبيق هذه الكلية على مورد الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

وقد ناقشه المحقق النائيني في كلتا الجهتين :

اما الثانية : فببيان ان مرجع حجية الظن على الحكومة ليس جعل الظن حجة من قبل العقل. بل حقيقة ذلك هي حكمه بجواز الاكتفاء في امتثال التكاليف المعلومة بالظن ، وهذا ليس من الحجية في شيء ، فان الحجة تقع في طريق إثبات التكليف والظن بناء على هذا الالتزام يقع في طريق إسقاطه.

واما الأولى : فببيان ان معنى حجية الأمارة كونها وسطا في إثبات متعلقها.

فتكون كالعلم. وعليه فيترتب عليها جواز الاستناد كما يترتب على العلم ، فجواز الاستناد من لوازم الحجية ، فانتفاؤه يكشف عن انتفاء الحجية (1).

أقول : إننا نسأل المحقق النائيني رحمه اللّه ونقول له : ان جواز الاستناد الّذي فرضه من آثار الحجية هل يترتب على الوجود الواقعي للحجية - فانه فرض للحجة ثبوتا واقعيا يتعلق به العلم والجعل -. أم انه يترتب على الوجود الواصل لها؟. لا يمكنه الالتزام بالأول فانه خلاف الوجدان ، فانه لا يصح اسناد الحكم إلى المولى مع عدم العلم بالوجود الواقعي للحجة ، وخلاف ما التزم به من ان التشريع حرام ، وهو لا يحصل مع عدم العلم سواء كان الحكم

ص: 197


1- بالكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 122 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ثابتا واقعا أم لا ، فان حكم العقل بقبح التشريع موضوعي لا طريقي. والالتزام بالثاني لا ينفعه ، إذ الفرض عدم الوصول فيما نحن فيه ، فيترتب عدم جواز الاستناد والإسناد ، لكن لا ينفع في نفي الحجية الواقعية الّذي حاول الشيخ وتابعة هو قدس سره لنفيها بنفي جواز الاستناد.

وعلى كل فيقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : في ان الشك في الحجية هل يلازم القطع بعدم حجيتها أو لا؟.

وقد عرفت ان صاحب الكفاية ذهب إلى ذلك ، فنفي الحجية جزما عند الشك في ثبوتها ، لأن آثار الحجية لا تترتب الا على الحجة الواصلة ، فمع الشك لا وصول فلا أثر.

ووافقه المحقق النائيني في هذا المدعى لكنه ذكر انه ليس المراد أخذ العلم بالحجية في موضوعها بحيث لا تكون حجة واقعا مع عدم العلم بها ، فانه واضح الفساد ، إذ الحجية كغيرها من الأحكام الوضعيّة والتكليفية لا يدور وجودها الواقعي مدار العلم بها ، بل المراد عدم ترتب آثار الحجية عليها من المنجزية والمعذرية لكونهما منوطتين بالعلم أو ما يقوم مقامه (1).

أقول : إذا لم يكن للحجية أي أثر في حال الشك فيها ، وكانت آثارها منوطة بالعلم بها ، فأي وجه يوجب جعل الحجية واقعا؟ ، مع ان الحكم الوضعي انما يجعل بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار.

وتحقيق الكلام : هو ان ما قيل من ان الشك في الحجية يلازم القطع بعدم الحجية مسلم في الجملة لا مطلقا. بيان ذلك : ان الحجية المشكوكة قد تكون في معرض الوصول إليها بالفحص أو بغيره ، ففي مثل ذلك تكون منجزة بوجودها

ص: 198


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 123 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الواقعي ، بمعنى ان المكلف لو ترك العمل على طبقها ولم يفحص عنها ثم تبين مطابقتها للواقع لم يكن معذورا وكان للمولى عقابه ، وليس للمكلف ترك العمل استنادا إلى ان الشك بها يلازم القطع بعدمها.

نعم ، إذ لم تكن في معرض الوصول لم تترتب على وجودها الواقعي المنجزية ، إذ ليس للمولى المؤاخذة بلحاظ وجودها الواقعي. ففي مثل ذلك يكون الشك فيها ملازما لعدم حجيتها.

فالنتيجة : ان الحق هو التفصيل بين ما إذا كانت الحجة المشكوكة في معرض الوصول فلا يلازم الشك فيها القطع بعدم حجيتها ، فلا بد من الفحص عنها ، وان لم تكن في معرض الوصول فالشك فيها يلازم القطع بعدمها لما عرفت من عدم ترتب آثارها عليها في حال الشك.

الجهة الثانية : في انه هل يمكن إجراء استصحاب عدم حجية ما شك في حجيته أو لا؟.

وقد استشكل فيه الشيخ رحمه اللّه (1) ، وتابعة عليه المحقق النائيني قدس سره (2). وخلاصة الوجه المستفاد من كلامهما : ان عدم المنجزية بما انه مترتب على مجرد الشك في الحجية ، فإجراء الاستصحاب بلحاظه يكون من باب تحصيل الحاصل ، بل ذكر المحقق النائيني : انه أردأ من تحصيل الحاصل فان تحصيل الحاصل انما هو فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد كلاهما وجدانيان أو تعبديان ، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، إذ عدم المنجزية وجداني فلا معنى لإحرازه بواسطة التعبد.

ثم ان هذا المطلب - أعني : عدم جريان الاستصحاب - يبحث فيه في

ص: 199


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /31- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 129 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

موردين آخرين : أحدهما : مورد قاعدة الاشتغال ، فيبحث في جريان استصحاب. الاشتغال. والآخر : مورد أصالة البراءة ، فيبحث في جريان استصحاب عدم التكليف.

والجامع بين هذه الموارد هو كون الأثر الّذي يحاول ترتيبه على الاستصحاب مترتبا على مجرد الشك ، فيقال ان إجراء الاستصحاب تحصيل للحاصل.

والحق : صحة جريان استصحاب عدم الحجية وليس هو من تحصيل الحاصل ، وبيان ذلك : ان تحصيل الحاصل انما يلزم لو كان المترتب على الاستصحاب نفس الأثر المترتب على الشك ، اما إذا كان غيره وان كانا من سنخ واحد فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وما نحن فيه كذلك ، فان عدم المنجزية المترتب على الشك في الحجية غير عدم المنجزية المترتب على عدم الحجة ، فان الأول بملاك الشك وعدم قابلية الموجود للمنجزية. والآخر بملاك عدم الموضوع وعدم المنجز ، ولذا يعبر بأنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع. ونظيره في البراءة الشرعية والبراءة العقلية ، فان قبح العقاب المترتب على الشك في التكليف - في مورد البراءة العقلية - غير قبح العقاب المترتب على عدم التكليف الثابت بالبراءة الشرعية أو استصحاب عدم التكليف ، فان الأول بملاك قبح العقاب بلا بيان ولعدم ثبوت التكليف ، والثاني بملاك عدم المخالفة لعدم التكليف.

وعليه فلا يكون إجراء الاستصحاب مستلزما لتحصيل الحاصل.

وقد يتخيّل انّ ما ذكرناه يتأتى بناء على كون الحكم الواقعي في ظرف الجهل به إنشائيا. امّا بناء على المسلك القائل بأنّ الحكم الواقعي فعلي في ظرف الجهل به فلا يتم ما ذكر ، إذ نفي التكليف أو الحجية بالاستصحاب لا ينفيها فعلا فيبقى الشّك على حاله ولا يكون الحكم العقلي بملاك ارتفاع الموضوع حينئذ.

ص: 200

ولكنّه تخيّل فاسد ، فانّه لو سلّمنا قياس الحجيّة ونحوها من الأحكام الوضعيّة على الحكم التكليفي في إمكان كونها فعليّة في ظرف الشّك ولم نقل بالتفكيك بينهما - لو سلمنا ذلك - فلا ينفع فيما ذكر ، إذ نفي الحجية تعبدا ولو في مرحلة الظاهر يلازم الوعد بعدم العقاب على المخالفة. فانه إذا قال المولى : « إنني لا يصح لي الاحتجاج بهذا الأمر » دل على الوعد أو ما يشبه الوعد بعدم العقاب على المخالفة. وعليه ، فقبح العقاب هاهنا يرجع إلى قبح خلف الوعد بالنسبة إلى الشارع الأقدس ولو لم نقل بقبح العقاب بلا بيان من باب الظلم. ولا يخفى ان هذا الحكم العقلي غير الحكم بقبح العقاب في مورد الشك ، لأن ذلك بملاك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنه ظلم من المولى.

وعليه ، فالاستصحاب على جميع التقادير لا يستلزم تحصيل الحاصل.

نعم ، يبقى سؤال وهو : انه إذا فرض ترتب عدم المنجزية أو قبح العقاب على مجرد الشك. فأي داع عقلائي لإجراء الاستصحاب مع انه انما يترتب عليه نفس الحكم وان كان بملاك آخر يوجب التغاير ، إذ اختلاف الملاك لا يرفع اللغوية؟. ومحصل الإشكال : هو لغوية جريان الاستصحاب.

والجواب عنه : ان إجراء الاستصحاب موجب لارتفاع موضوع الأثر الثابت للشك بما هو ، فيكون الاستصحاب حاكما على الحكم العقلي الثابت في فرض الشك لارتفاع موضوعه به ، وحينئذ فيجري فيه الوجه الّذي يوجه به جريان الحاكم إذا كان متفقا مع الدليل المحكوم في الأثر. وهو امر يلتزم به في كثير من الموارد وليس فيه محذور.

ثم ان ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من : انه أردأ من تحصيل الحاصل. غير واضح الوجه ، فان الأردئية انما تتم لو كان ثبوت الأثر بالاستصحاب ثبوتا تعبديا ، إذ مع ثبوته حقيقة بمجرد الشك لا معنى للتعبد به.

ص: 201

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الأثر يترتب حقيقة وواقعا على التعبد الاستصحابي فلا يلزم الا تحصيل الحاصل - لو كان - لا ما هو أردأ منه.

ولكن عرفت الإشكال في أصل المطلب. وان الحق صحة جريان استصحاب عدم الحجية بلا محذور في البين من تحصيل الحاصل أو اللغوية.

الجهة الثالثة : في انه لو التزم بعدم جريان استصحاب عدم الحجية ، فهل يصح جريان استصحاب بقائها لو تمت أركان الاستصحاب أو لا؟.

قد يتوهم : عدم صحة جريانه أيضا كاستصحاب العدم. ببيان : انه مع عدم القدرة على أحد النقيضين لا يكون الآخر مقدورا ، فمع عدم إمكان التعبد بعدم الحجية لا يمكن التعبد بالحجية أيضا.

وهذا الوهم غريب ، فانه واضح الفساد لوجهين :

الأول : ان الثابت هو ان عدم القدرة على أحد النقيضين يلازم عدم القدرة على الآخر ، ولازم ذلك انّ عدم القدرة على عدم شيء يلازم عدم القدرة على وجوده ، إذ يكون وجوده ضروريا أو ممتنعا ، لأن نسبة القدرة إلى الوجود والعدم على حد سواء. وهذا لا يرتبط بما نحن فيه ، إذ الممتنع انما هو التعبد بالعدم لا أصل نفي الحجية وعدمها واقعا ، وهو - أعني التعبد - امر وجودي وليس نقيضا للتعبد بالوجود كي يكون امتناعه مستلزما لعدم القدرة على الوجود ، بل هما امران وجوديان ، فمع عدم القدرة على أحدهما لا يلزم ان لا يقدر على الآخر (1).

الثاني : لو تنزلنا وسلمنا ان امتناع التعبد بعدم الحجية يستلزم امتناع التعبد بالحجية فلا يتم ما ذكر ، إذ ذلك يتم فيما لو كان التعبد ممتنعا تكوينا ، بحيث لا يكون الجاعل مسلوب الاختيار بالنسبة إليه ، وهو غير ما نحن فيه ،

ص: 202


1- [1] بل لو فرض انهما ضدان ، فهما من الضدين اللذين لهما ثالث ، إذ يمكنه ان لا يتعبد لا بالوجود ولا بالعدم. ( منه عفي عنه ).

إذ ليس المدعى ان التعبد بالعدم ممتنع لعدم القدرة عليه ، بل لأجل انه لغو لا يصدر من العاقل الحكيم بما هو عاقل حكيم وهذا لا ينفي الاختيار ، فلا يمنع من تحقق نقيضه في مورد لا يكون لغوا. فمثلا لو لم يقم شخص لعدم كون القيام ذا أثر عملي ، فهل يتوهم انه لا يستطيع الجلوس في بعض الموارد فيأتي به لو كان ذا أثر عملي؟.

وبالجملة : هذا التوهم لا يستحق الذّكر لما بيناه.

ثم ان المحقق العراقي قدس سره تصدى لبيان الإشكال في استصحاب عدم الحجية ، فقربه : بان الأثر لما كان مترتبا على الجامع بين عدم العلم والعلم بالعدم ، فبما ان الشك في مرحلة سابقة على الاستصحاب لأنه مأخوذ في موضوعه ، فعند حصول الشك يترتب الأثر ولا مجال للاستصحاب حينئذ لأنه لا يتكفل رفع الشك ، إذ هو يتكفل التعبد مع فرض المكلف شاكا. وبذلك يفترق الاستصحاب عن الأمارة على عدم الحجية ، فانها تتكفل رفع الشك بخلاف الاستصحاب ، وإذا ترتب الأثر في مرحلة سابقة على الاستصحاب لا معنى لجريانه حينئذ ، لأنه تحصيل الحاصل (1).

وهذا البيان لا يزيد عما تقدم منا في بيان الإشكال الا في تكفله لنفي الحكومة المدعاة.

وقد أجاب قدس سره عن هذا الإشكال : بان الشك في الحجية كما يكون موضوعات للقاعدة - يعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان - يكون موضوعا للاستصحاب ، وعند الدوران بينهما لا بد من تقديم الاستصحاب ، لأنه يرفع موضوع القاعدة لرفعه الشك تعبدا ، بخلاف القاعدة فانها لا ترفع موضوع الاستصحاب فيكون إجراؤها مستلزما لتخصيص دليل الاستصحاب (2).

ص: 203


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 81 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 82 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولا يخفى ان هذا الجواب لا يفي بالمطلوب ، كيف؟ والمدعى ان التعبد الاستصحابي لا يكون إلاّ في فرض الشك ، ورفعه تعبدا لا يجدي في الحكومة على الحكم العقلي ، لأن مرجع الحكومة في اللب إلى التخصيص وهو ممتنع بالنسبة إلى الأحكام العقلية. فالعمدة ان يقال : ان الاستصحاب كما عرفت يترتب عليه حكم عقلي آخر غير حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وهو رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأن موضوعه الشك في الحجية والاستصحاب ينفي الحجية ، والحكم العقلي الثابت في مورد عدم الحجة غيره الثابت في مورد الجهل بالحجة ، والأول مقدم على الثاني ، لأن عدم الحجية وان انتفى ظاهرا ، لكنه يكفي في رفع حكم العقل الثاني ، فان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان انما يتأتى في مورد لا يقوم دليل على نفي الحجة من قبل المولى ، فمجرد الشك ليس موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل الشك مع عدم نفي البيان. فما يتكفل نفي البيان يكون رافعا لموضوع الحكم العقلي حقيقة. فتدبر ولاحظ.

هذا كله جريان على تحريرات الاعلام ، وإلاّ ..

فالحق عدم جريان الاستصحاب لما عرفت من ان الشك في الحجية يلازم القطع بعدمها ، واقعا ومع القطع بعدم الحجية لا مجال للاستصحاب ، فانه يجري مع الشك لا مع اليقين بالعدم. فالتفت ولا تغفل واللّه سبحانه ولي التوفيق.

الجهة الرابعة : في بيان الموارد التي قيل أو يقال بوقوع التعبد فيها بالظن وخروجها عن الأصل السابق.

وقد عبر صاحب الكفاية عن ذلك ب- : « الخروج موضوعا » (1).

ويقصد بذلك التنبيه على ان الخروج عن الأصل السابق لا بد وان يرجع إلى الخروج الموضوعي ، إذ الخروج حكما مع بقاء الموضوع يرجع إلى التخصيص

ص: 204


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /280- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهو ممتنع بالنسبة إلى الحكم العقلي ، بخلاف رفع موضوع حكم العقل فانه لا ضير فيه. وعلى كل فيقع الكلام في ضمن فصول :

ص: 205

ص: 206

الفصل الأول : في الكلام عن حجية الظواهر :

اشارة

وقد ذكر صاحب الكفاية رحمه اللّه : انه لا إشكال في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة. والوجه في ذلك هو : ان بناء العقلاء قد استقر على اتباع ظهور الكلام في تعيين مراد المتكلم ، والحكم بان مراد المتكلم كذا من طريق ظاهر كلامه. ومن الواضح ان الشارع جرى في كلامه على طبق هذه الطريقة العقلائية ولم يخترع طريقة أخرى مخالفة لطريقة العقلاء ، وإلاّ لظهر وبان لتوفر الدواعي لظهور ذلك ، إذ عليه أساس فهم التكاليف وغيرها مما يروم الشارع بيانه ، وحيث لم ينقل إلينا ذلك نقطع بعدم ردع الشارع عن الطريقة العقلائية وإمضائه لبنائهم وجريه على وفق مجراهم في تفهيم مرامه.

وهذا البناء العقلائي على اتباع الظاهر لا يختص بصورة حصول الظن الشخصي بالوفاق ، ولا بصورة عدم حصول الظن الشخصي بالخلاف ، إذ لا يحق للعبد الاعتذار عن مخالفة الأمر الصادر من قبل المولى المبين بكلام ظاهر فيه - الاعتذار - بأنه لم يكن ظانا بثبوته أو كان ظانا بعدم ثبوته.

ثم أشار إلى التفصيل بين من قصد افهامه ومن لم يقصد افهامه ، فالظاهر حجة بالنسبة إلى الأول دون الثاني. ورده بقيام السيرة العقلائية على

ص: 207

اتباع الظاهر مطلقا بالنسبة إلى من قصد افهامه ومن لم يقصد افهامه (1).

هذا توضيح ما ذكره في الكفاية وهو تلخيص بل أشبه بالفهرست لما ذكره الشيخ رحمه اللّه في هذا المقام.

وقد شرح الشيخ رحمه اللّه في هذا الفصل ببيان : ان الأمارات المعمولة في استنباط الحكم الشرعي من لفظ الكتاب والسنة على قسمين :

الأول : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند احتمال إرادة خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والإطلاق ، ومرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الّذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة ... إلى آخر كلامه (2).

وقد تصدى صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل لمناقشة الشيخ في إرجاعه هذه الأصول اللفظية إلى أصالة عدم القرينة ، وذكر : انه ليس للعقلاء إلاّ بناء واحد ، وهو اتباع الظهور ، فليس لدينا إلاّ أصالة الظهور ، لا انهم يبنون على عدم القرينة ، بل يبنون رأسا على اتباع الظهور ، فالأصل اللفظي في الحقيقة أصل وجودي لا عدمي (3).

وهذه المناقشة مخدوشة وستعرف وجه الخدشة فيها عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

ثم انه يستفاد من كلام الشيخ : ان دلالة الظاهر على المراد دلالة قطعية مع العلم بعدم القرينة. ولعل الوجه فيه : ان المتكلم إذا كان في مقام بيان مراده بالكلام وكان الكلام دالا على معنى من المعاني ، فإرادة غيره بدون نصب قرينة - كما هو الفرض - خلف ، لعدم دلالة الكلام عليه ، فيقطع بان مراده هو المعنى

ص: 208


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /281- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 34 الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /46- الطبعة الأولى.

الظاهر من الكلام لو لم ينصب قرينة على خلافه.

وتحقيق الكلام في حجية الظواهر بنحو يتضح الحال فيها ، ويتحدد موضوع الكلام ، ان يقال : ان الكلام الصادر من المتكلم له صور ثلاث :

الأولى : ان لا يقصد به الحكاية عن معنى ولا تفهيم معنى أصلا ، بل يكون مقصوده وغرضه متمحضا في نفس صدور الكلام بما هو كلام منه ، كما لو أراد ان يعرف كيفية صوته من الرّقة والغلظة.

الثانية : ان يقصد به تفهيم معنى وإيجاده في ذهن السامع ولكن لا تكون على طبقه إرادة جدية ، فهو ليس في مقام الاخبار أو الإنشاء واقعا ، بل لا يكون له غرض الا في استعمال اللفظ في المعنى ، كما في موارد الاستعمالات بداعي الهزل والسخرية. ويعبر عن ذلك اصطلاحا بالإرادة التفهيمية أو الاستعمالية.

الثالثة : ان يكون على طبقه إرادة جدية واقعية بان يقصد الحكاية واقعا في الكلام الخبري والإنشاء في الكلام الإنشائي. ويعبر عنها بالإرادة الجدية والواقعية.

اما الصورة الأولى ، فهي خارجة عما نحن فيه بالمرة ، ولا تكون للكلام أي دلالة على المعنى الا الدلالة التصورية التي لا ترتبط بإرادة المتكلم.

واما الصورة الثانية ، فالذي يبدو النّظر أن دلالة الكلام على إرادة تفهيم معناه وإيجاده في ذهن السامع - وبعبارة أخرى : دلالته على استعماله في معناه - دلالة قطعية لا ظنية ومن باب التعبد. وذلك لأن المتكلم إذا فرض انه في مقام تفهيم معنى وإحضاره في ذهن السامع لأي داع كان وأطلق اللفظ الظاهر في معنى خاص ولا دلالة له على غيره في نفسه ، فلا بد ان يكون مراده هو المعنى الّذي يظهر فيه اللفظ ، إذ إرادة غيره مع عدم دلالة اللفظ عليه خلف كونه في مقام التفهيم باللفظ. ونتيجة ذلك : هو القطع بان مراده من اللفظ هو معناه الظاهر فيه.

ص: 209

واما الصورة الثالثة ، فالحال فيها كالثانية ، وذلك لأن المتكلم إذا فرض انه في مقام الحكاية عن الواقع - مثلا - ، وانه يحاول ذلك بواسطة اللفظ بلحاظ ما يدل عليه من المعنى وجريا على الطريقة العقلائية ، فإذا أطلق اللفظ ، فان أراد الحكاية عن غير مدلوله كان ذلك خلف لعدم دلالة اللفظ عليه ، فلا بد ان يكون مراده الحكاية عن مدلول اللفظ ، فيحصل القطع بان مراده الواقعي على طبق المراد الاستعمالي.

والّذي يتحصل : ان دلالة الكلام على المراد الاستعمالي والمراد الواقعي دلالة قطعية لا ظنية.

وهذا خلاف فرض أصالة الظهور من الظنون النوعية المعتبرة شرعا.

وعلى هذا ، فلا معنى لبعض التفصيلات من اعتبار الظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف ، إذ المفروض حصول القطع من الظهور فلا يتصور حصول التشكيك ونحوه.

هذا ، ولكن لما كان الانتهاء إلى القطع بالمراد في كلتا الصورتين مبتنيا على فرض كون المتكلم في مقام التفهيم والجد ، ومبتنيا على عدم نصب قرينة على خلاف ظاهر الكلام ، فهذان الأمران قد لا يمكن إحرازهما قطعا ، كما لو شك في ان المتكلم في مقام بيان المراد الواقعي ان كان في مقام التقية ، أو شك في حصول الغفلة للمتكلم فلم ينصب قرينة على تعيين مراده وصرفه عن الظاهر ، فيرجع في إحرازهما إلى الأصول العقلائية المعتبرة ، كأصالة عدم الغفلة أو أصالة كون المتكلم في مقام بيان المراد الواقعي المعبر عنها بأصالة الجهة ، وهذه الأصول ليست قطعية بل ظنية.

وعليه ، فتكون النتيجة ظنية لأنها تتبع أخس المقدمتين ، فلا تكون دلالة الظاهر على المراد الاستعمالي والواقعي دلالة قطعية بل ظنية.

وعليه يقال : ما المراد من أصالة الظهور وحجيته من باب الظن؟. ان كان

ص: 210

المراد انه من الظنون بلحاظ أصالة الجهة أو أصالة عدم الغفلة ، فهو متجه ، لكنه خلاف ما يظهر من كلماتهم من عدّ أصالة الظهور أصلا برأسه في قبال تلك الأصول ، ولذا يقال : ان في الخبر جهات ثلاث جهة السند والجهة والظهور. وان كان انه من الظنون الخاصة بلحاظ نفسه ومع قطع النّظر عن أصالة عدم الغفلة وأصالة الجهة ، ففيه ما عرفت من تحقيق ان دلالة الكلام على المراد الاستعمالي أو الواقعي مع فرض عدم القرينة وكون المتكلم في مقام بيان مراده الواقعي ، دلالة قطعية لا يشوبها شك ولا وهم فالتفت ولا تغفل.

ثم انه قد عرفت انه لدينا مرحلتان : مرحلة المراد الاستعمالي ومرحلة المراد الواقعي. وعرفت ان تشخيص المراد الاستعمالي لا يلازم تشخيص المراد الواقعي.

ومن ذلك يظهر الإشكال في ما ذكره الشيخ رحمه اللّه من بيان تعيين مراد المتكلم بأصالة الحقيقة ونحوهما التي أرجعها إلى أصالة عدم القرينة ، إذ الحقيقة والمجاز انما هما يرتبطان بالاستعمال ، فأصالة الحقيقة تنفع في إثبات ان المراد الاستعمالي هو المعنى الحقيقي ، اما مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي الواقعي فلا تجدي في إثباته أصالة الحقيقة.

كما يظهر الإشكال فيما أورده صاحب الكفاية على الشيخ والتزامه بإرجاع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور ، وانه ليس هناك إلاّ أصل واحد هو أصالة الظهور.

وذلك لأن مجرى أصالة عدم القرينة وأصالة الظهور لو كان واحدا أمكن ان يتكلم في ان الأصل الّذي يبني عليه العقلاء هو اتباع الظهور فقط لا أصالة عدم القرينة وأصالة الظهور ، إذ مثل ذلك لغو محض.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ مجرى أصالة عدم القرينة غير مجرى أصالة الظهور ، فان مجرى أصالة عدم القرينة هو تشخيص المراد الاستعمالي ، ومجرى

ص: 211

أصالة الظهور - كما يظهر من كلماتهم - تشخيص مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الواقعي ، فلا يغني أحد الأصلين عن الآخر كما لا معنى لإرجاع أحدهما إلى الآخر.

وبالجملة : فلدينا أصلان : أحدهما : يجري في تشخيص المراد الواقعي ، وهو أصالة الظهور. والآخر : يجري في تشخيص المراد الاستعمالي ، وهو أصالة عدم القرينة أو أصالة الحقيقة وتشخيص كونه أيهما - أعني الوجوديّ أو العدمي -. لا يرجع إلى بحث علمي بل أمر ذوقي وجداني.

ثم انه يرد على الشيخ مضافا إلى ما تقدم : انه لا يتصور الشك في القرينة بنحو تجري فيه أصالة عدم القرينة ، إذ مع فرض كون المتكلم في البيان فلا بد ان ينصب القرينة لو أراد.

نعم قد يشك في غفلة المتكلم عن نصب القرينة فيرجع إلى أصالة عدم الغفلة ، وهو غير أصالة عدم القرينة للقطع بعدم نصبه القرينة ، كما قد يشك في سقوط بعض الكلمات من الكتاب - مثلا - بحيث يحتمل دخلها في تغيير المعنى ، وفي مثله لا تجري أصالة عدم القرينة ، بل يتوقف العقلاء في مثل ذلك من العمل بالكتاب. هذا بلحاظ القرينة المتصلة.

اما المنفصلة ، فهي لا تستلزم التجوز ، بل تصادم ظهور الكلام في دلالته على المراد الواقعي. وعليه فلا معنى لإرجاع أصالة الحقيقة إليها ، إذ مع الجزم بها لا يلزم ان يكون الاستعمال مجازيا.

وعلى أي حال ، فظهور الكلام حجة على المراد قطعا سواء كان من باب الظن كما عليه الأعلام أم من باب القطع كما حققناه.

وبعد هذا يقع الكلام في جهتين :

الأولى : فيما ذهب إليه المحقق القمي رحمه اللّه - صاحب القوانين - من التفصيل في حجية الظواهر بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد افهامه ،

ص: 212

فالظاهر حجة بالنسبة إلى الأول دون الثاني (1).

الثانية : فيما ذهب إليه جمهور الأخباريين من التفصيل بين ظواهر الكتاب المجيد وغيرها. فالأولى ليست بحجة وغيرها حجة.

اما ما ذهب إليه المحقق القمي رحمه اللّه ، فقد وجهه الشيخ رحمه اللّه أولا ثم رده. فوجهه بما يتلخص في : ان حجية الظاهر من باب افادته الظن النوعيّ بالمراد بحيث لو خلي وطبعه كان مفيدا للظن ، فإذا كان مقصود المتكلم افهام مخاطب ما فلا بد ان يلقي إليه الكلام بنحو لا يوجب فهم المخاطب خلاف مراده ، فلو فرض انه فهم خلاف مراد المتكلم فمنشؤه اما غفلته من الالتفات إلى القرائن المكتنفة بالكلام ، أو غفلة المتكلم عن نصب قرينة تدل على تعيين مراده ، وعليه فاحتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر لا بد ان ينشأ عن احتمال غفلته أو غفلة المخاطب لا غير ، واحتمال الغفلة منفي بأصالة عدم الغفلة التي جرت عليها طريقة العقلاء في محاوراتهم وسائر تصرفاتهم.

وهذا البيان الّذي ينتهي إلى حجية الظاهر في كشفه عن مراد المتكلم يختص بالمقصود بالإفهام ، اما غير المقصود بالإفهام فلا يعمه هذا البيان ، إذ لا ينحصر منشأ احتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر عنده في احتمال غفلته أو غفلة المتكلم ، بل هناك سبب آخر وهو احتمال وجود قرائن كانت موجودة خفيت عليه اختيارا لداع من دواعي الإخفاء أو قهرا. وهذا الاحتمال لا دافع له عند العقلاء فلا يكون الظاهر حجة حينئذ.

وعليه : فمثل الاخبار الصادرة عن أهل البيت علیهم السلام لا يكون ظاهرها حجة بالنسبة إلينا من باب الظن الخاصّ ، إذ الخطابات المشتملة عليها تختص بالمشافهين ، وهي ليست كتصنيف المصنفين التي يقصد بها إفهام كل من

ص: 213


1- القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول1/ 398 - الطبعة الأولى.

يطلع عليها لا خصوص المخاطبين بها ، فالمقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين. اما نحن فلسنا مقصودين بالإفهام ، واحتمال وجود القرائن المختفية علينا على مرّ الزمن لا رافع له ، فلا يكون الظاهر حجة بالنسبة إلينا ، الا من باب الظن المطلق الثابت بدليل الانسداد (1).

وهذا البيان لا يخلو عن نظر بكلا جهتيه وهما : أصل توجيه التفصيل وبيان الفرق. وصحة كونه فارقا في مقام الحجية فيما نحن فيه.

اما بيان الفرق بين المقصود بالإفهام وغيره بما تقدم ، فهو غير تام ، إذ منشأ احتمال خلاف الظاهر لدى المقصود بالإفهام لا ينحصر باحتمال الغفلة منه أو من المتكلم ، بل ينشأ أيضا عن احتمال خفاء قرينة متصلة ، كما لو جاءه كتاب من شخص يأمره بشراء حاجة واحتمل ان يكون قد قيد الحاجة بنحو خاص ، ولكن حذف القيد في طريق وصول الكتاب عن عمد أو غير عمد.

وعليه ، فالتفصيل بين كون منشأ احتمال خلاف الظاهر هو احتمال الغفلة أو احتمال خفاء القرينة التي نصبها المتكلم لا يصلح تفصيلا بين من قصد افهامه وغيره ، بل هو تفصيل آخر أجنبي عن ذلك التفصيل ، فلو تم كان تفصيلا ثالثا في مسألة حجية الظاهر.

واما كون الفرق المذكور فارقا فيما نحن فيه ، بحيث تكون نتيجته عدم حجية ظواهر الاخبار بالنسبة إلينا ، فهو غير تام أيضا. وذلك لأنا وان لم نكن مقصودين بالإفهام بكلام الإمام علیه السلام الموجه إلى السائل ك- : « زرارة » ، لاختصاص الخطاب بالمشافهين وعدم كونه من قبيل تصنيف المصنفين ، الا انا مقصودون بالإفهام في إخبار زرارة عن الإمام علیه السلام ونقله الحكم المخاطب به إلينا ، وهو حين ينقل كلام الإمام علیه السلام لنا لا يريد بذلك

ص: 214


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /40- 41 - الطبعة الأولى.

نقل مجرد الألفاظ الصادرة عن الإمام علیه السلام ، إذ لا يترتب على ذلك أي أثر ، وهو ينافي التأكيد والترغيب والحث على رواية الحديث ونقل الأحكام ، وانما يريد بذلك نقل مضمون ما صدر من الإمام علیه السلام وبيان المطلب الّذي أراد الإمام علیه السلام تفهيمه له ، ليثبت في حقنا بقاعدة الاشتراك المسلمة لدى الكل. فإذا بيّن ذلك باللفظ الّذي تكلم به ، فاحتمال ان يكون مطلب الإمام علیه السلام غير مفاد الكلام ، اما ان ينشأ من احتمال تعمد زرارة لإخفاء بعض القرائن التي كانت بينه وبين الإمام علیه السلام ، وهو ينافي كونه في مقام تفهيم مطلب الإمام علیه السلام ، كما انه خيانة منفية بفرض وثاقة الراوي كزرارة. واما ان ينشأ من احتمال الغفلة منه أو من المنقول إليه ، وهو منفي بأصالة عدم الغفلة ، اذن فخبر زرارة حجة بالنسبة إلينا في إثبات مراد الإمام علیه السلام ، كحجية كلام الإمام علیه السلام في إثبات مراده بالنسبة إلى زرارة.

وهذا البيان بنفسه يجري في إخبار من يخبر عن إخبار زرارة وهكذا.

هذا كله يبتني على فرض كون المقصود بالإفهام خصوص المشافه ، وإلاّ فنحن مقصودون بالإفهام بنفس قول الإمام علیه السلام وكلامه كزرارة ، فيكون حجة بالنسبة إلينا.

وجملة القول : ان نفي حجية ظواهر الاخبار بالنسبة إلينا من جهة كون المنشأ في احتمال إرادة خلافها احتمال خفاء بعض القرائن ، غير تام. فالتفت.

هذا والحق هو : ان التفصيل في حجية الظواهر بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد ، تفصيل متين لا بد من الالتزام به ، فان الملاك الّذي قربنا به حجية الظواهر يختص بمن قصد افهامه.

وذلك : فانا بينا في مقام تقريب حجية الظواهر - سواء كانت النتيجة قطعية كما نراه ، أم ظنية كما يراه الآخرون - ان المتكلم إذا كان في مقام بيان مراده الواقعي ،

ص: 215

فإرادة خلاف ظاهر كلامه الّذي يتعارف الحكاية به عن مدلوله من دون نصب قرينة معلومة للمخاطب خلف فرض كونه في مقام التفهيم.

وهذا المحذور انما يتأتى بالنسبة إلى من قصد افهامه ، اما من لم يقصد افهامه فلا يتأتى المحذور بالنسبة إليه ، إذ لا خلف في إرادة خلاف ظاهر كلامه مع نصب قرينة لم يعلمها من لم يقصد افهامه وعلمها من قصد افهامه.

وعليه ، فلا يمتنع ان ينصب المتكلم قرينة لا يعرفها سوى من قصد افهامه كما لا يخفى فلا يمكن لمن لم يقصد افهامه ان يحتج بكلام المتكلم على تعيين مراده ، إذ لعله نصب قرينة خفية عليه ، علمها المخاطب فقط.

يبقى علينا الرد على ما أورد به على هذا التفصيل من : ان بناء العقلاء على حجية الظاهر مطلقا حتى بالنسبة إلى من قصد عدم افهامه ، فضلا عمن لم يقصد إفهامه.

ويشهد لذلك صحة التمسك بظاهر الاعتراف والإقرار لمن قصد عدم افهامه لو فرض انه علم به بطريق من الطرق وصحة ترتيب الآثار على ذلك (1).

ومحصل الرد : ان كون المتكلم في مقام التخفي في الحديث يكشف عن ان مراده الواقعي هو ما يكشف عنه الظاهر ، وانه لم يعتمد على القرائن الخفية بينه وبين مخاطبه في الكشف عن مراده ، وإلاّ لم يكن وجه للتخفي بعد فرض علم غير المخاطب أو احتماله بوجود قرائن خفية بين المتكلم والمخاطب على خلاف الظاهر. فإذا فرض كون التخفي ظاهرا في عدم اعتماد المتكلم على غير ظاهر كلامه ، كان حجة في حق كل من علم به ولو لم يكن مقصودا بالإفهام ، إذ احتمال القرينة منفي على الفرض.

اذن ، فعدم كون من الإقرار في حقه مقصودا بالإفهام يختلف عن

ص: 216


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /281- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

سائر موارد عدم قصد التفهيم ، فلا يكون التمسك بالظواهر في موارد الإقرارات منافيا لعدم حجية الظاهر في سائر الموارد التي يتأتى فيها احتمال وجود القرينة الخفية الّذي لا يمكن دفعه كما عرفت بيانه.

وبعبارة أخرى : ان الملاك الّذي أنكرنا به حجية الظاهر لغير المقصود بالإفهام لا يعم صورة الإقرار. وهذا لا يقتضي إنكار التفصيل بالمرة.

وعليه ، فالتفصيل متين كما عرفت. إلاّ ان الغرض منه - وهو إنكار حجية ظواهر الاخبار بالنسبة إلينا لعدم كوننا مقصودين بالإفهام ، بناء على اختصاص الخطابات بالمشافهين - لا يترتب عليه ، لما تقدم من تقريب حجية ظاهر خبر الواسطة عند مناقشتنا للشيخ في توجيهه التفصيل المذكور. فلاحظ.

هذا كله فيما يرتبط بما ذهب إليه المحقق القمي رحمه اللّه .

واما ما ذهب إليه جمهور الأخباريين من عدم حجية ظواهر الكتاب ، فقد ذكر له في الكفاية وجوها خمسة :

الأول : ما ورد من النصوص الدالة على ان القرآن لا يعرفه إلاّ أهله ومن خوطب به ، وهم النبي والأئمة ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) (1).

الثاني : ان القرآن يحتوي على مطالب عالية شامخة ومضامين غامضة ، فلا يستطيع ان يفهمه كل أحد ، فان فيه علم كل شيء. ولا يستطيع كل أحد ان يصل بفكره إلى ما اشتمل عليه القرآن.

الثالث : ان الظاهر من المتشابه الممنوع عن اتباعه ، ولا أقل من احتمال ذلك ، فانه يكفي في منع العمل بالظاهر.

الرابع : انه وان لم يكن من المتشابه ذاتا ، لكنه منه عرضا للعلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره. وعليه فلا يمكن

ص: 217


1- الروضة من الكافي / 311 ، الحديث : 485.

إجراء أصالة الظهور في كل واحد من ظواهره لحصول المعارضة.

الخامس : ان حمل الكلام على ظاهره تفسير للقرآن بالرأي ، وهو منهي عنه في النصوص الكثيرة.

وهذه الوجوه مردودة.

اما الأول : فلأنه لم يعلم ان المراد من القرآن كل آية منه بنحو العموم الاستغراقي ، بل يمكن ان يراد منه مجموع آيات القرآن وتمامها ، فلا دلالة له على عدم حجية الظواهر منه وعدم معرفتها لغيرهم علیهم السلام ، ولو سلم انه ظاهر في نفسه في إرادة كل آية والجميع لا المجموع ، فلا بد من حمله على المجموع في هذه النصوص جمعا بينها وبين ما ورد من النصوص المتضمنة للإرجاع إلى كتاب اللّه تعالى والاستدلال ببعض آياته (1) ، مما يكشف عن حجية الظاهر منه لغيرهم علیهم السلام ، وإلاّ فلا معنى للإرجاع إليه ولا الاستدلال به.

واما الثاني : فلأنه لا يحتوي على المضامين العالية بتمام آياته ، بل في بعضها ، فلا ينافي غموضها حجية غيرها من الظواهر التي لا غموض فيها ولا لبس في دلالتها.

واما الثالث : فلان الظاهر ليس من المتشابه ، لأن الظاهر هو ما يتضح معناه ، وهو خلاف المتشابه الخفي معناه.

واما الرابع : فلأنه وان علم إجمالا بطرو ما يخالف الظاهر من مخصص وغيره ، لكنه يعلم انه لو تفحص عنه لعثر به وظفر ، فمع الفحص عما يخالف ظاهر ما وعدم وجدانه يعلم بان ذلك الظاهر خارج عن دائرة المعلوم بالإجمال ، فلا مانع من الأخذ به.

واما الخامس : فلان الممنوع عنه هو التفسير بالرأي ، وحمل الكلام على

ص: 218


1- وسائل الشيعة 1 / 290 باب : 23 من أبواب الوضوء ، الحديث : 1.

ظاهره ليس تفسيرا ، لأن التفسير هو كشف القناع ، والظاهر لا قناع له ولا سترة ، ولو سلم انه تفسير فليس هو تفسيرا بالرأي ، إذ المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الّذي لا اعتبار به ، كحمل اللفظ على غير معناه لرجحانه بنظره ، فلا يكون حمل الكلام على ظاهره تفسيرا بالرأي ، فلا يشمله المنع (1).

هذا تلخيص ما جاء في الكفاية من الرد على الوجوه المتقدمة مع بعض توضيح وبذلك يظهر انه لا مجال لدعوى الأخباريين ، بل ظواهر الكتاب حجة كغيرها.

نعم ، قد يتوقف من العمل بالظواهر الكتابية لشبهة أخرى غير ما ذكره الأخباريون ، وهي : دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن ، وهو يمنع من العمل بظواهر الكتاب للعلم بسقوط بعض ما له دخل في تغيير دلالة الظاهر.

والجواب عنها - كما في الكفاية - بان دعوى التحريف وان كانت غير بعيدة ، لكنها لا تستلزم المنع عن حجية ظواهر الكتاب ، لعدم العلم بكون التحريف موجبا للخلل فيها ، إذ التحريف أعم من ان يكون بإسقاط جملة مستقلة عن غيرها في المفاد ، أو بإسقاط ما يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر من غيرها. ولو سلم انه موجب للإخلال بالظاهر ، فلم يعلم انه واقع في آيات الأحكام ، وطرفيتها للعلم الإجمالي لا يجدي بعد ان لم تكن ظواهر غير آيات الأحكام حجة ، لخروجها عن محل الابتلاء والعمل ، فلا معنى لحجيتها لأن الحجية بلحاظ العمل ، فتكون أصالة الظهور في ظواهر الأحكام بلا معارض.

نعم ، لو كان الخلل المحتمل من القرائن المتصلة كان مخلا بالحجية ، لعدم انعقاد الظواهر مع احتمال القرينة المتصلة (2).

ص: 219


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /284- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /284- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هذا ، مع ما ذكره غير صاحب الكفاية من : ان تقرير الأئمة علیهم السلام للقرآن الّذي بأيدينا بالإرجاع إليه واستحباب القراءة فيه واحترامه وغير ذلك من أحكام القرآن الكثيرة يكفي في جواز العمل بظواهره ، سواء التزم بالتحريف أم لم يلتزم ، فاحتمال التحريف أو العلم به لا ينفع في منع حجية ظواهر القرآن بعد كل ما ذكر مما عرفت. فالتفت.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه (1) - وتبعه صاحب الكفاية (2) - تعرض في ذيل البحث عن حجية ظواهر الكتاب إلى تحقيق امر وهو : انه إذا اختلفت القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدى ، كالاختلاف في قراءة : ( يَطْهُرْنَ ) (3) - من آية الحيض - في التشديد من التطهر والتخفيف من الطهر ، فان الظاهر على قراءة التشديد إرادة الاغتسال من حدث الحيض ، وعلى قراءة التخفيف إرادة النقاء من الدم وانقطاعه ، فيختلف المعنى باختلاف القراءتين ، فإذا قيل بتواتر القراءات كلها - كما هو المشهور - ، فهما بمنزلة آيتين تعارضتا ، فاما ان يمكن الجمع العرفي بينهما فهو ، وإلاّ فلا بد من التوقف والرجوع إلى مقتضى القواعد.

وإذا لم يلتزم بتواتر القراءات ، فان ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة - كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة - كان الحكم كما لو قيل بتواتر القراءات. وان لم يثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كان الحكم هو التوقف والرجوع إلى القواعد ، لعدم ثبوت القرآن بأحدهما ، فيكون المراد مجهولا. وعلى تقدير جواز الاستدلال بكل قراءة بحيث تكون كل قراءة دليلا وحجة على القرآنية ، لا يلتزم باعمال قواعد الترجيح هاهنا ، لظهور دليلها في كون موضوعها

ص: 220


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 40 الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /285- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- سورة البقرة ، الآية : 222.

الاخبار المتعارضة لا مطلق الدليلين المتعارضين ، بل القاعدة تقتضي التساقط والمرجع هو القواعد العامة في موضوع الآية. وفي مثل مورد الآية المزبورة يدور الأمر - في حكم المدة بين النقاء والغسل - بين التمسك باستصحاب الحرمة الثابتة قبل النقاء ، أو بعموم قوله تعالى : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) (1) بناء على عمومه الأزماني ، إذ المتيقن خروج زمان الحيض عنه.

فهذا المورد من موارد مسألة دوران الأمر بين استصحاب حكم المخصص أو العلم بعموم العام الزماني ، وهي مسألة ذات بحث طويل يأتي في محله من باب الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى هذا الأمر وبنحو ما إفادة الشيخ. إلاّ أنه ناقشه في نسبة القول بتواتر القراءات إلى المشهور ، فذكر : انه لا أصل له ، وانما الثابت التزام المشهور بجواز القراءة بكل قراءة لا أكثر.

ولا يخفى ان هذا الأمر لا يتحمل أكثر من البيان المزبور ، إذ البحث في تواتر القراءات وعدمه وغير ذلك ليس من شئون مباحث الأصول. وانما له محل آخر فلا بد من إيقاع البحث هاهنا بنحو الترديد وعلى حسب اختلاف المباني في تلك المسائل القرآنية.

ص: 221


1- سورة البقرة ، الآية : 223.

ص: 222

حجية قول اللغوي

وبعد كل هذا يقع الكلام في حجية قول اللغوي في تشخيص ظهور اللفظ وتعيين ما وضع له.

وقد ذكر صاحب الكفاية تمهيدا للدخول في هذا المبحث - ذكر فيه - : انه قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام ، فان أحرز بالقطع وان المفهوم منه جزما بحسب متفاهم أهل العرف هو هذا المعنى ، فلا كلام. وان لم يحرز المفهوم العرفي للكلام .. فتارة : ينشأ عدم إحرازه من احتمال وجود قرينة. وأخرى : من احتمال قرينية الموجود. وثالثة : من عدم العلم بما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا.

ففي الأول ، لا خلاف في ان الأصل عدم القرينة ، لكن البناء العقلائي ابتداء على المعنى الّذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ، لا انه يبنى على عدم القرينة أولا ، ثم يبنى على المعنى الظاهر فيه لو لا القرينة. فهو يلتزم بان احتمال القرينة ينفي بأصالة الظهور رأسا لا بأصالة عدم القرينة.

وفي الثاني ، فان بني على أصالة الحقيقة من باب الظهور كان الكلام مجملا لعدم انعقاد ظهور له مع احتمال قرينية الموجود. وان بني عليها من باب التعبد ، كان ظهور الكلام الأولي متبعا ، ولو لم يكن له ظهور فعلي.

ص: 223

وفي الثالث ، لا يكون الظن حجة في تعيين الموضوع له لعدم الدليل على اعتباره. نعم نسب إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع. هذا ما ذكره في الكفاية بتوضيح منا (1).

وهو لا يخلو عن مؤاخذات. وتوضيح ذلك : ان ظهور الكلام الفعلي في أي معنى واستقرار ظهوره انما يكون بعد تمامية الكلام ، وملاحظة كل لفظ مع غيره.

وعليه ، فنقول : ان ظهور الكلام في المعنى ودلالته عليه ..

تارة يقال : انها لا تتبع إرادة المتكلم تفهيم المعنى بالكلام ، بل ينتقل الذهن إلى المعنى بمجرد سماعه الكلام ولو لم يصدر عن التفات وشعور ، ويستشهد على ذلك بما لو وجد شخص مكتوبا على حائط : « رأيت أسدا يرمي » فانه ينتقل ذهنه إلى رؤية الرّجل الشجاع ولو لم يعلم ان كاتب الكلام قصد استعمال هذه الألفاظ في معانيها ، بل احتمل انه كتبها لتجربة قلمه في الخطّ.

وأخرى يقال : انها تتبع إرادة المتكلم تفهيم المعنى بالكلام. ببيان : انه لا وجه لحمل أسد على غير معناه الأولي إلاّ بلحاظ ان المتكلم نصب قوله : « يرمي » قرينة على بيان مراده ، وحيث انه لا يتلاءم مع المعنى الأولي فلا بد من حمله على ما يتلاءم مع الرمي وهو الرّجل الشجاع. فالتصرف في معنى أسد واستظهار غير معناه لا يتم إلاّ في صورة إرادة المتكلم تفهيم معنى بكلامه ، إذ لا يمكنه إرادة تفهيم معنيين متنافيين لحصول التهافت.

اما مع عدم كونه مريدا للتفهيم ، فإبقاء أسد على ظاهره لا محذور فيه.

وبالجملة : فالظهور الثانوي للكلام لا يتم إلاّ في صورة إرادة التفهيم.

واما تبادر المفهوم الثانوي من جملة : « رأيت أسدا يرمي » لو رئيت

ص: 224


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /286- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مكتوبة على جدار مع عدم إحراز إرادة التفهيم من كتبها ، فهو لا ينافي ذلك ، إذ لعل هذا الانتقال ناشئ من كثرة استعمال هذه الجملة وإرادة المعنى الثانوي ، فيحصل أنس بين الألفاظ وبين المعنى الثانوي ، وهذا لا يسري إلى مطلق الموارد.

ولا يخفى ان تحقيق الصحيح من هذين القولين لا يهمنا فعلا لعدم توقف البحث عليه.

وعلى أي حال ، فنقول : ان كان صاحب الكفاية ممن يلتزم بالقول الأول. فيورد عليه : ان هذا لا يتلاءم مع التمسك بأصالة الحقيقة والظهور في نفي احتمال القرينة ، إذ أصالة الحقيقة تجري لإحراز مراد المتكلم التفهيمي وبيان ان ما اراده هو الظاهر الأولي ، والمفروض ان ظهور الكلام لا يتوقف على الإرادة ولا يرتبط بها.

وان كان ممن يلتزم بالقول الثاني. فلا يرد عليه ما تقدم ، لكن يرد عليه : ان فرض احتمال إرادة خلاف الظاهر لاحتمال القرينة غير ثابت ، إذ المراد بالقرينة ان كان هو القرينة المنفصلة ، فهو ممن يذهب إلى ان القرينة المنفصلة لا تنافي أصل الظهور ، بل تنافي حجية الظهور ، بل لعل هذا الأمر من المسلمات حتى ممن يرى ان المخصص المنفصل يستلزم المجازية. وان كان هو القرينة المتصلة ، فقد تقدم ان احتمالها مع المشافهة لا تصور له الا في صورة ما إذا تكلم المتكلم فحصلت للسامع غفلة عن كلامه ، فاحتمل انه نصب في حال الغفلة قرينة على خلاف الظاهر ، ولكنه في مثل ذلك لا يتمسك أحد بأصالة الظهور أو عدم القرينة ، بل يتوقف في إثبات موارد المتكلم ، نظير صورة ما إذا ورد لشخص كتاب من غيره وكان فيه فراغ يحتمل انه كان يشتمل على كلام صالح للقرينة فمحي ، فانه لا يرجع إلى أصالة عدم القرينة بل يتوقف في مرادة المتكلم.

وبالجملة : في الموارد التي يحتمل فيها وجود القرينة لا طريق إلى نفيها.

ص: 225

نعم قد يحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال الغفلة عن نصب قرينة أو عن سماعها ، فيدفع بأصالة عدم الغفلة لكنه غير أصالة الظهور. وقد مر إيضاح الكلام في ذلك سابقا فراجع.

هذا فيما يرتبط بالفقرة الأولى من كلامه.

واما ما ذكره في صورة احتمال إرادة خلاف الظاهر لاحتمال قرينية الموجود. فتوضيح الكلام فيه : ان رفع اليد عن ظهور الكلام الأولي لأجل ظاهر آخر له صورتان.

إحداهما : ان يكون الظاهر الآخر قد سيق للقرينية ولبيان المراد من غيره ، كالوصف في مثل : « أكرم العالم العادل ».

والأخرى : ان يكون الظاهر الآخر قد سيق لبيان امر مستقل ، لكنه كان منافيا لغيره فيتصرف في غيره إذا كان أظهر من غيره ، ويقال عنه انه قرينة على المراد من الغير.

وبالجملة : فالقرينة على خلاف ظاهر الكلام تارة يؤخذ بها لأجل انها سيقت للقرينية وأخرى لأجل انها أظهر من ذي القرينة.

وعليه ، فنقول : ما يحتمل قرينيته - عبرنا باحتمال القرينية لأنه أولى من التعبير بما يصلح القرينية -.

تارة : يكون من قبيل الأول ، بان كان اللفظ قد سيق للقرينية لكنه كان مجمل المراد ، وان معناه هل المنافي للظهور الأولي لذي القرينة أو لا؟ كما لو شك في ان المراد بالرمي في جملة : « رأيت أسدا يرمي » هل الرمي بالنبل أم الرمي بالتراب؟.

وأخرى : يكون من قبيل الثاني بان كان اللفظ المجمل المردد بين معنيين المنافي أحدهما لظاهر الكلام لم يؤت به القرينية.

ففي الأول ، يكون الكلام مجملا لفرض ان ظهوره في معناه يتوقف على

ص: 226

معرفة المراد من القرينة ، لأن المتكلم نصبها لتعيين مراده ، فمع إجمال القرينة يكون الكلام مجملا.

وفي الثاني ، لا يكون الكلام مجملا ، إذ رفع اليد عن ظهوره من باب مزاحمته بما هو أظهر منه ، ومع فرض الإجمال لا مزاحمة ولا تنافي ، فيؤخذ بظاهر الكلام ، ولا يعتنى بالكلام المجمل.

وعليه ، فاحتفاف الكلام بمحتمل القرينية لا يستلزم إجماله بقول مطلق ، بل في صورة دون أخرى فالتفت.

ثم ان للمحقق الأصفهاني تعليقة متينة مختصرة على قوله : « فان أحرز بالقطع ». وبيانها : ان المراد بالظهور المبحوث عنه ان كان هو الظهور الذاتي للفظ ، وهو ظهور اللفظ في المعنى لو خلي ونفسه بلا ضمّ قرينة حالية أو مقالية ، لم تصح المقابلة بين صورة إحرازه وصورة عدم إحرازه بجميع اقسامها ، بل تختص المقابلة بين صورة إحرازه والقسم الثالث من صورة عدم إحرازه ، إذ الظهور الذاتي في مورد احتمال القرينة أو قرينية الموجود محرز لا تشكيك فيه. وان كان هو الأعم من الظهور الفعلي والذاتي صحت المقابلة كما لا يخفى (1).

ولكن يرد عليه :

أولا : ان احتمال القرينة المنفصلة يلزم ان يكون خارجا عن محل البحث لإحراز الظهور الفعلي في مورده ، إذ القرينة المنفصلة لا تصادم أصل الظهور ، مع انه يحتاج في نفيه إلى أصالة عدم القرينة أو أصالة الظهور ، فهو من موارد هذا الأصل ، مع انه لا يدخل في كلام الكفاية.

وثانيا : ان احتمال خلاف الظاهر قد ينشأ عن غير احتمال وجود القرينة ، كما لو قطع بعدم القرينة لكنه احتمل إرادة خلاف ظاهره ، اما لحكمة في عدم

ص: 227


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 65 - الطبعة الأولى.

البيان أو لغفلة عنه.

ولا يذهب عليك ان اشكاله بعدم صحة المقابلة بناء على إرادة الظهور الذاتي إشكال لفظي ، فسواء صحت المقابلة أم لم تصح ، فوجود هذه الأقسام واقعا لا يعتريه شك وضرورة إيقاع البحث فيها لا إشكال فيه.

ثم يقع الكلام في حجية قول اللغوي في تشخيص وضع اللفظ وما يكون اللفظ ظاهرا فيه من المعاني.

وقد يستدل على حجيته بوجوه :

الوجه الأول : اتفاق العلماء - بل العقلاء - على الرجوع إلى قول اللغويين في تشخيص وضع اللفظ بحيث يكون قوله الفصل في مقام المحاجة والمخاصمة.

الوجه الثاني : الإجماع على حجيته. وحكي عن السيد المرتضى رحمه اللّه (1).

وقد استشكل في الكفاية (2) في الوجه الأول : بأنه لو سلم فغير مفيد ، إذ لم يعلم انهم يرجعون إلى قول اللغوي في تشخيص الوضع في مورد يترتب عليه الاستنباط أو نحوه من الآثار العملية ، بل المعهود منهم ليس أكثر من الرجوع إليه في موارد لا يترتب عليها أثر عملي كالرجوع إليه في فهم الإشعار أو الخطب أو نحوهما. كما انها سيرة محتملة المدرك ، إذ لعل منشأها قيام السيرة العقلائية على الرجوع إلى أهل الخبرة في كل فن التي سيأتي الحديث فيها وبيان الإشكال في الاستدلال بها.

وبان المتيقن من الاتفاق - لو سلم انه قائم في موارد العمل ، وانه مستقل

ص: 228


1- علم الهدى السيد مرتضى. الذريعة إلى أصول الشريعة1/ 13 - الطبعة الحديثة.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /286- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عن السيرة العامة على الرجوع إلى مطلق أهل الخبرة - هو الرجوع إلى قول اللغوي فيما اجتمعت شرائط الشهادة من العدد والعدالة.

واستشكل في الوجه الثاني : بان الإجماع المحصل غير حاصل ، إذ لم تذكر المسألة في كتب الأعلام سابقا حتى نستطيع ان ننسب إليهم القول بالحجية. والمنقول غير حجة في نفسه - كما سيأتي -.

وبالخصوص في مثل المسألة مما يحتمل قريبا ان يكون مستندهم هو اعتقاد ان المورد من مصاديق ما اتفقت عليه السيرة العقلائية من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة وفن ، فلا يكون مثل هذا الإجماع تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم علیه السلام ، فلا يستقل الإجماع في الدليليّة ، بل لا بد من ملاحظة هذا المستند (1).

وهو الوجه الثالث من وجوه الاستدلال على حجية قول اللغوي ، ومحصله : ان السيرة العقلائية في كل زمان الممتدة إلى زمان المعصوم علیه السلام قائمة على الرجوع إلى أهل الخبرة في كل فن وصنعة فيما يرجع إلى فنهم وصنعتهم ، واللّغوي من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع فيصح الرجوع إليه للسيرة.

واستشكل فيه صاحب الكفاية.

أولا : بان المتيقن من السيرة هو الرجوع إلى أهل الخبرة فيما إذا أوجب قولهم الوثوق والاطمئنان ، وهو قد لا يتحقق بقول اللغوي.

ص: 229


1- [1] من تقريب الاستدلال والجواب بما عرفت ، تعرف ان نظر صاحب الكفاية في اشكاله إلى الإشكال في جهتين لتعدد الوجه. فان الأول يرجع إلى السيرة العملية. والثاني يرجع إلى الاتفاق القولي ، وهو يقبل الإنكار بخلاف الاتفاق العملي. وعليه فلا وجه لما في بعض حواشي الكفاية من استظهار وحدة الاستدلال والإشكال ، وان تكرار المصنف الإشكال ، يرجع إلى الإجمال والتفصيل ، إذ لا تكرار في كلام المصنف بل كل قطعة تعود إلى وجه. فالتفت.

وثانيا : بان اللغوي ليس من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع ، بل هو من أهل الخبرة في موارد الاستعمال ، فان همّه ضبط موارد الاستعمال بلا نظر إلى تعيين ما هو الحقيقة منها وما هو المجاز ، وإلاّ لوضعوا علامة على ذلك في كتبهم.

أقول : ما ذكره أولا مسلم لا نقاش لنا فيه.

واما ما ذكره ثانيا من ان اللغوي لا يهمه سوى نقل موارد الاستعمال ، فهو يحتمل وجهين :

الأول : ان اللغوي ينقل موارد الاستعمال بنحو الموجبة الجزئية بلا نظر إلى حصرها فيما يذكره منها ونفي استعمال اللفظ في غيرها.

الثاني : انه ينظر إلى حصر موارد الاستعمال في خصوص ما يذكر للفظ من معنى أو معان.

فعلى الأول ، لا ينفعنا قول اللغوي بشيء ولو أوجب لنا الوثوق ، مع احتمال ان يكون اللفظ معنى آخر غير ما ذكره ، فلا يستطيع معرفة ما هو ظاهر اللفظ.

وعلى الثاني ، فقد ينفعنا في بعض الأحيان ، فانه إذا حصل الوثوق بقوله وقد ذكر للفظ معان ثلاثة - مثلا - ، كان اللفظ مرددا بينها لا غير - كاللفظ المشترك المعلوم وضعه لمعان متعددة - ، فقد تكون هناك قرينة في الكلام تعين أحد هذه المعاني ، فيعرف ظاهر اللفظ ان لم يعرف الموضوع له.

هذا مع انه قد ينقل اللغوي استعماله في معنى واحد لا غير ، فيعرف انه هو الموضوع له إذ لم يستعمل في غيره.

وقد استشكل المحقق النائيني رحمه اللّه (1) في صغرى كون اللغوي من أهل الخبرة - بعد ما ذهب إلى اختصاص حجية قول أهل الخبرة بما إذا أوجب

ص: 230


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 143 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الوثوق - : بان قول أهل الخبرة يتوقف على إعمال الحدس والنّظر ، فلا يشتمل ما يبتني على الحس ، وبما ان اللغوي شأنه ضبط موارد الاستعمال وهي غير متوقفة على الحدس بل تتوقف على الحس لم يكن من أهل الخبرة. نعم تشخيص الموضوع له يحتاج إلى إعمال نظر وحدس لكنه ليس شأن اللغوي.

ولا يخفى ان ما ذكره موافقا لصاحب الكفاية من اختصاص حجية قول أهل الخبرة بمورد الوثوق يستلزم عدم فرض خصوصية لقول اللغوي ، بل المدار على الاطمئنان الّذي عرفت انه حجة بلا كلام ، بل تقدم (1) ان حجيته بملاك حجية القطع والجزم ، كما ان الإيراد الصغروي بالنحو الّذي ذكره لا حاجة له حينئذ ، إذ لا أثر له بعد فرض اختصاص الحجية بمورد الاطمئنان والوثوق.

مع انه يرد عليه ما عرفت من : انه قد يذكر اللغوي معنى واحدا فيثبت الوضع له قهرا ، وان لم ينظر له اللغوي في كلامه إذا كان نظره حصر موارد الاستعمال فيما يذكره.

ثم انه قدس سره ذكر في ضمن جوابه عن الوجه المزبور : ان الرجوع إلى قول أهل الخبرة لا يعتبر فيه شرائط الشهادة من العدد والعدالة الا في موارد فصل الخصومات والدعاوي ، لما ورد عنه صلی اللّه علیه و آله من قوله : « انما أقضي بينكم بالايمان والبينات » (2).

وهذا انما لو فرض ان البينة في العرف واللغة بالمعنى الاصطلاحي للفقهاء ، وهو قابل للتشكيك ، إذ من المحتمل ان يراد بالبينة في العرف واللغة كل ما يتكفل البيان ، واعتباره في القضاء في قبال الاعتماد على القناعة الشخصية للقاضي الناشئة عن جهات حدسية خاصة به ، فيصير المراد ان القضاء لا بد ان

ص: 231


1- راجع 4 / 186 من هذا الكتاب.
2- وسائل الشيعة 18 / 169 باب : 2 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : 1.

يستند إلى اليمين أو إلى ما يستلزم ظهور الحق عند العقلاء ، ولا يصح ان يستند إلى العلم الشخصي ، بل لعل سياق الحديث مساق نفي جواز الحكم استنادا إلى القناعة الشخصية للحاكم قرينة على عموم المراد بالبينة لا خصوص البينة بالمعنى الاصطلاحي. هذا ولكن البناء الفقهي على اعتبار شرائط الشهادة من العدد والعدالة في مقام فصل الخصومات. فلاحظ.

الوجه الرابع : انسداد باب العلم باللغات وخصوصياتها غالبا ، فتتم مقدمات الانسداد في خصوص معرفة الأوضاع ، كما تمسك بهذا الدليل في موارد خاصة أخرى كموارد الضرر والنسب.

وأجيب عنه في الكفاية : بأنه ان فرض انفتاح باب العلم في غالب الأحكام لم تنته النوبة إلى العمل بالظن في موارد معرفة الأوضاع ، إذ العمل بالأصول النافية فيها لا يستلزم تعطيل الدين ، كما ان العمل بالاحتياط لا يستلزم العسر أو اختلال النظام ، فلا تتم مقدمات الانسداد في خصوص المورد ، وان فرض انسداد باب العلم بالاحكام غالبا صح العمل بالظن الناشئ من قول اللغوي ، ولو فرض انفتاح باب العلم بغالب الأوضاع (1).

أقول : ان جواب الكفاية يتم لو كان المدعي يحاول إجراء مقدمات الانسداد في خصوص مورد معرفة الأوضاع بتفاصيلها. ولكن يمكن ان يقرب الاستدلال بالانسداد بوجهين لا يرتبط بهما جواب الكفاية.

أحدهما : فرض انسداد باب العلم بتفاصيل معاني الألفاظ المذكورة في خطابات الشارع التي يعلم بثبوت أحكام شرعية في ضمنها على طبق الإطلاق ولو لم يعلم بإرادة الإطلاق واقعا في كل منها ، فالرجوع إلى البراءة في كل مطلق لا يعرف مقدار سعة مفهومه في غير المتيقن منه ، يستلزم لغوية جعل تلك

ص: 232


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /287- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأحكام المطلقة التي لا طريق إلى العلم بها ، فنفي الرجوع إلى البراءة ليس من باب لزوم تعطيل الدين كي ينفي ذلك مع فرض انفتاح باب العلم في غالب الأحكام ، بل من باب لزوم اللغوية في جعل الحكم المطلق وهو محذور ثابت ولو فرض انفتاح باب العلم. ومن هنا تعرف عدم ارتباط جواب الكفاية بالوجه الأول وهو المعبر عنه بالانسداد الصغير.

الآخر : ان انسداد باب العلم بتفاصيل الأوضاع يستلزم انسداد باب العلم بغالب الأحكام لأن غالب الأحكام مبين بطريق اللفظ.

وعليه ، فتجري مقدمات الانسداد في الأحكام ويثبت حجية كل ظن ومنها قول اللغوي. ومن هنا تعرف عدم ارتباط جواب الكفاية به ، إذ لا معنى لقوله بأنه مع فرض انسداد باب العلم في الأحكام كان الظن الحاصل من قول اللغوي حجة ولو فرض انفتاح باب العلم باللغات. لأن المفروض ان انسداد باب العلم بالاحكام منشؤه انسداد باب العلم باللغات ، فلا معنى لفرض انفتاح باب العلم بها.

والتحقيق في الإشكال عن كلا الوجهين هو : انهما لا ينتهيان إلى حجية قول اللغوي ، إذ ليس المتعارف بيان اللغوي مقدار مفهوم اللفظ سعة وضيقا وبنحو الدّقة حتى يحصل الظن من قوله بتفاصيل المعاني ، فما ينسد فيه باب العلم لا تعرض للغوي فيه ، فلا يوقع الكلام في ان الصعيد - مثلا - على أي شيء يصدق؟. فتدبر.

ونتيجة البحث : انه لا دليل لدينا على اعتبار قول اللغوي. ولكن هذا الأمر لا يوجب لغوية الرجوع إلى كتب اللغة ، إذ قد يحصل القطع بالموضوع له منها أحيانا ، كما قد يحصل معرفة ظهور الكلام في معنى - وان لم يعرف انه حقيقة أو مجاز فيه - بملاحظة بعض القرائن والخصوصيات ، ومثل ذلك يكفي فائدة للرجوع إلى كتب اللغة. وهذا مما ذكره في الكفاية في آخر بحثه المزبور.

ص: 233

ثم ان هناك إشكالا في حجية قول اللغوي أشار إليه المقرر الكاظمي قدس سره في تقريراته. وتوضيحه - بناء على عدم حجية الأمارة في لوازم مؤداها العقلية والعادية مطلقا ، أو انها حجة في خصوص اللوازم التي يستلزم قيام الأمارة على المدلول المطابقي قيام أمارة من فصيلتها عليها ، أعني على اللوازم ، بحيث تكون هناك أمارتان إحداهما على المدلول المطابقي والأخرى على المدلول الالتزامي ، كما في باب الخبر فان الخبر بشيء خبر بلوازمه ، فحجية الأمارة في مثل ذلك بنفس العنوان التي تكون به حجة بالنسبة إلى المدلول المطابقي لا من باب حجية الأمارة في لوازمها - : ان موضوع الأثر الشرعي العملي ليس هو تعيين الموضوع له ، وانما هو إرادة المتكلم للمعنى من اللفظ ، ومن الواضح ان اللغوي يخبر عن الموضوع له ، وإرادة المتكلم في استعماله المعنى الموضوع له ليس من اللوازم العرفية الواضحة ، كي يكون الإخبار بالوضع إخبارا بها أيضا. نعم هي لازم عقلي - على ما عرفت بيانه سابقا - ، اذن فما يتكفله قول اللغوي ليس موضوعا للأثر الشرعي العملي فلا معنى للتعبد بلحاظه ، ولا يمكن تصحيح التعبد بقوله بلحاظ لازمه ، إذ المفروض ان الأمارة ليست حجة في مثل هذا اللازم. ولا يحصل العلم بإرادة المتكلم هذا المعنى بعد فرض ان قول اللغوي لا يفيد أكثر من الظن ، ولذا احتاج إلى التعبد ، ولا يترتب على قول اللغوي انعقاد ظهور للفظ في المعنى كي يكون اعتباره بلحاظ تنقيح أحد مصاديق أصالة الظهور. بل لو فرضنا ان الوضع يلازم عرفا ظهور الكلام في المعنى أو إرادة المتكلم لمعنى الموضوع له بحيث يكون اخباره عن الوضع اخبارا عن ظهور اللفظ في المعنى أو عن إرادة المتكلم المعنى الموضوع له ، فلا ينفع في إثبات حجية قول اللغوي وان قامت أمارة على اللازم من قبيل الأمارة على المدلول المطابقي. وذلك لأنه لا يعلم قيام السيرة على حجية قول اللغوي في كل امر ، بل المتيقن قيامها على حجيته في تعيين الموضوع له لا لمطلق

ص: 234

إخباراته. اذن فلا دليل على حجية خبره عن اللازم. وهذه الجهة هي العمدة في الإشكال.

وعليه ، فيلغو التعبد بقول اللغوي وجعل حجيته لعدم ترتب أثر شرعي عملي عليه.

ولا يخفى ان هذا الإشكال لا يتأتى لو فرض ان القول بحجية قول اللغوي بدليل خاص ، إذ مع قيام الدليل الخاصّ يحكم - بمقتضى دلالة الاقتضاء - بحجيته في لوازمه. وانما يتأتى على تقدير الاستدلال عليه بدليل عام ، كقيام السيرة على الرجوع إلى أهل الخبرة ، إذ لا محذور في دعوى عدم إمضائها بالنسبة إلى قول اللغوي لعدم ترتب أثر عملي عليه.

وقد أجاب المقرر الكاظمي رحمه اللّه عن هذا الإشكال : بأنه إذا حصل الوثوق من قول اللغوي في المعنى الموضوع له ينعقد للكلام ظهور فيه ، فيكون الوثوق من أسباب الظهور وليس من الأمور الخارجية التي لا توجب أكثر من الظن بالحكم (1).

ولا يخفى عليك : ان موضوع الإشكال أجنبي عن صورة تحقق الوثوق ، بل هو يرتبط بصورة الأخذ بقول اللغوي من باب التعبد ومن باب انه حجة مجعولة. وإلاّ فلو وصلت المرحلة إلى حصول الوثوق فلا حاجة إلى إثبات الظهور من طريق الوثوق ، إذ الوثوق بالموضوع له بنفسه يوجب الوثوق بمراد المتكلم وانه هو المعنى الموضوع كما عرفت سواء ثبت الظهور أم لم يثبت ، فالتفت وتدبر واللّه سبحانه ولي التوفيق.

انتهى مبحث الظواهر وما يتعلق به في يوم الاثنين - 9 - ع 1 - 1389 ه. ويليه مبحث الإجماع المنقول.

ص: 235


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 144 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ص: 236

الفصل الثاني : في الكلام عن حجية الإجماع المنقول.

اشارة

وقد التزم البعض بحجيته من باب انه من افراد خبر الواحد بلا أن يقوم دليل على حجيته بالخصوص.

وقد أطال الشيخ رحمه اللّه الحديث فيه وفي شئونه (1). وقد لخصه في الكفاية (2) وغيرها.

ومحصل الكلام فيه بنحو يتضح فيه الحق ، هو ان يقال : ان أدلة حجية خبر الواحد انما تتكفل حجية الخبر إذا كان المخبر به أمرا محسوسا أو قريبا من المحسوس.

فالأوّل ، نظير الاخبار عن مجيء زيد ودخوله إلى الدار. والثاني ، نظير الاخبار عن العدالة والشجاعة. فانهما وان كانتا لا تدركان بالحس لأنهما من الصفات النفسيّة ، لكنهما من الملزومات العادية الظاهرية لبعض الأمور المحسوسة ، فمعرفة العدالة والشجاعة بآثارهما الخارجية لا تتوقف على صرف فكر ومزيد نظر ، فهما بمنزلة المحسوس.

اما الخبر عن الأمر غير المحسوس ولا القريب منه فلا تشمله أدلة

ص: 237


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 47 الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /288- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

حجية الخبر ، ولذا لا يتوهم شمول أدلة الخبر لقول المجتهد مع انه إخبار عن قول المعصوم ، لأنه إخبار عن حدس ونظر واجتهاد.

ثم ان حجية الإجماع المحصل من باب معرفة رأي الإمام علیه السلام من طريقه ومنشأ ذلك أحد طرق :

الأول : ان يعلم بدخول الإمام علیه السلام بشخصه في المجمعين وان لم يعلمه تفصيلا وبشخصه بعينه.

الثاني : قاعدة اللطف ، فان البناء عليها يستلزم عقلا الجزم برأي الإمام علیه السلام عند تحقق الإجماع ، إذ يكون على الإمام علیه السلام البيان لو كان الحكم المجمع عليه على خلاف الواقع ، إذ من شأنه إيصال المصالح إلى المكلفين. وهذا الطّريق ينسب إلى الشيخ الطّوسي قدس سره في حجية الإجماع (1).

الثالث : الملازمة العادية بين الإجماع وموافقة الإمام علیه السلام للمجمعين ، ببيان : ان العادة جارية على استكشاف رأي الرئيس من اتفاق مرءوسيه وعدم اختلافهم ، إذ يمتنع عادة اتفاق المرءوسين على امر مع مخالفة الرئيس لهم.

الرابع : الملازمة الاتفاقية ، وهي حصول العلم بقول الإمام علیه السلام من الإجماع حدسا ، واستلزام الإجماع لموافقة الإمام علیه السلام بنظر من حصل الإجماع.

الخامس : التشرف بخدمة الإمام علیه السلام ومعرفة رأيه ، فينقل الحكم بعنوان الإجماع لبعض الأغراض.

إذا عرفت ذلك نقول : منشأ تخيل حجية الإجماع المنقول ، ان من ينقل

ص: 238


1- نسبه إلى الشيخ الطوسي في فرائد الأصول - 51.

الإجماع ينقل قول المعصوم علیه السلام ، فيندرج تحت عموم أو إطلاق أدلة حجية خبر الواحد.

وتحقيق ذلك : ان الإجماع المنقول ان كان من النحو الأول ، فهو يرجع إلى نقل قول المعصوم علیه السلام ضمنا عن حس ، فتشمله أدلة خبر الواحد بلا إشكال.

واما إذا كان من الأنحاء الأخرى - غير الإجماع التشرفي - ، فمقصود الناقل تارة يكون نقل المسبب ، أعني قول المعصوم علیه السلام لاستلزام الإجماع الّذي حصله لرأيه علیه السلام ، وأخرى يكون نقل السبب لا غير ، يعني لا يحاول إلاّ الإخبار عن ثبوت الفتاوى لا أكثر.

فإذا كان ناقلا لقول المعصوم علیه السلام من طريق الملازمة العقلية أو العادية أو الاتفاقية ، فلا تشمله أدلة حجية الخبر في إثبات رأي المعصوم علیه السلام ، إذ إخباره هاهنا عن امر حدسي لا حسي ولا قريب منه ، وإلاّ لما وقع الخلاف الكبير في صحة الطرق ومنعها. وقد عرفت انّ أدلة الخبر لا تشمل الخبر عن الأمر الحدسي.

واما إذا كان ناقلا للسبب لا غير ..

فقد يتخيل - كما في الكفاية وغيرها - : شمول أدلة حجية الخبر بالنسبة إلى إثبات السبب لأنه خبر عن حس لا حدس ، وخصص قبول ذلك في مورد تكون هناك ملازمة لدى المنقول إليه بين نفس السبب المنقول ورأي الإمام علیه السلام ، أو تكون ملازمة بين السبب المنقول وما ينضم إليه من الأقوال التي يحصلها المنقول إليه وسائر الأمارات غير المعتبرة وبين رأي الإمام علیه السلام (1).

ص: 239


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /290- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبعبارة أخرى : يكون نقل السبب حجة إذا كان تمام السبب في نظر المنقول إليه أو جزءه ، إذ بدون ذلك لا أثر عملي يترتب عليه كي يكون حجة.

ولكنه يشكل - بعد فرض العلم بان الناقل حصل أقوال العلماء بطريق الحس لا الحدس ، بان علم مبنى الفقيه واعتقد انطباقه في مورد خاص ، فنسب إليه الفتوى في المورد ، فانه نقل حدسي لا حسي فلا تشمله أدلة الخبر ، وبعد فرض انّ ما يحصله المنقول إليه من أقوال العلماء يعلم انها غير ما نقلت إليه ، وإلاّ لم يحصل له العلم بقول الإمام علیه السلام بضم ما حصله إلى المنقول لاحتماله وحدتهما - : ان ما يكون مشمولا لأدلة الخبر هو الإخبار عن الحكم أو الموضوع ذي الحكم ، اما الاخبار عما ليس بحكم وليس بموضوع ذي حكم فلا تشمله أدلة الخبر لعدم الأثر العملي.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الاخبار عن إجماع العلماء ليس إخبارا عن حكم - كما هو واضح - ولا اخبارا عن موضوع لحكم شرعي ، إذ الحكم الشرعي ورأي الإمام علیه السلام لا يترتب على الإجماع ، وانما يتحقق العلم به بطريق الملازمة العقلية أو غيرها عند العلم بالإجماع ، فجعل الحجية لنقل الإجماع لغو ، إذ لا يترتب الأثر على حجية النقل.

وقد أجاب في الكفاية عن هذا الإشكال : بان نقل الإجماع كنقل خصوصيات السائل من مكانه وزمانه التي يوجب اختلافها اختلاف المستفاد من الكلام ، فحين يقال ان السائل عن مقدار الكرّ بالأرطال مدني يحمل الرطل الوارد في النص على الرطل المدني في قبال الرطل العراقي ، ونحو ذلك ، فكما لا يتوقف أحد في حجية مثل هذه الاخبار مع انها ليست إخبارا عن حكم ولا موضوع حكم وانما عن خصوصية تكون دخيلة في معرفة خصوصية الحكم (1).

ص: 240


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /290- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن هذا الجواب مندفع بوجود الفرق بين المقامين ، إذ خصوصية السؤال أو السائل أو المسئول عنه من زمان أو مكان أو غير ذلك تلازم عرفا معرفة خصوصية الحكم ، وعليه فمن يخبر بان السائل مدني - مثلا - يخبر بالملازمة عن ان موضوع الحكم هو الرطل المدني للملازمة العرفية بينهما ، فخبره في المدلول الالتزامي هو الحجة لأنه إخبار عن موضوع الحكم الشرعي فيصح التعبد بحجيته.

وهذا بخلاف ما نحن فيه ، إذ الفرض عدم حجية الخبر عن الإجماع في المدلول الالتزامي ، لأنه خبر عن أمر حدسي لا تشمله أدلة حجية الخبر ، والخبر عن المدلول المطابقي وهو نفس الإجماع ليس خبرا عن حكم ولا موضوع حكم فلا يصح التعبد بحجيته لعدم الأثر العملي المترتب عليه. فالتفت وتدبر. هذه خلاصة البحث في الإجماع المنقول.

ويبقى الكلام في جهات :

الأولي : قد عرفت اختلاف طرق استكشاف قول الإمام علیه السلام من الإجماع المحصل وهي مردودة بأجمعها كما يذكر في محله.

وعمدة الوجوه ما يقال من : ان اتفاق جمع غفير من العلماء في العصور المتعاقبة مع العلم بأنهم لا يفتون من غير علم يكشف بالكشف القطعي عن وجود دليل معتبر في الواقع وان لم يصل إلينا.

وهذا الوجه مردود ، لأن اتفاق الجمع الغفير كمائة من العلماء لو كان في عرض واحد لقربت هذه الدعوى ، اما إذا كان بنحو التعاقب وفي الأزمنة المتعددة فلا ينفع ما قيل ، إذ لا يكشف الاتفاق المزبور عن وجود دليل معتبر واقعا ، لأنه من الممكن استناد القائلين في العصر المتأخر إلى إجماع العصر السابق اما لقاعدة اللطف ، بنظرهم أو للملازمة الاتفاقية أو نحوهما ، وهكذا حتى تصل النوبة إلى أسبق العصور ، وهم لا يشكلون عددا كبيرا ، وإجماع مثلهم لا

ص: 241

يكشف عن دليل معتبر ، إذ من الممكن استناد كل منهم إلى دليل لا يكون حجة بنظرنا لو اطلعنا عليه ، كرواية ضعيفة قطع بمضمونها لقرائن قطعية بنظره ونحو ذلك ، بل لو علم استنادهم إلى دليل واحد فلا نستطيع استكشاف حجيته ، إذ من الممكن انه رواية ظاهرة في معنى عندهم وهو ما أجمعوا عليه ، ولكنها غير ظاهرة عندنا فيما استظهروه لو اطلعنا عليها.

وبالجملة : فهذا الوجه مع انه أمتن الوجوه المذكورة في حجية الإجماع.

غير ناهض لإثبات حجيته. إذن ، فلا دليل على حجية الإجماع فتدبر.

الثانية : لو تعارض نقل الإجماع ، فنقل ففيه الإجماع على حكم ، ونقل غيره الإجماع على خلافه ، فالتعارض بينهما انما يكون بلحاظ المسبب وهو الكشف عن قول الإمام علیه السلام ، إذ يمتنع ان يكون كل منهما كاشفا قطعيا لاختلاف مضمونهما.

واما بلحاظ السبب ، فلا تعارض ، إذ من الممكن ان يذهب طائفة إلى حكم بمقدار يحقق الإجماع بنظر الناقل ، ويذهب طائفة أخرى إلى خلافه بمقدار يحقق الإجماع بنظر ناقل آخر.

ولكن كلا منهما لا يصلح لأن يكون سببا للمنقول إليه بعد وجود نقل الخلاف على غيره ، بل ولا جزء سبب ، لأن أحدهما يبعد الحكم عن نظر المنقول إليه بالمقدار الّذي يقربه الآخر بنظره ، إلاّ ان يشتمل أحدهما على خصوصية توجب الجزم برأي الإمام علیه السلام ولو مع اطلاعه على الخلاف ، مثل كون المجمعين من أهل الدقة والتدبر وكونهم من القدماء. ونحو ذلك.

هذا محصل ما ذكره في الكفاية بتوضيح منا (1) ، والمطلب لا يتحمل أكثر من ذلك وانما ذكرناه تبعا.

ص: 242


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /291- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثالثة : لا يخفى ان الحديث في نقل تواتر الخبر كالحديث في نقل الإجماع في عدم شموله لأدلة حجية خبر الواحد من حيث المسبب ، لأنه نقل قول المعصوم علیه السلام بالملازمة الحدسية غير القريبة للحس غالبا.

نعم لو علم ان مقصود الناقل نقل التواتر الّذي يلازم الجزم بقول الإمام علیه السلام عرفا لكل أحد بالملازمة الواضحة كان حجة من ذلك الباب لكنه نادر.

وهكذا من حيث نفس السبب ، فانه ذكر في الكفاية : انه يكون حجة بالمقدار الدال عليه نقل التواتر ، فقد يكون تمام السبب لدى المنقول إليه وقد يكون جزءه كما تقدم في الإجماع المنقول.

ولكن تقدم منا الاستشكال في شمول أدلة حجية الخبر لنقل الإجماع من جهة انه ليس بحكم ولا موضوع حكم. وهذا الإشكال بنفسه يجري في نقل التواتر وإثبات جزء السبب أو تمامه به تعبدا ، فراجع وعليك التطبيق. واللّه ولي التوفيق.

ص: 243

ص: 244

الفصل الثالث : في الكلام عن حجية الشهرة.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أمورا ثلاثة :

الأول : ان المراد بالشهرة المبحوث عنها الشهرة الفتوائية أعني اشتهار الفتوى بحكم بين الفقهاء ، لا الشهرة الروائيّة التي هي اشتهار الرواية بين الأصحاب المبحوث عنها في باب الترجيح.

الثاني : ان الحديث في حجية الشهرة انما هو في طول البناء على حجية الإجماع ، وإلاّ فمع نفي حجية الإجماع لا مجال للالتزام بحجية الشهرة كما هو واضح جدا.

الثالث : ان البحث عن حجية الشهرة تعبدا ، وذلك يختص بصورة عدم حصول اليقين أو الوثوق الشخصي بالحكم من الشهرة ، وإلاّ فلا إشكال في حجية الوثوق واليقين.

إذا عرفت ذلك ، فقد ادعي حجية الشهرة واستدل عليها بوجوه :

أحدها : دلالة أدلة حجية أخبر الواحد على حجيتها بالفحوى ، إذ ملاك حجية الخبر - وهو الظن - موجود في الشهرة بنحو أقوى.

ثانيها : مرفوعة زرارة حيث قال : « قلت جعلت فداك يأتي منكم الخبران

ص: 245

والحديثان المتعارضان فبأيهما نعمل؟. قال علیه السلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك ... » (1) ، فان مقتضى عموم الموصول لزوم الأخذ بكل مشهور ، والمورد وان كان خصوص الخبرين لكنه لا يخصص الوارد.

وثالثها : مقبولة ابن حنظلة حيث جاء فيها : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ... » (2) تمسكا بعموم التعليل بضميمة ان المراد بالمجمع عليه هو المشهور لإطلاق المشهور عليه في قوله : « ويترك الشاذ ... ».

وقد استشكل صاحب الكفاية في هذه الوجوه ، وانتهى من ذلك إلى عدم حجية الشهرة لعدم الدليل.

اما الوجه الأول ، فقد استشكل فيه :

أولا : انه لا دليل على كون ملاك التعبد بالخبر هو الظن. نعم ذلك مظنون ، ولا دليل على حجية مثل هذا الظن.

وثانيا : انه يمكن القطع بعدم كون الملاك هو الظن ، ودعواه غير مجازفة لوضوح ان كثيرا من الموارد التي يثبت بكون الخبر فيها حجة لا يفيد الظن.

واما الوجه الثاني ، فاستشكل فيه : بان الظاهر كون المراد من الموصول في قوله : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » هو الرواية المشهورة لا مطلق المشهور ، ولو كان فتوى مجردة (3).

وقد ساق الشيخ لإثبات ذلك الأمثلة المتعددة الظاهرة في رجوع الموصول إلى مورد السؤال ، وهذا واضح عرفا بلا ريب. فإذا سألت شخصا عن

ص: 246


1- عوالي اللئالي 4 / 133 ، الحديث : 229.
2- تهذيب الأحكام 6 / 301 ، الحديث : 52.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /292- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أكل أي الطعامين فقال كل أكثرهما دهنا ، أو ما دهنه أكثر. فلا يتوهم أحد بأنه امر بأكل كثير الدهن في مطلق الموارد من باب ان المورد لا يخصص الوارد.

وبعين هذا الإشكال استشكل في الوجه الثالث ، فذهب إلى ان المراد بالمجمع عليه هو الرواية فقط.

واستشكل فيه الشيخ - مع غض النّظر عن بعض المناقشات التي يأتي التعرض إليها في مبحث التعادل والترجيح - : بان المراد بالمجمع عليه ما اتفق عليه الكل فلا يشمل المشهور الاصطلاحي ، وإطلاق المشهور على المجمع عليه لا يرجع إلى إرادة المشهور الاصطلاحي منه ، بل هو بلحاظ إرادة المفهوم العرفي للشهرة وهو الظهور والوضوح ، إذ الشهرة الاصطلاحية من المعاني المستحدثة بين المتأخرين ، فلا معنى لأن تراد في رواية (1).

فإشكال الشيخ يرتكز على نفي مشمول لفظ المجمع عليه للمشهور الاصطلاحي ولو كانت العلة عامة وإشكال صاحب الكفاية يرتكز على نفى عموم العلة ولو شمل المشهور اصطلاحا.

وبالجملة : الإشكال في دلالة الروايتين واضح فلا حاجة إلى إطالة الكلام فيه فتدبر.

ص: 247


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /66- الطبعة الأولى.

ص: 248

الفصل الرابع : في الكلام عن حجية خبر الواحد

اشارة

في الكلام عن حجية خبر الواحد (1).

وهذه المسألة من مهمات المسائل الأصولية ، وهو مما لا إشكال فيه ، انما الّذي وقع الكلام فيه هو كيفية إدراجها في علم الأصول مع انه لا يتلاءم مع تعريف موضوع علم الأصول بأنه الأدلة الأربعة ، إذ خبر الواحد ليس منها ، فكيف يكون البحث عن حجيته بحثا عن عوارض موضوع الأصول الّذي هو شرط كون المسألة أصولية؟.

وقد تصدى الشيخ رحمه اللّه لحل هذه المشكلة بإرجاع البحث فيه إلى ثبوت السنة الواقعية ، وهو قول الإمام المعصوم علیه السلام أو فعله أو تقريره بخبر الواحد ، وعدم ثبوته ، فيكون البحث عن عوارض السنة (2).

واستشكل فيه في الكفاية في مبحث موضوع علم الأصول (3) ، وفي هذا المبحث (4) بما يرجع إلى ان الثبوت التعبدي المبحوث عنه هاهنا - إذ لا يبحث عن الثبوت الواقعي قطعا ، وان جعله طرفا للترديد في الإشكال في ذلك المبحث

ص: 249


1- ابتدأنا بهذا الفضل يوم الاثنين 16 ربيع الأول 1389 ه -. ق.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /67- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - 293 و3. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 293 و8- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

- ليس من عوارض السنة الواقعية ، بل من عوارض الخبر ، وما هو مشكوك السنة ، ولذا يدور مداره وجودا وعدما كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى ان الملاك في كون المسألة أصولية هو ملاحظة نفس عنوانها المحرر لا ما هو لازم ذلك العنوان وما يرجع إليه في اللب ، والمفروض ان عنوان هذا المبحث ليس من مسائل الأصول.

وقد تخلص صاحب الكفاية عن هذه المشكلة بعدم التزامه بان موضوع الأصول هو الأدلة الأربعة ، بل التزم بأنه الكلي المنطبق على موضوعات مسائله ، وفي الوقت نفسه التزم بان المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط ، فيندرج مبحث حجية خبر الواحد في مسائل الأصول على ما تقدم بيانه في أول الأصول.

وقد تقدم منا بعض الاستشكال في تعريف صاحب الكفاية للمسألة الأصولية ، كما تقدم منا الإشكال في تعريفها بأنها ما تقع كبرى قياس الاستنباط الّذي ذكره بعض الأعاظم المحققين.

وقد اخترنا في ضابط المسألة الأصولية : انها المسألة النظرية التي يتوصل بها إلى رفع التحير في مقام العمل بلا واسطة نظرية.

وهذا الضابط يشمل مسألة خبر الواحد بلا كلام.

ونعود فنقول : ان كون مسألة خبر الواحد من مسائل الأصول لا ريب فيه ، وانما يؤول الخلاف إلى تحديد ضابط المسألة الأصولية بنحو يشمل هذه المسألة ، بل من طرق معرفة صحة الضابط وسقمه ملاحظة شموله لهذه المسألة وأمثالها. فتدبر.

وبعد هذا يقع البحث في أصل الموضوع.

وقد حدّد الشيخ رحمه اللّه جهة البحث في حجية خبر الواحد ببيان : ان حجية الخبر تتوقف على جهات ثلاث :

ص: 250

الأولى : إحراز ظهوره وإرادته. الثانية : إحراز كون الكلام صادرا لبيان الحكم الواقعي. الثالثة : إحراز صدوره من المعصوم علیه السلام . فإذا اختلت إحدى هذه الجهات لم يكن الخبر حجة.

والّذي يتكفل الجهة الأولى من المباحث ، هو مبحث الظهور الّذي تقدم إيقاع الكلام فيه.

واما الجهة الثانية ، فيتكفلها الأصول العقلائية الجارية في تنقيح صدور الكلام لبيان الواقع لا صدوره عن تقية ونحو ذلك ، ويصطلح عليها بأصالة الجهة.

واما الجهة الثالثة ، فهي التي يتكفلها هذا البحث. فالبحث في حجية خبر الواحد بحث عن إثبات صدور المضمون عن المعصوم علیه السلام بخبر الواحد.

وقد وقع الخلاف في ذلك : فذهب فريق إلى عدم حجيته. وذهب فريق آخر إلى حجيته.

واستدل من ذهب إلى عدم حجيته بالأدلة الأربعة.

الأول : العقل ، وهو ما ينسب إلى ابن قبة من استلزام التعبد به تحليل الحرام وتحريم الحلال. وهذا ما تقدم البحث فيه في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية.

الثاني : الكتاب المجيد ، ويدل على عدم حجيته ما ورد من الآيات الكريمة المتكفلة للنهي عن اتباع الظن وغير العلم كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1). وقوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (2).

ص: 251


1- سورة الإسراء ، الآية : 36.
2- سورة يونس : الآية : 36.

الثالث : السنة الشريفة ، فقد وردت الروايات الدالة على رد ما لا يعلم انه قولهم علیهم السلام (1) ، لما ورد ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب اللّه تعالى (2) ، ورد ما لم يكن موافقا للقرآن إليهم (3) وبطلان ما لا يصدقه كتاب اللّه وان ما لا يوافق الكتاب زخرف باطل (4) ، وغير ذلك.

الرابع : الإجماع ، الّذي حكاه السيد رحمه اللّه في مواضع من كلامه ، بل حكي عنه انه جعل عدم العمل بخبر الواحد معروفا لدى الشيعة كعدم العمل بالقياس عندهم (5).

واستشكل في هذه الوجوه الثلاثة :

اما الآيات الكريمة : فناقش صاحب الكفاية دلالتها على المدعى بوجوه :

الأول : انها ظاهرة في النهي عن اتباع غير العلم في أصول الدين كما يتضح ذلك بملاحظة سياقها.

الثاني : انها لو لم تكن ظاهرة في ذلك ، فالقدر المتيقن منها ذلك ، فانها تكون مجملة لا ظهور لها في العموم للفروع.

الثالث : انه لو سلم عمومها لفروع الدين ، فما دل على حجية خبر الواحد يكون مخصصا لعمومها كما لا يخفى (6).

ولكن المحقق النائيني قدس سره التزم بان دليل الحجية يكون حاكما على هذه الآيات ، لأنه يتكفل جعل الطريقية وتنزيل الخبر منزلة العلم ، فيخرجه

ص: 252


1- مستدرك وسائل الشيعة 17 / 306 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 10.
2- وسائل الشيعة 18 / 80 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 18.
3- مستدرك وسائل الشيعة 17 / 304 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 5.
4- وسائل الشيعة 18 / 78 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 12.
5- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /69- الطبعة الأولى.
6- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /295- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عن موضوع هذه الآيات تنزيلا (1).

والّذي يبدو للنظر دعوى الحكومة ، وذلك لأن النهي الوارد في الآيات الكريمة ليس نهيا نفسيا ذاتيا عما موضوعه غير الحجة وغير العلم كي يرتفع في المورد المنزل منزلة العلم. وانما هو نهي تشريعي يقصد به نفي الحجية عن غير العلم ، فما يثبت الحجية يكون مصادما لنفس الحكم مباشرة. وبعبارة أخرى : ان مفاد الآيات ان غير العلم ليس بحجة فما يتكفل ان خبر الواحد حجة لا يكون حاكما عليها ، بل يكون مخصصا كما لا يخفى.

ثم ان الحكومة على تقدير تسليمها تبتني على فرض كون المجعول في باب الأمارات هو الطريقية - كما عليه المحقق النائيني - ، اما بناء على كون المجعول هو المؤدى كما قربناه ، فتصوير الحكومة مشكل ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى لذلك مزيد توضيح فانتظر.

واما الروايات الشريفة ، فقد ناقش صاحب الكفاية الاستدلال بها بما حاصله : انه لا مجال للاستدلال بكل واحدة منها ، لأنها أخبار آحاد فلا معنى للاستدلال بها على عدم حجية خبر الواحد ، وليست هي متواترة لفظا ولا معنى.

نعم هي متواترة إجمالا للعلم الإجمالي بصدور إحداها ، ولكن مقتضى ذلك هو الالتزام بأخص هذه الروايات من حيث المضمون للقطع بصدوره من المعصوم علیه السلام ، ولازمه عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة لأنه مما توافقت عليه الروايات. وهو لا ينفع في نفي حجية خبر الواحد بنحو السلب الكلي الّذي هو محط الكلام ، والالتزام به غير ضائر بل لا محيص عنه في مقام المعارضة (2).

أقول : لا بد من التنبه لأمور :

ص: 253


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 161 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /295- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية أخيرا ، من انه لا محيص عن الالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في مقام المعارضة ، أجنبي عما نحن فيه ، إذ يفرض حجية كل من المتعارضين في نفسه في مقام المعارضة ، كما يوضح هناك ، ويقال هناك ان فرض التعارض يلازم فرض تمامية حجية كل من المتعارضين في نفسه بحيث يجب العمل به لو لا المعارضة. والبحث فيما نحن فيه عن أصل الحجية ، اذن فالالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة في مقام التعارض لا يعني الالتزام بعدم حجيته في نفسه ، ولا يقرب هذا المعنى ، فتدبر.

الثاني : لا بد من التعرض للاخبار المشار إليها بنحو مفصل وسيأتي إن شاء اللّه تعالى عند التعرض لما استدل به من الأخبار على الحجية.

الثالث : ذكر الشيخ رحمه اللّه ان المراد بالمخالفة غير المخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، بل المراد بها المخالفة بنحو التباين أو بضميمة المخالفة بنحو العموم من وجه.

واستند في ذلك إلى عدم صدق المخالفة عرفا على التخصيص أو التقييد. وإلى القطع بصدور التخصيص والتقييد لعمومات الكتاب ومطلقاته ، بضميمة إباء عمومات النهي عن العمل بالمخالف للكتاب عن التخصيص (1).

وهذا المطلب وان لم يذكره صاحب الكفاية ولكن من الممكن ان يكون أشار إليه بقوله : « والالتزام به يعني عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة غير ضائر » (2) ، إذ يمكن ان يكون مراده غير ضائر لقلة الاخبار المخالفة للكتاب والسنّة ، ولو كان يرى عموم المخالفة للتخصيص والتقييد لكان نفي حجيته ضائرا لكثرة الأخبار المخالفة بنحو الخصوص.

ص: 254


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 69 الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /295- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعلى كل حال ، فالذي نريد ان ننبه عليه ، الإشكال في الوجه الثاني الّذي استند إليه الشيخ رحمه اللّه ، وذلك لاحتمال ان لا يكون العموم أو الإطلاق في نفسه مرادا في المورد الّذي يقطع فيه بورود الخاصّ أو المقيد ، بحيث يكون ورود الخاصّ أو المقيد كاشفا عن عدم العموم أو الإطلاق واقعا ، وانما كنّا نتخيل ثبوت العموم أو الإطلاق.

وبعبارة أخرى : كما يمكن ان يكون مجيء الخاصّ القطعي كاشفا عن عدم إرادة مخالفة التخصيص من الروايات المزبورة ، كذلك يمكن ان يكون كاشفا عن عدم انعقاد العموم أو الإطلاق من أول الأمر لقرينة مقالية أو حالية لا نلتفت إليها فيبقى ظهور المخالفة على حاله.

وبالجملة : فلا قطع بثبوت التخصيص ، وقد عرفت ان القطع بورود الخاصّ لا يلازم القطع بالتخصيص. فتدبر.

نعم ، دعوى ان مخالفة التخصيص لا تعد مخالفة عرفا ، شيء آخر.

فلاحظ.

وأما الإجماع ، فقد نوقش في الاستدلال به : ان المحصل فيه غير حاصل ، والمنقول منه لا يصلح للاستدلال كما تقدم خصوصا في مثل هذه المسألة التي يحتمل استناد المجمعين إلى بعض الوجوه القابلة للمناقشة. مع ان دليل حجية الإجماع المنقول - لو سلم هو دليل حجية خبر الواحد ، فلا يصلح نقل الإجماع لنفي الحجية لأنه خبر واحد.

هذا مع معارضته بمثله ووهنه بذهاب المشهور إلى خلافه.

هذا تمام البحث في أدلة النافين لحجية خبر الواحد.

ص: 255

« الاستدلال على حجية خبر الواحد »

وفي قبالهم استدل المثبتون بالأدلة الأربعة : الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

اما الكتاب ، فبآيات متعددة :

منها : آية النبإ ، وهي قوله عزّ من قائل : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1).

وقد ذكر في الرسائل للاستدلال بها على المدعى تقريبين :

أحدهما : الاستدلال بها بمفهوم الوصف ، فان مقتضى تعليق الحكم على وصف الفاسق انتفاؤه عند انتفائه ، فيدور الأمر في خبر العادل بين الرد مطلقا أو القبول مطلقا ، والأول يستلزم كون العادل أسوأ حالا من الفاسق فيتعين الثاني وهو المطلوب (2).

وقد بين الشيخ رحمه اللّه هذا الوجه بصورة دقيقة علمية. وأوضحها المحقق الأصفهاني قدس سره بما لا يهم التعرض إليها. كما انه قدس سره

ص: 256


1- سورة الحجرات ، الآية : 6.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /71- الطبعة الأولى.

ناقش احتياج الاستدلال إلى المقدمة الأخيرة ، وذكر انها انما يحتاج إليها لو فرض ان وجوب التبين نفسي ، ولكنه ليس كذلك بل هو شرطي ، بمعنى انه يجب شرطا للعمل بخبر الفاسق.

وعليه ، فمجرد انتفائه عند انتفاء الفسق يستلزم جواز العمل بخبر العادل بلا تبين ، بلا احتياج إلى المقدمة المزبورة والترديد المذكور (1).

وعلى أي حال فالجواب عن هذا الوجه لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فانه يتلخص بما تم تحقيقه من عدم ثبوت مفهوم الوصف ، وان إثبات الحكم لوصف ما لا يستلزم انتفاؤه عند انتفائه ، إذ أساس المفهوم على فهم العلية المنحصرة من التوصيف ، وطريق ذلك ليس إلاّ لغوية ذكره لو لم يكن علة منحصرة ، وهذا مخدوش بإمكان فرض ما يخرج ذكر الوصف عن اللغوية مع عدم الانحصار كأهميته أو وقوعه مورد السؤال ونحو ذلك. ومن الممكن ان يكون الغرض من ذكر الوصف في الآية الكريمة التنبيه على فسق الوليد ( لعنه اللّه ) وانه لا يتجنب عن الكذب وان كان مسلما.

وانما المهم في البحث هو الكلام عن الوجه ..

الآخر : وهو الاستدلال بالآية الكريمة بطريق مفهوم الشرط ، فانه علق وجوب التبين عند العمل على مجيء خبر الفاسق. فينتفي إذا انتفى الشرط ، فلا يجب التبين عند العمل بخبر العادل (2).

وقد وقع الكلام بين الاعلام في ثبوت المفهوم للشرط في هذه الآية وعدمه ، مع فرض تسليم أصل مفهوم الشرط وثبوته في نفسه.

وقد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى ان المفهوم هاهنا من باب السالبة بانتفاء

ص: 257


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 74 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /71- الطبعة الأولى.

الموضوع إذ الشرط هو مجيء الفاسق بالنبإ ، ومن الواضح ان عدم التبين عند عدم مجيئه من باب عدم ما يتبين ، إذ لا خبر حتى يتبين فيه ، فالشرط هاهنا من الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع ، ولأنه مما يتقوم الموضوع به عقلا بحيث لا يتصور بقاء الموضوع بانتفائه نظير قوله : « ان رزقت ولدا فاختنه » و: « ان ركب الأمير فخذ ركابه » ، وقوله تعالى : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) (1) وغير ذلك من الأمثلة ، وقد تقرر في محله ان مثل هذه الشروط لا يثبت لها مفهوم ، إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم بانتفاء الشرط عن الموضوع الّذي ثبت له الحكم عند وجود الشرط. ومن الواضح ان هذا يستدعي ان يكون الموضوع موجودا عند انتفاء الشرط كما كان موجودا في حال وجوده ، فإذا فرض ان الشرط كان مقوما للموضوع عقلا كان انتفاؤه ملازما لانتفاء الموضوع فلا مفهوم (2).

ولكن صاحب الكفاية رحمه اللّه خالف الشيخ وذهب إلى ثبوت المفهوم للآية في حد نفسه ، وذلك باعتبار انه فرض موضوع الحكم هو النبأ وفرض الشرط هو جهة إضافته للفاسق ، ومن الواضح ان الشرط على هذا لا يكون مقوما للموضوع ، إذ النبأ كما يضاف إلى الفاسق يضاف إلى غيره ، ثم ذكر قدس سره انه لو كان الموضوع هو طبيعي النبأ وكان الشرط مجيء الفاسق بنحو يكون المجيء دخيلا في الشرط لم يكن للقضية مفهوم ، أو كان مفهوما بنحو السالبة بانتفاء الموضوع (3).

وتحقيق الكلام ان يقال : ان المحتملات الثبوتية في الآية الكريمة ثلاثة :

الأول : ان يكون الموضوع هو خبر الفاسق.

ص: 258


1- سورة الأعراف الآية : 204.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /72- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /296- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثاني : ان يكون الموضوع هو طبيعي الخبر والنبأ ، والشرط مجيء الفاسق به ، بحيث يكون كل من المجيء به وإضافته إلى الفاسق دخيلا في الشرط.

الثالث : ان يكون الموضوع طبيعي النبأ ، والشرط جهة إضافته إلى الفاسق.

فان كان الموضوع نبأ الفاسق ، فلا مفهوم للشرط أي شيء كان هو الشرط ، إذ كل شرط يفرض يكون مسوقا لبيان تحقق الموضوع ، ومما يتقوم به الموضوع عقلا. وهذا واضح لا غبار عليه.

وان كان الموضوع ذات النبأ والشرط جهة إضافته إلى الفاسق ، فقد عرفت ان القضية تكون ذات مفهوم لعدم كون الشرط من مقومات الموضوع. وفي هذا كلام سيتضح بعد حين.

وان كان الموضوع ذات النبأ وكان الشرط مجيء الفاسق به ، فهو محل الكلام والنقض والإبرام.

وقد عرفت ان صاحب الكفاية ذهب إلى إنكار المفهوم على هذا التقدير ولم يبين السّر فيه.

ولعل الوجه في ذلك : هو أن النبأ والإنباء متحدان ولا فرق بينهما الا نظير الفرق بين الإيجاد والوجود.

ومن الواضح ان المجيء بالنبإ عبارة أخرى عن الإنباء والإخبار.

وعليه ، فالمجيء بالنبإ ليس شيئا مغايرا في الواقع للنبإ ، فيكون الشرط من مقومات الموضوع ، وقد عرفت عدم المفهوم في مثل هذه الشروط.

وقد وافق المحقق الأصفهاني صاحب الكفاية وقرب عدم المفهوم : بان مجيء الفاسق به من مقومات الموضوع ، وذلك فانه وان أمكن تحقق النبإ بمجيء العادل به إلاّ انه عند تحققه بأي منهما يكون مقوما للموضوع ، وذلك لأنه لا يمكن فرض وجود الموضوع مع انتفاء مجيء الفاسق وبديله ، بخلاف مثل : « ان جاءك

ص: 259

زيد فأكرمه » ، فان زيدا يمكن فرض وجوده مع انتفاء مجيئه وما يمكن ان يكون بديلا له من درسه وسنّه وغير ذلك ، فان المجيء ونحوه ليس من مقومات الموضوع ، بل هو عوارضه الطارئة عليه ، وليس كذلك مجيء الفاسق بالنبإ أو مجيء العادل ، فانه من مقومات وجوده (1).

أقول : هذان البيانان اللذان يرتكزان على فرض كون مجيء الفاسق بالنبإ من مقومات الموضوع ، لا ينفعان في نفي المفهوم ، وذلك إذ لم يرد في آية أو رواية ان الشرط المقوم للموضوع لا مفهوم له كي يتمسك بإطلاقه ، وانما عرفت ملاكه وهو عدم بقاء الموضوع مع انتفاء الشرط ، وإذا فرض ان ملاك عدم المفهوم في موارد الشرط المقوم للموضوع هو هذه الجهة فهي غير متحققة فيما نحن فيه ، إذ انتفاء مجيء الفاسق لا يلازم انتفاء الموضوع وهو ذات النبأ لتحققها في ضمن خبر العادل. فلاحظ.

ولكننا وان لم نتفق مع المحققين المزبورين في هذا البيان ، الا اننا نتفق معهما في أصل المدعى وهو عدم المفهوم على هذا التقدير. وذلك لوجهين :

الوجه الأول : ان ما هو عمدة الملاك في ثبوت أصل المفهوم للشرط على تقدير تسليمه لا يتأتى في المقام. بيان ذلك : ان عمدة الملاك هو التمسك بإطلاق الشرط بلحاظ تأثيره في الجزاء بقول مطلق سواء قارنه أو سبقه شيء آخر أو لا. وهذا كما قيل يلازم العلية المنحصرة ، إذ لو كان غيره شرطا كان التأثير له لو سبقه ولهما أو للجامع بينهما لو قارنه. وهذا ما ينفيه الإطلاق.

ولا يخفى ان هذا المعنى انما يتم لو فرض ان تأثير غير الشرط المذكور في الكلام في تحقق الجزاء ينافي تأثير الشرط المذكور فيه بقول مطلق ، اما لو فرض عدم منافاته لذلك ، بل كان تأثير غيره في الجزاء لا ينافي تأثيره فيه ولو

ص: 260


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 76 - الطبعة الأولى.

وجد متأخرا عن غيره لم ينفع الإطلاق في إثبات العلية المنحصرة كما لا يخفى.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانه لو فرض انه يجب التبين عن خبر العادل فهذا لا ينافي وجوب التبين عن خبر الفاسق ولو وجد بعد خبر العادل ، لأن كلا منهما موضوع مستقل.

وبعبارة أخرى : ان وجوب التبين في الآية الشريفة كناية عن عدم الحجية ، ومن الواضح ان نفي الحجية عن خبر العادل لا ينافي نفي الحجية عن خبر الفاسق سواء كانا معا أو كان أحدهما متقدما والآخر متأخرا.

وعليه ، فلا ينفع التمسك بإطلاق الآية الشريفة في إثبات انحصار الشرط. فالتفت ولاحظ.

الوجه الثاني : وقبل ذكره لا بد من التنبيه على شيء وهو : ان إرادة الشرط لها استعمالان :

أحدهما : فيما يساوق معنى الشرطية والترتب والتعليق.

والآخر : فيما يساوق الفرض والتقدير بحيث لا تفيد أكثر من وقوع مدخولها موقع الفرض والتقدير.

ولا يخفى ان الالتزام بالمفهوم انما يكون في موارد النحو الأول للاستعمال.

اما لو استعملت في معنى الفرض والتقدير فلا تفيد المفهوم - كما تقدم في مبحث المفهوم - ، بل تكون القضية الشرطية نظير القضية الحملية المرتب فيها الحكم على الموضوع المفروض الوجود ، ومن هذه الموارد قوله علیه السلام : « ان اللّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه » (1) فانه لم يدع أحد في ان لهذه القضية مفهوما محصله : « ان اللّه إذا لم يحرم شيئا لم يحرم ثمنه » ، بل لم يستفد منها سوى بيان الموضوع لتحريم الثمن ، فهي نظير قوله : « ان اللّه حرام ثمن الحرام » ، ويعبر عن : « إذا »

ص: 261


1- العوالي اللئالي 2 / 328 الحديث 33.

هذه بالتوقيتية في قبال الشرطية منها. ومن ذلك أيضا الشروط المقومة للموضوع المسوقة لبيان تحققه ، نظير : « ان ركب الأمير فخذ ركابه » ، فان الإرادة مستعملة في معنى الفرض والتقدير لا معنى الشرطية والتعليق.

وإذا ظهر ذلك نقول : ان المفهوم انما يتحقق ويثبت في مورد يكون الموضوع قابلا لطرو حالتي الشرط وعدمه عليه كي يكون اشتراط الحكم بشيء ظاهرا في انتفائه عند انتفاء الشرط ، وذلك نظير : « ان جاءك زيد فأكرمه » ، فان الموضوع وهو زيد محفوظ في كلتا حالتي الشرط وعدمه.

والسر في ذلك ما عرفت من : ان المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء شرطه.

والوجه فيه هو : ان الموضوع إذا كان قابلا لطرو الحالتين عليه مع انحفاظه في كل منهما أمكنت دعوى استعمال الأداة في التعليق والشرطية التي هي أساس المفهوم. اما إذا لم يكن الموضوع قابلا للانقسام لكلتا الحالتين ، بل كان لا يقبل إلاّ إحداهما ، فهو يقبل الترديد بينهما لا الانقسام إليهما معا ، لم يصح استعمال الأداة الداخلة على إحدى الحالتين في معنى التعليق ، بل انما تستعمل في معنى الفرض والتقدير ، نظير ما لو رأى المولى شبحا فقال لعبده : « ان كان هذا زيدا فأكرمه » فان الشبح لا يقبل عروض الزيدية عليه تارة والعمرية أخرى ، بل هو اما زيد أو عمرو ، فالأداة تستعمل في معنى الفرض والتقدير لا في معنى الشرطية ، إذ ليس هناك جامع بين الحالتين يتوارد عليه النفي والإثبات ، كي يعلق الإثبات على شيء ، بل الشبح يدور بين متباينين.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، وذلك لأن الموضوع وان كان ذات النبأ وطبيعته ، إلاّ ان الموضوع في الأحكام هو الطبيعي الموجود في الخارج ، وتكون الذات مأخوذة مفروضة الوجود ، وليس الحال فيه كالمتعلق.

وعليه ، فموضوع الحكم هو النبأ الموجود. ومن الواضح ان النبأ الموجود

ص: 262

لا يخلو الحال فيه اما ان يكون نبأ فاسق أو نبأ عادل ، ولا يقبل الانقسام إلى كلتا الحالتين ، ولازم ذلك هو استعمال الأداة الداخلة على مجيء الفاسق في معنى الفرض والتقدير ، نظير مثال الشبح.

وقد عرفت ان استعمال الأداة في معنى الفرض والتقدير لا يمكن استفادة المفهوم منه.

فنكتة الوجه هي : انّ الأداة هاهنا مستعملة في معنى الفرض والتقدير فلا يمكن استفادة المفهوم منها ، ونستطيع ان نبين هذا الوجه ببيان آخر ، فنقول :ان الموضوع اما ان يفرض طبيعي النبأ ، أو يفرض شخص النبأ الموجود في الخارج.

فان كان المفروض طبيعي النبأ في أي فرد تحقق ، كان اللازم وجوب التبين عن خبر العادل إذا ورد خبر فاسق ، إذ خبر العادل وجود لطبيعي النبأ وهو موضوع وجوب التبين إذا تحقق الشرط وهو اخبار الفاسق كما هو الفرض.

وان كان المفروض النبأ الموجود خارجا ، كان الشرط مستعملا في الفرض والتقدير لا في معنى الشرطية والترتب ، كما عرفت لعدم قابلية النبأ الموجود للانقسام إلى كلتا الحالتين.

وقد أجاب المحقق الأصفهاني عن هذا الإشكال : بأنه يمكننا اختيار كلا الشقين فنختار الشق الأول ونقول : ليس المراد من الطبيعة المطلقة بنحو الجمع بين القيود حتى يكون المراد هو الطبيعة المتحققة في ضمن خبر العادل والفاسق ، فيلزم التبين عن خبر العادل وانما المراد هو اللابشرط القسمي وبنحو رفض القيود ، بمعنى ان الموضوع هو الطبيعة بلا دخل لخصوصية نسبة العادل أو نسبة الفاسق.

وعليه ، فتعليق الحكم على الشرط يستلزم قصر الحكم على حصة خاصة من الطبيعي ، وهي الحصة المتحققة في ضمن خبر الفاسق. ونختار الشق الثاني

ص: 263

ونقول بان شأن الأداة جعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، وهو كما يجتمع مع كلية الموضوع كذلك يجتمع مع جزئيته ، وان كان وجود بعض افراد الموضوع الجزئي ملازما لأحد طرفي المعلق عليه كما فيما نحن فيه (1).

وهذا الجواب غير تام.

اما ما ذهب إليه من ان تعليق الحكم على الشرط يستلزم قصره على الحصة الخاصة. فهو دعوى خالية عن البرهان وخلف فرض كون الموضوع هو الطبيعي بما هو.

واما ما ذكره في جواب الشق الثاني. فهو نفس ما ادعيناه ونفس ما انتهينا منه إلى إنكار المفهوم.

والمتحصل : انه لا يمكننا الالتزام بالمفهوم على هذا التقدير للوجهين المذكورين.

ثم ان المحقق العراقي ذهب إلى : ان الشرط إذا كان مركبا مما هو قوام الموضوع وما هو ليس كذلك يكون الشرط ذا مفهوم بالإضافة إلى الجزء غير المقوم للموضوع ، فمثلا لو قيل : « ان ركب الأمير وكان اليوم الجمعة وكان لابسا الأبيض فخذ ركابه » فان ركوب الأمير وان كان محققا للموضوع ، إلاّ ان لبسه البياض ان كون اليوم الجمعة ليس من مقومات الموضوع ، فيثبت المفهوم بلحاظها وان كان بالإضافة إلى نفس الركوب لا مفهوم له.

وبالجملة : مثل هذا الشرط ينحل إلى شروط متعددة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الشرط هو المجيء بالنبإ وإضافته إلى الفاسق ، والمجيء بالنبإ وان كان من مقومات الموضوع ، لكن إضافته إلى الفاسق ليست من مقوماته فيثبت المفهوم بلحاظها (2).

ص: 264


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 76 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 111 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وقد تابعة في هذا البيان السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) (1).

وهذا البيان مخدوش بما تقدم منا قبل قليل من : ان استعمال الأداة في مورد المفهوم يختلف عن استعمالها في غير موارده ، فهي تستعمل في ما يحقق الموضوع في معنى الفرض والتقدير وفي موارد المفهوم في معنى الشرطية والتعليق.

وعليه ، فلو أردنا ان نلتزم بثبوت المفهوم بالإضافة إلى الجزء غير المقوم للموضوع دون المقوم له كان علينا ان نلتزم باستعمال الأداة في معنيين وهو محال كما حقق في محله.

وعليه ، فلا بد ان نلتزم بأنها مستعملة في الفرض والتقدير بالنسبة إلى المجموع ومعه ينتفي المفهوم بالمرة.

ودعوى : ان الواو تفيد العطف وهو بمنزلة تكرار الأداة ، فلا يكون اختلاف المعنى مستلزما لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى.

مندفعة : بأنه على تقدير تسليم كون العطف في قوة التكرار لا ينفعنا فيما نحن فيه ، إذ لا عطف في الآية الكريمة وانما أخذ الشرط مقيدا ، والتركب نشأ من تحليله إلى جزءين عقلا فلاحظ.

وبعد ان عرفت عمدة الوجه في نفي المفهوم على هذا التقدير ، تعرف انه لا وجه للقول بالمفهوم على تقدير أخذ الموضوع هو الطبيعي والشرط إضافته إلى الفاسق.

إذ الوجهان المتقدمان يتأتيان عليه أيضا.

فانه لا ينفع التمسك بإطلاق الشرط في إثبات الانحصار ، إذ لا يضر ترتب عدم الحجية على خبر العادل في ترتبه على خبر الفاسق بقول مطلق ، كما ان الموضوع الخارجي لا يقبل الانقسام إلى الحالتين ، بل يقبل الترديد لا غير ،

ص: 265


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 157 - الطبعة الأولى.

فتكون الأداة مستعملة في معنى الفرض والتقدير ، فلا يثبت المفهوم.

هذا مضافا إلى انه مجرد احتمال ثبوتي لا يمكن الالتزام به إثباتا ، إذ صريح الآية الكريمة كون مدخول الأداة مجيء الفاسق ، فإلغاء المجيء عن الشرطية وقصر الشرط على جهة الإسناد إلى الفاسق فقط لا شاهد له أصلا.

ثم انه لو فرض ثبوت المفهوم للآية الكريمة في نفسه وبلحاظ الشرط ، فقد يدعى إنكاره من طريق آخر وهو : العلة المذكورة فيها ، أعني قوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) وتوضيح ذلك : ان المقرر هو ان العلة التي تذكر في الكلام للحكم توجب التصرف في موضوعه سعة وضيقا ، ففي مثل قول الطبيب للمريض : « لا تأكل الرمان لأنه حامض » يكون موضوع الحكم هو الحامض مطلقا فيخرج الرمان الحلو ويدخل الحامض من غيره ، فموضوع الحكم يدور مدار العلة.

وهذا الظهور لا شك فيه عرفا ، فكل واحد من افراد العرف يفهم من المثال المتقدم ما ذكرناه.

وفي الآية الكريمة قد أخذ الشرط مجيء الفاسق إلاّ انه علل ذلك بإصابة القوم بجهالة ، ومقتضاه كون الشرط يدور مدار العلة ، فيكون الشرط مطلق موارد عدم العلم لانطباق الجهل عليها. ولازم ذلك عدم حجية خبر العادل إذا لم يفد العلم - كما هو المفروض فيما نحن فيه - لأنه مشمول للمنطوق.

وبالجملة : ظهور العلة في العموم يكون موجبا للتصرف في الشرط فلا يثبت المفهوم المدعى.

وبهذا التقريب يندفع ما قد يتوهم من : ان مقتضى مفهوم الشرط عدم حجية خبر العادل ، وهو أخص من العلة فيخصصها كما هو المقرر من جواز تخصيص العام بالمفهوم.

وجه الاندفاع : ما عرفت من ان عموم العلة يستلزم إلغاء المفهوم

ص: 266

بالتصرف في موضوعه وهو الشرط ، فلا ثبوت للمفهوم بملاحظة العلة ، فلا تصل النوبة إلى التخصيص.

نعم لو كانت العلة في كلام منفصل أمكنت الدعوى المزبورة. ولكن الأمر ليس كذلك إذ العلة متصلة بالكلام.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه نذكر وجهين منها لكونها المهم منها :

الوجه الأول : ان المراد بالجهالة ليس الجهل وعدم العلم ، بل السفاهة وعدم كون العمل عقلائيا ومما يجري عليه العقلاء في أمورهم.

وعليه ، فلا تعم العلة العمل بخبر العادل ، إذ ليس العمل بخبر العادل سفهيا وغير عقلائي ، فلا يتغير الشرط عن كونه مجيء الفاسق بالنبإ ، فيثبت المفهوم المدعى.

أقول لم يرد في اللغة تفسير الجهالة بالسفاهة. نعم تستعمل عرفا في العمل الصادر عن عدم روية وبصيرة والتثبت الّذي هو من شئون الجهال المتسرعين في أمورهم وغير الجارين فيها مجرى العقلاء من التبصر والتروي في الأمور ، فهي تستعمل بما يلازم السفاهة - ويعبر بالفارسية : « كار جاهلانه » ويقابله : « كار عاقلانه » -.

ومما يشهد لإرادة هذا المعنى من الجهالة في الآية الكريمة دون مطلق عدم العلم ، هو : ان اقدام المسلمين على محاربة من أخبر الوليد ( لعنه اللّه ) بكفرهم لم يكن مع الترديد والتشكيك في ردتهم وإلاّ لتوقفوا في حربهم ، بل كانوا واثقين من ذلك بسبب اخبار الوليد ( لعنه اللّه ) ، بسبب غفلتهم وبساطتهم بحيث كانوا يصدقون كل أحد بمجرد كونه مسلما أو نحو ذلك ، ففي الآية تنبيه على هذا المعنى وانه ينبغي التروي والتبصر في الأمور وعدم الإقدام على ما لا ينبغي ان يقدم عليه العقلاء في أمورهم ، وهو الاعتماد على خبر الفاسق المتهم بالكذب في اخباره.

ص: 267

ومن الواضح ان الاعتماد على خبر العادل غير المتهم بالكذب في الإقدام على عمل لا يعد عملا بلا ترو وتبصر ، بل عملا عقلائيا جاريا على موازين العقلاء في أمورهم وشئونهم ، فلا يعمه عموم التعليل.

هذا ، ولكن ينبغي لتتميم ذلك من إحراز عمل العقلاء بما هم عقلاء بخبر العادل وحجيته لديهم ، فتكون الآية متكفلة لإمضاء هذا الحكم ، ولا تكون متكفلة لبيان حجيته بالتأسيس في قبال ما يدل على حجيته من غيرها.

وإلاّ فلو لم يثبت عمل العقلاء بخبر العادل ، فكيف نحرز ان العمل به جاريا على طبق الموازين العقلائية كي لا يشمله عموم التعليل.

والوجه الآخر : ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من حكومة المفهوم على عموم العلة. ببيان : ان غاية ما يدل عليه التعليل هو لزوم التبين عن غير العلم ، ولا يتعرض إلى بيان ما هو علم وما هو غير علم ، إذ الحكم لا يتعرض إلى إثبات موضوعه بنحو من الأنحاء ، بل هو ثابت على تقدير موضوعه ، والمفهوم بما انه يتكفل حجية خبر العادل وبما ان الحجية ترجع إلى جعل الطريقية والوسطية في الإثبات فهو يتكفل بيان ان خبر العادل علم فيخرجه عن موضوع التعليل فيتقدم عليه لحكومته عليه لكونه متصرفا في موضوعه. ولا يمكن ان يتقدم العموم على المفهوم إلاّ بنحو دوري كما لا يخفى.

وبالجملة : لا تنافي بين مفاد المفهوم ومفاد التعليل ، ويكون العمل على المفهوم لكونه حاكما على التعليل (1).

وهذا الجواب مردود : لأن لم يدع تقديم عموم العلة على المفهوم من جهة تنافي الدليلين وأقوائية ظهور عموم العلة أو قرينيته - نظير قول القائل : « رأيت أسدا يرمي » ، فان ظهور أسد في الحيوان المفترس ينافي ظهور الرمي في رمي

ص: 268


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 172 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

النبل ، ويقدم ظهور يرمي للقرينية - ، حتى يقال انه لا تنافي بين المفهوم والعموم ، لأن المفهوم يرفع موضوع التعليل والتعليل لا يتعرض لا ثبات موضوعه ، فيكون المفهوم حاكما على عموم التعليل. بل المدعى ان العلة تقتضي التصرف في المعلل عموما وخصوصا بالظهور العرفي للكلام ، فلا تنافي بين ثبوت الحكم لمطلق الرمان ولمطلق الحامض في قول القائل : « لا تأكل الرمان لأنه حامض » ، إلاّ ان التعليل يوجب قصر الحكم على الرمان الحامض ، لأجل ان العرف يفهم ان الحكم يدور مدار العلة ، فالتصرف في ظهور « الرمان » ليس من جهة التنافي بين الظهورين ، بل من جهة فهم العرف ان موضوع الحكم هو العلة لا غير.

وعليه ، فعموم التعليل يوجب التصرف في الشرط الّذي هو موضوع المفهوم ، كما ان المفهوم في حد نفسه يوجب التصرف في عموم التعليل وإخراج خبر العادل عن موضوعه ، فيكون كل من المفهوم والتعليل رافعا لموضوع الآخر فيتحقق التحاكم بينهما. ومقتضى ذلك تحقق التساقط بينهما وعدم الأخذ بأيهما والنتيجة تكون مع إنكار المفهوم.

ونتيجة ما ذكرناه هو : عدم ثبوت المفهوم للآية الكريمة في نفسه ومن جهة القرينة الخاصة على عدمه في المقام.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر انه لو التزم بان الشرط في الآية سيق لبيان تحقق الموضوع أمكن ان يقال بالمفهوم هاهنا وعدم وجوب التبين عن غير خبر الفاسق (1).

ووجّهه المحقق الأصفهاني بما ملخصه : ان أداة الشرط لما كانت تفيد الحصر لم يختلف الحال بين ان يكون مدخولها شرطا أو موضوعا ، فكما تفيد حصر الشرط بمدخولها لو كان شرطا فكذلك تفيد حصر الموضوع به لو كان

ص: 269


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /296- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

موضوعا ، ولازم ذلك عدم ثبوت الحكم لغير مدخولها ولو كان موضوعا (1).

ولكن لا يخفى ان أساس هذا الوجه ، وهو دلالة الأداة على الحصر هو محل إشكال ، بل منع كما تقدم ، ولعله لذلك لم يجزم به صاحب الكفاية وانما ذكره بعنوان ما يمكن ان يقال. فلاحظ.

ثم انه على تقدير دلالة الآية على حجية خبر العادل ، قد يستشكل في شمولها للخبر عن الإمام علیه السلام بواسطة أو وسائط كالأخبار المتداولة بيننا ، فانها أخبار عن الحكم الصادر عن الإمام علیه السلام بوسائط عديدة.

والإشكال فيها من وجوه :

الإشكال الأول : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه وغيره من : ان الخبر الأخير المتصل بنا حين يخبر عن اخبار غيره المخبر عن اخبار غيره وهكذا حتى يصل إلى الاخبار عن الحكم الشرعي الصادر من المعصوم علیه السلام انما يكون حجة في مفاده ، وهو خبر غيره بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المخبر به لأن المخبر به بنفسه ليس حكما مجعولا بل امرا خارجيا. فمرجع الأمر تصديقه وحجيته إلى وجوب ترتيب الأثر على المخبر به وهو خبر غيره. ومن الواضح انه لا أثر للمخبر به غير نفس وجوب التصديق والحجية ، فيلزم اتحاد الحكم والموضوع بعبارة ، وأخذ الحكم في موضوعه بعبارة أخرى. فان الأثر المأخوذ موضوعا لوجوب ترتيب الأثر هو نفس هذا الوجوب لا غيره. وذلك خلف واضح (2).

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية : بان الملحوظ في الموضوع طبيعي الأثر بنحو القضية الطبيعية ، وليس الملحوظ هو شخص هذا الأثر - أعني وجوب

ص: 270


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 77 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /75- الطبعة الأولى.

تصديق العادل -.

وعليه ، فيختلف الحكم عن الموضوع ، إذ وجوب التصديق بلحاظ طبيعي الأثر لا بلحاظ نفسه فلا اتحاد (1).

ولا يخفى ان هذا الكلام بظاهره واضح الإشكال ، فان القضية الطبيعية ما كان الحكم فيها واردا على نفس الطبيعة بما هي بملاحظة تجردها عن الوجود الخارجي بحيث لا يسرى المحمول إلى الخارج ، كالنوعية في مثل : « الإنسان نوع ». وقضايا الأحكام ليست كذلك ، إذ هي ترتبط بالماهية بلحاظ وجودها الخارجي ، والحكم يعرض على الموضوع الموجود في الخارج.

وقد يوجه كلامه قدس سره : بأنه ليس مراده ملاحظة الطبيعة بما هي في قبال ملاحظة الطبيعة الموجودة في الخارج ، بل مراده ملاحظة الطبيعة السارية في الوجودات الخارجية المتفردة ، ولكن بلا لحاظ خصوصيات الافراد في الموضوع ، إذ للطبيعة وجود في ضمن كل فرد هو الجامع بين الافراد. فالملحوظ هو ذات الطبيعة الموجودة في ضمن كل فرد في قبال ملاحظة الخصوصيات المفردة.

وإذا أخذت الطبيعة بهذا النحو في موضوع الحكم بوجوب التصديق ووجوب ترتيب الأثر تعدد الموضوع والحكم ولم يؤخذ الحكم في موضوع نفسه ، وترتيب نفس وجوب التصديق من باب انطباق طبيعي الأثر عليه ، وهو بحكم العقل ، لا من باب أخذه بنفسه في موضوع الحكم.

هذا غاية ما يبين به كلام صاحب الكفاية ويستفاد بعضه من كلام المحقق الأصفهاني رحمه اللّه (2).

وتحقيق الكلام في المقام بنحو يتضح به الحال في كلمات الاعلام ( قدس

ص: 271


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /297- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 78 - الطبعة الأولى.

سرهم ) ، هو بان يقال : ان للحكم الثابت بنحو القضية الحقيقية مقامين : مقام الجعل ومقام الفعلية.

اما مقام الجعل ، فهو ليس إلاّ إنشاء الحكم على تقدير وجود الموضوع ، فليس في ذلك المقام حكم حقيقي ، بل مرجعه إلى بيان الملازمة بين ثبوت الحكم حقيقة وثبوت الموضوع.

ولذا لا يعتبر وجود الموضوع في هذا المقام ، فلا حكم ولا موضوع بلحاظ هذا المقام ، بل ليس هناك إلاّ الملازمة بين الحكم والموضوع.

واما مقام الفعلية ، وهو مقام ثبوت الحكم حقيقة ، وذلك انما يكون عند تحقق الموضوع خارجا ، فيثبت له الحكم ، فثبوت الحكم لموضوعه هو مقام فعليته.

وعليه فنقول : إشكال اتحاد الحكم والموضوع في خبر الواسطة ، انما يتأتى بلحاظ هذا المقام ، لأنه مقام وجود الحكم والموضوع لا مقام الجعل ، إذ لا وجود للحكم فيه كما عرفت. فيقال ان حجية خبر الحر عن خبر الصدوق انما هي بلحاظ ما يترتب على خبر الصدوق من أثر ، ولا أثر له الا نفس الحجية ، فيتحد الحكم والموضوع على جميع المباني في معنى الحجية كما لا يخفى ، فيكون المجعول هو الطريقية إلى نفس هذه الطريقية أو المنجزية إلى نفس هذه المنجزية أو الحجية على نفس هذه الحجية أو الحكم المماثل لنفسه. وكله محال بلا إشكال.

ولكن جواب هذا الإشكال واضح جدا ، بحيث نستطيع ان نقول انه لا إشكال بملاحظة هذا المقام ، وذلك لأن الحكم المجعول - وهو الحجية - وان كانت بإنشاء واحد ، إلاّ انها تنحل إلى أحكام متعددة بتعدد الاخبار.

وعليه ، فما يترتب على خبر الصدوق غير ما يترتب على خبر الحر ، لأنه فرد من الحجية غير الفرد المترتب على الخبر الآخر ، فلا يتحد الموضوع والحكم ، بل فرد من المنجزية ينجز فردا آخر منها ، وفرد من الطريقية يكون إلى فرد آخر منها وهكذا.

ص: 272

ودعوى الانحلال بديهية لا تحتاج إلى بيان ، إذ لا يتوهم أحد ان الحجية المجعولة حكم واحد ثابت لجميع الاخبار العرضية والطولية ، بل كل خبر له فرد من الحجية غير ما للخبر الآخر.

وإذا كانت دعوى الانحلال بهذا الوضوح ، واندفاع الإشكال بها كذلك من الوضوح بمكان ، أمكننا ان نقول : انه لا إشكال بملاحظة هذا المقام ، وذكر القوم له وتصديهم لدفعه بالوجوه المختلفة تطويل بلا طائل.

واما جواب صاحب الكفاية عن هذا الإشكال فهو لا يغني ولا يسمن من جوع.

وذلك لما عرفت من ان الحكم الفعلي انما يترتب عند وجود موضوعه ، فالملحوظ في الحكم الفعلي هو وجود الموضوع وواقعة لا مفهومه.

وعليه ، فنقول : اما ان يؤخذ طبيعي الأثر بنحو يشمل الحجية ، أو بنحو لا يشملها ، أو مهملا.

اما الإهمال ، فهو ممتنع ثبوتا كما تقرر مرارا.

واما أخذه بنحو لا يشمل الحجية ، فلازمه عدم ثبوت الحكم إذا كان الأثر هو الحجية ، إذ هو خارج عن دائرة الموضوع ، فكيف ينطبق عليه الموضوع عقلا؟.

واما أخذه بنحو يشملها ، فيكون الحكم مترتبا عند ترتبها ، كما هو الحال في كل حكم وموضوعه ، ولازم ذلك اتحاد الحكم والموضوع في مثل ما نحن فيه كما عرفت.

وعلى كل حال فالذي يهون الخطب انه لا إشكال بحسب هذا المقام أعني - مقام الفعلية - إلاّ بحسب الصورة ، وانما الإشكال في مقام الجعل بملاحظة مقام الإثبات لا الثبوت.

بيان ذلك : ان الحجية وان كانت انحلالية لبا وثبوتا ، لكنها تفاد في مقام

ص: 273

الاستعمال بمفهوم واحد جامع بين الافراد ، فالملحوظ في مقام الاستعمال امر واحد حاك عن جميع الافراد ومشير إليها بالإشارة الإجمالية ، وبيان جميع افراد الحجية المترتبة على افراد الخبر تكون بواسطة هذا المفهوم الجامع الملحوظ بلحاظ واحد. فحجية خبر زرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وغيرهم كلها بدليل واحد وبلحاظ واحد.

وعليه ، فإذا فرض ان حجية خبر الحر عن خبر الصدوق تجعل بملاحظة حجية خبر الصدوق ، فلا بد من ملاحظة حجية خبر الصدوق في مرحلة سابقة عن حجية خبر الحر لأنها بمنزلة الموضوع ، وهو يلحظ في مرحلة سابقة على الحكم في مرحلة الجعل.

وهما وان تعددا ثبوتا لكن دليلهما واحد ، كما عرفت ، فالحجية الثابتة لخبر الحر عن الحجية الثابتة لخبر الصدوق في مقام الاستعمال واللحاظ.

وعليه ، فيلزم ملاحظة الحجية في مقام الاستعمال في مرحلة سابقة على نفسها ، وهو خلف.

فواقع الإشكال : هو ان بيان كلتا الحجتين بمفهوم واحد يستلزم ملاحظة الحجية في مرحلة سابقة على نفسها وهو محال. نعم ، لو أنشئتا بإنشاءين ارتفع المحذور كما لا يخفى.

ولا يخفى ان العمدة في الإشكال هو ما ذكرناه ، وهو لا يرتبط باتحاد الحكم والموضوع ، إذ لا حكم حقيقة ولا موضوع هاهنا ، وانما هو يرتبط بمقام الاستعمال وهو مقام الإثبات لا الثبوت.

والتخلص عن هذا الإشكال يكون بالالتزام بان الموضوع الملحوظ في مقام الإثبات ليس هو خصوص الحجية كي يلزم لحاظ الشيء في مرحلة سابقة على نفسه ، بل هو طبيعي الأثر بلا ملاحظة خصوصيات افراده ، بل هو يشير إليها إجمالا - كما صور ذلك في مثل الوضع العام والموضوع له الخاصّ -. وهذا المقدار

ص: 274

من التغاير - أعني التغاير بين الطبيعي وفرده - يكفي في رفع المحذور الإثباتي ، إذ الطبيعي غير الفرد ، فملاحظته في مرحلة سابقة على الفرد لا تستلزم ملاحظة الشيء في مرحلة سابقة على نفسه كما يتحقق التخلص عنه بالالتزام بالتغاير بنحو الإجمال ، والتفصيل ، نظير ملاحظة الجزء بنفسه وملاحظته في ضمن المركب المشتمل عليه ، فان ملاحظة الكل ملاحظة للجزء إجمالا. فيقال : ان الحجية الملحوظة في طرف الموضوع ملحوظة بنحو الإجمال من طريق ملاحظة طبيعي الأثر ، وذلك بملاحظة ان نسبة الطبيعي لافراده نسبة الكل إلى اجزائه.

وبالجملة : بأحد هذين الطريقين يرتفع محذور ملاحظة الشيء في مرحلة سابقة على نفسه للتغاير بين الموضوع والحكم إثباتا فلاحظ وتدبر.

الإشكال الثاني : هو ان موضوع الحجية هو الخبر ، ومن الواضح ان ثبوت خبرية خبر الصدوق الّذي يخبر عنه الحر انما هو بنفس الحجية ووجوب التصديق ، فيمتنع ان يثبت له الحجية ، إذ يلزم إثبات الحكم لموضوعه ، وهو محال لأن الحكم يتفرع على موضوعه فيستحيل ان يتكفل إثباته.

وهذا الإشكال وسابقه يشتركان في جهة ويختلفان في جهة ، فيشتركان في انهما يتأتيان معا بالنسبة إلى الاخبار المتوسطة بين الخبر الواصل إلينا والخبر المتصل بالإمام علیه السلام . ويختلفان في ان الأول يتأتى في الخبر الواصل إلينا كما عرفت ، ولا يتأتى في الخبر المتصل بالمعصوم علیه السلام ، لأن المخبر به فيه هو الحكم الشرعي غير الحجية فيصح التعبد به بلحاظه ، وفي ان الثاني لا يتأتى في الخبر الواصل إلينا لأنه وأصل إلينا وجدانا لا بواسطة الحجية ، ويتأتى في الخبر الأخير المتصل بالمعصوم علیه السلام لأن خبريته بنفس الحكم بالحجية فلو كان حكمه هو الحجية لزم إثبات الحكم لموضوعه وهو محال.

والجواب عن هذا الوجه من الإشكال بأمرين :

أحدهما : ان كل خبر له فرد من الحكم غير ما لغيره ، على ما عرفت

ص: 275

سابقا من انحلال الحكم بالحجية إلى افراد بعدد افراد الخبر.

وعليه ، فلا يكون الحكم متكفلا لإثبات موضوعه ، بل يكون فرد من الحكم متكفلا لإثبات موضوع فرد آخر وهو ليس بمحال.

والآخر : ان الموضوع للحكم بالحجية هو الخبر بوجوده الواقعي كسائر الموضوعات لا بوجوده التعبدي ، فالحجية متفرعة عن الوجود الواقعي للخبر ، فلا مانع من ان تتكفل إثبات الوجود التعبدي له.

وقد يشكل : بأنه قد تقدم ان الحجية تتقوم بالوصول والإحراز ، ولذا كان الشك فيها مساوقا للقطع بعدمها.

وإذا كانت كذلك فليس موضوعها الخبر بوجوده الواقعي ، بل بوجوده الواصل ، فيكون إثبات الحجية للخبر تعبدا من إثبات الحكم لموضوعه.

ولا يخفى انه على هذا لا ينفع الوجه الأول من الجواب ، وهو المبتني على دعوى الانحلال ، وذلك لأن الحكم وان لم يثبت موضوعه بل موضوع غيره ، إلاّ انه إذا كان الموضوع هو الخبر بقيد الوصول ، ولم يكن ذات الخبر موضوعا ، لحكم لم يصح التعبد به بذاته لعدم ترتب الأثر عليه لأنه جزء الموضوع ، فيتوقف التعبد به على فرض أثر له بالاستقلال ، ومع غض النّظر عن التعبد كي يكون التعبد به بلحاظه ، ثم يترتب الحكم بالحجية على المجموع. والمفروض انه لا أثر يترتب عليه سوى الحجية التي فرض ترتبها عليه بقيد الوصول.

والجواب عن هذا الإشكال : ما عرفته في مبحث تأسيس الأصل بالنسبة إلى الحجية ، من ان الحجية لا تتقوم بالوصول والإحراز ولو كان تعبديا ، بل تتقوم بكونها في معرض الوصول. فقد عرفت كفايته في ثبوت الحجية والمنجزية ، ولا يكون الشك والحال هذه مساوقا للجزم بعدمها. وإذا كان الأمر كذلك ، فموصوف الحجية هاهنا في معرض الوصول ولو تعبدا ، فلا يكون التعبد بموضوعها قواما لها. فلاحظ جيدا وتدبر.

ص: 276

الإشكال الثالث : هو ان التعبد لا بد وان يكون بلحاظ الأثر العملي للمتعبد به وإلاّ كان لغوا فلو فرض تصحيح التعبد بخبر الواحد عن خبر الصدوق بلحاظ ما يترتب على خبر الصدوق من أثر شرعي وهو الحجية ، لم ينفع ذلك ما لم يترتب على الحجية أثر عملي وهو غير موجود ، إذ لا أثر عملي يترتب على حجية خبر الصدوق.

نعم الأثر العملي يترتب على حجية الخبر المتصل بالإمام علیه السلام لتكفله حكما شرعيا عمليا.

والجواب عن هذا الإشكال : بان وجوب التصديق تارة يتعلق بالتصديق الجناني ، وأخرى بالعملي. في غير محله ، إذ ليس في أدلة الحجية حكم بوجوب التصديق وانما المجعول هو الحجية بمعانيها المختلفة.

نعم ، يشار بهذا العنوان - أعني وجوب التصديق - إلى حجية خبر الواحد ، لا انه هو المجعول في هذا المقام.

فالصحيح ان يقال : ان الأثر العملي ليس مقوما للجعل بحيث لا يمكن عقلا تحققه بدونه ، بل هو معتبر من باب خروج التعبد عن اللغوية القبيح في حق الحكيم.

وعليه ، فيصح التعبد بمجرد فرض جهة تترتب عليه تخرجه عن كونه لغوا.

وما نحن فيه كذلك ، فانه وان لم يترتب على حجية كل خبر من اخبار الوسائط أثر عملي له خاصة ، إلاّ ان جعل الحجية لهذه الاخبار يكون دخيلا في ثبوتها للخبر المتصل بالإمام علیه السلام الّذي عرفت انها ذات أثر عملي ، إذ لو لا حجية اخبار الوسائط لم تصل النوبة إلى الخبر المتصل بالإمام علیه السلام لعدم وصوله إلينا وجدانا كي تترتب عليه الحجية مع غض النّظر عن الواسطة.

ص: 277

وهذا المقدار من التأثير يكفي في عدم كون جعل الحجية لكل خبر لغوا فحجية الاخبار الوسائط تكون دخيلة في ثبوت قول الإمام علیه السلام الّذي يترتب عليه الأثر العملي. فلاحظ وتدبر.

ومنها آية النفر ، وهي قوله تعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

وقد قربت دلالتها على حجية الخبر بوجوه عديدة :

الأول : ان كلمة : « لعل » لا يمكن ان يراد بها الترجي الحقيقي لاستحالته على اللّه سبحانه ، فيراد بها الدلالة على محبوبية العمل ، وعليه فالآية تدل على محبوبية الحذر ، وهو ملازم لوجوبه شرعا لعدم الفصل ، فان كل من قال بمحبوبيته قال بوجوبه. وعقلا لأنه اما ان يكون هناك مقتض للعقاب أو لا ، فان كان مقتضى للعقاب وجب الحذر وإلاّ لم يحسن أصلا.

وهذا التقريب مشترك بين من يذهب إلى ان : « لعل » موضوعة للترجي الحقيقي ، وقد أريد بها هنا المحبوبية مجازا كما هو ظاهر الشيخ (2). وبين من يذهب إلى انها موضوعة للترجي الإيقاعي الإنشائي ، والاختلاف في مرحلة الداعي ، وهو هاهنا ليس الترجي حقيقة وانما مجرد المحبوبية ، فاستعمالها هاهنا يكون حقيقيا لعدم استحالة الترجي الإيقاعي في حقه تعالى ، كما هو ظاهر الكفاية (3).

الثاني : ان الإنذار واجب بظاهر الآية الشريفة ، لأنه غاية للنفر الواجب بالآية بمقتضى أداة التخصيص ، وإذا لم يجب التحذر عند الإنذار كان وجوبه لغوا.

ص: 278


1- سورة التوبة ، الآية : 122.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 78 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /298- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثالث : ان التحذر قد جعل غاية للإنذار في الآية الكريمة ، وهو واجب ، وغاية الواجب واجبة ، فيكون التحذر واجبا.

وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها الشيخ وصاحب الكفاية. واستشكل فيها صاحب الكفاية متفقا مع الشيخ في بعض مناقشاته :

اما الأول : فاستشكل فيه بما يحتمل وجهين :

أحدهما : ان التحذر عبارة عن الخوف النفسانيّ ، وهو لا ينحصر متعلقه بالعقاب ، بل يمكن ان يكون الخوف من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، ومحبوبية الثاني لا تستلزم وجوبه كما يشهد لذلك موارد حسن الاحتياط وعدم وجوبه.

وبالجملة : لم يبين في الآية متعلق الحذر ، واحتمال إرادة الثاني يكفي في إبطال الدليل.

والآخر : ان المراد بالتحذر التحذر العملي الخارجي ، بمعنى ان يعمل عملا كعمل المتحذر عن العقاب ، وهذا لا يلازم احتمال العقاب كي يدعى وجوبه ، ومن الواضح ان إرادة التحذر بالعملي بالمعنى الّذي عرفته ومحبوبيته لا تستلزم وجوبه كما في موارد حسن الاحتياط غير الواجب ، فانه عمل كعمل المتحذر عن العقاب مع انه غير واجب.

اذن فلا دليل على وجوب التحذر هاهنا ، إذ لا دليل على ان التحذر من العقاب ، أو لا دليل على ان المراد به الخوف النفسانيّ وإذا لم يثبت وجوبه لم يكن دليلا على حجية الإنذار.

واما الثاني : فاستشكل فيه بأنه لا تنحصر فائدة الإنذار بوجوب التحذر تعبدا ولو لم يحصل العلم ، بل يمكن ان تكون فائدته هو حصول التحذر عند حصول العلم بالمنذر به.

واما الثالث : فاستشكل فيه بأنه لا إطلاق يقتضي وجوب التعذر مطلقا

ص: 279

سواء حصل العلم أو لا ، إذ ليس المتكلم في مقام بيان غايتية الحذر كي يتمسك بإطلاق الكلام من هذه الجهة ، بل في مقام بيان وجوب النفر ، فلا ينفع في إثبات الإطلاق في الغاية إذ انعقاد مقدمات الإطلاق من جهة لا ينفع في إثباته من جهة أخرى ، فمن المحتمل ان تكون الغاية هو الحذر عند حصول العلم. هذا مع وجود القرينة على التقييد بحصول العلم ، إذ الإنذار المطلوب هو الإنذار بأمور الدين التي تفقه فيها وتعلمها بواسطة النفر ، وهذا هو موضوع وجوب التحذر ، فان شك في انه صادق في خبره أو لا ، شك في كون اخباره عن أمور الدين أو لا ، ومعه يشك في ثبوت موضوع وجوب الحذر ، فلا يمكن الحكم بوجوبه ، لأنه تمسك بالعموم في الشبهة المصداقية. فتدبر (1).

هذه هي مؤاخذات صاحب الكفاية لهذه الوجوه ، وسنعود إلى تحقيق الحال فيها بعد قليل فانتظر.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني قدس سره وجوها ثلاثة أخرى لتقريب دلالة الآية على حجية إنذار كل منذر.

وقبل ذكرها نشير إلى ما حققه قدس سره في معنى : « لعل » ، فقد توقف في كون معنى : « لعل » ، هو الترجي أو كون مدخولها واقعا موقع الرجاء - بتعبير أصح : لأنها أداة ليست موضوعة لمفهوم الترجي - ، إذ هي تستعمل في موارد لا تتناسب مع إرادة الرجاء الّذي هو عبارة عن توقع المحبوب ، بل تتناسب مع إرادة الخوف من مكروه متوقع ، كما في قول الإمام علیه السلام في دعائه : « لعلك وجدتني في مقام الكاذبين » ، وكقول القائل : « لعل زيدا يموت غدا » في مقام بيان احتمال موته المكروه لا في مقام تمنيه. وغير ذلك.

ولأجل ذلك فالأنسب : ان يقال انها موضوعة لإفادة وقوع مدخولها مع

ص: 280


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /299- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

احتمال أعم من صورتي الرجاء والخوف ، وسواء كان مدخولها مكروها أو محبوبا - ويكون مرادفها في الفارسية « شايد » -. وهذه الدعوى لا بأس بالالتزام بها (1) ، وقد أشار إليها المحقق العراقي أيضا (2).

هذا ولكنه لا يوجب الاختلاف في تقريب دلالة الآية على المدعى بالوجه الأول المتقدم.

وذلك ، لأنه كما يمتنع الترجي من اللّه سبحانه لاستلزامه الجهل والعجز ، كذلك يمتنع منه تعالى الاحتمال لملازمته للجهل تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا ، فلا بد من صرف : « لعل » عن هذا المعنى وحملها على إبداء المحبوبية أيضا ، لمناسبة ان وقوع المدخول موقع التوقع واحتمال الوقوع يتلاءم هاهنا مع محبوبيته ، إذ ليس المورد من الموارد المكروهة قطعا ، فحملها على إرادة بيان المحبوبية بنظير ما يقال في تقريب دلالة الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب على الوجوب.

وإذا ثبت إرادة بيان المحبوبية عاد التقريب السابق. فتدبر.

ثم انه قد أشرنا إلى ان المحقق الأصفهاني قرب دلالة الآية الشريفة ، بوجوه ثلاثة آخر وهي :

الأول : ان كلمة « لعل » تفيد ان مدخولها واقع موقع الاحتمال.

وعليه ، فمفاد الآية يكون احتمال تحقق الحذر عند الإنذار ، ومن الواضح ان هذا ملازم لحجية الإنذار ، إذ لو لم يكن الإنذار حجة كان العقاب مقطوع العدم بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا معنى لاحتمال الحذر لأنه متفرع عن الخوف من العقاب ، ولا خوف من العقاب مع عدم كون الإنذار حجة للبراءة العقلية.

الثاني : ان الإنذار لا يتحقق إلاّ مع التخويف ومن الواضح ان إبلاغ

ص: 281


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 85 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 126 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المنذرين لو لم يكن حجة لم يصدق عليه الإنذار لعدم تحقق التخويف به ، إذ لا يترتب الخوف عليه ، فنفس إيجاب الإنذار كاشف عن حجية إبلاغهم حتى يصدق التخويف والإنذار ، وإلاّ لم يصدق الإنذار أصلا.

الثالث : انه من الواضح ان الإنذار واجب على كل فرد متفقه بنحو العموم الاستغراقي والمفروض ان الإنذار واجب مقدمي لتحقق الحذر الواجب. ومقتضى إطلاقه انه يجب الإنذار سواء أفاد العلم أم لم يفد.

وبضميمة ما تقرر في محله من تبعية الوجوب المقدمي لوجوب ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط ، يستكشف ان وجوب ذي المقدمة هاهنا - وهو الحذر - مطلق من جهة حصول العلم وعدمه ، لإطلاق وجوب المقدمة غير المنفك عن إطلاق وجوب ذيها بقاعدة التبعية.

ولم يرتض قدس سره الوجه الأخير إذ الإشكال فيه واضح كما بينه قدس سره ، فان ما ذكر من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها الناشئ عن ترشح وجوب المقدمة عن وجوب ذيها انما يتأتى فيما كان فاعل المقدمة نفس فاعل ذي المقدمة ، إذ الترشح يتصور في هذا النحو. اما مثل ما نحن فيه من فرض كون المقدمة فعل غير فاعل ذي المقدمة ، فان الإنذار من شخص والتحذر من شخص آخر ، فلا معنى لأن يكون وجوب أحد الفعلين مترشحا عن وجوب الآخر ، ولا يتأتى فيه حديث التبعية المزبور ، فهذا الوجه واضح البطلان (1).

والّذي يظهر من كلامه بناؤه على الوجهين الأولين.

ولا يخفى انهما يبتنيان على فرض الحذر النفسيّ من العقاب لا من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، كما احتمله صاحب الكفاية في الآية. وإلاّ لم يتم

ص: 282


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 88 - الطبعة الأولى.

الوجهان كما لا يخفى.

ولكن الظاهر كما ذكره قدس سره كون الآية في مقام التحذير من العقاب لا من فوات المصلحة ، إذ لم يكن يرد هذا المعنى في أذهان العامة في الصدر الأول ، إذ الالتفات إلى وجود المصالح كان متأخرا عن ذلك الزمان.

هذا ولكن الوجهين مخدوشان :

اما الثاني : فلان مقتضى التدقيق العقلي في معنى الإنذار هو ما ذكره من عدم صدقه في مورد لا يتحقق فيه الخوف ، ولكن المعنى العرفي والمفهوم العرفي له ليس ذلك ، بل يصدق الإنذار ولو لم يتحقق الخوف ، بل ولو علم المنذر انه لا يتحقق الخوف لديهم كما يشهد بذلك موارد الاستعمالات العرفية كما في موارد استعمال الإنذار في إنذار الكفار الذين لم يكونوا يبالون بكلام الرسل ( عليهم الصلاة والسلام ). وكما في قولك : « أنذرته فلم ينفع » أو « أنذرته وأنا أعلم انه لا ينفع فيه الإنذار » ، ولعل السر في ذلك هو كون الإنذار عبارة عن التنبيه وبيان تحقق ما هو مكروه على فعل المنذر ، أو عبارة عن الكون في مقام التخويف والتهديد لا عبارة عن التهديد والتخويف الفعلي.

واما الأول : فلان احتمال تحقق الحذر لا يلازم حجية الإنذار ، إذ لا مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان على تقدير عدم حجية الإنذار ، إذ يكون المورد من موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص والاحتياط فيها لازم بلا كلام ، فيترتب الحذر على الإنذار لإيجاده احتمال التكليف بالنسبة إليهم فيلزمهم الحذر لقاعدة دفع الضرر المحتمل ، ولا يلازم ذلك حجية إنذارهم.

ومن هنا تعرف : انه يمكن ان يخدش في الوجه الثاني ، ولو فرض ان الإنذار هو التخويف الفعلي ، إذ يتحقق الخوف من العقاب فعلا عند تحقق الإنذار ولو لم يكن الإنذار حجة ، لاندراج المورد في موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص ، فلا يتوقف صدق الإنذار على حجية الإبلاغ.

ص: 283

وجملة القول : ان ما أفاده قدس سره في توجيه حجية الإنذار لا يمكننا الالتزام به.

فالعمدة في تقريب استفادة حجية الإنذار من الآية الكريمة ، هو ما قيل من : ان المفروض كون التحذر غاية للإنذار بضميمة مقدمتين أخريين :

إحداهما : كون وجوب الإنذار ثابتا في حق كل متفقه بنحو العموم الاستغراقي.

والثانية : ثبوته بالنسبة إلى كل فرد مطلقا سواء أفاد العلم أم لم يفده.

فإذا تمت هاتان المقدمتان ، وضمت إليها المقدمة الأخيرة وهي انحصار فائدة الإنذار في التحذر ، ثبت وجوب التحذر عند تحقق الإنذار ولو لم يفد العلم ، وإلاّ لكان الإنذار لغوا.

فالدليل مؤلف من مقدمات ثلاث ، ونتيجته ثبوت وجوب التحذر بقول مطلق ولو لم يفد الإنذار العلم.

والمقدمة الأولى لا مناقشة لنا فيها. وان ادعى إرادة العموم المجموعي من الآية الكريمة ، لكنه خلاف ما حقق من ان ظاهر العموم الأولي هو العموم الاستغراقي.

والمهم هو الكلام في المقدمة الثالثة ، ومنه يظهر الحال في المقدمة الثانية.

وقد وقع الكلام في ان الفائدة والغاية من وجوب الإنذار المطلق هل هو التحذر نفسه كي يتم الدليل. أو هو ظهور الحق وإيضاح الواقع والدين ، ليترتب عليه التحذر ، وهو يتحقق بإنذار عدة بحيث يكون إنذار كل منهم جزء للمؤثر؟. وقد أشار إلى هذا الاحتمال صاحب الكفاية ، وبه يبطل الاستدلال ، إذ يخرج وجوب الإنذار عن اللغوية ولو لم يكن حجة لترتب أثر تكويني مرغوب عليه (1).

ص: 284


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /299- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن قد يناقش هذا الاحتمال : بأنه ليس له في الآية عين ولا أثر وانما رتب التحذر على الإنذار مباشرة.

وهنا احتمال ثالث وهو كون الغاية والفائدة من وجوب الإنذار هو الاعداد للتحذر لا نفس التحذر الفعلي.

وهذا ظاهر في عدم حجية الإنذار ولو لم يفد العلم ، بل لا يجب التحذر الا عند حصول العلم ، وتكون فائدة إنذار كل منذر دخالته في حصول العلم.

وهذا الاحتمال نستطيع ان تجزم به من ظاهر الآية الكريمة. وذلك إذ لم يرتب نفس الحذر على وجوب الإنذار بل رتب احتمال الحذر ، إذ لم يقل : ( ليحذروا ) بل قيل : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) وقد عرفت ان ظاهر : « لعل » كون مدخولها واقعا موقع الاحتمال. وهذا لا يتناسب الا مع فرض الاعداد للتحذر هو الغاية والفائدة من إنذار كل منذر ، ليتحقق الحذر الفعلي عند حصول العلم.

ومثل هذا الاستعمال شايع في الموارد التي يعلم عدم كون الغاية نفس الفعل بل الاعداد له ، كما يقال : « ليبذل كل فرد منكم من ماله شيئا لعلنا نبني هذا المسجد ».

وإذا ظهر ان الغاية هو الاعداد للحذر لم تكن ملازمة لحجية الإنذار ، بل يمكن ان يكون ذلك من باب دخالة كل إنذار في حصول العلم بالمنذر به.

ومن هنا يظهر ان ذلك لا ينافي وجوب الإنذار مطلقا ولو لم يحصل به العلم ، لكونه جزء المؤثر في حصوله. نعم لو علم بعدم حصول العلم بالمنذر به أصلا لعدم إنذار غيره ، لم يجب عليه الإنذار لكونه لغوا ، كما لو علم الشخص ان غيره لا يبذل المال أصلا لبناء المسجد ، فلا يجب عليه بذل ما وجب عليه ، إذ لا يؤثر بذله شيئا.

وبهذا البيان ظهر حال المقدمة الثانية ، وهي التمسك بإطلاق وجوب الإنذار في إثباته ولو لم يحصل به العلم ، إذ عرفت انه تام لو علم انه يحصل العلم

ص: 285

بواسطة انضمام إنذار غيره ، وإلاّ لم يجب عليه لكونه لغوا.

وبالجملة : لا وجه لدلالة الآية الكريمة على حجية إنذار المنذر.

واما ما ذكره في الكفاية في مناقشة إطلاق وجوب التحذر ، وبيان انه مشروط بالعلم ، من ان موضوعه هو الإنذار بما تفقه به ، فمع عدم العلم بكون الإنذار إنذارا بما تفقه به لا يمكن التمسك بإطلاق وجوب التحذر لكون الشك في موضوع الحكم (1).

ففيه ما لا يخفى : فان ما ذكره لا يقتضي إلاّ ان يكون الموضوع الواقعي هو الإنذار بما تفقه به من أمور الدين ، والعلم ليس شرطا للحكم ، بل هو شرط لتنجزه كسائر الأحكام المرتبة على الموضوعات الواقعية ، فالتوقف عن التمسك بالإطلاق ليس من جهة اشتراط الموضوع بالعلم ، بل من جهة الشبهة المصداقية ، وذلك أجنبي عن الاشتراط.

وبالجملة : ما ذكر لا يصلح وجها لما ذكر من اشتراط الموضوع بالعلم. فلاحظ.

ثم انه أشكل على دلالة الآية على حجية الخبر بان : غاية مدلولها هو حجية الإنذار ، وهو يختلف عن الاخبار ، إذ الإنذار هو الاخبار المشتمل على التخويف المتوقف على فهم معنى للكلام كي يخوف به.

وهذا أجنبي عن حجية الخبر ، إذ المراد به حجية نقل ما صدر عن المعصوم علیه السلام ولو لم يكن المخبر ممن يفهم المراد من الألفاظ.

وأجاب عنه في الكفاية : بان الرّواة في الصدر الأول كانوا ممن يفهمون معاني الكلمات الصادرة ، نظير نقلة الفتاوى في هذا العصر.

وعليه ، فيتحقق التخويف والإنذار بإخبارهم ، فيكون خبرهم حجة

ص: 286


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /299- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لصدق الإنذار عليه ، وإذا كان خبرهم حجة مع انضمامه إلى التخويف ، كان حجة أيضا مع عدم انضمامه لعدم الفصل بينهما جزما (1).

أقول هذا الإشكال ذكره الشيخ رحمه اللّه . وهو بالبيان الّذي ذكرناه يندفع بما ذكره صاحب الكفاية ، لكن نظر الشيخ قدس سره إلى جهة أخرى وهي : ان الإنذار فيه جهتان :

إحداهما : جهة التخويف الحاصلة من فهم المعنى واستظهار شيء من كلام المعصوم علیه السلام .

والثانية : جهة نقل الألفاظ الصادرة عن المعصوم علیه السلام (2).

ودليل الحجية انما يتكفل حجية الخبر بلحاظ جهة التخويف المتوقفة على الاستنباط ، ولا يتكفل حجية الخبر من باب انه نقل لألفاظ المعصوم علیه السلام .

ومن الواضح ان دليل الحجية إذا لوحظت فيه جهة التخويف المتوقفة على فهم معنى الكلام ، لم يكن دليلا على حجية الخبر غير المشتمل على هذه الجهة ، بل كان مجرد نقل لما صدر عن الإمام علیه السلام - كما هو الحال في نقلة العصور المتأخرة - لفقدان ملاك الحجية فيه ، فليس الإشكال من باب ان الخبر لا يصدق عليه الإنذار ، كي يقال انه يصدق عليه في بعض الأحيان وبضميمة عدم الفصل تثبت حجية غير المشتمل على التخويف. بل الإشكال من جهة ان ظاهر الآية كون ملاك الحجية هو الاشتمال على جهة الإنذار. فمع فقدانها يفقد ملاك الحجية فكيف يدعى عدم الفصل جزما؟.

ونتيجة القول : ان الآية لا تدل بوجه من الوجوه على حجية خبر العادل.

ص: 287


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /299- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /80- الطبعة الأولى.

ومنها : آية الكتمان ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1) وتقريب الاستدلال بها : ان حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا عند الإظهار للزوم لغوية الحرمة لو لم يثبت وجوب القبول.

وأورد عليه في الكفاية : بمنع الملازمة ، إذ لا تنحصر فائدة حرمة الكتمان بوجوب القبول تعبدا ، بل يمكن ان تكون فائدة حرمة الكتمان وضوح الحق بسبب كثرة من يبينه ويفشيه فيترتب وجوب القبول حينئذ لحصول العلم بالواقع (2).

وقد أورد عليه الشيخ بما أورده على الاستدلال بآية النفر من الوجهين الأولين وهما :

الأول : دعوى إهمال الآية وعدم تعرضها إلى وجوب القبول مطلقا ولو لم يحصل العلم ، فيمكن ان يكون المراد ما هو القدر المتيقن منها ، وهو لزوم القبول عند حصول العلم.

والثاني : دعوى اختصاص وجوب القبول في الأمر الّذي يجب إظهاره ويحرم كتمانه ، وهو الحق والواقع. بتقريب (3) : ان ظاهر الأمر هاهنا وفي أمثاله كون

ص: 288


1- سورة البقرة ، الآية : 159.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /300- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- يختلف ظاهر كلام الكفاية الّذي نقلنا عن كلام الشيخ ، فان ظاهر الكفاية اشتراط الموضوع بالعلم واقعا ، الّذي عرفت الإشكال فيه ، وان العلم شرط التنجز ، اما الشيخ فهو يقصد ان مدلول الآية الكريمة أجنبي عن جعل الحجية ، بل المنطوق فيها حيث كان عمل المكلفين بالواقعيات ، إذ الظاهر من مثل هذا التركيب ذلك ، فإذا قال المولى لشخص : « أخبر فلانا بأوامري لعله يمتثلها » لا يفهم أحد انه في مقام جعل الطريق إلى أحكامه ، بل في مقام إيصال أحكامه بالوصول الواقعي ليعمل بها المكلف ، فمع الشك في ان هذا هو حكمه الواقعي لا يحرز موضوع الحكم ، بالقبول ، فلا يجب لعدم تنجزه عليه. وبالجملة : الآية الشريفة كسائر ما ورد في مقام تبلغ الحقائق للناس لا يقصد به الا وصول الناس للحقائق لا جعل الطريق إلى الحقيقة. ( منه عفي عنه ).

المقصود فيه عمل الناس بالحق ، وليس المقصود به تأسيس حجية قول المظهر تعبدا. وعليه فمع عدم إحراز الواقع لا يحرز موضوع وجوب العمل فلا يثبت وجوب القبول (1).

وقد استشكل فيه في الكفاية : بأنه بعد تسليم الملازمة لا مجال للإيراد عليه بهذين الإيرادين ، إذ دعوى الإهمال أو الاختصاص تنافي الملازمة ، فالمتعين إنكار الملازمة في مقام الرد (2).

أقول : ذكر الشيخ رحمه اللّه هذين الإيرادين في مقام الرد على الاستدلال بآية النفير بالوجوه الثلاثة الأولى التي ذكرناها عن الكفاية.

ومن الواضح انهما يرتبطان بنفي الإطلاق المتخيل ، فهما يرتبطان بالوجه الأول والثالث.

اما الوجه الثاني الراجع إلى الاستدلال على وجوب الحذر بلزوم اللغوية فلا يتمان له بصلة ، إذ هذا الوجه لا يرجع إلى التمسك بالدلالة اللفظية والإطلاق.

ولكن الحق انهما بعنوانهما وان لم يرتبطا به ، إلاّ انه بملاحظة ملاكهما وما ينتهيان إليه يمكن نفي الاستدلال باللغوية لأنهما ينتهيان إلى ان الغاية هي ظهور الحق والعمل به فلا تنحصر الفائدة في وجوب القبول تعبدا.

وعليه ، فلنا ان نقول ان الشيخ رحمه اللّه في مقام نفي الملازمة هاهنا. وتقريبه لنفيها بهذين الوجهين بملاحظة ملاكهما.

ويشهد لذلك ما ذكره بعد ذلك بقوله : « نعم ، لو وجب الإظهار على من

ص: 289


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /81- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /300- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لا يفيد قوله العلم غالبا أمكن جعل ذلك دليلا على ان المقصود العمل بقوله وان لم يفد العلم ، لئلا يكون إلقاء هذا الكلام كاللغو » (1). فانه ظاهر جدا في كون محط نظره إلى نفي الملازمة في الآية الكريمة ، وبيان ان هذه الآية ليست كآية تحريم كتمان النساء ما في أرحامهن ، اللاتي لا يترتب العلم غالبا على إظهارهن ما في الأرحام ، فتدل بالملازمة العقلية على قبول قولهن في ذلك فلاحظ جيدا.

ثم انه لا يحق لأحد ان يورد على صاحب الكفاية : بأنه قدس سره ذكر هذين الإيرادين على آية النفر ، فكيف ينفي ورودهما هاهنا؟.

وذلك لأنه انما ذكرهما إيرادا على دعوى إطلاق وجوب التحذر ، لا على دعوى وجوب القبول للزوم اللغوية ، وقد عرفت تعدد وجوه الاستدلال بآية النفر دون هذه الآية.

وقد استظهر المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من هذه الآية معنى أجنبيا عن حجية الخبر بالمرة ، فذهب إلى انها ظاهرة في حرمة كتمان وستر ما فيه مقتضى للظهور لو لا الستر ، بقرينة قوله : ( بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ ... ) ، فلا نظر فيها إلى وجوب الاعلام ، بل غاية ما تدل على لزوم كشف الحجاب عما بينه اللّه تعالى وأظهره ، ولا تدل على لزوم إعلام ما هو مستور في نفسه لو لا الاعلام ، فتدبر (2).

وهذا الاستظهار لا بأس به قريب إلى الذهن والذوق.

ومنها : آية السؤال وهي قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (3).

وتقريب الاستدلال بها : ان وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول عند الجواب وإلاّ لكان لغوا ، وبضميمة العلم بعدم دخالة خصوصية السؤال في وجوب

ص: 290


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /81- الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 89 - الطبعة الأولى.
3- سورة النحل ، الآية : 43 سورة الأنبياء ، الآية : 7.

القبول ، بل الموضوع هو نفس الجواب بذاته لا بما هو جواب ، يثبت وجوب قبول الخبر الابتدائي غير المسبوق بالسؤال.

وأورد على الاستدلال بها بوجوه :

الأول : ان ظاهرها في سورة النحل بحسب المورد والسياق هو كون المراد من أهل الذّكر علماء اليهود فهي أجنبية عن حجية الخبر.

الثاني : انّ ظاهر بعض النصوص كون المراد من أهل الذّكر أهل البيت صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.

الثالث : ان ظاهر الآية لزوم السؤال لأجل تحصيل العلم لا للقبول تعبدا ، كما يقال عرفا : « سل ان كنت جاهلا » ، فانه ظاهر في كون السؤال طريقا لحصول العلم المرغوب فيه. ويقوى ذلك بملاحظة ان مورد الآية معرفة النبي صلی اللّه علیه و آله وعلاماته ، فلا يعقل تكفلها جعل الحجية لقول المخبر ، فانه لغو مع الشك في النبوة. هذا مع انه لا يكتفي في مثل ذلك بغير العلم لأنه من أصول الدين.

الرابع : ان موضوع السؤال هم أهل الذّكر وهم أهل العلم ، وبمناسبة الحكم والموضوع يستكشف ان وجوب القبول من باب انهم أهل علم ولجهة علمهم ومعرفتهم ، فلا تدل على حجية خبر الراوي الّذي لا يحاول سوى رواية ما صدر عن المعصوم علیه السلام بلا ان يكون له معرفة بكلامه علیه السلام .

وبهذا البيان يظهر ان ما ذكره صاحب الكفاية في مقام الجواب عن هذا الإيراد : بان كثيرا من رواة الصدر الأول يصدق عليهم انهم أهل العلم ، كزرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما ، فإذا وجب قبول روايتهم وجب قبول رواية غيرهم لعدم الفصل جزما (1).

ص: 291


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /300- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

غير سديد ، وذلك لأن موضوع القبول ليس رواية العالم كي يقال بعدم الفصل بين روايته وغيره ، بل عرفت ان موضوع القبول هو جواب أهل العلم بملاحظة جهة علمهم ومعرفتهم ، بحيث يكون لذلك دخل في القبول ، ومعه لا قطع بعدم الفصل بينهم وبين ما لا يكون من أهل الذّكر ، لعدم ثبوت ملاك القبول في خبره.

وقد حاول المحقق الأصفهاني رحمه اللّه رد هذا الوجه : بأنه من الواضح ان العلم بالحكم لا يحتاج في بعض الأحيان إلى إعمال نظر وروية ، فقبول قوله في مثل ذلك يتمحض في جهة خبريته ، وبضميمة عدم الفصل بينه وبين غيره يثبت المطلوب (1).

وفيه : ان مرادنا بالعلم الّذي يكون دخيلا في وجوب القبول ليس النّظر والروية والدقة ، بل مطلق الرّأي والاعتقاد ، فقبول رأيه لو كان ناشئا عن حس ظاهر بلا أي مقدمة حدسية لا يلازم قبول خبره بما هو خبره. وبعبارة أخرى :

الآية الكريمة بمنزلة ان يقال : الفتوى حجة ، فهل يتصور دلالة هذا القول على حجية الخبر بملاحظة ان الفتوى تنشأ أحيانا عن غير نظر وإعمال حدس؟. فلاحظ تعرف.

تنبيه : قد يستشكل فيما ورد من النصوص في تفسير أهل الذّكر من انهم الأئمة علیهم السلام ، فانه ينافي مورد الآية الكريمة المطلوب فيها معرفة معاجز النبي صلی اللّه علیه و آله ونبوته ، إذ لا معنى للسؤال عن نبوته ( صلی اللّه علیه و آله من الأئمة علیهم السلام الذين تتفرع إمامتهم عن النبوة (2).

والجواب : ان التفسير بمثل ذلك يرجع إلى بيان المصاديق لا بيان المعنى

ص: 292


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 90 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 189 - الطبعة الأولى.

المراد على سبيل الحصر ، ففي زمانهم علیهم السلام يكونون هم مصداق أهل الذّكر الّذي ينبغي السؤال منهم. ومثل ذلك كثير في تفسير الآيات الوارد في النصوص ، فراجع ، وهو امر متداول عرفا فقد سال أحد آخر عن شيء فيجيبه بالإشارة إلى أحد مصاديقه. فتدبر.

ومنها آية الأذن وهي قوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1).

وتقريب الاستدلال بها : انه سبحانه مدح رسوله صلی اللّه علیه و آله في انه يصدق المؤمنين وقرنه بتصديقه.

وأورد عليه أولا : أن الأذن سريع القطع بحيث لا يكون لديه تأمل كي يورثه التشكيك ، ومدحه بأنه سريع القطع لا يرتبط بأخذ قول الغير تعبدا.

وثانيا : ان المراد بتصديقه المؤمنين ، هو تصديقهم فيما ينفعهم ولا يضر غيرهم كما يشعر به التعبير باللام الظاهرة في الغاية والنّفع. لا المراد تصديقهم في ترتيب جميع آثار الخبر كما هو المطلوب في باب حجية الخبر. ويشهد لذلك انه صدّق النمام بأنه لم ينم عليه في الوقت الّذي أخبره اللّه تعالى بأنه نمّ عليه ، فلا معنى لتصديقه الا عدم ترتيب آثار النميمة الشخصية ، فالتصديق هاهنا بمعنى التصديق الوارد في الخبر : « يا أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال قولا وقال لم أقله فصدّقه وكذّبهم » (2) يراد به التأكيد على جهة أخلاقية اجتماعية.

والأمر أوضح من ان يحتاج إلى مزيد بيان ، فلاحظ.

وخلاصة الكلام : انه لم يثبت لدينا من الآيات الكريمة حجية خبر

ص: 293


1- سورة التوبة ، الآية : 61.
2- الكافي 8 / 147. الحديث : 125.

الواحد. فالتفت.

واما السنة الشريفة : فقد ادعي وجود الاخبار الدالة - على حجية خبر الواحد -. ولا يخفى ان الاستدلال بكل واحد واحد لا محصل له ، لأنه دوري كما لا يخفى.

وانما الاستدلال بها بلحاظ تواترها ، وليس المقصود من التواتر هو اللفظي منه ، لعدم اتفاقها على لفظ واحد ، بل المراد منه التواتر المعنوي ، لاتفاقها على حجية خبر العادل أو الثقة ، أو التواتر الإجمالي - كما ذكره صاحب الكفاية - للقطع الإجمالي بصدور بعض هذه الاخبار ، فيؤخذ بأخصها مضمونا للعلم بثبوته.

ثم إذا تكفل أخصها حجية ما هو أعم منه أخذ به.

وبنظير هذا البيان ومقداره اكتفي صاحب الكفاية (1).

وأهمل المحقق الأصفهاني البحث في ذلك بالمرّة.

وقد أطال الشيخ رحمه اللّه البحث فيها ، فصنف الروايات إلى أصناف متعددة.

فمنها : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور والتخيير عند التساوي (2). مما يظهر منه حجية الخبر غير المقطوع صدوره.

ومنها : ما دل على إرجاع بعض الرّواة إلى بعض أصحابهم علیهم السلام كإرجاعه إلى زرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وزكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن والعمري وابنه (3).

ص: 294


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /302- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- وسائل الشيعة 18 / 75 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
3- وسائل الشيعة 18 / باب : 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 4 و 19 و 23 و 27 و 33.

ومنها : ما دل على وجوب الرجوع إلى الرّواة والثقات والعلماء ، كرواية الاحتجاج وغيرها (1).

ومنها : ما دل على الأمر بحفظ الحديث وكتابته وتداوله (2) (3).

أقول : بعد ملاحظة جميع هذه النصوص ، لم نستطع ان نستفيد منها حجية خبر الثقة أو غيره ، كما ادعي.

فانّ العمدة التي يمكن ان يستفاد منها ذلك ، هو طائفة الإرجاع إلى الثقات المعنيين كزرارة وغيره ، فانه يكشف عن حجية خبر الثقة ، وما ورد من مثل : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرد به منا ثقات شيعتنا » (4) - اما ما دل على حسن حفظ الحديث وكتابته ، فلا دلالة له بوجه على الحجية - ، إذ من المحتمل قريبا ان يكون الأمر بذلك لأجل ما في الحفظ والكتابة والتداول من إبقاء الحق وحفظ الأحكام عن الزوال. واما ما دل على ترجيح أحد المتعارضين فهو أجنبي عن إفادة الحجية ، وانما هو متفرع عن كون كل من الخبرين حجة في نفسه ، ومع قطع النّظر عن المعارضة. وهذه الطائفة - أعني ما دل على الإرجاع إلى بعض الثقات - لا تنفع في إثبات حجية خبر الثقة تعبدا.

بيان ذلك : ان وثاقة الشخص ، بمعنى تحرزه من الكذب ..

تارة : تحرز بالوجدان بواسطة المعاشرة ، أو بواسطة شهادة من يطمئن بشهادته واصابتها للواقع.

وأخرى : تثبت بواسطة حسن الظاهر الّذي جعل طريقا للعدالة شرعا.

وثالثة : تثبت بشهادة البينة العادلة التي يجوز في حقها الاشتباه.

ص: 295


1- وسائل الشيعة 18 / 101 باب : 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 9.
2- وسائل الشيعة 18 / روايات باب : 8 من أبواب صفات القاضي.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /84- الطبعة الأولى.
4- وسائل الشيعة 18 / 108 باب : 11 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 40.

ولا يخفى ان اخبار الصنف الأول يلازم الجزم بصدقة وتحقق المخبر به لفرض انه ممّن يقطع بعدم كذبه ، نعم قد يحتمل في حقه الاشتباه المنفي بأصالة عدم الغفلة.

واما الصنفان الآخران فهما ممن يجوز في حقهما الكذب ، إذ حسن الظاهر لا يلازم الوثاقة واقعا ، وهكذا شهادة البينة بالنحو الّذي عرفته.

وعليه ، فالتعبد بالصدق وإيجاد التصديق الّذي هو واقع حجية الخبر المبحوث عنها إنما يصح بالنسبة إلى الصنفين الآخرين لا بالنسبة إلى الصنف الأول للاطمئنان بعدم كذبه كما هو الفرض.

وعليه ، فلا معنى لحجية خبر الثقة بالمعنى الأول.

ومن الواضح ان موضوع الإرجاع في رواياته من الصنف الأول ، فان شهادة الإمام علیه السلام بالوثاقة لمن يرجع إليه تلازم القطع بوثاقته لعدم جواز الاشتباه في حقه علیه السلام ، فيكون من قبيل تحصيل الجزم بالوثاقة من المعاشرة.

وفي مثل ذلك لا يتوقف قبول قوله على التعبد ، بل يجزم بصدقة بلا تردد ، فالنصوص المزبورة لا تتكفل التعبد بخبر زرارة أو غيره ، بل تتكفل الإرشاد إلى وثاقته ، فيترتب عليها القبول عقلا للجزم بصدقة لا تعبدا ، فما نحتاج فيه إلى التعبد بخبره لا تتكفله النصوص المزبورة.

وهكذا الحال في مثل : « لا عذر لأحد ... » ، لأنّ رواية الثقة مستلزمة للجزم ، فلا يعذر تارك العمل بها عقلا ، فهي لا تتكفل جعل الحجية لخبر الثقة إذ الا معنى لذلك ولا محصل له. هذا أولا.

وثانيا : ان المشهور على ان خبر الواحد ليس حجة في الموضوعات ، بل لا بد فيها من قيام البينة ولعله لاستنادهم إلى خبر مسعدة بن صدقة الّذي

ص: 296

فيه : « والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك أو تقوم به البينة » (1).

وعليه ، فالاخبار عن الخبر لا يكون حجة ، لأنه خبر عن الموضوع لا الحكم الشرعي الكلي.

وليس في هذه النصوص ما يدل على حجية الخبر عن الواسطة ، إذ كلها ظاهرة في حجية الخبر عن الحكم رأسا - كما لا يخفى -.

وعليه فالخبر الواحد عن الواسطة لا يكون حجة بمقتضى التزام المشهور بعدم حجية خبر الواحد عن الموضوع.

والاخبار التي بأيدينا كلها من هذا القبيل ، فلا تنفع هذه النصوص في إثبات حجيتها - لو سلمت دلالتها على الحجية في حد نفسها -.

وثالثا : ان هذه النصوص معارضة لما تقدمت الإشارة إليه من الاخبار المتواترة الدالة على عدم جواز العمل بالخبر غير العلمي ، وانه لا بد في العمل بالخبر من وجود شاهد عليه من كتاب اللّه تعالى شأنه.

وجملة القول : انه لا نستطيع الجزم بحجية الخبر من هذه النصوص وما شاكلها. ولعلنا نعود إلى تفصيل الحال إذا سمح لنا المجال إن شاء اللّه تعالى.

واما الإجماع ، فيقرب بوجوه :

الوجه الأول : الإجماع القولي الحاصل من تتبع فتاوى العلماء بحجية الخبر ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجية ، فانه يستكشف به به رضا الإمام علیه السلام بذلك.

واستشكل فيه في الكفاية : بان فتاوى العلماء في حجية الخبر مختلفة من حيث الخصوصيات التي يعتبرونها فيما هو حجة ، ومعه لا يمكن استكشاف رضا الإمام علیه السلام لعدم اتفاقهم على امر واحد.

ص: 297


1- وسائل الشيعة 12 / 60 باب : 4 ، الحديث : 4.

نعم لو علم انهم يقولون بأجمعهم بحجية خبر الواحد في الجملة ، ثم يختلفون في الخصوصيات المعتبرة فيه ، بحيث يكون القول بحجية الخبر الخاصّ بنحو تعدد المطلوب لا وحدته - لو علم ذلك - ، تم ما ذكر ولكن دون إثباته خرط القتاد (1).

الوجه الثاني : إجماع العلماء العملي ، بل المسلمين كافة على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية.

واستشكل فيه في الكفاية بما استشكل في الوجه الأول ، وبأنه لم يعلم ان اتفاقهم على ذلك بما انهم متدينون ، بل يمكن ان يكون بما انهم عقلاء (2) فيرجع إلى ..

الوجه الثالث : وهو قيام سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممن لا يلتزم بدين على العمل بخبر الثقة ، واستمرت هذه السيرة إلى زمان المعصوم علیه السلام ولم يردع عنه المعصوم ، إذ لو كان لاشتهر وبان وعدم الردع يكشف عن تقرير الشارع للسيرة وإمضائه لها ، فتثبت حجية الخبر في الشرعيات.

وقد يستشكل بأنه يكفي في ثبوت الردع وجود الآيات الكريمة الناهية عن العمل بغير العلم واتباع الظن ، كقوله تعالى - في سورة الإسراء ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وقوله تعالى - في سورة يونس - : ( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) فانها بعمومها تشمل هذه السيرة.

وردّه صاحب الكفاية بوجوه ثلاث :

الأول : انما واردة لبيان عدم كفاية الظن في أصول الدين.

الثاني : ان المنصرف من إطلاقها إرادة الظن الّذي لم يقم دليل على حجيته واعتباره.

ص: 298


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /302- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /302- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثالث : ان تكفلها للردع عن العمل بخبر الواحد دوري ، لأن الردع عن السيرة بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وعدم التخصيص يتوقف على رادعية الآيات عنها وإلاّ لكانت مخصصة.

ثم أورد على نفسه : بان السيرة لا تصلح للتخصيص الا على وجه دائر أيضا ، إذ تخصيص السيرة يتوقف على عدم الردع بها عنها ، وعدم الردع يتوقف على تخصيصها للآيات.

وأجاب : بأنه يكفي في اعتبار خبر الواحد بالسيرة عدم ثبوت الردع عنها ، لا عدم الردع واقعا عنها ، وتخصيص السيرة وان كان دوريا كالردع بالآيات ، لكنه يكفي في عدم ثبوت الردع. فتدبر (1).

أقول : ما ذكره صاحب الكفاية بتمامه محل إشكال وتحقيق :

اما أصل قيام السيرة على حجية خبر الثقة ففيه : ان القدر الثابت من بناء العقلاء وعملهم هو العمل بخبر الثقة الّذي يعلم بتحرزه عن الكذب بحيث يطمئن بخبره. وقد عرفت ان العمل بخبر مثل ذلك لا يحتاج إلى التعبد ، ولم يثبت في مورد من الموارد عمل العقلاء بخبر الثقة إذا لم يحصل لهم الاطمئنان بصدقة وكان احتمال الكذب في حقه موجودا.

اذن فلم تثبت السيرة على العمل بخبر الثقة تعبدا ، بل على العمل به إذا أوجب القطع أو الاطمئنان ، وهو خارج عن محل الكلام.

واما دعوى ان الآيات الناهية عن العمل بالظن وغير العلم مختصة بأصول الدين. فيدفعها : عدم الشاهد عليها أصلا بل يمكننا ان نقول بان القدر المتيقن من الآية الأولى فروع الدين ، لورودها في سياق الآيات المتكفلة لجعل الأحكام. واما الآية الثانية ، فصدرها وان كان ظاهرا في نفسه في أصول الدين ،

ص: 299


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /303- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

إلاّ ان قوله تعالى قبل ذلك : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) ، ظاهر في الفروع لظهور الاتباع في المتابعة في الأحكام والعمل ، فيكون قرينة على ان المراد من الصدر وهو قوله : ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ... ) (1) ، هو الشريك في العبادة لا الخلق فيكون ناظرة إلى العمل لا الاعتقاديات. ولو غضضنا النّظر عن ذلك ، فقوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) ، بمنزلة العلة للتوبيخ على اتباع الظن فيتمسك بعمومه ، والمورد لا يخصص الوارد.

وبالجملة : فدعوى اختصاص الآيات بأصول الدين بلا شاهد ، بل الشاهد على خلافها.

واما دعوى انصراف الآيات إلى الظن الّذي لم يقم على اعتباره دليل ، فلم يذكر لها شاهد مع ان المناسب لمقام الاستدلال ذلك.

وعلى كل فيمكن توجيهها بأحد وجهين :

الأول : ان بناء العقلاء على كون الخبر علما وطريقا إلى الواقع يستلزم خروجه عن ما دل على النهي عن العمل بغير العلم ، وان كان هو في الحقيقة من افراد غير العلم.

الثاني : ان العمل بخبر الواحد استنادا إلى السيرة الارتكازية المعلومة يكون عملا بالعلم بلحاظ السيرة ، وان كان بلحاظ نفسه عملا بغير العلم ، فلا يكون العمل بالظن استنادا إلى ما دل على حجيته من الأمور القطعية عملا بغير العلم عرفا ، وينصرف العموم المذكور عنه.

وفي كلا الوجهين نظر :

اما الوجه الأول : فلان نظر العقلاء ورويتهم تارة يكون بمعنى بنائهم

ص: 300


1- سورة يونس ، الآية : 35.

واعتبارهم ، وأخرى باعتبار انكشاف ذلك الشيء واقعا لديهم ، فإذا كانت رويّة العقلاء لكون الخبر طريقا من النحو الثاني صحت دعوى الانصراف ، واما إذا كانت من النحو الأول فلا تصح دعوى الانصراف لأن البناء على ان هذا علم لا يجدي في عدم شمول المفهوم له عرفا ، ألا ترى انه هل تصح دعوى انصراف : « لا تكرم الفاسق » عمن اعتبره العقلاء غير فاسق وكان فاسقا في الواقع؟ ولا يخفى ان بناءهم على كون الخبر علما من النحو الأول لا الثاني ، فانهم يعتبرونه علما لا انهم يرونه علما ، فتدبر.

واما الوجه الثاني : فلأن المراد :

ان كان هو الاستناد إلى سيرة العقلاء بنفسها ولو لم تقم حجة شرعية على إمضائها. ففيه : انه لا معنى لانصراف الآيات عن مثل ذلك بعد ان لم تكن السيرة القطعية حجة شرعا إذ أي دخل لهذه السيرة في رفع ظهور الآيات في النهي عن العمل بالظن ، وهل هو الا نظير الاستناد إلى امر علمي أجنبي عن حجية الظن وشئونه؟.

وان أريد الاستناد إلى السيرة التي قام الدليل على إمضائها - وفائدة دعوى الانصراف حينئذ مع انها تشترك مع الالتزام بالعموم والتخصيص في الأثر ، وهو رفع اليد عن عموم الآيات هو عدم ملاحظة النسبة بين الآيات الكريمة ودليل حجية السيرة شرعا بناء على الانصراف وخروج المورد عن موضوع الآيات الكريمة ، بخلافه بناء على الالتزام بالعموم والتخصيص فتدبره -. ففيه : انه قد عرفت ان الآيات الشريفة تتكفل حكما إرشاديا راجعا إلى نفى حجية الظن رأسا ، فلو أخذ في موضوع الآيات الظن الّذي لم يقم على اعتباره دليل كما يدعى كان من الضرورة بشرط محمول ، إذ يكون مفاد الآيات : ان الظن غير الحجة ليس بحجة ، وهو مستهجن جدا ومما لا محصل له اذن فالموضوع هو طبيعي الظن بجميع افراده.

ص: 301

واما دعوى ان رادعية الآيات عن السيرة على حجية خبر الواحد لا تثبت الا على وجه دائر. فيدفعها وجهان :

الأول : ان التخصيص لا يتحقق إلاّ بقيام الدليل على الحكم الخاصّ ، فهو يتقوم بالوصول ، فمع عدم ثبوت الحكم الخاصّ كان المرجح هو أصالة العموم كما هو الحال في كل عام شك في خروج بعض افراده عن حكمه ولم يقم دليل على الإخراج ، فليس خروج الفرد عن الحكم العام في الواقع يكفي في رفع اليد عن العمل بالعموم كي يكون الشك فيه ملازما للتوقف عن العمل بالعامّ ، بل لا بد في ذلك من قيام الدليل ، فإذا لم يقم الدليل على الإخراج كما فيها نحن فيه كان المتعين الرجوع إلى العام ، إذ لا دليل على الإمضاء كما هو الفرض.

الثاني : ان الدليل المفروض فيما نحن فيه على الإمضاء هو القطع بالتقرير وإمضاء الشارع للسيرة العقلائية. ومن الواضح ان مجرد التشكيك في رادعية الآيات واحتمال رادعيتها يلازم عدم تحقق القطع فلا دليل على التقدير ، ولا يمكن ان نقطع بعدم رادعية الآيات الكريمة إلاّ بنحو دائر.

وتوضيح ذلك : ان حجية الخبر بالسيرة بوجهين :

الأول : بناء العقلاء على معذورية العامل بالخبر ، كبنائهم على حجية الظن الانسدادي ومعذريته فانه يكفي في مقام الامتثال. وهذا لا يرجع إلى ثبوت التقرير الشرعي.

الثاني : إمضاء الشارع لبناء العقلاء ، وهذا يستكشف بطرق متعددة.

أحدها : انه اما ان يكون الشارع قد أمضى بناء العقلاء أو لا ، فالأوّل هو المطلوب. والثاني محال بدون بيان الردع لأنه إغراء بالجهل.

ثانيها : ان نفس عدم الردع ظاهر في تقريره ، نظيره استكشاف تقريره من سكوته في سائر الموارد.

ثالثها : ما يظهر من المحقق الأصفهاني من ان الشارع رئيس العقلاء

ص: 302

وكبيرهم ، فلا بد ان يكون ديدنه دينهم (1).

رابعها : ان الغرض من التكاليف إيصال المكلفين إلى المصالح وإبعادهم عن المفاسد ، فإذا فرض ان العمل بخبر الواحد كان طبيعيا للعرف والعقلاء إذا لم يردع عنه الشارع بحيث لا يتأتى في ذهنهم التوقف عنه ، يعملون به بمقتضى طبعهم ، فلو لم يردع عنه الشارع فاما ان يكون مقررا لعمل العقلاء فهو المطلوب. وإلاّ استلزم فوات المصالح عليهم ووقوعهم في المفاسد بلا بيان منه ، وهو خلف الغرض من جعل التكاليف. فنفس الغرض الّذي يدعوه إلى بيان التكاليف يدعوه إلى بيان عدم الحجية لو لم تكن حجة بنظره.

وهذا الوجه امتن الوجوه.

وهذه الوجوه وان لم تكن خالية عن المناقشة ..

لأن الأول يندفع : بان الحكم بمعذرية الظن الانسدادي ومنجزيته لم يكن جزافا ، بل كان يبتنى على مقدمات متعددة تسمى بمقدمات الانسداد ، فما هي المقدمات الموجبة لحكم العقلاء بحجية الخبر في الأحكام الشرعية؟!.

واما الثاني فيندفع ، بان الإغراء بالجهل انما يتم لو كان عدم الردع ملازما للقبول في نظر العقلاء ، وهو عين المدعى الّذي يحاول الاستدلال عليه ، فتحقق الإغراء بعدم الردع في طول استكشاف الإمضاء من عدم الردع ، فلا معنى لكونه من طرق استكشافه.

واما الثالث : فهو مجرد الدعوى ، إذ ما الوجه في استكشاف التقرير من السكوت؟ ولا فرق بين هذا المورد وغيره.

واما الرابع : فهو في نفسه تام ، لكن لا ينفع في إثبات المدعى إذ كون الشارع رئيس العقلاء لا يستلزم ان لا يخالف العقلاء في كل امر ونظر ، فلعله

ص: 303


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 91 - الطبعة الأولى.

يخالفهم في بنائهم على حجية الخبر ، فما هو الدليل على ان ديدنه ديدنهم في حجية الخبر؟.

الوجه الأخير ، متين جدا.

إلاّ اننا لسنا بصدد إثبات أحدها ، وانّما يهمنا الإشارة إليها لنعرف كيفية حصول الدليل على التقرير أو على حجية الخبر.

وقد ظهر ان ثبوت الحكم العقلي بالحجية أو ثبوت الإمضاء الشرعي معلق على عدم ثبوت الردع من الشارع ، وهو ينتهي إلى الجزم بالإمضاء أو بالحجية العقلائية.

وعليه ، فيظهر ان الدليل على التقدير هو القطع به ، وهو يتحقق عند عمد ثبوت الردع ، فالقطع بالإمضاء معلق على عدم ثبوت الردع.

وإذا كان الأمر كذلك استحال تأثيره في عدم ثبوت الرادع ، وحينئذ لم يكن ذلك دافعا لاحتمال رادعية الآيات ، لأن تحققه يتوقف على عدم ثبوت رادعيتها فكيف يتوهم منعه عن رادعيتها؟ فانه دور واضح.

يبقى شيء : وهو دعوى ان رادعية الآيات الكريمة تتوقف على عدم ثبوت الإمضاء فإذا كان عدم ثبوت الإمضاء ناشئا من الردع بها لزم الدور.

وهذه الدعوى واهية الأساس. ألا ترى انه هل يتوهم نظير هذا التوهم في قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فيقال : ان البيان يتوقف على عدم ثبوت قبح العقاب ، فلا يصلح لرفع قبح العقاب؟. فان ما نحن فيه نظير قبح العقاب بلا بيان تماما ، لما عرفت من ان حكم العقل بثبوت الإمضاء الشرعي معلق على عدم البيان والردع. ثم انه هل يتوقف أحد في عدم استكشاف رضا المالك ببيع داره من سكوته حال البيع مع مقارنته لبيان عام يدل على عدم رضاه بالتصرف في جميع متملكاته؟. فأي فرق بين الموردين وما نحن فيه.

وتحقيق الحال في دفع هذه الدعوى وحلّ مغالطتها : انك عرفت ان

ص: 304

التخصيص بمعنى رفع اليد عن العموم لا يتحقق بالإمضاء بوجوده الواقعي ، لأنه من شأن الدليل المصادم للعام - نعم ، نفس الحكم العام يتضيق ثبوتا بخروج بعض الافراد لكنه لا يرتبط بالتمسك بالدليل الدال على العموم -. اذن فما يصلح للتخصيص وما يتوقف التمسك بالعامّ على عدمه هو الدليل الدال على الحكم الخاصّ.

وقد عرفت ان الدليل على الإمضاء الّذي يمكن ان يفرض هاهنا هو القطع به ، وعرفت انه معلق على عدم ثبوت الردع ، فإذا ورد عام يصلح للرادعية وتحقق احتمال الردع به لم يتحقق القطع بالإمضاء قهرا ، فلا دليل على التخصيص الواقعي ، فكانت أصالة العموم بلا مزاحم ، فلا يتحقق حينئذ القطع بالإمضاء.

وبعبارة أخرى : ان العمل بأصالة العموم لا يستلزم مخالفة الدليل ، إذ يرتفع القطع بالإمضاء تكوينا لارتفاع موضوعه ، وهو عدم الدليل على الردع ، كما هو شأن الوارد بالنسبة إلى المورود.

اما عدم العمل بأصالة العموم ، فهو اما ان يكون بلا وجه أو على وجه دائر إذا استند إلى ثبوت الإمضاء لأنّه - أعني ثبوت الإمضاء - يتوقف على عدم العمل بالعموم. فما يقال في تقدم الدليل الوارد على المورود يقال بعينه هاهنا.

اذن فالالتزام برادعية الآيات عملا بأصالة العموم لا محذور فيه. وما ادعاه في الكفاية من استلزامه الدور كلام صوري لا حقيقة له كما بينّاه بوضوح.

وعليه فيتلخص إشكالنا على الاستدلال بالسيرة في وجهين :

الأول : عدم ثبوت السيرة صغرويا.

الثاني : ثبوت الردع عنها بالآيات الكريمة. فلاحظ.

وقد قرب المحقق الأصفهاني دورية تخصيص الآيات بالسيرة : بان الأمر يدور بين ما هو تام الاقتضاء وما هو غير تام الاقتضاء ، ولا يمكن ان يتقدم ما

ص: 305

هو غير تام الاقتضاء على ما هو تام الاقتضاء. بيان ذلك : ان العام حجة بالذات في مدلوله العمومي لظهوره فيه ، وتقديم الخاصّ عليه من باب تقديم أقوى الحجتين ، بخلاف السيرة فان أصل حجيتها تتقوم بعدم الردع الفعلي ، فمقتضى الحجية في السيرة إثباتا متقوم بعدم الردع الفعلي.

وعليه ، فمقتضى الحجية في العام تام إثباتا وهو الظهور ، ولا مانع عنه سوى السيرة التي يتوقف مانعيتها على تمامية اقتضائها ، وهو يتوقف على عدم رادعية الآيات عنها ، وعدم رادعيتها مع تمامية اقتضائها يتوقف على مانعية شيء ولا مانع سوى السيرة وهي لا تصلح للمانعية إلاّ بنحو دائر كما عرفت.

ثم انه قدس سره ناقش هذا الكلام مبنى وبناء ..

اما بناء فلأنه انما يتم لو كان عدم تمامية الاقتضاء مستندا إلى غير تأثير تام الاقتضاء ، وإلاّ لكان صالحا للمزاحمة ، وما نحن فيه كذلك ، فان عدم تمامية الاقتضاء في السيرة مستند إلى تأثير العام ورادعيته فعلا ، فكل من تأثير العام والسيرة منوط بعدم تأثير الآخر ، إلاّ ان إناطة تأثير العام بعدم حجية السيرة من إناطة المشروط بشرطه ، وإناطة تأثير السيرة بعدم حجية العام من إناطة المقتضي بمقومه ، وكلاهما في المنع عن فعلية التأثير على حد سواء.

واما مبناً ، فلأنه انما يتم لو كان للعقلاء في موارد التخصيص بناءان بناء عام وبناء خاص فيقال بالعمل بالبناء العام حتى يثبت البناء الخاصّ ، وليس الأمر كذلك ، بل هناك بناءان خاصّان أحدهما في مورد الخاصّ والآخر يخالفه في غير مورد الخاصّ.

وعليه ، فحيث ان حجية العام في مدلوله ببناء العقلاء ، فلا يمكن ان يكون لهم بناء على العموم وبناء مخصص له على حجية خبر الثقة ، بل لو ثبت البناء منهم على حجية خبر الثقة لم يكن منهم بناء على العموم بالمرة ، بل البناء منهم رأسا على العموم في غير مورد الخبر ، فلا مقتضى للحجية في العام في مورد

ص: 306

خبر الثقة (1). هذا ملخص ما ذكره قدس سره .

وقد عرفت بما لا مزيد عليه تقريب دورية مانعية السيرة عن العموم بلا احتياج إلى التقريب المزبور في كلامه ، وإعطاء المطلب صورة برهانية دقيقة اصطلاحية ، وعرفت أيضا عدم دورية مانعية الآيات ورادعيتها عن السيرة.

واما ما ذكره أخيرا من المناقشة في مبنى كلامه ، فهو غير سديد ، لأن عدم تعدد البناء العام والخاصّ من قبل العقلاء انما هو في مورد يتنافى فيه البناءان ولا يمكن الجمع بينهما فيقال : انه لم ينعقد البناء العملي العام رأسا بل انعقد على غير الخاصّ.

اما مع عدم التنافي وإمكان الجمع عملا بينهما فلا موضوع لما ذكر.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن البناء على العموم يرجع إلى البناء على ان مراد الشارع النهي عن مطلق الظن وعدم حجية جميع افراده ، ومنها خبر الواحد - لأنّ معنى أصالة الظهور هو تشخيص مراد المتكلم من طريق الظاهر -.

وهذا البناء العملي منهم لا يتنافى بوجه من الوجوه ببنائهم العملي - بما انهم عقلاء - على حجية خبر الواحد.

وهذا واضح جدا فلا حاجة إلى إطالة البيان فيه.

وقد نفي المحقق العراقي (2) والمحقق النائيني - على ما في تقريرات النائيني (3) - رادعية الآيات عن السيرة : بأن عمل العقلاء بخبر الواحد يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف بنظرهم ورؤيته علما فلا تشمله آيات الردع عن غير العلم لخروجه موضوعا عنها وانصرافها عنه بعد عدم التفات العقلاء إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع. وقد اعترف الأول بعدم صحة دعوى دورية مانعية الآيات

ص: 307


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 92 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 137 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 195 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

عن السيرة لو أغمض النّظر عن دعوى الانصراف وخروج السيرة موضوعا عن الآيات الكريمة.

وقد عرفت فيها تقدم تقريب دعوى الانصراف والمناقشة في ذلك ، فلا نعيد وراجع ما تقدم تعرف عدم صحة هذه الدعوى لهذين العلمين.

واما ما ورد في بعض الكلمات من دعوى حكومة السيرة على الآيات لاعتبار الخبر علما لدى العقلاء ، فتترتب عليه آثاره (1). ففيه :

أولا : انه يبتنى على تصور الحكومة في الدليل اللبي وذلك يبتنى على تفسير الحكومة بالتصرف بموضوع الدليل الآخر توسعة وضيقا ونفيا أو إثباتا ، بحيث تشمل موارد اعتبار امر من افراد موضوع الحكم في الدليل الآخر الكاشف عن كون موضوع الحكم أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري.

اما إذا فسرت بنظر أحد الدليلين بمدلوله اللفظي إلى الدليل الآخر وتكفّله شرح الدليل الآخر فلا مجال لتوهم حكومة الدليل اللبي المتكفل للاعتبار على الدليل اللفظي. وتحقيق ذلك في محله.

وثانيا : انه لو سلمت الحكومة بالنسبة إلى الدليل اللبي ، فلا معنى لحكومة الاعتبار العقلائي على الدليل الشرعي.

إذ أي وجه لترتيب أو نفي الأثر الشرعي الثابت بالدليل على اعتبار العقلاء؟ ، فان الحكومة انما تصح إذا كان المعتبر هو جاعل الحكم نفسه ، كي يقال ان مقتضى اعتباره كون موضوع الحكم الأعم من الوجود الحقيقي والاعتباري ، اما إذا كان المعتبر غير جاعل الحكم فلا يصلح ذلك للحكومة. فاعتبار العقلاء الخبر علما لا يجدي في التصرف في الدليل الشرعي فلاحظ جيدا.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالسيرة.

ص: 308


1- قد يستفاد من كلمات المحقق النائيني. كما انه صريح السيد الخوئي في دراساته. ( منه عفي عنه ).

وأما العقل ، فقد استدل بوجوه :

الوجه الأول : ما اعتمده الشيخ رحمه اللّه سابقا ، وهو إنا نعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الأخبار المتضمنة للأحكام ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي لزوم الاحتياط في جميع الأخبار وهو غير ممكن ، فلا بد من العمل بمظنون الصدور لأنه أقرب إلى الواقع من غيره.

وقد بين الشيخ رحمه اللّه بتفصيل الوجه في تحقق العلم الإجمالي المذكور ، وملخصه هو : ان ملاحظة اهتمام الرّواة في رواية الحديث وضبطه والاهتمام في تدوينه والمحافظة عليه والتأكد من صحته توجب حصول العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار التي بأيدينا.

وقد ذكر قدس سره شواهد متعددة على الاهتمام والضبط فلاحظها.

وقد استشكل الشيخ رحمه اللّه في هذا الوجه لأسباب ثلاثة :

الأول : ان وجوب العمل بالأخبار الصادرة انما هو لأجل اشتمالها على الأحكام الواقعية التي يجب امتثالها ، فالعمل بالخبر الصادر من جهة كشفه عن حكم اللّه تعالى لا بما أنه خبر.

وعليه ، فالعلم الإجمالي بصدور كثير من الاخبار يرجع في الحقيقة إلى العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعية في ضمن هذه الاخبار ، والعلم الإجمالي بوجوده تكاليف واقعية لا يختص بالأخبار ، بل نعلم إجمالا أيضا بوجود التكاليف في ضمن الأخبار وغيرها من الأمارات الظنية كالشهرات والإجماعات المنقولة ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي اما الاحتياط ان أمكن ، أو العمل بكل ما يفيد الظن بالحكم الشرعي سواء كان خبرا أم غير خبر ، فلا اختصاص للحجية الثابتة بهذا الظن بالخبر.

ص: 309

ثم إنه قدس سره تعرض إلى نفي دعوى انحلال العلم الإجمالي الكبير - وهو ما كانت أطرافه مطلق الأمارات الظنية خبرا كانت أم غيره - بواسطة العلم الإجمالي الصغير - وهو ما كانت أطرافه خصوص الأخبار -. ببيان : ان انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير انما يكون في صورة عدم بقاء العلم الإجمالي الكبير لو فرض انا عزلنا من أطراف العلم الإجمالي الصغير بمقدار المعلوم بالإجمال. أما إذا فرض بقاء العلم الإجمالي بين الباقي من أطراف العلم الإجمالي الصغير وسائر أطراف العلم الكبير لم يكن وجود العلم الإجمالي الصغير مؤثرا في انحلال العلم الإجمالي الكبير ، فيكون الكبير منجزا.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانه لو عزلنا من الاخبار طائفة بمقدار المعلوم صدوره من الأخبار ، كان هناك علم إجمالي بوجود أحكام واقعية بين باقي الأخبار وسائر الأمارات الظنية ، وهذا أمر وجداني ، إذ لا يستطيع أحد ان ينكر عدم مطابقة جميع هذه الأطراف للواقع.

إذن فالعلم الإجمالي الكبير لا ينحل بالعلم الإجمالي الصغير ، فيكون منجزا ، وقد عرفت أن أثره العمل بكل مظنون من الأحكام ، دون خصوص الاخبار المظنونة الصدور.

الثاني : ان مقتضى الوجه المذكور هو لزوم العمل بالخبر الّذي يظن بمضمونه سواء كان مظنون الصدور أو لا ، إذ عرفت أن جهة العمل بالخبر هو كونه مشتملا على حكم اللّه الواقعي ، وهو يقتضي كون المناط الظن فيه لا في الصدور.

الثالث : ان مقتضى هذا الدليل لزوم العمل بالخبر المثبت للتكليف دون النافي ، كما انه يقتضى العمل به من باب الاحتياط ، فلا ينهض لإثبات الحجية بنحو يصلح الخبر لمصادمة ظواهر الكتاب أو السنة القطعية. والمقصود في حجية الخبر هو إثبات كونه دليلا متبعا في قبال الأصول اللفظية والعملية ، وسواء كان

ص: 310

مثبتا للتكليف أو نافيا له.

هذا ما ذكره الشيخ في تقريب هذا الوجه والاستشكال فيه (1).

وقد نقله صاحب الكفاية بنحو لا يرد عليه الوجهان الأولان من الوجوه التي ذكرها الشيخ. فقرّ به : بنا نعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الأئمة الأطهار بمقدار واف بمعظم الفقه ، بحيث لو علم تفصيلا ذلك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيليّ بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا ، والشك البدوي في ثبوت التكاليف في مورد سائر الأمارات. ومقتضى ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة. واما النافي منها ، فان كان على خلافه أصل يثبت التكليف لم يجز العمل به ، بل يلزم الرجوع إلى الأصل. وان لم يكن على خلافه أصل مثبت للتكليف جاز العمل به.

هذا ما أفاده في الكفاية (2).

ولوضوح الفرق بينه وبين ما أفاده الشيخ نشير إشارة إجمالية إلى موارد الانحلال ، فنقول : إن الانحلال ..

تارة : يكون بواسطة العلم التفصيليّ بالمعلوم بالإجمال ، وذلك هو الانحلال الحقيقي.

وأخرى : يكون بواسطة قيام أمارة معتبرة على إثبات المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ، وذلك يستلزم الانحلال الحكمي.

وهذان الموردان مما لا ريب في تحقق الانحلال بهما على أي مسلك من مسالك تنجيز العلم الإجمالي ، نعم هو مسلم في الجملة ، ويقع الكلام في جهاته من حيث تقدم العلم التفصيليّ أو تأخره أو تقدم المعلوم أو تأخره ، وهو في محله.

ص: 311


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /102- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /304- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وثالثة : يضم إلى العلم الإجمالي علم إجمالي آخر في بعض أطراف العلم الأول ، كأن يعلم إجمالا بوجود النجس في هذه الأواني الثلاثة ، ويعلم إجمالا بوجود النجس في إناءين منها. وانحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير محل إشكال ، والّذي اخترناه عدم الانحلال به ، لأن نسبة العلمين إلى الأطراف المشتركة متساوية ، فإجراء الأصول في جميع أطراف العلم الكبير يستلزم المعارضة.

ولو قيل بالانحلال فهو انحلال حكمي لا حقيقي كما لا يخفى.

والّذي يذهب إليه الشيخ رحمه اللّه هو الانحلال ، وقد جعل الضابط في تحقق الانحلال به هو : عدم زيادة المعلوم بالإجمال الكبير على المعلوم بالإجمال الصغير ، بحيث كان المعلوم الكبير محتمل الانطباق على المعلوم الصغير ، وطريق معرفة ذلك هو ما تقدمت الإشارة إليه ، من انه لو عزلنا من أطراف العلم الإجمالي الصغير بمقدار المعلوم بالإجمال ، وضممنا باقي أطراف إلى باقي أطراف العلم الإجمالي الكبير ، فان بقي لدينا علم إجمالي لم يكن المورد من موارد الانحلال ، وإن لم يبق كان من موارد الانحلال.

وعليه ، فاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال بالعلم الكبير على المعلوم بالإجمال بالعلم الصغير يكفي في تحقق الانحلال. وقد عرفت انه قدس سره ذهب إلى ان ما نحن فيه مما لا ينطبق عليه ضابط الانحلال ، بل ينطبق عليه ضابط عدم الانحلال ، كما تقدم تقريبه.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الظاهر من صاحب الكفاية انه يلتزم بكبرى الانحلال بهذا الضابط الّذي ذكره الشيخ رحمه اللّه - كما يشير إليه قوله : « بحيث لو علم تفصيلا ... » (1) - ، وانما اختلافه مع الشيخ صغروي ، بمعنى أنه

ص: 312


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /304- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يرى ان المورد من موارد الانحلال وان ضابط عدم الانحلال لا ينطبق عليه.

إذن فلا بد من إيقاع الكلام في هذه الجهة - اما الكبرى فمحل الكلام فيها ليس هذا المقام ، ونتكلم هاهنا على تقدير تسليم الكبرى - لنعرف أن الحق مع الشيخ أو مع صاحب الكفاية.

وقد عرفت ان دعوى الشيخ رحمه اللّه في تطبيق ضابط عدم الانحلال فيما نحن فيه وجدانية ، فانه إذا عزلنا طائفة من الأخبار بمقدار المعلوم صدوره بالإجمال ، وضممنا باقي الاخبار إلى سائر الأمارات يحصل العلم الإجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، وهذا مما لا يمكن ان ينكره فقيه ، إذ هل يستطيع أحد أن يدعى ان جميع هذه الأمارات وباقي الأخبار غير مطابقة للواقع؟ كيف؟ وقد ادعي وجود العلم الإجمالي في خصوص الأمارات غير الاخبار.

إذن فكيف يدعي صاحب الكفاية الانحلال مع تسليمه الكبرى وضابطها؟.

والّذي نستطيع ان نقوله في إيضاح الوجه الّذي التزم به صاحب الكفاية بالانحلال ، مع فرض التزامه بثبوت العلم الإجمالي ، مع عزل طائفة من الاخبار ، وبه يخرج كلام صاحب الكفاية عن مجرد الدعوى إلى كلام رصين متين ، هو : ان عدم الانحلال لا يتقوم لمجرد وجود علم إجمالي مع عزل بعض أطراف العلم الإجمالي الصغير ، بل يتقوم بوجود علم إجمالي زائد على ما هو المعلوم بالإجمال الصغير ، بحيث لا يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال الكبير على المعلوم بالإجمال الصغير ، وإلا فمع احتمال انطباقه ينحل العلم الكبير كما أشرنا إليه ، وما نحن فيه كذلك ، فان الّذي لا يستطيع ان ينكره الفقيه بعد عزل طائفة من الاخبار هو وجود علم إجمالي بوجود حكم واقعي بين الاخبار الباقية وسائر الأمارات ، للعلم بمطابقة بعضها للواقع. ولكن هذا لا يستلزم بمجرده عدم الانحلال ، بل الّذي يستلزمه هو ان يكون هذا المعلوم بالإجمال مقدارا زائدا على المعلوم

ص: 313

بالإجمال الّذي عزلنا طائفة من الاخبار بمقداره ، وهذا مما لا علم لدينا به ، إذ نحتمل قريبا أو بعيد ان تكون تلك الأمارات المطابقة للواقع متفقة في المضمون مع الاخبار الصادرة المتضمنة للتكاليف ولا علم لدينا بان من الأمارات التي ليس على طبقها خبر صادر أصلا ما هو موافق للواقع ومصادف له ، فتطبيق ضابط عدم الانحلال فيما نحن فيه ناشئ من الخلط بين العلم بمطابقة بعض الأمارات وباقي الاخبار للواقع وبين العلم بثبوت تكليف زائد بينها على المقدار المعلوم بالإجمال بين الاخبار من التكاليف. والّذي ينفعهم هو الثاني دون الأول ، والموجود هو الأول دون الثاني. إذن فالمعلوم بالإجمال الكبير محتمل الانطباق على المعلوم بالإجمال الصغير فيما نحن فيه ، فلا يكون العلم الإجمالي الكبير منجزا ، بل دعوى الانحلال دعوى صحيحة.

وقد أخذ صاحب الكفاية هذه الجهة في ضمن الدليل ، فلا يرد عليه الوجه الأول من وجوه الشيخ.

وأما الثاني من الوجوه ، فهو يرد على الاستدلال بالتقريب الّذي ذكره الشيخ له من لزوم العلم بمظنون الصدور بلحاظ تطبيق مقدمات الانسداد في الاخبار ، ولكن صاحب الكفاية لم يذهب إلى ذلك ، بل ذهب - في تقريبه - إلى لزوم العمل بجميع الأخبار المثبتة ، فلا موضوع للوجه الثاني من إيرادات الشيخ حينئذ.

وأما الوجه الثالث ، فقد اتفق صاحب الكفاية مع الشيخ فيه ، فهو إشكال مشترك الورود على كلا التقربين ، وهو ما عرفت من ان هذا الدليل لا ينهض على إثبات حجية الخبر بالمعنى المطلوب في باب الحجية من صلاحيته لتقييد المطلقات وتخصيص العمومات وغير ذلك. بل إذا كان هناك إطلاق ينفى التكليف جاز العمل به في قبال الخبر المثبت له في بعض افراده وبالعكس ، بل يلزم العمل بالأصل العملي إذا كان مثبتا للتكليف ولو كان على خلافه خبر

ص: 314

ينفيه ، إذ لزوم العمل بالأخبار من باب الاحتياط وهو لا يؤسس الحجية بالمعنى المطلوب.

ثم ان الشيخ ذكر لزوم العمل بالخبر المثبت دون النافي في ضمن الإشكال على هذا الدليل ، ولكن صاحب الكفاية جعله من متممات الدليل. فالتفت.

ثم ان ما ذكره صاحب الكفاية من الترديد في جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في قبال الخبر النافي له لا يرجع إلى الترديد في الكبرى ، بل يرجع إلى الترديد في الصغرى ، وهي انه هل المورد من موارد جريان الاستصحاب أو من موارد عدم جريانه ، نظرا للاختلاف الواقع في جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، وان عدم جريانه لقصور المقتضي أو لوجود المانع؟. فلاحظ.

هذا تحقيق الحال في هذا الوجه.

وقد أطال المحقق النائيني الحديث فيه مما لا يهم التعرض إليه لعدم دخله الكبير فيما نحن فيه.

ويظهر من صدر كلامه عدم تسليم دعوى الانحلال ، ومن ذيله تسليم دعوى الانحلال ، وهو تهافت واضح. فراجع كلامه (1).

الوجه الثاني : ما نسب إلى صاحب الوافية مستدلا به على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة - كالكتب الأربعة - مع عمل جمع به من دون رد ظاهر له ، وهو : انا نقطع ببقاء التكاليف إلى يوم القيامة ولا سيما بالأصول الضرورية ، كالصلاة والزكاة والحج والمتاجر ونحوها ، مع ان جل شرائطها واجزائها وموانعها لا تثبت إلاّ بالخبر غير القطعي ، بحيث انا لو تركنا العمل بخبر الواحد لقطعنا بخروج حقائق هذه الأمور التي نأتي بها عن حقيقتها

ص: 315


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 199 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الواقعية ، فنعلم إجمالا بثبوت الاجزاء والشرائط في ضمن هذه الاخبار (1).

واستشكل الشيخ رحمه اللّه فيه لسببين :

الأول : ان العلم الإجمالي بوجود الاجزاء والشرائط حاصل بملاحظة جميع الأخبار لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكر ، وهو غير منحل بالعلم الإجمالي بوجودها في خصوص هذه الأخبار ، لعين ما تقدم بيانه في الوجه الأول من وجوه الإشكال على الدليل الأول. فاللازم هو ملاحظة العلم الإجمالي الكبير والعمل بما يقتضيه حكم العقل بالنسبة إليه (2).

وأورد عليه في الكفاية بما تقدم من : ان العلم الإجمالي الكبير يحتمل ان يكون المعلوم به منطبقا على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير ، ولذا لو علم بما هو الصادر من بين الاخبار المخصوصة انحل العلم الإجمالي الحاصل بين جميع الاخبار.

وعليه ، فيكون العلم الإجمالي الصغير موجبا لانحلال العلم الكبير (3).

ولا يخفى ان دعوى الانحلال تتوقف على ان يكون المعلوم بالإجمال الصغير بقدر الكفاية بحيث لا يعلم بوجود اجزاء أخر أو شرائط في ضمن غيرها من الاخبار ، كما أشار إلى ذلك في الكفاية. وهذا أمر وجداني يختلف باختلاف الأنظار. فالتفت.

الثاني : ان مقتضى هذا الوجه هو لزوم العمل بالخبر المثبت للجزئية أو الشرطية دون النافي لهما.

وذكر صاحب الكفاية : أن الأولى الإيراد عليه ، بان مقتضاه الاحتياط

ص: 316


1- الوافية - 57.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /105- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /306- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالعمل بالأخبار المثبتة إذا لم يقم على خلافها دليل معتبر من عموم أو إطلاق (1) ، وليس مقتضاه حجية الخبر بالمعنى المرغوب بحيث يكون صالحا لمصادمة دليل آخر على خلافه فيقيده أو يخصصه أو غير ذلك. كما لا يجوز العمل بالخبر النافي إذا كان في قباله دليل على الجزئية أو الشرطية ولو كان ذلك الدليل أصلا عمليا ، إذ لا يثبت هذا الوجه حجية الخبر بنحو يرفع موضوع الأصل ، بل العمل به من باب الاحتياط وهو لا يتصور في موارد النفي.

وما ذكره صاحب الكفاية متين جدا فلا بأس بالالتزام به.

الوجه الثالث : ما نسب إلى المحقق التقي صاحب الحاشية على المعالم (2).

وملخص ما أفاده قدس سره - كما ذكره صاحب الكفاية - : انا نقطع بأننا مكلفون بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة ولزوم العمل بهما. فإن تمكنا من الرجوع إليهما بنحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه تعين ذلك ، وإلا فلا محيص عن الرجوع إلى الظن بالصدور أو بالاعتبار (3).

وناقشه الشيخ رحمه اللّه بما محصله : ان المراد بالسنة إن كان نفس قول المعصوم وفعله وتقريره ، فلزوم الرجوع إليها لا يختص بما إذا ثبتت بالخبر ، بل بكل طريق من الطرق ، فإذا لم يمكن العلم بها تعين الرجوع إلى كل ما يحصل الظن بها خبرا كان أو غيره من الأمارات الظنية ، فيكون مرجع ما ذكره إلى دليل الانسداد. وان كان المراد بالسنة الاخبار الحاكية عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فهو مضافا إلى انه خلاف الاصطلاح ، راجع إلى الوجه الأول ، إذ العلم

ص: 317


1- والوجه فيه : ما يقرر في مبحث العلم الإجمالي من انه إذا قام على بعض أطرافه بالخصوص دليل جاز العمل به ولو كان ذلك الدليل من الأصول العملية ، ولا يقتضي العلم الإجمالي نفيه ، وسيأتي توضيحه في محله إن شاء اللّه تعالى ( منه عفي عنه ).
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. هداية المسترشدين /397- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /306- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بلزوم الرجوع إلى الاخبار ولو لم يحصل العلم منها برأي المعصوم علیه السلام انما هو لأجل العلم الإجمالي بصدور بعضها فيرجع إلى الوجه الأول ، وإذا كان منشؤه العلم الإجمالي بمطابقة بعضها للأحكام الواقعية رجع هذا الوجه إلى دليل الانسداد.

وخلاصة المناقشة : انه على تقدير يرجع إلى دليل الانسداد ، وعلى تقدير آخر يرجع إلى الوجه الأول ، فليس هو وجها مستقلا في قبال الوجوه الأخرى (1).

واستشكل صاحب الكفاية فيما ذكره الشيخ : بان مراده يمكن ان يكون شقا ثالثا لا يرجع كلامه معه لا إلى دليل الانسداد ولا إلى الوجه الأول ، وهو ثبوت العلم الإجمالي بلزوم الرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة. وبعبارة أخرى : ثبوت العلم الإجمالي بحجية بعض الروايات من دون تمييز ، فينفصل كلامه عن دليل الانسداد وعن الدليل الأول كما لا يخفى.

وقد تنظر صاحب الكفاية فيه - ونعم التنظر - : بان مقتضى هذا العلم الإجمالي ليس الرجوع إلى الظن ، بل لزوم الرجوع إلى ما هو متيقن الاعتبار من بين الاخبار - لوجوده بينها جزما كالصحيح الأعلائي مثلا - ، فان وفى انحل به العلم الإجمالي. وإلا أضيف إليه متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره كخبر الثقة مثلا بالإضافة إلى الضعيف ، إذا كان هناك متيقن بالإضافة وبه ينحل العلم الإجمالي ، ولو لم يكن متيقن بالإضافة ، فاللازم الاحتياط بالعمل بالخبر المثبت إذا لم يقم على خلافه دليل ، إذ لا ينهض هذا الوجه على إثبات حجية الخبر بالمعنى المرغوب المطلوب ، بل ينهض على لزوم العمل به من باب الاحتياط فلا يصادم الدليل على خلافه. واما الخبر النافي فيجوز العمل به إذا لم يقم على

ص: 318


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /105- الطبعة الأولى.

خلافه دليل على ما عرفت (1).

ونتيجة ذلك كله : انه لا دليل من العقل يقضي بحجية الخبر بالخصوص بحيث يصادم سائر الحجج المعتبرة ، فالوجوه العقلية كغيرها من وجوه الاستدلال على حجية الخبر.

ويتحصل لدينا : انه لا دليل على حجية الخبر بالخصوص.

ص: 319


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /307- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ص: 320

« حجية مطلق الظن »
اشارة

ويقع الكلام بعد ذلك في حجية مطلق الظن.

وقد ذكر لإثباتها وجوه :

الوجه الأول : ان الظن بالتكليف يلازم الظن بالضرر على مخالفته ، ودفع الضرر المظنون لازم.

أما الصغرى ، فلأن مخالفة التكليف تستلزم العقوبة ، كما تستلزم الوقوع في المفسدة بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فالظن بالتكليف ملازم للظن بالعقوبة والمفسدة في مخالفته.

وأما الكبرى ، فلحكم العقل بدفع الضرر المظنون ، وحكمه بذلك لا يستند إلى حكمه بالحسن والقبح ، بل مع إنكار التحسين والتقبيح العقليين يلتزم بثبوت لزوم دفع الضرر المظنون ، إذ لا ينكر الأشعري - المنكر للحسن والقبح - بان العاقل بما هو عاقل له التزامات خاصة في أعماله ولا تصدر منه إعمال سفهية ، فهو لا ينكر ان العاقل لا يقدم على مظنون الضرر.

واستشكل صاحب الكفاية (1) في هذا الوجه بمنع الصغرى ، فذهب إلى

ص: 321


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /308- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالضرر على مخالفته.

أما العقوبة ، فلأنها لا تترتب على مجرد مخالفة التكليف الواقعي ، بل هي تترتب على المعصية ، وهي لا تتحقق إلا إذا كان التكليف منجزا عقلا. إذن فالظن بالتكليف لا يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته.

ثم ذكر انه قد يقال : إن العقل كما لا يستقل بتنجز التكليف بمجرد الظن به لا يستقل بعدم العقاب على مخالفته ، فتكون العقوبة محتملة ، فيكون المورد من موارد دفع الضرر المشكوك ، ودعوى لزومه قريبة جدا.

ولكن هذا القول لو سلم فهو يرجع إلى إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولزوم الاحتياط لعدم المعذّر ، وهو أجنبي عن حجية الظن ، بل هو قول بلزوم الاحتياط. وهذا لم يذكره صاحب الكفاية.

وأما المفسدة ، فلوجهين :

أحدهما : إنكار لزوم تبعية الحكم للمصلحة أو المفسدة في متعلقه ، بل يمكن ان يكون تابعا لمصلحة فيه وهي تستوفي بمجرد الجعل.

والآخر : ان التكليف انما ينشأ عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه نوعية لا شخصية ، ولذا كانت بعض الواجبات تستلزم إضرارا شخصية ، كالجهاد والزكاة ، كما ان بعض المحرمات تستلزم منافع شخصية ، كالسرقة والغصب. فلاحظ.

الوجه الثاني : انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.

وأورد عليه : بأنه انما يتم لو فرض عدم قيام الحجة على خلاف الظن ، وفرض أيضا لزوم العمل وعدم جواز ترك العمل بإجراء البراءة ، وفرض أيضا عدم إمكان الجمع بين الاحتمالين أو عدم جوازه شرعا ، فهذا الدليل يتوقف على تمامية مقدمات الانسداد ، وبدونها لا ينهض دليلا على حجية الظن ، فيرجع إلى

ص: 322

دليل الانسداد.

الوجه الثالث : - ما عن السيد الطباطبائي قدس سره - : من انه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوب ذلك كله لأنه عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات لأن الجمع على غير هذا الوجه باطل إجماعا (1).

ويرد عليه : ان تمامية ما ذكر تبتني على ضم مقدمات أخرى إليه ، كانسداد باب العلم والعلمي ، وكعدم جواز الرجوع إلى الأصول العملية أو التقليد. وإلا فمع عدم الانسداد ينحل العلم الإجمالي ، ولا يلزم الاحتياط إذا جاز الرجوع إلى البراءة أو غيرها من الأصول. ومع ضميمة هذه المقدمات يرجع الدليل إلى دليل الانسداد. فلاحظ.

الوجه الرابع : دليل الانسداد.

وقد ذكر في الكفاية : أنه مؤلف من مقدمات يستقل العقل مع تحققها بكفاية الإطاعة الظنية - حكومة أو كشفا - وبدونها لا يستقل العقل بذلك ، وهي خمسة :

الأولى : تحقق العلم الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية في الشريعة.

الثانية : انسداد باب العلم والعلمي إلى كثير من هذه الأحكام.

الثالثة : عدم جواز إهمال الأحكام وعدم التعرض لامتثالها بالمرة.

الرابعة : عدم وجوب الاحتياط في أطراف العلم ، بل عدم جوازه في

ص: 323


1- كما في فرائد الأصول / 111 حكاية عن أستاذه شريف العلماء ( قده ).

الجملة ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مسألة بملاحظتها بنفسها من براءة أو احتياط أو تخيير أو استصحاب ، وعدم جواز الرجوع إلى فتوى العالم بحكم المسألة.

الخامسة : بما ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، يستقل العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة بالإجمال ، إذ لو نسلك هذا الطريق بعد فرض انسداد باب العلم والعلمي ، فاما ان نهمل الأحكام وهو ما نفى بالمقدمة الثالثة. أو نرجع إلى الاحتياط التام أو الأصل في كل مسألة أو التقليد فيها وهو ما نفي بالمقدمة الرابعة. أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية والوهمية وهو ما نفي بالمقدمة الخامسة. فالتفت.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في بيان دليل الانسداد (1).

وقد ألفه الشيخ رحمه اللّه من مقدمات أربعة بإسقاط مقدمية وجود العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الفعلية في الشريعة (2).

وصححه المحقق النائيني : بأن الغرض من هذه المقدمة إن كان العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها ، فهو من البديهيات ، نظير العلم بوجود الشارع. وان كان المراد العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقائع المشتبهة ، فهو ليس من المقدمات ، بل أحد الوجوه التي تبتني عليها المقدمة الثالثة - أعني عدم جواز الإهمال - (3).

واستشكل المحقق الأصفهاني في حذف هذه المقدمة من قبل الشيخ رحمه اللّه : بان إسقاطها إن كان لأجل عدم المقدمية ، فمن الواضح انه لولاها لم يكن مجال للمقدمات الآخر إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. وان كان

ص: 324


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /311- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /111- الطبعة الأولى.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 226 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لوضوح هذه المقدمة لدلالة سائر المقدمات عليها ، فمن الواضح ان وضوحها لا يوجب عدم مقدميتها ولا الاستغناء بذكر الباقي عن ذكرها ، وإلا كان بعضها الآخر كذلك ، بل بعضها أوضح ، هذا تمام كلامه (1).

ولعل مقصوده من البعض الأوضح هو المقدمة الثالثة - بحساب صاحب الكفاية - ، فان عدم جواز إهمال الأحكام وعدم التعرض لامتثالها من الواضحات التي لا تقبل الإنكار كما سيجيء.

ولا يخفى عليك ان هذا الحديث بين الاعلام أشبه باللفظي ، فان دخالة وجود العلم الإجمالي بالاحكام وتأثيره في تمامية الدليل مما لا ينكر. انما البحث في ذكره مقدمة بالاستقلال وعدم ذكره كذلك ، بل استفادته من طي الكلام وهذا المعنى ليس بمهم. ونستطيع ان نقول : ان الشيخ أخذ وجود العلم الإجمالي في جملة المقدمات ، إذ فرض وجود الواقعيات التي لا يجوز إهمال امتثالها وفرض انسداد باب العلم والعلمي ملازم للعلم الإجمالي ، ولولاه لما كان للمقدمات الأخرى موضوع ومجال.

نعم ، يختلف الشيخ عن صاحب الكفاية في ان تنبيهه على العلم الإجمالي بالالتزام. بخلاف صاحب الكفاية فانه نصّ عليه مطابقة وصريحا. والأمر سهل.

هذا ، ولكن المحقق العراقي أعطى هذه الجهة من البحث أهمية ، وذهب إلى : ان أخذ العلم الإجمالي في جملة المقدمات ينتج ما لا ينتجه الغض عنه وإهماله من المقدمات.

فذهب رحمه اللّه إلى : انه إذا فرض أخذ العلم الإجمالي كانت النتيجة هي التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن - حكومة أو كشفا - ، بخلاف ما إذا لم يؤخذ العلم الإجمالي ، فان النتيجة هي حجية الظن لا التبعيض في الاحتياط.

ص: 325


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 99 - الطبعة الأولى.

وقد أطال المقرّر في بيان هذا المطلب ، وملخص الّذي ذكره في بيان عدم إمكان الانتهاء إلى حجية الظن لو أخذ العلم الإجمالي بالتكليف في جملة المقدمات ، وانما النتيجة هي التبعيض في الاحتياط ، هو : انه لو كانت النتيجة هي حجية الظن لزم الوقوع في محذورين :

الأول : ان العلم الإجمالي منجز لأطرافه ، فقيام الحجة على بعض أطرافه محال لاستلزام ذلك تنجيز المنجز ، مع ان المتنجز لا يتنجز ثانيا ، فلا يمكن ان يكون الظن حجة في أطراف العلم الإجمالي ، إذ المتنجز لا يتنجز.

الثاني : ان الظن إذا كان حجة كان مستلزما لانحلال العلم الإجمالي وارتفاعه ، وهو مناف لفرض كونه مقدمة لحجية الظن ، كما لا يخفى (1).

وهذان الوجهان مردودان ، وذلك : لأن المأخوذ مقدمة اما أنه يكون هو العلم الإجمالي بوجوده التكويني بلا لحاظ منجزيته. أو يكون هو العلم الإجمالي المنجز.

فعلى الأول : يتّضح ردّ الوجه الأول من وجهي الإشكال اللذين ذكرهما ، إذ قيام الظن بما انه منجز وحجة على أحد الأطراف لا يكون من تنجيز المنجز ، إذ لم يفرض التنجيز سابقا على الظن.

وأما الوجه الثاني ، فيندفع :

أولا : بان قيام الحجة غير العلم يوجب انحلال العلم الإجمالي حكما لا حقيقة فهو بعد على حاله.

وثانيا : لو سلم الانحلال الحقيقي بحيث لا يبقى للعلم الإجمالي بعد قيام الظن عين ولا أثر ، فهو لا ينافي مقدمية العلم الإجمالي إذا كان سبب استكشاف حجية الظن هو العلم الإجمالي ، نظير ما لو علم العبد أن عليه تكليفا ما ، فكان

ص: 326


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 146 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ذلك موجبا للفحص والتصدي إلى معرفته ، فان حصول اليقين وإن كان يرفع العلم الإجمالي السابق لكنه لا ينافي كونه مقدمة له بحيث لولاه لما حصل العلم التفصيليّ.

والسر في ذلك كله : ان العلم الإجمالي يفرض مقدمة بوجوده الحدوثي لا الاستمراري فلا ينافي ذلك انحلاله بحجية الظن ، لأنه مقدمة لحجية الظن حدوثا لا بقاء.

وعلى الثاني : فالمراد لا بد ان يكون هو التنجيز بلحاظ المخالفة القطعية لا بلحاظ الموافقة القطعية ، إذ يلغو حينئذ فرض عدم جواز الإهمال مقدمة ، لأنه مأخوذ في المقدمة الأولى كما يلغو أخذ المقدمة الثانية ، لأن المنجزية فرع انسداد باب العلم والعلمي. فلا بد ان يراد التنجيز في الجملة ولو بلحاظ المخالفة القطعية.

وهو لو سلم ولم يناقش فيه : بان المأخوذ ذات العلم الإجمالي بلا قيد التنجيز أصلا لعدم دخالته في النتيجة كما سيظهر في الكلام عن المقدمة الثالثة - لو سلم ذلك - لم ينفع في تمامية الوجهين المذكورين ..

اما الأول : فلأن منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة القطعية لا تنافي قيام المنجز على أحد أطرافه المعين ، لأن كل طرف بعينه لم يتنجز بالعلم كما لا يخفى.

وأما الثاني : فيندفع بما تقدم من ان العلم الإجمالي لا ينحل حقيقة ، بل ينحل حكما ، وهو لا ينافي منجزية العلم الإجمالي في الجملة. وان العلم الإجمالي لو فرض انحلاله حقيقة لم يضر ذلك في كونه مقدمة ، لأنه مؤثر بوجوده الحدوثي لا البقائي. فلاحظ.

والنتيجة : ان ما ذكره قدس سره غير تام ، وقد عرفت ضرورة فرض العلم بالاحكام ، إذ بدونه لا موضوع لباقي المقدمات ، كما هو واضح جدا.

ص: 327

ثم إنه لا بأس بالتنبيه على شيء ، وهو : بيان الفرق بين التبعيض في الاحتياط وحجية الظن على الحكومة ، حيث أنكره المحقق النائيني والتزم بان معنى حجية الظن على الحكومة هو التبعيض في الاحتياط (1) ، وقد أشار إلى ذلك في بادي الأمر في البحث عن تعريف الأصول حول ما ذكره صاحب الكفاية من القيد الزائد فيه (2).

والظاهر ان الفرق واضح ، فان التبعيض في الاحتياط يرجع إلى العمل بالظن في مقام إفراغ الذّمّة عن التكليف المنجز بواسطة العلم الإجمالي. وبتعبير آخر : هو متابعة العلم الإجمالي في بعض أطرافه وهو المظنونات خاصة.

أما حجية الظن ، فهي ترجع إلى إثبات التكليف المجهول بواسطة الظن وتنجزه على المكلف بطريقه.

والأثر العملي يظهر في جواز الإسناد والاستناد بناء على حجية الظن كسائر الحجج دون التبعيض في الاحتياط. كما يظهر في تقييد المطلقات وتخصيص العمومات المثبتة للتكليف بالظن النافي له بناء على حجية الظن ، وليس كذلك بناء على التبعيض في الاحتياط.

نعم ، هذا يتم لو فرض ان النتيجة هي العمل بالظن بقول مطلق حتى الظن بعدم التكليف ، وإلا لم تظهر الثمرة العملية من هذه الجهة كما لا يخفى.

ثم إنه لا يخفى ان إيقاع البحث في توجيه كون هذا الدليل عقليا وإطالة الكلام في ذلك ليس بذي أهمية وأثر ، فإغفال البحث عنه أولى. ويقع الكلام بعد ذلك في إثبات أو نفي كل مقدمة مقدمة.

أما المقدمة الأولى : فقد ذكر في الكفاية بأنها وان كانت بديهية ، لكن عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين

ص: 328


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 135 - 136 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1/ 28 - 29 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

علیهم السلام التي تكون فيما بأيدينا من الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في خصوص ما في الروايات ، وهو غير مستلزم للعسر ، فضلا عما يوجب الاختلال ولم يقم الإجماع على عدم وجوبه لو سلم قيام الإجماع على عدم وجوبه لو لم يكن انحلال (1).

ونظر صاحب الكفاية قدس سره إلى بيان انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير الّذي تقدم تحقيقه في الوجه الأول العقلي المستدل به على حجية خبر الواحد.

ولا يخفى ان المأخوذ في المقدمة الأولى هو العلم الإجمالي بوجوده التكويني ، كما تقدم تقريبه في مناقشة المحقق العراقي ، وحينئذ فنفي هذه المقدمة بوجود العلم الإجمالي الصغير المانع من تنجيز العلم الإجمالي الكبير ليس على ما ينبغي ، إذ لم يؤخذ التنجيز في المقدمة كي يكون نفيه نفيا للمقدمية ، إلا أن يكون مراد الكفاية تحديد دائرة المعلوم بالإجمال ومقداره لا نفي منجزية العلم الكبير ، بل بيان أن المعلوم بالإجمال له حد خاص كي يكون موضوعا للأبحاث اللاحقة في سائر المقدمات.

ولا يخفى انه انما يتم إذا فرض انه يلتزم باستلزام العلم الإجمالي الصغير انحلال العلم الإجمالي الكبير حقيقة لا حكما ، وإلا فلا تتضيق دائرة المعلوم بالإجمال بوجود العلم الصغير ، وانما يرتفع تنجيزه وهو خارج عن محل البحث.

هذا ، ولكن ما ذكرناه من التوجيه يتنافى مع ذيل كلامه من بيان لزوم الاحتياط التام ومنجزية العلم الإجمالي عين الاخبار ، لأن ظاهره كون محط النّظر منجزية العلم الإجمالي. إلا ان يقال : ان بيان ذلك استطرادي واستعجال في بيان نتيجة اختلاف المقدمة الأولى وتضييق دائرة المعلوم بالإجمال.

ص: 329


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /312- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأما المقدمة الثانية : فهي بالنسبة إلى العلم لا تقبل الإنكار بلحاظ زماننا ، فان كل من يطلع على فروع الفقه وأدلته يحصل له اليقين بعدم انفتاح باب العلم فيه.

وأما بالنسبة إلى العلمي ، فقد بنى الشيخ رحمه اللّه تماميتها على عدم القول بحجية خبر الواحد الثقة. وإلا فمع الالتزام بحجية خبر الثقة لا تتم هذه المقدمة لوفائه بمعظم الفقه (1). ومن هنا ذهب صاحب الكفاية إلى انها غير ثابتة لنهوض الأدلة على حجية خبر يوثق بصدقة - ويريد به الأعم من كون السبب الوثاقة بالراوي أو الوثاقة بالصدور لأجل بعض القرائن - ، وهو بحمد اللّه واف بمعظم الفقه (2).

أقول : تقدم عدم تمامية الأدلة لإثبات حجية خبر الواحد إلا إذا أحرزت وثاقته بالوجدان بحيث يحصل الوثوق والاطمئنان من خبره بصدور الحكم من المعصوم علیه السلام .

وهذا المعنى لم نتفرد به فقد قربه الشيخ في أواخر أدلة الحجية المتقدمة (3). كما انه قد يظهر من عبارة الكفاية في هذا المقام (4).

إذن ، فنحن متفقون على حجية الخبر المفيد للاطمئنان الّذي هو حجة بلا كلام - بل عرفت فيما تقدم في بعض تحقيقاتنا ان حجيته على حدّ حجية القطع (5) -.

لكن الإشكال في الصغرى ، فهل لدينا من الاخبار التي يطمئن بصدورها

ص: 330


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /112- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /312- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /106- الطبعة الأولى.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول -4. طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
5- راجع 4 / 186 من هذا الكتاب.

ما يفي بمعظم الفقه ، كما يذهب إليه في الكفاية أو لا؟.

ولا يخفى ان ذلك يبتني على مزيد الفحص والسير في الاخبار وأحوال رواتها وحسن الظن في تعديلهم وتوثيقهم ، وإلا فالأخذ بتوثيقهم من باب التعبد لا ينفع في حصول الوثوق بالخبر ، كما عرفت ذلك في البحث عن دلالة السنة على حجية الخبر ، فراجع.

إذن فنستطيع ان نقول - حيث ليس لدينا حسن الظن بالتعدي بالنحو الّذي ينفي احتمال اشتباه الموثق لدينا وانما نأخذ به من باب التعبد - : بان هذه المقدمة - أعني انسداد باب العلم ، والعلمي - ثابتة تامة.

أما المقدمة الثالثة : فهي قطعية لا تقبل التشكيك. واستدل عليها الشيخ بوجوه ثلاثة :

الأول : الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال امتثال الأحكام بالمرة وصيرورتنا كالأطفال والمجانين.

وهذه المسألة لم تحرر في كتب الاعلام إلا أخيرا ، فدعوى الإجماع تستند إلى استفادة هذا الرّأي من تصريحاتهم في بعض الموارد بحيث يقطع أنهم يقولون به لو فرض انسداد باب العلم والعلمي عندهم.

الثاني : استلزام الإهمال للمخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين. ومن الواضح ان الخروج عن الدين مما يقطع بعدم جوازه شرعا.

الثالث : العلم الإجمالي المستلزم لتنجيز التكاليف المعلومة بين أطرافه ، فلا يجوز ترك جميع الأطراف لاستلزامه مخالفة العلم الإجمالي المنافية مع فرض تنجيزه ، مع غض النّظر عن استلزامه مخالفة العلم الإجمالي المنافية مع فرض تنجيزه ، مع غض النّظر عن استلزام ذلك للخروج عن الدين (1).

وقد ذكر المحقق النائيني هذه الوجوه بعينها ، والشيء الّذي أراد ذكره ،

ص: 331


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /112- 115 - الطبعة الأولى.

هو : بيان اختلاف نتيجة دليل الانسداد باختلاف الوجوه. فإذا كان المستند لعدم جواز الإهمال الوجهين الأولين كانت النتيجة حجية الظن. وإذا كان المستند هو الوجه الأخير كانت النتيجة هي التبعيض في الاحتياط (1).

أما صاحب الكفاية ، فقد استدل على هذه المقدمة بالوجهين الأولين ، ولم يستدل بالعلم الإجمالي لبنائه على انحلال العلم الإجمالي وعدم منجزيته لو جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه - كموارد الاضطرار إلى بعض الأطراف - ، ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز كما التزم به غيره.

ومن هنا أورد على نفسه : بان العلم الإجمالي إذا لم يكن منجزا لم تصح المؤاخذة على مخالفته ، إذ العقاب حينئذ يكون بلا بيان والمؤاخذة عليها مؤاخذة بلا برهان وذلك قبيح عقلا بلا كلام.

وأجاب عنه : بان العلم باهتمام الشارع بالاحكام الواقعية يكون كاشفا بطريق اللم عن إيجاب الاحتياط من قبل الشارع ، فيكون منجزا للواقع ، وبه يرتفع موضوع قبح العقاب بلا بيان ، ويكون العقاب على المخالفة عقابا مع البيان (2).

وقد يورد عليه :

أولا : بان إيجاب الاحتياط بوجوده الواقعي لا يصلح للبيانية والتنجيز ، وانما يكون كذلك بوجوده الواصل ، وإذا فرض صلاحية العلم باهتمام الشارع لإيصال وجوب الاحتياط وكونه بيانا له ، فهو صالح لبيان الواقع المجهول رأسا بلا احتياج إلى توسيط وجوب الاحتياط.

وثانيا : أن إيجاب الاحتياط إن أريد به الاحتياط التام من جهة المخالفة

ص: 332


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 232 - 234. طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /312- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

القطعية والموافقة القطعية ، فهو مناف لما يفرض في المقدمة الرابعة من عدم وجوبه أو عدم جوازه على ما سيأتي. وان أريد به الاحتياط الناقص - يعني الاحتياط من حيث المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية - ، فهو يتنافى مع مسلكه من عدم إمكان التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، فإذا لم تجب هذه لم تحرم تلك (1).

وثالثا : ان فرض وجوب الاحتياط في هذه المقدمة يرفع موضوع المقدمة الرابعة التي يقع البحث فيها في العمل بالاحتياط أو الرجوع إلى الأصول أو التقليد ، إذ لا يبقى مجال لذلك أصلا كما لا يخفى ، لعدم الترديد في طرق الامتثال حينئذ ، وهذا خلف الفرض ، فلا بد من فرض المقدمة الثالثة بنحو يفسح المجال لسائر المقدمات لا بنحو يسد المجال عليها.

فالأولى أن يقال : ان مقتضى ما ذكر من الوجوه هو عدم جواز إهمال امتثال الأحكام والرجوع إلى البراءة بقول مطلق ، فالمقدمة الثالثة تتكفل إثبات هذه الجهة فقط.

أما ما هو المرجع والطريق في مقام الامتثال ، فهذا هو محل الكلام في المقدمتين الأخيرتين.

والعمدة في هذه الإيرادات هو الأخير. أما الإيرادان الأولان ، فهما قابلان للمنع.

أما الأول : فلأنه لا ملازمة بين صلاحية العلم بالاهتمام لبيان وجوب الاحتياط وصلاحيته لبيان الواقع ، إذ المدعى انه يوجب العلم بوجوب الاحتياط مع أنه لا يوجب العلم بالواقع ، فصلاحيته لإيصال وجوب الاحتياط لأجل سببيته للعلم به وهو ليس سببا للعلم بالواقع كما لا يخفى.

ص: 333


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 100 - الطبعة الأولى.

وبعبارة أخرى : وصول وجوب الاحتياط بالعلم به المسبب عن العلم بالاهتمام ، ولا علم بالواقع - على الفرض - كي يكون منجزا بلا إيجاب الاحتياط.

وأما الثاني : فلأن صاحب الكفاية لا يلتزم بالتفكيك المزبور بلحاظ العلم الإجمالي ، بدعوى ان العلم الإجمالي إما ان يكون علة تامة للمنجزية ، فكما تحرم المخالفة القطعية تجب الموافقة القطعية. واما ان لا يكون علة تامة للتنجيز ، فكما لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية. أما إذا فرض عدم منجزية العلم الإجمالي واستفيد وجوب الاحتياط من دليل خارجي ، فالمتبع في مقدار الاحتياط دليله ، فقد يدل على الاحتياط التام وقد يدل على الاحتياط الناقص والتفكيك بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، كما التزم بلزوم الصلاة إلى جهة واحدة فقط مع اشتباه القبلة لمساعدة بعض الأدلة ، ولكن بشرط ان لا يعلم خروج القبلة عن الجهة التي يصلي إليها ، فالمخالفة القطعية محرمة مع عدم وجوب الموافقة القطعية. فلاحظ والتفت.

وعلى كل ، فالذي تفيده هذه المقدمة عدم جواز إهمال الواقعيات وعدم التعرض لامتثالها رأسا.

وأما المقدمة الرابعة : فهي على ما عرفت تتكفل نفي الرجوع إلى الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي. ونفي الرجوع إلى الأصل في كل مسألة بملاحظتها نفسها. ونفي الرجوع إلى فتوى المجتهد العالم بحكم المسألة.

فيقع الكلام في كل جهة من هذه الجهات ..

أما الاحتياط التام : فان كان يوجب اختلال النظام - والأمر كذلك كما يظهر من مراجعة كلام الشيخ في هذا المقام (1) - ، فلا كلام في عدم وجوبه. واما

ص: 334


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /118- الطبعة الأولى.

إذا كان يوجب العسر والحرج بلا اختلال في النظام ، فقد يحتمل عدم وجوبه استنادا إلى ما دل على نفي العسر والحرج.

ولكن صاحب الكفاية استشكل في ذلك ، بل منعه ، ابتناء على ما اختاره في مفاد أدلة نفي الحرج ونفي الضرر (1).

وبيان ذلك : ان الاحتمالات في مفاد أدلة نفي الضرر ونفي الحرج متعددة ، وما يرتبط منها في المقام اثنان :

أحدهما : ما بنى عليه صاحب الكفاية من انهما يتكفلان نفي الحكم عن الموضوع الضرري أو الحرجي ، فالمراد من الضرر والحرج الموضوع الضرري والحرجي ، فيقصد نفي الحكم عنهما بلسان نفيهما (2).

الآخر : ما ينسب إلى الشيخ من انهما يتكفلان نفي الحكم الضرري والحرجي ، بمعنى الحكم الناشئ من قبله الضرر والحرج ، فهما يتكفلان نفى السبب بلسان نفي المسبب (3).

وعليه ، فقد ذكر في الكفاية : انه بناء على ما اختاره في مفاد دليل نفى الحرج لا يكون رافعا لوجوب الاحتياط العقلي. وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي الواقعي لا يستلزم الحرج ، ولذا لا يرتفع لو علم به ، فلا ترفعه أدلة نفى الحرج ، وإنما المستلزم للحرج هو الاحتياط والجمع بين محتملات التكليف ، وهو ليس متعلقا لحكم شرعي بل عقلي ، فلا يقبل الرفع شرعا.

أما بناء على المسلك الآخر ، فأدلة نفي الحرج متكفلة لرفع الحكم الشرعي الواقعي ، لأن العسر ينشأ من قبل التكاليف المجهولة فيرفعها دليل نفي الحرج ، وبرفعها لا يبقى مجال لقاعدة الاحتياط عقلا لارتفاع موضوعها.

ص: 335


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /313- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /381- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /314- الطبعة الأولى.

ثم ذكر صاحب الكفاية : أنه إذا التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج في المقام ورفع وجوب الاحتياط التام بواسطتها ، لا وجه لدعوى استقلال العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف ، بل لا بد من دليل آخر شرعي يقوم عليه (1).

وهذا أيضا يبتني على ما التزم به في مبحث العلم الإجمالي من أنه إذا كان هناك ما يمنع من تنجيزه التام - كالاضطرار إلى ارتكاب أو ترك بعض أطرافه - سقط عن المنجزية بالمرة ، فيجوز ارتكاب أو ترك الطرف الآخر غير المضطر إليه (2). ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز فيما نحن فيه كما ذهب إليه الشيخ (3) جمعا بين قاعدة الاحتياط ومقتضى العلم الإجمالي وبين دليل نفي العسر والحرج.

وقد استشكل المحقق النائيني في عدم ارتفاع وجوب الاحتياط العقلي إذا استلزم العسر والحرج ، وقدّم لذلك مقدمة طويلة ذكر انها لرفع شبهة غرست في أذهان الطلاب منشؤها ما ذكره في الكفاية. وملخص ما استند إليه في تحقيق الإشكال وجهان :

الأول : ان العسر والحرج كالاضطرار إلى بعض الأطراف ، فكما أنه موجب لعدم وجوب الاحتياط التام في جميع الأطراف كذلك العسر والحرج. فلا يبتنى عدم وجوب الاحتياط التام على حكومة أدلة نفي الحرج على وجوب الاحتياط شرعا.

الثاني : انه يمكن ان تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على وجوب الاحتياط العقلي. ببيان : ان وجوب الاحتياط الّذي يحكم به العقل انما يحكم به لأجل رعاية التكاليف الشرعية ، فإذا كانت رعايتها في حال الانسداد مستلزمة للعسر والحرج كانت أدلة نفيها مقتضية لعدم إلزام العقل بالاحتياط التام ،

ص: 336


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /313- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /360- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول - 124 و254- الطبعة الأولى.

فتكون حكومتها على حكم العقل بالاحتياط من شئون حكومتها على الأحكام الشرعية ، فان انتشار الأحكام الواقعية بين الأطراف الكثيرة ولزوم امتثالها هو الّذي استلزم الحرج ، فهو ينتهي بالآخرة إلى الأحكام الشرعية (1).

وفي كلا الوجهين نظر :

أما الأول : فلما أفاده المحقق الأصفهاني من : ان القدرة لازمة في تنجز التكليف ، فإذا اضطر إلى أحد الأطراف اضطرارا عقليا يخرجه عن حد اختياره امتنع تنجز التكليف في حقه لو كان فيما اضطر إليه ، بل يحكم العقل بمعذوريته ، وهكذا الحال لو اضطر إلى غير معين ، فان العقل يرخصه في اختيار أحد الأطراف ويكون معذورا لو صادف الحرام. وليس كذلك العسر والحرج ، فانه ليس من شرائط التكليف أو التنجيز عقلا ، كما انها لا تستلزم رفع التكليف شرعا لعدم كون متعلقه حرجيا ، فلا يمتنع تنجز العلم الإجمالي إذا كان الاحتياط حرجيا (2).

وأما الثاني : فلأن المقصود منه بيان ان أدلة نفي الحرج ترفع الحكم الناشئ من قبله الحرج ، فهو ليس إشكالا على صاحب الكفاية ، لأنه خلاف مبناه ، وقد أشار إلى المبنى الآخر الملازم لحكومة أدلة نفي الحرج على قاعدة الاحتياط ، فليس أمرا جديدا.

وإن كان المقصود منه بيان انها رافعة لوجوب الاحتياط حتى على مسلك صاحب الكفاية في مقادها. ففيه : ما عرفت ان ما يستلزم العسر هو الاحتياط وهو ليس موضوعا لحكم شرعي كي يقبل الرفع شرعا.

إلا أن يكون نظره إلى ان وجوب الاحتياط وان كان عقليا لكنه ناشئ

ص: 337


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 254 - 255. طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 101 - الطبعة الأولى.

عما يقبل الرفع ، لأنه لأجل مراعاة الأحكام الواقعية ، وذلك يصحح رفع وجوب الاحتياط من قبل الشارع.

ولكن ذلك غير صحيح ، لأن ما كان كذلك انما يصح رفعه ووضعه برفع منشئه ووضعه لا برفعه ووضعه مباشرة. لعدم قابليته للرفع إلاّ بلحاظ رفع منشئه. والمفروض ان أدلة نفي الحرج لا تتكفل رفع الأحكام الواقعية لعدم العسر في متعلقاتها فيبقى وجوب الاحتياط على حاله.

هذا ، ولكن الّذي يرد على صاحب الكفاية : ان ما التزم به في مفاد هذه الأدلة له مجال في مثل : « لا ضرر » ونحوها مما كان بهذا التركيب ، ولكن نفي الحرج لم يرد بهذا اللسان أصلا ، وإنما ظاهر دليله مثل قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) ان المرفوع نفي الحكم الحرجي ، فان : ( مِنْ حَرَجٍ ) راجعة إلى ما تعلق به الجعل ، فقد أخذ وصفا للمجعول وبيانا له. إذن ، فلو سلمنا لصاحب الكفاية مبناه في مثل دليل نفي الضرر فلا نسلمه في دليل نفي الحرج ، لاختلاف لسان الرفع فيهما ، فلا مجال لعطف أحدهما على الآخر. فالتفت.

هذا ، ولكن الالتزام بذلك لا ينفع في رفع وجوب الاحتياط بدليل نفى الحرج - وان قاله صاحب الكفاية على ما تقدم - ، وذلك لوجهين ذكرهما المحقق الأصفهاني :

الأول : ان العسر والحرج ليس في امتثال التكليف كي يكون التكليف مرفوعا لكونه سبباً للامتثال الحرجي ، وانما هو في تحصيل العلم بامتثال التكليف بالجمع بين محتملاته ، وهو ليس من مقتضيات التكليف ، وانما هو واجب عقلا من باب ان اشتغال الذّمّة اليقيني يستدعي فراغها اليقيني لوجوب دفع الضرر المحتمل.

ص: 338


1- سورة الحج ، الآية : 78.

الثاني : انه لو التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج في مورد يكون العلم بامتثال التكليف مستلزما للحرج ، فما نحن فيه ليس كذلك ، لأن كل تكليف في حد نفسه لا حرج في الجمع بين محتملاته في مقام تحصيل العلم بامتثاله ، وانما الحرج في الجمع بين محتملات مجموع التكاليف وهو ليس من مقتضيات تكليف وحداني ، إذ كل تكليف انما يقتضي الجمع بين محتملاته خاصة لا الجمع بينها وبين محتملات غيره ، وليس مجموع التكاليف تكليفا وحدانيا كي يرتفع لأجل الحرج في الجمع بين محتملاته ، بل حاله حال تكاليف متعددة كان الحرج في امتثال مجموعها - كما لو عسر عليه صيام شهر رمضان كله - ، فانه لا ترتفع جميع التكاليف بأسرها ، بل اللازم امتثال كل واحد حتى يتحقق العسر فيسقط الباقي. فلاحظ (1).

ولا يخفى عليك ان المناقشة في حكومة دليل نفي الحرج على وجوب الاحتياط ليست بمهمة جدا ، إذ الاحتياط التام يستلزم اختلال النظام - كما أشرنا إليه - ، ومع ذلك يسقط وجوبه بلا شبهة ولا إشكال. وإنما تعرضنا لتفصيل بعض الكلام في ذلك مماشاة للاعلام 5 ، فالتفت.

وأما ما أفاده في الكفاية من : انه لو التزم بتحكيم أدلة نفي الحرج ونفى وجوب الاحتياط التام بها ، فلا مجال للالتزام بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف. فقد عرفت انه يبتني على مسلكه القائل بعدم التوسط في التنجيز - خلافا للشيخ - ، وهو محل كلام بين الاعلام ، ونوكل تحقيقه إلى محله في مباحث العلم الإجمالي (2).

ص: 339


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 101 - الطبعة الأولى.
2- راجع 5 / 126 من هذا الكتاب.
تنبيه : في قاعدة نفي الحرج :

الملحوظ من كلمات الاعلام هاهنا وفي غير مقام ، المفروغية عن تمامية قاعدة نفي الحرج والعسر إثباتا ، وانه لا كلام لهم فيها ، وإنما يقع البحث في لوازمها وشئونها.

ولكن الأمر الّذي كان يجول في أذهاننا وتحقق لنا أخيرا ، أن هذه القاعدة بهذا اللسان لا دليل عليها وإن كانت من الأمور المسلّمة لدى الفقهاء.

وبما انه لم يعقد لها في مباحث الأصول والفقه عنوان خاص لإيقاع البحث فيها وإنما يشار إليها في بعض المباحث استطرادا ، رأينا من المناسب التعرض لها في هذا المقام لورود ذكرها فيه ووقوع البحث عن تحكيمها وعدمه.

وتحقيق ذلك : ان ما يمكن الاستدلال به على ثبوت هذه القاعدة هو الكتاب ، والسنة ، والإجماع.

ولكن الأخير لا يصلح للاعتماد عليه في مثل هذه المسألة ، لوجود ما يمكن ان يستند إليه الفقهاء في فتواهم ، فلا يكون الإجماع تعبديا.

يبقى الكتاب والسنة :

أما الكتاب : فما يستدل به على هذا المضمون - أعني نفي العسر والحرج - آيات ثلاث :

الأولى : قوله تعالى في سورة المائدة في آية الوضوء والغسل والتيمم : ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1). ومركز الاستدلال هو قوله تعالى : ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ

ص: 340


1- سورة المائدة ، الآية : 6.

عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) وجه الاستدلال بها واضح لظهورها في نفي الحرج فيما يجعله اللّه تعالى.

وتحقيق الكلام في ذلك : إن صدر الآية الكريمة قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّهُ ) ، وهي بحسب ظاهرها تتكفل بيان جهتين : إحداهما سلبية ، وهي نفي وجوب الوضوء والغسل عند عدم وجدان الماء. والأخرى ثبوتية ، وهي إثبات وجوب التيمم في هذا الحال. والفقرة المستدل بها على القاعدة ذكرت بمنزلة قاعدة كلية أريد تطبيقها فيما نحن فيه. فمن المحتمل - بدوا ومع قطع النّظر عن صدر الآية وذيلها - ..

ان تكون مرتبطة بالجهة السلبية ، فتدل على نفي الحرج بقول مطلق وهو المدعي.

وأن تكون مرتبطة بالجهة الثبوتية ، فلا تدل على المدعى ، بل الّذي تدل عليه حينئذ ان ما جعلته عليكم من وجوب التيمم أو وجوب الوضوء والغسل ووجوب التيمم عند عدم وجدان الماء لم يكن الغرض منه والداعي له هو الإيقاع في الحرج ، بل الداعي له غاية أخرى شريفة تستدعي الجعل ولو استلزم الحرج. ومن الواضح أنها على هذا الوجه لا تدل على القاعدة بالمرة ، لأنها ليست في مقام نفي الحكم الحرجي ، بل في مقام تبرير جعل الأحكام الحرجية وأنه لغاية شريفة تدعو إلى ذلك.

والّذي نراه أن الآية الكريمة ترتبط بالجهة الثبوتية دون السلبية - لو سلم ظهورها في حد نفسها في ارتباطها بالجهة السلبية - ، وذلك لوجوه :

ص: 341

الأول : ان وجوب الوضوء ، مرتفع قهرا ، لأن عدم وجدان الماء يسلب القدرة فلا يصح التكليف به ، فلا معنى لبيان ارتفاعه بعدم جعل الحرج ورفعه.

الثاني : ان الاستدراك الّذي يتضمنه قوله تعالى : ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) ظاهر فيما ندعيه ، إذ هو إثبات لما نفي بقوله : ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) ، ومقتضى الظهور ان يكون النفي والإثبات واردين على موضوع واحد ومرتبطين بجهة واحدة. ومن الواضح انه لو كان المراد من الآية نفي وجوب الوضوء لأجل الحرج لم يكن معنى للاستدراك أصلا لأنه لا يرتبط بالنفي بالمرة ، بخلاف ما لو كان المراد ما ادعيناه فانه يكون الاستدراك لبيان الغاية الشريفة التي دعت إلى جعل هذه الأحكام المشتملة على الكلفة ، أو خصوص التيمم بلحاظ ان إمساس الوجه واليد بالتراب مما قد يكون شاقا من الجهة النفسيّة على الطبع. فيكون المراد - واللّه العالم - ، انه ليس الغرض من جعل هذه الأحكام هو إيقاعكم في الحرج ، بل الغرض تطهيركم من الحدث.

فيكون النفي والإثبات مرتبطين بجهة واحدة.

ومثل هذا الاستعمال شائع في العرف وكثير ، فانه كثيرا ما يقول القائل لآخر عند ما يطلب منه شيئا ذا مشقة ، إني لا أريد ان أتعبك وليس غرضي إيذاءك ولكن الجهة الكذائية دعتني إلى هذا التكليف والطلب. فحين يأمر الوالد ولده الصغير ان يذهب إلى المربي الّذي هو شاق على أكثر الأطفال ، يقول له انه ليس غرضي إيذاءك ولكن غرضي تأديبك وتعليمك ليحصل لك الرقي ، إلى غير ذلك من الدواعي الحسنة.

وبالجملة : هذا الاستدراك قرينة صريحة على ما نذهب إليه. فالتفت.

الثالث : إن قاعدة نفي العسر والحرج على تقدير استفادتها لا نظر لها إلى الحكم الوارد مورد الحرج كالجهاد ، كما لا نظر لها إلى الحكم المقيد بعدم الحرج ، فانها تتكفل نفي مثل هذين الحكمين ، إذ دليل الأول مخصص للقاعدة.

ص: 342

والثاني مرتفع بعدم موضوعه ، فلا حاجة إلى دليل نفي الحرج ، وهذا نظير ما يقال من ان دليل رفع الخطأ لا يتكفل رفع الحكم المختص بحال الخطأ - ككفارة قتل الخطأ - ، ولا رفع الحكم المختص بحال العمد - ككفارة قتل العمد ، أو الإفطار العمدي - ، لارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه لا بدليل رفع الخطأ.

وإنما الّذي تتكفله هذه القواعد هو رفع الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية - بحسب أدلتها - ، بحيث لا خصوصية للعمد والخطأ ولا للحرج وعدمه في ثبوتها.

وعليه ، فنقول : ان الفقهاء حملوا عدم وجدان الماء المأخوذ في موضوع وجوب التيمم في الآية على الأعم من عدم الوجدان العقلي والعرفي الّذي يتحقق بما إذا كان استعمال الماء حرجيا. كما استظهروا من الآية الكريمة أخذ الوجدان في موضوع وجوب الوضوء ، ويراد به الوجدان العرفي ، يعني عدم العسر والمشقة في استعمال الماء ، فوجوب الوضوء مقيد بعدم تحقق الحرج به ، فبناء على هذا الاستظهار المشهور بين الفقهاء لا يكون مجال لتطبيق قاعدة نفي الحرج على نفي وجوب الوضوء ، لأن ارتفاع وجوب الوضوء عند تحقق الحرج بارتفاع موضوعه ، وهو عدم الحرج ، ولا يحتاج في بيان نفيه إلى تطبيق القاعدة ، نظير عدم شمول رفع الخطأ للحكم الثابت في مورد العمد وعدم الخطأ. فلاحظ.

الثانية : قوله تعالى في سورة البقرة في آية الصوم : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1). وجهة الاستدلال بها واضحة.

والتحقيق : أن صدر الآية هو قوله تعالى : ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ) ، وبعدها قوله تعالى :

ص: 343


1- سورة البقرة ، الآية : 185.

( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

ولا يخفى ان الصدر اشتمل على جهتين : سلبية ، وهي نفي وجوب الصوم عن المريض والمسافر. وإيجابية ، وهي إثبات وجوبه في عدة من أيام أخر.

وقوله : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) يحتمل ارتباطه بجهة السلب ، فتكون دالة على القاعدة المدعاة وان كل حكم يستلزم العسر مرفوع. كما يحتمل ارتباطه بجهة الإيجاب ، وانها في مقام بيان انه لم يجعل عليكم الصوم في عدة من أيام أخر لأجل العسر ، ولكن الغاية أخرى شريفة ، ولعل الّذي يشهد لذلك - لو لم ندع ظهورها فيه بملاحظة الصدر ، وانه سبحانه في مقام تبرير جعل الصوم في أيام أخر وعلى عدم رفعه بالكلية - قوله : ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) ، فانه ظاهر في تعليل جعله في الأيام الأخر ، كما ان قوله : ( وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ ) انما يتناسب مع جعل الحكم وتشريعه لا مع سلبه ورفعه كما لا يخفى.

هذا ، مع ان رفع الصوم عن المسافر لا ينحصر بموارد الحرج في الصوم ، بل صريح النصوص الكثيرة (1) وما عليه الفقهاء ومذهب الشيعة هو أن الصوم مرفوع عن المسافر مطلقا استلزم الحرج أم لم يستلزم ، بل الأمر كذلك في المرض الرافع للصوم ، فانه لا يعتبر ان يكون الصوم حرجيا ، بل يكفي احتمال الضرر ولو لم يلتفت إليه الإنسان إلا بعد حين ، بحيث لا تكون مباشرة الصوم حرجية.

وهذا يتنافى مع تطبيق الآية على الجهة السلبية والحكم السلبي ، إذ هو أعم من الحرج ، ولو سلم نظر الآية إلى جهة السلب ، فذلك يكون قرينة على ان المراد بالآية بيان حكمة الرفع وهو العسر النوعيّ لا علته ، فلا يستفاد منها قاعدة كلية تفيد نفي الحكم الحرجي.

ولو تنزلنا عن جميع ذلك وقلنا بان الآية ناظرة إلى نفي الحكم الحرجي ،

ص: 344


1- وسائل الشيعة 7 / باب : 1 من أبواب من يصح منه الصوم.

فلا إطلاق في الآية بحيث يستفاد منها قاعدة كلية في جميع الموارد ، فتختص برفع الصوم عن المسافر والمريض ، وان اللّه سبحانه يريد اليسر في هذا المورد بالخصوص. فتدبر.

الثالثة : قوله تعالى في سورة الحج : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) (1). وما يستدل به منها قوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ووجه الاستدلال به واضح لا يحتاج إلى بيان.

والتحقيق فيها : انه يحتمل ان يكون المراد منها ما قيل من نفي الحكم المستلزم للحرج ورفعه عن المكلفين.

ويحتمل ان يراد منها ما ذكرناه في سابقتيها من انها لبيان ان الغرض من الأحكام ليس جهة الحرج ، وإنما الغايات المهمة الشريفة المترتبة عليها.

ولو سلمت انها في حد نفسها ظاهرة في الأول ، فلا بد من رفع اليد عن ذلك ، لأنها واردة في الجهاد ، وهو من أظهر مصاديق الحرج ، سواء أريد به جهاد الكفار أو جهاد النّفس. وقد عرفت ان مثل هذا الحكم لا يرتفع بدليل نفى الحرج لو ثبتت قاعدته ، كما لا يرتفع وجوب سجدتي السهو برفع النسيان.

وعليه ، فلا يمكن ان يراد بالآية نفي الحكم الحرجي ، وإلا للزوم خروج موردها ، وهو مستهجن ، فتحمل على ما احتملناه من انها لبيان تبرير جعل هذه الأحكام المشتملة على الكلفة بخصوصياتها أو بمجموعها ، وانه ليس المقصود إيقاع المكلفين في الحرج والمشقة ، بل المقصود إيصالهم إلى المصالح المجهولة لديهم.

ص: 345


1- سورة الحج ، الآية : 77 و 78.

ويؤكد ذلك تعقيب الآية الشريفة بقوله : ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) ، فانه يتناسب مع مقام الترغيب في امتثال هذه الأحكام ولو كانت حرجية ، وتبرير جعلها إذ هي مجعولة من قبل وهي ملة إبراهيم الحنيف الّذي كانت العرب تكنّ له الإجلال والحب ، فانه يقرب إطاعتها في النفوس. ولا يتناسب مع رفع الأحكام بواسطة الحرج ، فان مثل ذلك لا يحتاج إلى مزيد تعليل وترغيب ، لأنه مما تقبله النفوس وتتقبله الأطباع.

هذا ، ولكن يمكن ان يستظهر من الآية الشريفة بملاحظة الصدر والذيل معنى آخر ، وهو : أن اللّه سبحانه وتعالى أمر أولا بالركوع والسجود وعبادته وفعل الخير ، ثم أمر بالمجاهدة في امتثال هذه الأحكام وعدم التواني فيها وإتيانه على أصوله ، فان ما جعله اللّه سبحانه ليس بحرجي ، بل شريعة سهلة سمحة وهي ملة إبراهيم. فلا نظر في الآية الكريمة إلى نفي الحكم الثابت بمقتضى دليله إذا كان مستلزما للحرج ، بل نظرها إلى بيان ان دين اللّه سبحانه المجعول فعلا واسع سهل ليس بحرجي ، في قبال بعض الأديان السابقة التي كانت تتضمن الأحكام الشاقة التي يعسر تحملها.

إذن فلا دلالة لها على المدعي.

فان قلت : الوجه الأخير يكفي في استفادة نفي الحكم في مورد الحرج ، وذلك لأن جعله في مورد الحرج يتنافى مع المدلول المطابقي للآية ، وهي كون الشريعة الإسلامية سهلة لا ضيق فيها ، فنفي الحكم الحرجي يكون بالملازمة لا بالمدلول المطابقي كما هو مقتضى الاستظهار الأول.

قلت : بما انا نعلم بورود أحكام في الشريعة في خصوص موارد الحرج كموارد الجهاد ، بحيث لا يمكن الالتزام بارتفاعها في مورد الحرج ، فيدور الأمر في عموم الآية بين حمله على بيان عدم الحرج في الدين بلحاظ نوع أحكامه وغالب تشريعاته بحسب غالب الموارد ، بحيث لا يتنافى مع ثبوت بعض

ص: 346

التشريعات في موارد الحرج. وبين حمله على العموم الأفرادي الّذي يستتبع الحكم الحرجي وتخصيصه بالموارد التي يقوم الدليل فيها على ثبوت الحكم الحرجي بالخصوص ، ولازم ذلك تحقق التعارض بينه وبين ما يدل على ثبوت الحكم مطلقا في موارد الحرج وغيرها تعارض العامين من وجه.

ولو لم نستظهر من نفس لحن الآية الكريمة - ولو بملاحظة موردها لو أريد منه الجهاد المصطلح لا الجهاد في امتثال الأحكام - أنها واردة لبيان عدم الحرج بلحاظ النوع لا كل حكم حكم ، فلا أقل من إجمالها وعدم ظهورها في أحد الاحتمالين ، ومعه لا ظهور للآية الكريمة في المدعى. فتدبر جيدا.

والّذي يتحصل : انه لا دلالة للآيات الكريمة على قاعدة نفي العسر والحرج كما ادعي.

وأما السنة الشريفة : فعمدتها ما ورد فيها تطبيق الآية الأخيرة والاستشهاد بها بنحو لا يظهر منها أكثر مما استظهرناه منها أخيرا من تكفلها بيان سهولة الدين وعدم الضيق فيه. وقد عرفت ان هذا لا ينفع في إثبات المدعى.

وإليك بعض هذه النصوص :

منها : رواية أبي بصير قال : « قلت لأبي عبد اللّه : انا نسافر ، فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدّابّة وتروث؟. فقال : ان عرض في قلبك شيء فقل هكذا : ( يعني افرج الماء بيدك ) ثم توضأ فان الدين ليس بمضيق فان اللّه سبحانه يقول : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .. » (1).

ولا يخفى ان الأمر الّذي بيّنه علیه السلام هو طهارة الغدير وجواز الوضوء منه

ص: 347


1- وسائل الشيعة 1 / باب : 9 من أبواب الماء المطلق ، حديث : 14.

لرفع ما يمكن ان يقع في قلب السائل من الاستقذار. ثم علّل ذلك ب- : « ان الدين ليس بمضيق ان اللّه ... ». ومن الواضح انه بيان لجعل هذه الأحكام وان الشريعة سهلة لا ضيق فيها كما قد يتخيل. فليس في تطبيق الآية نظر الا إلى ذلك لا إلى نفي حكم حرجي.

وهذا لا يختلف عن ظاهر الآية الأولى على ما عرفت.

ومنها : رواية الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « في الرّجل يغتسل فينتضح من الماء في الإناء؟. فقال : لا بأس ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) .. » (1).

وهذه الرواية كسابقتها ، فان السائل يحتمل أن يؤثر اختلاط الماء بما استعمل في رفع الحدث الأكبر موجبا لعدم صحة الغسل منه ، فنفاه الإمام علیه السلام وبين انه لا بأس بالغسل منه ، إما لعدم مانعيته أو لعدم مانعية اختلاط هذا المقدار القليل منه ، ثم استشهد بالآية الشريفة. ومن الواضح ان نظر الإمام علیه السلام ليس إلى رفع الحكم في مورد الحرج ، بل إلى بيان عدم المانعية من رأس ، وهو من الأحكام السهلة التي بنيت الشريعة عليها.

وهكذا الكلام في غيرهما من النصوص فلاحظهما في مظانها.

وخلاصة الكلام فيها : ان دليل نفي العسر والحرج يتكفل - لو سلم ثبوته - رفع الأحكام التي يكون لها مقتضي الثبوت بلحاظ دليلها.

وفي موارد هذه النصوص ليس هناك حكم كذلك بحيث يتكفل النص رفعه ويكون حاكما على دليله ، بل هي تتكفل إثبات حكم سهل أو بيان عدم ثبوت حكم متوهم الثبوت ، ثم بيان ان ذلك مقتضى سهولة الدين وعدم الضيق فيه ، وهذا أجنبي عن رفع الحكم في مورد الحرج.

ص: 348


1- وسائل الشيعة 1 / باب : 9 من الماء المضاف ، حديث : 5.

فلا يستفاد من النصوص أزيد مما يستفاد من الآية في حد نفسها ، ولو استدل ببعض النصوص الواردة في الصوم في السفر بأنه رفع لمكان الضرورة لكان أولى من حيث الظهور في المدعى ، لكن عرفت انها مما لا يعمل بها في موردها للنصوص الدالة على ان الصوم في السفر ساقط ولو مع عدم الحرج ، فتحمل هذه النصوص على بيان الحكمة.

نعم ، رواية عبد الأعلى مولى آل سام ظاهرة في رفع الحكم في مورد الحرج وان المراد بالآية ذلك ، وهي روايته عن الصادق علیه السلام قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟. قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ وجل. قال اللّه تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه » (1).

ولكن هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها ، وذلك لأن ما يستفاد من كتاب اللّه سبحانه هو رفع المسح على البشرة. أما المسح على المرارة ، فلا تتكفله الآية الشريفة.

ودعوى : ان المسح الواجب يشتمل على جهتين : أصل المسح وهو إمرار اليد ، وكونه على البشرة ، فإذا تعذر أو عسر كونه على البشرة فلا يسقط أصل المسح.

تندفع : بان الظاهر أن الواجب واحد هو المسح على البشرة رأسا ، لا أمران كما ادعي.

مع ان مقتضى وجوب المسح على البشرة الضمني ارتفاع الأمر بالوضوء بتعذر كونه على البشرة ، لما ثبت في محله من ان رفع الأمر الضمني يرفع الأمر بالكل ، فمن أين نستفيد بقاء الأمر بالوضوء والمسح على المرارة؟.

ودعوى : ان ذلك يستفاد من قاعدة الميسور المرتكزة في النفوس ،

ص: 349


1- وسائل الشيعة 1 / باب : 39 من أبواب الوضوء ، حديث : 5.

فوجوب الوضوء الناقص يعرف من كتاب اللّه بضميمة قاعدة الميسور.

تندفع : بان قاعدة الميسور لو سلمت ، فهي إنما تتكفل تعلق الأمر بالباقي المتمكن منه ولا تثبت أمرا بأمر زائد عليه أجنبي عنه. إذن فالمسح على المرارة لا يستفاد من قاعدة الميسور ، لأنه ليس من أجزاء الوضوء في حد نفسه.

هذا كله مع ضعف سند الرواية ، فلا تصلح للاستناد إليها سندا ودلالة. فتدبر.

ونتيجة ذلك : انه لا دليل على قاعدة نفي العسر والحرج بالمرة ، فالتفت ولا تغفل.

ونعود بعد ذلك إلى الكلام فيما نحن بصدده ، وهو العمل بالاحتياط الّذي عرفت إنكار صاحب الكفاية ارتفاع وجوبه بدليل نفي الحرج.

وقد نبّه الشيخ رحمه اللّه هاهنا (1) على أمر يتلخص في : انه لو بني على نفي وجوب الاحتياط بالإجماع والعسر ، فانما ينفي به الاحتياط التام في مطلق الاحتمالات المظنونة والمشكوكة والموهومة ، أما لزوم الاحتياط الناقص بالمقدار الّذي لا يستلزم العسر فلا يرتفع.

وعليه ، فيلزم الاحتياط في مظنونات التكليف ومشكوكاته لاندفاع العسر بترك موهوماته.

ونتيجة ذلك : عدم الوصول إلى حجية الظن ، إذ لازم حجيته الرجوع في المورد الخالي عنه إلى الأصل المقرر في تلك الواقعة مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي ، وليس الحال كذلك على ما ذكرنا ، إذ في المشكوكات لا بد من العمل بالاحتياط ، لعدم استلزام ضمها إلى المظنونات العسر والحرج.

وبالجملة : نتيجة رفع الاحتياط بواسطة العسر هو التبعيض في الاحتياط

ص: 350


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /124- الطبعة الأولى.

بالنحو المذكور لا حجية الظن.

ثم أورد قدس سره أيضا : أن رفع الاحتياط بواسطة نفي العسر حيث كانت نتيجته التبعيض في الاحتياط - ولو في خصوص المظنونات - لم يكن مستلزما لحجية الظن بنحو ينهض لتخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصة ومخالفة سائر الظواهر الثابتة بها ، لأن العمل به من باب الاحتياط ومنجزية العلم الإجمالي ، وهو غير الحجية.

وقد أورد على نفسه : بأن ضم الاحتياط في المشكوكات إلى المظنونات مستلزم للعسر أيضا.

وأجاب : بأنها دعوى خلاف الإنصاف لقلة موارد الشك.

ثم احتمل دعوى الإجماع على عدم وجوبه في المشكوكات.

وذكر : بأنها دعوى مشكلة جدا ، وان تحقق الظن بها ، لكن مجرد الظن لا ينفع ما لم يحصل إلى حد العلم.

ثم أوقع البحث في إثبات حجية مثل هذا الظن لأنه ظن بالطريق وعدمها ، تحت عنوان : « ان قلت » و: « قلت ». وفي بيان ذلك عبارتان إحداهما منسوبة إلى السيد الشيرازي قدس سره . وقيل إنه قرره عليها. وقد وقع النقض والإبرام فيهما بما لا يهمنا التعرض إليه ، ونكتفي بمجرد الإشارة.

والّذي يهمنا هو ما أفاده أولا من : ان التبعيض في الاحتياط غير حجية الظن ، بنحو يعدّه إشكالا على تمامية مقدمات الانسداد وإخلالا بها. فانه يتنافى مع ما يذهب إليه المحقق النائيني من : إن مرجع حجية الظن على الحكومة إلى التبعيض في الاحتياط. فالتفت. وليكن هذا على ذكر منك حتى ينفعك عند وصول الحديث عن نتيجة المقدمات.

ولا يخفى عليك : ان الالتزام بتبعيض الاحتياط يبتني - كما صرح به قدس سره - على الالتزام بالتوسط في التنجيز الّذي أنكره صاحب الكفاية ،

ص: 351

كما أشرنا إليه آنفا. فنوكل الحكم بصحته وعدمها إلى ما سنحققه في تلك المسألة في مباحث العلم الإجمالي. فانتظر.

هذا فيما يرتبط بالعمل بالاحتياط.

وأما الرجوع إلى الأصول بحسب ما تقتضيه كل مسألة بحد ذاتها ..

فالذي ذكره صاحب الكفاية من : انه لا مانع عقلا من العمل بالأصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف مع تمامية المقتضي لجريانها من حكم العقل أو عموم النقل.

ولا موهم لعدم إجراء الاستصحاب المثبت للتكليف ، إلا ما ذهب إليه الشيخ رحمه اللّه من عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، بدعوى : ان شمول دليله لأطراف العلم الإجمالي يستلزم التناقض بين صدر دليل الاستصحاب وذيله ، إذ مقتضى صدره - وهو : « لا تنقض » - حرمة النقض في كل من الأطراف ، ومقتضى ذيله - وهو قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » - وجوب النقض في بعضها ، وبما أنه يعلم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف الاستصحابات المثبتة للتكليف امتنع جريانها بناء على ذلك (1).

ولكن يندفع هذا الوهم : بان البناء المزبور لا يؤثر في عدم جريان الاستصحاب فيما نحن فيه ، وذلك لأنه إنما يلزم فيما كان الشك في أطرافه فعليا ، أما إذا لم يكن كذلك ، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه وكانت الأطراف الأخرى مغفولا عنها وليست بملتفت إليها أصلا فلا يلزم ذلك ، لأن مقتضى : « لا تنقض » هو حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك فعلا دون غيره ، لعدم تحقق الشك فيه من جهة الغفلة عنه ، ولا علم بالانتقاض في خصوص الطرف المشكوك كي يتحقق التناقض بين الصدر والذيل.

ص: 352


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 429 و126- الطبعة الأولى.

وما نحن فيه كذلك ، لأن المجتهد في مقام استنباط الأحكام لا يكون ملتفتا إلى تمام الوقائع بأسرها ، بل هو غافل عن أكثرها ، فليس لديه شك فعلي إلا في بعض الأطراف التي لا يعلم بانتقاض الحالة السابقة فيها ، فله إجراء الاستصحاب في كل واقعة لعدم تحقق المحذور المزبور بالنسبة إليه.

ثم التزم بعد ذلك بجريان الأصول النافية لتمامية المقتضي من حكم العقل وعموم النقل ، وعدم المانع عقلا من جريانها ، لأن المانع المتوهم هو محذور المخالفة العملية للعلم الإجمالي ، وهو لا وجود له إذا فرض ان موارد الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي كانت بمقدار المعلوم بالإجمال فينحل العلم الإجمالي بها حكما ، بل يكفي ان تكون بمقدار لا يستكشف معه وجوب الاحتياط شرعا لقلة الموارد المتبقية بنحو لا يعلم اهتمام الشارع بها بحيث يجعل الاحتياط. هذا ما أفاده في الكفاية بالنسبة إلى إجراء الأصول (1).

ونتيجة ما ذكره : أنه لا محذور في إجراء الأصول المثبتة وكذا النافية إذا انحل العلم الإجمالي ببركة العلم التفصيليّ والظن الخاصّ والأصول المثبتة.

ثم ذكر قدس سره : انه لو لم ينحل العلم الإجمالي بذلك كان خصوص موارد الأصول النافية محلا للاحتياط ، ويرفع اليد عنه كلا أو بعضا بمقدار رفع الاختلال أو العسر - على ما عرفت - لا مطلق محتملات التكليف (2). انتهى ما أفاده.

وتحقيق الكلام : ان موارد الاشتغال والاستصحاب المثبت في الشبهات الحكمية في العبادات قليلة جدا ، كمسألة الماء المتغير الّذي يزول تغيره من قبل نفسه ، ومسألة الجمعة والظهر ، وغيرهما.

ص: 353


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /314- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /314- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأما في المعاملات ، فان موارد الأصل الّذي يثبت التكليف - وهو أصالة عدم ترتب الأثر المعبر عنها بأصالة الفساد - كثيرة إذا لم نرجع إلى الإطلاقات العامة والخاصة والسيرة العقلائية في إثبات صحة المعاملة ، وإلا كانت قليلة كما في العبادات.

وعليه ، فنقول : إن ما ادعي من استلزام العمل بالأصول المثبتة للتكليف الحرج ليس بصحيح لقلة مواردها كما عرفت.

كما ان دعوى العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض مواردها ممنوعة ، إذ ما الوجه في ذلك بعد فرض قلة موارد الأصول ، وما المانع من كون جميعها مطابقة للواقع؟.

وهكذا ما ادعاه صاحب الكفاية من انحلال العلم الإجمالي بإجراء الأصول مع الضميمة ، فان موارد الأصول المثبتة إذا كانت قليلة كيف ينحل بها العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في العبادات والمعاملات؟.

وأما ما أفاده قدس سره من عدم منافاة العلم الإجمالي بالانتقاض لجريان الاستصحاب هنا - لو سلم منافاته في نفسه - ففيه : ان المجتهد بعد انتهائه من استنباط الأحكام جميعها يحصل لديه علم بان بعض الأحكام والتي اختارها استنادا إلى الاستصحاب غير واقعية ، فكيف يعمل بها أو يفتي على طبقها ليعمل بها مقلدوه؟. وهذا الإشكال واضح تعرض إليه الكثير.

وعليه ، فقد ظهر انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيما نحن فيه لو التزم بمنافاة العلم الإجمالي للأصول ولو كانت مثبتة إذا تحقق العلم بالانتقاض. كما ظهر أن إجراء الأصول المثبتة لا ينفع في حل العلم الإجمالي.

وعليه ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصول النافية في مواردها لاستلزامه المخالفة العملية للعلم الإجمالي بالتكليف. فلاحظ.

وأما ما ذكره قدس سره أخيرا من : انه مع عدم انحلال العلم الإجمالي

ص: 354

يكون مورد الاحتياط هو موارد الأصول النافية فقط لا مطلق محتملات التكليف. فهو مما لا نعرف تأثيره في شيء ، لأن العمل بالأصل المثبت في بعض الموارد والاحتياط في الموارد الأخرى يكون حاله كحال الاحتياط التام في مطلق محتملات التكليف ، فنسبة دليل رفع الحرج أو اختلال النظام إلى الجميع على حد سواء ، فينبغي رفع اليد عن الاستصحاب كما يرفع اليد عن وجوب الاحتياط في موارد الأصول النافية. فيتحقق الدوران بين موارد احتمال التكليف كما هو الحال عند رفع اليد عن الاحتياط التام.

وبالجملة : ما ذكره لا تأثير له في الإخلال بمقدمات الانسداد. فالتفت.

وأما الرجوع إلى فتوى المجتهد العالم بحكم المسألة : فهو لا يجوز ، إذ المفروض ان من يريد الرجوع يرى انسداد باب العلم والعلمي. وعليه فهو يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم والعلمي ، ومع ذلك لا يجوز الرجوع إليه ، لأنه من قبيل رجوع العالم إلى الجاهل ، وهو غير جائز قطعا.

واما احتمال الرجوع إلى القرعة ، فيندفع : بأنه إن لوحظت القرعة في حد نفسها ، فمن الواضح أنها لا كاشفية لها عن الواقع أصلا ولا طريقية لها إليه ، بل حالها حال اختيار أحد المشتبهين عن التفات وقصد. وإن لوحظت بالإضافة إلى دليلها ، فلا يخفى ان الدليل انما دلّ على جريانها في موارد خاصة ليس فيها طريق إلى الوصول إلى الواقع ، فلا وجه للتعدي منها إلى سائر الموارد ، كما لا يمكن تنقيح المناط ، إذ اعتبارها في موارد لا يمكن فيها التخيير ، كموارد فصل الخصومات ، إذ لا يمكن إيكال الأمر إلى اختيار الخصمين لبقاء النزاع ، ولا اختيار الحاكم لما فيه من المفاسد الشخصية والنوعية. فتدبر.

وأما المقدمة الخامسة : فقد أفاد صاحب الكفاية أنها مما يستقل بها العقل ، وانه لا يجوز التنزل بعد عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها

ص: 355

إلى غير الإطاعة الظنية من الإطاعة الشكية والوهمية لمرجوحيتهما بالنسبة إلى الإطاعة الظنية ، لأقربيتها إلى الواقع منهما ، ويقبح - في نظر العقل - ترجيح المرجوح على الراجح (1).

أقول : مراده بالإطاعة الظنية التي ورد التعبير بها في كلماته يحتمل أمرين :

الأول : ان اللازم أن يحصّل الظن بإطاعة الأحكام المعلومة ، وهذا إنما يتحقق بالإتيان بمظنونات التكليف ومشكوكاته ، إذ مع الاقتصار على المظنونات وترك المشكوكات لا يظن بالإطاعة ، بل يتحقق عنده الشك بها لوجود احتمال التكليف متساوي الطرفين لم يأت به.

وبالجملة : يكون المراد الإطاعة المظنونة.

الثاني : أن اللازم العمل بالظن في قبال العمل بالمشكوكات والموهومات ، فيكون المراد الإطاعة بالظن ، فيكون وصف الإطاعة بالظنية من باب أن ما يطاع به هو الظن.

والّذي يبدو لنا أن مراده هو الثاني ، كما يظهر من بعض عباراته صدرا وذيلا. فراجع.

إلى هنا تنتهي صورة دليل الانسداد.

وقد عرفت اننا ممن قرّب بعض مقدماته كالمقدمة الأولى والثانية والثالثة ، ولنا كلام في المقدمة الرابعة.

ولكن الّذي يبدو لنا فعلا أن المقدمة الأولى غير تامة بدعوى انحلال العلم الإجمالي بثبوت الأحكام بين مطلق الوقائع ، بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الاخبار الواصلة إلينا - كما تقدمت هذه الدعوى من صاحب الكفاية قدس سره -. فاننا وان كنا ممن يتوقف في انحلال العلم الإجمالي

ص: 356


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /315- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، لكن الّذي نراه أخيرا هو الانحلال وفاقا لصاحب الكفاية ، وسنتعرض لذلك في محله من مباحث العلم الإجمالي ونشير الآن إلى وجهه بنحو الإجمال. فنقول : الّذي نختاره هو انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير بالانحلال الحقيقي ، مع احتمال انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير على المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير ، كما هو الحال فيما نحن فيه ، حيث نحتمل انطباق الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال مطلقا على الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال في ضمن الاخبار الواصلة إلينا ، إذ لا علم بأزيد من التكاليف الموجودة في ضمن الاخبار.

أما الانحلال الحكمي به فلنا مناقشة فيه. وبيان ذلك : ان الانحلال الحكمي عبارة عن انتفاء أثر العلم الإجمالي ، وهو المنجزية ، مع ثبوته بنفسه وعدم زواله ، كما لو قامت البينة على نجاسة أحد الإناءين المشتبهين ، أو جرى استصحاب نجاسة أحدهما فقط إذا كانت حالته السابقة هي النجاسة ، فان أصالة الطهارة في الإناء الآخر تجري بلا معارض ، لعدم جريانها في الإناء النجس بحكم البينة أو الاستصحاب. فالعلم الإجمالي وان كان موجودا في الفرض لكنه غير منجز.

وأما الانحلال الحقيقي ، فهو عبارة عن زوال العلم الإجمالي حقيقة ، كما إذا علمت تفصيلا بالإناء الّذي وقعت فيه النجاسة من الإناءين المشتبهين ، ونحو ذلك.

إذا عرفت ذلك : فقد تقرّب دعوى انحلال العلم الإجمالي الكثير بالعلم الإجمالي الصغير فيما نحن فيه بنحو الانحلال الحكمي ، بأن بعض أطراف العلم الإجمالي الكبير مما قام عليها المنجز ، وهو العلم الإجمالي الصغير ، فلا تكون مجرى للأصول النافية ، فتجري الأصول النافية في ما عداها بلا معارض.

وهذا هو معنى الانحلال الحكمي ، إذ لا يكون للعلم الإجمالي الكبير

ص: 357

تأثير بالنسبة إلى أطرافه.

وفيه : أن نسبة العلمين - الكبير والصغير - إلى أطراف العلم الصغير نسبة واحدة ، فما الوجه في جعل المانع من جريان الأصل النافي في دائرة العلم الصغير هو العلم الصغير؟ ، فليكن العلم الكبير أو هما معا.

فالحق هو الانحلال الحقيقي ، ببيان : ان العلم الإجمالي إما أن يلتزم بأنه علم تفصيلي بالجامع والتردد في انطباقه على أحد الفردين أو الأفراد. وإما أن يلتزم بتعلقه بالفرد المردد - على كلام مفصل يأتي في محله -. وعلى كلا الالتزامين والمسلكين فالتردد مما يقوّم تحقق العلم الإجمالي ، فإذا زال التردد زال العلم الإجمالي.

وعليه ، نقول : إذا علم إجمالا بوجود النجس بين هذه العشرة أوان التي منها خمسة بيض ومنها خمسة سود ، وعلم في الوقت نفسه بوجود النجس بين الأواني السود الخمسة ، فان العلم الإجمالي بوجود النجس بين العشرة يزول قطعا ، إذ لا ترديد في وجود النجس بين الأواني السود ، فليس له أن يقول اعلم إجمالا بوجود النجس اما في السود أو البيض ، لعلمه بان النجس في السود.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه وإن علم إجمالا بثبوت الأحكام بين مطلق الوقائع المحتملة ، إلا أنه في الوقت نفسه يعلم إجمالا بثبوت أحكام بين الاخبار ، فيزول الترديد. فتدبر.

وإذا ثبت لدينا انحلال العلم الكبير بالعلم الإجمالي بثبوت الأحكام في ضمن الاخبار ، اختل دليل الانسداد ، لأن الاحتياط في دائرة الاخبار لا محذور فيه من اختلال نظام أو حرج.

ونتيجة ما ذكرناه ، من التوقف في حجية خبر الواحد غير المفيد للاطمئنان ، وعدم وفائه بمعظم الفقه لو كان ، وانحلال العلم الكبير بالاحكام بالعلم الإجمالي في ضمن الاخبار ، هو : لزوم العمل بالأخبار الواصلة إلينا في

ص: 358

الكتب المعتبرة بعنوان الاحتياط ، ولا بأس فيه.

ودعوى : ان لازم ذلك التوقف - في مقام العمل بالأخبار - في حمل المطلق المثبت للتكليف على المقيد ، وتخصيص العام المثبت للتكليف بالخاص ، لعدم العلم بصدور المقيد والخاصّ النافيين للتكليف ولا حجيتهما. فكيف ترفع اليد عن المطلق والعام ، مع انه خلاف الاحتياط ، لأن الفرض ان المقيد أو الخاصّ ينفي التكليف؟. كما أن لازمه التوقف في حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب ، لأجل معارضته بما هو نصّ في الإباحة ، لعدم العلم بحجية ما هو نصّ في الإباحة فلا يعلم بعدم إرادة الوجوب. ومثل ذلك يستلزم تأسيس فقه جديد.

مندفعة : بان شيئا من ذلك غير لازم ، بل نلتزم بالتقييد والتخصيص ورفع اليد عن الظهور كما لو كانت الاخبار حجة.

بيان ذلك : أما بالنسبة إلى الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص ، فلأن المقيد والخاصّ كما انه ليس بحجة شرعا كذلك المطلق والعام ، وإنما يؤخذ به من باب الاحتياط لدلالته على الحكم المطلق أو العام. ومع احتمال صدور المقيد لا يبقى لنا علم بكون المراد الجدي للمطلق - على تقدير صدوره - هو الإطلاق ، فالقدر المتيقن المعلوم إرادته من المطلق على تقدير صدوره هو غير موارد المقيدات الواردة ، وحينئذ فطرف العلم الإجمالي هو الحكم المقيد لا المطلق والحكم الخاصّ لا العام ، فهو الّذي يجب الاحتياط فيه لا أزيد.

وبعبارة واضحة : ان مقتضى العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في ضمن الاخبار معناه العلم بثبوت الأحكام بحسب المراد من الألفاظ الواردة في الأخبار ، وهذا يقتضي لزوم الاحتياط بما تؤديه الأخبار من الأحكام بحسب مداليلها الكاشفة عن المراد الجدي ، فكل ما يحتمل أنه حكم المولى بحسب ظهورها وكشفها عن المراد الواقعي لا بد من الأخذ به ، لا كل ما يحتمل أنه

ص: 359

مراد المولى ولو لم تكن ظاهرة فيه ، وبملاحظة وجود الخبر المقيد المحتمل للصدور لا يقين بان المراد الواقعي للمطلق على تقدير صدوره هو الإطلاق. فلا يجب الاحتياط إلا في غير موارد التقييد. وأما أكثر من ذلك ، فهو خارج عن أطراف العلم الإجمالي في ضمن الأخبار ، بل يمكننا ان ندعي عدم العلم بوجود حكم مطلق عند الشارع لكثرة التقييدات. ولا محذور فيه أصلا.

نعم ، قد يقال : إنه نعلم إجمالا بصدور بعض العمومات والمطلقات. ولا نعلم بصدور ما نجده مما نسبته إليها نسبة الخاصّ والمقيد إلى العام والمطلق وهذا يقتضي العمل بجميع العمومات والمطلقات - احتياطا - ، لأن العمومات الصادرة لا بد من العمل بها مع عدم ثبوت التخصيص للأصل ، فمع اشتباهها لا بد من العمل بجميع العمومات كي يعلم بالامتثال.

ولكنه يندفع : بأنا نعلم بان بعض المطلقات والعمومات الصادرة واقعا مقيد لا محالة وليست كلها مرادة بعمومها وإطلاقها.

وعليه ، فتسقط أصالة الإطلاق والعموم في جميعها للمعارضة ، فلا حجة على الحكم المطلق والعام.

وأما بالنسبة إلى ما هو ظاهر في الإلزام كالوجوب والحرمة ، فلا نستطيع أن ننفي العلم بإرادة الوجوب أو الحرمة من بعضها ، فانا نعلم بإرادة الوجوب أو الحرمة في بعض الاخبار ، ومقتضى ذلك الاحتياط في جميع ما هو ظاهر في الوجوب أو الحرمة ، لأن ما يقتضي الاستحباب والكراهية ليس بحجة شرعا كي ترفع اليد به عن الظهور في الوجوب والحرمة.

إلا انا نقول : ان هذا العلم الإجمالي بوجود الحكم الإلزامي في ضمن ظواهر الاخبار ينحل بما علم تفصيلا من الأحكام الإلزامية بواسطة الضرورة والتواتر والاطمئنان والسيرة القطعية والإجماعات ، بحيث لنا ان ندعي عدم العلم بوجوب أو حرمة غير ما علم وجوبه أو حرمته.

ص: 360

وعليه ، فما هو ظاهر في الوجوب في نفسه بملاحظة ما هو نصّ في الإباحة لا يكون ظاهرا في الوجوب ، فلا يقين بحكم إلزاميّ في ضمن ما يدل عليه بظاهره بنفسه بعد ملاحظة وجود ما يصرف الظهور عرفا ، وكما ان الصارف للظهور ليس بحجة ، كذلك ما يدل على الحكم الإلزامي.

وبالجملة : الكلام في هذا المقام كالكلام بالنسبة إلى المطلق والمقيد.

يبقى الكلام في أمر أشير إليه سالفا ، وهو : أنه بناء على العمل بالأخبار من باب الاحتياط لا يمكن الأخذ بها في قبال ظهورات الكتاب من إطلاق أو عموم أو غير ذلك. والّذي نقوله في حل هذه المشكلة ، هو : أنا نعلم إجمالا بتقييد وتخصيص بعض مطلقات وعمومات الكتاب المجيد. وذلك مما يسقطها جميعها عن الحجية ، لعدم تمييز المقيد منها عن غيره ، فالعلم الإجمالي مانع من إجراء أصالة الظهور فيها.

ولو تنزل عن هذه الدعوى ، فلا يكون ما ذكر مشكلة مهمة ، إذ ليست ظهورات الكتاب المصادمة للاخبار بتلك الكثرة بنحو يكون العمل بها موجبا لتأسيس فقه جديد. فتدبر واعرف (1).

ص: 361


1- ثم ان سيدنا الأستاذ دام ظله تعرض إلى البحث عن نتيجة دليل الانسداد من حيث تعلق الظن بالواقع وبالطريق ومن حيث الإهمال والتعيين الّذي يتفرع الكلام من الكشف والحكومة. تعرض إلى ذلك بمقدار سطح الكفاية تقريبا ، ولأجل وضوحه أهملنا كتابته ، كما انه اكتفي بهذا المقدار ولم يسهب في تحقيق تنبيهات دليل الانسداد ، لأنه بحث بلا ثمرة عملية بعد ان كان باطلا في نظره ونظر غيره في هذه الآونة. واللّه سبحانه الموفق. انتهى البحث عن ذلك يوم الأربعاء14/ شوال 1389 ه -.

ص: 362

مباحث الأصول العملية

اشارة

ص: 363

ص: 364

مباحث الأصول العملية

« تمهيد »

ذكر الشيخ في مدخل بحثه في الأصول العملية بحثا مفصلا ، نقتطف منه أمرين :

أحدهما : ما أفاده من ان الحكم الظاهري هو الحكم الثابت في فرض الشك بالواقع. فقد استشكل فيه : بأنه يشمل الأحكام الواقعية للشكوك ولا يلتزم به ، إذ لا يلتزم أحد أن قول المولى : « يجب عليك التصدق إذا شككت في وجوب الصلاة » يقتضي ان يكون وجوب التصدق حكما ظاهريا لتفرعه عن الشك في الواقع (1).

فلا بد ان يقيد ما ذكره بأنه الحكم الثابت في فرض الشك بالواقع بعنوان تعيين الوظيفة بالنسبة إلى الواقع المشكوك. فلاحظ.

والآخر : ما أفاده من ان الحكم الظاهري الثابت بالأصل في طول الحكم الثابت بالدليل العلمي أو الظني ، لأن موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الواقع ، فهو متأخر طبعا عن الواقع (2).

ص: 365


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /190- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /190- الطبعة الأولى.

وقد نسب المحقق النائيني قدس سره إلى الشيخ : أنه يرى ان التنافي بين حكم الأصل وحكم الأمارة كالتنافي بين الحكم الظاهري والواقعي وان الجمع بينهما بتعدد المرتبة. واستشكل في ذلك : بأنه لا تنافي بينهما بالمرة ، لأن المجعول في الأمارة هو الطريقية فلا حكم في موردها كي يتخيل المنافاة (1).

أقول : الظاهر ان منشأ نسبة المحقق النائيني إلى الشيخ ما تقدم ، هو تعبير الشيخ بالطولية والتأخر الطبعي.

ولكنه لا يلازم ما نسبه إليه ، بل يمكن ان يكون نظر الشيخ إلى بيان عدم المنافاة بين الدليلين - دليل الأمارة ودليل الأصل لتوهم المعارضة بدوا كما لو كانت الأمارة ملزمة والأصل ينفي التكليف - لعدم اجتماع حكميهما في آن واحد ، فان حكم الأصل إنما يثبت مع الشك وعدم الحجة فمع ارتفاع الشك بالأمارة لا حكم للأصل.

وهذا لا بد ان يذكر ولو فرض ان دليل الأمارة إنما يجعل الطريقية ، إذ جعل الطريقية لا يجتمع مع إطلاق العنان بالنسبة إلى الواقع - كما هو مفاد أصل البراءة -.

وبالجملة : نظر الشيخ في ذكر الطولية إلى بيان عدم تحقق التنافي بين الدليلين - بما هما دليلان - ، لعدم اجتماع مفاديهما في آن واحد ، لا إلى ان التنافي بينهما من باب التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي ، بل تنافيهما المتوهم من قبيل التنافي بين الحكمين الظاهريين أو الواقعيين. فلاحظ.

وبعد ذلك يحسن بنا أن نشير إلى الوجه في إدراج مسائل الأصول العملية في علم الأصول.

وقد تقدم البحث - مفصلا - عن ذلك في صدر المباحث الأصولية عند

ص: 366


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 326 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

البحث في ضابط المسألة الأصولية.

وقد عرفت هناك ان صاحب الكفاية حاول إدراجها في المسائل الأصولية بزيادة قيد : « أو التي ينتهى إليها في مقام العمل عند اليأس عن الظفر بالدليل » (1).

ولكن عرفت فيما تقدم تحديد ضابط المسألة الأصولية بنحو لا يعطي مجالا لدخول بعض المسائل الفقهية فيها ، كما هو الحال بناء على بعض التعريفات. وهو أن المسألة الأصولية هي التي تتكفل رفع التحير والتردد في مقام الوظيفة العملية بالنسبة إلى الحكم الشرعي وبذلك تدخل مسائل الأصول العملية بلا توقف.

وعرفت أن مقتضى التعريف الّذي ذكرناه هو اندراج مسائل الأصول في الشبهات الموضوعية في علم الأصول ولا ملزم لإخراجها عنه ، وانما خص المسائل الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية - من خصها - لعدم انطباق تعريفه عليها. وعليه فتدخل مثل قاعدة الفراغ والتجاوز في علم الأصول.

ولعله إلى ما ذكرناه يرجع تعريف الأصفهاني للمسألة الأصولية بأنها ما كانت في مقام تحصيل الحجة على الحكم الشرعي (2). فلا وجه لالتزامه بان مسألة البراءة بناء على كون المجعول فيها الإباحة الظاهرية أو أن مرجعها إلى رفع الحكم ، لا تكون من مسائل الأصول ، بل يكون البحث فيها استطراديا ، لأنه على كلا التقديرين توجب معذورية المكلف عن الواقع ، وهي من آثار الحجة ، إذ الحجة يترتب عليها المنجزية والمعذرية.

وإذا أردت المزيد من الحديث فراجع مبحث ضابط المسألة الأصولية (3).

ص: 367


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /9- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 12 - الطبعة الأولى.
3- راجع 1 / 21 من هذا الكتاب.

ص: 368

مبحث البراءة

اشارة

ص: 369

ص: 370

فصل : في الشك في التكليف

اشارة

وقبل الخوض في أصل المبحث نشير إلى أمر ، وهو أن الشيخ رحمه اللّه تعرض إلى أصل البراءة في ضمن مباحث ومسائل متعددة بلغت الاثني عشرة مسألة (1). وخالفه صاحب الكفاية فعنون المبحث بعنوان واحد وجعل المسألة واحدة (2).

والسبب في ذلك : ان تعدد المسائل بنظر صاحب الكفاية - كما صرح بذلك في مبحث اجتماع الأمر والنهي (3) - بتعدد جهة البحث ، فمع وحدة الجهة تتحد المسألة ولو مع تعدد الموضوع أو المحمول ، وبما أن جهة البحث هاهنا واحدة لا تختلف فيها الموضوعات المتعددة ، إذ دليل البراءة والاحتياط على تقديره واحد يعم جميع ما فرض من الموضوعات المتنوعة ، ولا خصوصية لبعض تلك الموضوعات عن الأخرى في جهة البحث.

ص: 371


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /192- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /388- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /150- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ومنشأ تفصيل الشيخ وتعداده المسائل يمكن ان يكون لأجل اختلاف الموارد في بعض الخصوصيات ، ولذا ذهب الأخباريون إلى البراءة في الشبهة الوجوبية وإلى الاحتياط في الشبهة الحكمية بدعوى وجود الفرق بينهما ، فلا بد من إفراز المباحث والبحث عن كل مسألة على حدة ، لاختلاف جهة البحث.

وهذا هو الأوجه ، لكنا نسلك ما سلكه صاحب الكفاية من المنهج ، لأن طريقتنا في المباحث كطريقته.

فيقع الكلام في ما إذا شك في التكليف وجوبا كان أو حرمة ولم يكن في البين دليل يعين أحد الطرفين.

أدلة البراءة

وقد قيل : بأن الأصل مع هذا الشك هو البراءة وهو مختار الأصوليين في قبال الأخباريين - ، واستدل على ذلك بالأدلة الأربعة :

أما الكتاب : فبآيات متعددة :

منها قوله تعالى - في سورة الإسراء - : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1). وتقريب دلالتها على المدعي : ان التعبير ببعث الرسول ليس لأجل خصوصية فيه ، بل هو كناية عن قيام الحجة ، نظير قول القائل : « لا أصلي حتى يؤذن المؤذن » يقصد به الكناية عن دخول الوقت ، فتكون ظاهرة في نفي العذاب قبل قيام الحجة.

وأورد على الاستدلال بها بوجوه عديدة :

الأول : انها تختص بالعذاب الدنيوي ، فلا ظهور لها في ما نحن فيه من نفي عذاب الآخرة.

ص: 372


1- سورة الإسراء ، الآية : 15.

الثاني : انها تتكفل الحكاية عن عذاب الأمم السابقة ، وانه لم يكن يحصل الانقياد لقول الرسول ، فلا ربط لها بما نحن فيه. والوجه فيه هو ما يظهر من لفظ : « كنّا » في كونه حكاية عن الفعل في الزمان الماضي.

الثالث : ان غاية ما تتكفله هو نفي العذاب الفعلي ، وهو لا يلازم عدم الاستحقاق لإمكان ان يكون منشؤه - مع تحقق الاستحقاق - هو المنّة على العباد واللطف بهم ، ومركز البحث بين الأخباريين والأصوليين هو الاستحقاق وعدمه لا ثبوت العذاب وعدمه. وهذا الإيراد لصاحب الكفاية رحمه اللّه (1).

والّذي نراه : ان الآية الشريفة وافية بالمدعى ، وانه لا وقع لجميع هذه الإيرادات.

وذلك لأن ما قبل الآية هو قوله تعالى : ( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا ... ) .

ومن الواضح ان ظاهر هذه الفقرات المتعددة أنها لبيان ان الطريقة المشروعة في مقام العذاب والثواب وان العذاب لا يكون إلاّ على طبق الموازين العقلائية ، ولذا لا تزر وازرة وزر أخرى ، والهداية للنفس والضلالة عليها ، فتكون ظاهرة في نفي العقاب عند عدم الحجة لأنه على خلاف الموازين وان تقيّده بقيام الحجة مما تقتضيه الموازين فنفي العذاب ، وإن كان في حد نفسه أعم من نفى الاستحقاق ، لكنه في المقام ظاهر في ان منشأه هو عدم الاستحقاق.

وبتوضيح آخر نقول : ان قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) لا ظهور له في إرادة الزمان الماضي عن وقت التكلم ، بل هو ظاهر في

ص: 373


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /339- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

إرادة الماضي منه بالنسبة إلى زمان بعثة الرسول وقيام الحجة ، فلا عذاب قبلها ، فتكون الآية ظاهرة في بيان ما هو شأن اللّه تعالى وسنته في باب العذاب ، وأنه ليس من شأنه العذاب قبل قيام الحجة (1).

ولو استشكل في ظهور الآية في ذلك في حد نفسها ، فالقرينة على هذا الظهور ما يظهر من صدر الآية الكريمة الّذي نقلناه من بيان الطريقة العادلة لثبوت العقاب على الإنسان ، وعدم تخطي الموازين العقلائية في ذلك ، وانهما في مقام ما يقتضي العدل. هذا مع ان العذاب الدنيوي لا يرتبط بقيام الحجة ، إذ هو يعم الصالح والطالح والكبير والصغير والرضيع. فتكون الآية لبيان عدم استحقاق العبد للعقاب قبل قيام الحجة ، وانه ليس من شأن اللّه سبحانه ان يعذب قبل قيام الحجة.

وعليه ، فلا اختصاص لها بالعذاب الدنيوي ، ولا نظر لها إلى خصوص الأمم السابقة ، كما انها تتكفل نفي الاستحقاق لا نفي الفعلية فقط.

ولو كابرت في القول ولم تقتنع بما ذكرناه وقلت : ان « كنا » ظاهر في الزمان الماضي عن وقت التكلم ، فتتكفل الآية بيان حال الأمم السابقة بالنسبة إلى العذاب الدنيوي خاصة.

فلا يضر الاستدلال بها ، وذلك لأن الآية الشريفة على هذا تتكفل بيان ان العذاب الدنيوي منوط بقيام الحجة.

وهذا مما لا يمكن الالتزام به على إطلاقه ، لأن العذاب الدنيوي قد يشمل من هو مكتمل الإيمان ، ولذا نجد المؤمنين كثيري المحن والمصائب ، كما قد يشمل من لا يتصور في حقه قيام الحجة كالأطفال والرضع والمجانين. إذن فتعليق

ص: 374


1- هذا الاستظهار للمحقق العراقي ( قده ) وان كان في ذهن السيد الأستاذ قبل مراجعة مطلب العراقي.

العذاب على قيام الحجة لا بد أن يخصص بالعذاب الوارد على المعذّب بعنوان الجزاء والعقاب ، فانه الّذي يصح ان يناط بقيام الحجة ، وإلا فغيره من أنواع العذاب لا تناط بقيام الحجة ، بل تحصل لمصالح نوعية أو شخصية.

وإذا حملت الآية - تصحيحا لمدلولها - على إناطة المجازاة بالعذاب الدنيوي على قيام الحجة ، دلّت على إناطة استحقاق العذاب الأخروي بقيام الحجة بالأولوية - كما قيل - ، لأنه إذا فرض ان استحقاق العقاب القليل نسبتا يتوقف على قيام الحجة ، فاستحقاق العقاب الكبير لا بد ان يتوقف على قيام الحجة بطريق أولى.

والمتحصل : ان الآية ظاهرة عرفا في نفي الاستحقاق بدون قيام الحجة ، وان عدم العذاب فيها لأجل عدم الاستحقاق.

ولو التزم بأنها ظاهرة في نفي فعلية العذاب فقط من دون ظهور في نفى الاستحقاق ، فهل تصلح للاستدلال أو لا؟.

قد يقال : بان الخصم يدعي الملازمة بين نفي فعلية العقاب ونفى استحقاقه ، فتكون الآية ردا على الخصم الّذي يدعي استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة. وناقشه صاحب الكفاية : بان الاستدلال بالآية يكون جدليا لا برهانيا يطلب فيه اليقين بالمطلب.

هذا مع وضوح منع الملازمة ، لأن الملازمة لو ثبتت بين نفي فعلية العقاب ونفي استحقاقه لكانت هناك ملازمة بين الاستحقاق والفعلية - لأنه لو ثبت الاستحقاق ولم يتحقق العقاب ، لكان ذلك خلف الملازمة بين عدم العقاب وعدم الاستحقاق -. ومن الواضح انه لا يدعي أحد ثبوت الملازمة بين استحقاق العقاب وفعليته ، إذ ليست الشبهة بأهم من نفس المحرّم المعلوم ، مع أن الوعيد بالعقاب عليه قد لا يلازم فعليته لتوبة أو شفاعة أو غير ذلك.

أقول : إن عمدة ما يستدل به الأخباريون على مدعاهم الروايات الآمرة

ص: 375

بالوقوف عند الشبهة تورعا عن الاقتحام في الهلكة وتجنبا عن الوقوع فيها ، الّذي هو ظاهر في ثبوت احتمال الهلكة والعقاب في كل شبهة. وإذا بطل هذا الدليل فلا محيص عن القول بالبراءة.

وعليه ، فنقول : أن الآية إذا دلّت على نفي فعلية العقاب كانت منافية لمفاد روايات الوقوف عند الشبهة ، إذ لا يجتمع احتمال الهلكة مع عدم فعلية العقاب. ومقتضى ذلك اما تخصيص الروايات إن كانت الآية أخص مطلقا منها. أو طرحها إن كانت النسبة هي العموم من وجه لأنها روايات مخالفة للكتاب.

فالآية الشريفة كما هي صالحة لإلزام الخصم ، كذلك هي صالحة لردّ دعواه في نفسها ، لعدم الدليل عليها مع تسليم دلالة الآية.

ولعل نظر الشيخ رحمه اللّه في دعوى الملازمة بين نفي الفعلية ونفى الاستحقاق إلى دعوى الملازمة في خصوص ما نحن فيه بلحاظ مقام الإثبات ، وإنه ان قام الدليل على نفي الفعلية فقد دلّ على نفي الاستحقاق لعدم الدليل على الاستحقاق سوى ما هو ظاهر في فعلية العقاب المنفي بالآية الشريفة ، فلا يكون الاستدلال بالآية حينئذ جدليا ، كما لا يدعى الملازمة في مقام الثبوت كي يدفع بما جاء في الكفاية من نفي الملازمة. فتدبر (1).

هذا ولكن الآية إنما تصلح للاستدلال ورد الخصم بناء على ان يكون استدلال الخصم بروايات الوقوف عند الشبهة بالتقريب المتقدم.

أما بناء على ان يكون استدلالهم بدعوى ظهور النصوص في وجوب الاحتياط والتوقف ، وأن قوله : « فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (2) ، لبيان وجوب الوقوف بالطريقة المألوفة في مقام بيان الواجبات بإثبات

ص: 376


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /194- الطبعة الأولى.
2- وسائل الشيعة 18 / باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.

العقاب على تركها وبيان المحرمات بإثباته على الفعل فيكون الاستعمال كناية عن وجوب التوقف وحرمة الاقتحام ، لا لبيان احتمال الهلكة في الشبهة ويكون وجوب التوقف إرشاديا كما هو الحال على التقريب الأول.

بناء على هذا التقريب تكون اخبار الاحتياط واردة على الآية الشريفة ، لأنها تتكفل بيان الحكم الواقعي وإقامة الحجة عليه.

ولعله إلى ذلك أشار الشيخ فيما ذكره من أن هذه الآيات تكون مورودا لدليل الاحتياط لو تم ، وتكون نسبتها له نسبة الأصل إلى الدليل.

ومنها : قوله تعالى - في سورة الطلاق - : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1). وتقريب الاستدلال بها : أنها تدل على عدم التكليف إلا بما آتاه اللّه من الأحكام ، فما لم يؤته لا تكليف به ، والتكليف المجهول مما لم يؤته اللّه.

وتحقيق الكلام في ذلك : ان في مدلول الآية الشريفة محتملات أربعة :

الأول : ان المراد بالموصول فيها خصوص المال ، فيكون المعنى ان اللّه لا يكلّف إلا إنفاق ما أعطاه من المال.

الثاني : ان يراد بالموصول مطلق الفعل أعم من إنفاق المال وغيره ، فيكون الإيتاء بمعنى الإقدار وإعطاء القدرة ، ويكون المعنى انه لا تكليف إلا بما أقدر اللّه العبد عليه ، وهي بذلك تشتمل المورد ، إذ الإنفاق مع التقتير في الرزق من مصاديق ما لم يقدر اللّه العبد عليه.

الثالث : ان يراد بالموصول خصوص الحكم الشرعي ، فيكون الإيتاء بمعنى الاعلام.

الرابع : ان يراد بالموصول أعم من الفعل والحكم ، فيكون المراد بالإيتاء الاعلام بالنسبة إلى الحكم والإقدار بالنسبة إلى الفعل ، فان إيتاء كل شيء

ص: 377


1- سورة الطلاق ، الآية : 7.

بحسبه.

ولا يخفى ان الآية على الأولين لا ترتبط بما نحن فيه كما لا يخفى ، إذ هي على الأول تنفي التكليف بإنفاق ما لم يعط من المال. وعلى الثاني تنفي التكليف بغير المقدور. وشيء منهما لا ينطبق على ما نحن فيه. نعم على الثالث والرابع تفيد نفي التكليف المجهول.

لكن الثالث لا يمكن الالتزام به ، لأنه يتنافى مع مورد الآية الكريمة ، لأن موردها الإنفاق بما يملك من المال.

وأما الرابع ، فقد استشكل الشيخ فيه : بان تعلق الفعل في الآية وهو : « يكلّف » بالحكم يختلف عن نحو تعلقه بالفعل ، فان تعلقه بالحكم والنسبة بينهما نسبة المفعول المطلق ، ونسبته إلى الفعل نسبة المفعول به ، ولا جامع بين النسبتين ، فإرادتهما معا يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ممتنع (1).

ولكن المحقق العراقي قدس سره حاول تصحيح إرادة الجامع للفعل والحكم من الموصول بوجهين :

الأول : انه انما يرد هذا الإشكال إذا فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول ، وإلاّ فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلي العام وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوال أخر خارجية فلا محذور ، لأن تعلق الفعل بالموصول يكون بنحو واحد ، وتعدده بالتحليل إلى نحوين لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الّذي هو مفاد الموصول. وعليه فيمكن التمسك بإطلاق الآية على البراءة ، لإمكان إرادة الأعم من الموصول.

الثاني : المراد من التكليف في الآية الشريفة ليس هو المعنى الاصطلاحي وهو الحكم كي يلزم منه كون نسبة إلى الحكم نسبة المفعول المطلق ، إذ إرادته

ص: 378


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /193- الطبعة الأولى.

من الآية تستلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها لتكفل الآية نفى التكليف واقعا في حق الجاهل ، وهو مما لا يمكن الالتزام به.

وإنما المراد بالتكليف هو المعنى اللغوي منه وهو المشقة والكلفة.

وعليه ، فيكون تعلقه بالموصول بمعناه الجامع بنسبة المفعول به أو المفعول منه وهو المفعول النشوي ، فيكون المعنى على الأول انه سبحانه لا يوقع عباده في كلفة حكم أو فعل إلا الحكم والفعل الّذي آتاه المكلف. وعلى الثاني انه لا يوقع عباده في كلفة الا من قبل حكم أو فعل آتاه إياهم فنسبة الفعل إلى الموصول نسبة واحدة مع التحفظ على إرادة المعنى العام منه واستفادة الخصوصيات من دال آخر خارجي.

وعليه ، تكون الآية بإطلاقها دالة على البراءة.

ولكنه بعد ان قرب دلالتها على البراءة ناقشها بمناقشات ثلاثة :

الأولى : ان القدر المتيقن بقرينة السياق هو المال ، وهو مانع من التمسك بإطلاق الموصول.

الثانية : ان مفاد الآية مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فهي تنفي الكلفة من قبل التكليف مع عدم وصوله ، فأدلة الاحتياط على تقدير تماميتها تكون واردة عليها ، لأنها تفيد إيجاب الاحتياط فيكون واصلا ، فيقع المكلف في الضيق من جهته.

وبعبارة أخرى : ان الاحتياط حجة على الواقع بمقتضى دليله ، فيرتفع به موضوع الآية الكريمة ، فلا يضر الاخباري الاستدلال بالآية.

الثالثة : ان الإيتاء بما انه منسوب إليه جل اسمه ، فهو عبارة عن إعلامه بالتكليف بالسبب العادي المتعارف ، وهو إعلامه بطريق الوحي إلى أنبيائه وأمرهم بتبليغ الحكم ، فما لم يعلمه يكون عبارة عما لم يبلغه لأنبيائه أو عما امر أنبياءه عدم تبليغه ، فيكون مفاد الآية الشريفة مفاد قوله علیه السلام : « ان اللّه

ص: 379

سكت عن أشياء لم يسكت ... » (1) فلا ترتبط بما نحن فيه مما لم يصل إلى العباد من جهة خفائه بسبب ظلم الظالمين. فلاحظ (2).

ولكن لنا في كثير مما أفاده توقف :

أما الوجه الأول : الّذي ذكره لتصحيح تعلق التكليف - الفعل - بالأعم من الحكم والفعل ، فيرد عليه : انه بعد ان كانت نسبة التكليف إلى الحكم في الواقع نسبة المفعول المطلق ، ونسبته إلى الفعل في الواقع نسبة المفعول به ، فخصوصية الحكم والفعل ان استفيدت من قرينة خارجية بحيث تتعدد النسب الكلامية بتعدد القرائن الحافّة بالكلام فلا محذور فيه ، إذ لا مانع من تعدد نسبة إلى الفعل الواحد إلى غيره كنسبته في كلام واحد إلى الفاعل والمفعول به ، فإذا فرض تعدد الدال على المفعول به والمفعول المطلق في الكلام كانت النسبة الكلامية متعددة لتعدد أطرافها ولا مانع منه. إلا انه على هذا لا معنى لما ذكره من الرجوع إلى إطلاق الموصول في استفادة العموم ، إذ مع وجود الدال على كل من الحكم والفعل أي حاجة تبقى للتمسك بالإطلاق.

وإن كان الدال الكلامي منحصرا في الموصول وأريد استفادة العموم من إطلاقه ، فمع فرض تعدد نسبة التكليف واقعا بلحاظ أفراد الموصول لا يمكن إرادة العموم من الموصول ، لأنه يستلزم الدلالة على النسبتين الواقعيتين بنسبة واحدة كلامية وهو ممتنع.

وأما الوجه الثاني : الّذي ذكره في تقريب إرادة العموم من الموصول ، فيرد عليه : أنه خلاف الظاهر من لفظ التكليف ، فانه يساوق الحكم ولا ظهور له في المعنى اللغوي.

ص: 380


1- نهج البلاغة الحكم : 105.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 202 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وأما ما ذكره من المحذور على تقدير إرادة الحكم من التكليف ، فيندفع : بأنه ان لم يقم دليل قطعي على بطلان تقييد الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، فلا مانع من الالتزام بما هو ظاهر الآية الشريفة من تقييد الأحكام الواقعية بالعالمين بها. وإن قام دليل على ذلك نرفع اليد عن ظهور الآية في ذلك ونلتزم بنفي التكليف ظاهرا ، نظير حديث الرفع. ولا يسوغ ذلك لرفع اليد عن ظهور لفظ التكليف وصرفه إلى معنى آخر.

وأما إيراده الأول على الاستدلال بالآية - بعد تقريب دلالتها على العموم - ، وهو عدم جواز التمسك بالإطلاق لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب. فهو إيراد مبنائي ، وقد تقدم الحديث عن مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب عن التمسك بالإطلاق فراجع.

نعم إيراده الثاني وجيه ، وهو إيضاح ما أشار إليه الشيخ من انه لو تمت دلالة الآيات كان مورودة لدليل الاحتياط لو تمّ ، لتعليق الحكم فيها على عدم البيان. وأما إيراده الثالث : فمدفوع : بان الإيتاء في الآية الكريمة كما هو منسوب إلى اللّه سبحانه منسوب إلى العباد. ومن الواضح أن مجرد إبلاغ الرسل بالحكم لبعض الناس لا يوجب صدق إعلام الآخرين به.

نعم يصدق الاعلام بقول مطلق ، لا إعلام هذا الجاهل ، لكنه لا ينفع فيما نحن فيه بلحاظ مدلول الآية ، فما دام الشخص لم يعلم بالحكم يكون مشمولا للآية الشريفة وإن كان قد أبلغ الحكم لبعض الناس الآخرين. وشاهدنا على ذلك الّذي لا يقبل الترديد ، هو انه لو هيئت لشخص أسباب الرزق وكسب المال وتقاعس ولم يندفع في هذا السبيل ، فهل يلزم بالإنفاق مع فقره بلحاظ ان إيتاء المال المألوف من قبل اللّه سبحانه قد تحقق؟. إذن فمجرد الإيتاء من قبل اللّه سبحانه لا ينفع في تحقق التكليف ما لم يعلم المكلف بالحكم نفسه ، إذ بدون

ص: 381

العلم لا يصدق إيتاء اللّه المكلّف وإن صدق إيتاء اللّه سبحانه ، فالإيراد ناشئ عن قصر النّظر على نسبة الإيتاء إلى اللّه سبحانه وقطع النّظر عن نسبة إيتائه إلى المكلف.

والّذي يتحصل : ان إشكال استعمال اللفظ في أكثر من معنى وارد على الاستدلال بالآية.

وعلى أي حال ، فظاهر الآية إرادة المال من الموصول لظهورها في كون المراد من الموصول فيها نفس المراد من قوله : ( فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّهُ ) . ومن الواضح إرادة المال من الموصول هنا. هذا مع ان إرادة مطلق الفعل تتوقف على تقدير القدرة عليه لأنها هي المعطاة ، أو أخذ الإيتاء كناية عن الإقدار ، وكل منهما خلاف الظاهر. كما ان إرادة الحكم تتوقف على جعل الإيتاء كناية على الاعلام وهو خلاف الظاهر ، فان معنى الإيتاء هو الإعطاء.

هذا مع أن رفع التكليف في صورة الجهل ظاهري ورفعه في صورة العجز واقعي.

والجمع بينهما في إنشاء واحد لعله منشأ إشكال ، ولو أمكن تصحيحه فهو مئونة زائدة لا تثبت بالإطلاق ، بل هي مانعة عن التمسك به كما لا يخفى.

وعليه ، فلا دلالة للآية على المدعى.

وأما السنة : فبروايات عديدة :

منها : حديث الرفع : وهو رواية حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ( الخلوة خ ل ) ما لم ينطقوا

ص: 382

بشفة » (1).

ومحل الاستشهاد قوله : « ما لا يعلمون » ، ولوضوح الحال في دلالة الرواية وفي كلمات الاعلام في المقام نتعرض إلى ذكر أمور :

الأمر الأول : في ان الرفع والدفع متغايران أو لا؟.

ذهب المحقق النائيني إلى وحدتهما ، وان الرفع في الحقيقة دفع ، لأنه يمنع من تأثير المقتضي في الزمان اللاحق بملاحظة ان بقاء الشيء يحتاج إلى علة كحدوثه.

وعليه ، فيصح استعمال الرفع في مقام الدفع حقيقة وبلا تجوز وعناية (2).

وأورد عليه : بان حقيقة الرفع والدفع وان كانت واحدة إلا انه بعد ان كان لدينا أمران : أحدهما ما يمنع المقتضي في مرحلة الحدوث. والأخر ما يمنع المقتضي في مرحلة البقاء. وفرض ان لفظ الدفع وضع للأمر الأول ، ولفظ الرفع وضع للأمر الثاني ، وكان المفهوم العرفي للدفع والرفع ذلك لم تكن وحدة تأثيرهما موجبة لصحة استعمال أحدهما مقام الآخر ، لأن ذلك لا يرتبط بمقام الوضع. إذن فالرفع مفهوما غير الدفع. والمراد به في الحديث ما يساوق معنى الدفع ، إذ من المعلوم عدم حدوث الأحكام في موارد الاضطرار وغيره ، لا انها حدثت ، والمقصود بيان عدم استمرارها كما هو واضح.

ولأجل ذلك حاول البعض (3) تصحيح إرادة معنى الرفع من لفظه في الحديث الشريف بفرض لحاظ ثبوت هذه الأحكام للأمم السابقة ، فبملاحظة ذلك يكون عدم ثبوتها لنا ارتفاعا لا اندفاعا ، أو بملاحظة مرحلة الإسناد

ص: 383


1- وسائل الشيعة : 11 / باب 56 من أبواب جهاد النّفس ، الحديث : 1.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 337 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 264 - الطبعة الأولى.

الكلامي.

وأنت خبير ، بأنه بعد ان كان المراد من الحديث معلوما لم يكن البحث في جميع ذلك من اتحاد مفهوم الرفع والدفع ، ومن كون الرفع هاهنا مستعمل في معناه حقيقة أو في معنى الدفع مجازا وغير ذلك بذي أثر عملي أصلا في ما هو المستفاد من الحديث ، ولم نعرف السر في اهتمام الاعلام بذلك ، فالاكتفاء بهذا المقدار متعين.

الأمر الثاني : لا يخفى ان المراد من الموصول في : « ما اضطروا إليه وما أكرهوا عليه » هو المتعلق للحكم ، إذ لا معنى للاضطرار إلى نفس الحكم.

وعليه ، فيقع الكلام في ان اسناد الرفع إلى متعلقات الأحكام هل هو اسناد حقيقي أو اسناد مجازي ، باعتبار انها غير مرفوعة حقيقة وانما المرفوع حكمها؟.

وثمرة هذا البحث تظهر ..

أولا : في البحث عن المراد ب- : « ما لا يعلمون » ، وانه خصوص الشبهة الموضوعية أو الأعم منها ومن الشبهة الحكمية ، وذلك لأنه إذا فرض كون اسناد الرفع إلى المتعلق للحكم إسنادا مجازيا امتنع إرادة العموم ، لأن اسناد الرفع إلى الموضوع المجهول الحكم يكون إسنادا مجازيا ، واسناده إلى الحكم المجهول يكون إسنادا حقيقيا ، ولا جامع بين النسبتين ، فيمتنع إرادة العموم لاستلزامه التعبير عن النسبتين بنسبة كلامية واحدة وهو ممتنع.

وعليه ، فيسقط الاستدلال على البراءة في الشبهات الحكمية بهذا الحديث.

وتوهم : اختيار إرادة خصوص الشبهة الحكمية فيتحد الإسناد ويكون حقيقيا ولا ينافي كونه مجازيا بالنسبة إلى الفقرات الأخرى ، لعدم امتناع ذلك بعد تعدد النسب الكلامية بتعدد أطرافها في الكلام ، فيمكن ان يراد بإحداها

ص: 384

الإسناد المجازي وبالأخرى الحقيقي.

مندفع : بأنه لما كان ظاهر الفقرات الأخرى إرادة الموضوع من الموصول كان مقتضى وحدة السياق كون الموضوع مرادا قطعا من الموصول في : « ما لا يعلمون ». غاية ما في الأمر انه يمكن إن يدعى إرادة الأعم من الموضوع والحكم لو لم يكن محذور فيه. اما إرادة خصوص الحكم دون الموضوع فهو مما يتنافى مع وحدة السياق. فالتفت.

وثانيا : في البحث عما هو المقدّر من كونه جميع الآثار أو المؤاخذة أو الأثر الظاهر ، فانه إذا ظهر أن الإسناد إلى نفس المتعلق يكون بنحو الحقيقة ، فلا مجال للبحث المزبور ، وانما يتأتى على تقدير مجازية الإسناد ، فيقع الكلام في ان الرفع مسند مجازا إلى نفس المذكورات. أو مسند حقيقة إلى أمر مقدر مضاف إليها ، ويقع الكلام بعد ذلك فيما هو ذلك الأمر المقدّر.

وتحقيق الكلام : ان اسناد الرفع إلى متعلق الحكم يكون إسنادا حقيقيا لا تجوّز فيه ولا عناية ، وذلك إذا كان الملحوظ رفعه في عالم التشريع لا عالم التكوين. فان رفع الحكم عنه ملازم لعدم ثبوته في عالم التشريع والأحكام حقيقة فيصح اسناد الرفع إليه حقيقة ، وذلك كما تقول : « اني محوت الكلمة الكذائية وأعدمتها » بلحاظ دفتر خاص تكون فيه ، فانه يصدق إعدامها حقيقة من ذلك الدفتر.

وبالجملة : ان رفع الموضوع في عالم التشريع وان كان برفع حكمه ، لكنه يصحح اسناد الرفع إليه حقيقة بلحاظ ذلك العالم الخاصّ ، فرفع الحكم واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض. وما ذكرناه هو ما أفاده المحقق النائيني (1).

ومع هذا البيان لا حاجة إلى تكلّف تقريب كون اسناد الرفع إلى

ص: 385


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 342 و 348 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الموضوع حقيقة ، ببيان : أن الشوق والإرادة من الصفات التعلقية التي لا تكاد تتحقق وتتصور بدون متعلق ، وهكذا البعث ، وكما أن للماهية وجودا خارجيا وذهنيا كذلك يكون للماهية بلحاظ عروض الشوق عليها وجود شوقي ، فهي موجودة بوجود الشوق.

وعليه ، فيصح اسناد الرفع إلى معروض الحكم حقيقة لانعدامه بما هو موضوع الحكم حقيقة بانعدام نفس الحكم ، لأن له وجود بوجود الحكم نفسه ، فان هذا الوجه مضافا إلى دقته لا يخلو عن إشكال. فراجع مبحث تعلق الأحكام بالطبائع أو الأفراد لتعرف حقيقة الحال (1).

الأمر الثالث : في بيان المرفوع بحديث الرفع.

وتحقيق الحال في مفاد الحديث : أنه يمكن الالتزام بان الرفع فيما لا يعلمون رفع واقعي كالرفع في سائر الفقرات المذكورة في الحديث ، بمعنى : ان الحديث يكون متكفلا لبيان ارتفاع الحكم الفعلي عند عدم العلم ، فلا يكون من أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه كي يكون محالا ، كما لا يكون من إناطة الواقع بقيام الأمارة كي يكون تصويبا مجمعا على بطلانه.

وأما ما ادعي من وجود الاخبار المتواترة الدالة على ان الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل. فليس له في الاخبار عين ولا أثر ، وما يستظهر منه ذلك يختص بموارد الشبهات الموضوعية. اذن فلا محذور في الالتزام بان الرفع واقعي ، فالحكم مرتفع واقعا عند الجهل به ، ولا موجب للالتزام بان الرفع ظاهري كما عليه الاعلام رحمهم اللّه .

وبعض منهم - كالشيخ (2) - قد التزم في مقام الجمع بين الحكم الواقعي

ص: 386


1- راجع 2 / 469 من هذا الكتاب.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /30- الطبعة الأولى.

والظاهري : بان الحكم الواقعي ليس بفعلي وانما هو إنشائي أو شأني أو غير ذلك من التعبيرات.

ولكنهم هاهنا يلتزمون بان الرفع ظاهري وهو بلا ملزم.

وعليه ، فما نقرّبه ليس خرقا لإجماع أو مناهضة لضرورة. نعم الّذي يوقعنا عن الجزم بهذا الأمر هو ان المتيقن من الحديث هو إرادة الشبهة الموضوعية. وقد عرفت ان النصوص كثيرة على بقاء الحكم الواقعي وثبوته فيها ، فلا يسعنا الالتزام بان الرفع واقعي في المقام.

ثم إنه لو لم نلتزم بذلك ، فهل يتكفل حديث الرفع جدا حكما وجوديا ، أم ان المراد الجدي منه هو الرفع تمسكا بالتعبير على حدّه؟. الّذي نستظهره هو أن المقصود الجدي من الكلام هو جعل الحلية الظاهرية ، ولكن كني عنها برفع الحكم ، لأنه استعمال شائع عرفا ، فانه كثيرا ما تؤدى حلية الشيء بالتعبير بعدم المانع منه ، ويكون المولى في مقام بيان حلية الشيء ، فيعبر بأنه لا مانع منه. إذن فالمنشأ جدا بحديث الرفع هو الحلية الظاهرية لا رفع الحكم ، نظير قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال ... » (1) ، لكنه يؤدي الحلية مطابقة وحديث الرفع يؤديها كناية. وهذا المعنى التزم به الشيخ وان لم يصرح به ولكنه التزم بلازمه كما سيأتي التنبيه عليه.

وبناء على هذا الظهور فتحقيق نسبته مع دليل الاحتياط أن يقال : انه ان قيل ان الحلية الظاهرية ملازمة لرفع الحرمة واقعا دفعا لمحذور اجتماع الحكم الظاهري والواقعي ، كان الحديث على هذا حاكما على دليل الاحتياط ، وذلك لأنه يدل بالدلالة الالتزامية على نفي الواقع ، فيرفع موضوع وجوب الاحتياط الّذي هو احتمال الواقع ، فيكون من باب قيام الأمارة على عدم موضوع حكم

ص: 387


1- وسائل الشيعة 17 - باب : 61 من الأطعمة والأشربة ، الحديث : 1 و 2.

آخر ، ولا يتوقف أحد في حكومتها على الدليل الآخر.

وهكذا الحال في قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال ... » لأنه يدل بالملازمة على نفي الحرمة الواقعية.

وإن لم يلتزم بان الحكم الظاهري ملازم لارتفاع فعلية الواقع ، بل الواقع على فعليته مع قيام الحكم الظاهري - كما عليه المحقق النائيني الشيخ رحمه اللّه (1) - ، فقد يتخيل تعارض هذا الحديث مع دليل الاحتياط.

ولكنه يتم في مثل : « كل شيء لك حلال ... » ، لا في مثل حديث الرفع ، لأن واقعه وإن كان جعل الحلية ، لكنه بلسان رفع الواقع وهو يكفي في الحكومة ، إذ النّظر في مقام الحكومة إلى لسان الدليلين ونظر أحدهما إلى موضوع الآخر.

وإلا فالحكومة تشترك مع التخصيص ومرجعها إلى رفع الحكم عن الموضوع المنفي تنزيلا. فحديث الرفع ينظر بحسب لسانه اللفظي إلى موضوع دليل الاحتياط ويتصرف فيه. فلاحظ.

ولو لم يلتزم بما استظهرناه من : أن المنشأ في الحديث هو الحلية الظاهرية ، والتزم بمدلوله المطابقي الصريح ، وهو رفع الحكم ظاهرا عند عدم العلم ، فيقع البحث في متعلق الرفع الظاهري ، وأنه هو الحكم الواقعي نفسه أو وجوب الاحتياط؟.

يمكن أن يقرّب تعلقه بنفس الواقع ظاهرا : بان الرفع إنما يصلح أن يتوجه ويتعلق بالحكم إذا كان أمر وضعه بيد المولى ، وإلا فيمتنع عليه رفعه.

وعليه ، فنقول : ان الحكم الواقعي في ظرف الجهل يمكن ان يوضع على المكلّف ظاهرا بجعل إيجاب الاحتياط عليه ، فإيجاب الاحتياط يكون سببا لنحو ثبوت للحكم الواقعي يصحح اسناد الوضع إليه ، فعدم جعل إيجاب الاحتياط

ص: 388


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 103 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

في هذا الظرف ، يكون رفعا للواقع حقيقة ، فيصح تعلق الرفع حقيقة بالواقع بلحاظ عدم جعل إيجاب الاحتياط. نظير نفي الإحراق بلحاظ نفي سببه وهو النار.

وعلى هذا ، فلا ملزم للالتزام بان المرفوع رأسا وحقيقة هو إيجاب الاحتياط كما هو ظاهر الشيخ في قوله : « والحاصل : ان المرتفع فيما لا يعلمون وأشباهه مما لا يشملها أدلة التكليف هو إيجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي » (1). أما قوله : « معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم إيجاب الاحتياط » (2) ، فهو يحتمل الأمرين وان استشهد به المحقق النائيني على ما نسبه إليه من كون المرفوع رأسا وجوب الاحتياط (3) ، فالنكتة التي تنحل بها المشكلة هي ما عرفت من انه يكون للواقع بإيجاب الاحتياط نحو جعل ووضع ، فيصح اسناد الرفع إليه حقيقة برفع سببه وهو إيجاب الاحتياط.

نعم لو لم يكن إيجاب الاحتياط مصححا لوضع الواقع ونسبة الجعل إليه ، لم يكن رفعه مصححا لإسناد الرفع إلى الواقع حقيقة ، إذ جعل الواقع حينئذ لا يكون بيد الشارع كي يرفعه.

وقد عبّر عما أوضحناه من تصحيح نسبة الرفع إلى الواقع صاحب الكفاية بعبارة مختصرة أشار فيها إلى النكتة ، فقال : « فالإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا ، وإن كان ثابتا واقعا ، ولا مؤاخذة عليه قطعا » (4) حيث جعل الرفع متعلقا بنفس الحكم الواقعي في مرحلة الفعلية مع الالتزام بثبوته الواقعي ، وهو معنى الرفع الظاهري ، ولم يلتزم بتعلق الرفع رأسا بإيجاب

ص: 389


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /197- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /197- الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 172 - الطبعة الأولى.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /339- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الاحتياط. نعم ذكر بعد ذلك أن مقتضى رفع الواقع هو رفع إيجاب الاحتياط ، وقد تقدم تقريبه. فإن في تعبيره : « فلا مؤاخذة عليه » وعدم تعبيره برفع المؤاخذة ملحوظة مهمة ، وهي الفرار من الإشكال بان المؤاخذة ليست من الأمور الشرعية القابلة للرفع والوضع ، إذ هو التزم بارتفاعها لا برفعها ، وارتفاعها إنما هو لأجل عدم تحقق موضوعها بعد ان كان الحديث دالا على رفع الواقع ورفع إيجاب الاحتياط ، فهي ترتفع عقلا ولا ترفع شرعا.

ومن الغريب جدا ما جاء في تقريرات المرحوم الكاظمي في هذا المقام ، فانه بعد أن حكم بأن الرفع يتوجه إلى الواقع وأنه ملازم لرفع وجوب الاحتياط ، وأورد على الشيخ رحمه اللّه في التزامه : بأن المرفوع أولا وبالذات هو وجوب الاحتياط ، قرب المطلب بما لا ينتهي إلى ما لا يختلف مع التزام الشيخ من كون المرفوع وهو وجوب الاحتياط. فلاحظ كلامه من قوله في الأمر الأول : « وتوضيح ذلك هو أن أدلة الأحكام ... » إلى آخر كلامه تعرف حقيقة الحال فيه (1). فالتفت.

الأمر الرابع : في عموم الحكم للشبهة الحكمية والموضوعية.

وقد يدعى العموم بتقريب : ان مقتضى إطلاق الموصول في : « ما لا يعلمون » إرادة الأعم من الحكم والموضوع.

واستشكل في ذلك بوجهين :

الأول : ان اسناد الرفع إلى الحكم اسناد حقيقي وإلى ما هو له ، واسناده إلى الموضوع إسناد إلى غير ما هو له ، لأن المرفوع في الحقيقة هو الحكم لا الموضوع. فإرادة الأعم من الحكم والموضوع من الموصول مستلزمة لاستعمال النسبة الكلامية الواحدة في نسبتين واقعيتين مختلفتين وهو ممتنع ، لأنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى. ولا يتصور الجامع بين النسب لأنها من سنخ الوجود

ص: 390


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 339 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولا وجود جامع بين وجودين.

الثاني : ان المراد بالموصول في الفقرات الأخرى هو الفعل الموضوع لعدم تصور معنى معقول للإكراه على الحكم أو الاضطرار إليه ، فلا يتعلق الإكراه ونحوه إلا بالموضوع. ومقتضى وحدة السياق كون المراد من الموصول فيما لا يعلمون هو الموضوع أيضا ، لأن إرادة الأعم تنافي وحدة السياق والظهور العرفي للكلام في وحدة المراد من الموصول المتكرر في جميع فقراته.

والجواب عن الأول قد اتضح في الأمر الثاني ، فانه قد بينّا ان اسناد الرفع إلى الموضوع حقيقي كإسناده إلى الحكم ، وذلك بملاحظة كون الرفع بلحاظ صفحة التشريع لا صفحة التكوين ، فإرادة الجامع لا تستلزم تعدد النسبة ، بل ليس هناك إلا نسبة واحدة حقيقة. فراجع.

وأما الإشكال الثاني ، فقد أجيب عنه بوجهين :

الوجه الأول : ان التفكيك في المراد من اللفظ الواحد المتكرر بين أفراده إنما يضر بالظهور إذا كان التفكيك في المراد الاستعمالي ، بان يستعمل اللفظ في كل فقرة في غير ما استعمل فيه في فقرة أخرى فانه خلاف الظاهر عرفا.

أما التفكيك في المراد الجدي مع وحدة المستعمل فيه فلا يضر بوحدة السياق وليس هو أمرا خلاف الظاهر.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأن الموصول في كل فقرة مستعمل في معناه العام وهو الشيء ، ولكن المراد الواقعي منه بقرينة الصلة في بعض فقراته هو الموضوع ، فلا ينافي ان يراد به جدا الأعم من الموضوع والحكم في فقرة : « ما لا يعلمون » لعدم اختلال السياق باختلاف المراد الجدي ، وليس المدعى كون المستعمل فيه الموصول فيما اضطروا إليه هو الفعل ، والمستعمل فيه فيما لا يعلمون هو الأعم ، كي يكون ذلك مخالفا للظهور العرفي ووحدة السياق.

وهذا الجواب لا يخلو عن نظر ، بل منع لوجهين :

ص: 391

أحدهما : عدم وضوح ما ادعي من اختصاص وحدة السياق والظهور السياقي في وحدة المستعمل فيه فقط دون المراد الجدي ، فانها دعوى بلا شاهد ، فلا بد من الجزم بأحد الطرفين نفيا أو إثباتا من تتبع موارد الاستعمالات العرفية وملاحظة ما تقتضيه. وعلى كل فنحن نقف الآن موقف المشكك من هذه الدعوى.

ثانيهما : ان التفكيك اللازم فيما نحن فيه هو التفكيك في المراد الاستعمالي لا الجدي فقط ، وذلك لأن القرينة المقتضية لاختصاص الموصول في الفقرات الأخرى بخصوص الموضوع ليست قرينة منفصلة حتى لا تكون مخلة بظهور الموصول استعمالا في العموم وإنما هي قرينة متصلة وهي صلة الموصول من الاضطرار والإكراه وعدم الإطاقة ، فانها بنفسها تضيق دائرة الموصول في المراد الاستعمالي منه وتحدد المراد منه بما يقبل الاضطرار والإكراه ، وهو خصوص الموضوع ، نظير العادل في قول الآمر : « أكرم العالم العادل » ، فانه يضيق المراد الاستعمالي من العالم ، فلا يمكن ان يراد به مطلق العالم ، بل خصوص ما يصلح لطروّ العدالة عليه ، وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي من الموصول في سائر الفقرات هو خصوص الشيء الّذي يقبل الاضطرار وغيره المساوق للفعل ، فيكون الالتزام بكون المراد منه فيما لا يعلمون مطلق الشيء أعم مما يقبل الاضطرار وما لا يقبله كالحكم منافيا للظهور السياقي. فلاحظ.

الوجه الثاني : ما جاء في تقريرات المحقق العراقي من إنكار وحدة السياق ...

أولا : لأن من الفقرات في الحديث الطيرة والحسد والوسوسة ، ولا يكون المراد منها الفعل ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبه؟ ، ومن ان الحمل على الموضوع فيما لا يعلمون يقتضي خلاف الظاهر السياقي من جهة أخرى.

ص: 392

ثانيا : لأن الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون هو ما كان بنفسه معروض الوصف - أعني عدم العلم - كما في سائر الفقرات ، فان المراد بالموصول فيها ما كان معروضا للوصف المأخوذ في الصلة من الاضطرار والإكراه وغيرهما.

فإذا أريد من الموصول فيما لا يعلمون الموضوع يلزم منه مخالفة هذا الظهور ، لأن الموضوع لا يكون بنفسه معروض لعدم العلم ، وإنما يكون المعروض له عنوانه. فيدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول على إرادة الحكم المشتبه ، وبين حفظه من الجهة الأخرى بحمله على إرادة الموضوع ، والعرف يعين الأول فيتعين الحمل فيما لا يعلمون على إرادة الحكم (1).

ومع التردد يكون الكلام مجملا لا يتعين فيه أحد الاحتمالين.

ولكن هذا الوجه كسابقه محل منع ، وذلك ..

أما دعوى اختلال السياق بذكر الطيرة والحسد والوسوسة ، لعدم إرادة الفعل منها. فلأنه لا يلزم في وحدة السياق ان يكون المراد بجميع فقرات الكلام الطويل شيئا واحدا حتى تحمل عليه الفقرة المشكوكة ، بل يكفي فيه تكرر اللفظ الواحد بلا فصل ، ولو كان صدر وذيل الكلام أمرا بعيدا عن المراد باللفظ المتكرر. وليس في هذه الألفاظ لفظ الموصول كي يقال ان اللفظ الواحد المتكرر أريد منه في مورد شيء وفي آخر معنى آخر فيختل السياق. كما أنها لم تقع فاصلة بين : « ما لا يعلمون » وسائر الفقرات ، حتى لا يكون هناك ظهور في وحدة المراد من الموصول ، بل جاءت هذه الألفاظ في آخر الكلام ، فلا تكون موجبة للاختلال بالظهور السياقي للموصول في الفقرات المتعددة.

وأما دعوى معارضة وحدة السياق من جهة الموصول بوحدة السياق من

ص: 393


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 216 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

جهة الوصف العارض وترجيح الثاني على الأول فلأن المراد من الموصول بقرينة تعلق الرفع التشريعي به ليس ذات الفعل ، بل الفعل المأخوذ موضوعا للحكم ، لأنه هو القابل للرفع ، فلا معنى لرفع ما لم يؤخذ في موضوع الحكم الشرعي ، كما هو. فليس المراد منه المائع الّذي اضطر إلى شربه ، بل بما هو خمر ، لأن وصف الخمرية دخيل في الموضوع. فالمراد بالموصول ما هو الموضوع بالحمل الشائع وذات ما يكون معروضا للحكم. ومن الواضح ان حمل الموصول فيما لا يعلمون على إرادة الفعل لا يستلزم عدم تعلق عدم العلم بنفسه ، بعد هذا البيان ، لأن المجهول ما هو موضوع الحكم ، وهو المراد من الموصول ، فعدم العلم تعلق بنفس المراد منه ، فشرب الخمر - في مورد المائع المردد - مجهول. نعم بلحاظ ذات المائع يقال ان الفعل بنفسه غير مجهول ، بل بعنوانه وهو كونه خمرا ، ولكن عرفت أنه ليس بمراد من الموصول إلا مقيّدا بعنوانه الدخيل في الموضوع ، فمع الجهل بالعنوان يصدق الجهل بما هو موضوع بنفسه. فتنحفظ وحدة السياق من هذه الجهة مع فرض إرادة الموضوع من الموصول.

وهذا البيان مستفاد من بعض كلمات المحقق الأصفهاني ، لا في مقام الرد على الدعوى المتقدمة ، بل في مقام آخر فيما نحن فيه (1).

وقد تصدى المحقق الكاظمي - في تقريراته لبحث أستاذه المحقق النائيني - إلى دفع الإشكال على التعميم ، بعد ان قرّبه بنظير ما تقدم منّا. ولكنه لم يأت بما يغني ، بل الّذي قرّره وقرّبه هو تعلق الرفع في جميع الفقرات بالحكم ، لأنه هو القابل للرفع والوضع ، فيراد من الموصول فيما لا يعلمون مطلق الحكم على اختلاف أسباب الجهل به ، وذكر : ان إضافة الرفع في غير ما لا يعلمون إلى الأفعال الخارجية إنما هو لأجل ان الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنما يعرض

ص: 394


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 181 - الطبعة الأولى.

الأفعال لا الأحكام وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي (1).

وأنت خبير ، بان ما أفاده لا يحلّ الإشكال ، إذ هو بمقتضى بيانه التزم بان اسناد الرفع إلى الأفعال مجازي ، لأن المرفوع في الحقيقة هو الحكم. فإرادة خصوص الحكم من ما لا يعلمون يستلزم اختلال السياق في الموصول ، كما يستلزم تعدد النسبة واختلافها بين الفقرات.

وعجيب منه إغفاله لدعوى ان الرفع متعلق بالموضوع حقيقة بلحاظ عالم التشريع ، مع أنه قرّب ذلك وصحّح اسناد الرفع الحقيقي إلى الموضوع.

ويتلخص مما مرّ : أن إشكال وحدة السياق مما لم نعرف له جوابا وجيها.

وعليه ، فلا مناص من الالتزام بكون المراد بالموصول فيما لا يعلمون هو الموضوع لا الأعم منه ومن الحكم.

هذا ، ولكن قد ادعي : ان أخذ الموصول بمعنى الفعل لا الأعم منه ومن الحكم لا يستلزم اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية ، بل يمكن الالتزام بعمومه للشبهة الحكمية ، ولو كان المراد من الموصول هو الفعل. وتقريب ذلك بوجوه ثلاثة :

الأول : ان يراد من الموصول الفعل ، لكنه لا بذاته ، بل بما هو واجب وحرام مع التعميم من حيث أسباب الجهل ، فكل ما لا يعلمون أنه واجب أو حرام لعدم النص أو لاشتباه الأمور الخارجية فهو مرفوع.

وأورد عليه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه إيرادين :

أحدهما : ان الالتزام بذلك يوجب اختلال السياق في الحديث ، لأن ظاهر الفقرات الأخرى كون المراد من الموصول هو الفعل بعنوانه لا بما هو واجب أو حرام ، وذلك لأن الوصف المذكور في الصلة من الإكراه والاضطرار ونحوهما

ص: 395


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 345 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لا يعرض على الفعل بما هو حرام أو واجب ، بل بما هو هو. فالإكراه على شرب الخمر بما هو لا عليه بما أنه حرام.

والآخر : أن المشتق لا وجود له بالذات ، وانما الموجود بالذات هو ذات الموضوع ومبدأ المحمول ، فعنوان الحرام لا وجود له بالذات ، بل الموجود بالذات هو الحرمة والخمر مثلا. وإذا لم يكن العنوان الاشتقاقي موجودا بالذات ، بل كان موجودا بالعرض لم يتعلق الجهل به بالذات أيضا ، بل المجهول بالذات إما ذات الموضوع كالخمر أو مبدأ المحمول كالحرمة. واما الفعل الحرام ، فالجهل به ليس امرا وراء أحد النحوين من الجهل بالذات. وإذا كان العنوان مجهولا بالعرض امتنع أن يراد من الموصول الفعل بما أنه حرام ، إذ الظاهر أن المراد مما لا يعلمون ما لا يعلمونه حقيقة لا ما لا يعلمونه عرضا (1).

أقول : الإيراد الأول لا إشكال فيه.

وأما الإيراد الثاني ، فهو ممنوع ، فان كون العنوان الاشتقاقي مما لا يوجد إلاّ بالعرض ولا يوجد بالذات ولا يكون من المقولات لا ينافي تعلق الجهل به بالذات وحقيقة ، بل الجهل حقيقة يتعلق به بما له من الوجود ولو بواسطة الجهل بما هو الموجود بالذات ، فان الأمور الانتزاعية قابلة لتعلق الجهل والعلم بها حقيقة ، كيف؟ وهي تقبل النفي والإثبات حقيقة ، بل قد يحاول إقامة البرهان على ثبوتها أو نفيها كإثبات إمكان العالم ، فان الإمكان من الأمور الانتزاعية مع انه يتعلق للنفي والإثبات ويبرهن عليه في محله.

وإذا أمكن تعلق النفي والإثبات وتواردهما على الأمر الانتزاعي أمكن تعلق العلم والجهل به كما لا يخفى.

وبالجملة : المطلب واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ص: 396


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 180 - الطبعة الأولى.

الثاني : أن يراد من الموصول الفعل ، ويراد من الجهل به الأعم من الجهل به بنفسه أو بوصفه ، وهو الحكم.

وأورد عليه المحقق الأصفهاني : بأن وصف الشيء بالجهل بلحاظ الجهل بوصفه من وصف الشيء بحال المتعلق ، وهو خلاف الظاهر ، فان الظاهر من قوله : « ما لا يعلمون » انه لا يعلمونه بنفسه من الوصف بحال الشيء ، لا أنه لا يعلمونه بحكمه من الوصف بحال المتعلق.

ثم إنه استشكل على نفسه : بان العلم التصديقي والجهل التصديقي لا يتعلقان بالمفردات ، بل انما يتعلقان بالمركبات وثبوت شيء لشيء ، فالفعل بنفسه لا يتعلق به الجهل التصديقي ، وانما يتعلق الجهل بثبوت الوصف له ، والجهل به تصديقا يرجع إلى ذلك.

وعليه ، فلا فرق بين الجهل بثبوت الخمرية للمائع والجهل بثبوت الحرمة لشرب التتن من هذه الجهة ، وإنما الفرق بينهما ان عنوان الخمرية ذاتي وعنوان الحرمة عرضي وهو ليس بفارق فيما نحن فيه.

وأجاب عنه : بان المراد بالفعل ليس ذات الفعل ، بل هو الفعل المأخوذ في موضوع الحكم بقرينة تعلق الرفع التشريعي به.

وعليه ، فلا يراد بالموصول هو شرب المائع بما هو شرب مائع ، لأنه كذلك ليس مأخوذا في موضوع الحكم ، واما الّذي يراد به هو شرب الخمر بما هو كذلك لأنه مأخوذ كذلك في موضوع الحكم.

ومثل ذلك يتصور تعلق الجهل به بنفسه ، لأنه يكون مجهول الوجود ، ولا يخرج الجهل بذلك عن الجهل التصديقي ، فيقال : « شرب الخمر مجهول الوجود فيرفع تشريعا ». إذن فلا ملزم لحمل الجهل هاهنا على الجهل بعنوانه كي يعم المراد إلى العنوان الذاتي والعرضي المجهول. فتدبر (1).

ص: 397


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 180 - الطبعة الأولى.

الثالث : ما أفاده قدس سره وهو يبتني على مقدمتين ذكرهما :

إحداهما : ان الموضوع للحكم الشرعي ليس هو الوجود الخارجي ، إذ متعلق الحكم وموضوعه هو ما يتقوم به الحكم في أفق الاعتبار ، وهو الموضوع الكلي ، لامتناع كون الشيء الخارجي متعلقا للحكم ، كما بيّن في محله.

وثانيتهما : ان للموضوع والمتعلق وجودا بوجود الحكم ، فان الحكم والبعث حيث انه من الصفات التعلقية التي لا توجد إلا متعلقة بمتعلقها ، كان المتعلق والموضوع موجودا بعين. وجود الحكم يصطلح عليه بالوجود الشوقي ، وهو وجود للماهية غير وجودها الخارجي والذهني.

وذكر : بان نسبة الوجود إلى متعلق الحكم في أفق الاعتبار نسبة حقيقية عرفا ، وإن كانت بالدقة مجازية كنسبة الوجود إلى الماهية ، فانها عرفا حقيقية لكنها بالدقة مجازية ، إذ الموجود في الخارج هو الوجود لا الماهية.

إذا عرفت ذلك ، فقد ذهب قدس سره إلى : أخذ الفعل بمعنى الموضوع الكلي ويسند الرفع إليه حقيقة ، لأن رفع الموضوع تشريعا مساوق لرفع الحكم ، كما ان وضعه بعين وضع الحكم ، فتنحفظ وحدة السياق.

ويراد من الحديث رفع الموضوع الكلي المجهول نفسا ، كشرب التتن المجهول كونه موضوعا ، والمجهول تطبيقا كشرب الخمر المجهول كونه موضوعا تطبيقا ومن جهة انطباق الموضوع الكلي عليه (1).

ولكن ما أفاده لا يمكن الموافقة عليه بأكثر جهاته ..

أما ما أفاده قدس سره من ان متعلق الحكم ليس هو الوجود الخارجي ، فهو مما لا إشكال فيه كما تقدم في مبحث متعلق الأحكام. لكن تقدم هناك لا يمكن أيضا الالتزام بان متعلق الحكم هو الماهية ، لأنها بما هي غير قابلة لتعلق

ص: 398


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 181 - الطبعة الأولى.

الطلب فاقدة للغرض الداعي للطلب. فما التزم به هاهنا من ان متعلق الطلب هو الموضوع الكلي الّذي يوجد بالطلب غير صحيح ، بل الّذي حقق هو الالتزام بكون متعلق الطلب هو الوجود التقديري للماهية - بحسب اصطلاح الفلاسفة - ، أو الوجود الفرضي أو الزعمي - بحسب اصطلاح بعض الأصوليين -.

هذا ، مع انه من الواضح جدا والّذي يلتزم به كل أحد هو ان الحكم لا يصير فعليا إلا إذا وجد موضوعه في الخارج ، وكثيرا ما يعبر قدس سره بان فعلية الحكم بفعلية موضوعه. فما لم تتحقق الاستطاعة خارجا لا يصير وجوب الحج فعليا.

نعم هو قبل وجود موضوعه موجود إنشاء. كما حققناه سابقا في بيان مرتبتي الإنشاء والفعلية -.

وإذا ارتبطت فعلية الحكم بوجود موضوعه الخارجي ، فلا معنى حينئذ لأخذ العنوان الكلي هو موضوع الحكم ، كي يرجع الشك في الشبهة الموضوعية إلى الشك فيه تطبيقا. إذن فيكون الشك في الشبهة الموضوعية شكا في وجود الموضوع الجزئي للحكم الفعلي الجزئي ، لا شكا في الموضوع الكلي ، إذ ليس العنوان الكلي مدارا لثبوت الحكم خارجا ، بل المدار على وجود الموضوع خارجا ، فلا يتم ما أراده من جعل المراد هو الموضوع الكلي المجهول اما نفسا أو تطبيقا ، كي يكون الحديث عاما للشبهة الحكمية والموضوعية.

وأما المقدمة الثانية ، فان كان مراده من سردها هو بيان ان الجهل بالحكم عين الجهل بالموضوع لا غيره لوحدة وجودها ، فيرجع الشك في الحكم الكلي إلى الشك في الموضوع حقيقة ، فلا يكون الجهل بالموضوع بلحاظ حكمه من الوصف بحال المتعلق. ففيه : انه خلاف الفهم العرفي ، إذ لو تم ما أفاده في المقدمة ، فالمغايرة عرفا بين الموضوع وحكمه ثابتة ، ولا يرى العرف ان الجهل بالحكم عين الجهل بالموضوع ، ولا يصحح اسناد الجهل إلى الموضوع بعين

ص: 399

اسناده إلى الحكم.

وأما ما أفاده من أخذ الفعل بمعنى الموضوع الكلي بما هو موضوع ، ويراد من الجهل به الجهل به نفسا ، بمعنى الجهل بموضوعيته أو الجهل به تطبيقا. فيرده : ان موضوعية الموضوع تساوق ثبوت الحكم له ، فأخذ الجهل بالفعل بما هو موضوع يرجع إلى أخذ الجهل به بما هو واجب أو حرام ، وهذا هو الوجه الأول الّذي نفاه قدس سره بأنه مخالف لوحدة السياق.

وبالجملة : الاضطرار وغيره لا يتعلق بالفعل بما هو موضوع ، فلأجل المحافظة على وحدة السياق لا بد من أخذ الجهل بالفعل بذاته لا بما هو موضوع. فتدبر.

ويتحصل من مجموع ما تقدم : انه لم يتم ما قيل في وجه تعميم الموصول للحكم والموضوع ، كما لم يتم ما قيل في وجه تعميم الحديث للشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية.

والتحقيق أن يقال : ان المراد بالموصول هو الحكم أعم من الحكم الكلي أو الجزئي. وبتعبير آخر : مع تعميم الجهل به من حيث كونه ناشئا من اشتباه الأمور الخارجية أو ناشئا من إجمال الدليل أو عدمه أو تعارض الدليلين ، فيعم الشبهة الحكمية والموضوعية ، كما التزم بذلك صاحب الكفاية (1) وقرّبه المحقق العراقي (2).

ولا محذور في ذلك سوى ما يتوهم من : ان الالتزام به يتنافى مع وحدة السياق ، لأن المراد بالموصول في الفقرات الأخرى هو الموضوع ، فإرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون يتنافى مع وحدة السياق ، فان ظاهر سياق الحديث

ص: 400


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /340- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 216 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كون المراد بالموصول في جميع الفقرات واحدا.

ولكن هذا التوهم فاسد ، لأن أخذ الموصول في سائر الفقرات بمعنى الموضوع والفعل من جهة إضافة الاضطرار ونحوه إليه ، والفرض ان الاضطرار لا يقبل العروض على الحكم ، فمن ظهور الفقرة في عروض الاضطرار على المراد بالموصول ، وكون المراد بالموصول هو معروض الاضطرار لا غيره التزم بان المراد بالموصول هو الموضوع.

ومن الواضح ان مقتضى ظهور الوصف في تعلقه - في نفسه وبلحاظ وحدة السياق - بما هو المراد من الموصول وعروضه عليه بنفسه هو إرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون لا الموضوع ، لأنه لا يعرض عليه الجهل بنفسه ، فنفس القرينة التي بمقتضاها حملنا الموصول في سائر الفقرات على الموضوع هي تقتضي إرادة الحكم من الموصول فيما لا يعلمون ، فلا مخالفة لوحدة السياق ، بل هو أخذ بظاهر السياق.

أما الوجه في عدم عروض الجهل على الموضوع بنفسه ، بل بعنوان آخر زائد عليه ، فلأن الموضوع ..

إما أن يراد به الموجود الخارجي المشكوك .. أو يراد به العنوان الكلي.

فعلى الأول : فالموجود الخارجي المشكوك كونه خمرا مثلا لا يتعلق الشك به ، بل يتعلق بعنوانه ، فلا شك في وجود المائع لأنه معلوم ، وانما يشك في خمريته. فالشك لا يتعلق به بنفسه.

وعلى الثاني : فلا يتصور الشك فيه - في موارد الشبهة الموضوعية - إلا بلحاظ انطباقه على الخارج ، فمثلا الخمر لا يشك في وجوده ، وانما يشك في انطباقه على المورد الخاصّ في الخارج ، إذن فلا شك في وجود الموضوع الكلي ، وانما الشك في جهة زائدة على وجوده ، وهو خصوصية وجوده في المورد الخاصّ المصطلح عليه بالانطباق.

ص: 401

أما الحكم ، فهو معروض الجهل بنفسه كليا كان أو جزئيا ، فيشك في وجود حرمة شرب التتن كما يشك في وجود حرمة شرب هذا المائع المشكوك كونه خمرا.

ولعل هذا هو مراد المحقق العراقي الّذي نقلناه واستشكلنا فيه (1).

وعلى هذا ، فالحديث يعم كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية. فتدبر.

الأمر الخامس : مقتضى ما ذكر في تقريب اسناد الرفع الظاهري إلى الحكم ، من ان الحكم مرفوع برفع وجوب الاحتياط ، لأن وضعه في مرحلة الظاهري إنما يكون بجعل الاحتياط ، لا يكون الحديث شاملا لموارد العلم الإجمالي ، وذلك لأن مفاد الحديث - على هذا - هو بيان عدم جعل الحكم ورفعه ظاهرا في فرض يكون ثبوته ظاهرا بيد الشارع بجعله وجوب الاحتياط فيرفعه. وهو بذلك ينصرف إلى الموارد التي يكون وضع التكليف الظاهري منحصرا بالشارع ، وانه هو الّذي يضيق على المكلف لو أراد ، فينصرف عن موارد العلم الإجمالي الّذي يكون الحكم الواقعي فيها منجزا بحكم العقل ، فلا ينحصر وجوب الاحتياط بالشارع فيها.

ثم على تقدير تسليم شموله في نفسه لموارد العلم الإجمالي ، لا ينفع في نفى الاحتياط العقلي ، لأن غاية مدلوله ان الشارع لم يجعل وجوب الاحتياط ، وهو لا ينافي أصلا تنجز الواقع بطريق آخر وبمقتضى حكم العقل.

ومن هنا ، يشكل الأمر في جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر بناء على عدم انحلال العلم الإجمالي فيه كما ذهب إليه صاحب الكفاية (2). لما عرفت من قصور الحديث أو عدم منافاته للاحتياط العقلي الثابت في موارد العلم الإجمالي.

ص: 402


1- راجع / 378 من هذا الكتاب.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /363- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وسيأتي له تتمة توضيح إن شاء اللّه تعالى في محله.

نعم ، لو كان مفاد الحديث الحلية الظاهرية بلسان الرفع كما قربناه سابقا ، كان شاملا لموارد العلم الإجمالي ومنافيا للاحتياط العقلي كما لا يخفى.

الأمر السادس : في عموم رفع ما لا يعلمون للمستحبات وعدم عمومه. والمعروف عدم شموله للمستحبات المجهولة.

والوجه فيه ..

أما على الالتزام بكون الرفع ظاهريا راجعا إلى عدم إيجاب الاحتياط ، فلأن مفاد الحديث على هذا هو نفي الحكم ظاهرا بملاحظة عدم جعل إيجاب الاحتياط الّذي هو نحو إيصال للحكم ظاهرا.

ومن الواضح ان استحباب الاحتياط شرعا في موارد الاستحباب المشكوك ثابت ، فهو وصول ظاهري للحكم الاستحبابي ، فلا يمكن ان يقال برفع الاستحباب بهذا المعنى ، ولو لم يثبت حسن الاحتياط شرعا فهو ثابت عقلا بلا كلام ، فيمنع من شمول الحديث لما عرفت في الأمر الخامس من قصور الدليل عن شيء ما يثبت فيه الاحتياط العقلي. فراجع.

وهذا الوجه مما لم نعلم من التفت إليه قبلنا وان كان قد طبع في بعض التقريرات لكنه مأخوذ منّا في مجالس المذاكرة.

وأما على الالتزام بأن مفاد الفقرة جعل الحلية الظاهرية بلسان الرفع - كما أشرنا إليه في الأمر الثالث - ، فلأنه لم يعهد بيان الترخيص برفع الحكم الاستحبابي ، لاشتمال الاستحباب على الترخيص في نفسه ، فلا معنى لشمول الحديث بهذا المعنى للاستحباب.

وأما على الالتزام بان الرفع واقعي ، فقد يشكل الأمر لقابلية الاستحباب للرفع الواقعي ، ومقتضى عموم الموصول هو إرادة مطلق الأحكام.

ولكن قد يقال : بان ظاهر الرفع هو ما يقابل الوضع ، وهو ظاهر في جعل

ص: 403

ما هو ثقيل على المكلف ، فيختص بهذا الاستظهار برفع الأحكام الإلزامية دون غيرها. ولا يخفى أنه لا طريق برهاني لإثبات أخذ الثقل في مفهوم الرفع. فالمحكم هو الوجدان فراجعه تعرف صحة الدعوى من سقمها.

وعلى كل ، فالاختصاص بالإلزام - على هذا الالتزام - يبتني على صحة هذه الدعوى. فتدبر.

الأمر السابع : في تحديد موارد الحديث من الأحكام الوضعيّة والتكليفية. وتحقيق ذلك ..

أما الأحكام التكليفية ..

فتارة : يكون المجهول هو الحكم التكليفي الاستقلالي ، كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن.

وأخرى : يكون الجهل متعلقا بالحكم الضمني ، كالشك في وجوب السورة في الصلاة.

ويصطلح على مثل هذه الموارد بموارد الأقل والأكثر.

أما إذا تعلق الجهل بالحكم الاستقلالي ، فهو المتيقن من حديث الرفع ، ولا شبهة في شموله له.

وأما مورد الشك في الأقل والأكثر ، فهو على قسمين ، لأن الدوران بين الأقل والأكثر .. تارة : يكون في متعلق الحكم. وأخرى : في المحصل له.

أما مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في متعلق الحكم ، فالحديث في جريان البراءة في الجزء المشكوك - مع قطع النّظر عن ما تقدم في الأمر الخامس - ، إنما يتأتى بناء على الالتزام بانبساط الوجوب على الاجزاء وتوزّعه عليها ، بحيث يكون كل واحد من الاجزاء متعلقا لأمر ضمني.

أما بناء على الالتزام بما قد يستظهر من عبارة الكفاية في مبحث التعبدي والتوصلي من عدم انبساط الوجوب ، بل ليس إلا وجوب واحد بسيط متعلق

ص: 404

بالاجزاء بعين تعلقه بالكل ، نظير الخيمة وما تظله من المكان ، واللحاف وما يغطيه من أجزاء الجسم ، فانه يبقى على وحدته بلا انثلام ولا توزع (1). فلا يتأتى هذا الحديث ، إذ لا أمر بالجزء على حدة يشك فيه ، بل ليس إلاّ أمر واحد لا شك فيه وليس متعلقا للجهل. فلاحظ.

وأما دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصل فقد نسب إلى بعض الأجلة التفصيل فيه بين المحصل الشرعي كالوضوء بناء على انه محصل للطهارة فتجري البراءة مع الشك في الأقل والأكثر فيه ، وبين المحصل غير الشرعي فلا تجري فيه البراءة (2). والكلام في ذلك كله موكول إلى محله من مباحث الأقل والأكثر ، فانتظر واصبر فان اللّه مع الصابرين.

وأما الأحكام الوضعيّة ، فالبحث فيها في مقامين :

الأول : في الأحكام الوضعيّة في غير باب المعاملات ، كالنجاسة والطهارة واشتغال الذّمّة ونحو ذلك.

الثاني : في الأحكام الوضعيّة في باب المعاملات ، كالمبادلة الحاصلة بالبيع ونحوها.

أما الأول ، فمثل الطهارة مما ليس موضوعا على المكلف - بحسب ما هو ظاهر : « عليه » من الثقل والعهدة - لا يكون مرفوعا ، لأن الرفع عن المكلف في مقابل الوضع عليه ، والطهارة لا يقل فيها ، بل فيها تسهيل وتخفيف. وأما النجاسة فلا يشملها الحديث لوجهين :

الأول : انها ليست حكما موضوعا على المكلف الجاهل بخصوصه ، بل هي حكم موضوعه ذات النجس بلا توجيه إلى مكلف خاص ، بل يشترك فيه جميع

ص: 405


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 73 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 360 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المكلفين ، فلم توضع النجاسة عليه كي ترفع عنه.

ولو كانت من الأمور الانتزاعية المنتزعة عن الحكم الشرعي ، فهي تنتزع عن مجموع الأحكام التكليفية المتعلقة بالمكلفين لا عن حكم الجاهل بخصوصه.

الثاني : أنه قد عرفت ان الرفع الظاهري في قبال الوضع الظاهري ، وهو غير متصور هاهنا ، إذ لا معنى لتنجيز النجاسة الواقعية بوجوب الاحتياط كي يقال ان الرفع بلحاظ إمكان الوضع بوجوب الاحتياط - كما قلنا في الأحكام التكليفية - ، وجعل النجاسة ظاهرا ليس إيصالا للواقع ، بل هو فرد مماثل للواقع ، فهو وصول له لا للواقع ، بخلاف إيجاب الاحتياط في التكليف ، فانه يستلزم كون الواقع في العهدة عند الجهل ، وهو معنى الوصول الظاهري.

ومن هنا ، ظهر الحال في مثل اشتغال الذّمّة ، فانه ليس مرفوعا بحديث الرفع ، لأنه لا يقبل الوضع الظاهري كالنجاسة. نعم هو حكم وضعي مجعول على المكلف نفسه ، فلا يتأتى فيه الوجه الأول. فلاحظ.

ثم إن ثمرة البحث عن رفع النجاسة ظاهرا بحديث الرفع مع ان الشك فيها مجرى لأصالة الطهارة ، هو انه قد لا يمكن إجراء أصالة الطهارة للابتلاء بالمعارض ، ولا أصل يعين أحد الطرفين ، فينفع حديث الرفع حينئذ بناء على عدم معارضة جميع الأصول في طرف الأصل الواحد في الطرف الآخر. وسيأتي الحديث فيه في محله.

وأما الثاني ، فالحق ان الحكم الوضعي في مثل البيع ونحوه غير مرفوع لوجوه :

الأول : ان الحكم الوضعي في باب البيع ، وهو المبادلة والنقل والانتقال ، ليس فيه ثقل على المكلف بحسب طبعه ، بل قد يرغب فيه المكلّف ويقدم عليه بنفسه كما لا يخفى.

ص: 406

الثاني : ما تقدم في باب النجاسة من ان الحكم الوضعي هاهنا غير ثابت للمكلف بخصوصه ووارد عليه ، فان المبادلة سواء كانت أمرا انتزاعيا عن حكم تكليفي أم كانت حكما وضعيا ، لا تختص بمكلف ، بل موضوعها المالان ، وتنتزع عن مجموع الأحكام الثابتة للمكلفين من عدم جواز تصرف البائع والمشتري فيما انتقل عنهما إلا بإذن الآخر وغير ذلك. فليست هي موضوعة على الجاهل ، بل هي واردة على الفعل والمخاطب بها الجميع.

وهذا البيان لا يجري في بعض الأحكام الوضعيّة ، كالحكم الوضعي في باب الطلاق.

وعليه ، فتطبيق الحديث على مورد الحلف بالطلاق مكرها لا يدل على تكفل الحديث لرفع الأحكام الوضعيّة مطلقا وبنحو العموم. وسيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

الثالث : ما تقدم أيضا من أن الحكم الوضعي الواقعي غير قابل للوضع الظاهري ، لا بجعل الاحتياط ولا بغيره.

هذا كله بناء على كون مؤدي الحديث هو الرفع الظاهري.

أما بناء على كون مؤداه هو الحلية الظاهرية ، فلا موهم حينئذ لارتفاع الأحكام الوضعيّة به ، إذ لم يتوهم أحد بتكفل أصالة الحلّ - نظير : « كل شيء حلال ... » - ، رفع الحكم الوضعي فتدبر.

إلى هنا ينتهي بعض الكلام فيما يرتبط ب- : « رفع ما لا يعلمون ».

ويقع الكلام في سائر الفقرات.

أما رفع الاضطرار والإكراه وما لا يطيقون والخطإ والنسيان ، فيقع الكلام فيه من جهات :

الجهة الأولى : في بيان ان المرفوع بحديث الرفع هو الحكم الثابت للمضطر إليه أو غيره ، لا بعنوان الاضطرار وغيره ، بل لذات الفعل مع قطع

ص: 407

النّظر عن عروض هذه الصفات عليه. بيان ذلك : ان الحكم ..

تارة : يكون ثابتا لموضوعه بوصف العمد - مثلا - ، نظير وجوب الكفارة المترتب على الإفطار العمدي.

وأخرى : يكون ثابتا بوصف الخطإ والنسيان وغيرهما ، كوجوب الكفارة المترتب على قتل الخطإ ، وكوجوب سجدتي السهو المترتب على تحقق السهو في الصلاة.

وثالثة : يكون ثابتا لذات الشيء لا بوصف العمد والخطإ ، بل هو ثابت له بعنوانه الأولي كحرمة شرب الخمر ، ووجوب القصر على المسافر ، وغير ذلك من الأحكام.

ومن الواضح ان حديث الرفع لا يتكفل رفع الحكم الثابت في حال العمد - بمقتضى دليله - ، إذ مع الخطإ وعدم العمد يرتفع الحكم بنفسه قهرا لعدم موضوعه ، بل لا احتياج لحديث الرفع.

وإنما الكلام في شموله للنحو الثاني من الأحكام. وهو محل الكلام في هذه الجهة.

وقد يحرر هذا البيان بصورة إيراد ، وهو : ان ظاهر حديث الرفع هو رفع الحكم عن المضطر إليه بما هو كذلك ، وهكذا في سائر الفقرات ، بمعنى انه يتكفل رفع الحكم الثابت بعنوان الاضطرار فيكون مصادما للأدلة التي تتكفل جعل الحكم في مورد الاضطرار بخصوصه وبعنوانه.

وقد يجاب عن هذا الإشكال - بما هو ظاهر الكفاية - من : ان الظاهر من الحديث أن هذه العناوين هي الموجبة لرفع الحكم ، إذ أسند إليها الرفع ، وظاهر كل موضوع دخالته في ثبوت محموله. إذن فهو ظاهر في ان علة الرفع هي هذه العناوين.

وبما أنه يستحيل ان يكون العنوان الواحد مقتضيا لعدم الشيء ومقتضيا

ص: 408

لثبوته لم يكن حديث الرفع شاملا للموارد التي تكون هذه العناوين دخيلة في الحكم ، ويكون الحكم مترتبا عليها. لاستلزامه أن يكون الشيء الواحد مقتضيا للمتنافيين ، بل كان منصرفا - بمقتضى هذا الوجه العقلي - عن هذه الصورة ومختصا بمورد يكون الحكم ثابتا لذات العمل بعنوانه الأولي بلا دخالة هذه العناوين أصلا. فليس حديث الرفع ظاهرا في رفع الحكم الثابت في مورد الاضطرار ، بل هو ظاهر في رفع الحكم لأجل الاضطرار ، إذ « الاضطرار » أخذ في موضوع الرفع فيكون دخيلا فيه ، ولم يؤخذ في المرفوع كي يرد الإشكال المزبور (1).

وهذا البيان أشار إليه ملخصا المحقق النائيني (2). وأوضحه المحقق الأصفهاني قدس سره بضميمة مقدمة إليه ، وهي ظهور ورود الحديث في مورد الامتنان (3).

وهذه الجهة بنظرنا غير دخيلة في البيان ، فانه يتم ولو لم يؤخذ فيه ورود الحديث مورد المنّة والتسهيل.

بل التحقيق : ان هذا الأمر - أعني كون ملاك الرفع هو الامتنان كما يصرّح به ويلتزم بلوازمه - ، لو سلم كان مخلا بالبيان السابق ، إذ مرجعه إلى كون رفع التكليف في موارد هذه العناوين لأجل التسهيل والمنّة على العباد ، وهذا لا ينافي كون هذه العناوين بحسب ذواتها مقتضية لثبوت الحكم ، إذ لا منافاة بين كون الشيء بلحاظ ذاته مقتضيا لثبوت شيء ، وبلحاظ جهة أخرى فيه مقتضيا لعدم ذلك الشيء ، ولا مانع من اقتضاء الشيء الواحد للمتنافيين بهذا الوجه. إذن فلا مانع من الالتزام بظهور حديث الرفع في كون هذه العناوين لأجل المنة رافعة للحكم مع الالتزام بشموله لموارد تكون هذه العناوين بذواتها موجبة لثبوت

ص: 409


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /341- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 348 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 183 - الطبعة الأولى.

الحكم. فكون الشيء الواحد مقتضيا للمتنافيين ليس محذورا على إطلاقه.

فالتحقيق ان يقال في جواب الإشكال وتحقيق جهة البحث ، هو : أنا نقطع بصدور الأحكام الثابتة لهذه العناوين بما هي ، كما نقطع بثبوت ما هو مفاد حديث الرفع من رفع الاضطرار ونحوه ، ومقتضى ذلك هو حمل الحديث على كون نظره إلى الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية ، لأن حمله على رفع الأحكام الثابتة للأشياء بهذه العناوين يستلزم إما رفع اليد عنه أو عن أدلة تلك الأحكام للتنافي بينهما ، وهو مما لا يمكن الالتزام به. فلاحظ.

الجهة الثانية : في عموم رفع هذه العناوين لموارد الفعل والترك.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى عدم شمول الحديث لموارد الإكراه أو الاضطرار المتعلق بالترك ، وانما يختص بالاضطرار أو الإكراه على الفعل ، فقد ذكر بعد كلام طويل - لا يهمّنا التعرض إليه - : ان المكلف إذا أكره على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل ، ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال ، كما لو نذر ان يشرب من ماء دجلة ، فأكره على العدم ، أو اضطر إليه أو نسي الشرب.

وقد وجّه الإشكال : بان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، وليس تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن تنزيل المعدوم منزلة الموجود يكون وضعا لا رفعا. فإذا أراد ان يشمل حديث الرفع المثال المزبور كان مقتضاه انه ينزل عدم الشرب منزلة الشرب ، فيجعله كالشرب في ترتب الأثر عليه من عدم الحنث ومخالفة النذر.

وهذا بخلاف ما إذا توجه الرفع إلى الفعل ، فانه ينزله منزلة العدم في عدم ترتب الأثر فيصدق الرفع.

وبالجملة : بملاحظة ان حديث الرفع يتكفل التنزيل ، لا يصح تعلقه بالترك ، لأن مقتضاه تنزيله منزلة الوجود وهو يلازم الوضع لا الرفع. فيختص

ص: 410

بتنزيل الموجود منزلة العدم.

وانتهى قدس سره من هذا البيان إلى عدم إمكان تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط لنسيان أو إكراه أو نحو ذلك بحديث الرفع ، إذ لا مجال لورود الرفع على السورة المنسية - مثلا - لخلو صفحة الوجود منها.

هذا مضافا إلى ان أثر السورة هو الاجزاء وصحة العبادة ، ولا يمكن ان يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثرها المزبور - مع قطع النّظر عن عدم قابليته للجعل الشرعي - ، لأن مقتضاه فساد العبادة وهو خلاف الامتنان.

وذكر بعد ذلك : احتمال ان يكون المرفوع نفس جزئية المنسي للمركب. ودفعه : بان الجزئية ليست منسية وإنما الّذي طرأ عليه النسيان هو الجزء (1).

أقول : فيما أفاده قدس سره مواضع للنظر ..

منها : ما أفاده من ان شأن حديث الرفع هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود. إذ فيه ..

أولا : انه لا وجه للالتزام بان حديث الرفع يتكفل التنزيل بعد ما عرفت من تصوير تعلق الرفع حقيقة بالفعل المعروض لهذه العناوين بملاحظة كون الرفع في عالم التشريع والجعل. وعرفت أنه ممن أفاده قدس سره ، وإذا كان حديث الرفع يتكفل رفع معروض هذه العناوين حقيقة ، فلا فرق بين الفعل والترك فهو كما يرفع الفعل في عالم التشريع يرفع الترك أيضا في عالم التشريع بملاحظة رفع أثره ، فلا يكون رفع الترك مساوقا للوضع.

فما أفاده هاهنا هدم لما شيده قبل قليل فالتفت.

وثانيا : انه لو سلم ان حديث الرفع يتكفل التنزيل ، فلا محذور في شموله للترك ، وذلك لأنا نقول انه يتكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود في عدم ترتب أثر

ص: 411


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 354 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المعدوم لا في ترتب أثر الموجود كي يكون الرفع وضعا.

بيان ذلك : ان العدم والترك إذا كان موضوع أثر خاص ، فهو مما لا يترتب على الوجود قهرا ، فمثلا إذا كان الترك محرما لم يكن الوجود كذلك ، وإن كان للوجود أثر وجودي خاص كالوجوب مثلا. فالذي نقوله : أن الإشكال نشأ عن تخيل ان حديث الرفع إذا تكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود فهو يقتضي ترتب آثار الموجود عليه ، وهذا وضع لا رفع. مع ان الأمر ليس كذلك ، بل حديث الرفع انما يتكفل تنزيل المعدوم منزلة الموجود في عدم ترتب الأثر عليه لا غير ، فيكون الترك - في المثال المزبور - بمنزلة الفعل في عدم كونه محرما ومخالفة لا في كونه واجبا ومما يتحقق به الامتثال ، فلا يكون رفع العدم على هذا وضعا.

ومنها : ما ذكره من عدم إمكان استفادة صحة الصلاة من حديث الرفع فيما إذا نسي الإتيان ببعض الاجزاء أو اضطر إلى تركه أو أكره عليه ، لما تقدم من ان الترك لا يكون مشمولا بالحديث. فانه لا يخلو من خلط ، إذ النسيان كما ينتسب إلى الترك كذلك ينتسب إلى الفعل ، فالترك الناشئ عن نسيان لا بد ان يكون عن نسيان الفعل ، فالنسيان عارض على الفعل وعلى الترك ، فالمتعين إفراده بالكلام وفصله عن صورة الاضطرار إلى الترك ، إذ لا يتصور صدور الترك عن نسيان مع عدم نسيان الفعل.

ولعل مراده ما ذكرنا من تعدد الملاك ، وأن الكلام في الاضطرار لا يتأتى في النسيان ، بل عدم شمول حديث الرفع لنسيان الجزء لوجوه أخرى ، والاشتباه كان من المقرّر.

ومنها : ما ذكره من ان الجزئية غير منسية مع نسيان الجزء. وهذا مما لا يمكن الالتزام به ، إذ يمتنع ان يكون المكلّف في المكان المقرّر للجزء ملتفتا إلى جزئية الجزء ثم ينسى الإتيان بالجزء بل لا بد ان يكون نسيان الجزء مصاحبا لنسيان الجزئية. ويستحيل التفكيك بينهما. فالتفت ولا تغفل.

ص: 412

وقد تعرض إلى بعض ما أوردناه على المحقق النائيني بعض الأعاظم المحققين فراجع تقريرات بحثه (1).

ثم إنه قد يشكل شمول الحديث لموارد ترك الواجب من جهة أخرى ، وهي : ان ظاهر الحديث هو رفع الأثر الشرعي المترتب على معروض الإكراه - مثلا - دون غيره ، لما عرفت من ان المراد بالموصول الفعل الّذي يتعلق به الحكم أو يكون موضوعا له ، والإكراه على الترك لا يكون من الإكراه على موضوع الأثر ، إذ الوجوب متعلق بالفعل ، فلا أثر للترك كي يرتفع بالإكراه ، وما هو موضوع الأثر لم يعرض عليه الإكراه.

ولكنه يجاب بما حقق في مسألة الضد من : ان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد العام له وهو الترك. بتقريب : ان البعث والتحريك الاعتباري كالبعث الخارجي ، فكما ان البعث الخارجي نحو شيء تكون له نسبتان : نسبة إلى الفعل المبعوث نحوه ، وهي نسبة القرب إليه. ونسبة إلى عدمه ، وهي نسبة البعد عنه.

كذلك البعث الاعتباري ، فان البعث نحو شيء اعتبارا كما ينسب إلى الفعل فيكون محركا إليه كذلك ينسب إلى عدمه فيكون زاجرا عنه. فنفس طلب الفعل ووجوبه ينهى عن الترك ويبعد المكلف عنه بالتقريب المذكور ، فيكون الترك موضوعا للأثر الشرعي لانتساب الحكم إليه بنسبة الزجر عنه.

ولو لا هذا البيان لأشكل الأمر في تعلق الإكراه بالمحرم أيضا بناء على ان الحرمة طلب الترك - كما قربناه - لا الزجر عن الفعل. فان الإكراه على الفعل لا يكون من الإكراه على متعلق الحكم ، إذ متعلقه هو الترك.

نعم ، لو كانت الحرمة هي الزجر عن الفعل كان الفعل بنفسه متعلقا للحكم.

ص: 413


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 218 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولا طريق إلى التفصي عن هذا الإشكال في موارد الحرمة ، إلا بنظير ما ذكرناه في موارد الوجوب ، فنقول ان طلب الترك كما ينسب إلى الترك فيكون محركا نحوه كذلك ينسب إلى الفعل فيكون زاجرا عنه. فتدبر.

الجهة الثالثة : في ما هو المرفوع من الأحكام التكليفية بهذه الفقرات.

لا إشكال في شموله للأحكام الاستقلالية ، كما لو أكره على ترك الواجب أو اضطر إليه أو نسيه ، أو أكره على شرب الخمر أو اضطر إليه أو شربه ناسيا.

وهل تشمل موارد الأحكام الضمنية أو لا؟. فيه كلام. كما لو اضطر إلى ترك بعض أجزاء الصلاة أو أكره عليه أو نسي جزئيته فتركه.

قد يقال : بعدم شمول رفع الاضطرار والإكراه للجزئية إذا أكره على ترك الجزء أو اضطر إليه ، لا لأجل ان الجزئية ليست من الأمور المجعولة شرعا ، فان له حديثا آخر نتعرض له فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى ، بل لأن حديث الرفع إنما يتأتى في المورد الّذي يكون جريانه فيه على وفق المنّة والتسهيل. وجريانه هاهنا يستلزم الكلفة والتثقيل ، وذلك لأن مقتضى الاضطرار إلى ترك الجزء هو سقوط الوجوب عن الكل لارتفاع الكل بارتفاع الأمر الضمني المتعلق بالجزء ، ومقتضى رفع جزئيته بحديث الرفع هو لزوم الإتيان بالباقي لأنه مركب تام الاجزاء بلحاظ حال الاضطرار. فيكون حديث الرفع مقتضيا للوضع وهو خلاف الامتنان.

وأما في صورة النسيان فجريان حديث الرفع موافق للامتنان ، إذ الناسي لا يلتفت إلى نسيانه وهو كذلك ، ومعنى ذلك انه أتى بالمركب الناقص ناسيا ، وانما يلتفت بعد ذلك وبعد زوال النسيان ، فعدم رفع جزئية ما نسيه يلزمه بالإعادة للإخلال بما أتى به ، فيكون إجراء حديث الرفع موافقا للامتنان.

هذه خلاصة ما يذكر في مقام الفرق بين صورة النسيان وصورة الاضطرار.

وقد ينجر البحث هاهنا كما ينجر في رفع ما لا يعلمون إلى ان الجزئية هل

ص: 414

تقبل الرفع بحيث يثبت الأمر بباقي الاجزاء أو لا؟. فقد يقال : ان جزئية الجزء ليست مجعولة شرعا ، وإنما هي منتزعة عن تعلق الأمر بالمركب ، فينتزع عن كل جزء من المركب أنه جزء المأمور به ، وهي بهذا المعنى تكون قابلة للوضع والرفع شرعا. ولكنها انما تقبل الرفع بلحاظ رفع منشأ انتزاعها وهو الأمر الضمني المتعلق بالجزء ، وبما ان الأمر الضمني لا يثبت مستقلا ومنفردا عن سائر الأوامر الضمنية المتعلقة بسائر الاجزاء ، لم يمكن رفعه وحده ، بل لا يرتفع إلا بارتفاع الأمر بالكل. وعليه فرفع الجزئية لا يكون إلاّ برفع الأمر بالكل ، فلا دليل على ثبوت الأمر بالباقي.

ومن هنا أشكل الأمر في إثبات وجوب الأقل لو دار الأمر بينه وبين الأكثر ، بواسطة شمول حديث الرفع للجزء المجهول كونه جزء.

وقد تصدى صاحب الكفاية إلى الإجابة عن هذا الاستشكال بما لم نعهد صدوره قبله ، ومحصل ما أفاده قدس سره : ان لدينا دليل على الأمر بالكل. ولدينا دليل يرشد إلى جزئية أمر ، كقوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1) ، وهذا الدليل بمقتضى إطلاقه يتكفل الأخبار عن دخالة الجزء في العمل في مطلق الأحوال. فحديث الرفع يتكفل الاخبار عن عدم جعل جزئية الفاتحة في حال الجهل أو غيره ، فيكون مخصصا لدليل الجزئية ، ولا نظر له إلى دليل الأمر بالكل مباشرة. فيكون نظير الاستثناء المتصل الدال على عدم الجزئية في غير مورد الجهل. فلو ورد الدليل هكذا : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب في حال عدم الجهل » ، هل يتوقف أحد في ثبوت الأمر في مورد الجهل بالفاقد للجزء المضطر إلى تركه؟.

وبالجملة : بعد تخصيص دليل الجزئية بحديث الرفع يرجع في إثبات الأمر بالباقي إلى دليل الأمر بالعمل نفسه. فلاحظ.

ص: 415


1- العوالي اللئالي 1 / 196. الحديث 2.

ولكنه قدس سره خصّ هذا البيان بمورد الشك في الجزئية أو نسيانها ، أما مورد الاضطرار إلى ترك الجزء ، فقد ذهب إلى عدم جريان حديث الرفع فيه (1).

ويمكن أن يقال في بيان الفرق بين صورة الاضطرار وصورة الجهل : إن الاخبار بعدم جزئية شيء لشيء لازم أعم لعدم تعلق الأمر بالمركب أصلا وللأمر بالمركب الفاقد لذلك الشيء. إلا ان الاخبار بالرفع المقابل للوضع ، لا يصح إلا في مورد يكون أصل ثبوت الأمر مفروغا عنه ، وانما الشك في جزئية شيء للمأمور به ، فإذا قال المولى : « جزئية هذا الشيء للمأمور به مرفوعة » ، فانه ظاهر في المفروغية عن ثبوت الأمر بالمركب ووجود المأمور به. فلا يشمل المورد الّذي لا يكون للمركب المأمور به ثبوت.

وعليه ، نقول : في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر لما كان وجود المأمور به المركب مفروغا عنه للعلم به ، وانما الشك في جزئية شيء له ، كان الرفع صادقا ، إذ يصدق رفع جزئية المشكوك عن المأمور به. فيكون حديث الرفع شاملا لموارد الجهل بالجزئية.

أما مع العجز عن إتيان الجزء ، فبما أنه يسقط الأمر بالكل للعجز عن بعض أجزائه ، فلا يكون ثبوت المأمور به مفروغا عنه ، مع قطع النّظر عن حديث الرفع الّذي يحاول به إثبات الأمر بالباقي ، فلا يصدق حينئذ رفع الجزئية ، فعدم شمول حديث الرفع لموارد الاضطرار العقلي إلى ترك الجزء من باب عدم صدق الرفع على نفي الجزئية.

ولعل هذا هو الوجه الفارق بين الصورتين في نظر صاحب الكفاية ، فيكون مراده ان حديث الرفع لا يشمل مورد الاضطرار لعدم صدق الرفع ، لا

ص: 416


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /366- 369 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لأجل صدق الوضع من جهة إثباته للأمر بالباقي.

وبعبارة أخرى : يكون مراده ان شمول حديث الرفع يتفرع على المفروغية عن أصل الوضع ، فلا يثبت في مورد لا وضع فيه. لا أن مراده انه لا يتكفل وضع التكليف ، لأنه خلاف الامتنان كما هو ظاهر كلامه. فتدبر.

وهذا بعض الكلام في هذه الجهة ، وتمام التحقيق يأتي في محله من دوران الأمر بين الأقل والأكثر إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

الجهة الرابعة : في شمول رفع الاضطرار والإكراه للأحكام الوضعيّة.

وعمدة الكلام في الأحكام الوضعيّة المرتبطة بباب المعاملات. وهي على قسمين : عقود وإيقاعات ...

أما المعاملات العقدية كالبيع ونحوه ، فلا يشمله رفع الإكراه والاضطرار لما تقدم من ان ظاهر الرفع عن المكلف انه في مقابل الوضع عليه الظاهر في نوع من الثقل ، ولا يقل في الحكم الوضعي كصحة البيع ونحوها بلحاظ ذاته ، إذ قد يرغب فيه المكلّف ويحاول تحقيقه بشتى الطرق في بعض الأحيان.

ولما تقدم من ان مثل صحة البيع ونحوها ليس مما يتعلق بمكلف خاص يخاطب به ، بل هو حكم يخاطب به جميع المكلفين ، فليست هي مجعولة على المضطر أو المكره ، كي ترتفع عنه بالاضطرار أو الإكراه ، سواء كانت حكما وضعيا أم كانت حكما انتزاعيا ، إذ هي تنتزع عن مجموعة أحكام تكليفية تتعلق بمجموع المكلفين لا من خصوص ما يتعلق به من أحكام.

هذا ، مع أن رفع صحة البيع بالنسبة إلى المضطر إليه خلاف الامتنان والإرفاق به ، إذ يؤدي به ذلك إلى الهلاك.

كما أنه لا جدوى في إثبات شمول رفع الإكراه للمعاملات المالية كالبيع ، لما علم من الأدلة بتقييد الصحة فيها بصورة عدم الإكراه وطيب النّفس والرضا ، فالصحة منتفية في صورة الإكراه لتلك الأدلة.

ص: 417

هذا ، مع أن ذلك مانع عن شمول الحديث ، لما عرفت في الجهة الأولى ان هذا الحديث لا يتكفل رفع الأحكام الثابتة للشيء بقيد عدم الإكراه. فراجع.

وأما المعاملات الإيقاعية ، كالطلاق والعتق ، فالحال فيها كالحال في العقود.

ثم إنه قد يدعى شمول رفع الإكراه للأحكام الوضعيّة بدلالة رواية صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا عن أبي الحسن علیه السلام : « في الرّجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال :

لا ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطئوا » (1).

والتحقيق : ان المكره عليه إن كان الحلف على الفعل من إيجاد الطلاق والعتق والصدقة - بالمعنى المصدري - فيراد من قوله : « أيلزمه ذلك » وجوب صدور ذلك منه ، كانت الرواية أجنبية عما نحن فيه ، إذ هي تتكفل رفع الحكم التكليفي بوجوب الوفاء باليمين وحرمة الحنث. وان كان الحلف على الطلاق وغيره بالمعنى الاسم المصدري ، نظير نذر النتيجة ، فيكون المراد من قوله : « أيلزمه ذلك » نفوذ ذلك ولزومه الوضعي وترتب هذه الأمور بمجرد الحلف ، كانت مما نحن فيه. ولكن ذلك خلاف ظاهرها ، فان ظاهرها كون الحلف على إيجاد هذه الأمور لا على ترتبها وتحققها في أنفسها.

هذا ، مع ان الحلف على هذه الأمور باطل عندنا ، ولو كان بدون إكراه ، فتطبيق حديث الرفع عليه ظاهر في كون الطرف السائل من المخالفين ، أو المورد مورد التقية (2).

ص: 418


1- وسائل الشيعة 16 / 164 باب : 12 من أبواب كتاب الإيمان ، الحديث : 12.
2- مضمون هذا الإيراد ذكره المحقق الأصفهاني راجع نهاية الدراية 2 / 182 - الطبعة الأولى.

وعليه ، فلا ظهور في كون الاستدلال بحديث الرفع استدلالا واقعيا ، بل يمكن ان يكون جدليا لإلزام الطرف المقابل لتسليمه ظهور الحديث في رفع الحكم الوضعي. وهذا لا يعني ان الإمام علیه السلام يرى ذلك. ومثل ذلك كثير في كلامهم علیهم السلام .

ولو سلم ظهور الرواية في المدعى ونريد العمل بها ، فهي لا تقتضي شمول الحديث لمطلق موارد الأحكام الوضعيّة ، بل تختص بالإيقاعات.

وذلك للفرق بين العقود والإيقاعات في ان الحكم الوضعي في باب العقود يترتب على مجموع الإيجاب والقبول ، وليس هو فعل المكره فقط ، فالإيجاب المكره عليه أو القبول ليس موضوع الأثر ، وموضوع الأثر ليس فعل المكره كي يرتفع بالإكراه ، بخلاف الإيقاع ، فان موضوع الأثر هو نفس فعل المكره.

وبالجملة : لو أردنا التنزل عن الإشكالات المتقدمة ، فهاهنا إيراد آخر في باب العقود ، وهو : ان الظاهر من الحديث هو رفع الأثر المترتب على فعل المكره دون غيره ، وفعل المكره في باب العقود ليس مورد الأثر ، إذ الأثر يترتب على فعل شخصين الموجب والقابل ، فلا يتكفل رفع الإكراه رفع صحة البيع مع الإكراه على الإيجاب ، لأن الصحة تترتب على الإيجاب والقبول لا خصوص الإيجاب.

وهذا الإيراد لا يتأتى في باب الإيقاعات ، لأن موضوع الأثر نفس إنشاء المكره لا غير ، فيمكن ان يشمله حديث الرفع. فإذا دلّ دليل على الرفع في مورد الإيقاعات فلا يلازم ثبوت الرفع في موارد العقود.

ولا يخفى ان الحديث يرتبط بباب الإيقاعات ، إذ فرض الاستدلال بالنص ان هذه الأمور تتحقق بمجرد الحلف بلا احتياج إلى قبول في مثل الصدقة ، بل تكون نظير الوقف على المساجد ، واما كل من الطلاق والعتق فهو في نفسه لا يحتاج إلى قبول. فلا دلالة له على دلالة الحديث على رفع مطلق الأحكام

ص: 419

الوضعيّة. فلاحظ وتدبر.

ثم إنه بقيت في هذا الحديث أبحاث أخر مختصرة خارجة عما نحن بصدده أهملنا التعرض إليها.

تنبيه : تكرر في بعض الكلمات ورود هذا الحديث مورد الامتنان على الأمة الظاهر في الامتنان بحسب النوع ، ومقتضى ذلك تحقق التعارض في بعض الموارد فيما إذا دار الأمر بين ضررين على شخصين ، بان كان جريان حديث الرفع مستلزما في حق أحد لضرر آخر ، فيلتزم بعدم شمول حديث الرفع لمثل ذلك.

ولكن هذه الدعوى لا شاهد عليها ، بل غاية ما يستفاد من الحديث هو وروده مورد التسهيل ، وهو ظاهر في التسهيل الشخصي نظير رفع الحرج.

وعليه ، فلا مانع من شمول حديث الرفع للمثال المزبور إذ فيه تسهيل وإرفاق بمن يجري في حقه بلا كلام. فتدبر.

هذا تمام الكلام في حديث الرفع.

ومنها : حديث الحجب : وهو قوله علیه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (1). وتقريب الاستدلال به : أنه يدل على ان الحكم المجهول موضوع عن العباد ، وهو من حيث شموله للشبهة الحكمية أظهر من حديث الرفع ، إذ لا يتأتى فيه إشكال وحدة السياق لعدم الموضوع له ، بل المتيقن منها بقرينة اسناد الحجب إلى اللّه إرادة الشبهة الحكمية ، فانه يتناسب مع إرادة الحكم الكلي المجهول كما لا يخفى. وقد نوقش في الاستدلال بها.

وتحقيق الكلام فيه : ان الحكم المجهول ..

تارة : يكون حكما إنشائيا صرفا لم يبيّن إلى الناس لبعض المصالح ، ولم

ص: 420


1- وسائل الشيعة 18 / 119 باب : 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 28.

يؤمر الرسول صلی اللّه علیه و آله أو الأئمة صلوات اللّه عليهم ) بتبليغه إليهم.

وأخرى : يكون حكما فعليا بلّغ إلى الناس وبيّن لهم ، ولكنه خفي علينا ولم يصل إلينا لبعض الأسباب من ظلم الظالمين وغيره.

ولا يخفى ان محل الكلام في باب البراءة هو النحو الثاني ، فالبحث يقع في انه إذا احتمل صدور الحكم إلى الناس ولكنه خفي علينا بحيث لو اطلعنا عليه لوجب علينا امتثاله ، فهل تجري البراءة أو الاحتياط؟.

أما النحو الأول ، فهو ليس محل الكلام بين الأصوليين والأخباريين ، بل احتماله لا يوجب الاحتياط قطعا ولا يعتنى به أصلا ، إذ هو مما سكت اللّه تعالى عنه ، وقد ورد الحديث عن أمير المؤمنين علیه السلام بالأمر بالسكوت عنه (1).

إذا تبيّن ذلك ، نقول : انه قد ادعي ان الحديث المزبور ناظر إلى النحو الأول من الأحكام ، فلا دلالة له على البراءة فيما نحن فيه وهو النحو الثاني ، بل يكون مساوقا للحديث الشريف المروي عن أمير المؤمنين علیه السلام الّذي أشرنا إليه.

وفي تقريبه وجهان :

أحدهما : ما أشار إليه صاحب الكفاية قدس سره من ان الجهل بالحكم بالنحو الثاني لم يكن سببه اللّه تعالى ، إذ هو أمر بتبليغه وبلّغ ، وإنما نشأ عن إخفاء الظالمين للأحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلسين وغير ذلك من الأسباب الخارجية. بخلاف الجهل بالنحو الأول ، فانه ناشئ من عدم أمر اللّه تعالى بتبليغه وبيانه.

وعليه ، فلا يصح نسبة الحجب إلى اللّه سبحانه بلحاظ الجهل بالنحو الثاني ، ويصح نسبته إليه بلحاظ النحو الأول ، فلا بد من حمل الحديث على إرادة

ص: 421


1- نهج البلاغة ، قصار الحكم 105.

النحو الأول من الأحكام (1).

وهذا الوجه مردود : بان الأسباب الخارجية التي تكون سببا لخفاء النحو الثاني من الأحكام ..

تارة : لا تكون من الأفعال الاختيارية للعباد ، بل من الأسباب التكوينية ، كضياع كتب الحديث بواسطة غرق أو عارض سماوي ونحو ذلك.

وأخرى : تكون من الأفعال الاختيارية كوضع الوضّاعين وإتلاف الظالمين لكتب الحق.

ولا يخفى أنه يصح نسبة الحجب إلى اللّه تعالى إذا كان سبب الخفاء هو العوارض السماوية ونحوها مما لا تتدخل فيها إرادة العباد.

وأما إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياري للعبد ، فتصح نسبته إلى اللّه تعالى بلحاظ ما هو المذهب الحق من الالتزام بالأمر بين الأمرين ، فإن الفعل الصادر من العبد كما تكون له نسبة إلى العبد تكون له نسبته إلى اللّه سبحانه بملاحظة انه بيده وجود العبد ، كما حقق في محله.

نعم ، من يقول بالتفويض لا يصحح نسبة العبد الاختياري إلى اللّه سبحانه ، ولكنه خلاف ما نعتقد به نحن الإمامية أعلى اللّه كلمتنا ببركة محمد وآله صلوات اللّه وسلامه عليهم ).

إذن فكما يصح نسبة الحجب إلى اللّه سبحانه في مورد الجهل بالنحو الأول من الأحكام ، كذلك يصح نسبته إليه تعالى في مورد الجهل بالنحو الثاني.

الوجه الآخر : أنه وان صح نسبة الحجب إليه تعالى ، لكن الظاهر العرفي من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الإخفاء بأمره ، إذ لا يسند الحجب إليه عرفا إذا كان الإخفاء على خلاف أمره ، بل كان بواسطة الظلم

ص: 422


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /341- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المحرّم المبغوض إليه ، فيختص الحديث بالنحو الأول من الأحكام.

وهذا الوجه لا يخلو عن صورة وجيهة.

لكن يمكن أن ينحل الإشكال : بأن ظاهر قوله علیه السلام : « ما حجب اللّه علمه » هو ثبوت الحكم في نفسه في الواقع ، إذ الحجب متعلق بالعلم به ، فانه ظاهر في ان الحكم له تقرير وثبوت في الواقع. فيراد من الموصول هو الحكم الثابت المجهول ، كما أن ظاهر قوله : « فهو موضوع عنهم » أنه في مقابل الوضع عليهم إرفاقا بالعباد وتسهيلا عليهم ، وحينئذ فيختص بالأحكام التي تكون قابلة للوضع على العباد فوضعها اللّه عنهم إرفاقا بهم.

والحكم القابل للوضع على العباد هو الحكم الفعلي الصادر المبيّن لبعض الناس وإن خفي بعد ذلك ، فانه قابل للوضع الظاهري في حال الجهل بجعل إيجاب الاحتياط.

أما الحكم الإنشائي المختص بعلم اللّه تعالى فقط أو مع النبي والأئمة علیهم السلام الّذي لم يبين إلى أحد لمصلحة تقتضي ذلك ، فليس هذا بقابل للوضع على العباد كي يرفع عنهم ، ولا موهم لوضعه عليهم بعد فرض عدم تبليغه وبيانه ، لقصور في مقتضية أو لغير ذلك ، ولذا لو تعلق به العلم - فرضا - لا يجب امتثاله وإطاعته ، بل قد لا يسمى حكما لدى العرف فلا يكون الكلام لديهم ظاهرا في كونه هو المنظور به.

ومع هذا الظهور لا مجال لدعوى الظهور السابق الّذي أريد به دفع دلالة الحديث على البراءة. إذن فالحديث من أدلة البراءة ، ومقتضى إطلاق الموصول إرادة مطلق الحكم أعم من موارد الشبهة الحكمية وموارد الشبهة الموضوعية.

ومنها : حديث الحل : وهو ما ذكره في الكفاية من قوله علیه السلام :

ص: 423

« كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » (1). وادعى ان دلالته على حلية ما لم تعلم حرمته - مطلقا من جهة الاشتباه الحكمي أو الموضوعي - تامة. ولكنها بحسب ظهورها الأولي مختصة بالشبهة التحريمية. إلا أنه ذهب إلى تعميم الحكم للشبهة الوجوبية بأحد وجهين :

الأول : عدم الفصل قطعا بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية وعدم وجوبه في الشبهة الوجوبية ، فان كل من يرى البراءة في الشبهة التحريمية يرى البراءة في الشبهة الوجوبية ، وأن كان ليس كل من يرى البراءة في الشبهة الوجوبية يراها في الشبهة التحريمية.

الثاني : ان ترك محتمل الواجب محتمل الحرمة ، إذ الترك على تقدير الوجوب محرم ، فيكون ترك الواجب المحتمل مشمولا لحديث الحل رأسا للشك في حرمته (2).

أقول : الكلام في هذا الحديث في مقامين :

الأول : في وجود حديث بهذا النص بالخصوص ومستقلا ، فقد ادعي ان هذا النص ورد في رواية مسعدة بن صدقة المشتملة على تطبيقه على بعض موارد الشبهات الموضوعية ، كالثوب المحتمل انه سرقة والجارية المحتمل انها أخته بالرضاعة ، والعبد المحتمل أنه حرّ.

نعم ، ورد نصّ آخر يقارب هذا النص بنحو الاستقلال تارة. وفي مورد الجبن أخرى. ولكنه ظاهر في الشبهة الموضوعية لقوله : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (3). ولعله يأتي الحديث فيها مفصلا.

ص: 424


1- وسائل الشيعة 12 / باب : 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : 1 و 4.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /341- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- وسائل الشيعة 12 / باب : 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : 1.

الثاني : في دلالته على المدعى. ونتكلم فيه ..

تارة : على انه نصّ مستقل غير رواية مسعدة بن صدقة.

وأخرى : على أنه رواية مسعدة بن صدقة.

أما على الأول : فقد يستشكل - كما في تقريرات الكاظمي (1) - في شموله للشبهة الحكمية بملاحظة قوله : « بعينه » ، فانه ظاهر في كون الشك في تعيين الحرام ، وهو انما يكون في مورد ينقسم إلى قسمين حرام ، وغير حرام كاللحم المنقسم إلى الميتة والمذكى ، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية ، إذ لا معنى لمعرفة الحرمة بعينها.

ولكنه مخدوش : بأنه يمكن تعميم الحديث للشبهة الحكمية مع المحافظة على ظهور لفظ : « بعينه » كما في موارد العلم الإجمالي (2) ، بدوران الحرمة المجعولة بين شيئين كحرمة الغيبة أو الغناء ، فانه يصدق على مثل ذلك بان كلا منهما حلال حتى يعرف الحرام بعينه ، مع كون الشبهة في كل منهما حكمية لا موضوعية. فالإشكال نشأ من تخيل لزوم رجوع لفظ : « بعينه » إلى الحرمة على تقدير إرادة الشبهة الحكمية ، وهو مما لا معنى له ، مع أنه غير لازم ، إذ يمكن إرجاعه إلى الحرام مع فرض الشبهة حكمية كما عرفت تصويره.

وأما ما ذكره صاحب الكفاية في مقام تعميم البراءة الثابتة بهذا الحديث للشبهة الوجوبية ، فهو ممنوع ..

أما الوجه الأول : فلأن عدم الفصل والإجماع المركب انما يؤخذ به لو كان

ص: 425


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 364 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- لا يلزم ان يفرض العلم الإجمالي منجزا كي يشكل بان الحديث مما يعلم بعدم شموله له ، وان موضوع الكلام هو موارد عدم العلم الإجمالي ، بل ينفع ما قلناه في موارد العلم الإجمالي غير المنجز كخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء أو لانحلاله حكما - كما هو أحد وجوه العلم الإجمالي الّذي ادعاه الأخباريون مستدلين به على الاحتياط - أو حقيقة. فلاحظ.

منشؤه الاطلاع على رأي المعصوم علیه السلام من طريق ليس بأيدينا ، والأمر ليس كذلك هاهنا ، فان من يلتزم بالبراءة في الشبهة الوجوبية أو الشبهة التحريمية يستند في التزامه إلى الوجوه المعلومة التي نحن في مقام التحدث عن تماميتها وعدم تماميتها ، فلا يكون مثل هذا الإجماع المركب حجة في المقام.

وأما الوجه الثاني : فلأن الترك في موارد الوجوب لا يصدق عليه أنه حرام عرفا ، ولا يصدق على الشك فيه انه شك في الحرام. فلا وجه لما أفاده ، ولعل قوله : « فتأمل » إشارة إلى ذلك.

وأما على الثاني : فقد يستشكل في دلالتها على البراءة في الشبهة الحكمية من جهة تطبيقها - بعنوان التمثيل - على موارد كلها من الشبهات الموضوعية ، وظاهر التطبيق والتمثيل كون المراد بالعموم هو خصوص الشبهات الموضوعية.

بل قد يشكل تكفلها لجعل أصالة البراءة التي هي محل البحث ، لأن جميع الأمثلة المذكورة في النص مما لا يكون المستند في الحلية فيها أصالة الحلّ ، بل الأصول أو الأمارات الموضوعية الحاكمة على أصالة الفساد أو أصالة الاحتياط في الفروج والأموال ، بحيث لو لا هذه الأصول الموضوعية لكان المرجع هو الاحتياط لا البراءة.

أقول : الإشكال من الجهة الأولى هيّن إذ لا ظهور في التطبيق بنحو يوجب صرف العام عن عمومه. وإنما العمدة هو الإشكال من الجهة الثانية.

وعليه ، يدور مفاد الرواية بين كونها اخبارا عن ثبوت الحلية في جميع موارد الشبهة ، كل شبهة بحسب ما يتقرر فيها من دليل أو أصل يقتضي الحلية ، فيكشف عن جعل أصالة الحل والبراءة في الموارد المشتبهة الخالية عن ما يقتضي الحلية من أصل موضوعي أو دليل. وكونها إشارة إلى ما جعله الشارع من أصول وأمارات تقتضي الحلية وبيان تسهيل الشارع على العباد وعدم تضييقه عليهم ،

ص: 426

نظير ما دل على أنه صلی اللّه علیه و آله بعث بالحنيفية السمحاء (1) ، فلا تدل على جعل أصالة البراءة في موارد الشبهات البدوية الخالية عن الأصول الموضوعية المقتضية للحلّ. ولا قرينة انها بالنحو الأول ، فتكون مجملة لا ظهور لها في المدعى ، بعد عدم إمكان الأخذ بظاهرها الأولي وهو جعل الحلية وإنشائها.

ومنها : حديث السعة : وهو قوله علیه السلام : « الناس في سعة ما لا يعلمون » (2).

وهو في نصه وصياغته يحتمل وجهين :

أحدهما : ان تكون : « ما » موصولة أضيف إليها لفظ السعة فيكون المفاد : « الناس في سعة الّذي لا يعلمون ».

الآخر : ان تكون : « ما » ظرفية ، ولفظ سعة منون الآخر فيكون المفاد : « الناس في سعة ما داموا لا يعلمون ».

وقد ذكر صاحب الكفاية أنه يدل على البراءة على كلا الاحتمالين ، فانه يدل على ان الناس في سعة وتخفيف من جهة التكليف الّذي لا يعلمونه أو ما داموا لا يعلمون التكليف ، فيكون معارضا لأدلة الاحتياط - لو تمت - ، لأنها تقتضي ان المكلّف في ضيق من الواقع المجهول.

وقد يقال : ان أدلة الاحتياط تقتضي العلم بالاحتياط ، فتكون واردة على هذا الحديث المقيد بالعلم.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بان أدلة الاحتياط لا تستلزم العلم بالواقع ، بل انما تقتضي تنجيز الواقع وجعل المكلّف في عهدته ، لأن وجوب الاحتياط طريقي ، فلا يرتفع موضوع حديث السعة.

ص: 427


1- وسائل الشيعة 14 / 74 باب 48 الحديث 1.
2- وسائل الشيعة 2 / 1073 باب : 50 من أبواب النجاسات ، الحديث : 11.

نعم ، لو كان وجوبه نفسيا كان المكلف في ضيقه وكانت أدلته رافعة لموضوع حديث السعة بالنسبة إليه (1).

أقول : ما أفاده قدس سره يتم بناء على احتمال إضافة السعة إلى : « ما » على أن تكون موصولة ، إذ الظاهر إرادة عدم العلم بنفس الحكم الّذي يكون المكلف في سعة منه وأدلة الاحتياط لا تستلزم العلم به.

وأما بناء على احتمال كون : « ما » ظرفية ، فلا يتم ما أفاده ، لأن ظاهر الحديث حينئذ : « ان الناس في سعة وراحة ما داموا لا يعلمون ». ومثل هذا التعبير متعارف الإطلاق لبيان رفع الحرج في حال عدم العلم ، ولكن من البديهي الواضح تقييد متعلق العلم بما يرتبط بما يكون في سعة منه ، إذ لا معنى لأن يراد ان الناس في سعة من حرمة شرب الخمر ما داموا لا يعلمون وجوب الخمس أو حرمة أكل الأرنب أو أي شيء كان ، وانما المراد ان الناس في سعة من حرمة شرب الخمر - مثلا - ما داموا لا يعلمون ما يرتبط به من ثبوته أو ثبوت الطريق عليه أو نحو ذلك مما يتعارف كونه رافعا للسعة وموجبا للوقوع في الضيق.

ومقتضى إطلاقه عموم متعلق العلم لكل ما ينجز التكليف. فتكون أدلة الاحتياط على هذا واردة على هذا الحديث.

ويكون مفاد الحديث على حدّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا يمكن الأخذ به إلا إذا لم تتم أدلة الاحتياط.

وبما أن الحديث يدور بين هذين الوجهين - المختلفي النتيجة - ولا ظهور له في أحدهما ، لم يكون من أدلة البراءة بالنحو الّذي يعارض أدلة الاحتياط لإجماله. فلاحظ.

ومنها : حديث الإطلاق : وهو قوله علیه السلام في مرسلة الفقيه : « كل

ص: 428


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /342- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1).

وقد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى انها في الدلالة أوضح من الكل (2).

ولكن صاحب الكفاية رحمه اللّه توقف في دلالتها على المدعى : بلحاظ ان الورود غير ظاهر في الوصول المساوق للعلم بالنهي ، بل يصدق الورود على صدور النهي ، ولو لم يصل إلى المكلف ولم يعلم به ، فيكون مفاد الحديث إباحة الشيء حتى يصدر فيه نهي ، فلا ترتبط بما نحن فيه ، إذ محل البحث هو حكم ما شك في صدور النهي فيه هل هو الإباحة أو الاحتياط؟ ، فلا يشمله هذا الحديث ، لأن موضوعه ما لم يصدر فيه نهي لا ما يشك في صدور النهي فيه ، فما يشك في صدور النهي فيه يكون من الشبهات المصداقية لهذا الحديث ، ولا يصح التمسك بالعامّ في مورد الشبهة المصداقية له (3).

ولكن المحقق الأصفهاني رحمه اللّه حاول إثبات دلالتها على المدعى ، وهو الإباحة الظاهرية في مورد الشك في صدور الحرمة وعدم وصولها للمكلف بطريقين :

الطريق الأول : عدم تصور إرادة جعل الإباحة مقيدة بعدم صدور النهي واقعا على جميع تقادير الإباحة ، المستلزم ذلك لحمل الورود هاهنا على الوصول لو سلم أنه ظاهر في أصل الصدور ، فرارا عن المحاذير. بيان ذلك : ان الإباحة على قسمين ..

إباحة مالكية مرجعها إلى عدم الحرج - عقلا - في الفعل والترك في مورد احتمال الحرمة ، بملاحظة مالكية المولى لأفعال العبد وكون فعل العبد تصرفا في سلطان المولى وملكه ، مع قطع النّظر عن التشريع ، وهي المعبّر عنها بالإباحة قبل

ص: 429


1- وسائل الشيعة 18 / 127 باب : 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 60.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /199- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /342- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشرع.

وإباحة شرعية ، وهي الترخيص المجعول من قبل الشارع بما أنه شارع ، وهي تارة تكون واقعية. وأخرى تكون ظاهرية.

فالمراد من : « الإطلاق » في المرسلة لا يخلو إما ان يكون الإباحة الشرعية الواقعية أو الإباحة الشرعية الظاهرية أو الإباحة المالكية. والكل لا يتلاءم مع إرادة عدم الصدور من عدم الورود.

أما الإباحة الواقعية ، فلأن إرادتها تقتضي ان يكون مفاد الحديث : « ان كل شيء لم يتعلق به نهي واقعا مباح واقعا ». وهو لغو لو أخذ التقييد بنحو المعرفية ، إذ مرجعه إلى بيان ان غير الحرام مباح ، وهو واضح لا يحتاج إلى بيان.

ولو أخذ التقييد بنحو الموضوعية فيرجع إلى أخذ عدم الحرمة في موضوع الإباحة. وهو غير صحيح لما حقق من ان عدم الضد لا يكون من مقدمات وشروط وجود ضده ، بل هما متلازمان.

وأما الإباحة الظاهرية ، فلأن إرادتها ممتنعة لوجوه :

أولا : تخلف الحكم عن موضوعه لأن موضوع الحكم الظاهري هو الجهل وعدم العلم ، فإذا كان مقيدا بعدم صدور النهي ، فقد يكون النهي صادرا ، ولكنه مشكوك ، فلا يكون هناك حكم ظاهري مع تحقق موضوعه وهو الشك.

وثانيا : ما أشرنا إليه من ان موضوع الإباحة الظاهرية إذا كان هو عدم صدور النهي فهو مشكوك ، فلا يمكن إثبات الإباحة الظاهرية في مورد الشك ، لأنه من التمسك بالدليل مع الشك في موضوعه.

والتمسك باستصحاب عدم الصدور ، لا يجدي إما لكفايته بنفسه بلا احتياج إلى الخبر ، أو عدم فائدته وعدم صحة الاستدلال به ، كما يأتي توضيحه.

وثالثا : ان جعل عدم صدور النهي غاية للإباحة الظاهرية يرجع إلى فرض عدم الحرمة حدوثا ، ومعه لا شك في الحرمة والحلية من أول الأمر ، فلا معنى

ص: 430

لجعل الحلية الظاهرية حينئذ.

وأما الإباحة المالكية ، فلأن إرادتها بعيدة عن منصب الإمام علیه السلام المعدّ لتبليغ الأحكام ، خصوصا وأن الخبر مروي عن الصادق علیه السلام بعد ثبوت الشرع بمدة طويلة ، فلا معنى لأن يبين ذلك.

وإذا ظهر امتناع أخذ الإباحة بجميع اقسامها مفيدة بعدم صدور النهي فلا بد من حمل الورود هاهنا على إرادة الورود على المكلف المساوق لوصوله إليه ، ويراد من الإطلاق الإباحة الشرعية الظاهرية. والتعبير عن الوصول تعبير شائع في العرف.

الطريق الثاني : ان الورود ليس بمعنى الصدور ، بل هو بمعنى يساوق الوصول ، وذلك لأن الورود متعد بنفسه ، فهناك وارد ومورود ، فيقال ورد الماء وورد البلد ووردني كتاب فلان ، وقد يتعدى بعلي بلحاظ إشراف الوارد على المورود ، فيقال ورد عليّ كتاب فلان. وقد يكون للوارد محل في نفسه كالحكم ، فيقال : ورد فيه نهي مثلا. فموضوع الحكم محل للوارد لا مضايف له ، فلا يقال عن الموضوع انه ورده نهي ، بل مضايف الحكم الوارد هو المكلّف.

وعليه ، فيكون مفاد الرواية : « حتى يرد المكلف نهي » ، فلا يكون الورود بمعنى الصدور مفهوما حتى لا يحتاج إلى مكلّف يتعلق به ، بل هو يساوق الوصول لأجل التضايف بين الوارد والمورود.

فهذا الطريق يرجع إلى ظهور الورود عرفا فيما يساوق الوصول ، والطريق الأول يرجع إلى ضرورة حمل الورود على ما يساوق الوصول (1).

أقول : لا يمكن أن يكون المجعول هو الإباحة الظاهرية ، مع كون المراد من الورود الصدور ، إذ جعل الإباحة الظاهرية ترجع إلى جعل المعذورية. ومن

ص: 431


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 187 - الطبعة الأولى.

الواضح انه لا معنى للحكم بالمعذورية مقيدا بعدم صدور النهي واقعا أو مغيا بالصدور الواقعي ، لأن المعذورية مع عدم الصدور واقعا لا إشكال فيها فلا حاجة إلى الحكم بها.

وأما ما أفاده المحقق الأصفهاني فيمكن ، المناقشة فيه ..

أما الطريق الأول : فلأنه يمكن فرض شق رابع - أشار إليه المحقق النائيني (1) - ، وهو : أن يكون المقصود الأمر بالسكوت عما سكت اللّه عنه كما ورد هذا المضمون في بعض النصوص (2).

أو فقل : انا نختار الشق الأول ، وليس المراد بيان ان غير الحرام واقعا حلال واقعا ، بل المراد التنبيه على لزوم ترتيب أثر الحلية على ما هو حلال وعدم التصدي إلى الفحص والسؤال وإيقاع النّفس في الضيق ، فالإطلاق في النص لا يراد به نفس الإباحة ، بل هو بلحاظ أثر الإباحة من السعة في مقابل الضيق.

وأما الطريق الثاني : فلأن فرض كون الورود متعديا يحتاج إلى مفعول ، ويكون مضايفا للمورود كالعلة والمعلول ، لا ملازمة بينه وبين علم المكلف بالوارد ، إذ هو أول الكلام ، وأي شيء في كلامه قدس سره يدلّ على الملازمة ، بل غاية ما يدل عليه كلامه هو تعلق الورود بالمكلف. أما ان تعلقه به يستلزم علم المكلف بالوارد ، فهذا مما لا يتكفله كلامه كما لا يخفى ، كما انه محل تشكيك لدينا ولا نستطيع الجزم به ، إذ يصح ان يقول القائل وردني ضيف ولم أعلم به حتى خرج ، فتدبر.

ومنها : رواية عبد الأعلى عن الصادق علیه السلام قال : « سألته عمن لم يعرف شيئا؟. هل عليه شيء قال : لا » (3).

ص: 432


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 363 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- نهج البلاغة ، قصار الحكم 105.
3- الأصول من الكافي 1 / 164. الحديث 2.

وتقريب الاستدلال بها - كما في الرسائل - : ان المراد بالشيء الأول فرد معين مفروض في الخارج ، فيكون المراد هل عليه في خصوص ذلك المجهول شيء ، وقد تكفلت الرواية نفي الشيء عليه وهي ظاهرة في معذوريته (1).

وللمناقشة في هذا الاستدلال مجال ، لظهورها في إرادة الجاهل القاصر الّذي لا يلتفت إلى غالب الأحكام ولا يعرف شيئا من الأحكام ويعبّر عنه بالفارسية : « چيزى سرش نمى شود » ، فلا ترتبط بما نحن فيه.

وأما ما أفاده العراقي في تقريب دلالتها من : أنها تشمل الجاهل الملتفت غير القادر على الفحص ، وبضميمة عدم الفصل تثبت المعذورية بالنسبة للجاهل الّذي لا يعرف شيئا خاصا الّذي هو محل الكلام فيما نحن فيه (2).

ففيه : انه وإن أمكن إرادة ذلك من النص ، لكن العبرة بظهورها لا بما يمكن حمله عليه ، وهو ظاهر في ما عرفت من الجاهل القاصر الّذي لا يتوصل إلى إدراك الأمور.

ومنها : قوله علیه السلام : « أيما امرئ ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه » (3).

وتقريب الاستدلال بها واضح. وقد استشكل الشيخ في دلالتها بدعوى ظهورها في كون المراد هو الجاهل المركب والغافل عن الواقع لا الجاهل البسيط المتردد - الّذي هو محل الكلام في أصالة البراءة ، لأن الغافل والجاهل المركب مما لا إشكال في معذوريتهما -. ولم يوجّه الشيخ استظهاره المزبور. وبيّن الوجه فيه : بل ذلك ظاهر الباء لظهورها في السببية ، والارتكاب انما يكون بسبب الجهل إذا كان الجهل مركبا فيكون فعله الحرام مستندا إلى اعتقاد عدم حرمته ، لا ما

ص: 433


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /199- الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 229 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- تهذيب الأحكام 5 / 73.

إذا كان بسيطا إذ الفعل في مورد التردد لا يكون مسببا عن التردد.

وأيد الشيخ رحمه اللّه دعواه المتقدمة : بان تعميم النص للجاهل المتردد يستلزم التخصيص بالشاك غير المقصر إذ المقصر غير معذور قطعا ، مع ان سياق النص يأبى عن التخصيص (1).

وأورد على ذلك : بان التخصيص لازم على كل حال ، لأنه لو أريد خصوص الجاهل المركب ، فلا بد من تخصيصه بغير المقصر ، لأن المقصر غير معذور ولو كان جهله مركبا.

وأما ما أفاده من ظهور الرواية في إرادة الجاهل المركب وعدم شمولها لصورة التردد ، فهو متين.

وقد أورد عليه المحقق العراقي : بان السبب في الارتكاب في مورد الجهل البسيط هو الجهل أيضا بتوسيط قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالمستند بالآخرة هو الجهل ، فظهور الباء في السببية لا يقتضي تخصيص النص بالجاهل المركب (2).

وفيه : ان الاستناد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان في ارتكاب المجهول بالجهل البسيط يستلزم ان يكون ارتكاب الحرام - لو صادف كونه حراما - عن عمل وجزم لا عن جهل ، لعلمه بعدم المؤاخذة ، فهو يقدم على ارتكاب المجهول ولو صادف كونه حراما لأمانه من العقاب بتوسيط القاعدة ، فلا يعد ارتكابه بسبب الجهل. وهذا بخلاف الجاهل المركب ، فان سبب ارتكابه الحرام هو جهل المركب به وغفلته عنه وتخيله بأنه ليس بحرام ، إذ لو التفت لم يرتكبه. فلاحظ.

ومنها : رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم علیه السلام

ص: 434


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /199- الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 229 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

قال : « سألته عن الرّجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبدا؟. فقال علیه السلام : لا ، اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، فقد يعذر الناس في الجهالة وبما هو أعظم من ذلك. قلت : بأي الجهالتين أعذر ، بجهالته ان ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدة؟ قال علیه السلام : إحدى الجهالتين أهون من الأخرى ، الجهالة بان اللّه تعالى حرّم عليه ذلك ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها. قلت : فهو في الأخرى معذور؟. قال علیه السلام : نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يتزوجها » (1).

والاستدلال بها واضح لا يحتاج إلى بيان.

ولكن الشيخ رحمه اللّه ناقش فيه : بأن موضوع السؤال إن كان هو الجاهل المركب أو الغافل ، فهو خارج عما نحن فيه وان كان هو الملتفت الشاك ، فالشك ..

تارة : يكون في انقضاء العدة مع العلم بتشريعها ومقدارها ، فالشبهة موضوعية.

وأخرى : يكون في انقضاء العدة لأجل الشك في مقدار العدة شرعا فالشبهة مفهومية.

وثالثة : يكون في أصل تشريع العدة فالشبهة حكمية.

أما إذا كانت الشبهة موضوعية ، فهي أجنبية عما نحن فيه ، لأن البحث في الشبهة الحكمية.

هذا ، مع انه لا مجال للبراءة فيها ، لأن مقتضى الاستصحاب المرتكز في الأذهان بقاء العدة ، فلا يكون معذورا لحكومة الاستصحاب على البراءة.

وأما إذا كانت الشبهة مفهومية ، فليس معذور أيضا ، لأنه يلزمه السؤال

ص: 435


1- الأصول من الكافي 5 / 427. الحديث 3.

وتحصيل العلم فقد قصر بترك السؤال ، مع ان مقتضى الأصل بقاء العدة وأحكامها.

وأما إذا كانت حكمية ، فلا يكون معذورا أيضا لتقصيره في السؤال خصوصا مع وضوح الحكم لدى المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل لا قصوره. هذا مع ان أصالة عدم ترتب الأثر على العقد تقتضي الحكم بفساد العقد.

إذن فلا يمكن الالتزام بأنه معذور من حيث الحكم التكليفي في جميع الصور ، فلا بد ان يراد من المعذورية المعذورية من حيث الحكم الوضعي ، وهو الحرمة الأبدية كما وقع التصريح به ولا نظر إلى عدم المؤاخذة (1).

وما أفاده قدس سره متين جدا.

لكن يرد عليه : انه لا وجه للترديد في مراد الرواية بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية مع فرض تكفل الرواية لكلتا الشبهتين وتعرضها إلى كلتا الجهتين. فلم نعرف الوجه في ترديده.

ولا بأس بالتنبيه على أمرين يتعلقان بالرواية :

الأول : في بيان المراد بالأعذرية ، فان العذر ليس من الأمور القابلة للتشكيك والتفاضل ، فليس فيها شدة وضعف أو كثرة وقلة ، فهو كالقتل لا كالبياض والعلم.

والّذي يمكن ان يوجّه به التعبير بالأعذرية ، هو انه ناشئ عن ملاحظة السبب في تحقق العذر ، فما كان السبب في العذر فيه آكد وأقوى وأوجه كان أعذر ، فإذا اجتمع سببان للعذر كان أعذر مما إذا كان له سبب واحد. نظير التفاوت في أسباب القتل فانها قابلة للتأكد والتعدد ، وإن لم يكن القتل كذلك ، فالتعبير

ص: 436


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /200- الطبعة الأولى.

بالأعذرية بلحاظ الأسباب لا المسبب.

الثاني : ورد في الرواية تعليل الأعذرية : بان الجهل بالحرمة لا يقدر معه على الاحتياط بخلاف الجهل بالعدة. وقد وجّه الشيخ ذلك بحمل الجاهل بالحرمة على الجاهل المركب المعتقد للجواز أو الغافل ، وحمل الجاهل بالعدة على المتردد الشاك.

وقد يشكل : بان التفكيك بين الجهالتين خلاف الظاهر. وقد أشار إليه الشيخ وقال بعده : « فتدبر فيه وفي دفعه » (1).

وقد دفعه غير واحد من المحشين على الكتاب : بان الجهل في كلا الموضعين استعمل في معناه العام الشامل لجميع افراده ، لكن الغالب في الجهل بالحرمة هو الغفلة واعتقاد الخلاف ، لأن حرمة الزواج في العدة واضحة جدا لدى الكل ، فتعرف بمجرد الالتفات إليها والسؤال عنها ، فلا يتمركز الشك فيها إلا نادرا.

وأما الجهل بالعدة ، فهو على العكس ، لأن الغالب الالتفات إليه وعدم الغفلة عنه عند الزواج لسؤاله عن خصوصيات الزوجة عادة ، فإذا تحقق الجهل بها فهو الجهل البسيط (2).

ومنها : قوله علیه السلام : « إن اللّه يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم » (3).

وناقشه الشيخ رحمه اللّه : بان مدلوله مما لا ينكره الأخباريون (4).

وتوضيح ذلك : انه لو كان النص : « ان اللّه يحتج على ما آتاهم » لكانت

ص: 437


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 200.
2- حاشية الآشتياني / 21 من مبحث البراءة.
3- الأصول من الكافي 1 / 162 الحديث 1.
4- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /199- الطبعة الأولى.

دالة على البراءة في قبال الأخباريين ، لأنها تنافي اخبار الاحتياط ، لأن مفاد اخبار الاحتياط الاحتجاج على المجهول وهو ما لم يأتهم ، وهو ما تنفيه هذه الرواية.

ولكن مفادها هو نفي الاحتجاج بما لم يأتهم لا على ما لم يأتهم فلا تنافي دعوى الأخباريين لأنهم يذهبون إلى الاحتجاج بأخبار الاحتياط ، وهو احتجاج بما آتاهم ، لوصولها إلى المكلفين وان كان على ما لم يأتهم.

هذا تمام الكلام في النصوص ، وقد ظهر انه لا دلالة لما يدل منها على أكثر من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ما عدا حديث الرفع والحجب.

وأما الإجماع : فلم يعطه سيدنا الأستاذ دام ظله أهمية في البحث ، فلم يزد على المقدار الّذي ذكره صاحب الكفاية ، وسرّ ذلك هو ان مثل هذا الإجماع لا يمكن الركون إلى انه تعبدي كي يكون دليلا في قبال غيره ، وذلك لما ذكر من الأدلة المتكثرة على البراءة من كتاب وسنة وعقل ، فهو إجماع مدركي فليس بحجة.

واما العقل : فالكلام فيه في جهات ثلاث :

الأولى : في تحقيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأنها ثابتة أو لا؟.

الثانية : في تحقيق قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وثبوتها.

الثالثة : في كيفية الجمع بين القاعدتين فيما نحن فيه.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها يتضح بتقديم مقدمة ، وهي ان الحكم العقلي بالقبح والحسن فيه مسلكان :

الأول : انه لا يتصور للعقل حكم شيء وإنما شأنه إدراك الأشياء على واقعها التي هي فيه سواء كانت شرعية أو عقلائية.

وعليه ، فمرجع دعوى حكم العقل بشيء إلى ثبوت أحكام عقلائية بنى عليها العقلاء وتوافقت عليه آراؤهم حفظا للنوع من الفساد.

فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - مثلا - لا واقع له سوى اتفاق

ص: 438

العقلاء عملا على قبح ذلك ، ووافقهم الشارع باعتبار أنه رأس العقلاء وكبيرهم.

الثاني : ان يراد من الحكم العقلي بالحسن والقبح هو ملائمة الشيء للقوة العاقلة منافرته لها ، إذ الإنسان يشتمل على قوى متعددة كالباصرة واللامسة ومنها القوة العاقلة ، فكما يكون لسائر القوى ملائمات ومنافرات - كملاءمة الناعم للقوة اللامسة ومنافرة الخشن لها - كذلك للقوة العاقلة ملائمات ومنافرات ، فما يلائم القوة العاقلة يكون حسنا وما ينافرها يكون قبيحا. فالإحسان للمريض المنقطع في البيداء المسالم الّذي يأمن ضرره يكون ملائما للقوة العاقلة وفي قباله إضراره وإيذاؤه بلا سبب موجب ، فانه مما يتنفر منه العاقل بما له من القوة العاقلة ، فيعد الأول حسنا والثاني قبيحا بهذه الملاحظة.

وعليه ، فمرجع قبح العقاب بلا بيان - على هذا المسلك - إلى منافرة العقاب بلا حجة للقوة العاقلة.

والفرق بين المسلكين هو : انه مع الشك في مصداقية شيء للظلم ، يكون المرجع على المسلك الأول هو العقلاء وينظر ما هو بناؤهم العملي فيرتفع الشك. وعلى المسلك الثاني ، فلا طريق إلى تشخيص ذلك غير وجدان الشخص ، والمفروض انه مشكك ، فيبقى الشك على حاله.

ولتكن على علم بان مرجع الأحكام العقلية - على كلا المسلكين - بقبح الأشياء وحسنها إلى حكمه بقبح الظلم وحسن العدل.

وبعد هذه المقدمة يقع الكلام في صحة العقاب على المخالفة عند الشك في التكليف.

أما المخالفة مع العلم ، فقد تقدم الكلام فيها في مباحث القطع. فراجع.

والكلام في المخالفة مع الشك في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في صحة مؤاخذة المولى العرفي عبده.

ولا يخفى ان العقاب لا يقبح - على كلا المسلكين - عند تحقق المخالفة

ص: 439

عن عمد وعلم. كما انه يقبح مع الغفلة والجهل المركب - إذا كان عن تقصير -.

أما العقاب مع التردد والشك في رضا المولى بالعمل وعدم رضاه ، فلم يعلم انه من منافرات القوة العاقلة ، كما لا يعلم ان بناءهم على عدمه حفظا للنظام ، لعدم العلم بأن المؤاخذة مخلة بالنظام ، ولا سبيل إلى إحراز ذلك. فمثلا لو ضرب العبد مولاه جاهلا في رضا المولى بذلك لاحتماله انه ليس بمولاه ، فلا يعلم قبح المؤاخذة من المولى - على كلا المسلكين -.

المقام الثاني : في صحة مؤاخذة المولى الشرعي في النشأة الدنيوية ، بعد تسليم قبح مؤاخذة المولى العرفي عبده على المخالفة في صورة الجهل والتردد.

ولا يخفى إنه لا سبيل إلى الجزم بالقبح على كلا المسلكين بالنسبة إلى المولى الحقيقي المكون للعباد ، إذ كثيرا ما يتحقق الإيلام بالمرض ونحوه بالنسبة إلى المطيع تمام الإطاعة فضلا عن المخالف ، من دون أن يرى العقل القبح فيه.

وأساس الوجه الّذي به ينفي حكم العقل بالقبح في هذا المقام هو ان مدار حكم العقل بالقبح والحسن بكلا مسلكيه على تحقق الظلم والعدل ، وأساس الظلم والعدل على فرض حقوق وحدود بين الطرفين بحيث يكون تجاوزها ظلما وعدمه عدلا. وهذا يتصور بين المولى العرفي وعبده وبين الوالد وولده.

أما بين المولى الحقيقي ومخلوقه ، فلا يتصور ان للعبد حقا خاصا على مولاه ، إذ هو ملكه ومخلوقه يتصرف به ما يشاء بفقره ويمرضه ويهمّه وغير ذلك ، مع علم العبد بالمخالفة وجهله ، بل ومع إطاعته لمولاه وخضوعه لأوامره ونواهيه ، ولا يتنافى ذلك مع بناء العقلاء ، كما أنه لا ينافر القوة العاقلة.

والمقام الثالث : في صحة مؤاخذة المولى الشرعي في النشأة الأخروية مع جهل العبد بالمخالفة بتردده فيها.

ولا يخفى أن العقاب الأخروي وهكذا الثواب فيه آراء ثلاثة :

الأول : أنه من باب تجسم الأعمال ، فحال العمل كحال البذرة التي

ص: 440

تتجسم فتصير زرعا طيبا أو غير طيب باختلاف جنس البذر ، فالمعصية تتجسم فتصير عقربا - مثلا - ، والطاعة تتجسم فتصير شجرة طيبة.

الثاني : أنه من قبيل الأثر الوضعي للمعصية ، فهو كالموت المسبب عن السم القاتل.

الثالث : أنه عمل المولى بقرار منه حيث أوعد على المخالفة بالعقاب كما وعد على الإطاعة بالثواب ، فيكون من باب المجازاة التي قررها المولى نفسه.

فعلى الرّأي الأول والثاني ، لا مجال لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ ليس هو فعلا اختياريا كي يتصف بالقبح والحسن ، بل هو أمر قهري يترتب على العمل بلا دخل للعلم والجهل فيه ، كما هو الحال في سائر موارد اللوازم الوضعيّة وتجسم الأعمال. فإذا فرض ان ذات العمل كيف ما تحققت مما يترتب عليها ذلك لم يكن في ذلك قبح.

وأما على الرّأي الثالث ، فلا سبيل إلى حكم العقل - بكلا مسلكيه - بقبح العقاب على المخالفة في صورة الشك وعدم البيان ، لعدم العلم بالملاك الّذي بملاحظته أوعد الشارع بالعقاب على المخالفة ، إذ الملاك في ثبوت العقاب دنيويا أنما هو ردع المخالف عن العودة في الفعل أو تأديب غيره لكي لا يرتكب المعصية ، وهذا إنما يتحقق بلحاظ العالم الدنيوي لا العالم الأخروي ، إذ ليس هو عالم التكليف والعمل - كما أوضحناه في مباحث القطع - ، فلا بد ان يكون العقاب الأخروي بملاك آخر لا نعرفه ، وإذا لم نتمكن من معرفته وتحديده لم يمكن الجزم بثبوته في صورة دون أخرى.

وعليه ، فمن المحتمل أن يكون الملاك ثابتا في مورد المخالفة مع الشك ، فكيف يدعى منافرته للقوة العاقلة ، أو انه يتنافى مع بناء العقلاء لأجل حفظ النظام؟ ، وانما يدور الأمر مدار بيان الشارع لموضوع العقاب وتحديده.

وبالجملة : لا سبيل إلى العقل في باب العقاب خصوصا على الرّأي القائل

ص: 441

بان مرجع الحكم العقلي إلى بناء العقلاء لأجل حفظ النظام. فلاحظ.

وعلى هذا ينتج لدينا إنكار حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فالقاعدة المشهورة لا أساس لها.

وقد اختلف ما أفاده المحقق النائيني في هذا المقام بحسب تقريري بحثه.

ففي تقريرات المرحوم الكاظمي : ان عدم العقاب في مورد عدم البيان الواصل إنما هو لأجل ان فوات مطلوب المولى ومراده الواقعي لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته من الفحص عن الدليل ، بل هو مستند إما إلى المولى نفسه فيما إذا لم يستوف مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، واما إلى بعض الأسباب الأخرى الموجبة لاختفاء مراد المولى على المكلف ، كإخفاء الظالمين أو تسبيبهم لضياع الأحكام. ولأجل عدم استناده إلى المكلف يستقل العقل بقبح مؤاخذته (1).

وفي تقريرات السيد الخوئي : ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأجل ان التكليف الواقعي عند عدم الوصول لا مقتضي التحريك فيه بنفسه ، بل التحريك يتقوم بوصول التكليف وإحرازه ، فان الأسد الخارجي لا يوجب الفرار عنه إلا بعد إحراز وجوده ، كما ان وجود الماء واقعا لا يستلزم تحرك العطشان إليه إلا بعد إحراز وجوده.

وعليه ، فالعقاب على مخالفة التكليف غير الواصل عقاب على ما لا يقتضي بنفسه المحركية ، ولا ريب في قبح ذلك كما يظهر بأدنى تأمل في أحوال العبيد مع مواليهم العرفية (2).

وستعرف الإشكال في كلا البيانين بعد أن نذكر كلام المحقق الأصفهاني

ص: 442


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 366 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 176 - الطبعة الأولى.

فقد أفاد قدس سره : أنه بناء على عدم فعلية التكليف إلا بالوصول باعتبار انه عبارة عن جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهو لا يتحقق إلا بالوصول ، فلا إشكال في عدم المؤاخذة مع عدم وصول الحكم ، إذ لا موضوع لها ، لأن المؤاخذة انما هي على مخالفة التكليف ولا تكليف مع عدم الوصول.

ولكن هذا لا يمكن ان يكون أساس البراءة العقلية ، لأن البراءة محل الوفاق ، والمبنى المذكور محل خلاف وأنكره الأستاذ قدس سره ، فلا بد من ان يكون الوجه في البراءة على المسلك المشهور هو أن قبح العقاب بلا بيان - على تقديره - إنما هو لأجل كونه من صغريات الظلم المحكوم بقبحه.

ولا يخفى أن الحكم باستحقاق العقاب في مورده إنما هو لأجل خروج العبد عن زي الرقية الراجع إلى كونه ظالما لمولاه. ومن الواضح ان مقتضى الرقية لا يستلزم الامتثال إلا في صورة قيام الحجة ، أما مع عدم قيام الحجة فلا تكون المخالفة خروجا عن زي الرقية ولا تعد ظلما للمولى.

وعليه ، فلا يستحق العبد العقاب ، فيكون عقابه ظلما وعدوانا وهو قبيح. انتهى موضع الحاجة من كلامه (1).

والكل موضع مناقشة ..

أما ما جاء في تقريرات الكاظمي ففيه : انه إنما يصح لو كان المحتمل أو المدعى هو ترتب العقاب على نفس عدم الوصول إذ يقال ان العقاب على أمر خارج عن اختيار المكلف. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الكلام في ترتب العقاب على نفس مخالفة التكليف المشكوك ، وهو عمل اختياري للمكلف لالتفاته كما هو المفروض. ولم يتعرض لدفع احتمال ترتب العقاب على ذلك ، بل هو مغفول عنه في الكلام بالمرة.

ص: 443


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 190 - الطبعة الأولى.

أما ما جاء في أجود التقريرات : فان كان مراده من كون العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل عقابا بلا مقتض ، هو ما يلتزم به المحقق الأصفهاني من أن فعلية التكليف بالوصول ، فلا تكليف بدون الوصول ، فهو يتنافى مع مسلكه من أن التكليف له وجود واقعي فعلي بفعلية موضوعه ولو مع عدم الوصول.

وإن لم يكن مراده. ذلك ، فلما ذا لا يصح العقاب مع تحقق موضوعه وهو مخالفة التكليف الفعلي؟.

وإن كان مراده من عدم المقتضي عدم الوجه المصحح فهو أول الكلام ونفس المدعى ، فلا معنى للاستدلال على المدعى بنفسه.

فكلامه قدس سره في كلا تقريريه لا يمكن الالتزام به.

وأما ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه على مسلكه من تقوم فعلية التكليف بالوصول ، ففيه :

أولا : انه قد تقدم منّا في مبحث الواجب المعلّق : ان التكليف هو جعل ما يقتضي الداعوية لا ما يمكن أن يكون داعيا ، واقتضاء الداعوية لا يتقوم بالوصول.

وثانيا : أن التكليف في صورة الاحتمال له إمكان الداعوية ، إذ الداعي ليس هو نفس الأمر ، فانه سابق على العمل وجودا مع ان الداعي ما يتأخر عن العمل في الوجود الخارجي ويسبقه في الوجود الذهني. وانما الداعي هو موافقة الأمر وامتثاله ، والموافقة يمكن أن تكون داعية في ظرف الاحتمال ، كما في موارد الاحتياط.

وأما ما أفاده على المسلك المشهور ففيه :

أولا : ان الجزم بان العقاب مع عدم الوصول ظلم ، لأن المخالفة مع عدم الوصول ليست خروجا عن زي الرقية فليست ظلما للمولى ، لا يخلو عن توقف ،

ص: 444

إذ الثابت ان المخالفة مع الوصول ظلم للمولى ، كما انها في صورة الغفلة والجهل المركب ليست بظلم. أما المخالفة مع التردد ، فكونها ليست بظلم أول الكلام ، فإنكاره للواسطة غير سديد.

وثانيا : لو سلم ان المخالفة مع عدم الوصول - مطلقا - ليست خروجا عن زي الرقية ، فلا نسلم ان العقاب عليها ظلم من المولى الشرعي ، لما عرفت من أن الظلم هو الخروج عن الحقوق والحدود المفروضة بين الطرفين.

وهذا إنما يتأتى بالنسبة إلى المولى العرفي وعبده ، أما المولى الحقيقي فلا يتصور فيه ذلك ، فان العبد لمولاه وبيده تكوينا واعتبارا يتصرف فيه كيف ما يشاء ، ولا حق للعبد على المولى كي يكون الخروج عنه ظلما.

وثالثا : ان حكم العقل بقبح العقاب لأنه ظلم لا يتأتى على مسلكه في حكم العقل من كونه بملاك حفظ النظام ، لأن الظلم مخلّ بالنظام نوعا ، وهو قبيح ، كما صرح به هاهنا. إذ أيّ نظام يحافظ عليه بقبح الظلم في العالم الأخروي ، هل هو نظام ذلك العالم وهو مما لا نعرف كيفية وشئونه - وقد صرح قدس سره فيما يأتي في بيان عدم ثبوت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، ان الإقدام على العقاب يكون إقداما على ما يترتب في نشأة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام وعدمه. فلاحظ - ، أم نظام العالم الدنيوي وهو مما لا يرتبط بقبح الظلم في العالم الأخروي لعدم تأثيره كما لا يخفى؟.

كما أنه لا يتأتى على المسلك الآخر ، إذ لا علم لنا بان ملاك العقاب هو ظلم العبد مولاه كي يعد عقاب المولى عبده مع عدم خروجه عن زي الرقية ظلما وعدوانا ، وهو مما ينافر القوة العاقلة ، بل يمكن أن يكون بملاك آخر. كما تقدم بيان ذلك.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

ويبقى الكلام في الجهتين الأخريين ، ولنقدم الكلام في الجهة الثالثة ، وهي

ص: 445

كيفية الجمع بين قاعدتي قبح العقاب بلا بيان ووجوب دفع الضرر المحتمل - لو سلم وجودهما - فنقول : إن قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل ، لأن موضوع الثانية احتمال الضرر. والأولى تنفي احتماله وتقضي بالجزم بعدمه فيرتفع موضوع الثانية وجدانا.

ومعه لا مجال لتقدم قاعدة دفع الضرر على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لاستلزامه الدور أو التخصيص بلا وجه ، كما هو الشأن في كل دليل وارد ودليل مورود كالأصل السببي والمسببي.

فراجع تلك المباحث تطلع على تفصيل الوجه الّذي أشرنا إليه.

وهذا المعنى أشار إليه الشيخ (1). واكتفي بذكره صاحب الكفاية (2) ، ولم يتعرض لما يرد على هذا البيان من إشكال أشار إليه الشيخ في كلامه ودفعه (3) ، مع أنه كان ينبغي أن يذكره ويردّه.

وعلى أي حال ، فقد يقول القائل : إن ما بيّن في وجه ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل يتأتى نظيره على العكس. فيقال : إن موضوع الأولى عدم البيان ، والثانية تصلح لأن تكون بيانا ، فيرتفع بها موضوع الأولى ، فكل من القاعدتين رافع لموضوع الأخرى ويتحقق التوارد بين القاعدتين.

وقد ذكر الشيخ رحمه اللّه في مقام دفع هذا الإشكال كلام مجملا إليك نصه : « ان الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها وان لم يكن تكليف في الواقع ، لا على

ص: 446


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /203- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /343- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /203- الطبعة الأولى.

التكليف المحتمل على فرض وجوده ، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكور ، بل قاعدة ... » (1).

وتوضيح المراد من عبارة الشيخ يتم بتقديم أمرين :

الأول : ان المراد بالبيان ليس هو العلم ، بل هو الحجة على الحكم ، فانها تصحح المؤاخذة والاحتجاج ، إذ قد يتم البيان ولا يتحقق الظن فضلا عن العلم كالبينة غير المصحوبة بالظن ، فانها حجة على مؤداها.

الثاني : ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل قد فرض في موضوعها احتمال العقاب ، ويمتنع ان تكون القاعدة هي المصححة لهذا العقاب المحتمل ، لأنه في رتبة سابقة عليها والحكم متفرع عليه. بل لا بد أن يكون المصحح للعقاب المحتمل أمرا آخر غير نفس القاعدة ، كما يتنافى موارد تنجز التكليف الواقعي بالعلم الإجمالي أو الاحتمال قبل الفحص.

إذن فالعقاب على الواقع المحتمل لا يمكن ان تصححه القاعدة ، ومن هنا لا تصلح لأن تكون حجة على الواقع وبيانا له. فلو فرض كون القاعدة مصححة للعقوبة فلا بد ان يكون العقاب الّذي تصححه عقابا آخر غير العقاب المحتمل المأخوذ في موضوعها ، وذلك فيما يفرض الوجوب في القاعدة نفسيا ، بمعنى أنه يجب دفع الضرر المحتمل بما هو محتمل ، سواء وافق الواقع أم لم يوافق ، فيكون العقاب على مخالفته.

أما تعين كون الوجوب كذلك لو تمت القاعدة ، فلأنه لا يصح ان يكون الوجوب طريقا بداعي تنجيز الضرر المحتمل المأخوذ في موضوعه لفرض تنجزه في مرحلة سابقة عليه. كما لا يصح ان يكون إرشاديا إلى ترتب الضرر على تقدير وجوده ، إذ الأمر الإرشادي في الحقيقة اخبار عن ترتب المرشد إليه ،

ص: 447


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /203- الطبعة الأولى.

وان كان في الصورة إنشاء ، والمرشد إليه هو ترتب الضرر على تقدير وجوده ، وهو انما يصح في مورد الغفلة عنه ، أما مع الالتفات إليه واحتمال تحققه فلا يصح ، إذ المخبر يعلم بتحققه على تقدير وجوده فلا معنى لإخباره بذلك ، فانه تحصيل الحاصل. فيتعين أن يكون وجوبا نفسيا يترتب العقاب على مخالفته.

ولكنه أيضا غير صحيح ، لأنه يستلزم ان يكون ارتكاب المحتمل أشد من ارتكاب المقطوع ، إذ ليس في ارتكاب المقطوع سوى عقاب واحد. ومقتضى ما بيّن : أن يكون في ارتكاب المحتمل عقابان على تقدير المصادفة ، وهو باطل جزما.

وعلى كل حال ، فلسنا الآن بصدد إنكار القاعدة كما انتهينا إليه ، لعدم تصور الوجوب بأنحائه.

وإنما بصدد بيان مراد الشيخ وهو عدم صلاحية القاعدة لبيان الواقع المحتمل. وأن الوجوب لو تم لكان العقاب على مخالفته ، وقد ظهر ذلك بوضوح فتدبر.

ونتيجة ذلك : ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان مقدمة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لورودها عليها.

وتصل النوبة الآن إلى البحث عن وجود قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وعدم وجودها.

ولا فائدة فيه بعد فرض كونها مورودة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولكن لا بأس به تنزلا.

والكلام في مقامين :

المقام الأول : في ثبوت وجوب دفع الضرر الأخروي المحتمل.

ولم يتعرض للبحث في ذلك مفصلا إلا المحقق الأصفهاني ، وقد انتهى قدس سره إلى عدم ثبوت حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل لا بمفاد

ص: 448

الحكم العقلي العملي - بمعنى ما ينبغي أن يعمل وما ينبغي أن يترك - الراجع إلى التحسين والتقبيح ، ولا بمعنى بناء العقلاء عملا ، كبنائهم على العمل بخبر الثقة ونحوه.

أما الأول ، فلأن معناه في ما نحن فيه ، هو إذعان العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر ، ومرجع الحكم بالقبح هو الحكم بكون الفعل مذموما عليه لدى العقلاء ، وذمّ الشارع عقابه.

ومن الواضح ان الإقدام على ما فيه العقاب والذم العقلائي لا يترتب عليه سوى العقاب والذم الّذي أقدم عليه ولا يكون موردا لعقاب وذم آخر ، سواء في ذلك المقطوع والمحتمل.

هذا ، مع ان الحكم بالقبح من باب بناء العقلاء عليه لأجل حفظ النظام.

ومن الواضح ان الإقدام على العقاب اقدام على ما لا يترتب إلا في نشأة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام واختلاله. إذن فالإقدام على محتمل الضرر ، بل مقطوعه ، خارج عن مورد التحسين والتقبيح العقليين.

وأما الثاني ، فلان بناء العقلاء عملا على شيء كالعمل بخبر الثقة وبالظاهر ، ينبعث عن حكمة نوعية في نظر العقلاء تدعوهم إلى العمل المزبور.

ومن البيّن أن الإقدام على العقاب المحتمل ، بل المقطوع ، لا يترتب عليه إلا ما هو المحتمل والمقطوع من دون وجود مصلحة مترتبة على ترك الإقدام زائدة على الفرار من ذلك المحتمل والمقطوع.

ثم بعد ذلك أفاد قدس سره : أن الفرار عن الضرر فطري وطبعي ينبعث عن حب النّفس المستلزم لفرار عما يؤذيه (1).

هذا ما أفاده قدس سره نقلناه ملخصا وهو متين. وقد أشرنا في الجهة

ص: 449


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 192 - 193 - الطبعة الأولى.

الثانية إلى تقريب عدم ثبوت وجوب دفع الضرر شرعا بجميع أنحاء الوجوب. فهي ليست بقاعدة شرعية ولا عقلية ولا عقلائية. وإنما هي أمر فطري جبلّي. فالتفت.

المقام الثاني : في ثبوت وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل.

وقبل الخوض في ذلك نتعرض إلى بعض الكلام على تقدير ثبوته ، وانه هل ينفي البراءة عقلا أو لا؟.

ولا يخفى انه لا مجال لدعوى ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على القاعدة بلحاظ الضرر الدنيوي.

إذ الضرر الدنيوي لا يناط ترتبه بالعلم ، بل هو من لوازم الفعل علم به أو لا ، فلا ينتفي احتماله بواسطة الجهل. والّذي تنفيه القاعدة هو خصوص العقاب دون مطلق الضرر.

وقد ذكر الشيخ رحمه اللّه في هذا المقام : ان الشبهة من هذه الجهة موضوعية ، فلا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين ، فلو ثبت وجوب دفع الضرر المحتمل لكان الإشكال مشترك الورود ، فلا بد على كلا القولين إما من منع وجوب دفع الضرر المحتمل ، أو دعوى ترخيص الشارع واذنه في مورد الشك في مصاديق الضرر ، كما يجيء في الشبهة الموضوعية ، وهو يلازم الالتزام بالجبر والتدارك من قبل الشارع على تقدير الوقوع في الضرر (1).

وأورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل :

أولا : بان الشبهة ليست موضوعية ، لأنها مما يرجع فيها إلى الشارع لعدم معرفة وجود الضرر إلا من قبل الشارع ، ببيان الحكم الدال على ثبوت الضرر بطريق الإن.

ص: 450


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /204- الطبعة الأولى.

وثانيا : بأنه لو سلم كون الشبهة موضوعية ، فلا وجه للالتزام بالبراءة ..

لا عقلا ، لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وقد عرفت عدم المجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولا نقلا ، لأن العمدة مما دل من النقل على البراءة في الشبهة الموضوعية وهو قوله علیه السلام : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ... » (1). وقد ذكر الشيخ في محله ان هذا القيد لبيان منشأ الشبهة وأنه وجود القسمين. ومن المعلوم ان المنشأ للشبهة في المقام ليس ذلك ، بل هو احتمال الحرمة ، فلا يشمل الحديث المقام.

وأما دعوى استلزام الترخيص الشرعي للجبر والتدارك من قبله فهي تشكل بأنه يمكن ان يكون الترخيص لمصلحة داعية إليه من دون تدارك للمضرة الفعلية.

ثم إنه قدس سره أنكر موضوع القاعدة فيما نحن فيه ، وادعى ان احتمال الحرمة لا يلازم احتمال الضرر ، إذ احتماله بتبع احتمال الحرمة يبتني على تبعية الأحكام للملاك في المتعلق.

ولكنه على تقديره ، فهو بملاك المصالح والمفاسد في المتعلقات لا بملاك المنافع والمضار ، إذ قد يكون الشيء حراما ونافعا شخصا كالربا ، وقد يكون واجبا وضارّا بالضرر المالي كالزكاة والخمس ، أو الضرر البدلي كالجهاد والصوم (2).

وخلاصة الجواب عن الإشكال من جهة وجوب دفع الضرر المحتمل بنحو يجمع كلمات الكفاية وغيره ، هو : أن القاعدة ممنوعة صغرى وكبرى :

ص: 451


1- وسائل الشيعة 17 / باب : 61 من الأطعمة المباحة ، الحديث : 1 و 7.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /123- الطبعة الأولى.

أما صغرى : فلأن الأحكام الشرعية غير تابعة للمضار والمنافع الشخصية ، بل هي تابعة للمصالح والمفاسد النوعية ، فاحتمال الحكم لا يستلزم احتمال الضرر.

وأما كبرى - وهو محل الكلام في هذا المقام - : فانه على تقدير تسليم ان تكون الأحكام ناشئة من المضار والمنافع الشخصية ، أو قلنا بعدم الفرق بين الضرر النوعيّ والشخصي - ببيان : ان العقلاء لا يفرقون بين الضرر المتوجه على الشخص والضرر المتوجه على الغير ، ولا يفرقون في الغير بين ان يكون فردا أو نوعا - ، فلنا ان ننكر أصل وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل لوجهين :

الأول : ان التحرز عن الضرر ولو كان مقطوعا ، لم يحرز الملاك فيه ، وانه بملاك حكم العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر ، أو أنه ناشئ عن العاقل بما هو ذي شعور محب لنفسه ، الّذي يشترك فيه مع الحيوان ، فهو فطري جبلّي.

وعليه ، فلا سبيل لنا إلى دعوى كون القاعدة مما يحكم بها العقل ، فان أصل التحرز محرز لكن ملاكه غير محرز.

الثاني : انه يمكننا ان نلتزم بأن دفع الضرر ليس بملاك حكم العقل بوجوبه ، وذلك لأن الإقدام على ما فيه الضرر اما ان يكون علة تامة للقبح كالظلم. أو مقتضيا له - ونعني به ما كان بطبعه قبيحا لو لا عروض صفة عليه مانعة كالكذب القبيح في نفسه المرتفع قبحه فيما إذا كان مقدمة لواجب أهم كحفظ نفس المؤمن -.

والأول باطل جزما ، لأن الإقدام على ما فيه الضرر لا يكون قبيحا إذا كان بداع عقلائي يخرجه عن كونه سفيها وتهوّرا ، كهبة المال للأجنبي إذا كانت مقدمة لدفع الضرر عنه أو جلب منفعة كبيرة إليه.

والثاني ممنوع أيضا ، لأنه لو كان قبيحا لو خلي ونفسه لم يرتفع قبحه بلا

ص: 452

عروض صفة لازمة عليه تخرجه عن كونه قبيحا. ومن الواضح ان الإقدام على الضرر لا يكون قبيحا إذا كان بداع عقلائي ، ولو لم يكن لازما كالتحرز عن ضرر أهم أو لجلب منفعة لازمة ، كما لو وهب المال لأجنبي لمجرد كسبه محبته وصداقته أو تقديرا لعلمه وكرمه ، بلا ان يخاف من ضرره أو يرجو نفعه. فلاحظ وتدبر.

هذا تمام الكلام في قاعدة قبح العقاب بلا بيان وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، وما يتعلق بها من شئون.

يبقى الكلام فيما حكاه الشيخ عن السيد أبي المكارم مما استدل به على البراءة : وهو ان التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق.

ووجّهه الشيخ رحمه اللّه بما توضيحه : ان الغرض من التكليف هو الإطاعة ، وهي الإتيان بالفعل بداعي الأمر ، وليس الغرض منه مطلق الإتيان به ولو بداع آخر ، لأنه لا يترتب على الأمر فلا يعقل أن يكون غرضا منه ، لأن الغرض من الشيء ما يترتب على الشيء. ومع عدم العلم بالأمر لا يمكن حصول الغرض منه وهو الإطاعة فلا أمر.

واحتمال ان يكون الغرض من الأمر عند الشك فيه هو الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر ..

مندفع ، بأنه مع وجود الملزم بالفعل بهذا الداعي في مورد احتمال الأمر ، يكون الأمر بذات الفعل لغوا وعبثا ، ومع عدم الملزم به لا ينفع التكليف المشكوك في حصول الغرض (1).

أقول : هذا الدليل ينفع في مقامين :

الأول : مسألة ان الأصل الأولي في الواجبات هل يقتضي التعبدية أو

ص: 453


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /204- الطبعة الأولى.

التوصلية؟.

الثاني : مسألة البراءة ، إذ معه لا يحتاج إلى أصل البراءة للقطع بعدم التكليف مع الجهل.

وهو من الناحية الأولى ذو أهمية ، وقد تقدم الكلام منّا مفصلا فراجع (1).

وكيف كان فالجواب عن هذا الدليل بنحو الإجمال : ان الغرض من الأمر ليس هو الإطاعة ، لأنها تنفك عن الأمر كثيرا ، بل الغرض منه - على قول - إمكان الداعوية ، وهو حاصل ولو مع عدم تحقق الإطاعة.

وهل يتقوم إمكان الداعوية بالوصول - كما يراه الأصفهاني (2) - أو لا؟. قد عرفت عدم تقومه بالوصول ، وان التكليف له إمكان الدعوة في صورة الجهل.

هذا ، مع انه لنا ان نلتزم بان الغرض هو جعل ما يقتضي الداعوية ، والاقتضاء يجامع الجهل. وقد سبق الكلام في ذلك عن قريب جدا. فراجع (3).

ثم إنه قد عرفت ان كثيرا من الأدلة السابقة لا يزيد مدلوله على قاعدة قبح العقاب بلا بيان - على تقدير ثبوتها - ، فلو تمت أخبار الاحتياط لكانت مقدمة عليها لورودها عليها.

ولعله لأجل ذلك تعرض الشيخ للبحث عن الاستدلال على البراءة بالاستصحاب ، فانه لو تم الاستدلال به لكان مقدما على الاحتياط ، لأنه حاكم أو وارد على البراءة والاحتياط - كما يوضح في محله -. ونحن نتعرض للبحث فيه وإن أهمل ذكره في الكفاية.

فنقول : مع الشك في ثبوت التكليف يجري استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر أو الجنون فتثبت البراءة بعد البلوغ أو العقل بواسطة استصحابها.

ص: 454


1- راجع 1 / 412 من هذا الكتاب.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 190 - الطبعة الأولى.
3- راجع 4 / 442 من هذا الكتاب.

وقد استشكل الشيخ فيه : بأنه لا ينفع في المقام ، لأن الثابت بأدلة الاستصحاب هو ترتب اللوازم الشرعية المجعولة على المستصحب لا غير ، والمستصحب هنا إما براءة الذّمّة من التكليف ، أو عدم المنع من الفعل ، أو عدم استحقاق العقاب عليه.

ولا يخفى ان المطلوب إثباته في الآن اللاحق - وهو آن الشك - هو القطع بعدم ترتب العقاب على الفعل ، أو ما يستلزم القطع ، إذ مع عدم تحقق القطع وبقاء احتمال ثبوته احتيج إلى ضميمة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ومعه لا يحتاج إلى الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة ، لثبوت حكم العقل بمجرد الشك.

ومن الواضح ان المطلوب المزبور لا يترتب على المستصحبات المذكورة ، لأن عدم استحقاق العقاب ليس من اللوازم المجعولة لأحدها.

نعم ، هو مما يترتب على الإذن والترخيص الشرعي ، وهو أمر مجعول ، لكنه - أعني الاذن - ليس من اللوازم الشرعية للمستصحبات المزبورة ، بل من المقارنات ، من باب ثبوت أحد الضدين عند نفي الآخر (1).

وذكر المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل : ان أساس استشكال الشيخ هو عدم كون العدم قابلا للجعل ، لعدم كونه مقدورا.

وأورد عليه : ان القدرة تتعلق بطرفي الوجود والعدم بنحو الارتباط ، فإذا كان الوجود مقدورا كان العدم كذلك.

وعليه ، فاستصحاب عدم المنع استصحاب لأمر مجعول شرعا ، فلا حاجة إلى ترتب أثر شرعي عليه ، بل يكفي ترتب أثر عملي عليه ولو كان عقليا ، لأنه إنما يعتبر أن يكون الأثر شرعيا إذا كان المستصحب أمرا غير مجعول شرعا (2).

ص: 455


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /204- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /125- الطبعة الأولى.

وأفاد المحقق النائيني قدس سره - في وجه إنكار الاستصحاب - : ان الاستصحاب إنما يصح في المورد الّذي يدور الأثر فيه مدار الواقع.

أما إذا كان الأثر يترتب على مجرد الشك في الواقع - كما في المقام ، لأن عدم العقاب من آثار مجرد الشك لقبح العقاب بلا بيان - ، فلا فائدة في الأصل لأجل إثبات عدم العقاب فانه من تحصيل الحاصل ، بل هو من أردإ أنحائه ، لأنه من باب تحصيل المحرز بالوجدان بواسطة الأصل (1).

وقد استشكل المحقق العراقي قدس سره في توهم ان العدم ليس بمقدور فلا يقبل الجعل : بأن العدم مقدور وبيد الشارع إبقاؤه ورفعه.

كما استشكل فيما أفيد من عدم الفائدة في الاستصحاب ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بمجرد الشك ، فيتحقق القطع بعدم العقاب المطلوب من الاستصحاب وملاحظة الحالة السابقة : بان لدينا حكمين للعقل :

أحدهما : حكمه بقبح العقاب بلا بيان. والآخر : حكمه بقبحه لبيان العدم. والاستصحاب يحقق موضوع الحكم الثاني ، فيكون واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لنفيه موضوعها.

ولو لم يلتزم بذلك لامتنع جريان الأمارات النافية ، لعدم ترتب فائدة عليها بعد حكم العقل بالبراءة بمجرد الشك (2).

أقول :

أما ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه ، فقد تقدم الحديث فيه مفصلا في مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية. فراجع (3).

وأما ما أفاده الشيخ رحمه اللّه ، فالظاهر أن نظره هو : عدم قابلية عدم

ص: 456


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 191 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 239 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- راجع / 196 من هذا الجزء.

التكليف للجعل الشرعي ، وذلك لا لأجل عدم كونه اختياريا ، كي يشكل بما ذكر ، بل لأجل أن العدم يتحقق بعدم جعل الوجود ، إذ هو لا يحتاج إلى علة ، بل هو يتحقق بعدم تحقق علة الوجود - فما أفاده الأصفهاني من احتياج العدم إلى علة في غير محله -. وعليه فلا معنى لتعلق الجعل به وتشريعه ، فعدم الحرمة يتحقق بعدم تشريع الحرمة لا بتشريعه بنفسه.

وعليه ، فيكون العدم كالموضوع التكويني لا يصح التعبد به بلحاظ نفسه لعدم قابليته للجعل ، بل لا بد ان يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب عليه ، كما إذا كان موضوعا لحكم شرعي تكليفي أو وضعي ، أو كان الوجود موضوعا للأثر الشرعي فيستصحب العدم لنفي أثر الوجود. مثل عدم الملكية في المال الموضوع لحرمة التصرف فيه وعدم حلية اللحم الموضوع لحرمة الصلاة فيه وضعا والعدم فيما نحن فيه ليس موضوعا لحكم شرعي كما بيّنه الشيخ وقد تقدم ذكره.

هذا ، مضافا إلى ان الاستصحاب إنما يتكفل جعل العدم ظاهرا ، وهو لا ينفي احتمال الوجود واقعا ، فيحتاج إلى إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويكفي شاهدا على ما نقول أنه لو قطع بجعل العدم في مرحلة الظاهر بتصريح الشارع به لم يستلزم ذلك القطع بالعدم في الواقع ، بل يحتمل أن يكون التكليف في الواقع ثابتا لعدم التنافي بين الواقع والظاهر - كما قرّر في محله -. إذن فلا ينفع الاستصحاب في نفي احتمال الواقع ، ومع احتماله نحتاج إلى الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

نعم ، مع جعل الإباحة ظاهرا لا حاجة إلى القاعدة ، إذ الترخيص ظاهرا يستحيل معه العقاب ، فلا احتمال له كي ينفي بالقاعدة.

وأما النقض بالأمارات القائمة على نفي التكليف - الوارد في كلام العراقي - ، فيندفع بالفرق بين الأمارة والاستصحاب ، لأن الأمارة الدالة على عدم الحرمة تدل بالملازمة على الترخيص - للملازمة بين عدم أحد الضدين

ص: 457

ووجود الضد الآخر - ، ومع الترخيص لا يحتمل العقاب ، كما لا مجال للنقض بالبراءة الشرعية ، لأن دليلها - كحديث الرفع - دال على الترخيص أما التزاما أو كناية - كما تقدم - ، فلا تحتمل العقوبة.

أما الاستصحاب ، فليس هو حجة في اللوازم العقلية ، ولم يرد في خصوص المقام كي يدل على جعل الترخيص بدلالة الاقتضاء.

والنتيجة : ان الاستصحاب لا مجال له في هذا المضمار.

ثم إنه قد أشرنا فيما تقدم - في أوائل الكلام في حديث الرفع - إلى أن الشيخ رحمه اللّه يلتزم باقتضاء الدليل الدال على الرفع لجعل الإباحة ولكنه لم يصرح به ، وإنما صرح بلازمه وما ينتهى إلى الالتزام به ، وهو ما أفاده هاهنا من ان عدم المنع عن الفعل بعد العلم الإجمالي بعدم خلو فعل المكلف عن أحد الأحكام الخمسة لا ينفك من كونه مرخصا فيه ، فان مقتضاه ان الدليل الدال على عدم المنع دال على الترخيص إما التزاما أو كناية.

مع ان إشكاله في الاستصحاب مع عدم توقفه في حديث الرفع من هذه الجهة ، والحال مع أن مفادهما واحد ، يكشف عن كون نظره إلى ان حديث الرفع يتكفل الترخيص المستلزم لرفع المؤاخذة قهرا بلا احتياج إلى ضم قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فلاحظ (1).

هذا تمام الكلام في أدلة القول بالبراءة.

ص: 458


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /204- الطبعة الأولى.
« أدلة الاحتياط »
اشارة

وقد عرفت أن في مقابل القول بالبراءة قول الأخباريين بالاحتياط ، واستدل له بالكتاب والسنّة والعقل :

أما الكتاب : فبطوائف من الآيات :

منها : ما دل على النهي عن القول بغير علم (1). فان القول بالبراءة وترخيص الشارع في ارتكاب المجهول حكمه قول بغير علم وهو منهي عنه ، ولا يرد مثله على الالتزام بالاحتياط ، فان الاخباري لا يفتي بالاحتياط ، بل يلتزم بترك المشكوك ، والترك لا يستلزم اسناد شيء إلى الشارع. وهو بخلاف الارتكاب على القول بالبراءة ، فانه يستلزم اسناد الترخيص وعدم المنع إلى الشارع.

ومنها : آية النهي عن الإلقاء في التهلكة (2).

ومنها : ما دل على الأمر بالتقوى وجهاد النّفس (3).

وأجيب عن الاستدلال بالطائفة الأولى : بان القول بالبراءة استنادا إلى دليلها ليس قولا بغير علم ، بل بعلم وحجة.

وعن الاستدلال بالثانية : بان المراد من التهلكة إن كان هو العقاب الأخروي فهو منفي بدليل البراءة ، فدليل البراءة وارد على الآية كوروده على قاعدة دفع الضرر المحتمل. وان كان هو الضرر الدنيوي أو ما يعمه ، فمضافا

ص: 459


1- سورة الأعراف ، الآية : 33.
2- سورة البقرة ، الآية : 195.
3- سورة المائدة ، الآية : 35.

إلى ان الشبهة تكون موضوعية ، انه ليس كل ضرر دنيوي يعد تهلكة ، بل التهلكة ما يؤدي إلى الموت وما يقرب منه ، ومن المعلوم ان المحرمات المحتملة لا يحتمل فيها الضرر بهذا النحو.

وعن الاستدلال بالثالثة : بان العمل على طبق البراءة بعد تمامية دليلها لا يعد منافيا للتقوى وجهاد النّفس كما لا يخفى.

واما السنة الشريفة

واما السنة الشريفة (1) :

وقد خلط شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره بين الروايات فلم يصنفها تصنيفا كاملا. والمتأخرون عنه صنفوها إلى أصناف ثلاثة :

الاخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهات.

الاخبار الآمرة بالاحتياط في موارد الشبهات.

أخبار التثليث.

اما الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهات : فقد ادعى بعضهم تواترها. ولكن الظاهر هو عدم تواترها ، بل عدم بلوغها حدّ الاستفاضة ، فضلا عن التواتر ، وهي كالآتي :

مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام - إلى ان قال في آخرها - : « فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (2).

ورواية مسعدة بن زياد ، عن الصادق علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله انه قال : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة .. - إلى ان قال - : فان الوقوف عند الشبهة خير من

ص: 460


1- من هنا إلى دليل العقل على الاحتياط أخذ من ما كتبه العلامة الحجة سماحة الشيخ الجعفري بعد عدم وجوده في التقريرات.
2- وسائل الشيعة 18 / 75 باب 9 - الحديث 1 من أبواب صفات القاضي.

الاقتحام في الهلكة » (1).

وخبر أبي سعيد الزهري ، عن أبي جعفر علیه السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة .. » (2).

وخبر داود بن فرقد ، عن أبي شيبة ، عن أحدهما علیهماالسلام ، قال في حديث : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (3).

وخبر السكوني ، عن الصادق علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام ، عن عليّ علیه السلام قال : « الوقوف في الشبهة خير من الاقتحام في التهلكة » (4).

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة - كما عن شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره - : بان المراد بال : « توقف » هو مطلق السكون وعدم المضيّ ، فهو كناية عن عدم الحركة وعدم الإقدام على الفعل.

وعليه ، فلا مجال للإشكال فيه : بان المراد بالتوقف ..

ان كان هو التوقف عن الحكم الواقعي - المفروض كونه مشكوكا فيه - ، فهو مسلم به عند كل من الأصوليين والأخباريين.

كما أنّ الإفتاء بالحكم الظاهري - منعا أو ترخيصا - مشترك فيه - أيضا - بينهما.

وأمّا التوقف عن العمل ، فلا معنى له ، إذ لا بد له من الفعل أو الترك على كلا التقديرين أي على تقديري القول بالبراءة والقول بالاحتياط.

والحاصل : ان وجوب التوقف - بالمعنى المذكور - معناه : وجوب الاحتياط

ص: 461


1- وسائل الشيعة 18 / 116 - باب 12 الحديث 15 من أبواب صفات القاضي.
2- وسائل الشيعة 18 / 112 - باب 12 الحديث 2 من أبواب صفات القاضي.
3- وسائل الشيعة 18 / 115 - باب 12 الحديث 13 من أبواب صفات القاضي.
4- وسائل الشيعة 18 / 126 - باب 12 الحديث 5 من أبواب صفات القاضي.

في موارد الشبهة.

ثم تعرض شيخنا الأنصاري قدس سره بعد ذلك لدفع اعتراض قد يورد على الروايات بعدم دلالتها على الوجوب ، بقوله : « وتوهم ظهور هذا الخبر المستفيض في الاستحباب مدفوع ، بملاحظة : أنّ الاقتحام في الهلكة لا خير فيه أصلا. مع أنّ جعله تعليلا لوجوب الإرجاء في المقبولة قرينة على المطلوب.

فمساقه مساق قول القائل : « أترك الأكل يوما خير من ان أمنع منه سنّة » ، وقوله علیه السلام في مقام وجوب الصبر حتى تيقن الوقت : « لأن أصلي بعد الوقت أحبّ إليّ من أصلّي قبل الوقت » (1) ، وقوله علیه السلام في مقام التقية : « لأن أفطر يوما من شهر رمضان فأقضيه أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي » (2) ..

وقد أجاب شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره عن ذلك : بأنّ الأمر بالتوقف أمر إرشادي ، لا يترتب عليه شيء سوى ما يترتب على متعلّقه ، وهو الأمر المرشد إليه ، فلا يكون مثل هذا الأمر دالا على وجوب شيء.

بيان ذلك : ان الأوامر الإرشادية هي أوامر بصورتها ، ولكنها - في واقعها - إخبار ، فهي غير متضمّنة للإلزام بشيء أصلا ، وانما الإلزام في مواردها ينشأ من اللزوم في المرشد إليه نفسه ، فان كان هناك فيه موجب للإلزام كانت متابعة الأمر الإرشادي بالعمل على طبقه لازما ، وإلاّ فلا. ومثاله في أوامر الطبيب التي هي أوامر إرشادية من القسمين هو : ان أمره بشرب الدواء النافع لجهة ضرورية في صحة البدن ، كأن يأمر بشرب الدواء لأجل الخلاص من المرض المهلك ، يكون لازم العمل ، للزوم المرشد إليه ، وهو شرب الدواء المذكور. كما أنّ أمره بشرب الدواء النافع لزيادة الشبهة - أو توليد النشاط فيه - ، باعتبار عدم اللزوم في

ص: 462


1- وسائل الشيعة 3 / 122 - باب 13 - الحديث 5 من أبواب مواقيت الصلاة.
2- وسائل الشيعة 7 / 95 باب 57 الحديث 4 من أبواب يمسك عنه الصائم.

المرشد إليه ، نظرا إلى دخله في جهة كمالية لا ضرورية ، لا يكون لازم العمل على طبقه ، لعدم لزوم المرشد إليه.

وعلى هذا ، فالأمر بالتوقف عند الشبهات إرشاد لا محالة إلى إنه - على تقدير عدم التوقف - يترتب على ارتكاب الشبهة ما هو الثابت في ارتكاب الشيء المذكور واقعا ، فإذا كان هناك في ارتكاب الشيء ما يلزم التحرّز عنه كان التوقف لازما ، وإلاّ فلا. وعليه فلا يستفاد من هذه الروايات لزوم التوقف ، بل اللزوم وعدمه تابعان لشيء خارج عن ذلك ، وأنّه إذا كان هناك ما يترتب على ارتكاب الشبهة ما يجب التحرّز عنه عقلا - كالعقاب المترتب على ارتكاب الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، أو الشبهة البدوية قبل الفحص - كان التوقف لازما ، وإلا فلا. فهذه الروايات لا دلالة لها على لزوم التوقف ، كما لا يخفى.

وبكلمة أخرى : هذه الروايات لا تدل على لزوم التوقف في كل شبهة ، كما هو المدّعى.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره أفاد وجها لدلالة الروايات على وجوب التوقف في كل شبهة ، كما هو المدّعى ، بقوله : « ان قلت ... » ، وهذا هو العمدة في استدلال الأخباريّين ، وحاصله :

انّ بيان كل من الوجوب والحرمة قد يكون بالأمر بالفعل أو النهي عنه ، الظاهرين في الوجوب أو الحرمة. وقد يكون ذلك ببيان ما يترتب على امتثال الواجب من الثواب ، وعلى مخالفة الحرام من العقوبة. - مثلا - الوالد يقول لأولاده : من تكلّم منكم في هذه السّاعة أضربه كذا ... فان هذا الكلام يكون ظاهرا عرفا في النهي عن التكلم. أو يقول : من يكتب منكم صفحة .. أعطيه كذا ... ، فانه يكون ظاهرا عرفا - بالدلالة الالتزامية - في الأمر بالفعل. وعلى هذا فالهلكة المفروضة في مورد الشبهات - والمراد بها : هي العقوبة الأخروية ، كما مرّ - لا محالة يكون ظاهرا عرفا في حرمة ارتكاب المشتبه ، ويكون ذلك من قبيل

ص: 463

الاستعمالات الكنائية ، باستعمال اللفظ في اللازم وإرادة الملزوم. فيكون مفاد الروايات : حرمة ارتكاب المشتبه ، ووجوب الاحتياط.

أو يقال - كما هو ظاهر عبارة الرّسائل - : ان الروايات انما دلّت على انّ كل شبهة هي مظنة لاقتحام الهلكة ، لا أنها تدل على انه في مورد احتمال الهلكة - بنحو التعليق على الموضوع المقدّر وجوده - يكون ارتكاب الشبهة اقتحاما في الهلكة. فمفادها : انّ ارتكاب كلّ شبهة مصداق للاقتحام في الهلكة.

وبما انّا نعلم : ان ثبوت الهلكة في المشتبه - مع عدم البيان - قبيح عقلا ، فلا محالة نستكشف من ذلك - بدلالة الاقتضاء - امرا شرعيا متعلقا بالاحتياط ، يكون مصححا للعقوبة المحتملة على تقدير وجودها. وإلا كان الاكتفاء في العقاب بالتكاليف الواقعية المشكوك فيها قبيحا عقلا.

وقد أجاب عنه شيخنا الأنصاري قدس سره : بان الأمر بالاحتياط المستكشف من الروايات المذكورة بالالتزام أو بالظهور العرفي ، لا يخلو حاله من ان يكون أمرا مقدميا أو يكون نفسيّا.

والأول - وهو الأمر المقدمي - لا يصحح العقوبة ، فانه أمر تبعي لأجل التحرز من العقاب ، فلا يكون هو مصححا للعقوبة ، فتكون العقوبة بلا مصحّح ، لأنه لا تصح العقوبة على أمر مجهول باعترافه.

وبعبارة أخرى الأمر المقدمي إمّا هو غير معقول ، لكونه مقدمة للتحرز من العقوبة ، فلا يمكن ان يكون مصححا للعقوبة أو أنه على تقدير المعقولية لا يكون بيانا مصححا للعقوبة.

والثاني خلف الفرض ، فان العقوبة في مخالفة الأمر النفسيّ مترتبة على مخالفته ، مع أن صريح هذه الروايات ترتب العقوبة على مخالفة الواقع (1).

ص: 464


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /207- 208 - الطبعة الأولى.

هذا ، وقد اعترض عليه المحقق ، صاحب : « كفاية الأصول » قدس سره وغيره ممّن تبعه في ذلك : بعدم انحصار الأمر في هذين القسمين ، بل هناك قسم ثالث ، وهو الأمر الطريقيّ. وكأن شيخنا الأنصاري قدس سره - ويعتبر : المؤسس لهذا الاصطلاح - نسي - هنا - القسم المذكور ، فلذلك حصر الأوامر في القسمين (1).

أقول : الظاهر هو تمامية ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره ، وأنّه قد تعرض لجميع أقسام الأوامر ، بلا إهمال لشيء من أقسامها. وذلك ، لأن مراده - قدس سره - من الأمر النفسيّ هو ما يعم الأمر الطريقيّ.

بيانه : ان أقسام الأمر ثلاثة : الأمر الغيري ، النفسيّ ، الطريقي.

أمّا الأمر الغيري ، فامّا أنّه غير معقول ، لأنّه انما يكون بعنوان المقدمية للتحرز عن العقوبة المحتملة ، فلا بد وأن يكون هناك مصحّح للعقوبة حتى يعقل الأمر المقدمي للتحرز عنها ، فلا يعقل ان يكون هو مصححا للعقوبة. أو أنه لا يجدي ، فانه على فرض التسليم بالمعقولية لا يجدي لتصحيح العقوبة ، نظرا إلى ان الأمر الغيري لا تستتبع مخالفة العقاب ، بل العقاب يكون على مخالفة الأمر النفسيّ.

وأمّا الأمر النفسيّ ، فهو انما يستوجب العقوبة على مخالفة نفسه ، بمعنى : ان الأمر بالاحتياط لو كان نفسيا لكانت العقوبة مترتبة على مخالفة الأمر المذكور بنفسه ، مع أن مفاد الروايات انما هي العقوبة على مخالفة الواقع نظرا إلى ان الهلكة المفروض فيها في مورد الشبهات ، انما هي على مخالفة الواقع ، لا على مخالفة الأمر بالاحتياط.

وأمّا الأمر الطريقي ، فلأن المصحح للعقوبة على مخالفة الواقع إذا كان

ص: 465


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 345 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هو الأمر الطريقي ، فلا محالة تكون العقوبة في طول الأمر الطريقي ومترتبة عليه ، ولا يعقل ان يكون الأمر الطريقي في طولها ومترتبا عليها. مع أن المفروض في الروايات انما هي العقوبة في مرتبة سابقة على الأمر بالاحتياط ، حيث انه علّل فيها الأمر بالاحتياط بالهلكة ، وهذا لا يتلاءم وكون الأمر بالاحتياط طريقيا.

وحاصل الكلام : ان فرض العقوبة في الروايات على الواقع ، وفي مرحلة سابقة على الأمر بالتوقف - بهذين القيدين ، أعني بهما : فرض العقوبة على الواقع ، وفرضها في مرحلة سابقة على الأمر بالتوقف - مما يتنافى مع كون الأمر به نفسيا وطريقيا. فان فرض العقوبة على الواقع مناف لكون الأمر بالتوقف نفسيا ، وفرضها في مرحلة سابقة مناف لكونه طريقيا.

وعليه ، فلم يهمل شيخنا الأنصاري قدس سره ذكر شيء من أقسام الأمر في المقام ، بل انه قد أشار إلى جميع ذلك. فلاحظ.

ودعوى : أن الأمر بالتوقف - في الروايات - وان لم يكن طريقيا لما تقدّم ، لكنه يستكشف من التعليل في الروايات ، بأن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، أمر آخر طريقي يكون هو المصحح للعقوبة. يأتي الجواب عنها - إن شاء اللّه تعالى - في نقد كلام المحقق الأصفهاني قدس سره ، فانتظر.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره أيد ما أفاده في الجواب عن روايات التوقف بوجه آخر ، كما يلي : ان الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهات شاملة لكل من الشبهتين : الوجوبية والتحريمية مطلقا ، سواء كانتا من الشبهة الحكمية أو الموضوعيّة. مع أنّ الأخباريين لا يقولون بالاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكمية والموضوعية ، وفي الشبهة التحريمية الموضوعية - إلا ما ينسب إلى صاحب الوسائل قدس سره من الاحتياط في الشبهة

ص: 466

الوجوبية (1) - ، ولا مجال لتخصيص الروايات ، بإخراج الشبهة الوجوبية الحكمية ، والموضوعية التحريمية والوجوبية. فإن لسان الروايات المذكورة آبية عن التخصيص. فانه كيف يمكن التخصيص في الاقتحام في الهلكة ، بالترخيص في ذلك في مورد دون آخر. وعليه فلا بد من حمل الأمر بالتوقف فيها على الإرشاد حتى يختص ذلك بمورد يحكم العقل فيه بلزوم الاحتياط ، لتمامية المنجز فيه للتكليف المشكوك فيه ، كالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، والبدوية قبل الفحص. وبذلك نسلم عن الإشكال (2).

هذا ، وقد حاول بعضهم تقرير هذا وجها مستقلا لنقد الروايات الآمرة بالتوقف قائلا : ان عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية مطلقا ، سواء أكانت تحريمية أم كانت موضوعية ، وعدم وجوبها في الوجوبية الحكمية ، مما يكشف لنا عن ان المراد بالشبهة في هذه الروايات ليست هي بمعناها المصطلح عليه ، أعني به : ما لم يعلم حكمه الواقعي. بل المراد بها : ما يساوق « المشكل » و « المشتبه » المأخوذين في قاعدة القرعة ، بان يراد به : ما ليس إليه طريق مجعول لا واقعا ولا ظاهرا. فلا تشمل ما كان حكمه في الظاهر الترخيص ، كالشبهات البدوية بعد الفحص ، التي هي مجرى البراءة (3).

قلت : ما أفاده شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره تأييدا لما أجاب به عن نصوص الوقوف عند الشبهات يمكن الجواب عنه : بان الاستدلال بالنصوص الآمرة بالتوقف عند الشبهات انما كان يبتني على استفادة حكمين عامين منها : أحدهما : ان كل شبهة تكون مظنة للاقتحام في الهلكة. والآخر : ان الوقوف في كل شبهة خير من الاقتحام في الهلكة. والتخصيص - على فرض

ص: 467


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /207- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /207- الطبعة الأولى.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 2 / 299 - الطبعة الأولى.

الالتزام به - انما يكون بالنسبة إلى العامّ الأوّل ، ولسانه ليس بآب من التخصيص ، حيث إنّه للشارع إخراج بعض افراد الشبهة عن كونها مظنة للاقتحام في الهلكة ، وهذا مما لا محذور فيه. نعم لسان العام الثاني آب عن التخصيص ، لكنه لا موجب للالتزام بالتخصيص بالنسبة إليه.

فالمهم هو الجواب المتقدم بنفسه ، بلا حاجة إلى ضمن المؤيد المذكور إليه.

كلام المحقق الأصفهاني قدس سره ونقده.

قال المحقق الأصفهاني قدس سره : « يمكن إصلاح الاستدلال بهذه الطائفة ، بناء على كون الفقرة تعليلا ، بإثبات أمرين : أحدهما : كون الشبهة مطلقة شاملة للشبهة البدوية ، لعدم تقيد الشبهة بما يأبى عن الشمول للبدوية. وثانيهما : ظهور الهلكة في العقوبة ، لا فيما يعم المفسدة. فيدلّ التعليل على أنّ الإقدام في كل شبهة اقتحام في العقوبة ، فصونا للكلام عن اللغوية يستكشف أمر طريقي بالاحتياط في الشبهة البدوية ، من باب استكشاف العلة عن معلولها. ولا يخفى عليك : أن إيجاب الاحتياط الواقعي وان كان غير قابل للمنجزية ، بل القابل هو الإيجاب الواصل. لكنه لا فرق في وصوله بين أنحاء وصوله ، فوصوله بوصول معلوله كوصوله بنفسه. نعم الأمر الإرشادي بالتوقف المعلل بهذه العلّة ، كما لا يمكن ان يكون بنفسه مصححا للعقوبة لفرض انبعاثه عن عقوبة مفروضة ، كذلك لا يعقل ان يكون وصوله وصول الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة ، لأن صحة المؤاخذة بنفس وصوله الموصل للأمر الطريقي ، فكيف ينبعث عن مؤاخذة مفروضة مستدعية لفرض الوصول بغير هذا الأمر المعلل؟.

وعليه ، ينبغي حمل ما أفاده شيخنا العلامة قدس سره - في آخر العبارة - : « فهذا الأمر المعلل لا بد من ان يكون كاشفا عن امر طريقي واصل .. » ، مع أنه لم يصل الا هذا الأمر في الشبهة البدوية. لأن الكلام في الاستدلال به لوجوب التوقف المنجز للواقع لا بغيره. إلا بدعوى : أنّ أمر المخاطب بالتوقف

ص: 468

المعلّل بهذه العلّة كاشف عن وصول الأمر بالاحتياط إليه ، واحتماله في حق المخاطب بلا مانع ، وبضميمة - قاعدة الاشتراك - يكون واصلا إلينا ، لا بهذا الأمر الإرشادي ، ليكون مستحيلا. وحينئذ يكون الأمر بالتوقف ، بضميمة قاعدة الاشتراك مع المخاطب كاشفا عن إيجاب الاحتياط طريقيا في الشبهة البدوية .. » (1).

وحاصله : تقريب الاستدلال باخبار التوقف بوجهين :

أحدهما : استكشاف الأمر الطريقي بالاحتياط من التعليل بان الوقوف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، بدلالة الاقتضاء ، يكون هو المصحح للعقوبة ، فان مصحح العقوبة هو الأمر الطريقي الواصل مطلقا ، ولو كان وصوله من طريق وصول معلوله ، وهي العقوبة في كل شبهة ، فان اللازم هو الوصول ، واما اعتبار كونه واصلا بنفسه فلا موجب له ، بل يكفي وصوله ولو بوصول معلوله.

والآخر : استكشاف الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة من الأمر بالتوقف في الشبهات ، المعلّل .. ، لا من التعليل نفسه ، وذلك بان يكون أمر المخاطبين بالتوقف في الروايات المشار إليها كاشفا عن وصول الأمر الطريقي بالاحتياط إليهم ، وهذا مما لا مانع منه في حق المخاطبين ، وحينئذ بمقتضى قاعدة الاشتراك مع المخاطبين في التكليف ، يستكشف الأمر الطريقي بالاحتياط في حق غيرهم ، فيكون الكاشف عن الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة بالنسبة إلى غير المخاطبين ، الأمر بالتوقف ، مع قاعدة الاشتراك في التكليف.

والوجهان مما يشتركان في ابتنائهما على كون المراد بالهلكة في الروايات ، هي العقوبة الأخروية.

ص: 469


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية / 196 - الطبعة الأولى.

ولذلك يكون ما أورده المحقق الأصفهاني قدس سره من منع إرادة العقوبة الأخروية من الهلكة واردا على كلا الوجهين.

فقد أفاد قدس سره ما نصه : « فالأولى المنع من ظهور الهلكة في خصوص العقوبة ». لأن هذا الكلام ذكر في موردين ، لا مانع من إرادة العقوبة في أحدهما ولا يمكن إرادتها في الآخر.

أما الأوّل : ففي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة - بعد ذكر المرجحات وفرض التساوي من جميع الجهات - حيث قال علیه السلام : « إذا كان كذلك فأرجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » ، فانه لا مانع من إرادة العقوبة ، لأن المورد من الشبهات التي يمكن إزالتها بملاقاة الإمام علیه السلام .

مع أنه يمكن ان يقال : ان المراد هو التوقف من حيث الفتوى على طبق إحدى الروايتين في مقام فصل الخصومة ، كما هو مورد المقبولة.

ولذا لا تعارض الأخبار الدالّة على التخيير بعد فرض المساواة ، فانه لا مجال للتخيير في مقام فصل الخصومة ، فان كلا من المتخاصمين يختار ما يوافق مدّعاه ، فيبقى الخصومة على حالها.

وعليه ، فلزوم التوقف في الشبهة القابلة للإزالة أو التوقف في الفتوى لا ربط له بما نحن فيه. فكون الهلكة بمعنى العقوبة في مثلهما لخصوصية المورد.

وأمّا الثاني : ففي موثقة مسعدة بن زياد ، عن الصادق علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال صلی اللّه علیه و آله : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة. يقول : إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها أو أنّها لك محرّمة ، وما أشبه ذلك. فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » ، فانه لا شبهة في أن الهلكة لا يراد منها العقوبة ، بل المفاسد الذاتيّة الواقعية. كيف؟ وقد نصّ في موثقة مسعدة

ص: 470

بن صدقة : بان الإقدام حلال ، ممثلا له بذلك وبأشباهه.

وعليه ، فما في رواية أخرى أيضا لا ظهور للهلكة فيها في العقوبة ، بل في الجميع إرشاد إلى ما يعم العقوبة والمفسدة ، كل بحسب ما يقتضيه المورد من وجود المنجز وعدمه » (1).

هذا ، وما أفاده قدس سره من الوجهين لتقريب الاستدلال باخبار التوقف على وجوب الاحتياط ، مما لم نفهمه ..

أما الوجه الثاني ، فهو مبني - كما عرفت - على ان يكون الأمر بالاحتياط واصلا إلى المخاطبين ، كي يتنجز - بذلك - الواقع في حقهم ، وبمقتضى قاعدة الاشتراك يثبت ذلك في حقنا أيضا.

ولكن هذا غير ثابت ، ولم يذكر قدس سره في كلامه مثبتا لذلك ، وإنّما ساقه كمجرد احتمال لا أزيد من ذلك.

وأما الوجه الأول ، فبأننا لا ننكر إمكان بيان الأمر والنهي ببيان ما يترتب عليهما من الثواب والعقاب ، فيكون وصول الأمر بوصول معلوله - وهو الثواب على الفعل - ، ووصول النهي بوصول معلوله ، وهي العقوبة على الفعل. كما أننا لا ننكر صدور الأمر أو النهي المولوي من مقام ، وصدور الأمر الإرشادي إرشادا إلى ما يترتب على إطاعة الأمر المذكور أو على مخالفة النهي المذكور من مقام آخر ، كما هو الحال في الخطباء والوعّاظ بالنسبة إلى أوامر الشرع الحنيف ونواهيه.

بل الّذي ننكره هو : صدور كلا الأمرين من المولى نفسه ، بأن يأمر المولى بأمر مولوي بشيء - مثلا - ويأمر معه - في ذلك الكلام - بأمر إرشادي ، فهذا ما لا نتصوره ولم نفهم له معنى محصلا. بل نراه مما يضحك منه العاقل. فلا يمكن

ص: 471


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية / 197 - الطبعة الأولى.

- اذن - الجمع في روايات التوقف بين الأمر بالتوقف إرشادا ، والأمر المولوي المستكشف من فرض الهلكة - وهي العقوبة الأخرويّة - باعتبار كون العقوبة من لوازم الأمر المولوي.

وعليه ، فليس هناك سوى أمر واحد ، وهو الأمر بالتوقف ، وهو أمر إرشادي ، حسب البيان المتقدم ذكره.

واما الأخبار الآمرة بالاحتياط :

فمنها : صحيح عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سألت أبا الحسن علیه السلام عن رجلين أصابا صيدا ، وهما محرمان ، الجزاء بينهما ، أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال : لا ، بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما الصيد. قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه. فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط ، حتى تسألوا عنه فتعلموا » (1).

وقد أجاب عنه شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره : بان المشار إليه بكلمة : « هذا » اما نفس واقعة الصيد - أي : الموضوع المشتبه حكمه -. أو السؤال عن حكم ما لا يعلم حكمه ، نظرا إلى ان المفروض : ان الراوي كان قد سئل منه حكم الصيد المذكور ، فلم يدر بذلك ، فيكون المراد : انه إذا ابتلي أحدهم بالسؤال عما لا يعلم بحكمه ..

فعلى الأوّل : بان تكون إشارة إلى أصل المسألة ، فامّا ان يكون المورد من قبيل الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين. أو يكون ذلك من الأقل والأكثر الارتباطيين.

فان كان الأوّل ، نظير الدين المردد بين الأقل والأكثر ، فيتوجه عليه :

ص: 472


1- وسائل الشيعة 18 / 111 باب 12 الحديث 1 من أبواب صفات القاضي.

أوّلا : ان ذلك مما لا يجب فيه الاحتياط باتفاق الأصوليين والأخباريين ، لكون مورد الرواية من الشبهات الوجوبية ، التي لا يجب الاحتياط فيها اتفاقا.

وثانيا : انه على تقدير التسليم بالاحتياط في مورد الرواية ، بفرضه من موارد الدوران بين المتباينين ، الواجب فيها الاحتياط ، فهو أجنبي عما هو محل البحث ، لأن التكليف في مورد الرواية يكون معلوما بالإجمال ، فيلزم فيه الاحتياط ، ومحل كلامنا هو الشك في التكليف وعدم العلم به ولو إجمالا.

وان كان الثاني ، فهو وان كان محل الخلاف ، ومذهب بعض الأصوليين فيه هو الاشتغال ، نظرا إلى فرض الشك فيه في المكلّف به بعد إحراز أصل التكليف. إلا أنه على هذا التقدير تكون الرواية أجنبية عن محمل البحث ، لأن البحث انما هو في الشك في التكليف ، لا في المكلف به مع إحراز أصل التكليف.

وعلى الثاني : بان تكون إشارة إلى الابتلاء بالسؤال عما لا يعلم بحكمه ، فاما ان يراد بالاحتياط هو الفتوى بالاحتياط ، أو يراد به الاحتياط في الفتوى ، بان لا يفتى بشيء احتياطا. وعلى كلا التقديرين فالرواية غير نافعة لمحل البحث ، فان المفروض في مورد الرواية هو التمكن من استعلام حكم الواقعة فيما بعد ، وذلك بالسؤال والتعلّم. ولا مضايقة عن القول بوجوب الاحتياط - بكلا محتمليه - في مثل هذه الواقعة الشخصية ، حتى يتعلم حكم المسألة في المستقبل. وأين ذلك مما هو محل البحث ، حيث انه لا مجال للتعلم فيما بعد أيضا ، فان الفحص بالمقدار اللازم قد تحقق ولم ينته به - على الفرض - إلى نتيجة معلومة ، فهو فيما يأتي - كما هو عليه الآن - في شك وحيرة من الحكم (1).

قلت : أمّا على تقدير ان يكون : « هذا » إشارة إلى السؤال ، لا إلى نفس الواقعة ، فالظاهر هو دلالة الرواية على ان حكم المشتبه هي الاحتياط دون

ص: 473


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.

البراءة ، فيتم الاستدلال بها لما هو محلّ البحث.

بيان ذلك : ان مثل هذا الكلام : « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا وتعلموا » يمكن القول به في ثلاثة موارد :

أولا : بالنسبة إلى من يعتمد في استنباط الأحكام الشرعية الطرق غير الصحيحة والمعتبرة عند الإمامية ، كأن يعتمد على القياس ، والاعتبارات الظنية ، والاستحسانات العقلية ، فلا يقوم هو بدور الاجتهاد الصحيح ، وانما يفتي على أساس المستندات المشار إليها.

ثانيا : من يفتي بالبراءة بدون الفحص عن الدليل ، بل يفتي في كل مسألة ترد عليه بما يقتضيه حكم الشك في تلك المسألة ، من دون تريث وفحص عن الدليل الاجتهادي القائم في تلك المسألة.

ثالثا : من لا يعتمد في استنباطه الطرق غير الصحيحة ، كما لا يفتي بما يقتضيه الشك في المسألة إلا بعد استفراغ وسعه في البحث والفحص عن دليل المسألة واليأس عن تبيين حكمها على ضوء الأدلة الصحيحة ، فإذا لم يظفر بالدليل يحكم بالبراءة ، أو ...

اما الفرض الأول ، فهو بعيد عن مورد الرواية ، وان كانت الرواية - على تقديره - أجنبية جدا عما هو محل البحث. والوجه في بعده : هو ان ملاحظة الرّاوي - وهو عبد الرحمن بن الحجاج - وملاحظة نفس الرواية ممّا يبعدان ذلك.

واما الثاني ، فحمل الرواية عليه وان كان قريبا جدا ، وبذلك تصبح الرواية أجنبية عن المدعى ، فان القائل بالبراءة انما يقول بها بعد الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به ، لا مطلقا ولو كان قبل ذلك.

إلا ان هذا - أي دلالة الرواية على وجوب الاحتياط بالإضافة إلى ما قبل الفحص - يعتبر إشكالا آخر على الرواية ، ولا يرتبط ذلك بما هو محل

ص: 474

البحث وهو : أنها هل تدل على وجوب الاحتياط ، من غير جهة اعتبار الفحص واليأس عن الدليل في إجراء البراءة؟.

وعليه ، فإذا فرضنا - كما هو مفروض كلام شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره - حمل الرواية على الفرض الثالث ، فلا محالة يتم دلالة الرواية على وجوب الاحتياط ، وأنّ الوظيفة في مورد الشك انما هو الاحتياط دون البراءة ، فانه إذا كان الواجب هو الاحتياط وعدم الفتوى بالبراءة حتى مع الفحص واليأس عن الدليل ، كانت الوظيفة - لا محالة - في الشبهة البدوية هو الاحتياط دون البراءة ، وإلاّ لم يكن موجب للاحتياط عن الفتوى أو الفتوى بالاحتياط مع كون حكم المورد هي البراءة ، كما هو ظاهر.

إلا ان الظاهر من الرواية هو الفرض الثاني - كما أشرنا إليه - ، فهي تدل على الاحتياط قبل الفحص واليأس عن الدليل ، فما دام لم يتحقق الشرط - وهو الفحص - على المكلّف الاحتياط. حتى يسأل ويتعلم ، أي : حتى يفحص. وبكلمة أخرى : الرواية دالة على الاحتياط في الفتوى أو الفتوى بالاحتياط ما دام لم يتحقق منه الفحص ، وهو السؤال عن حكم الموضوع وتعلمه في ما بعد.

وعليه ، فالرواية لا تدل على وجوب الاحتياط في ما هو محل الكلام ، وهو ما بعد الفحص واليأس عن الدليل ، وهذا إشكال آخر يتوجه عليها غير الإشكال الّذي وجهه إليها شيخنا الأنصاري قدس سره . فلاحظ وتأمل.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره أفاد بأنّه : بناء على التسليم بكون المورد من الأقل والأكثر الاستقلاليين ، والتسليم بكون الوظيفة فيه هو الاحتياط ، لا يتم الاستدلال بها لمحلّ البحث. فانه - على هذا - يكون التكليف بالأكثر معلوما في الجملة ، ووجوب الاحتياط في مثله بمقتضى الرواية ، لا يوجب التعدي والاحتياط في الشبهة البدوية ، التي لا يكون التكليف فيها معلوما

ص: 475

أصلا (1).

ويتوجه عليه : انه - بناء على كون المورد من الأقل والأكثر الاستقلاليين - يكون التكليف بالأكثر مشكوكا فيه بالشبهة البدوية قطعا ، ويكون هذا المورد هو المتيقن به من موارد انحلال العلم الإجمالي ، وان الموجود هي صورة العلم الإجمالي. فالتعدي عن مورد الرواية إلى الشبهة البدوية - التي هي محل الكلام - في محلّه.

وعليه ، فبعد التسليم بهذا المبنى لا مجال للتوقف في الاستدلال بالرواية ، كما لا يخفى.

ومنها : موثق عبد اللّه بن وضّاح : « انه كتب إلى العبد الصالح علیه السلام ، يسأله عن وقت المغرب والإفطار. فكتب إليه : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك » (2).

وتقريب الاستدلال بها ، بحيث تدل على وجوب الاحتياط مطلقا لا في خصوص موردها هو أن يقال : إن قوله علیه السلام : « وتأخذ بالحائطة لدينك » بمثابة التعليل لقوله علیه السلام : « أرى لك أن تنتظر » كما في قول القائل : « أرى لك أن توفي دينك ، وتخلص نفسك » حيث يدل هذا الكلام على ان تخليص النّفس مطلقا - ولو من غير جهة الدين - لازم. فتدل الرواية - اذن - على وجوب الاحتياط بقول مطلق.

والجواب عن ذلك - كما عن شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره - :

أوّلا : بان الرواية ظاهرة في استحباب الاحتياط لا وجوبه ، فان كلمة : « أولى » ظاهرة في الاستحباب ، ولا ظهور لها في الوجوب. فلا تدل الرواية على

ص: 476


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.
2- الوسائل 18 / 122 باب 12 - الحديث 37 من أبواب صفات القاضي.

وجوب الاحتياط.

وثانيا : ان ظاهر الرواية هي الشبهة الموضوعية ، بتقريب : ان الغروب عبارة عن استتار القرص عن خط الأفق ، وهو مشكوك فيه ، من جهة احتمال ان يكون ارتفاع الحمرة فوق الجبل علامة عدم استتار القرص حقيقة.

بيانه : انه لو كان مورد الرواية هي الشبهة الحكمية ، بان كان المشكوك فيه هو ان الغروب - شرعا - عبارة عن استتار القرص المفروض تحققه ، أو زوال الحمرة المشرقية ، لكان المناسب بالإمام علیه السلام رفع الشك المذكور ، فان شأنه - علیه السلام - هو ذلك ، وليس من شأنه علیه السلام أمره بالاحتياط ، المفروض معه إبقاء الشك بحاله. وعليه فحيث انه لم يقم علیه السلام ببيان ما هو حقيقة الغروب شرعا ونستكشف منه عدم كون الشك في مورد الرواية شكا في الشبهة الحكمية ، بل لا بد وان يكون هو الشك في الشبهة الموضوعية.

وبما ان الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية غير واجب باتفاق الأصوليين والأخباريين ، فلا بد وان يكون وجوبه في خصوص مورد الرواية لأجل خصوصية اقتضت ذلك ، وهي : ان المورد من موارد استصحاب بقاء الوقت. أو اشتغال الذّمّة بالتكليف مع الشك في الخروج منه. فان الإفطار عند استتار القرص - مثلا - يوجب الشك - لا محالة - في فراغ الذّمّة من الصّوم ، الّذي علم باشتغال ذمته به قطعا. وحينئذ فالتعدّي عن مورد الرواية إلى ما لا يشترك معه في الخصوصية المذكورة مما لا وجه له.

وثالثا : سلمنا ان الشك في مورد الرواية شك في مورد الشبهة الحكمية ، ومعلوم أيضا أنّ وظيفة الإمام علیه السلام انما هو رفع هذه الشبهة ، ولنفرض أن الغروب شرعا هو زوال الحمرة المشرقية ، إلا ان عدم تصدي الإمام علیه السلام لبيان هذا الحكم حتى يرتفع به الشك المذكور ، لأجل التقية من

ص: 477

المخالفين حيث ان الغروب عندهم هو استتار القرص ، فلذلك توصّل الإمام علیه السلام إلى هذه بصورة غير مستقيمة ، حيث ان إيجاب الاحتياط بعد استتار القرص مما يحقق - عملا - النتيجة المترتبة على كون الغروب هو زوال الحمرة. والخلاصة : انه علیه السلام توصّل إلى هذه النتيجة بصورة غير مستقيمة ، وذلك بإيجاب الاحتياط بعد استتار القرص. فقد بيّن الإمام علیه السلام الحكم الواقعي ، وقام بما هو وظيفته من بيان الأحكام ، لكنه - لأجل التقية من المخالفين - لم يبيّن ذلك بصورة مستقيمة ، بل بصورة غير مستقيمة ، فالمخالفون يتخيلون ان الانتظار لأجل العلم باستتار القرص ، في حين أنّ ذلك - بحسب الواقع - لأجل تحقق زوال الحمرة المشرقية ، الّذي هو محقق الغروب شرعا (1).

إلا انا نقول - بعد التسليم بهذا - : لا يمكن دلالة الرواية على وجوب الانتظار والاحتياط ، فانه على خلاف التقية ، حيث ان العامة لا يوجبون الاحتياط ، فلا يمكن الإمام علیه السلام إيجاب الاحتياط بعد كونه خلاف التقية ، فلا بد وان يكون مفاد الرواية هو رجحان الاحتياط والانتظار ، وإلا كان ذلك على خلاف المفروض في مورد الرواية ، وهي التقية.

والمتحصل : ان الرواية لا دلالة لها على وجوب الاحتياط على جميع التقادير والفروض المتصورة فيها. فلاحظ.

ومنها : ما رواه ولد شيخ الطائفة الطوسي قدس سره في أماليه ، بإسناده عن أبي هاشم ، داود بن القاسم الجعفري ، عن الرضا علیه السلام : « إن أمير المؤمنين علیه السلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك ، فاحتط لدينك بما شئت » (2).

ص: 478


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.
2- وسائل الشيعة 18 / 122 باب 12 الحديث 41 من أبواب صفات القاضي.

والجواب عنه - كما عن شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره - :

أولا : بان الأمر بالاحتياط في الرواية اما محمول على الإرشاد ، أو على المولوي الجامع بين الوجوب والاستحباب. وذلك لأن حمله على الوجوب كلية يستلزم التخصيص بالأكثر ، وهو مستهجن. بيان الملازمة : ان الشبهات الموضوعية خارجة بنحو مطلق ، سواء فيها الوجوبية والتحريمية. كما ان الشبهة الحكمية الوجوبية أيضا خارجة ، للاتفاق على عدم وجوب الاحتياط في هذه الموارد. وبما انه لا مجال لحمله على الاستحباب ، لوجوب الاحتياط في بعض الفروض ، كموارد العلم الإجمالي. فلا بد اما الحمل على الإرشاد ، وحينئذ يكون اللزوم وعدمه تابعا للمرشد إليه ، كما مرت الإشارة إليه سابقا. أو الحمل على الجامع بين الوجوب والاستحباب.

والنتيجة : انه لا دلالة لها على الوجوب كلية.

وثانيا : ان الظاهر كون الأمر بالاحتياط في الرواية امرا استحبابيا مولويا ، وذلك بقرينة قوله علیه السلام : « بما شئت » فان هذه الجملة تقال في موردين :

أحدهما : لبيان التخيير في مراتب الشيء ، وفي مثل المقام يكون المراد هو التخيير في مراتب الاحتياط. نظير ذلك في الفارسيّة : « بگو هر مقدار كه دلت بخواهد » أو ما تعريبه : « قل ما شئت » فانه يراد به التخيير في مقدار الكلام ، قليلا أو كثيرا.

والآخر : لبيان المرتبة العالية من الشيء ، كما يقال في الفارسية : « اين كار يا سخن .. خوب بود هر مقدار كه دلت بخواهد » أو ما تعريبه : « هذا الفعل أو الكلام .. كان حسنا ما شئت » أي كان في أعلى مراتب الحسن وفي المقام يراد به : المرتبة العالية من الاحتياط.

ص: 479

فان كان المراد بقوله علیه السلام : « بما شئت » المعنى الأوّل ، كان اللازم حمل الأمر بالاحتياط على الإرشاد أو على الجامع بين الوجوب والاستحباب ، وهو مطلق الرجحان. لوجوب بعض مراتب الاحتياط دون بعض. فلا يمكن حمله على الوجوب التخييري بين جميع المراتب. وان كان هو الثاني ، لم يكن مانع من حمله على الاستحباب ، لأنّ حمله على الوجوب غير صحيح ، لعدم وجوب الغاية القصوى والمرحلة العالية من الاحتياط قطعا. وتشبيه الدين بالأخ في الرواية - أخوك دينك .. - يقتضي الحمل على الثاني ، فان الأخوّة هي أعلى مراتب الارتباط بين افراد البشر ، حيث ان الصّلة بين الأخ والأخ هي أعلى مراتب الصّلة ، بالنسبة إلى الصلة مع غير الأخ من الأشخاص أو الأموال.

وحينئذ فجعل الدين بمنزلة الأخ معناه : رجحان المرتبة العالية من الاحتياط بشأن الدين ، كما ان المرتبة العالية من الروابط بين الإخوة متحققة وثابتة (1)(2).

واما روايات التثليث : ك- :

مقبولة عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام - في حديث - قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به عن حكمنا ، وبترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه .. وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه وإلى رسوله. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. فمن ترك

ص: 480


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 210 - الطبعة الأولى.
2- هذا ، ولم يتعرض سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) لسائر الروايات التي تكون بهذا المضمون لما تقدم من المناقشة في روايات الطائفة الثانية ، مضافا إلى ضعف إسنادها.

الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم » (1).

وموضع الاستشهاد في الرواية هو : ( قوله صلی اللّه علیه و آله : « فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات .. ». وهذه الفقرة - ابتداء - لا دلالة لها على وجوب الاحتياط ، إلا بضم مقدمة أشار إليها شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره بها تتم دلالتها على المدّعي ، وهو : ان الرواية دلت على وجوب طرح الخبر الشاذ النادر في مقابل الخبر المجمع عليه ، معلّلا ذلك : بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه. وبمقتضى المقابلة يكون الشاذ مما فيه الريب ، لا أنّ الشاذ يكون مما لا ريب في بطلانه ، بل المقابلة تقتضي ان يكون الشاذ مما فيه الريب. وحينئذ فيدخل الخبر الشاذ تحت الأمر المشكل ، الّذي يجب ان يرد علمه إلى اللّه .. ولا يكون من بيّن الغيّ.

وعلى هذا فاستشهاد الإمام علیه السلام في هذا المقام بقوله صلی اللّه علیه و آله : « حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات ... » يكون دليلا على ان ترك الشبهات واجب ، وإلا لما تم الاستشهاد به لوجوب طرح المشكل الّذي هو موارد الرواية ، كما لا يخفى (2).

فإذا تمت هذه المقدمة تم الاستدلال بالرواية ، وإلاّ فلا. هذا ، ولكن الشأن هو تمامية المقدمة المذكورة ، والظاهر هو عدم تماميتها. فان أساس هذه المقدمة مبتن على ان يكون الخبر الشاذ - بمقتضى المقابلة - مما فيه الريب ، لا مما لا ريب في بطلانه. وقد استشهد شيخنا الأنصاري قدس سره لإثبات ذلك بوجوه ثلاث :

الأول : ان المفروض في الرواية هو تأخر الترجيح بالشهرة عن الترجيح

ص: 481


1- وسائل الشيعة 18 / 114 باب 12 ح 9 من أبواب صفات القاضي.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 211 - الطبعة الأولى.

بالأعدلية والأصدقية ... ، ولو كانت الشهرة توجب كون ما يقابلها - وهو غير المشهور - مما لا ريب في بطلانه ، لكان الترجيح بالشهرة مقدّما على سائر المرجّحات.

الثاني : ان الراوي افترض الشهرة في كلتا الروايتين ، ولازم هذا ان لا يكون مقابل الشهرة داخلا في ما لا ريب في بطلانه ، وإلا لم يعقل فرض الشهرة في كلتا الطائفتين المتعارضتين.

الثالث : انه - على تقدير كون غير المشهور مما لا ريب في بطلانه - تكون الأمور اثنين لا ثلاثة ، فانها اما ان تكون بيّن الرشد أو تكون بيّن الغيّ ، ولا ثالث لهما. مع انه علیه السلام صرّح في الرواية بتثليث الأمور ، مستشهدا لذلك بقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيضا ، الدال على التثليث.

فهذه الشواهد الثلاثة كلها تدل على ان الخبر الشاذ يكون مما فيه الريب ، لا انه يكون مما لا ريب في بطلانه.

وعليه ، فيتم الاستدلال بالرواية ، كما عرفت (1).

ويمكن الجواب عنه : بأن استشهاده علیه السلام بقول النبيّ ( صلی اللّه علیه و آله لا يقتضي كون ترك المشتبه والاجتناب عنه واجبا ، بل يصح الاستشهاد المذكور حتى مع كون الترك راجحا ، بالمعنى الجامع بين الوجوب والاستحباب ، أي مطلق الرجحان.

وذلك : لأن قوله صلی اللّه علیه و آله إرشاد إلى ان في ارتكاب الشبهات مظنة الضرر. والتحرز عن الضّرر قد يكون واجبا ، إذا كان الضرر المحتمل هو العقاب منجزا على تقدير وجوده. وقد لا يكون كذلك ، كما إذا لم يكن العقاب منجزا على تقدير وجوده ، كما في الشبهات الموضوعية مطلقا ، والوجوبية الحكمية

ص: 482


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 211 - الطبعة الأولى.

باتفاق الأصوليين والأخباريين ، والشبهات التحريمية حسب رأي الأصوليّين.

والاستشهاد بمثل هذا الكلام الدال على الجامع بين الوجوب والاستحباب ، لمورد يكون الاجتناب والترك فيه واجبا - كترك الخبر الشاذ الّذي هو مورد الرواية - لا محذور فيه أصلا.

وخلاصة المقال : ان كون مورد الرواية مما يجب تركه ، لا يقتضي ان يكون ترك الشبهات - الّذي استشهد الإمام علیه السلام بقول النبي صلی اللّه علیه و آله بشأنه - أيضا واجبا ، ليكون النبوي - بمقتضى استشهاد الإمام علیه السلام به - دالا على وجوب الاجتناب عن الشبهات ، والاحتياط في موردها ، بل يتناسب ذلك مع رجحان الترك والاحتياط أيضا ، فلا دلالة للرواية - اذن - على وجوب الاحتياط.

ثم ان شيخنا العلامة الأنصاري قدس سره أيد دعواه بعدم دلالة النبوي - الّذي استشهد به الإمام علیه السلام - على وجوب الاحتياط ، بوجهين :

الأول : عموم النبوي للشبهات التحريمية الموضوعية. فقد اتفق الأخباريون على عدم وجوب الاحتياط فيها. ولا يمكن الالتزام بدلالة النبوي على الوجوب ، مع خروج الشبهات التحريمية الموضوعية تخصيصا. أما أوّلا : فلكونه تخصيصا مستهجنا ، لكونه من التخصيص بالأكثر. وثانيا : سياق النبوي آب عن التخصيص ، فان النبوي وارد في مقام حصر المشتبه كلّه. وحينئذ فإمّا ان تكون الشبهة التحريمية الموضوعية داخلة في القسم الثالث ، ولازمه وجوب الاحتياط فيها ، وإلا لم يكن الحصر حاصرا لوجود ما يكون خارجا عن الأقسام الثلاثة المذكورة في الرواية ، فان خروجها عن الحلال البيّن والحرام البيّن ظاهر ، فلو كانت خارجة عن القسم الثالث لزم ما ذكرناه ، كما هو ظاهر.

الثاني : ان النبوي دال على أنّ ارتكاب الشبهات مما يؤدي بالمرتكب لها

ص: 483

إلى الوقوع في الحرام. وليس المراد بذلك ان ارتكاب مجموع موارد الشبهة مما يكون كذلك ، باعتبار : أن في ضمن موارد الشبهة - بالعلم الإجمالي - مقدارا من الحرام الواقعي ، حيث نعلم إجمالا ان في ضمن الكمية الكثيرة من الموارد المشتبه بها ، محرمات واقعية أيضا ، يكون المرتكب لجميع موارد الشبهة قطعا وبالعلم الإجمالي مرتكبا لجملة من المحرمات الواقعية أيضا ، بأن تكون الرواية في مقام التحذير عن ارتكاب المجموع. ليس الأمر كذلك ، بل المراد ان ارتكاب الشبهة بها هي شبهة - أي : جنس الشبهة - مما ينجر بالمرتكب إلى الوقوع في الحرام لا محالة. والدليل على ذلك :

أولا : ان النبويّ في مقام تصوير قسم ثالث ، ليس هو بالحلال البيّن ، ولا بالحرام البيّن ، وهو المشتبه ، ولا يناسب هذا إرادة المجموع من المشتبه ، فان المجموع لا يمكن فرضه مقابلا للقسمين ، كما هو ظاهر. بل المناسب له إرادة الجنس من المشتبه ، فانه - على هذا - يكون قسما ثالثا في مقابل القسمين الأوّلين.

وثانيا : ان الإمام علیه السلام قد استشهد بالنبوي لترك الخبر الشاذ النادر ، ولو كان المراد بالشبهة - في النبوي - المجموع دون الجنس ، لما تم الاستشهاد المذكور ، كما لا يخفى.

وعليه ، فالمراد بالنبوي : ان ارتكاب الشبهة بما هي شبهة - أي : الجنس - مما يشرف بالمرتكب إلى الوقوع في الحرام ، كالإشراف في مجاز المشارفة ، فمرتكب الشبهة مشرف على ارتكاب الحرام ، كما ان من يراعى بغنمه حول الحمى مشرف على الدخول في الحمى ، كما وقع التشبيه بذلك في بعض الروايات.

وعلى هذا ، فغاية ما يستفاد من النبوي هو : ان ارتكاب الشبهة إشراف على ارتكاب الحرام ، فلا بد لمن يريد الاستدلال بالرواية لحرمة ارتكاب الشبهة من إثبات حرمة الاشراف على الحرام أيضا.

وثالثا : الروايات الكثيرة المساوقة لهذه الرواية الظاهرة - لقرائن مذكورة

ص: 484

فيها - في الاستحباب ..

كرواية نعمان بن بشير ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لكلّ ملك حمى ، وحمى اللّه حرامه وحلاله ، والمشتبهات بين ذلك. لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن يقع في وسطه. فدعوا الشبهات » (1).

ومرسلة الصدوق رحمه اللّه : أنه خطب أمير المؤمنين علیه السلام وقال : « حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم ، فهو لما استبان له أترك. والمعاصي حمى اللّه ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (2).

ورواية أبي جعفر الباقر علیه السلام قال : « قال جدّي رسول اللّه ( صلی اللّه علیه و آله - في حديث يأمر بترك الشبهات بين الحلال والحرام - : من رعى غنمه قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى. ألا وإنّ لكل ملك حمى ، ألا وإنّ حمى اللّه محارمه ، فاتّقوا حمى اللّه ومحارمه » (3).

وما ورد ، من أنّ : « في حلال الدنيا حسابا ، وفي حرامها عقابا ، وفي الشبهات عتابا » (4).

ورواية فضيل بن عيّاض ، قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : من الورع من النّاس؟. قال : الّذي يتورّع من محارم اللّه ، ويتجنب هؤلاء ، فإذا لم يتّق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه » (5) (6).

ص: 485


1- وسائل الشيعة 18 / 122 باب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 40.
2- وسائل الشيعة 18 / 118 باب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 22.
3- وسائل الشيعة 18 / 124 باب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 47.
4- كفاية الأثر / 227.
5- بحار الأنوار 70 / 303 - الحديث 348.
6- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 212 - الطبعة الأولى.

واما العقل : فقد استدل به على الاحتياط بوجوه :

الوجه الأول : وهو العمدة فيها - دعوى العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في موارد الشك في الوجوب والحرمة ، وقد تقرر في محله لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ، فلا بد من فعل كل ما احتمل وجوبه وترك كل ما احتمل حرمته تفريغا للذمة المشغولة قطعا. ولا خلاف في ذلك إلا من بعض الأصحاب.

هذا تقرير الوجه الأول كما جاء في الكفاية.

وقد أجاب عنه قدس سره : بدعوى انحلال العلم الإجمالي (1).

ولتوضيح مراد الكفاية نشير إلى صور الانحلال وعدم منجزية العلم الإجمالي ، وهي ثلاثة :

الأول : الانحلال الحقيقي التكويني بواسطة العلم التفصيليّ بالمعلوم بالإجمال ، كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة بول في أحد هذين الإناءين ، ثم علم تفصيلا بان قطرة البول في هذا الإناء المعين ، فان العلم الإجمالي يزول قهرا ، إذ لا تردد بعد العلم التفصيليّ.

الثاني : الانحلال الحكمي ، وهو زوال أثر العلم الإجمالي من التنجيز وان كان باقيا بنفسه ، وذلك كما في موارد قيام الأمارة على تعيين المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ، فانه لا يكون منجزا في الطرف الآخر.

الثالث : الانحلال الحقيقي ، ولكن لا بواسطة حدوث علم تفصيلي ، بل بواسطة انكشاف عدم تعلق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير فيزول أثره وهو التنجيز ، ويصح ان نعبر عن مثل هذا العلم الإجمالي بالعلم

ص: 486


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /346- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الإجمالي البدوي لأنه يزول بعد ذلك. كما في موارد تعلق العلم الإجمالي بتكليف مردّد بين ما هو محل الابتلاء وما هو ليس بمحل الابتلاء ، فان العلم الإجمالي يحدث بدوا ، لكن بعد معرفة ان أحد طرفيه خارج عن مورد الابتلاء المنافي لتعلق التكليف الفعلي به ، يزول العلم وينكشف بأنه لا تكليف على كل تقدير من أول الأمر وان العلم الإجمالي كان وهميا. فهذه الصورة ليست عبارة عن انحلال العلم الإجمالي ، بل عبارة عن زواله لانكشاف الخلاف. نظير موارد الشك الساري.

ويجمع كل هذه الموارد عدم تنجيز العلم الإجمالي.

وغرضنا في هذا المقام هو : الإشارة إلى المطلب بعنوان الدعوى ، فلسنا بصدد بيان السر في تحقق الانحلال وعدم تنجيز العلم الإجمالي في هذه الموارد ، فان له مجالا آخر يأتي إن شاء اللّه تعالى.

إذا تبين ذلك ، فقد جمع صاحب الكفاية في جوابه جميع صور الانحلال.

فقد أشار إلى دعوى الانحلال الحقيقي التكويني - وهو الصورة الأولى - في ذيل كلامه بقوله : « هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية ... ». وتوضيحه : ان العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في ضمن المشتبهات ينحل بالعلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية في موارد الطرق الشرعية بمقدار المعلوم بالإجمال ، فينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، ولا يتنجز سوى موارد الطرق الشرعية دون المشتبهات التي لم يقم طريق شرعي عليها.

كما التزم بالانحلال بالنحو الثالث في صدر جوابه ، وبيانه : ان قيام الأمارة والطريق الشرعي على الحكم يمنع من فعلية الواقع في موردها لامتناع اجتماع حكمين فعليين - كما بيّن ذلك في محله -.

وعليه ، فالمكلف كما يعلم بثبوت تكاليف واقعية في ضمن المشتبهات ، يعلم بثبوت طرق وأصول مثبتة للتكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال أو أزيد.

ص: 487

وهذا يمنع من منجزية العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية ، إذ هو لا يعلم بثبوت الأحكام الواقعية الفعلية على كل تقدير ، بل على خصوص تقدير غير موارد قيام الطرق ، لعدم فعلية الواقع في موارد الطرق.

ومثله لا يكون منجزا ، إذ هو لا يعلم بثبوت أحكام فعلية غير ما قامت عليه الطرق والأصول العملية. فيكون المورد من قبيل تعلق العلم الإجمالي بتكليف مردد بين ما هو محل الابتلاء وما هو ليس محل الابتلاء.

ثم انه بعد ان ذكر ذلك أورد على نفسه : ان العلم بالحكم الفعلي هاهنا متأخر ، لأن العلم الإجمالي بالتكاليف ينشأ من أول البلوغ والالتفات إلى وجود شريعة ودين ، وبعد ذلك يحصل العلم بثبوت تكاليف فعلية في موارد الطرق والأصول العملية ، والعلم المتأخر لا ينفع في انحلال العلم الإجمالي السابق ، فلا يدعي أحد انحلال العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين بالعلم التفصيليّ بنجاسة أحدهما المعين المتأخرة وبسبب آخر.

وأجاب عنه : بان المناط في الانحلال هو مقارنة المعلوم لا العلم ، فإذا تعلق العلم الإجمالي المتأخر بما يقارن العلم الإجمالي تحقق انحلال العلم الإجمالي ، ولذا لو علم - مؤخرا - بنجاسة أحد الإناءين المعين التي هي المعلومة بالإجمال انحل العلم الإجمالي السابق.

وعليه ، فالحكم الفعلي الثابت في مورد الأمارة سابق الحدوث والمتأخر هو العلم به ، فالتكليف الواقعي ليس فعليا في مورده من السابق ، فلاحظ.

والسر في عدم تنجيز العلم بواسطة ذلك : ما أشار إليه الشيخ رحمه اللّه في أول مبحث القطع من : ان القطع يكون حجة ما دام موجودا ، فإذا زال فلا حجية له (1). وقد عرفت ان العلم الإجمالي هاهنا يزول بالعلم بالطرق المثبتة

ص: 488


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /2- الطبعة الأولى.

للتكاليف.

ودعوى : ان ذلك غير مطرد ، إذ قد يزول العلم مع بقاء تنجزه ، كما لو طهّر أحد الإناءين المشتبهين بالنجاسة ، فانه لا بد من الاجتناب عن الإناء المشتبه الآخر بلا إشكال.

تندفع : بان التطهير لا يكون سببا لزوال العلم بنجاسة أحد الإناءين قبل تحققه ، فهو فعلا يعلم بنجاسة أحد الإناءين قبل التطهير - على ان يكون ( قبل التطهير ) قيدا للنجاسة لا العلم ، وهو سبب تنجيز التكليف بعد تحقق التطهير. فالعلم باق لم يزل ، بخلاف ما نحن فيه على ما عرفت.

وأما الانحلال الحكمي ، فقد التزم به في جواب إيراد أورده على نفسه بعد جواب الإيراد السابق.

ومحصل الإيراد ان ما أفيد انما يتم بناء على الالتزام بان المجعول في باب الأمارات والطرق أحكام فعلية ، واما بناء على ان المجعول هو المنجزية والمعذرية - كما عليه صاحب الكفاية - فلا يتم ما ذكر ، لأنه لا تزول فعلية الواقع بقيام الأمارة ، فالحكم الواقعي المعلوم بالإجمال فعلي على كل تقدير - تقدير الأمارة وتقدير غيرها -.

وأجاب عنه : بالالتزام بالانحلال الحكمي - على هذا المبنى الصحيح في المجعول في باب الأمارات - بدعوى : ان نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون بحكم الانحلال عقلا ويستلزم صرف تنجزه إلى ما إذا كان التكليف الواقعي في ذلك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف. ومثّل له بما إذا علم بحرمة إناء زيد بين الإناءين وقامت البينة على ان هذا إناء زيد ، فانه لا شك في عدم لزوم الاجتناب عن الإناء الآخر ، كما لو علم تفصيلا إناء زيد.

وتوضيح ما ذكره قدس سره : أن لدينا موردين لانحلال العلم وعدم

ص: 489

تنجيزه.

أحدهما : ما إذا كان في أحد الطرفين أصل مثبت ، فانه يمنع من تنجيز العلم الإجمالي ، ويصح إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر.

وهذا يختص بالقول بان العلم الإجمالي مقتضى للتنجيز. أما على القول بأنه علة تامة له فلا مجال لجريان الأصل النافي أصلا.

ثانيهما : ما إذا قامت إمارة على تعيين المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين ، وهو مورد الانحلال الحكمي ، فمورد الانحلال الحكمي يختلف عن مورد قيام الأصل المثبت في طرف والنافي في الطرف الآخر.

والوجه في الانحلال الحكمي ..

أما ما ادعاه صاحب الكفاية من استلزام دليل الحجية لصرف التنجيز فهو مجمل ومجرد دعوى بلا ان يقيم عليها دليل.

نعم قد يوجّه بوجهين :

أحدهما : إرجاع مورد قيام الأمارة على طرف إلى مورد قيام الأصل المثبت في طرف ، ويكون الجامع كل مورد يقوم الدليل - من أصل أو أمارة - على إثبات التكليف في طرف ونفيه في الطرف الآخر ، يرتفع تأثير العلم الإجمالي - هذا لا بد منه ، لأنه في موارد الانحلال الحكمي يلتزم به مطلقا - بلا تفرقة بين الالتزام بعلية العلم الإجمالي للتنجيز أو باقتضائه. وعليه فلا ثمرة للخلاف المزبور إلا فرضا.

ولكن هذا لا ينفعنا فيما نحن فيه ، وانما ينفع في موارد الشبهة الموضوعية ، فان البينة على وقوع النجاسة المرددة بين الإناءين في هذا الإناء بيّنة على عدم وقوعها في الإناء الآخر ، لأنه مدلول التزامي لوقوعها في ذلك الإناء ، فهنا دليل مثبت ودليل مناف.

أما فيما نحن فيه ، فالخبر الّذي يتكفل حكم باب الصلاة لا ينفي الحكم

ص: 490

المشكوك في باب الصوم ، إذ ليس المعلوم بالإجمال أحكاما معدودة بعدد خاص لا تزيد عليه حتى يستلزم قيام الطرق على ثبوت ذلك العدد في موارد نفيها بالملازمة في الموارد الأخرى.

والآخر : من ان المتنجز لا يتنجز ، فإذا قامت الأمارة على الحكم في مورد كان منجزا ، فيمتنع ان يتنجز ثانيا بالعلم الإجمالي. وعليه فلا يكون العلم الإجمالي منجزا على كل تقدير ، فلا أثر له.

ولكن هذا مما لا يمكن ان يوجه به كلام الكفاية لأنه يبتني - كما لا يخفى - على ان يكون الطريق بوجوده الواقعي - بقيد كونه في معرض الوصول - حجة ومنجزا ، لا مقيدا بالوصول وهو مما لا يلتزم به صاحب الكفاية. وان التزم به المحقق الأصفهاني (1). واخترناه سابقا في مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية. فراجع (2).

هذا تمام الكلام في بيان جواب صاحب الكفاية عن دعوى العلم الإجمالي.

وقد اقتصرنا على إيضاح كلامه والإشارة إلى مبانيه ، بلا دخول معه في نقض وإبرام ، فان له محلا آخر سيأتي الكلام فيه مفصلا عن الانحلال وشئونه وأنحائه والدليل عليه ، وستعرف إن شاء اللّه تعالى مدى تمامية الكلام الكفاية وعدمه عند ما تصل النوبة إليه.

ويكفينا هنا في رد دعوى العلم الإجمالي الالتزام بالانحلال الحقيقي بواسطة العلم الإجمالي الصغير. وقد قربنا كيفية انحلال العلم الإجمالي به في مقدمات دليل الانسداد. فراجع (3).

ص: 491


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 200 - الطبعة الأولى.
2- راجع / 196 من هذا الجزء.
3- راجع / 298 من هذا الجزء.

الوجه الثاني : ما قيل من ان العقل يستقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية حتى يرد الترخيص من الشرع.

وقد يوجّه ذلك بوجه استحساني وهو : ان العبد لما كان مملوكا للمولى كانت تصرفاته بيد المولى ، فتصرفه في شيء بدون اذن المولى تصرف في سلطان المولى ، وهو مما يحكم العقل بقبحه ، لأنه خروج عن زي الرقية ومقتضى العبودية.

وأجاب عنه في الكفاية بوجوه :

الأول : بان هذه المسألة محل خلاف فلا يتجه الاستدلال بأحد القولين فيها ، وإلاّ لأمكن التمسك للبراءة بالرأي الآخر القائل بان الأفعال على الإباحة لا على الحظر.

الثاني : انه ورد الترخيص شرعا ، لما عرفت من قيام الأدلة على الإباحة شرعا ، ولا تعارضها أدلة الاحتياط.

الثالث : ان تلك المسألة تختلف عما نحن فيه ، ولعل الوجه فيه هو ان الكلام في تلك المسألة بلحاظ ما قبل الشرع ، والكلام في البراءة والاحتياط بلحاظ ما بعد الشرع ، وهذا الفرق يمكن ان يكون فارقا اعتبارا ، فلا يلازم القول بالوقف في تلك المسألة للاحتياط في هذه المسألة ، بل قد يحكم العقل فيها بالبراءة استنادا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (1).

الوجه الثالث : ان محتمل الحرمة يحتمل الضرر لاحتمال المفسدة فيه ، ودفع الضرر المحتمل واجب.

والجواب عنه كما في الكفاية (2) - وقد مرّ تفصيل الكلام فيه صغرى وكبرى - : بان احتمال الحرمة يلازم احتمال المفسدة لا احتمال الضرر ، والمفسدة

ص: 492


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /348- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /218- الطبعة الأولى.

المحتملة ليست بضرر ، إذ المصالح والمفاسد لا ترجع إلى المنافع والمضار ، بل يكون الأمر بالعكس. إذن فالصغرى ممنوعة مضافا إلى منع الكبرى ، لعدم كون الضرر المقطوع فضلا عن المحتمل مما يجب التحرز عنه عقلا دائما ، بل قد يجب ارتكابه ، إذا ترتب عليه ما هو أهم منه بنظر العقل. فتدبر.

هذا تمام الكلام في أدلة الاحتياط. وقد عرفت عدم نهوض شيء منها لإثبات الاحتياط في الشبهات الحكمية.

وأما أدلة البراءة ، فقد عرفت ان عمدتها لا يستفاد منه أكثر من القاعدة العقلية - لو تمت -.

نعم ، حديث الرفع يستفاد منه جعل الحلية شرعا ، لكنه ضعيف السند فلا يعول عليه.

وأما حديث الحجب ، فهو وان كان تام السند ، لكن عرفت ما يدور حول دلالته من مناقشة فلا يصلح لأن يعتمد عليه في المقام إلا إذا حصل الجزم بدلالته.

ص: 493

وينبغي التنبيه على أمور :

التنبيه الأول : أن أصل البراءة إنما يجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي في مورده ، لأن الأصل الجاري في الموضوع يتقدم على الأصل الجاري في الحكم بالحكومة أو بالورود - على الخلاف في ذلك - ، فان الأصل السببي متقدم على الأصل المسببي بلا كلام ، وانما البحث في وجه تقدمه وأنه بالحكومة أو بالورود أو غيرهما؟.

وقد حمل المحقق النائيني عبارة الشيخ (1) على إرادة كل أصل حاكم على أصل البراءة ولو كان جاريا في الحكم كالاستصحاب المثبت للتكليف ، لأنه يتقدم على البراءة بلا إشكال (2).

وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه ، إلا ان حمل كلام الشيخ عليه بلا ملزم ، لأنه خلاف الظاهر من كلامه ، خصوصا وان المثال الّذي يدور البحث حوله في المسألة ، من قبيل ما إذا جرى الأصل في موضوع الحكم المشكوك ، وهو أصالة عدم التذكية.

وعلى كل حال ، فأصل المطلب بنحو الكلية معلوم لا كلام فيه.

إنما الكلام في الفرع المذكور في المسألة ، وهو ما إذا شك في حلية حيوان لأجل الشك في التذكية ، فهل تجري أصالة عدم التذكية ، وحينئذ لا مجال لأصالة البراءة ، أو لا تجري؟. ولا بأس بتفصيل الحديث فيه لعدم التعرض إليه في غير هذا المحل من الأصول.

وقد ذكر : ان الشبهة تارة تكون حكمية. وأخرى موضوعية.

ص: 494


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /218- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول3/ 380 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والشبهة الحكمية تارة : تنشأ من الشك في قابلية الحيوان للتذكية ، فيشك في حليته لذلك ، كالحيوان المتولد من الغنم والكلب ولم يلحق أحدهما في الاسم. وأخرى يعلم بقابليته للتذكية ، لكن يشك في حلية أكل لحمه ذاتا كالأرنب مثلا.

والشبهة الموضوعية أيضا كذلك ، فتارة يشك في حلية لحم الحيوان لأجل الشك في تحقق التذكية. وأخرى يشك فيها لأجل الشك في انه من لحم حيوان محلل الأكل كالغنم ، أو محرمة كالفأر ، مع العلم بتحقق التذكية.

ولا يخفى ان البحث في جريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية يتوقف على أمرين :

أحدهما : عدم وجود عموم أو إطلاق يدل على قبول كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل. وإلا كان هذا العموم متكفلا لإثبات القابلية في مورد الشك ، فلا مجال للأصل.

والآخر : ان يفرض كون موضوع حرمة اللحم أمرا عدميا وهو غير المذكى ، لا أمرا وجوديا وهو الميتة - بناء على انها أمر وجودي -.

وتوضيح ذلك : ان الأقوال في هذا الباب ثلاثة :

فقول : بان موضوع الحرمة والنجاسة هو الميتة ، وهي أمر وجودي لازم لعدم التذكية.

وقول : بان موضوع الحرمة والنجاسة أمر عدمي ، وهو غير المذكى.

وقول : بالتفصيل بين حرمة الأكل ، فموضوعها الأمر العدمي والنجاسة ، فموضوعها الأمر الوجوديّ. وهو المنسوب إلى الشهيد ، ولذا حكم بحرمة أكل الحيوان المتولد من حيوانين أحدهما محلل الأكل والآخر محرمة ولم يلحق أحدهما بالاسم ، وطهارته. فإذا كان موضوع الحرمة هو الأمر الوجوديّ لم تنفع أصالة عدم التذكية - على تقدير جريانها - في إثبات الحرمة إلا بناء على الأصل المثبت. فلا بد من فرض الموضوع غير المذكى كي تترتب الحرمة على أصل عدم التذكية

ص: 495

من ترتب الحكم على موضوعه.

وإذا تبين ذلك ، فنعود إلى أصل الكلام وهو : انه هل تجري أصالة عدم التذكية مع الشك في قابلية الحيوان للتذكية أو لا تجري؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى جريانها ، وحكم بحرمة اللحم ، لأن الحرمة تترتب على غير المذكى كما تترتب على الميتة (1).

ولتحقيق الحال فيما ذهب إليه قدس سره نقول : ان المحتملات المذكورة لمعنى التذكية ثلاثة :

الأول : انها عبارة عن المجموع المركب من الأفعال الخاصة - كفري الأوداج بالحديد والبسملة - ، ومن قابلية المحل ، فتكون قابلية المحل مأخوذة في معنى التذكية بنحو الجزئية.

الثاني : انها عبارة عن مجرد الأفعال الخاصة ، ولكن بقيد ورودها على المحل القابل ، فالقابلية مأخوذة بنحو الشرطية وخارجة أن مفهوم التذكية.

الثالث : انها عبارة عن أمر بسيط وحداني يترتب على الأفعال الخاصة ، نظير الطهارة بالنسبة إلى افعال الوضوء.

ولا يخفى انه بناء على الثالث يصح إجراء أصالة عدم التذكية عند الشك في تحققها ، لأنها أمر حادث مسبوق بالعدم ، فيستصحب مع الشك في ارتفاعه بالوجود ، سواء في ذلك موارد الشبهة الحكمية والموضوعية.

وأما بناء على الأول ، فمع الشك في ثبوت القابلية للحيوان ، بشكل استصحاب عدمها ، لأنه ليس لها حالة سابقة ، بل الحيوان عند وجوده إما ان يكون له قابلية أو لا يكون.

ص: 496


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /348- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وليس وصف المجموع هو الموضوع له كي يستصحب عدمه مع الشك ، بل الموضوع له هو ذوات الاجزاء ، والتعبير بالمجموع طريقي.

وهكذا الحال بناء على الثاني.

وقد يلتزم بناء على هذين الوجهين بجريان أصالة عدم القابلية بنحو استصحاب العدم الأزلي.

ولكن جريانه يتوقف على مقدمتين :

الأولى : كون موضوع الحرمة هو الحيوان مع عدم التذكية ، على ان يؤخذ عدم التذكية بنحو التركيب المعبّر عنه بالعدم المحمولي ، لا التوصيف المعبّر عنه بالعدم النعتيّ ، إذ قد تقدم أن أساس استصحاب العدم الأزلي هو أن يرد عام ثم يرد خاص فيخصص العام ، ويستلزم ذلك تعنون العام بعنوان عدم الخاصّ بنحو التركيب ، فيكون موضوع الحكم مركبا من العام وعدم الخاصّ ، فإذا أحرز العام بإحراز عدم الخاصّ بالأصل ثبت الحكم ، أما إذا أخذ بنحو التوصيف وكان الموضوع هو العام المتصف بعدم الخصوصية ، فاستصحاب العدم الأزلي لا ينفع في إثبات الحكم إلا بناء على الأصل المثبت.

الثانية : ان يلتزم في محله يجريان الأصل الأزلي مطلقا ، بلا تفصيل بين ما كان الوصف في مرتبة نفس الذات فلا محرز فيه ، وما كان في مرتبة الوجود ومن عوارض الوجود فيجري فيه ، إذ مع الالتزام بهذا التفصيل - وهو الّذي نختاره بناء على عدم إنكار استصحاب العدم الأزلي رأسا كما قربناه - لا مجال لجريان أصالة عدم القابلية ، لأنها عن الأوصاف الذاتيّة وفي مرتبة نفس الذات. فأصالة عدم القابلية بنحو استصحاب العدم الأزلي انما تجري بعد فرض هاتين المقدمتين. وكلاهما محل إشكال.

هذا بالنسبة إلى الشبهة الحكمية.

أما بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية ، فانما لا تجري أصالة عدم التذكية

ص: 497

فيها - بناء على هذين الوجهين -.

إذا كان الشك من جهة الشك في القابلية ، كما إذا تردد أمر اللحم المطروح بين ان يكون لحم حيوان قابل للتذكية كالغنم ، أو لحم حيوان غير قابل للتذكية كالكلب.

أما إذا كان الشك من جهة تحقق بعض الأفعال الخاصة ، فلا إشكال في جريان الأصل في نفيها ، لأنها أمور حادثة والأصل عدم الحادث.

ثم إنه ينبغي إيقاع الكلام في ان معنى التذكية أي هذه المعاني الثلاثة ، وهل هي اسم للسبب أو للمسبب؟. فنقول :

أما المحتمل الأول ، وهو كونها اسم للمجموع المركب من الأفعال الخاصة والقابلية ، بحيث تكون القابلية جزء المعنى ، فلا يمكن الالتزام به لوضوح ان التذكية من المعاني الحدثية القابلة للاشتقاق ، فيشتق منها الفعل والفاعل والمفعول وغير ذلك من أنحاء الاشتقاقات ، وهذا لا يتلاءم مع وضعها للمجموع المركب ، لأن القابلية ليست من المعاني الحدثية ، بل هي من الجوامد غير القابلة للاشتقاق كما لا يخفى.

وأما المعنى الثاني وهو كونها اسما للافعال الخاصة في المورد القابل ، فلا يرد عليه ما ذكر ، إذ الموضوع له هو الحصة الخاصة من الأفعال وهي معنى حدثي ، نظير وضع البيع لتمليك عين ما ، مع ان العين ليست من المعاني الحدثية. لكن يرد عليه انه لا يتلاءم مع بعض استعمالات لفظ التذكية في النصوص ، وذلك كاستعمالها بإضافتها ونسبتها إلى المورد المعلوم القابلية كالغنم. فيقال : « ذكّاه الذابح » ، وفي مثله لا يمكن ان يراد منه المعنى المزبور ، إذ معناها هو الذبح في المورد القابل ، ولا معنى لأن يراد : « اذبح في المورد القابل الغنم » ، لأن معنى : « ذكّ الغنم » هو ذلك على هذا الوجه. وهو مما لا محصل له.

وأما المعنى الثالث وهو كونه امرا بسيطا مترتبا على الأفعال الخاصة. فقد

ص: 498

نفاه المحقق النائيني (1) بأنه خلاف ظاهر نسبة التذكية إلى الفاعلين في قوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (2).

وما أفاده يبتني على دعوى ظهور اسناد الفعل في المباشرة خاصة لا الأعم من المباشرة والتسبيب.

والعمدة في نفي المعنى الثالث هو : ان الأمر البسيط المفروض ترتبه على هذه الأفعال الخاصة إما ان يكون امرا واقعيا تكوينيا أو يكون أمرا اعتباريا مجعولا.

أما الأول : فممنوع للجزم بعدم وجود أثر واقعي يختلف الحال فيه وجودا وعدما بقول باسم اللّه وعدمه ، بحيث يكون قول باسم اللّه تأثير واقعي فيه.

وأما الثاني : فهو يقتضي فرض حكم وضعي متوسط بين الأفعال الخاصة والحكم الوضعي بالطهارة والتكليفي بالحلية ، وهو مما لا داعي إليه ولا نرى له أثرا مصححا فيكون لغوا.

وإذا ثبت عدم صحة الالتزام بكل هذه المعاني ، فقد يلتزم بان التذكية عبارة عن نفس الأفعال الخاصة بلا ان يكون لقابلية المحل دخل في المسمى لا بنحو الجزئية ولا الشرطية. نعم هي شرطه في تأثير الأفعال في ترتب حكم الحلية أو الطهارة. وإلى ذلك ذهب المحقق النائيني (3).

والتحقيق : ان التذكية بمفهومها العرفي عبارة عما يساوق النزاهة والنظافة والطهارة ، ويمكننا ان نقول ان المراد بها في موارد الاستعمالات الشرعية من النصوص والكتاب هو المعنى العرفي لها فتكون التذكية هي الطهارة ، لا أنها موضوع للحكم بالطهارة.

ص: 499


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 380 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- سورة المائدة ، الآية : 3.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 382 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والوجه في ذلك :

أولا : انه لا وجه لصرف اللفظ عما له من المعنى العرفي إلى معنى جديد مستحدث ، فانه مما يحتاج إلى قرينة ودليل وهو مفقود في المقام.

وثانيا : انه لم نعثر - بعد الفحص في النصوص - على مورد رتّب الحكم بالطهارة فيه على التذكية ، بحيث يظهر منه أن التذكية غير الطهارة. فهذا مما يشهد بان المراد بالتذكية هو الطهارة. وتكون الأفعال الخاصة دخيلة في تحقق الطهارة بعد الموت ، أو فقل دخيلة في بقاء الطهارة إلى ما بعد الموت ، لأن الحكم ببقاء الطهارة بيد الشارع وقد رتّبه على الأفعال الخاصة.

وعلى هذا ، فلو شك في قابلية الحيوان للتذكية فهو شك في طهارته بعد الموت بالافعال الخاصة ، ومقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة ، فيكون الأصل متكفلا لإثبات التذكية لا لنفيها.

وبالجملة : الكلام السابق كله يبتني على فرض التذكية أمرا غير الطهارة والحلية ، ولذا جعلت موضوعا لهما ، مع أن الواقع خلافه ، إذ لم يرد ما يظهر منه ترتيب الطهارة على التذكية بحيث يفرض لها أثران ، فالتذكية بحسب ما نراه هي الطهارة لا غير ، فيصح لنا ان نقول انها اسم للمسبب لا للسبب ، وهو الأفعال الخاصة ، وإن أطلق عليها في بعض الأحيان لفظ التذكية ، لكنه كإطلاق لفظ التطهير على الغسل ، من باب إطلاق لفظ المسبب على السبب وهو كثير عرفا.

نعم يبقى سؤال وهو : ان هذه الأفعال الخاصة يترتب عليها في بعض الحيوانات الحلية والطهارة كالغنم ، وفي بعض آخر الطهارة فقط كالسباع ، وفي بعض ثالث يترتب عليها الحية دون الطهارة كالسمك ، فانه طاهر مطلقا ولو بعد الموت ، وانما يترتب على الأفعال الخاصة فيه الحلية ، واما طهارته فهي ثابتة أجريت الأفعال الخاصة أو لا ، مع أنه قد عبّر عن إخراجه من الماء حيا بالذكاة ،

ص: 500

فانه يكشف عن ان التذكية غير الطهارة ، إذ هي متحققة ولو لم يتحقق إخراجه حيا من الماء.

والجواب : أنه بعد ورود التعبير بالذكاة عن الطهارة كما ورد في مطهرية الشمس (1) ، وورود النص في خصوص السمك بان اللّه سبحانه قد ذكّاه (2) ، أو أنه ذكيّ (3) ، يسهل الحال في التعبير بالذكاة عن إخراجه حيّا.

وذلك لأن حلية الأكل في سائر الحيوانات تترتب على طهارته المرادة من التذكية. أما السمك فلا تترتب الحلية فيه على الطهارة ، لأنه طاهر ولو كان ميتة ، وإنما تترتب الحلية فيه على أمر آخر وهو إخراجه من الماء حيّا - مثلا -.

وعليه ، نقول : بعد فرض التعبير عن الطهارة بالتذكية في خصوص السمك وفي غيره ، وبعد فرض أن أثر الطهارة في غير مورد السمك هو حلية الأكل لم يكن خلاف المتعارف أن يعبر عن موضوع الحلية في السمك بالتذكية من باب التنزيل والحكومة ، بل هو من المتداول عرفا ، فإذا كان من المتعارف أن تكون الأجرة على عمل ما دينارا ، فإذا لم يرد الأجير ان يأخذ الدينار وانما أراد شيئا آخر ، فقد يقول : أجرتي ان تكون أخلاقك حسنة - مثلا - ، أو غير ذلك.

وعليه ، فالتعبير بالتذكية عن إخراج السمك من الماء حيا تعبير من باب التنزيل والحكومة. وهو مما لا مانع منه عرفا ، ويحمل عليه الكلام قهرا للمناسبة المزبورة. فلاحظ.

وبالجملة : لا نرى ما يصرف لفظ التذكية عن معناه العرفي ، فلا محيص عن الالتزام بان المراد بها هو الطهارة وانها ليست شيئا آخر غير الطهارة كما عليه القوم.

ص: 501


1- وسائل الشيعة : باب 29 من أبواب النجاسات.
2- مجمع البحرين : مادة ذكا.
3- وسائل الشيعة : 26 / 360 باب 31.

وأما قابلية المحل : فهي مما لا محصل له بحسب مقام الإثبات ، فان الالتزام بوجود أمر غير الأفعال الخاصة وغير خصوصية الحيوان من كونه غنما أو غيره يعبر عنه بقابلية المحل ، بحيث يكون محلا للنفي والإثبات ، مما لا وجه له أصلا ولا موهم له من نصّ وغيره. فما الفرق بين اللحوم وبين سائر موضوعات التحريم أو الحلية المأخوذ فيها قيود خاصة ، فلم لا يلتزم بمثل ذلك في مثل العنب إذا غلى الّذي تترتب عليه الحرمة ونحوه. فليس لدينا سوى الذات الخاصة التي يترتب عليها الحكم التكليفي من حلية وحرمة بقيود خاصة معلومة من فري الأوداج وذكر اللّه تعالى والاستقبال. وبتعبير آخر الّذي يلتزم به هو ان الموضوع للحلية وهو الذات مع أفعال خاصة من الذبح أو النحر أو الفري أو الإخراج من الماء حيا بقيود خاصة. أما قابلية المحل فهو ، أمر وهمي لا دليل عليه ولا موهم له ولو ظنا ، ففرض ثبوت وصف القابلية وإيقاع البحث في نفيه وإثباته بالأصل العملي ، والكلام في صحة إجراء الأصل فيه ، أمر لا نعرف وجهه ومدركه.

وإلى ما ذكرنا أشار المحقق الأصفهاني ، ولكنه ببيان يختلف عن البيان الّذي ذكرناه ، فلاحظ وتدبر (1).

وعلى أي حال ، فقد عرفت المقصود بالتذكية وتحقيق حالها.

وبعد ذلك يقع الكلام - بناء على مسلك القوم من ترتيب أثرين على التذكية - كما إذا أخذت التذكية بمعنى الأفعال الخاصة من الذبح أو النحر - هما الحلية والطهارة ، وأثرين على عدمها وهما الحرمة والنجاسة - في : أن موضوع الحرمة والنجاسة وموضوع الحلية والطهارة هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي أو التفكيك بين الحرمة والنجاسة ، فيلتزم بترتب النجاسة على عنوان وجودي فقط

ص: 502


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 211 - الطبعة الأولى.

وترتب الحرمة على عنوان عدمي.

ثم بناء على أنه أمر عدمي ، فأخذه يتصور على وجوه ، من كونه بمفاد ليس التامة ، أو بمفاد ليس الناقصة ، أو بنحو عدم الملكة. وقد عرفت الأثر العملي لهذا البحث.

وعلى كل ، فأساس الحديث في ان موضوع النجاسة والحرمة هل واحد أو أنه متعدد ، فموضوع النجاسة أمر وجودي وموضوع الحرمة أمر عدمي؟.

قد يلتزم بأن موضوع النجاسة أمر وجودي ، وهو عنوان الميتة فإنه عنوان لما مات حتف أنفه لا كل ميت ، ولذا عطف عليه في الآية الشريفة الموقوذة والمتردية وغيرهما (1) ، وبما أنه لا يمكن الالتزام بأن موضوع النجاسة خصوص ما مات حتف أنفه ، يلتزم بأنه الميتة عبارة عن كلّ ما مات بغير سبب مصحح.

فان الميتة بلحاظ هيئتها الخاصة لا تساوق مطلق الميّت ، وإنما تساوق الميت المشوب بالاستقذار العرفي والاشمئزاز النفسيّ ، وهو كل ما مات بغير سبب يصح أكله ويرفع جهة الاستقذار فيه ، على اختلاف مصاديق ذلك بلحاظ اختلاف الشرائع والعادات فيه.

وبالجملة : الّذي يلتزم به القائل هو أن موضوع النجاسة هو الميتة ، وهي تعبر عن أمر وجودي وهو زهاق الروح بغير سبب مصحح. ولم يرد في النص أخذ غير المذكى أو نحوه من العناوين العدمية في موضوع النجاسة ، بل هي محمولة في النصوص على عنوان الميتة.

ويمكن المناقشة فيه :

أولا : بان النجاسة لم تحمل في النصوص على خصوص عنوان الميتة ، بل كما حملت على عنوان الميتة حملت أيضا على عنوان الميّت وعنوان ما مات

ص: 503


1- سورة المائدة ، الآية : 3

ونحوهما. ومن الواضح انه عنوان مطلق يشمل كل غير ذي روح ، سواء كان زهاق روحه لنفسه أو بسبب مصحح أو غير مصحح ، ومقتضاه نجاسة المذكى كغير المذكى ، لكن قيام الدليل على تخصيصه بالمذكى وإخراجه عنه يستلزم تقييد موضوع الحكم بغير موارد التذكية ، ولازم ذلك أخذ عدم التذكية في موضوع النجاسة.

وثانيا : ان مفهوم قوله علیه السلام في النص : « إذا سميت ورميت فانتفع به » (1) هو حرمة الانتفاع - لأجل النجاسة ، لأنه ظاهر محور السؤال - مع عدم التسمية أو الرمي ، وهو ظاهر في تعليق النجاسة على أمر عدمي رأسا ، فلو لم نلتزم بان موضوع النجاسة مطلق الميت ، بل خصوص الميتة بالمعنى المزبور ، كفانا في إثبات أخذ الأمر العدمي في موضوع النجاسة مفهوم النص المزبور.

وعليه ، فيثبت لدينا انه قد أخذ في موضوع النجاسة جهة عدمية ، كعدم الذبح أو الرمي أو التسمية ، أو غير ذلك من شرائط التذكية.

وأما الحرمة ، فقد رتبت على أمر وجودي كالميتة ، كما رتبت على أمر عدمي كما لم يذكر اسم اللّه عليه.

فلا فرق بين النجاسة والحرمة في الموضوع ، بل هما مترتبان على أمر وجودي في بعض الأدلة وعلى أمر عدمي في بعض آخر.

هذا ، ولكن نقول انه بناء على ان الميتة عنوان وجودي ، وهو ما زهقت روحه بغير سبب مصحح ، وعدم رجوعه إلى امر عدمي ، وهو غير المذكى ، كي يكون الموضوع في الحكمين خصوص الأمر العدمي ، بناء على ذلك المستلزم لتعدد موضوع الحرمة والنجاسة في لسان الدليل ، وبعد فرض ملازمة العنوان الوجوديّ مع العنوان العدمي ، لا بد من رفع اليد عن موضوعية أحد هذين

ص: 504


1- وسائل الشيعة : 16 / 278 - الحديث 7 مضمونا.

الموضوعين ، إذ من المعلوم انه ليس لدينا إلا حرمة ونجاسة واحدة ، وليس لدينا حرمتان إحداهما موضوعها الميتة والأخرى موضوعها غير المذكى ، ففي مثل هذه الحال لا يرى العرف الا كون الموضوع الواقعي واحدا ، وان التعبير بالآخر لأجل ملازمته لموضوع الواقعي.

وعليه ، فهل يرى في مثل ذلك ان الأصالة للأمر الوجوديّ ويكون الأمر العدمي تابعا ، أو لا؟.

ولا يخفى انه لو لم نجزم بان العرف يقضي في مثل هذه الموارد بان الموضوع هو الأمر الوجوديّ ، كفانا التشكيك فيه في نفي ترتب الأثر المطلوب ، إذ على هذا لا يمكننا إثبات الحرمة ولا النجاسة بأصالة عدم التذكية - في مورد تجري في نفسها - إذ لا يعلم ان الحرمة والنجاسة من آثار عدم التذكية كي تترتبان على الأصل المزبور ، بل يحتمل ان يكون الأصل من الأصول المثبتة ، باعتبار ان موضوع الحرمة والنجاسة أمر وجودي لا يثبت بالأصل المزبور إلا بالملازمة.

ثم إنه لو ثبت أن الجهة العدمية دخيلة في موضوع الحرمة والنجاسة ، فذلك يتصور على وجوه الإن المقسم الّذي يلحظ بالنسبة إلى المذكى وغيره ..

إما ان يكون ذات الحيوان ، فيكون الحيوان المذكى حلالا والحيوان غير المذكى حراما.

وأما ان يكون المقسم ما زهقت روحه لا ذات الحيوان ، وهو يتصور على وجهين :

أحدهما : أن يكون قيدا للموضوع ويكون الشرط هو التذكية وعدمها ، فمثلا يكون موضوع الحلية وهو ما زهقت روحه إن كان مستندا إلى التذكية ، وموضوع الحرمة ما زهقت روحه ان لم يكن بسبب التذكية.

والآخر : ان يؤخذ في الشرط بأن يكون موضوع الحلية هو الحيوان ان

ص: 505

زهقت روحه بالتذكية ، وموضوع الحرمة هو الحيوان ان زهقت روحه بغير التذكية.

فالوجوه المتصورة ثبوتا ثلاثة.

والثمرة الظاهرة في اختلاف الوجوه ، هو انه على فرض أخذ المقسم هو الحيوان وكان الشرط هو التذكية وعدمها ، فالحرمة مترتبة على الحيوان إن لم يذك كما إذا لم يذبح. فمع الشك في تحقق الذبح أو غيره من الشرائط صح جريان أصالة عدم تحقق التذكية في الحيوان ، لأنها مسبوقة بالعدم ، وترتب على ذلك ثبوت الحرمة.

وأما على فرض أخذ زهاق الروح في المقسم ، فان أخذ في الشرط فالحال كذلك أيضا للشك في تحقق إزهاق الروح الخاصّ ، فيستصحب عدمه.

وأما إذا أخذ في الموضوع ، فلا مجال لجريان الأصل ، إذ المشكوك هو استناد زهاق الروح للتذكية ، وهو مما لا حالة سابقة له كما لا يخفى ، فلا يجري أصل عدم التذكية.

وإذا عرفت أثر هذه الوجوه فيقع الكلام في اختيار أحدها بلحاظ مقام الإثبات.

والتحقيق هو ان زهاق الروح المسبب عن الأفعال الخاصة دخيل قطعا في ثبوت الحكم ، أما أصل الموت فلأنه من المعلوم من النص عدم حلية اللحم بمجرد ورود الذبح عليه قبل موته ، بل انما يحل إذا مات. واما اعتبار استناد الموت إلى الذبح ونحوه ، فلان قوله علیه السلام : « ان سميت ورميت فانتفع به » وان كان مطلقا من هذه الجهة ، إلا انه من المعلوم بالضرورة الفقهية انه يعتبر استناد الموت إلى الفعل الخاصّ من الرمي والذبح ونحوهما ، بحيث إذا استند إلى غيرها - كما لو خنقه بعد الذبح - لم ينفع في ثبوت الحلية ولو تحققت هذه الأفعال. اذن فيندفع الاحتمال الأول.

ويدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين فلو لم نقل بظهور أخذ زهاق

ص: 506

الروح في الموضوع وكون الشرط مجرد استناده إلى الذبح وعدمه ، فلا أقل من التشكيك فيه ، وهو يكفينا في منع جريان أصالة عدم التذكية كما لا يخفى.

والّذي ينتج مما ذكرناه بمجموعه : أنه لا مجال لأصالة عدم التذكية في حال من الأحوال.

أما في الشبهة الحكمية ، فلأن الشك لا يكون إلا في الحكم الشرعي من الحلية والطهارة ، ولا يتصور الشك في موضوعه ، لأنه إذا فرضنا ان حيوانا معلوم الاسم أجرينا عليه الذبح بشرائطه المعتبرة ، وشككنا في حلية أكل لحمه ، فلا شك لدينا في الموضوع للعلم بخصوصية الحيوان وبإجراء التذكية عليه ، فإذا كان هناك شك فهو شك في جعل الحلية له. ومن الواضح أنه مجرى أصالة الحلّ ، كما انه مجرى لاستصحاب الطهارة قبل الموت. فلا شك في الموضوع كي يجري فيه الأصل الحاكم على أصالة الحلّ.

نعم بناء على أخذ القابلية والشك فيها ، أو كون التذكية معنى اعتباريا مسببا عن الأفعال الخاصة وموضوعا للطهارة والحلية وتحقق الشك فيها ، كان للأصل الموضوعي مجال.

ولكن عرفت ان حديث القابلية لا أساس له ، وان فرض التذكية أمرا اعتباريا مسببا عن الأفعال الخاصة ، ويكون موضوعا للطهارة والحلية مما لا دليل عليه بتاتا ، بل لم يرد في النصوص أخذ التذكية في موضوع الطهارة أصلا.

وعلى كل ، فيتمحص الشك في موارد الشبهة الحكمية بالشك في الحكم الشرعي ولا شك في الموضوع أصلا.

وأما في الشبهة الموضوعية ، فالشك في الموضوع قد يتحقق ، كما إذا شك في تحقق الذبح أو التسمية أو الاستقبال أو غيرها من شرائط الحلية.

إلا انه لا ينفع استصحاب عدمه في ترتيب الحرمة والحكومة على أصالة الحل ، لاحتمال كون الموضوع للحرمة أمرا وجوديا لا يثبت بالأصل إلا بالملازمة ،

ص: 507

من باب ان نفي أحد الضدين يلازم ثبوت الضد الآخر.

وعلى تقدير أنه عدمي ، فقد عرفت أن موضوع الحلية ليس هو الحيوان مع ورود الأفعال الخاصة كالذبح عليه ، بل هو الحيوان الميت مع استناد الموت إلى الذبح ، ومقتضى ذلك ان يكون موضوع الحرمة هو الميت ، بلا استناد الموت إلى السبب الشرعي ، وهذا ثبوتا يتصور على وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون الموضوع امرا وجوديا كما إذا كانت الحرمة مرتبة على الميّت المستند موته إلى سبب غير السبب الشرعي.

الثاني : ان يكون امرا عدميا مأخوذا بنحو العدم النعتيّ ، كما إذا كانت الحرمة مرتبة على الميت الّذي لم يمت بسبب شرعي.

الثالث : ان يكون الموضوع عدميا مأخوذا بنحو العدم المحمولي وبنحو التركيب ، بان يكون المجموع المركب من الموت وعدم الذبح الشرعي موضوعا للحرمة.

ولا يخفى أن أصالة عدم الذبح الشرعي لا ينفع بناء على الأول ، إذ الموضوع للحرمة جهة وجودية ملازمة لذلك.

كما لا ينفع على الثاني ، إذ ليس للموت حالة سابقة كي يستصحب اتصافه بعدم استناده إلى السبب الشرعي ، إذ هو حين تحقق لا يخلو إما ان يكون مستندا إلى سبب شرعي أو غير مستند.

نعم ، ينفع الأصل من باب استصحاب العدم الأزلي بناء على الثالث لإحراز أحد الجزءين بالوجدان وهو الموت والآخر بالأصل وهو عدم تحقق الذبح الشرعي.

هذا بملاحظة مقام الثبوت.

أما بملاحظة مقام الإثبات ، فمع التنزل عن كون الموضوع امرا وجوديا والالتزام بأنه أمر عدمي ، فظاهر الدليل الدال على أخذ القيد العدمي أنه مأخوذ

ص: 508

بنحو التوصيف والعدم النعتيّ كقوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ) (1).

ولو تنزل عن ذلك فلا أقل من التشكيك وعدم ثبوت أحد النحوين ، وهو كاف في عدم جريان الأصل.

ودعوى : انه مع الشك ودوران الأمر بين أخذ العدم بنحو العدم النعتيّ وأخذه بنحو العدم المحمولي ، فالأصل يعيّن الثاني.

مندفعة : بان المقصود بالأصل إما الأصل اللفظي وهو الإطلاق. وإما الأصل العملي.

أما الإطلاق بلحاظ ان أخذ خصوصية الاتصاف مئونة زائدة. ففيه : انه لا ينفي أخذ الاتصاف في موضوع الحكم. وذلك لأنه بعد ان علم بدخالة الوصف مع الذات في ثبوت الحكم. ومن الواضح أيضا انه مع تحقق الوصف واقعا يتحقق الاتصاف قهرا ولا يمكن تخلفه عنه ، فلا معنى للإطلاق حينئذ ، إذ مفاد الإطلاق هو ثبوت الحكم في مورد وجود الخصوصية المشكوكة ومورد عدمها ، وتسوية الحكم لكلتا الحالتين ، وهذا مما يعلم بعدمه هاهنا ، للعلم بان الحكم لا يثبت إلا في مورد تحقق الاتصاف - وان شك في دخالته - لأنه صفة لازمة للوصف المفروض كونه دخيلا ، فلا معنى للتمسك بالإطلاق لنفي دخالة الاتصاف ، كما هو الحال في مطلق الصفات اللازمة لموضوع الحكم ، فانه يمتنع التمسك بالإطلاق لنفي دخالتها في الموضوع.

وأما الأصل العملي ، فان أريد به التمسك بالبراءة في نفي دخالة خصوصية الاتصاف ، لأنها مجهولة. ففيه : ان البراءة لا تجري في تحديد الموضوع. وانما تجري في متعلقات الأحكام. وان أريد به التمسك باستصحاب عدم ملاحظة

ص: 509


1- سورة الأنعام ، الآية : 121.

خصوصية الاتصاف. فهو معارض باستصحاب عدم ملاحظة الوصف مع الذات بنحو التركيب ، لأنها ملاحظة حادثة والأصل عدمها.

وعليه ، فلا طريق لدينا لإثبات أحد النحوين ، وهو يستلزم التوقف في إجراء أصالة عدم التذكية.

وبذلك تعرف ان أصالة عدم التذكية مما لا أساس له.

نعم ، ورد في النصوص (1) ما يدل على أن حلية الأكل مترتبة على اليقين والعلم بالتذكية ، وانه مع الجهل لا يحل اللحم ، وبذلك لا مجال لإجراء أصالة الحلّ في اللحم المشتبه بالشبهة الموضوعية ، وإن لم تجر أصالة عدم التذكية.

إلا ان الّذي تتكفله النصوص نفي الحلية مع الجهل لا نفي الطهارة ، فلا مانع من التمسك بأصالة الطهارة في اللحم المشتبه وإن حرم أكله لأجل النص. فلاحظ وتدبر جيدا.

هذا تمام الكلام في تحقيق الحال في أصالة عدم التذكية.

يبقى الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية في صور الشبهة الحكمية. فقد ذكر قدس سره : ان الشبهة تارة تكون حكمية. وأخرى موضوعية.

أما الشبهة الحكمية ، فصور الشك فيها ثلاث :

الأولى : ان يشك في حلية اللحم لأجل الشك في قابليته للتذكية ، وقد أجرى فيها أصالة عدم التذكية الراجع إلى أصالة عدم القابلية الحاكم على أصالة الحل في اللحم.

الثانية : ان يشك في حلية اللحم مع علمه بقبوله للتذكية ، وقد أجرى هاهنا أصالة الإباحة كسائر ما شك في حليته وحرمته لعدم أصل موضوعي حاكم على أصالة الحلّ.

ص: 510


1- وسائل الشيعة : 16 / 323 - باب 13.

الثالثة : ان يشك في حلية اللحم للشك في زوال قابليته للتذكية بعروض عارض كالجلل إذا شك في مانعيته للتذكية ، وقد فرض هذه الصورة مما يوجد أصل موضوعي حاكم على أصالة عدم التذكية.

ثم أجرى استصحاب حلية الحيوان بالفري شرائطه الثابتة قبل الجلل فيما بعد الجلل. وهو استصحاب للحكم التعليقي بهذا التصوير كما لا يخفى.

وبعد ان ذكر هذه الصور للشبهة الحكمية ، عطف عليها الشبهة الموضوعية ، وان الشك فيها تارة : يكون لأجل الشك في تحقق ما يعتبر في التذكية شرعا ، كالشك في تحقق التسمية ، فأصالة عدم التذكية محكمة. وأخرى : يكون لأجل الشك في طروء ما يعلم مانعيته للتذكية كالشك في تحقق الجلل على تقدير مانعيته ، فأصالة قبوله للتذكية محكمة. هذا ما أفاده قدس سره (1).

وقد عرفت الكلام في الصورة الأولى من صور الشبهة الحكمية وصورتي الشبهة الموضوعية.

أما الصورة الثانية من صور الشبهة الحكمية ..

فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني بان الخصوصية المفروضة في الحيوان تختلف بحسب الأثر. فتارة : يترتب عليها الطهارة والحلية كما في الغنم. وأخرى : يترتب عليها الطهارة فقط دون الحلية كما في السباع. وثالثة : يترتب عليها الحلية دون الطهارة كما في السمك ، فان ميتته طاهرة ، فلا ترتبط الطهارة بتذكيته ، وهذا مما يكشف ان الخصوصية المؤثرة في الطهارة غير الخصوصية المؤثرة في الحلية.

وعليه ، فالشك في الحلية ينشأ من الشك في ثبوت الخصوصية المؤثرة فيها ، وان علم بثبوت الخصوصية المؤثرة في الطهارة ، ومعه لا مجال لأصالة الحل ، بل تجري أصالة عدم تلك الخصوصية الحاكمة على أصالة الحل كالصورة الأولى.

ص: 511


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /348- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هذا بناء على مسلك صاحب الكفاية من فرض خصوصية وراء الأفعال الخاصة وذات الحيوان ، يصطلح عليها بقابلية التذكية.

وهكذا الحال بناء على مسلكنا - الضمير يرجع إلى المحقق الأصفهاني - من إنكار فرض القابلية والالتزام بأن التذكية عبارة عن أمر اعتباري بسيط يترتب على الأفعال الخاصة ، وأثره الطهارة والحلية أو أحدهما ، لأنه يشك في تحققه في هذا المقام فيجري الأصل في نفيه. إذن فأصالة عدم التذكية هو المحكّم في هذه الصورة (1).

وأما الصورة الثالثة : فيرد عليه :

أولا : ان ظاهر كلامه هو إجراء الأصل في الحكم التعليقي مع انه له مجال في نفس الموضوع بان يجري في نفس القابلية ، لأنها محرزة الثبوت سابقا فتستصحب ، فكما أجرى استصحاب عدم التذكية في الصورة الأولى كان عليه ان يجري استصحاب التذكية في هذه الصورة. مضافا إلى ما في استصحاب الحكم التعليقي من كلام طويل بين الاعلام ، فقد وقع الكلام في أصل جريانه وفي معارضته بالاستصحاب التنجيزي دائما. فاختياره للاستصحاب التعليقي في غير محله.

وثانيا : انه فرض ان المورد من موارد وجود الأصل الموضوعي بالنسبة إلى أصالة عدم التذكية. فان أراد إجراء أصالة قابلية الحيوان للتذكية ، فهو ليس في موضوع عدم التذكية ، بل هو الطرف النقيض لعدم التذكية ، والأصل الجاري في الوجود لا يكون أصلا موضوعيا بالنسبة إلى الأصل الجاري في العدم. وإن أراد إجراء الاستصحاب التعليقي ، فهو لا يكون أصلا موضوعيا ، بل هو أصل حكمي كما لا يخفى.

ص: 512


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 213 - الطبعة الأولى.

ومن هنا يعرف الحال في نظير هذه الصورة من الشبهة الموضوعية. فتدبر.

التنبيه الثاني : في الاحتياط في العبادات.

ذكر صاحب الكفاية : انه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي (1).

أقول : للتوقف في ترتب استحقاق الثواب عقلا على الاحتياط بما هو ، ومع قطع النّظر عن استحبابه شرعا ، مجال واسع. فما أفاده قدس سره من عدم الارتياب فيه وإرساله إرسال المسلمات مستدرك.

والوجه فيه بنحو الإجمال : ان الاحتياط إنما يكشف عن وجود صفة حسنة كامنة في نفس المحتاط ، وهي صفة الانقياد ، وهي لا تستلزم سوى الحسن الفاعلي لا الفعلي ، وهو لا يستلزم الثواب.

هذا ، مع ان مجرد الإتيان بالفعل الحسن لا يستلزم استحقاق الثواب ما لم يربطه بالمولى.

وإذا أردت استيضاح الأمر ، فراجع ما بيّناه في مبحث التعبدي والتوصلي (2).

والأمر في هذا سهل ولننقل الكلام إلى البحث عن إمكان الاحتياط في العبادات.

فقد ادعي عدم إمكانه فيما لو دار الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب - إذ لو دار بينه وبين الاستحباب يكون الأمر معلوما فلا إشكال -. ببيان : ان العبادة يعتبر فيها قصد القربة ، وهو يتوقف على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو

ص: 513


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /349- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- راجع ج 1 / 479 من هذا الكتاب.

إجمالا وبتقرير آخر : ان الاحتياط عبارة عن الإتيان بالعمل المحتمل تعلق الأمر به بسائر ما يعتبر فيه جزء أو شرطا ، بحيث لا يفقد المأتي به سوى الجزم بأنه مأمور به.

ومن الواضح انه يعتبر في العبادة قصد القربة بمعنى قصد امتثال الأمر. ومع الجهل بتعلق الأمر بالعمل لا يعلم بكون العمل مقرّبا ، فهو لا يعلم بإتيانه بالعمل المأمور به احتمالا ، فلا يعد ذلك احتياطا.

أقول : هذا الإشكال يتوجه على بعض المباني في تحقق العبادية.

أما على غيره ، فاما ان لا يتصور له وجه معقول ، أو يتصور له وجه معقول لكنه مردود.

توضيح ذلك : أنه ..

تارة : يلتزم باعتبار الجزم بالنية في العبادة ، بحيث لا تتحقق العبادية بدونها.

وأخرى : لا يلتزم بذلك. وعليه ..

فتارة : يلتزم بان الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر يكون موجبا لكونه مقرّبا ، ولو لم يكن مصادفا للواقع ، بل له موضوعية في تحقق التقرب بالعمل.

وأخرى : لا يلتزم بذلك ، بل يلتزم بأنه يكون مقربا إذا صادف الواقع.

فبناء على الأول - وهو اعتبار الجزم بالنية في العبادية - ، يتوجه الإشكال ، إذ مع التردد في تعلق الأمر لا يمكن الجزم ، فيختل أحد شروط العمل العبادي فلا يتحقق الاحتياط.

وأما بناء على الثاني ، فلا يرد إشكال أصلا ، إذ الإتيان بالفعل بداعي احتمال الأمر يعلم معه الإتيان بكل ما يعتبر في العبادة جزء وشرطا ، للعلم بإتيان الفعل المقرّب فعلا لا تقديرا ، فلا يتصور فيه الإشكال بكلا تقريريه.

نعم ، على الثالث قد يتوجه الإيراد السابق من انه يعتبر في الاحتياط

ص: 514

العلم بإتيان جميع ما يعتبر في العمل ، وهو غير حاصل مع الجهل بتعلق الأمر.

ولكن يندفع : بأنه لا دليل على ما ذكر ، بل الاحتياط لا يعتبر فيه سوى الإتيان بما يحصل به الأمن ، وما يتحقق به إدراك الواقع لو كان مأمورا به.

وهذا يتحقق بالإتيان بالعمل رجاء وبداعي احتمال الأمر ، لتحقق قصد القربة لو كان الأمر ثابتا.

إذن فلا يصح إشكال بناء على الوجهين الأخيرين ، وإنما يرد الإشكال بناء على الوجه الأول وهو اعتبار الجزم بالنية ، ولكنه فاسد كما حقق في محله خصوصا مع عدم التمكن من العلم بالأمر.

فيصح لنا أن نلتزم بصحة الاحتياط في العبادات.

هذا ، وقد تصدى البعض إلى إثبات تعلق الأمر بالعبادة المأتي بها بعنوان الاحتياط بحيث يتحقق الجزم بالنية ، وذلك بطريقين :

أحدهما : ان حسن الاحتياط عقلا يستلزم تعلق الأمر به شرعا ، لقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فيثبت الأمر به بنحو اللم.

والآخر : ان ترتب الثواب على الاحتياط يكشف - بنحو الإن - عن تعلق الأمر به ، لأن ثبوت الثواب معلول ثبوت الأمر.

وقد ناقشهما في الكفاية بوجهين :

الأول : ان إثبات الأمر بالاحتياط لا ينفع في تصحيح الاحتياط ، لأن الأمر يتوقف على ثبوت الاحتياط توقف العارض على المعروض ، فلا يعقل ان يكون من مبادئ ثبوته وإمكان تحققه ، فانه دور.

الثاني : ان حكم العقل بحسن الاحتياط ، كما أن ترتب الثواب عليه لا يستلزم تعلق الأمر به ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة الحقيقية ، فان الاحتياط نحو من الطاعة. ومن الواضح عدم تعلق الأمر بالإطاعة مع حسنها

ص: 515

عقلا وترتب الثواب عليها شرعا. فلاحظ (1).

وقد تصدى المحقق الأصفهاني رحمه اللّه إلى الإيراد على الوجه الأول من هذين الوجهين بوجه مفصّل يرجع - بعد تقسيمه العوارض إلى عارض الوجود ، وهو ما يحتاج إلى موضوع موجود كالبياض المحتاج في وجوده إلى موضوع موجود. وإلى عارض الماهية ، وهو ما لم يكن كذلك ، بل كان ثبوت المعروض بثبوت عارضه والعروض تحليلي ، ومنه عروض الوجود على الماهية ، فانه من قبيل عارض الماهية ، وإلا لاحتاج عروض الوجود عليها إلى وجود الماهية ، فيلزم الدور أو التسلسل - إلى أن نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة عارض الماهية إلى الماهية ، فلا يتوقف على وجود المعروض. فالحكم عارض على ماهية العمل لا على وجوده.

وهذا الأمر تكرر منه قدس سره ، مع أنه يتنافى مع ما يلتزم به من ان الماهية بما هي لا يتعلق بها الطلب لخلوها عن المصلحة والملاك ، كما ان الوجود الخارجي لا يتعلق به الطلب لأنه تحصيل الحاصل ، وهو مسقط للطلب لا مقوم له.

ولأجل ذلك التزم بان متعلق الطلب هو الوجود الزعمي - بتعبير - والتقديري - بتعبير آخر - وهو نحو وجود تخلقه النّفس (2).

وقد مرّ إيضاح ذلك في مبحث متعلق الأمر والنهي وأنه الطبيعة أو الفرد. فراجع (3).

وقد تصدى الشيخ الأعظم رحمه اللّه - في رسائله - إلى دفع الإشكال على جريان الاحتياط في العبادات - بعد أن قوّى الإشكال أولا ، وإن قيل بان العبارة سهو من الناسخ - : بان الاحتياط في العبادة هو مجرد الفعل الجامع لجميع

ص: 516


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /350- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 214 - الطبعة الأولى.
3- راجع ج 2 / 477 من هذا الكتاب.

الاجزاء والشرائط عدا نية القربة ، وهو مما يعلم بإتيانه (1).

وناقشه في الكفاية بوجهين :

الأول : انه لا دليل على حسن الاحتياط بهذا المعنى ، لأنه في الحقيقة ليس باحتياط ، فلو دلّ عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا. نعم لو دلّ دليل على الأمر بالاحتياط في خصوص العبادات ولم يتصور إمكانه بمعناه الحقيقي فيها ، التزم بهذا المعنى بدلالة الاقتضاء.

الثاني : ان ما أفاده قدس سره ليس حلا للإشكال وردّا له ، بل هو التزام به وإقرار له كما لا يخفى (2).

وبعد ذلك تعرض صاحب الكفاية قدس سره إلى حلّ الإشكال : بان الاحتياط عبارة عن الإتيان بما احتمل تعلق الوجوب به بتمام أجزائه وشرائطه ، وهذا متحقق في العبادات ، إذ الأمر يتعلق بذات العمل ولا ينبسط على قصد القربة ، لأن اعتباره في الواجب عقلي لا شرعي. إذن فما يحتمل الأمر به شرعا يؤتى به مع الجهل بالأمر. غاية الأمر انه لا بد ان يؤتى به بنحو مقرّب لو كان مأمورا به شرعا ، وذلك يحصل بالإتيان به بداعي احتمال الأمر أو لاحتمال محبوبيته ، فيقع امتثالا للأمر على تقدير ثبوته واقعا.

وذكر بعد ذلك : بأنه قد انقدح انه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها ، بل لو فرض تعلقه بها لكانت مستحبا نفسيا كسائر المستحبات النفسيّة ولا ربط لذلك بالاحتياط (3).

ص: 517


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /229- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /350- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /351- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
« التسامح في أدلة السنن »

ومن هنا ظهر : انه لو قيل بدلالة اخبار من بلغ على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب لما كان ينفع ذلك في جريان الاحتياط في تلك الموارد ، بل كان الفعل مستحبا كسائر ما قام الدليل على استحبابه.

وبما أنه قد وردت الإشارة إلى وجود ما يدل على استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، ويعبر عنه ب- : « اخبار من بلغ ». فقد جرت عادة الاعلام على تفصيل الكلام في ذلك.

وإن كان أجنبيا عن المقام.

ونحن نجري على ما نهج عليه من سبقنا ، فنوقع البحث في ذلك ، فنقول - وعلى اللّه الاتكال ومنه نستمد العصمة والسداد -.

انه قد وردت نصوص متعددة تتضمن ان من بلغه ثواب على عمل أو شيء من الثواب فعمله كان له ذلك الثواب وان لم يكن الأمر كما بلغه ..

فمنها : صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « من بلغه عن النبي صلی اللّه علیه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله » (1).

وقد استفاد المشهور منها - على ما قيل - حجية الخبر الضعيف في إثبات الاستحباب للفعل. كما ذهب البعض إلى انها تدل على استحباب الفعل الّذي قام على استحبابه خبر ضعيف ، وإن لم يكن الخبر حجة.

وهذا الاختلاف الراجع إلى ان المستفاد من النصوص مسألة أصولية أو

ص: 518


1- وسائل الشيعة 1 / باب : 18 من أبواب مقدمة العبادات.

مسألة فقهية ، وإن لم يكن عديم الأثر كما ستعرف في بعض تنبيهات المسألة ، ولكن لا نوقع البحث فيه ، إذ الالتزام بإفادتها مسألة أصولية لا يستند على أساس وجيه حتى يحرر البحث فيه ، فالبحث إنما يقع في انها هل تدل على استحباب العمل الّذي دل الخبر على استحبابه ، أو انها لا تدل على شيء من ذلك ، بل غاية ما تدل عليه هو حسن الانقياد شرعا وترتب الثواب عليه كما هو مذهب طائفة من الأعلام؟.

وقبل الشروع في بيان جهة الاختلاف ومنشئه وترجيح أحدهما على الآخر ، ينبغي ان ننبّه على شيء وهو : أنه لدينا كبرى مسلمة ، وهي انه إذا ورد دليل يتكفل ترتيب الثواب على عمل لا اقتضاء فيه في حد نفسه للثواب ، كان ذلك الدليل كاشفا عن ثبوت الأمر وتعلقه بذلك العمل ، ولذا يقع كثيرا بيان الأمر ببيان ترتب الثواب على العمل.

كما أنه لا يستظهر تعلق الأمر بالعمل إذا كان له اقتضاء في نفسه لترتب الثواب كالانقياد.

وهذه الكبرى غير قابلة للمناقشة. إذا عرفت ذلك فاعرف ان البحث فيما نحن فيه صغروي ، يقع في ان موضوع ترتب الثواب في هذه النصوص من أي النحوين؟.

فالوجه في الاختلاف هو : ان النصوص المزبورة هل تتكفل ترتيب الثواب على ذات العمل الّذي بلغ الثواب عليه ، أو تتكفل جعله على العمل الخاصّ وهو المأتي به بداعي احتمال الأمر - بهذا القيد -؟.

فعلى الأول تدل على استحباب العمل لعدم الوجه في ترتب الثواب على ذات العمل سوى تعلق الأمر به ، فيكون نظير : « من سرح لحيته فله كذا » في استفادة استحباب تسريح اللحية.

وأما على الثاني ، فلا تدل على استحباب العمل ، لوجود المقتضي للثواب

ص: 519

مع قطع النّظر عن الأمر ، وهو الانقياد ، ولو فرض استظهار الاستحباب منها كانت دالة على استحباب الاحتياط لا نفس العمل.

والوجه الموجب لدعوى ان الثواب مرتب على العمل المقيد بداعي احتمال الأمر لا ذات العمل ، هو ظهور الفاء في قوله : « فعمله » في كونه تفريعا على بلوغ الثواب ، وهو ظاهر في داعوية تحصيل الثواب لتحقق العمل.

وناقشه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه : بان التفريع على قسمين :

أحدهما : تفريع المعلول على علته الغائية ، ومعناه هنا انبعاث العمل عن الثواب المحتمل.

والآخر : التفريع بمعنى ترتيب أحدهما على الآخر ، بلا ان يكون المرتّب عليه علة غائية للمرتّب نظير قول القائل : « سمع الأذان فبادر إلى المسجد » ، فان الداعي للمبادرة هو تحصيل فضيلة المبادرة لاستماع الأذان. وما نحن فيه قابل للحمل على ذلك بلحاظ ترتب العمل على بلوغ الثواب لتقوم العمل المترتب عليه الثواب ببلوغ الثواب.

وعليه ، فمجرد كون الفاء للتفريع لا يعيّن القسم الأول ، فلا وجه لاستظهار أخذ داعوية الثواب في موضوع ترتب الثواب (1).

وفيه : ان ما أفاده من تقسيم التفريع إلى قسمين متين ، لكن الّذي يظهر من مثل هذا التعبير هو كون الاندفاع نحو العمل لأجل تحصيل الثواب ، فالظاهر من التفريع هاهنا هو القسم الأول منهما.

والمثال المذكور لا يصلح نقضا لعدم تصور داعوية سماع الأذان للمبادرة ، إذ الداعي ما يكون بوجوده العيني مترتبا على العمل ، وبوجوده الذهني سابقا عليه ، وسماع الأذان لا يترتب خارجا على المبادرة.

ص: 520


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 221 - الطبعة الأولى.

وأما ما حكي عن الشيخ من إنكار كون الفاء للتفريع والسببية ، بل هي عاطفة (1). فقد ردّه الأصفهاني : بأنه خلاف الاصطلاح لعدم التقابل بين السببية والعطف ، بل العاطفة تارة للسببية. وأخرى للترتيب. وثالثة للتعقيب (2).

وبالجملة : لا يسعنا إلا الالتزام بأن الفاء في النص ظاهرة في تفرع العمل عن الثواب بنحو يكون الثواب داعيا للعمل.

ومقتضى ما تقدم الالتزام بان الثواب مترتب على العمل المقيّد ، فلا دلالة له على الاستحباب.

لكن المحقق صاحب الكفاية ذهب إلى : أن ظاهر النص ترتب الثواب على ذات العمل ، ولو كانت الفاء للتفريع وظاهرة في داعوية الثواب إليه ، ولا منافاة بينهما ، ومن هنا التزم بدلالة النص على استحباب ذات العمل (3).

وقد قرّبه المحقق الأصفهاني بما لا يخلو عن إشكال بل منع ، فقد ذكر في مقام تقريبه : ان الظاهر من الثواب البالغ هو الثواب على العمل بذاته لا بداعي الثواب المحتمل ، لأن مضمون الخبر الضعيف هو ذلك ، كمضمون الخبر الصحيح ، وهذا الطور لا ريب فيه.

كما أن الظاهر من أخبار من بلغ هو كونها في مقام تقرير ذلك الثواب البالغ وتثبيته ، ومقتضى ذلك ثبوته لنفس العمل ، لأنه هو الّذي بلغ الثواب عليه ، فلو ثبت الثواب - باخبار من بلغ - لغير ذات العمل لزم أن يكون ثوابا آخر لموضوع آخر ، وهو ينافي ظهور الاخبار في إثبات نفس ذلك الثواب البالغ المفروض كون موضوعه هو ذات العمل.

ولا ينافي هذا الظهور ظهور الفاء في التفريع الظاهر في داعوية الثواب

ص: 521


1- رسالة التسامح للشيخ الأنصاري.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 221 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /353- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

للعمل. ببيان : أن الداعي إلى العمل يمتنع أن يصير من وجوه وعناوين ما يدعو إليه ، بحيث يتعنون العمل المدعو إليه بعنوان من قبل نفس الداعي ، إذ الفرض ان العنوان ينشأ من دعوة الشيء ، فيمتنع ان يكون مقوما لمتعلق الدعوة وللمدعو إليه كما هو واضح جدا.

وعليه ، فما يدعو إليه الثواب هو ذات العمل ، ويستحيل ان يكون هو العمل الخاصّ المتخصص بخصوصية ناشئة من قبل دعوة الثواب ، كخصوصية كونه انقيادا أو احتياطا ، فما يدعوا إليه الثواب ليس هو الانقياد ، وانما الانقياد يتحقق بإتيان ذات العمل بداعي احتمال الأمر ، فهو متأخر عن دعوة احتمال الأمر فيمتنع أن يؤخذ في متعلق دعوته.

وعليه ، فالثواب المترتب إنما رتب على ما دعى إليه احتمال الأمر ، وهو ذات العمل لا العمل المقيد بالاحتمال ولا ما يتعنون بعنوان الانقياد. فالالتزام بظهور الفاء في إتيان العمل بداعي احتمال الثواب لا ينافي ظهور النصوص في ترتب الثواب على ذات العمل المدعو إليه ، بعد ان لم تكن الدعوة موجبة لتغير عنوان المدعو إليه من قبل نفس دعوة احتمال الأمر.

هذا تقريب كلام صاحب الكفاية بحسب ما أفاده الأصفهاني قدس سره (1).

وهو كما أشرنا إليه غير خال عن الإشكال ، لأنه بنى الاستدلال على ظهور النصوص في وحدة الثواب المجعول مع الثواب البالغ ، وهو يقتضي وحدة الموضوع.

وهذا هو مركز إشكالنا ، فان ظهور الكلام في وحدة الثواب لا يعنى إرادة الوحدة الشخصية المتحققة بالمحافظة على تمام الخصوصيات البالغة من حيث

ص: 522


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 121 - الطبعة الأولى.

المتعلق وغيره ، بل يراد به الوحدة من حيث الجنس ، بمعنى ان نفس ذلك الثواب يحصله المكلّف سواء كان على نفس ذلك العمل أم على أمر آخر ملازم له ، فالمنظور إثبات الثواب البالغ بكمه وكيفه لا أكثر. فتدبر.

والتحقيق في توجيه مرام الكفاية : أن يقال : إن تمامية ما أفاده تبتني على مقدمات غير موضحة بتمامها في الكفاية ، بل قد طوي بعضها وهي :

أولا : ان الظاهري في موارد العطف بفاء التفريع على مدخول أداة الشرط ، هو ارتباط الحكم الثابت في الجزاء بمدخول الفاء ، وان ما قبله ذكر توطئة وتمهيدا ، كما لو قال : « إذا رأيت زيدا فاحترمته كان لك كذا » ، فان ظاهر الكلام ان رؤية زيد ذكرت توطئة لذكر موضوع الحكم.

وثانيا : ان ظاهر الكلام في مثل ذلك أن ما يكون مدخول الفاء هو تمام الموضوع بلا دخل لغيره فيه.

وثالثا : ما تقدم من أن متعلق الداعي يمتنع ان يكون معنونا بعنوان من قبل الداعي ، وقد أوضحنا ذلك فلا نعيد.

إذا تمت هذه المقدمات نقول : ان مقتضى المقدمة الأولى هو دخالة العمل في ترتب الثواب الّذي هو مدخول الفاء. ومقتضى المقدمة الثالثة ان مدخول الفاء هو ذات العمل لا العمل الخاصّ ، لأن الخصوصية ناشئة من قبل الداعي فلا يعقل ان تكون مأخوذة في متعلق الداعي. ومقتضى المقدمة الثانية هو كون الثواب مترتبا على ذات العمل وإن جيء به بداعي الأمر ، لتمحض مدخول الفاء في الموضوعية بلا دخل لغيره. والمفروض ان مدخول الفاء هو ذات العمل.

وإذا ثبت ظهور الاخبار في جعل الثواب على ذات العمل ، كان كاشفا عن تعلق الأمر به بمقتضى الكبرى التي عرفت أنها مسلمة.

وما ذكرناه هو غاية ما يمكن به تقريب استفادة الاستحباب من الأخبار.

ص: 523

وهو قابل للمنع. ومرجع ما نريد أن ندعيه في مقام المنع إلى ان الجهة التي بها يستفاد الأمر من قبل جعل الثواب غير متوفرة فيما نحن فيه ، فالإشكال في انطباق الكبرى المسلمة على ما نحن فيه.

وبيان ذلك : ان بيان الأمر ببيان الثواب أمر لا يقبل الإنكار - كما تقدم - ، والشواهد العرفية عليه كثيرة ، ومثله بيان النهي ببيان العقاب ، فان شواهده العرفية والشرعية كثيرة.

والسر في استفادة الأمر واستكشافه من ترتب الثواب أحد أمرين :

الأول : دلالة الاقتضاء والدلالة الالتزامية العرفية. ببيان : ان العمل - في موارد جعل العقاب - لا اقتضاء فيه بنفسه ، لثبوت العقاب ، فإثبات العقاب عليه كاشف عن تعلق النهي به ليكون الفعل معصية له ، وهي موضوع ثبوت العقاب ، فثبوت النهي في موارد جعل العقاب يستكشف بحكم العقل ودلالة الاقتضاء.

وأما جعل الثواب في مورد ، فهو ليس بمستلزم عقلا لثبوت الأمر لتحقق الثواب مع الإتيان به رجاء ، لكنه عرفا مستلزم للأمر ، فان العرف يفهم من جعل الثواب جعل الأمر في المورد الّذي لا يقتضى ثبوت الثواب في حد نفسه ، وهذا المعنى غير بعيد في اللغة العربية ، فان بيان الملزوم ببيان اللازم ليس بعزيز ، والاستعمالات الكنائية منه.

إذن فاستفادة الأمر من جعل الثواب بالملازمة العرفية.

الثاني : ان جعل الثواب في مقام الترغيب على العمل والحث عليه كاشف عن محبوبية العمل ، وهي ملازمة للأمر ، مع عدم العلم بثبوت الأمر سابقا.

وإلا فلا دلالة له إلا على الترغيب على إطاعة الأمر السابق ، وذلك كترغيب الوعّاظ على فعل الواجبات ببيان الثواب عليها ، ففي غير هذا المورد يكون الترغيب كاشفا عن المحبوبية وهي تلازم الأمر ، لأنها مقتض له والمانع مفقود ، لفرض كون المولى في مقام الترغيب الكاشف عن عدم المانع.

ص: 524

وهذان الوجهان لا يتأتيان فيما نحن فيه :

أما الأول : فلأن العمل المأتي به بداعي احتمال الثواب - كما هو الفرض - يكون معنونا بعنوان الاحتياط وسببا لتحقق الانقياد ، وفي مثله لا ظهور للكلام عرفا في ثبوت الأمر بالعمل لقوة احتمال رجوع الثواب إلى الثواب على الانقياد أو الاحتياط ، وهو ثابت في نفسه مع قطع النّظر عن الأمر.

وأما الثاني : فلأن أساسه على فرض المولى في مقام الترغيب. وهذا غير ثابت فيما نحن فيه ، لأن الظاهر من ترتيب الثواب هاهنا انه في مقام التفضل والإحسان وبيان ان المولى الجليل لا يخيّب من أمله ورجاه ، ولا يضيّع تعب من تعب لأجل الثواب الّذي تخيله أو رجاه تفضلا منه ومنة ، فلا ظهور له في الترغيب نحو العمل - وان حصلت الرغبة فيه بعد ملاحظة هذا الوعد -. وهذا كثيرا ما يصدر عرفا فيقول القائل : « ان من قصد داري بتخيل وجود الطعام فيه لا أحرمه من ذلك وأطعمه » ، فانه في مقام بيان علو همته وطيب نفسه وكمال روحيته ، وليس في مقام الترغيب إلى قصد داره ، بل قد يكون كارها له لضيق ما في يده ، ولكنه يتحلى بنفسية تفرض عليه عدم حرمان من أمّله وقصده.

ولو لم نجزم بظهور الأخبار فيما ذكرناه بملاحظة ما يشابهها من الأمثلة العرفية ، فلا أقل من الشك الموجب لإجمال الأخبار فلا تتم دلالتها على الاستحباب.

وهذا كما يكون إشكالا على الوجه الثاني يكون إشكالا على الوجه الأول ، لأنه إذا كان في مقام التفضّل والإكرام ، فلا دلالة عرفية ولا عقلية على ان الثواب على العمل من جهة تعلق الأمر به ، إذ لا ملازمة عرفا ولا عقلا بين الثواب التفضلي والأمر. وإنما يستكشف الأمر إذا فرض كون ترتيب الثواب بعنوان الجزاء والاستحقاق. فلاحظ.

فعمدة الإشكال على استفادة الأمر من هذه الاخبار هو ، انها مسوقة في

ص: 525

مقام بيان تفضل اللّه سبحانه وتعالى على العباد وهو ، لا يلازم ثبوت الأمر عقلا ولا عرفا. فتدبر.

ولعله إلى ما ذكرنا أشار الشيخ قدس سره في رسائله في آخر كلامه : بان الاخبار المتكفلة لإثبات الثواب الخاصّ الّذي لا يحكم به العقل ، لأنه إنما يحكم بأصل الثواب ، انما تتكفله من باب التفضل ، وانه من قبيل قوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (1) ، في كونه في مقام تفضل اللّه سبحانه وتعالى. والآية الكريمة لو كانت وحدها أمكن دعوى كونها في مقام الترغيب في الحسنة ، لكنها مقترنة بقوله تعالى : ( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها ) (2) ، وهو لا يتناسب مع كونه في مقام الترغيب ، لأن لازم كونه في مقام الترغيب في الحسنات كونه في مقام الترهيب في السيئات. والآية لا تتكفل الترهيب كما لا يخفى. وعليه فتحمل الآية على انه في مقام بيان تفضل اللّه سبحانه وتعالى في باب الحسنات وعدله في باب السيئات (3).

وبعد أن عرفت ما ذكرناه ، تعرف أنه لا وجه لما أورده المحقق الأصفهاني على الشيخ : بان ثواب اللّه سبحانه مطلقا تفضل منه وإحسان ، إذ كونه تفضلا لا استحقاقا لا ربط له بما ذكرناه من وروده مورد بيان التفضل لا الترغيب في العمل.

كما ان ما أفاده قدس سره من ظهور النصوص في جعل الأمر لتكفلها ترتيب الثواب الخاصّ وهو مما لا يستقل العقل به إذا غاية ما يستقل به العقل هو أصل الثواب (4). غير سديد ، فان الشيخ رحمه اللّه التفت إلى ذلك كما

ص: 526


1- سورة الأنعام ، الآية : 160.
2- سورة الأنعام ، الآية : 160.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /230- الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 223 - الطبعة الأولى.

عرفت عند نقل كلامه ، ولكنه حمل الثواب هاهنا على التفضل ، وقد عرفت عدم ملازمته للاستحباب.

وخلاصة الكلام : انه لا يمكننا استفادة الأمر أصلا من ترتب الثواب على العمل بعد ظهورها في مقام التفضل لا مقام الترغيب.

وأما ما أفاده المحقق النائيني قدس سره :

أولا : من ظهور قوله : « فعمله » في الأمر بالعمل بلحاظ انها جملة خبرية واقعة في مقام الإنشاء ، فتفيد الأمر ، فهي بمنزلة قوله : « فاعمل ».

وثانيا : من كون الاخبار في مقام جعل حجية الخبر الضعيف في موارد الاستحباب ، واستشهد على ذلك بفهم المشهور ، إذ قد اشتهر على الألسنة التعبير بقاعدة التسامح في أدلة السنن (1).

ففيه : انه غير سديد.

أما الأول : فهو غريب في مثل هذا المثال ، لا يساعده الفهم العرفي أصلا ولا شاهد عليه من الاستعمالات الشرعية أو العرفية ، ولعل السر فيه ان الفاء هاهنا عاطفة لا للجزاء فقوله « فعمله » من توابع الشرط وليس جزاء للشرط ، وإلا لم تدخل عليه الفاء ، فلا دلالة على الأمر ، إذ الجملة الخبرية انما تفيد الدلالة على الأمر إذا وقعت موقع التحريك والبعث ، والشرط بشئونه ليس كذلك ، إذ هو بمنزلة الموضوع للحكم.

ومن الواضح ان الموضوع بما هو موضوع يؤخذ مفروض الوجود بلا ان يكون المولى في مقام الدعوة إليه. نعم قد يصير المولى في هذا المقام بالنسبة إلى الموضوع فيأخذ الموضوع جزاء لشرط آخر. فتدبر جيدا فانه لا يخلو عن دقة.

وأما الثاني : فلا وجه له أصلا. وفهم المشهور لا حجية له. مع ان تعبيرهم

ص: 527


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 412 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بالتسامح في أدلة السنن يلتئم مع الالتزام باستحباب العمل البالغ عليه الثواب ، بل ما جاء في بعض النصوص من أخذ العمل مقيدا برجاء قول النبي ( صلی اللّه علیه و آله ظاهر في عدم الحجية ، إذ الحجية تلازم الجزم لا الترديد ، فلا معنى لأن يؤخذ في موضوعها العمل المقيد بالرجاء.

كما أنه مما ينفي احتمال الحجية ما جاء في بعض النصوص أيضا من ترتب الثواب وان لم يكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد قاله ، إذ الحجية ترجع إلى ما يساوق جعل الخبر طريقا إلى الواقع ، وهذا لا يتناسب مع فرض عدم الواقع في موضوعها. فلاحظ.

والمتحصل : أن هذه النصوص لا تدل على الاستحباب ، ولا على حجية الخبر الضعيف القائم على الاستحباب ، فما بنى عليه المشهور لا أساس له.

ولو فرض الالتزام بظهور هذه النصوص في استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب فهو بملاحظة النصوص المطلقة التي لم يقيد موضوع الثواب فيها بالإتيان التماسا للثواب الموعود ونحوه.

وحينئذ قد يدعى رفع اليد عنها بواسطة ما دل على ترتيب الثواب على العمل المقيد باحتمال الثواب والتماسه حملا للمطلق على المقيد. وهذا إيراد آخر على استفادة استحباب العمل البالغ عليه الثواب.

وقد تفصي عن ذلك بوجهين :

الأول : ما أشار إليه المحقق النائيني - وإن لم يلتزم به - من أن حمل المطلق على المقيد لا يلتزم به في المستحبات ، بل يلتزم باستحباب ذات المطلق واستحباب المقيد بما هو مقيد ، بدعوى تعدد مراتب الاستحباب (1).

وهذا منه مبتن على فهم الاستحباب من الروايات المقيدة ، لا الحكم

ص: 528


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 210 - الطبعة الأولى.

الإرشادي كما ذهب إليه صاحب الكفاية. فلا ينبغي الإيراد على ما أفاده بما يبتنى على فهم الحكم الإرشادي ، بل إن كان هناك إيراد فينبغي ان يكون في المبنى.

الثاني : ما أشار إليه في الكفاية من عدم التنافي بين المطلق والمقيد ، إذ المقيد يتكفل حكما إرشاديا إلى ما يحكم به العقل من حسن الانقياد والاحتياط ، فلا ينافي ما دلّ على استحباب ذات العمل كي يستلزم التصرف فيه ورفع اليد عنه (1).

وهذا منه مبتن على فهم الحكم الإرشادي من الدليل المقيد.

ويرد على كلا الوجهين بنحو الاشتراك ان الظاهر عرفا من ملاحظة النصوص بمجموعها المطلقة والمقيدة كونها في مقام بيان أمر واحد وشيء فارد ، فإذا فرض تحكيم المقيّد لأقوائية ظهوره في دخل القيد ، فلا بد من الحكم باستحباب العمل المقيد خاصة - على مبنى النائيني - والحكم بأن المراد من المطلق في المطلقات هو العمل الخاصّ ، فتدل على حكم إرشادي على مبنى صاحب الكفاية. فتدبر.

ص: 529


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /353- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وينبغي التنبيه على أمور : مبتنية على فهم الاستحباب من الأخبار المزبورة.

تنبيهات المسألة :

التنبيه الأول : بناء على كون المستفاد من هذه الأخبار حكما فرعيا وهو استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، فموضوعه واقعا يتقوم بمن بلغه الثواب على العمل ، فتشكل فتوى المجتهد باستحباب العمل الّذي بلغه الثواب عليه بقول مطلق بلا تقييد موضوع الاستحباب بمن بلغه الثواب ، لعدم توفر الموضوع لدى مطلق المقلّدين ، ولا تنفع أدلة التقليد وتنزيل المجتهد منزلة المقلد ، فانها انما تفيد في ثبوت الحكم للمقلد إذا توفرت شروطه فيه ، ومن شروط هذا الحكم بلوغ الثواب على العمل ، فإذا أراد المجتهد ان يفتي بالاستحباب فلا بد عليه ان يقيّد موضوع الاستحباب بالبالغ إليه الثواب ، أو يتكفل إبلاغ مقلديه أولا بثبوت خبر ضعيف دال على رجحان العمل ثم يفتي باستحبابه.

وأما بناء على كون المستفاد حكما أصوليا وهو حجية الخبر الضعيف على الاستحباب ، فيصح للمجتهد ان يفتي بالاستحباب بقول مطلق عند قيام الخبر ، إذ بقيام الخبر لديه تقوم الحجة عنده على الحكم الشرعي ، وليس موضوعه مقيدا بشيء ، فيكون كما لو قام لديه خبر صحيح السند على استحباب عمل خاص ، فيفتي بمضمون الخبر الضعيف لقيام الحجة لديه عليه ، وهو كاف في مقام الإفتاء ، كسائر موارد قيام الحجة لديه دون المقلّد. فلاحظ.

التنبيه الثاني : في شمول النصوص لفتوى الفقيه باستحباب عمل ، فهل يصح للفقيه الآخر الالتزام باستحبابه أو لا؟.

والتحقيق : ان الفتوى تارة يقال : انها عبارة عن الرّأي والنّظر والاعتقاد.

ص: 530

وأخرى يقال : انها عبارة عن الاخبار عن الحكم الشرعي لكن بتوسط حدس المجتهد واستنباطه لا بطريق الحس أو ما يلازمه عادة.

وبناء على الأول ، يمتنع البقاء على تقليد المجتهد إذا مات لانقطاع رأيه ونظره بالموت لتقومه بالحياة والإدراك ، فهو مما لا رأي له فعلا ، فلا فتوى له فعلا وإن صدق أن رأيه كان كذا.

وأما على الثاني ، فلا يمتنع البقاء لعدم تقوم الخبر بالحياة ، بل الخبر باق بعد الموت ، ولذا يصدق الخبر فعلا على اخبار صاحب الوسائل رحمه اللّه مع أنه ميّت وتحقيق ذلك في محله من الفقه.

فعلى الالتزام بالأول ، لا يصدق بلوغ الثواب على الفتوى إذ البلوغ يتحقق بالأخبار ، والمفروض ان المجتهد لا يخبر عن الواقع بل يقول : « رأيي كذا » وقد لا يطابق رأيه الواقع ، فلا يصدق البلوغ على قوله المذكور.

وعلى الالتزام بالثاني ، يصدق البلوغ لتحقق الاخبار ، فيكون مشمولا لأخبار من بلغ.

وأما ما ادعي من ظهورها في الأخبار عن حس لا عن حدس فهو مما لا نرى له وجها عرفيا ، فلا يمكننا الالتزام به. فالتفت.

التنبيه الثالث : هل تشمل هذه الأخبار الخبر القائم على الأمر الضمني أو لا؟ وعلى تقدير شمولها له هل تتكفل إثبات الأمر الضمني أو لا؟ وفائدة ذلك فيما لو تكلفت إثبات الأمر الضمني هو ترتب أثر الأمر الضمني على ما قام على جزئيته خبر ضعيف كغسل مسترسل اللحية ، فيجوز المسح ببلله ، لأنه من أفعال الوضوء.

بخلاف ما إذا لم تشمل الأخبار الاخبار بالأمر الضمني ، أو لم تتكفل سوى إثبات استحبابه النفسيّ في ضمن العمل للأمر الضمني ، فانه لا يجوز المسح ببلله لأنه ليس ببلل الوضوء.

ص: 531

إذن فجواز المسح ببلل مسترسل اللحية يتوقف على مقدمتين : إحداهما : شمول الأخبار للأمر الضمني. والأخرى : إثباتها له.

وغاية ما يمكن أن يقال في إثبات ذلك هو : ان الظاهر من الأخبار هو استحباب الشيء على النحو الّذي دلّ عليه الخبر الضعيف من كونه نفسيا استقلاليا أو جزء واجبا أو مستحبا لأمر واجب أو مستحب.

وهذه الدعوى مردودة لوجوه :

الأول : ان بلوغ الثواب لا يصدق ببلوغ الأمر الضمني ، إذ لا ثواب عليه ، بل الثواب واحد على الكل ولا يتوزع.

الثاني : لو فرض ان الثواب يتوزع بحيث تلحق كل جزء حصة من الثواب ، فظاهر النصوص - بملاحظة تنكير الثواب فيها - هو كون الموضوع بلوغ ثواب خاص من حيث الكمية أو النوعية ، أما بلوغ ترتب أصل الثواب ، فلا أثر له.

ومن الواضح ان بلوغ الثواب على الأمر الضمني - بعد الفرض المزبور - من قبيل الثاني لا الأول فلا تشمله الأخبار.

وهذه نكتة دقيقة توجب التوقف في الحكم باستحباب كثير من الأمور التي قام على استحبابها خبر ضعيف ، إذ الاخبار بالاستحباب اخبار بأصل الثواب لا بخصوصيته ، فلا تشمله أخبار من بلغ ، فالتفت إليها ولا تغفل عنها.

الثالث : انه لو فرض شمولها للإخبار بالأمر الضمني ، فلا ظهور لها في أكثر من استحباب العمل في ضمن المركب ، وهو أعم من كونه جزء له أو مستحبا نفسيا في ضمنه ، إذ ما يلازم ترتب الثواب هو أصل ثبوت الأمر - بالوجهين السابقين - ، أما خصوصية كونه ضمنيا ، فلا طريق إلى إثباتها بواسطة ترتب الثواب. فكيف يدعي تكفل الأخبار إثبات استحباب الشيء بالنحو الّذي قام عليه الخبر الضعيف؟.

ص: 532

وعليه ، فلا تترتب آثار الأمر الضمني على ما قام الخبر على جزئيته ، بل انما تترتب آثار استحبابه بقول مطلق.

نعم ، يمكن سلوك طريق آخر لإثبات جزئية ما قام الخبر الضعيف على جزئيته ، وهو أن يقال : إن الخبر الدال على الأمر الضمني بعمل يدل بالملازمة على ترتب الثواب على العمل المركب من هذا الجزء وسائر الاجزاء ، ومقتضى ذلك ثبوت استحباب المركب من هذا الجزء وغيره مما هو معلوم الجزئية. فتثبت جزئية المشكوك بهذه الوسيلة. فلاحظ.

التنبيه الرابع : في شمول الاخبار للخبر الضعيف القائم على الوجوب أو الحرمة أو الكراهة.

وتحقيق ذلك :

أما مورد القيام الخبر على الوجوب ، فقد يدعى شمول الاخبار له فيثبت به استحباب العمل بتقريب : ان الاخبار بالوجوب اخبار بترتب الثواب على العمل بالملازمة ، لأنه راجح فلا يختلف عن الاخبار بالاستحباب. فيصدق بلوغ الثواب على العمل فيكون مستحبا بمقتضى هذه الاخبار.

هذا بناء على استفادة الاستحباب من الأخبار. أما بناء على استفادة الحجية فقد يشكل الأمر ، لأن الخبر الضعيف الثابت حجيته بأخبار من بلغ يدل على الوجوب ، ومقتضى ذلك ثبوت الوجوب به لا الاستحباب.

وقد تفصي عن ذلك بالالتزام بالتبعيض في مدلوله ، بان يكون حجة على إثبات أصل الرجحان لا الرجحان الخاصّ ، بنحو اللزوم لقيام الإجماع على عدم حجية الخبر الضعيف في إثبات الوجوب. فتدبر.

ولكن الحق عدم شمول أخبار من بلغ لهذا المورد لظهورها في كون الداعي إلى العمل هو تحصيل الثواب ، بمعنى أن موضوعها ما يتفرع العمل فيه على بلوغ الثواب طبعا وعادة ، بحيث يكون الداعي هو الثواب.

ص: 533

والأمر في الواجبات ليس كذلك ، إذ الداعي إلى فعل الواجب عادة وطبعا هو الفرار عن مفسدة تركه وهو العقاب ، لا الوقوع في مصلحة فعله وهو الثواب. فلا يكون الاخبار بالوجوب مشمولا لهذه القاعدة ، لما عرفت من اختصاص موضوعها بما يؤتى به بداعي الثواب عادة ، وهو خصوص المستحبات ، لعدم الإتيان بالواجب عادة بداعي الثواب وإن أمكن حصوله أحيانا. فالتفت.

وأما مورد قيام الخبر الضعيف على حرمة عمل ، فانه قد يقال انه يدل على ترتب الثواب على تركه ، فيثبت استحباب الترك بمقتضى أخبار من بلغ.

ولكن الحق عدم شمول أخبار من بلغ للمحرمات لوجهين :

أحدهما : ما تقدم في الواجبات من ظهور الاخبار في كون موضوعها ما يؤتى به بداعي الثواب عادة وهو لا ينطبق على المحرمات ، إذ الامتثال فيها لا يكون بداعي حصول الثواب عادة ، بل بداعي الفرار عن العقاب.

والآخر : التوقف في صدق بلوغ الثواب في موارد التحريم بالأخبار به.

أما على القول بان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل - كما هو المشهور - فواضح ، إذ لا ظهور في الزجر عن الفعل إلا في الصدّ عن مغبّة العمل ومفسدته ، بحيث يستحق اللوم والعقاب على الفعل ، فالاخبار بالزجر لا يكون اخبارا بترتب الثواب على الترك ، وان ترتب عليه بحكم العقل لأجل الامتثال ، لكنه أجنبي عن ظهور اللفظ عرفا في الوعد على الثواب.

وأما على القول بأنه عبارة عن طلب الترك - كما هو المختار تبعا لصاحب الكفاية (1) - ، فقد يتوهم انه ظاهر في رجحان الترك ، وهو ملازم لترتب الثواب.

ولكن نقول : ان طلب الترك في المحرمات انما هو بملاك وجود المفسدة

ص: 534


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 369 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

في الفعل لا المصلحة فيه ، وإلاّ كان واجبا ، ولم ترد أدلة تدل بالمطابقة على ترتب الثواب على ترك المحرمات - حتى يستلزم ذلك الملازمة العرفية بين الحرمة وترتب الثواب على الترك - بخلاف فعل الواجبات فقد بيّن ترتب الثواب عليها كثيرا -.

نعم ، دلّ الدليل على ترتب الثواب على جهاد النّفس والصبر على المحرم ، ولكنها فعلان وجوديان مستحبان أو لازمان ، فلا ربط لذلك بالثواب على ترك الحرام. وقد تعارف بيان المحرمات بترتيب العقاب على الفعل.

وعليه ، فلا ظهور لطلب الترك - بنحو اللزوم بملاك المفسدة في الفعل - إلا في التحرز عن مفسدة الفعل ، فلا ظهور له عرفا في ثبوت الثواب عليه. ومجرد ترتب الثواب عقلا على الامتثال لا يلازم الظهور العرفي للدليل الموجب لصدق البلوغ كما عرفت. فتدبر.

وأما مورد قيام الخبر الضعيف على الكراهة فقد يقال في وجه شمول الأخبار له : ان داعوية الأمر إلى العمل ومحركيته نحوه بما هو أمر وطلب لا تتحقق إلا بلحاظ ما يترتب على المخالفة من أثر شيء مكروه أو ما يترتب على الموافقة من أثر حسن مرغوب فيه. والأول ثابت في الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي.

والثاني في الأمر الاستحبابي والنهي التنزيهي المعبر عنه بالكراهة ، إذ لا يترتب على مخالفة الكراهة العقاب ، فلا بد أن يترتب على موافقته الثواب ، ليصح النهي بلحاظه ، لصلاحيته للداعوية بذلك.

والإتيان بالعمل أو تركه بلحاظ الأثر الوضعي لا يصحح داعوية الأمر أو النهي ، إذ الأثر الوضعي لا يرتبط بالأمر والنهي وموافقتهما ومخالفتهما بما هما أمر أو نهي.

وعليه ، فهناك تلازم عقلا بين الكراهة وترتب الثواب على الموافقة ، فيكون الاخبار بالكراهة إخبارا بترتب الثواب بالملازمة.

ص: 535

ولكن الحق هو عدم شمول أخبار من بلغ لموارد الكراهة ، إذ لا ظهور عرفا للدليل الدال على الكراهة في ترتب الثواب ، وإنما التلازم عقلي على ما بيّن ، وهو لا يصحح الظهور العرفي الّذي يستند إلى فهم العرف للملازمة لا إلى حكم العقل بها.

والغالب في مواقع بيان الكراهة هو بيانها بترتب المفاسد الوضعيّة على الفعل ، وقلّ مورد - ان لم ينعدم - بيّن فيه النهي التنزيهي بعنوان ترتب الثواب على الترك مطابقة.

فإذا ثبت ذلك ، يظهر عدم صدق بلوغ الثواب عند الاخبار بالكراهة ، فلا تشمله أخبار من بلغ.

وهذا هو العمدة في منع شمول الاخبار للخبر القائم على الكراهة. فانتبه.

التنبيه الخامس : ذكر المحقق العراقي قدس سره : انه يعتبر في صدق البلوغ ظهور اللفظ في المعنى ، فمع إجماله لا يصدق البلوغ ، وعليه فيعتبر عدم اتصاله بقرينة توجب سلب ظهوره.

وأما قيام القرينة المنفصلة على الخلاف ، فلا يضر في صدق البلوغ ، كما لو قام خبر ضعيف على استحباب إكرام كل عالم ، وقام خبر آخر على عدم استحباب إكرام النحويين ، فانه بمقتضى اخبار من بلغ يحكم باستحباب إكرام الجميع ، لأن المخصص المنفصل لا يستلزم انثلام ظهور العام في العموم ، وإنما يستلزم عدم حجيته فيه ، مع بقاء ظهوره على حاله ، فيصدق بلوغ استحباب إكرام الجميع مع قيام المخصص المنفصل ، وهكذا الحال في ما إذا كان نسبة المعارض المنفصل نسبة التباين.

هذا في فرض كون الخبر القائم على خلاف الاستحباب غير معتبر في نفسه.

ص: 536

أما إذا كان حجة في نفسه ، فقد يتوهم عدم شمول القاعدة - أعني قاعدة التسامح - حينئذ للخبر الدال على الاستحباب ، باعتبار ان دليل الحجية يتكفل تتميم الكشف الراجع إلى إلغاء احتمال الخلاف ، فيقطع تعبدا بعدم استحبابه.

وعليه ، فلا يصدق البلوغ الّذي هو موضوع الحكم بالاستحباب ، فيكون دليل الحجية حاكما على أخبار من بلغ.

ولكنه توهم فاسد ، لعدم التنافي بينهما لعدم ورود النفي والإثبات فيهما على موضوع واحد ، فان مفاد أخبار من بلغ هو استحباب العمل بعنوان ثانوي ، وهو عنوان بلوغ الثواب ، ومفاد الخبر المعتبر عدم استحباب العمل بعنوانه الأولي ، فلا تنافي بينهما كما هو واضح.

هذا خلاصة ما أفاده قدس سره مما يهمنا ذكره ، بتوضيح منّا (1).

أقول : مقتضى التحقيق أن يجعل محل البحث في مورد قيام القرينة المنفصلة ، هو ما إذا كان كل من دليلي العموم والخصوص حجة في نفسه ، فيبحث في أنه هل يتمسك بأخبار من بلغ في إثبات استحباب ما قام الدليل المعتبر الخاصّ على عدم استحبابه ، أو لا يتمسك بها لعدم شمولها لمثل هذا المقام؟.

وذلك لأن المورد الّذي يرد فيه حديث انقلاب الظهور العمومي وانثلامه بورود المخصص المنفصل فلا يصدق البلوغ وعدمه فيصدق البلوغ ، هو ذلك المورد ، دون ما إذا كان كلا الدليلين غير معتبرين أو كان أحدهما كذلك. وذلك لأن مناط حمل المطلق على المقيد - ظهورا أو حجية - فيما إذا استند الكلامان إلى متكلم واحد. وأما مع عدم صدورهما من متكلم واحد ، فلا تنافي بينهما كي يكون أحدهما قرينة على الآخر ، فهل هناك تناف بين أمر زيد عمرا بشيء عام ، ونهي عمرو خالدا عن بعض افراد ذلك الشيء؟. وهل يتخيل أحد التصرف في

ص: 537


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 283 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

العام الصادر من زيد لأجل صدور الخاصّ من عمرو.

ولا يخفى أنه مع عدم حجية الدليلين أو أحدهما ، لا يثبت صدور الكلامين من واحد ، فلا وجه لحمل أحدهما على الآخر ، فكيف يتوهم التصرف في ظهور العام مع عدم ثبوت صدور الخاصّ من الإمام علیه السلام ؟. كما أنه لا يتوهم التصرف في ظهور العام الّذي لا تعلم حجيته وصدوره من الإمام علیه السلام بواسطة الخاصّ المعلوم الصدور؟.

وهذا هو الوجه في التوقف لا ما يتخيل من أنه لا مجال لأصالة الظهور مع عدم اعتبار السند ، كما لا مجال لاعتبار السند مع إجمال الدليل ، ولذا يلتزم بعدم شمول أدلة حجية الخبر للخبر الصحيح المجمل في ظهوره ، فانه تخيل فاسد لأن عدم التعبد بصدور الخبر المجمل إنما هو لعدم ترتب أثر عليه.

أما حجية الظهور في مورد ضعف الخبر ، فلا محذور فيها بعد ترتب أثر عملي على تشخيص الظهور ومعرفة مراد المتكلم ، وهو صدق بلوغ الثواب الّذي عرفت أنه موضوع الحكم بالاستحباب ، إذ ما لم تكن للكلام كاشفية عن مراد المخبر وجدانا أو تعبدا لم يتحقق صدق البلوغ ، فلا مانع من إجراء أصالة الظهور في كلامه بلحاظ الأثر المزبور ، ولذا يتمسك بأصالة الظهور مع العلم بكذب المخبر ، فينسب له الكذب على الإمام علیه السلام استنادا إلى حجية ظهور كلامه في تشخيص مراده لترتيب آثار الكذب على الإمام علیه السلام .

وإذا ظهر ما ذكرناه فيقع الكلام في حكم الصورة التي بيناها.

والحق عدم شمول أخبار من بلغ لمورد الخاصّ ، لأن تقديم المقيد على المطلق الراجع إلى بيان قصر المراد الجدي للعام على غير مورد الخاصّ موجب لعدم صدق بلوغ الثواب بالنسبة إلى مورد الخاصّ ، إذ صدق البلوغ يتوقف على كاشفية الكلام عن المراد الجدي - ولو لم يكن حجة -.

ص: 538

أما إذا لم يكن كاشفا عن المراد الجدي - كما لو صرح المتكلم بان مرادي الجدي ليس على طبق ما تكلمت ولم أكن في مقام بيانه - فلا يصدق البلوغ.

وعليه ، فمع تقديم المقيد - بضميمة أن الكلام المتعدد الصادر من الأئمة علیهم السلام بمنزلة كلام واحد يفسر بعضه بعضا - يكشف ذلك عن أن المخبر عن الإمام علیه السلام بالمطلق أو العام لم يكن قصده الاخبار عن المطلق أو العام جدّاً. ولم يكن قاصدا الحكاية عن ان المراد الجدي هو العموم ، فلا يصدق بلوغ الثواب على مورد التخصيص.

وأما مورد التعارض ، وكون الخبر المعارض حجة كما إذا قام خبر ضعيف على الاستحباب وقام خبر صحيح على عدم الاستحباب ، وما يدخل فيه ما إذا قام الخبر الضعيف على الاستحباب بنحو العموم وقام الخبر الصحيح على عدمه في مورد خاص - إذ عرفت انه ليس من موارد الجمع الدلالي - ، فقد يتخيل دعوى الحكومة بالتقريب السابق المذكور في كلام العراقي قدس سره .

ولكن فيه : ان البلوغ يساوق الاخبار. ومن الواضح ان العمل بأحد الدليلين لحجيته سندا الراجع إلى إلغاء احتمال الخلاف سندا ، لا ينتفي به صدق الاخبار بالاستحباب جدا في موارد الخبر الضعيف ، فيصدق البلوغ.

وبالجملة : في مورد تقديم الخاصّ من حيث الدلالة لا يصدق البلوغ. وأما في مورد تقديمه سندا بلا تصرف في مدلول العام أو الدليل الآخر ، فيصدق البلوغ لتحقق الاخبار بالثواب جدا.

وأما ما أفاده قدس سره في دفع الحكومة بعدم التنافي لتعدد الموضوع فهو عجيب منه قدس سره ، إذ لا يفرض التنافي بين الحاكم والمحكوم ، ولذا يقدّم الحاكم على المحكوم ، كما أن الدليل الحاكم المتصرف في الموضوع لا يرد على ما يرد عليه المحكوم ، بل هو يستلزم التصرف في موضوعه.

وبالجملة : دليل حجية الخبر الصحيح - بمقتضى الدعوى - يستلزم رفع

ص: 539

صدق البلوغ. فالجواب عنه بان الخبر الصحيح يتكفل الاستحباب بالعنوان الأولي فلا ينافي اخبار من بلغ. غير جار على الأسس الصناعية في جواب مثل الدعوى ، فان المدعى فرض حكومة دليل الاعتبار على اخبار من بلغ لاستلزامه رفع موضوعها ، فأي ربط لذلك ببيان مدلول الخبر المعتبر؟!. فالتفت ولا تغفل.

التنبيه السادس : في شمول اخبار من بلغ للاخبار بالفضائل التي يتحلى بها الأئمة صلوات اللّه عليهم ) ومناقبهم. والاخبار بالمراقد الشريفة. وقد حكي عن الشهيد الثاني نسبته إلى الأكثر (1). وحكي عن الشيخ رحمه اللّه الذهاب إليه في رسالته (2).

وتقريب الشمول : هو ان العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء فالعمل بالخبر القائم على الفضيلة نشرها ، والعمل بالخبر القائم على ان هذا المكان مرقد الإمام علیه السلام هو الحضور عنده ، فيكون الاخبار بالموضوع إخبارا بالملازمة عن استحباب العمل المتعلق به من فعل أو قول ، فتشمله أخبار من بلغ بلحاظ المدلول الالتزامي من استحباب النقل أو الحضور عنده أو غيرهما.

وإلا فنفس الموضوع المخبر به لا معنى لأن يكون مما بلغ فيه الثواب ، إذ الثواب على العمل لا على الموضوع.

أقول : لا يخفى أن هذه الأخبار لا تشمل ما إذا كان المورد في نفسه ومع قطع النّظر عنها قبيحا عقلا أو عقلا وشرعا.

والسرّ فيه هو ظهورها في كون مجرد بلوغ الثواب محركا للمبلغ نحو العمل وداعيا إليه.

ص: 540


1- الشهيد الثاني زين الدين - الدراية / 29 طبعة النجف.
2- المحقق الشيخ محمد حسن الآشتياني - بحر الفوائد 2 / 71. الطبعة الأولى.

ومن الواضح أن بلوغ الثواب على ما هو قبيح عقلا أو شرعا لا يكون محركا للعبد نحو العمل ، ولا يصدر العمل منه بداعي الثواب بمجرد بلوغه ، فالأخبار لا تشمل مثل هذا المورد.

وعليه نقول : إذا كان العمل المتعلق بالموضوع المخبر به من مقولة القول ، كنشر الفضيلة ونقل المصيبة ونحوهما. أشكل شمول اخبار من بلغ للاخبار باستحبابه ، وذلك لأن النقل والاخبار بما لا يعلم مطابقته للواقع قبيح ، لأنه كذب محرم شرعا وعقلا ، بناء على ان الكذب هو الاخبار بما لا يعتقد مطابقته للواقع لا ما يعتقد مخالفته فيكون التقابل بينه وبين الصدق تقابل العدم والملكة.

وأما بناء على ان الكذب عدم مطابقة المخبر به للواقع والصدق هو المطابقة - فيكون التقابل بينهما تقابل التناقض أو التضاد ، أن أريد من عدم المطابقة المخالفة للواقع - ، فما لا يعلم أنه مطابق لا يعلم أنه صدق أو كذب ، فلا يحرم شرعا لأصالة البراءة ، لأنه شبهة موضوعية ، ولكنه قد يقال بقبحه عقلا بدعوى ان الأخبار بما لا يعلم مطابقته يقبح عقلا.

وقد يذكر ذلك بدعوى ان الشيء ما لم يرجع إلى الظلم لا يكون قبيحا عقلا ، ولا يصدق الظلم على مجرد الاخبار بما لا يعلم مطابقته إذا لم يترتب عليه ضرر على نفسه أو غيره.

والصحيح ان يقال في وجه حرمته وقبحه عقلا : إن كل ما لا يعلم انه كذب يكون طرفا لعلم إجمالي بحرمة الاخبار به أو بنقيضه أو ضده للعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع فيكون كذلك ، فإذا لم يعلم بمجيء زيد ، يعلم إجمالا بان الاخبار به أو الاخبار بعدم مجيئه حرام واقعا لخلو الواقع عن أحدهما ، فهو يعلم ان الكذب لا يخرج عن أحدهما. وهو علم إجمالي منجز فيستلزم حرمة كل من الطرفين عقلا. فلاحظ وتدبر.

ص: 541

هذا تمام الكلام في قاعدة التسامح. وبه ينتهي الكلام عن التنبيه الثاني من تنبيهات مسألة البراءة.

التنبيه الثالث : ذكر صاحب الكفاية قدس سره : أن النهي عن العمل تارة : يرجع إلى النهي عنه وطلب تركه في زمان أو مكان ، بحيث لو وجد الفعل دفعة واحدة لم يتحقق امتثال النهي أصلا. وأخرى : يرجع إلى طلب ترك كل فرد منه على حدة ، بحيث يكون ترك كل فرد إطاعة على حدة ، فلو جاء ببعض الأفراد وترك البعض الآخر لأطاع وعصى.

فعلى الأول ، لا بد على المكلف من إحراز ترك العمل بالمرة ، فإذا شك في فرد أنه من أفراد ذلك العمل أولا ، كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم تركه تحصيلا للفراغ اليقيني. إلاّ إذا أمكن إحراز ترك العمل المنهي عنه - في هذه الحال ومع الإتيان بالمشكوك - بالأصل ، وهو استحباب ترك العمل لو كان مسبوقا بالترك ، فيثبت به الامتثال.

وأما على الثاني : فلا يلزم المكلف الا ترك ما علم أنه فرد للعمل. وأما مع الشك في كونه من افراده فأصالة البراءة محكمة (1).

فما أفاده قدس سره تفصيل في إجراء البراءة في الشبهة الموضوعية التحريمية.

هذا ولكن مراده من النحو الأول الّذي لا يكون مجرى للبراءة لا يخلو عن إجمال ، إذ لا يعلم نظره إلى كيفية تعلق النهي وما هو متعلقه؟. ولأجل ذلك وقع الاشتباه في كلمات الأعلام.

وتوضيح الكلام بنحو يرتفع به بعض الإجمال عن مطلب الكفاية هو : ان النهي عن الفعل انما ينشأ بملاك وجود المفسدة فيه ، ولو التزم بأنه عبارة عن طلب

ص: 542


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /353- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الترك - كما هو المختار وفاقا لصاحب الكفاية (1) - ، فان طلب الترك بملاك المصلحة فيه يرجع إلى وجوبه كما في مورد الصوم لوجوب الترك فيه لمصلحة فيه.

وعليه ، فصور النهي المتصورة لا تعدو الثلاثة ..

لأن المفسدة إما ان تكون في صرف وجود الفعل بالمعنى الأصولي لصرف الوجود وهو أول الوجود ، كما لو أراد الشخص ان ينام ساعتين وكان بحيث إذا استيقظ لا يستطيع النوم بعد ذلك ، فانه يكره صرف وجود الكلام الموجب لإيقاظه بمعنى أول وجوده.

أما إذا تحقق الكلام واستيقظ لا يكره الكلام بعد ذلك ، ومقتضى ذلك هو تعلق الطلب بترك صرف وجود الكلام ، فينهى عبيدة أو أولاده عن صرف وجود الكلام ، فلو تكلموا واستيقظ فلا نهي منه عن تكلمهم.

وأخرى : تكون المفسدة في كل فرد من افراد الفعل وهو واضح ، فيتعلق الطلب بترك كل فرد فرد على حدة.

وثالثة : تكون المفسدة في مجموع افراد الفعل في زمان خاص ، كما إذا كان الشخص يتأذى من مجموع افراد الفعل الواقعة في ساعتين لا أقل ، فيتعلق النهي بمجموع الأفعال الراجع إلى طلب ترك مجموع الافراد في الزمان الخاصّ.

وهذه الصور تختلف في مقام الامتثال ..

فالامتثال في الصورة الأولى لا يتحقق إلاّ بترك جميع الوجودات ، لأن ترك صرف الوجود لا يتحقق إلا بترك الكل ، إذ لو جاء بفرد واحد تحقق صرف الوجود ، فليس للنهي فيه الا إطاعة واحدة وعصيان واحد.

وأما في الصورة الثانية ، فالانتهاء عن كل فرد يكون إطاعة مستقلة لتعلق الطلب بتركه خاصة ، فالنهي فيه له إطاعة متعددة وعصيان متعدد.

ص: 543


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /149- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأما الصورة الثالثة ، فيتحقق الامتثال بترك أحد الوجودات ولو جاء بالباقي لصدق ترك المجموع ، لأن المجموع لا يتحقق إذا لم يتحقق أحد الوجودات لأنه جزؤه ، ولا يتحقق العصيان إلا بإتيان جميع الوجودات ، فليس له إلا إطاعة واحدة وعصيان واحد لكنه يختلف عن الصورة الأولى.

ولا يخفى أنه يمكن ان يكون منظور الكفاية هو الصورة الأولى للنهي ، لما عرفت فيما من ان الإتيان بالفعل ولو دفعة موجب لعدم تحقق الامتثال ، في قبال الصورة الثانية التي ذكرها في كلامه.

وللمحقق الأصفهاني قدس سره في المقام تعليقة طويلة تعرض فيها إلى بحث اصطلاحي ببيان المراد من صرف الوجود ، وأنه الوجود الجامع بين وجودات طبيعة خاصة بنهج الوحدة في الكثرة ، فهو الطبيعي الّذي لا يشذ عنه وجود.

كما تعرض للبحث عن طلب الترك الناشئ عن مصلحة فيه ، ثم بعد أن بحث في ذلك مفصلا حمل كلام الكفاية على ما إذا انبعث طلب الترك عن مصلحة واحدة في طبيعي الترك بحده أو مجموع التروك ، فالمطلوب إما مجموع التروك أو صرف الترك ، وهو الطبيعي الّذي لا يشذ عنه ترك (1).

أقول : لا يهمنا البحث الاصطلاحي.

كما أنه لا نوجّه عليه إشكال عدم المناسبة للتعرض إلى البحث عن المصلحة الوجوبية ، وانه استطراد ، إذ التعرض إليه لا يخلو من فائدة.

إنما الّذي نؤاخذه به هو حمله كلام الكفاية على ما عرفت من موارد الوجوب ، مع أن كلام الكفاية في النهي المتعلق بالفعل. وقد عرفت انه ينطبق على الصورة الأولى من الصور التي ذكرناها. وقد صرّح قدس سره في كلامه : بان

ص: 544


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 228 - الطبعة الأولى.

عدم أول وجود الطبيعة يستلزم عدم سائر الوجودات ، في مقام بيان عدم كون العدم المطلق نقيض أول الوجود وبديله. فلم لم يحمل كلام الكفاية على طلب عدم أول وجود الطبيعة الّذي قربناه بتصوير المفسدة في أول الوجود؟. فالتفت ولا تغفل.

وأما المحقق النائيني قدس سره ، فلم يتصور في كلامه لما يشترك مع ما فرضه صاحب الكفاية في اللازم - وهو عدم تحقق الامتثال بتحقق الفعل دفعة واحدة - ، سوى طلب الترك بنحو العموم المجموعي وجعله مجرى البراءة مع الشك في المصداق ، لدوران الأمر بين الأقل والأكثر ، وطلب العنوان الانتزاعي عن مجموع التروك الّذي عبر عنه بالموجبة المعدولة المحمول ، كقوله : « كن لا شارب الخمر » فانه لا يتحقق إلا بمجموع التروك ، فلو شرب الخمر ولو دفعة لم يتحقق هذا العنوان ، وهو عنوان : « لا شارب الخمر » أو : « تارك شرب الخمر » ، وقد جعل مورد الشك في المصداق هاهنا مجرى الاشتغال ، لأن مجموع التروك الخارجية محصّل للعنوان البسيط المطلوب ، فالشك في المصداق يرجع إلى الشك في المحصّل بدونه وهو مجرى الاشتغال (1).

وقد عرفت إمكان كتصوير كلام الكفاية بما لا يرجع إلى أحد هذين الوجهين ، فذلك غفلة عن تعلق الطلب بترك أول الوجود. فلاحظ.

هذا كله فيما يرتبط بالموضوع الّذي يريده صاحب الكفاية ، والّذي بيّن لازمه بلا أن يتعرض لتصويره.

ويقع الكلام في الحكم من حيث جريان البراءة والاشتغال مع الشك في المصداق. فنقول : في الصورة التي صورنا بها مراد الكفاية وهو تعلق الطلب بترك أول الوجود الملازم لترك سائر الوجودات. إذا شك في شيء أنه خمر أولا - مثلا

ص: 545


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 394 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

- لا بد من الاحتياط بالترك لعدم العلم بدونه بتحقق ترك أول الوجود. ولا مجال لإجراء البراءة ، لأن مورد البراءة هو الشك في أصل ثبوت التكليف أو في سعته وضيقه كما في موارد الأقل والأكثر ، ولا شك لدينا كذلك ، فان التكليف معلوم بحدوده وكل ترك ملازم لمتعلق التكليف لا نفسه ، فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال.

وأما لو كان الطلب متعلقا بالترك بنحو العموم المجموعي ، كان مورد الشك مجرى البراءة ، لأنه من دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

ولو كان الطلب متعلقا بالترك بنحو الوحدة في الكثرة فكذلك ، لرجوع الشك في مصداقية شيء إلى الشك في انبساط التكليف على الحصة المشكوكة وهو مجرى البراءة.

وقد سلك المحقق الأصفهاني في تقريب جريان البراءة في هذه الصورة مسلكا دقيقا يشتمل على الإشكال والرد (1). مع انه كان يكتفي بالوجه البسيط الّذي ذكرناه.

وسيتضح الحال فيه إن شاء اللّه تعالى عند التكلم قريبا في الشبهة الموضوعية بخصوصياتها.

وأما الصورة المذكورة في كلام المحقق النائيني الراجعة إلى تعلق الطلب بالعنوان الانتزاعي ، فلو سلم وجود عنوان انتزاعي نسبته إلى التروك الخارجية نسبة المسبب إلى السبب كان مورد الشك مجرى الاشتغال ، لأنه من الشك في المحصل كما أفاد قدس سره .

وأما الاستصحاب الّذي أشار إليه في الكفاية وهو استصحاب كون المكلف تاركا للحرام ، فيثبت به متعلق الحكم (2) ، فقد استشكل فيه المحقق

ص: 546


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 230 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /353- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأصفهاني : بان المستصحب ليس من الأمور المجهولة ، كما أنه لا يترتب عليه أثر مجعول إذ المترتب عليه هو الفراغ عن العهدة ، وهو ليس بأثر شرعي بل هو عقلي (1).

أقول : بناء على ما وجّه به كلام الكفاية من حمل مراده على ما إذا كان المطلوب هو طبيعي الترك بحده بنحو الوحدة في الكثرة ، يكون الاستصحاب فيما نحن فيه من الاستصحاب الجاري في متعلق الحكم ، وهو لا محذور فيه ، بل يلتزم به في بعض الموارد.

نعم ، بناء على ما وجهنا به كلامه من حمل مراده على تعلق الطلب بترك أول الوجود ، لا يكون الاستصحاب من استصحاب متعلق الحكم ، إذ الترك لازم للمتعلق لا نفس متعلق الحكم ، فيتوجه الإشكال المزبور. وسيجيء تتمة توضيح لذلك في مبحث الشبهة الموضوعية إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

التنبيه الرابع : لا يخفى ان الاحتياط - بعد ثبوت حسنة عقلا ونقلا - يحسن في مطلق موارد احتمال التكليف ، سواء كانت حجة على نفيه أم لم تكن.

نعم ، يستثنى ما إذا استلزم الاحتياط اختلال النظام ، فانه لا يكون حسنا عقلا ولا شرعا ، إذ الإخلال بالنظام قبيح عقلا ، فيمتنع أن يحسن الاحتياط المستلزم له ، بل الاحتياط حسن بالمقدار الّذي لا يخل بالنظام ، فإذا وصل إلى حد الإخلال لم يكن حسنا. وهذا واضح.

وقد نبّه المحقق الأصفهاني على أمرين :

الأول : ان الرجحان الشرعي لا حقيقة له إلا الاستحباب المولوي ، إذ الراجح من الشارع بما انه شارع معناه المستحب المولوي ، إذ المدح من الشارع بما هو عاقل يرجع إلى رجحانه العقلي لا رجحانه من الشارع بما هو شارع. إذن

ص: 547


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 230 - الطبعة الأولى.

فمعنى كون الاحتياط راجحا شرعا هو كونه مستحبا مولويا ، فلا معنى بعد الحكم برجحانه شرعا للترديد في ان الأمر به للاستحباب أو للإرشاد. كما جاء في الرسائل (1).

الثاني : ان صاحب الكفاية لا يرى إمكان التفكيك بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية.

وعلى هذا الأساس بنى على عدم منجزية العلم الإجمالي أصلا في مورد الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه ، ولم يلتزم بالتوسط في التنجيز كما ذهب إليه آخرون.

وعليه ، فما ذكره من التبعيض في الاحتياط في موارد اختلال النظام لا يتم بالإضافة إلى الجمع بين محتملات تكليف واحد ، لأنه من قبيل الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه يمنع من منجزية العلم.

وإنما يتم بالإضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف متعددة ، لأن كل تكليف منجز في نفسه ، فما لم يطرأ المانع لا يرتفع التنجيز (2).

وهذا التنبيه لا ينبغي صدوره من مثله ، إذ الكلام ليس في لزوم الاحتياط ، بل في رجحانه وحسنه في مورد فرض فيه عدم منجزية العلم وقيام الحجة على الخلاف. فلا يختلف الحال بين الجمع بين محتملات تكليف واحد وتكاليف متعددة. فهو قدس سره لا يلتزم بعدم حسن الاحتياط في الطرف الآخر عند الاضطرار إلى أحدهما ، وإن التزم بعدم وجوبه. فالتفت.

ص: 548


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /216- الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 232 - الطبعة الأولى.

الفهرس

تقسيم حالات المكلف

التقسيم الأول : ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه)... 5

محاولة المحقق العراقي لتصحيح تقسيم الشيخ وما يرد عليها... 6

التقسيم الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية وما يرد عليه... 7

التقسيم الثالث : تقسيم آخر ذكره المحقق الخراساني... 8

التقسيم الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه)... 9

وجوه لاختصاص المكلف المذكور في التقسيم بالمجتهد والرد عليها... 11

توضيح نظر صاحب الكفاية في اختصاص الموضوع بالمجتهد... 13

محذورات تنتج من اختصاص الموضوع بالمجتهد وحلها... 14

القطع والكلام فيه في جهات

الجهة الأولى : وجوب اتباع القطع ومنجزيته... 23

توضيح المحقق الأصفهاني لكلام الكفاية في المقام... 23

حسن العدل وقبح الظلم ليسا من القضايا المشهورة... 24

عدم مدخلية العقل للحكم باستحقاق العقاب... 26

قابلية وجوب إطاعة ومنجزية القطع للجعل وعدمها... 30

الجهة الثانية : كون المسألة أصولية أم لا؟... 31

الجهة الثالثة : الاطمئنان حجة... 32

الجهة الرابعة : التجري... 36

ص: 549

تحرير المحقق النائيني للمسألة على نحو تكون أصولية... 36

تقريب المحقق النائيني (رحمه اللّه) لتوهم شمول الاطلاقات لعنوان المقطوع ومناقشته فيه... 36

تقريب الدعوى والمناقشة فيها... 38

مناقشة مع المحقق النائيني (رحمه اللّه) في المقام... 40

تحرير وجه آخر للمحقق النائيني على كون المسألة أصولية... 41

استتباع القبح الفاعلي حرمة الفعل المتجرى به بنفس حرمة العنوان الواقعي... 41

كلام المحقق النائيني في المقام... 42

كلام المحقق النائيني (رحمه اللّه)... 43

استتباع القبح الفاعلي الحرمة بملاك غير ملاك حرمة العنوان الواقعي... 47

كلام صاحب الكفاية في بقاء الفعل المتجرى به على ما هو فيه... 49

هل التجري من عناوين فعل النفس... 50

مناقشة مع صاحب الكفاية... 51

تحرير المسألة على نحو تكون فقهيا... 54

تحرير المسألة على نحو تكون كلاميا... 56

استحقاق المتجري الذم لا العقاب... 57

مقدمات ذكرها المحقق النائيني لتقريب استحقاق المتجري والمناقشة فيها... 58

الاستشهاد بالكتاب والسنة مع ثبوت العقاب للمتجري... 60

عدم تمامية ما استشهد بها... 62

عدم اختصاص البحث في التجري بصورة العلم... 63

تعدد العقاب أو عدمه عند المصادفة... 63

الثمرة العلمية لمبحث التجري... 66

الجهة الخامسة : القطع الموضوعي... 67

اقسام القطع الموضوعي... 68

قيام الامارات والأصول مقام القطع الموضوعي وانكار صاحب الكفاية... 70

ايراد المحقق النائيني على صاحب الكفاية والمناقشة فيه... 73

مخالفة المحقق الأصفهاني صاحب الكفاية في الطريق والمناقشة في كلامه... 75

ص: 550

قيام الأصول مقام القطع... 79

قيام الامارة والاستصحاب مقام القطع الموضوعي إذا كان جزء الموضوع... 81

الجهة السادسة : القطع بالحكم المأخوذ موضوعا للحكم... 86

وجوه لمنع اخذ القطع بالحكم في موضوع نفس الحكم... 86

محالية اخذ القطع بالحكم في موضوع حكم مماثل أو مضاد... 90

الجهة السابعة : الموافقة الالتزامية... 103

الجهة الثامنة : حجية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة... 109

الجهة التاسعة : قطع القطاع... 116

الجهة العاشرة : العلم الاجمالي... 119

اثبات التكليف بالعلم الاجمالي والأقوال المذكورة... 119

كفاية الامتثال الاجمالي فيما يستلزم التكرار... 127

كفاية الامتثال الاجمالي فيما لا يستلزم التكرار... 135

الأمارات

الأمارة غير العلمية تحتاج إلى جعل شرعي... 139

امكان التعبد بغير العلم... 140

وجوه استحالة التعبد بالظن... 142

وجوه ثلاثة ذكرها صاحب الكفاية للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري... 143

ايراد المحققين النائيني والأصفهاني على الكفاية والمناقشة فيه... 147

توجيه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بتعدد المرتبة... 155

تقريب المحقق الأصفهاني للوجه المذكور والمناقشة فيه... 157

تقريب نقله المحقق الأصفهاني للوجه المذكور... 160

تقريب المحقق النائيني للوجه المذكور والمناقشة فيه... 161

المختار في تقريب الوجه المذكور... 165

لزوم تفويت المصلحة عند ثبوت الحكم الظاهري مع الواقعي... 166

لزوم نقض الغرض عند ثبوت الحكم الظاهري مع الواقعي... 175

ص: 551

الوجوه الأربعة في المجعول في الأمارات... 180

الوجوه الثلاثة في المجعول في الاستصحاب... 190

بيان مراد الشيخ في الفرق بين القول بالاجزاء والتصويب... 194

ملازمة الاجزاء للتصويب وعدمها... 195

مقتضى الأصل عند الشك في حجية الظن... 196

الشك في الحجية هل يلازم القطع بعدم حجيتها أم لا... 196

مدى امكان جريان استصحاب عدم حجية ما شك في حجيته... 199

مدى امكان جريان استصحاب الحجية... 204

الفصل الأول

حجية الظواهر... 207

تحقيق الكلام في حجية الظواهر... 209

تفصيل المحقق القمي في حجية الظواهر... 212

تفصيل الأخباريين في حجية الظواهر... 217

حجية قول اللغوي... 223

كلام صاحب الكفاية والمؤاخذات عليه... 223

اتفاق العلماء والاجماع على حجية قول اللغوي... 228

السيرة العقلائية القائمة على حجية قول اللغوي... 229

انسداد باب العلم باللغات دليل على حجية قول اللغوي... 233

الفصل الثاني

حجية الاجماع المنقول... 237

الاجماع المحصل والطرق إليه... 238

الفصل الثالث

حجية الشهرة... 245

ص: 552

وجوه الاستدلال على حجية الشهرة والرد عليها... 245

الفصل الرابع

حجية خبر الواحد... 249

توقف حجية الخبر على جهات ثلاث... 250

أدلة النافين لحجية خبر الواحد... 251

مناقشة في الاستدلال بالآيات... 252

مناقشة في الاستدلال بالروايات... 253

مناقشة في الاستدلال بالاجماع... 255

أدلة المثبتين على حجية خبر الواحد... 256

آية النبأ... 256

الاستدلال بالآية بطريق مفهوم الشرط... 257

المحتملات الثبوتية الثلاثة في الآية... 258

وجهان لعدم استفادة المفهوم من الآية... 260

الشرط المركب... 264

الخدشة في ثبوت المفهوم للآية من ناحية العلة... 266

شمول دليل حجية الخبر الوسائط... 270

آية النفر... 278

كيفية الاستدلال بالآية... 278

تقرب المحقق الأصفهاني لدلالة الآية... 280

مناقشة في الاستدلال بالآية بالاختلاف بين الاخبار والأنذار... 286

آية الكتمان... 288

آية السؤال... 290

آية الأذن... 293

الاستدلال بالاخبار لحجية الخبر... 294

الاستدلال بالاجماع القولي على حجية الخبر... 297

ص: 553

الاستدلال بالاجماع العلماء العملي... 298

الاستدلال بالسيرة... 298

عدم اختصاص الآيات الناهية بأصول الدين... 299

دعوى انصراف الآيات الناهية إلى الظن غير المعتبر... 300

تقريب المحقق الأصفهاني دورية تخصيص الآيات بالسيرة... 305

الاستدلال بالعقل على حجية الخبر الواحد... 309

الوجه الأول : ما اعتمده الشيخ (رحمه اللّه)... 309

الوجه الثاني : المنسوب إلى صاحب الوافية... 315

الوجه الثالث : المنسوب إلى المحقق صاحب الحاشية... 317

الوجه الأول من الوجوه المذكورة لحجية مطلق الظن... 321

الوجه الثاني لحجية مطلق الظن... 322

الوجه الثالث لحجية مطلق الظن... 323

الوجه الرابع دليل الانسداد... 323

المقدمة الأولى من مقدمات دليل الانسداد... 328

المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد... 330

المقدمة الثالثة من مقدمات دليل الانسداد... 331

المقدمة الرابعة من مقدمات دليل الانسداد... 334

تنبيه : في قاعدة نفي الحرج... 340

الاستدلال بآية ( ما يريد اللّه ... )... 340

الاستدلال بآية ( يريد اللّه بكم اليسر )... 343

الاستدلال بآية ( ما جعل عليكم في الدين )... 345

الاستدلال برواية أبي بصير... 347

الاستدلال برواية الفضيل بن يسار... 348

الرجوع إلى الأصول في العمل بالاحتياط... 352

الرجوع إلى فتوى المجتهد... 355

المقدمة الخامسة... 357

ص: 554

مباحث الأصول العملية

تمهيد... 365

فصل : في الشك في التكليف

منشأ تفصيل الشيخ وتعداده المسائل... 371

أدلة البراءة

الكتاب :

منها : وما كنا معذبين ... وما أورد على الاستدلال بالآية... 372

المختار في الاستدلال بالآية... 373

منها : لا يكلف اللّه نفسا ... والاحتمالات الأربعة في مدلول الآية... 377

كلام المحقق العراقي في الاحتمال الرابع والمناقشة فيه... 378

السنة :

منها : حديث الرفع... 382

الأمر الأول : الرفع والدفع متغايران أم لا؟... 383

الأمر الثاني : اسناد الرفع حقيقي أو مجازي؟... 384

الأمر الثالث : في بيان المرفوع بحديث الرفع... 386

الأمر الرابع : في عموم الحكم للشبهة الحكمية والموضوعية... 390

كلام المحقق النائيني (رحمه اللّه) في دفع الاشكال على التعميم... 395

الأمر الخامس : عدم شمول الحديث أو شموله لموارد العلم الاجمالي... 402

الأمر السادس : في عموم رفع ما لا يعلمون للمستحبات وعدم عمومه... 403

الأمر السابع : في تحديد موارد الحديث من الأحكام الوضعية والتكليفية... 404

الكلام في سائر فقرات الحديث والكلام في جهات... 407

الجهة الأولى : في ان المرفوع هو الحكم الثابت للمضطر إليه... 407

ص: 555

الجهة الثانية : في عموم رفع هذه العناوين لموارد الفعل والترك... 410

كلام المحقق النائيني (رحمه اللّه) في المقام والمناقشة فيه... 410

الجهة الثالثة : في شمول وعدم شمول الرفع للأحكام الضمنية... 414

الجهة الرابعة : في شمول رفع الاضطرار والاكراه للأحكام الوضعية... 417

منها : حديث الحجب وتحقيق الكلام فيه... 420

تقريبان لدعوى ناظرية الحديث إلى الأحكام الانشائية والمناقشة فيها... 421

منها : حديث الحل والكلام فيه في المقامين... 423

منها : حديث السعة والوجهان المحتملان فيه... 427

كلام صاحب الكفاية (رحمه اللّه) فيهما والمناقشة فيه... 427

منها : حديث الإطلاق... 428

محاولة المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه) في اثبات دلالة الحديث على الإباحة الظاهرية... 429

مناقشة مع المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه)... 432

منها : رواية عبد الأعلى وتقريب المحقق العراقي (رحمه اللّه) لدلالة الحديث والمناقشة فيه... 433

منها : رواية أيما امرئ ركب ... واستشكال الشيخ في دلالة الحديث... 433

ايراد المحقق العراقي على الشيخ (رحمه اللّه) وما يرد عليه... 434

منها : رواية عبد الرحمن بن الحجاج ومناقشة الشيخ (رحمه اللّه) في المقام... 435

ما ينبغي التنبيه عليه في المقام... 436

منها : رواية ان اللّه يحتج ... 437

الاجماع... 438

العقل

تحقيق قاعدة قبح العقاب بلا بيان... 438

اختلاف تقريري بحث المحقق النائيني (رحمه اللّه) في المقام... 442

ما افاده المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه) في المقام... 443

مناقشة مع العلمين... 443

ص: 556

كيفية الجمع بين قاعدتي قبح العقاب ودفع الضرر... 446

توضيح كلام الشيخ (رحمه اللّه) في تقديم قاعدة ( قبح العقاب ) على قاعدة ( وجوب دفع الضرر ) 446

بحث عن ثبوت قاعدة ( دفع الضرر )... 448

ما حكي عن السيد أبي المكارم في الاستدلال على البراءة... 453

الاستدلال باستصحاب عدم التكليف على البراءة... 454

كلمات الاعلام في المقام... 455

تحقيق الكلام في المقام... 456

أدلة الاحتياط الكتاب

السنة الاخبار الآمرة بالتوقف... 460

تقريب الاستدلال على وجوب الاحتياط... 461

توجيه الشيخ لدلالة الاخبار على وجوب التوقف وجوابه... 463

اعتراض المحقق الخراساني (رحمه اللّه) على الشيخ والرد عليه... 465

وجه آخر للشيخ (رحمه اللّه) في الجواب عن روايات التوقف... 466

كلام المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه) في المقام ونقده... 468

الاخبار الآمرة بالاحتياط... 472

مناقشة الشيخ (رحمه اللّه) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج... 472

التحقيق في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج... 473

موثق عبد اللّه بن وضاح وجواب الشيخ عن الاستدلال به... 476

رواية : أخوك دينك ومناقشة الشيخ فيها... 478

روايات التثليث... 480

الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة وكلام الشيخ فيها... 481

مناقشة في الاستدلال بالرواية... 482

ص: 557

تأييد الشيخ عدم دلالة الرواية... 483

العقل

الوجه الأول من وجوه الاستدلال بالعقل على الاحتياط وتوضيح كلام الكفاية... 486

الوجه الثاني من وجوه الاستدلال بالعقل... 492

الوجه الثالث من وجوه الاستدلال بالعقل... 492

تنبيهات

البراءة التنبيه الأول... 494

جريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية... 495

كلام صاحب الكفاية في جريان أصالة عدم التزكية مع الشك في قابلية الحيوان للتذكية 496

جريان أصالة عدم التذكية في مورد الشك فيها من جهة الشبهة الموضوعية... 497

تحقيق في معنى التذكية... 498

موضوع الحرمة والنجاسة والحلية والطهارة هل هو امر وجودي أو عدمي؟... 502

مقتضى مقام الاثبات في المقام... 508

كلام صاحب الكفاية (رحمه اللّه) في صور الشبهة الحكمية... 510

ايراد المحقق الأصفهاني (رحمه اللّه) على الكفاية... 511

ما يرد على الصورة الثالثة من صور الشبهة الحكمية في المقام... 512

التنبيه الثاني : الاحتياط في العبادات... 513

بحث عن امكان الاحتياط في العبادات... 513

طريقان لاثبات تعلق الأمر بالعبادة المأتي بها بعنوان الاحتياط... 515

مناقشة صاحب الكفاية (رحمه اللّه) للوجهين... 515

مناقشة المحقق (رحمه اللّه) في المقام... 516

تصدي الشيخ (رحمه اللّه) لرفع الاشكال على جريان الاحتياط في العبادات... 516

ص: 558

التسامح في أدلة السنن

المستفاد من صحيحة هشام بن سالم... 518

النصوص تتكفل لجمع الثواب على ذات العمل أو العمل المقيد... 519

استظهار صاحب الكفاية ترتب الثواب على ذات العمل... 521

تحقيق وتوجيه لكلام صاحب الكفاية... 522

كلام المحقق النائيني (رحمه اللّه) في المقام والمناقشة فيه... 527

تنبيهات

التنبيه الأول : المستفاد من هذه الاخبار... 530

التنبيه الثاني : شمول النصوص لفتوى الفقيه باستحباب عمل وعدم شمولها... 530

التنبيه الثالث : شمول الاخبار الخبر القائم على الأمر الضمني وعدم شمولها... 531

التنبيه الرابع : شمول الاخبار للخبر الضعيف وعدم شمولها... 533

التنبيه الخامس : اشتراط ظهور اللفظ في المعنى في صدق البلوغ... 536

كلام المحقق العراقي (رحمه اللّه) في المقام... 536

التحقيق في المقام... 537

التنبيه السادس : شمول الاخبار اخبار فضائل الأئمة عليهم السلام... 540

التنبيه الثالث : تفصيل ذكره صاحب الكفاية في اجراء أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية 542

كلمات الاعلام في المقام ... 547

التنبيه الرابع : هل الاحتياط حسن في مطلق موارد احتمال التكليف... 547

الفهرس... 549

ص: 559

المجلد 5

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1414 ه-.ق

الصفحات: 487

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء الخامس

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 5

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

تتمة مبحث البراءة

اشارة

ص: 5

ص: 6

« الشبهة الموضوعية »

ويقع الكلام بعد ذلك في الشبهة الموضوعية التحريمية. والكلام في جهات :

الأولى : في الدليل على البراءة فيها شرعا.

الثانية : في تقريب جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الثالثة : في ضابط ما تجري فيه البراءة منها ، وتمييزه عما لا تجري فيه.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها : ان الدليل على البراءة في الشبهات الموضوعية هو ما تقدم من أدلة البراءة ، ويضاف إليها بعض النصوص التي قيل باختصاصها في الشبهة الموضوعية :

منها : رواية عبد اللّه بن سنان : « قال أبو عبد اللّه علیه السلام كل شيء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (1). وقد ورد هذا المضمون في نصوص أخرى وقع السؤال فيها عن الجبن (2).

ص: 7


1- وسائل الشيعة 12 / 59 باب : 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : 1.
2- وسائل الشيعة 17 / 90 باب : 61 من أبواب الأطعمة المباحة.

وقد تعرض الشيخ رحمه اللّه إلى هذا المضمون ، وذهب إلى عدم شموله للشبهة الحكمية وانه يختص بالشبهة في الموضوع لقرائن متعددة ..

كفرض وجود القسمين من الحلال والحرام.

وظهور ان ذكر القيد لبيان منشأ الاشتباه ، وان وجود القسمين هو الّذي أوجب اشتباه الحال في المشكوك ، وهذا لا يتم في الشبهة الحكمية لعدم كون منشأ الاشتباه وجود القسمين ، بل يتحقق الشك من جهة الحكم ولو لم يكن هناك قسمان.

وكون الغاية هي معرفة الحرام منه. ومن الواضح انه لو فرض تصور جامع بين ما هو الحلال والحرام في موارد الشبهة الحكمية ، فلا تكون معرفة الحرام غاية لحلية المشكوك ، كما لا يخفى.

وبالجملة : ظهور النص في جعل الحلية في خصوص مورد الشبهة الموضوعية لا ينكر (1).

ومنها : قوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه » (2) - بناء على أنه غير رواية مسعدة بن صدقة ، وقد تقدم الحديث في ذلك فراجع - وظهورها في خصوص مورد الشبهة الموضوعية قد ينكر بدوا ، لعموم : « كل شيء » لكل مشكوك ولو بالشبهة الحكمية. لكن قوله : « حتى تعلم أنه حرام » يوجب الظهور في الاختصاص ، إذ لا يعبّر في موارد الشبهة الحكمية بهذا التعبير ، بل يقال : « حتى تعرف حرمته » ، فمثل التعبير ظاهر في العلم بمصداقيته للحرام وانطباق الحرام عليه ، وهو ظاهر في موارد الشبهة الموضوعية.

ولو تنزلنا عن هذه الدعوى ، فمفهومها للشبهة الحكمية لا يضر دلالتها

ص: 8


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /200- الطبعة الأولى.
2- قريب من هذا المضمون روايات باب : 4 من أبواب ما يكتسب به ج 11.

على الإباحة في الشبهة الموضوعية ، وهو يكفينا في المقام لأنه المهم.

ومنها : رواية مسعدة بن صدقة التي استدل بها العلامة رحمه اللّه في التذكرة وهي قوله : « كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثواب يكون عليك ولعله سرقة ، أو العبد يكون عندك ولعله حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة » (1).

هذا ، وقد تقدمت الإشارة إلى الإشكال في دلالتها على أصالة الإباحة والحلية ، باعتبار ان الموارد المذكورة في النص ليست من موارد إجراء أصالة الحل ، بل الحل فيها مستند إلى الأصول أو الأمارات الموضوعية كاليد في مثال الثوب والعبد ، بحيث انه لو لا هذا الأصل الموضوعي لكان الحكم فيها بحرمة التصرف لا بحليته ، لجريان أصالة بقاء الثوب على ملك مالكه الأول - في مثال الثوب -. وأصالة الحرية في الإنسان المشكوك ، أو أصالة عدم تأثير العقد الواقع عليه ، فان الأصل في المعاملات الفساد - في مثال العبد المشتري -. وكأصالة عدم تحقق الرضاع والنسب - في مثال الزوجة - فانه يستلزم الحلية ، ولو لا هذا الأصل لكان المعيّن الحكم بالحرمة لأصالة عدم تأثير العقد.

وقد صرّح الشيخ رحمه اللّه بهذا الإشكال ، كما تقدم منا - في مقام تحقيق الحال فيه - ان هذا الحديث بعد عدم إمكان حمله على ظاهره من إنشاء الحلية في جميع هذه الموارد وغيرها من موارد أصالة البراءة بإنشاء واحد ، فانه يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، يدور أمره بين احتمالين :

أحدهما : ان يكون إخبارا عن جعل الحلية في جميع موارد الشك فيها ، فيدل على جعل أصالة الحل لوجود المورد الفاقد لدليل يدل على الحلية غيرها.

ص: 9


1- وسائل الشيعة 12 / 60 باب : 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : 4.

والآخر : ان يكون اخبارا بعنوان الإشارة إلى ما هو المجهول المفروض جعله في الشريعة من أحكام تسهيلية (1).

وقد عرفت عدم دلالته - بناء على هذا الاحتمال - على جعل أصالة الحل.

وقد تقدم عدم ظهور الحديث في أحد الاحتمالين ، فيكون مجملا. فراجع تعرف.

وأما الجهة الثانية : فتحقيق الكلام فيها : أنه قد يدعى عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ولا يخفى ان هناك موردا تنفي فيه هذه القاعدة وهو مورد الشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص.

ولكن الوجه الّذي تنفي به القاعدة هناك لا يتأتى هنا ولا يرتبط بما نحن فيه.

فان الوجه المذكور هناك يرجع إلى بيان ان البيان المأخوذ في موضوع القاعدة ليس هو خصوص البيان الواصل بنفسه إلى العبد ، كي لا يجب على العبد الفحص لعدم وصول الدليل فيحكم العقل بالبراءة ، بل هو ما يعم الواصل وما هو في معرض الوصول ، لأن طريقة المولى ليست على إيصال كل حكم إلى المكلف بنفسه ، بل طريقته على إيصاله إلى بعض المكلفين ، فيصل إلى الجميع تدريجا بواسطة النقل ، وفي مثل ذلك لا يحكم العقل بقبح العقاب قبل الفحص واليأس عن الدليل.

ولا يخفى انه لا موضوع لهذا الوجه فيما نحن فيه لفرض العلم بالحكم ، فلو لم يتم هذا الوجه والتزم بإرادة البيان الواصل من موضوع القاعدة ، فهو حاصل فيما نحن فيه للعلم بالحكم الكلي. إذن فلا بد من كون منشأ الشك في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدم جريانها فيما نحن فيه أمرا آخر غير

ص: 10


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /201- الطبعة الأولى.

تردد الأمر في كيفية البيان ، وانه البيان الواصل أو ما هو في معرض الوصول.

وإلا لما كان مجال للشك في عدم جريانها لفرض كون البيان واصلا للعلم بالحكم.

وعلى ما ذكرنا يظهر لك التسامح الواقع في بعض التقريرات لظهورها في تقريب وجه عدم جريان القاعدة فيما نحن فيه بما يذكر لتقريب عدم جريانها في الشبهات قبل الفحص (1).

فالوجه الّذي ينبغي ان يقال في تقريب عدم جريان القاعدة فيما نحن فيه هو : ان المعتبر في البيان المأخوذ في موضوع القاعدة هو بيان الحكم الشرعي الّذي يرتبط بالمولى. ولا يخفى ان ما يرتبط بالمولى هو الحكم الكلي ، أما الحكم الجزئي في المورد الخاصّ فهو أجنبي عن المولى ، وليس على المولى بيانه ، بل تشخيصه موكول إلى العبد نفسه. فما يلزم على المولى بيانه هو الحكم الكلي. والمفروض تعلق العلم به ، فيكون منجزا ، فلا بد من الخروج عن عهدته بترك المشكوك كونه من افراد الحرام الكلي. فهذا الوجه يرجع إلى تشخيص ما يلزم بيانه عما لا يلزم بيانه.

والوجه السابق يرجع إلى تشخيص كيفية البيان المأخوذ في الموضوع.

وقد تصدى الشيخ رحمه اللّه إلى ردّ هذا الوجه ، وأنه لا ينفع في إثبات الاحتياط في الشبهة الموضوعية (2).

ولكن بيانه - في الشبهة التحريمية والوجوبية - لا يخلو عن إجمال ، بل هو أشبه بالدعوى بلا تنبيه على أساس النكتة التي بها يندفع هذا الوجه.

وقد أوضحه بصورة علمية المحقق النائيني ، فأفاد قدس سره : ان الحكم الكلي مجعول بنحو القضية الحقيقية ، فهو ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد افراد

ص: 11


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 489 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /221- الطبعة الأولى.

الموضوع الكلي. ولا يخفى ان الحكم الثابت على الموضوع المفروض الوجود انما يصير فعليا بفعلية موضوعه ، فإذا لم يكن موضوعه فعليا لم يكن الحكم كذلك ، إذ لا معنى للنهي الفعلي عن شرب الخمر غير الموجود ، وانما يعلق الحرمة على تقدير وجوده.

وعلى هذا فالعلم بفعلية الحكم يناط بالعلم بالموضوع ، فمع الشك في الموضوع يشك في فعلية الحكم ، فلا يكون منجزا ، لأن الحكم الّذي يتنجز بالعلم هو الحكم الفعلي. فالدليل العام المعلوم لا يستلزم سوى العلم بجعل الحكم على تقدير وجود الموضوع ، ولا يقتضي العلم بنفس الحكم المجعول. والّذي ينفع في مقام التنجيز هو العلم بالحكم الفعلي ، لا بأصل الجعل. إذن فالعلم بجعل الحكم الكلي لا يكون منجزا في مورد الشك في الموضوع (1).

وبذلك يتضح ما قرره قدس سره من ان التنجز يتقوم بالعلم بالكبرى والعلم بالصغرى ، ولا فائدة في العلم بالكبرى مع عدم العلم بالصغرى ، كما لا فائدة في العلم بالصغرى مع عدم العلم بالكبرى. فلاحظ.

ولعل هذا هو مراد الشيخ من ان الدليل على النهي العام لا يكون دليلا على تحريم الخمر المشكوك. فالتفت.

ثم ان الشيخ (2) رحمه اللّه بعد ان تصدى لردّ الوجه المذكور تصدّى للنقض على القائل بموارد الشبهات الحكمية ، لوجود عمومات تدل على حرمة أمور واقعية يحتمل أن يكون المشتبه حكمه - كشرب التتن - منها ، كقوله تعالى :

( ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (3). وقوله : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ) . ( الْخَبائِثَ ) (4).

ص: 12


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 390 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /221- الطبعة الأولى.
3- سورة الحشر ، الآية : 7.
4- سورة الأعراف ، الآية : 157.

ثم إن جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يختلف الحال فيه بين كون الشبهة تحريمية أو وجوبية ، فمثل ما لو دار أمر الفوائت بين الأقل والأكثر ، لا يتنجز عليه سوى وجوب الأقل.

وأما الزائد فلا عقاب عليه لعدم البيان. فما ذهب إليه البعض في المثال من عدم الرجوع إلى أصالة الاحتياط والتمسك بالبراءة في غير محله.

وقد ذكر الشيخ لبعض المحققين (1) تفصيلا في مثال الفوائت ، وهو أن المكلف ..

تارة : يعلم تفصيلا بمقدار الفوائت ثم يعرض عليه النسيان فلا يعلم انها كانت خمسة أو عشرة - مثلا -.

وأخرى : يكون جاهلا من أول الأمر بالمقدار ومترددا بين فوات الأقل والأكثر.

ففي الصورة الأولى يلزمه الاحتياط ، لتنجز ما علمه تفصيلا في حقه ولا يزول ذلك بعروض النسيان ، فانه - أي النسيان - لا يرفع الحكم الثابت بالإطلاق.

وفي الصورة الثانية لا يلزمه الاحتياط ، لعدم تنجز شيء في حقه سابقا يشك في براءة ذمته منه ، بل الّذي يعلم ثبوته في حقه هو الأقل لا غير.

ونفاه قدس سره : بأنه يظهر النّظر فيه مما ذكرناه سابقا (2).

ولم يزد على هذا بقليل ولا كثير.

ومن الواضح انه ليس فيما تقدم من بيان جريان البراءة العقلية ما ينفى ما ادعاه ، من لزوم الخروج عن عهدة العلم التفصيليّ المنجز السابق.

فالتحقيق في جواب هذا التوهم هو : ان العلم تفصيليا كان أو إجماليا إنما

ص: 13


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /234- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول -2. الطبعة الأولى.

يكون منجزا ما دام باقيا ، فإذا زال زال أثره.

وأشار الشيخ إلى ذلك في أول مبحث القطع بقوله : « ما دام موجودا » (1).

ويوضح ذلك في مبحث الاشتغال فيبين : ان العلم الإجمالي انما يكون منجزا إذا بقي ثابتا ولم يرتفع ، فلو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم بعد حين زال علمه الإجمالي بان علم تفصيلا بطهارتهما أو بطهارة أحدهما أو بعدم وقوع النجاسة في أحدهما وان شك في نجاستهما بدوا ، لم يكن مجال لدعوى لزوم الاحتياط بملاحظة حدوث العلم الإجمالي (2).

ولا يرد على هذا : بان لازمه عدم لزوم الاجتناب عن أحد الطرفين المعلوم نجاسة أحدهما إذا طهر الآخر لزوال العلم الإجمالي بالنجاسة. وذلك لأن التطهير إنما يرفع المعلوم بالإجمال بقاء ، أما حدوثا فلا ، فالعلم الإجمالي فعلا بنجاسة أحد الإناءين حدوثا ثابت ولم ينتف بالتطهير ، فيكون التنجيز بلحاظه ، فالمعتبر بقاء العلم لا المعلوم.

وإذا ظهر ذلك تعرف الحال في ما ذكره المحقق المزبور ، فان علمه التفصيليّ انما تلزم مراعاته ما دام موجودا. أما إذا زال كما هو الفرض فلا موضوع للتنجيز ، فليس عدم التنجيز لتقييد المطلقات ، بل لعدم موضوعه وهو العلم ، والعلم السابق لا ينفع في تنجيز الحكم لاحقا ، فلاحظ وتدبر.

وأما الجهة الثالثة : فتحقيق الكلام فيها : ان البراءة انما تجري في مورد الشك في التكليف الزائد ، سواء كان استقلاليا أو ضمنيا ، أو فقل انها انما تجري مع الشك في أصل التكليف أو في سعته وانبساطه على أمر خاص مع العلم بأصله ، كموارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، والسر في ذلك واضح ، لأن ما هو بيد

ص: 14


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /2- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /250- الطبعة الأولى.

الشارع رفعا ووضعا هو التكليف ، فيستطيع ان يرفعه من أصله كما بيده تضييق دائرة شموله وانبساطه وتوسيعها.

أما غير ذلك ، فليس مما يرجع إليه كي يصح له رفعه.

إذا تبين ذلك : فقد تقدم ان النهي - سواء كان عبارة عن الزجر عن الفعل أو طلب الترك - انما ينشأ عن مفسدة في متعلقه في قبال الأمر الّذي ينشأ عن مصلحة في متعلقه.

وعليه ، فهو لا يخرج عن أحد صور ثلاث ، لأن المفسدة ..

إما ان تكون في كل فعل على استقلاله فيكون النهي متعلقا بجميع الأفعال بنحو العموم الاستغراقي ، فيكون كل فعل محرما على حدة.

وإما أن تكون في مجموع الأفعال بنحو الارتباط ، فيكون النهي متعلقا بمجموع الأفعال ، ويلزمه تحقق الامتثال بترك أحد الأفعال ولو ترك فعل الباقي بأسره لتحقق ترك المجموع.

وأما ان تكون في صرف الوجود ، فيتعلق النهي به ويلزمه عدم تحقق الامتثال إلا بترك الجميع ، وقد تقدم منا ما يوضح ذلك. فراجع.

أما إذا كان النهي متعلقا بجميع الأفعال بنحو العموم الاستغراقي ، فمع الشك في شيء انه مصداق للمحرم كالشك في أن هذا المائع خمر أو خلّ ، تجري البراءة فيه ، لأنه يشك في تكليف مستقل تعلّق بهذا الفرد المجهول ، فتجري البراءة شرعا كما تجري فيه البراءة عقلا ، إذ قد عرفت أن العلم بالكبرى الكلية لا ينفي قاعدة قبح العقاب بلا بيان لعدم استلزامه للتنجيز.

وأما إذا كان النهي متعلقا بمجموع الأفعال ، فلا إشكال في صحة ارتكاب المشكوك مع اجتناب أحد الافراد المعلومة ، انما الإشكال في ارتكاب جميع الافراد المعلومة وترك المشكوك فقط ، فهل يصح أو لا؟. فقد قيل : بجريان البراءة في الأقل المعلوم فرديته فيصح ارتكابه ، ويتحقق الامتثال بترك المشكوك ، وذلك

ص: 15

لرجوع الشك إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، والحكم فيه في باب التحريم يختلف عنه في باب الوجوب ، لدوران الأمر في تعلق الحرمة من تعلقها بخصوص الافراد المعلومة وتعلقها بالمجموع المركب منها ومن الفرد المشكوك - لو كان مصداقا للحرام واقعا - فهو يعلم بحرمة الأكثر إما لنفسه أو لحرمة الأقل في ضمنه.

أما الأقل ، فهو غير معلوم الحرمة لاحتمال ان يكون المشكوك مصداق الحرام ، فيتحقق ترك المجموع بتركه ، فيكون مجرى البراءة دون الأكثر ، على العكس في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الوجوب.

وهذا البيان غير سديد ، وذلك لأن المفروض ثبوت العلم بتعلق الحرمة بعنوان المجموع المشكوك تحققه بالأقل أو الأكثر ، فهو يعلم إجمالا اما بحرمة مجموع الأقل أو مجموع الأكثر ، والمطلوب هو إثبات انحلال هذا العلم ، وما أفيد لا يحقق الانحلال ، إذ أصالة البراءة في الأقل تعارضها أصالة البراءة من الأكثر لعدم العلم تفصيلا بحرمة الأكثر بما هو أكثر ، فلا انحلال بخلاف موارد الوجوب ، فانه يعلم تفصيلا بوجوب الأقل - عند دوران الأمر بين وجوبه ووجوب الأكثر - على كل تقدير ، وهو يمنع من تنجيز العلم الإجمالي - على ما قيل - إذن فمقتضى الاشتغال بالتكليف المزبور هو عدم الاكتفاء بالمشكوك عند ارتكاب غيره ، لعدم العلم بتحقق الامتثال بذلك.

وأما إذا كان النهي متعلقا بصرف وجود الفعل ..

فمع الشك في مصداقية شيء للحرام قد يلتزم بالبراءة ..

إما لأجل الشك في صدق أول الوجود عليه ليكون حراما ، فيكون مشكوك الحرمة والمرجع فيه البراءة.

وإما لأجل الشك في كون المكلف في ضيق من التكليف فيه ، والبراءة تتكفل رفع الضيق على المكلف ونفيه.

ص: 16

ولكن الحق هو جريان قاعدة الاشتغال وفاقا لصاحب الكفاية (1) - كما تقدم - ، وعدم تمامية ما قيل في وجه إجراء البراءة سواء كان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل أو كانت عبارة عن طلب الترك.

أما إذا كان عبارة عن الزجر عن الفعل ، فلأن النهي تعلق بصرف وجود الفعل وهو أول وجوده ، وهو معلوم بحدوده وقيوده ، وإنما الشك في انطباق صرف الوجود المعلوم بحدّه على هذا الفرد المشكوك. ومن الواضح ان كون هذا الفرد من افراد الحرام واقعا لا يستلزم سعة في التكليف وزيادة فيه ، كما ان عدم كونه من افراده واقعا لا يستلزم نقصا في دائرته ، كما لو أوجد شخص فردا للخمر أو أتلفه ، فان الإيجاد لا يستلزم سعة التكليف ، كما ان إتلاف الفرد لا يستلزم ضيقه بعد ان كان النهي عن صرف الوجود ، إذ لا ربط لانطباق متعلق التكليف المعلوم بمفهومه على فرد وعدم انطباقه بالتكليف زيادة ونقيصة.

وإذا تبين ذلك ، فلا مجال لإجراء البراءة فيه لعدم تعلق التكليف به ، ولا يكون ثبوت الحكم له على تقدير كونه من أفراد الحرام مستلزما لسعة التكليف وزيادته عما كان معلوما. وقد عرفت ان البراءة إنما تجري فيما إذا كان الشك في أصل التكليف أو زيادته وسعته. وعليه فمقتضى قاعدة الاشتغال لزوم اجتنابه ، ليعلم بترك صرف الوجود فيعلم بالامتثال.

وأما إذا كان عبارة عن طلب الترك - كما فرضه العراقي قدس سره - فقد يتخيل جريان البراءة للشك في سعة التكليف ، لأن الشك في كون هذا فردا للحرام يلازم الشك في أن تركه مشمول للطلب أولا ، فيرجع الشك إلى الشك في سعة التكليف وانبساطه على ترك المشكوك.

ولكن فيه : ان الالتزام بان النهي عبارة عن طلب الترك والعدم مع كونه

ص: 17


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /353- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مخالفا لظاهر النهي في كونه زجرا عن الفعل وردعا عنه ، إنما هو من جهة عقلية ، وهي ما تقدم من ان التكليف لتحريك الإرادة ، والمتصور في باب النهي هو تحريك الإرادة في عدم الفعل لا في نفسه. ولا يخفى ان هذا المعنى يرجع إلى ان المطلوب في موارد النهي هو عدم إعمال الإرادة في الفعل. ولا يخفى ان عدم إعمال الإرادة في صرف وجود الفعل لازم للترك المستمر بين المبدأ والمنتهى ، فليس المطلوب هو الترك بنفسه ، بل ما هو لازمه.

وعليه ، فالشك في فردية أمر للحرام لا يستلزم الشك في سعة التكليف ، لأن متعلقه أمر بسيط لازم للمتروك ، فلا يكون مجرى للبراءة. وإنما المحكم هو قاعدة الاشتغال تحصيلا للفراغ اليقيني. فتدبر.

يبقى الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه من وجود أصل موضوعي - في بعض الأحيان - ينقح الإتيان بمتعلق التكليف ، فيكون حاكما على قاعدة الاشتغال أو واردا عليها.

كما إذا كان المكلف مسبوقا بترك صرف الوجود ، فانه مع إتيانه بالمشكوك يشك أنه بعد تارك لصرف الوجود أولا ، فيستصحب كونه تاركا لصرف الوجود ويثبت به الامتثال (1).

وهذا الأصل بهذه الصورة أنما يتأتى فيما لو كان الطلب متعلقا بالترك بعنوانه ، اما إذا كان مرجع الطلب إلى طلب عدم إعمال الإرادة في الفعل ، فاستصحاب الترك لا يجدي ، لأنه - أي الترك - من لوازم متعلق التكليف لا نفسه.

ولكن يمكننا ان نلتزم بإجراء الاستصحاب في نفس متعلق التكليف المفروض ، وهو عدم إعماله الإرادة في الفعل ، لأنه متيقن الثبوت مشكوك الارتفاع.

ص: 18


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /353- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبالجملة : يجري الاستصحاب في متعلق التكليف كيف ما فرض ، لأنه متيقن الثبوت مشكوك الارتفاع. فتدبر.

هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعية.

ص: 19

ص: 20

فصل في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة

إذا دار أمر الفعل بين أن يكون واجبا أو حراما بحيث علم إجمالا تعلق الوجوب أو الحرمة به - كما إذا علم انه حلف على الجلوس في هذا المكان في هذه الساعة أو على تركه. أو حلف أما على وطء زوجته هذه الليلة أو على ترك وطئها في الليلة نفسها - ، فتارة : يكون الوجوب والحرمة توصليين. وأخرى : يكون أحدهما أو كل منهما تعبديا.

وقد جعل الشيخ قدس سره محل الكلام هو الصورة الأولى دون ما لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك ، وذلك للتمكن من المخالفة القطعية العملية في هذه الصورة ، فلا يمكن إجراء الإباحة المستلزمة لطرح كلا الاحتمالين ، وهي أحد الوجوه في المسألة (1).

ولكن صاحب الكفاية قدس سره ذهب إلى انه وان كانت الإباحة غير جارية في هذه الصورة ، إلا ان الحكم فيها هو التخيير عقلا بين الفعل بنحو قربي أو الترك كذلك ، لعدم التمكن من الموافقة القطعية (2).

ص: 21


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /236- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /356- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبما أن المهم في هذا المقام هو تحقيق أصالة التخيير بين الفعل والترك ، لم يكن وجه لتخصيص المورد بالتوصليين.

ولا يخفى عليك أن تعميم المورد للتعبديين أو تخصيصه بالتوصليين غير مهم إنما المهم معرفة حكم كلتا الصورتين ، وسيتضح إن شاء اللّه تعالى بعد ذلك ان الحق في جانب الشيخ رحمه اللّه لا في جانب صاحب الكفاية. فيقع الكلام في مسألتين :

المسألة الأولى : ما إذا كان الوجوب والحرمة توصليين يسقطان بمجرد الموافقة بلا احتياج إلى قصد التقرب.

ولا يخفى ان المكلف لا يقدر في هذه الصورة على الموافقة القطعية لعدم قدرة المكلف على الفعل والترك معا ، كما لا يتمكن من المخالفة العملية القطعية لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك. ومنه يظهر ان كلا من الموافقة الاحتمالية والمخالفة الاحتمالية قهرية الحصول لا دخل لاختيار المكلف فيها.

والأقوال المذكورة في المسألة خمسة :

الأول : جريان البراءة نقلا وعقلا.

الثاني : الأخذ بأحدهما تعيينا.

الثالث : الأخذ بأحدهما تخييرا.

الرابع : التخيير بين الفعل والترك عقلا مع جريان أصالة الإباحة شرعا.

الخامس : التخيير بين الفعل والترك عقلا ، مع عدم جريان البراءة والإباحة وعدم الحكم بشيء أصلا.

واختار الرابع صاحب الكفاية (1).

وتحقيق الكلام على نحو يتضح به ما هو الصحيح من هذه الأقوال : هو

ص: 22


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /355- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أنك عرفت انه لا تمكن موافقة ومخالفة العلم الإجمالي قطعا ، والموافقة الاحتمالية والمخالفة كذلك قهرية الحصول. وعليه نقول :

أما جريان البراءة شرعا ، فقد يقرب - كما أشار إليه في الكفاية - : بان كلا من الوجوب والحرمة مجهول ، فيعمه حديث الرفع ونحوه مما دل على رفع الحكم عند الجهل به (1).

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى نفيه لوجهين :

الأول : ان الحكم الظاهري لا بد له من أثر شرعي وإلا لكان لغوا ، وجعل البراءة فيما نحن فيه لا أثر له بعد عدم خلو المكلف من الفعل أو الترك قهرا ، لحكم العقل بالترخيص والتخيير بين الفعل والترك.

الثاني : ان رفع الإلزام انما يصح في المورد القابل لوضعه بجعل الاحتياط - كما تقدم بيانه في حديث الرفع - ، وفي ما نحن فيه لا يتمكن الشارع من جعل الاحتياط لعدم التمكن من الاحتياط ، فلا معنى لرفع التكليف (2).

كما ان المحقق الأصفهاني رحمه اللّه نفي البراءة الشرعية بدعوى : ان ظاهر أدلة البراءة كونها في مقام معذورية الجهل وارتفاعها بالعلم ، فما كان تنجزه وعدمه من ناحية العلم والجهل كان مشمولا للغاية والمغيا ، وما كان من ناحية التمكن من الامتثال وعدمه فلا ربط له بأدلة البراءة ، وما نحن فيه من الثاني لعدم القصور في العلم ، وانما القصور من جهة عدم التمكن من امتثال الإلزام المعلوم. فلاحظ (3).

أقول : أما محذور اللغوية في جريان البراءة الشرعية ، فهو محذور عام يقال في جميع موارد البراءة لفرض حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وعدم لزوم

ص: 23


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /355- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 232 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 236 - الطبعة الأولى.

الاحتياط ، بناء على الالتزام بحكم العقل المزبور الّذي عليه الكل ، والجواب هناك هو الجواب هنا. فراجع (1).

وأما الوجه الثاني ، فهو يبتني على ملاحظة أصالة البراءة بالنسبة إلى الجامع المعلوم وفرض الطرفين طرفا واحدا ، إذ لا يتصور الاحتياط حينئذ ، مع انه لا ينبغي ذلك ، إذ البراءة تلحظ بالنسبة إلى كل طرف بخصوصه ، وجعل الاحتياط والضيق بالنسبة إليه ممكن للشارع ، إذ للشارع أن يجعل الاحتياط بلحاظ احتمال الوجوب ، فيلزم بالفعل كما له ان يجعله بلحاظ احتمال الحرمة ، فينفي الاحتياط بلحاظ كلا الحكمين تسهيلا ومنة ، برفع كل منهما على حدة.

ومنه ظهر الإشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني ، فان عدم التمكن من الامتثال إنما هو بملاحظة الجامع المعلوم. وإلا فبملاحظة كل احتمال بحياله يكون المكلف قادرا على امتثاله ، فتجري أصالة البراءة فيه للجهل به بخصوصه وإن كان الجامع معلوما.

وبالجملة : فإيراد المحققين (قدس سرهما) ناش من ملاحظة الطرفين طرفا واحدا ، وقياس البراءة بالنسبة إلى جامع الإلزام المعلوم. وهو ليس كما ينبغي.

ولكن هذا الإيراد عليهما بدوي ، إذ يمكن توجيه كلامهما بما يرتفع به الإيراد فنقول : انه بناء على ان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك - كما يراه صاحب الكفاية - يكون مورد الوجوب والحرمة شيئا واحدا وهو الفعل. إذن فالجامع بين الوجوب والحرمة معلوم التعلق بالفعل ، والفعل يعلم بورود الجامع بينهما عليه ، ولنسمه الإلزام - تبعا للأعلام - ، فالإلزام الجامع يعلم تفصيلا بتعلقه بالفعل. وإنما الشك في خصوصية الإلزام من وجوب أو حرمة.

ص: 24


1- راجع 4 / 196 من هذا الكتاب.

ولا يخفى عليك ان هذا الإلزام لا أثر له عملا بعد تردده بين الوجوب والحرمة ، فلا يكون سببا للتنجز ولا منشئا للمؤاخذة على المخالفة ، لما عرفت من أنه مما لا يتمكن المكلف من موافقته ومخالفته العملية القطعية ، ومما لا يخرج المكلف عن موافقته ومخالفته الاحتمالية. إذن فانطباق الإلزام واقعا على أي الاحتمالين من الوجوب والحرمة لا أثر له.

وعليه ، فان أريد إجراء البراءة من خصوصية الوجوب أو الحرمة. ففيه : أن إجراء البراءة من كل منهما باعتبار جهة الإلزام والكلفة التي فيه ، وهي معلومة بالفرض.

وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الشك في انطباق الإلزام المعلوم على الوجوب أو على الحرمة ، نظير الشك في انطباق النجس المعلوم على أحد الإناءين. ففيه : ان الانطباق الواقعي على كل من الحكمين إذا لم يكن بذي أثر - كما عرفت - فلا معنى لنفيه ورفعه بدليل البراءة مع الشك فيه ، لأنه لا يمكن وضع الإلزام.

وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الإلزام المعلوم المتعلق بالفعل. ففيه : أولا : انه معلوم تفصيلا. وثانيا : انه مما لا يمكن جعل الاحتياط بالنسبة إليه ومما لا يتمكن من امتثاله.

وهذا البيان لا يتأتى بناء على كون النهي عبارة عن طلب الترك ، لاختلاف متعلق الإلزام المعلوم ، إذ الوجوب والحرمة لا يردان على شيء واحد ، فكل من الفعل والترك مشكوك الإلزام ، فقد يقال بجريان البراءة فيه لعدم العلم بالإلزام في كل طرف ، نظير تردد الوجوب بين تعلقه بالظهر والجمعة.

ولكن لا يمكن الالتزام بجريان البراءة حتى على هذا المبنى ، وذلك لأن الحكم بالبراءة شرعا انما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع ، وبملاك معذورية المكلف بالنسبة إلى الواقع المحتمل ، وهذا إنما يصح فيما كان احتمال

ص: 25

التكليف قابلا لداعوية المكلف وتحريكه نحو المكلف به ، بحيث يكون المكلف في حيرة منه وقلق واضطراب ، فيؤمنه الشارع ، أما إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل كان المكلف آمنا لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره.

وما نحن فيه كذلك ، لأن احتمال كل من الحكمين بعد انضمامه واقترانه باحتمال الحكم المضاد له عملا لا يكون بذي أثر في نفس المكلف ولا يترتب عليه التحريك والداعوية ، لأن داعوية التكليف ومحركيته بلحاظ ما يترتب عليه من أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصلحة أو دفع مفسدة. وإذا فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركا للمكلّف لا محالة.

ومن هنا أمكننا ان نقول : بامتناع جعل مثل هذا الحكم واقعا ، بناء على ان الحكم يتقوم بإمكان الداعوية ، إذ لا يمكن كل من الوجوب والحرمة ان يكون داعيا إلى متعلقه مع تساوي احتمالهما ، فلا حكم واقعي أصلا ، بل نلتزم بعدم الحكم واقعا ، بناء على ما قربناه في حقيقة الحكم من أنه جعل ما يقتضى الداعوية ، إذ لا اقتضاء في كل منهما للداعوية ، فان عدم الداعوية راجع إلى قصور المقتضي لا لوجود المانع ، إذ اقتضاء الحكم للداعوية باعتبار العلم أو احتمال ترتب الأثر الحسن عليه فإذا كان هذا الاحتمال مقرونا بعكسه كان المقتضي قاصرا ، نظير العلم بثبوت مصلحة ومفسدة متساويتين في الفعل ، فانه لا تكون المصلحة في هذا الحال ذات اقتضاء للداعوية والتحريك. فانتبه.

أو فقل : ان التكليف هاهنا لغو بعد عدم تأثيره الفعلي في المتعلق ، ولو قلنا بان التكليف ما فيه اقتضاء الداعوية ، فان جعل ما يقتضى الداعوية مع عدم انتهائه إلى التأثير فعلا في متعلقه ، فيكون محالا ، وإلاّ لصح تعلق التكليف على هذا المنهج بغير المقدور ، وهو مما لا يمكن الالتزام به.

ومن هنا يظهر انه لا مجال لإجراء البراءة العقلية في خصوص كل من

ص: 26

الحكمين ، إذ لا موضوع لها بعد خروج المورد عن مقسم التعذير والتنجيز. مضافا إلى ما أفاده صاحب الكفاية من ان البيان هاهنا تام ، وهو العلم الإجمالي ، وانما القصور من ناحية عدم القدرة فهو نظير ما لو علم بالتكليف المعين بأمر غير مقدور ، فلا يقال انه يقبح العقاب لعدم البيان ، بل لعدم التمكن من الامتثال ، ولا يخفى ان العلم الإجمالي مانع من جريان البراءة العقلية في كل من الطرفين ولو لوحظ كل منهما بنفسه وعلى حدة. فانتبه (1).

وبذلك يتضح عدم تمامية القول الأول.

وأما لزوم الالتزام والأخذ بأحدهما - بحيث لو ثبت كان مانعا من إجراء أصالة الإباحة.

ولا مجال لدعوى : أن الالتزام بالوجوب أو الحرمة واقعا لا يتنافى مع الإباحة الظاهرية ، إذ لا تنافي واقعا بين الحكم الواقعي والظاهري ، فلا تنافي بين الالتزام بهما.

وذلك لأن المراد من الالتزام بأحدهما هو الالتزام مقدمة للعمل على طبقه لا مجرد الالتزام بلا عمل به ، وهو يتنافى مع الإباحة الظاهرية. وقد أشار الشيخ رحمه اللّه إلى هذا المعنى (2) -.

فهو يقرّب بوجهين :

الوجه الأول : انه حيث تجب موافقة الأحكام التزاما ، بمعنى انه يجب الالتزام بالحكم الواقعي ، فيجب الالتزام بكل من الوجوب والحرمة ، للعلم بثبوت أحدهما ، وبما أنه غير متمكن عقلا من ذلك لأن الالتزام بالضدين محال ، فان الإيمان بثبوت الضدين محال كثبوتهما ، فتمتنع الموافقة القطعية ، وإذا امتنعت

ص: 27


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /356- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول/236- الطبعة الأولى.

الموافقة القطعية وجبت الموافقة الاحتمالية لتنزل العقل من الموافقة القطعية إلى الموافقة الاحتمالية ولا مجال لسقوط العلم الإجمالي عن التجزئة رأسا ، فيلتزم بأحد الحكمين.

وببيان آخر : ان المكلف مضطر إلى ترك أحد طرفي العلم الإجمالي ، وقد قرر في محله انه مع الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه يلتزم بالتوسط في التنجيز ونتيجته لزوم الموافقة الاحتمالية.

والفرق بين البيانين ، هو عدم ابتناء الأول على التوسط في التنجيز في مورد الاضطرار.

وهذا الوجه مردود.

أولا : ان الواجب من الالتزام على تقدير ثبوته هو الالتزام بالحكم الواقعي على واقعه لا بعنوانه الخاصّ وهو لا ينافي إجراء الأصل لأنه حاصل فعلا مع إجراء الأصل.

أما الالتزام بالحكم بعنوانه الخاصّ بما هو وجوب أو حرمة الّذي يتنافى مع إجراء الأصل كما عرفت ، فليس وجوبه ثابتا ولا دليل عليه ، إذ الدليل على لزوم الالتزام لو تم فانما هو لزوم الالتزام بما جاء به النبي صلی اللّه علیه و آله وهو لا يقتضي أكثر من الالتزام بالواقع على واقعه.

وثانيا : لو سلم انه يجب الالتزام بالحكم بعنوانه ، فصاحب الكفاية (1) ممن لا يلتزم بالتوسط في التنجيز مع الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه بل يرى عدم منجزية العلم بالمرة ، فالمسألة مبنائية.

وثالثا : ان الالتزام مع الشك تشريع محرم ، فلا يحكم العقل بمنجزية العلم إذا استلزمت موافقته الاحتمالية الوقوع في الحرام القطعي. بل ذهب الأصفهاني

ص: 28


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /360- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

( قدس سره ) إلى ان الالتزام مع الشك محال لأن الإيمان بالشيء مع الشك فيه لا يجتمعان (1).

الوجه الثاني : قياس المقام بمورد تعارض الخبرين الدال أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة ، فانه يلتزم بالتخيير بينهما ، وعبارة الشيخ (2) هاهنا لا تخلو عن غموض وعلى كل فالوجه المصحح للقياس أحد أمور.

الأول : دعوى ان الملاك في الحكم بالتخيير في مورد تعارض الخبرين هو مجرد إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة فيسري الحكم إلى كل مورد كذلك ومنه ما نحن فيه.

الثاني : دعوى ان الملاك هو نفي الثالث. وما نحن فيه كذلك.

الثالث : ان رعاية الحكم الظاهري وهو الحجيّة يدل بالفحوى على رعاية الحكم الواقعي فإذا ثبت التخيير بين الحجتين وعدم طرحهما فثبوت التخيير بين الحكمين الواقعيين أولى.

ولكن جميع هذه الوجوه ممنوعة.

أما الأول : فلأنه تخرص وتحكم على الغيب ، بل بناء على السببية لا مجال له لأن التخيير يكون من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وأي ربط لذلك بما نحن فيه.

وأما الثاني : فهو كالأول ، مع ان نفي الثالث قد لا يقول به الكل ، لا بهما - كما يراه الشيخ - لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية كتبعيتها لها في أصل الثبوت. ولا بأحدهما - كما يراه صاحب الكفاية - لعدم تصور ما أفاده في تقريبه في محله فراجع. مع ان الكل يرى التخيير ولو لم يتكفل الخبران نفى الثالث.

ص: 29


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 27 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /236- الطبعة الأولى.

وأما الوجه الثالث : فلأن الأولوية انما تتم لو فرض ثبوت الموضوع لكل من الحكمين الواقعيين كثبوته للحكمين الظاهريين ، وليس الأمر كذلك ، بل هو حكم واقعي مردد بين الحكمين ، بخلاف الحكمين الظاهريين فان كلاّ منهما واجد لموضوعه وهو الخبر التام الشرائط ، وببيان آخر نقول : ان الطريقية بأي وجه صورت في باب الطرق مشوبة بالموضوعية وإلا لزم اعتبار كل طريق وكاشف ، فللطريق الخاصّ موضوعية كانت منشأ لجعله حجة كثرة انضباطه ونحوها ، وقد ادعى صاحب الكفاية (1) ان الموضوع هو احتمال الإصابة.

وأورد عليه الأصفهاني : بأنه شرط للحجية لا موضوع وان الموضوع هو عنوان التسليم (2).

إذن فموضوع الحكم الظاهري الناشئ من مصلحة معينة ثابت ، وتردد الحال بينهما وأين ذلك مما نحن فيه. فيما هناك موضوع واحد لحكم واقعي واحد غير معلوم. فلا يقال بعد هذا أنه بناء على الطريقية يكون المدار على الواقع المنكشف بلا خصوصية للطريق ، والواقع المحتمل هو امر واحد ، فيكون مورد الخبرين المتعارضين مثل ما نحن فيه ، فيتحقق التخيير فيما نحن فيه. فتدبر والتفت.

والمتحصل : انه لا وجه للزوم الالتزام بأحدهما ، ومنه ظهر انه لا وجه للالتزام بأحدهما المعين ، لأنه يتفرع على لزوم الالتزام بأحدهما فيلتزم بترجيح جانب الحرمة أو الوجوب على الآخر.

فظهر بطلان القولين الثاني والثالث.

وأما الالتزام بالإباحة ، فيوجّه بعموم قوله : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام » للمورد.

ص: 30


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /355- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 235 - الطبعة الأولى.

ولكن يرد عليه وجوه :

الأول : انها تجري في المورد بتمامية مقدمتين :

الأولى : إرجاع الوجوب إلى الحرمة بمعنى حرمة الترك كي تشمل الشبهة الوجوبية.

الثانية : كون الغاية عقلية لا شرعية ، لأنها ان كانت شرعية فالعلم بظاهره أعم من الإجمالي ، وهو حاصل فيما نحن فيه ، للعلم إجمالا بحرمة الترك أو الفعل ، فلا تجري أصالة الإباحة واما إذا كانت عقلية ، فان الغاية هي العلم المنجز لا ذات العلم ، وهو غير متحقق فيما نحن فيه ، فيثبت المغيا.

وكل من المقدمتين قابل للمناقشة.

أما الأولى ، فقد تقدم الحديث فيها في أخبار البراءة.

وأما الثانية ، فلظهور الغاية في كونها شرعية جعلها الشارع ، لا انها إرشاد إلى حكم العقل ، فانه خلاف الظاهر.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه في خصوص المقام ، من انه يعتبر في جريان الأصل احتمال مطابقته للواقع لأخذ الشك في موضوعه ، اما مع العلم بعدم مطابقته للواقع فلا يجري.

وبما ان أصل الإباحة هاهنا أصل واحد يرجع إلى مساواة الفعل مع الترك - لا انه يجري في كل من الفعل والترك على حدة نظير أصالة البراءة ، إذ إجراؤه في الفعل يعني انه مع الترك على حد سواء ، فلا معنى لإجرائه في الترك - ، فلا يمكن إجراؤه للعلم بخلافها للعلم بالإلزام. وعدم تساوي الفعل مع الترك ، يعلم بعدم مطابقتها للواقع (1).

الثالث : ما تقدم منّا في نفي إجراء البراءة من ان الحكم الواقعي لا يقبل

ص: 31


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 445 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

التحريك ، فلا يقبل جعل المعذر بلحاظه ، وقد عرفت ان جعل الحكم الظاهري انما هو بلحاظ التعذير عن الواقع ، بل عرفت انه لا ثبوت للواقع بعد عدم قابليته للتحريك. فراجع.

فظهر بذلك بطلان القول الرابع. فيتعين الالتزام بالتخيير لا من قبيل الوجوب التخييري شرعا ، ولا من قبيل التخيير العقلي في باب التزاحم ، لأن مرجع التخيير في هذين المقامين إلى الإلزام بأحد الأمرين ، وهو غير متصور فيما نحن فيه ، إذ واحد من الفعل والترك قهري الحصول ، فلا معنى للإلزام بأحدهما ، فالمراد من التخيير هو عدم الحرجية في الفعل والترك ، وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني. فانتبه وتدبر.

هذا كله إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة ، كما إذا علم أنه حلف أما على وطء زوجته في ليلة الجمعة الخاصة أو على تركه فيها.

واما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في وقائع متعددة ، كما إذا علم انه حلف اما على الجلوس في الصحن أو على تركه في صباح كل يوم. فانه في صباح كل يوم يدور أمره بين الوجوب والحرمة.

ولا يخفى انه لا يختلف الحال فيما ذكرناه بلحاظ كل واقعة بنفسها.

وإنما الكلام في هذه الصورة في ان التخيير بدوي أو استمراري ، بمعنى انه هل يلزمه في الواقعة الثانية اختيار ما اختاره أولا أو له اختيار خلافه؟.

وجهة الإشكال بدائيا في التخيير الاستمراري هو : انه قد يستلزم المخالفة القطعية فانه إذا اختلف اختياره في الواقعتين يعلم أنه خالف الحكم الشرعي قطعا.

وتحقيق الكلام : ان العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة لا أثر له كما عرفت ، لكن لدينا علما إجماليا آخر ، وهو العلم إجمالا إما بوجوب الفعل في هذه الواقعة أو بحرمته في الواقعة الثانية ، وهذا العلم الإجمالي تحرم مخالفته

ص: 32

القطعية ، فإذا اختار الترك في هذه الواقعة كان عليه ان يترك في الواقعة الثانية ، وإلا أدى ذلك إلى المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المزبور.

إلا انه قد يقال : ان هذا العلم الإجمالي ينضم إليه علم إجمالي آخر إما بحرمة الفعل في هذه الواقعة أو بوجوبه في الواقعة الثانية ، وتأثير كل من العلمين في كل من الطرفين على حد سواء ، فلا يكونان منجزين ، بل يكونان من قبيل العلم الإجمالي الأول بلحاظ كل واقعة بحيالها.

ولكننا نقول : إنه يمكن تقريب التخيير البدوي على أساس هذين العلمين الإجماليين المتعاكسين بأحد وجهين :

الأول : ان الموافقة القطعية لأحدهما تستلزم المخالفة القطعية للآخر. وبعبارة أخرى : ان التخيير الاستمراري كما يستلزم المخالفة القطعية لأحدهما يستلزم الموافقة القطعية للآخر ، وبما ان حرمة المخالفة القطعية أهم - بنظر العقل - من لزوم الموافقة القطعية ، ولذا قيل بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ، وتوقف في عليته لوجوب الموافقة القطعية ، فيتعين رفع اليد عن لزوم الموافقة القطعية لأحدهما والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية حذرا من الوقوع في المخالفة القطعية للآخر ، فيتعين التخيير البدوي.

الثاني : ان تحصيل الموافقة القطعية لكلا العلمين الإجماليين غير مقدورة عقلا ، فيتنزل العقل عنها إلى الموافقة الاحتمالية. بخلاف الاجتناب عن المخالفة القطعية ، فانه مقدور لكل من العلمين ، فيحكم العقل بحرمتها. فيتعين التخيير البدوي.

وهذا الوجه يتم حتى بناء على المساواة بين الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في الأهمية ، وكون العلم بالنسبة إليهما على حد سواء فلا يؤثر في إحداهما مع التعارض ، إذ الملاك فيه هو عدم القدرة عقلا من الموافقة القطعية ، فالعلم الإجمالي لا يؤثر فيها لعدم القدرة لا للتعارض ، كي يقال ان مقتضى المعارضة

ص: 33

عدم تأثيره في حرمة المخالفة القطعية أيضا. فتدبر.

وبالجملة : يتعين بهذين الوجهين الالتزام بالتخيير البدوي ومنع التخيير الاستمراري.

وأما ما أفاده المحقق العراقي رحمه اللّه من الإيراد على الوجه الأول : بأنه خلاف ما هو التحقيق من كون العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية علة تامة كالمخالفة القطعية ، مع ان البحث في الاقتضاء والعلية بالنسبة إلى الموافقة القطعية انما هو بلحاظ جريان الأصول بمناط عدم البيان ، لا بالنسبة إلى الترخيص بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق ، إذ لم يلتزم أحد في هذه الحال بمنجزية العلم التفصيليّ فضلا عن الإجمالي (1).

ففيه ما لا يخفى ، فانه أشبه بالمغالطة ، فانه وان كان البحث عن ذلك بلحاظ تلك الجهة غير الثابتة فيما نحن فيه لفرض الاضطرار وعدم القدرة ، لكن لا ينافي ذلك الاستشهاد بما يقال في ذلك المقام على ما نحن فيه ، لدوران الأمر بين تحصيل الموافقة القطعية لأحد العلمين وترك المخالفة القطعية للعلم الآخر. فنقول ان : مقتضى ما حرر في ذلك المقام ان الثاني أولى بنظر العقل وأهم ، فيتعين. فالتفت.

ولعل مثله ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من : ان لدينا تكاليف متعددة في الوقائع المتعددة ، فلدينا علوم متعددة بتكاليف متعددة بتعدد الوقائع ، وكل علم انما ينجز ما هو طرفه ، والمفروض عدم قبول طرفه للتنجيز كما بيّن. وهذه العلوم المتعددة لا تستلزم علما إجماليا أو تفصيليا بتكليف آخر يتمكن من مخالفته القطعية. نعم ينتزع طبيعي العلم من العلوم المتعددة وطبيعي التكليف من التكاليف المتعددة ، وتنسب المخالفة القطعية إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم

ص: 34


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 296 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بالعلم الواحد ، فتتحقق المغالطة المدعاة ... إلى آخر ما أفاده (1).

وأنت خبير : بان العلم الإجمالي في واقعتين يستلزم حدوث علمين إجماليين حقيقيّين بتكليف مردد بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعلين في الواقعتين ، وهو مستلزم لتنجيز المعلوم بنحو تحرم مخالفته قطعا ، ولا نلحظ العلم الإجمالي في كل واقعة كي يقال ان المخالفة القطعية للعلم الإجمالي المزبور مخالفة غير مؤثرة ، بل الملحوظ هو العلم الإجمالي الحاصل بضم الواقعتين إحداهما إلى الأخرى ، وهو لا ينافي عدم تنجز العلم الإجمالي بالنسبة إلى كل واقعة بحيالها ، وعدم ثبوت تكليف آخر غير المعلوم بالعلم الإجمالي غير المنجز ، ولا يتنافى مع تعلق علم إجمالي به آخر يستلزم تنجيزه بالنسبة إلى المخالفة القطعية. فلاحظ وتدبر ولا تغفل.

المسألة الثانية : ما إذا كان أحد الحكمين المعلومين أو كلاهما تعبديا لا يسقط إلا بقصد القربة.

والكلام فيها في جهتين :

الجهة الأولى : في حكم المسألة.

ولا يخفى ان العلم الإجمالي المزبور وان لم تمكن موافقته قطعا لكن مخالفته القطعية ممكنة ، إذ لو دار الأمر مثلا بين وجوب الصلاة وحرمتها ذاتا ، فانه إذا جاء بالصلاة بدون قصد القربة كان مخالفا قطعا ، إما للوجوب لعدم قصد القربة أو للحرمة للفعل وعدم الترك.

وعليه ، فيقال : إن العلم الإجمالي الّذي لا يتمكن الشخص من موافقته القطعية عقلا ، ويتمكن من مخالفته القطعية ، يحكم العقل بحرمة مخالفته وإن لم يحكم بوجوب موافقته ، فمثل هذا العلم الإجمالي قابل للتنجيز بحكم العقل

ص: 35


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 236 - الطبعة الأولى.

بلحاظ المخالفة القطعية ، فلا يجوز ترك امتثال كلا الحكمين المحتملين. ولا يسقط عن التنجيز بالمرة ، كما يأتي في محله. وببيان آخر : ان المكلف مضطر إلى مخالفة أحد الطرفين لا بعينه ، وبمقتضى ما سيجيء في صورة الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه ، هو الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي في الطرف الآخر ، وحرمة مخالفته قطعا.

وهذا الأمر التزم به صاحب الكفاية هاهنا (1). مع انه لا يرى منجزية العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ، بل يرى سقوطه عن المنجزية رأسا حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، ولذا التزم في مبحث دليل الانسداد سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية للاضطرار إلى بعض الأطراف للزوم اختلال النظام بالاحتياط التام ، وان استفادة الاحتياط في باقي الأطراف لا بد أن يكون بدليل آخر من إجماع أو غيره (2).

ولأجل ذلك أورد عليه : بان التزامه بحرمة المخالفة القطعية فيما نحن فيه لا يتلاءم مع مختاره فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى ، لأن المورد من موارد الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه. فلاحظ (3).

الجهة الثانية : فيما ذكره من عموم محل الكلام لهذه الصورة وعدم اختصاصه بالتوصليين ، وقد تقدم نقل كلامه واعتراضه على الشيخ في تخصيصه الكلام في التوصليين.

والّذي نراه ان ما ذكره الشيخ رحمه اللّه هو الصحيح المتعين ، فان جميع الوجوه التي تذكر في التوصليين لا تتأتى في هذه الصورة. بيان ذلك : أما جريان أصالة البراءة بالتقريب السابق ، فهو لا يمكن الالتزام به هاهنا لأن إجراء

ص: 36


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /356- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /313- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار /3/ 297 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأصل في كل من الطرفين يستلزم المنافاة للعلم الإجمالي المنجز بلحاظ المخالفة القطعية.

ومثله الكلام في إجراء أصالة الإباحة ، فانه يتنافى مع منجزية العلم الإجمالي.

كما ان ما ذكرناه في منع إجراء البراءة من قصور الإلزام المعلوم بالإجمال عن التنجيز لا يتأتى هاهنا ، لما عرفت من قابلية العلم الإجمالي للتنجيز بلحاظ المخالفة القطعية.

وأما لزوم الالتزام بأحدهما ، فهو على تقدير تماميته إنما يلتزم به في مورد لا يكون للعلم الإجمالي أي تأثير في مقام العمل ، بحيث يكون الالتزام بأحدهما هو الطريق إلى العمل بأحد الطرفين. أما في الموارد التي يكون العلم الإجمالي منجزا ومؤثرا في مقام العمل ، سواء كان تأثيرا تاما أو وسطا ، فلا يجيء حديث لزوم الالتزام بأحدهما.

والشاهد عليه انه لم يخطر في بال أحد أنه يجب الالتزام بأحد الحكمين في موارد العلم الإجمالي الموجب للتنجز ، كالعلم إما بوجوب هذا أو حرمة ذاك ، أو يجب الالتزام بثبوت الحكم في أحد الطرفين ، كما لو علم بوجوب هذا أو ذاك ، ولم يقع الكلام في ذلك الا في موارد دوران الأمر بين محذورين ، لعدم وجود ما يدل على تعيين الوظيفة الإلزامية لأحد الطرفين.

وهذا لا يسرى إلى صورة كون أحدهما تعبديا ، لحكم العقل بلزوم الإتيان بأحدهما ، لما عرفت من أن العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى المخالفة القطعية.

وأما التخيير ، فقد عرفت انه في التوصليين ، بمعنى اللاحرجية في الفعل والترك - لا الإلزام - بأحدهما لقهرية حصول أحدهما.

وهذا لا يتأتى في ما نحن فيه ، لعدم قهرية حصول أحدهما ، فالتخيير بين الفعل والترك فيما نحن فيه بملاك منجزية العلم الإجمالي وحكم العقل بلزوم

ص: 37

أحدهما فرارا من المخالفة القطعية.

نعم ، التخيير هاهنا مع التخيير في التوصليين يتفقان عملا ونتيجة.

فظهر انه لا جامع بين الصورتين ولا تلتقي إحداهما مع الأخرى إلا من حيث النتيجة العملية بناء على الالتزام بالتخيير ، فكيف يدعى عموم الكلام لكلتيهما؟. فلاحظ وتدبر.

تنبيه : ذكر صاحب الكفاية ان استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه ، كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام (1).

وتحقيق المقام فيما أفاده قدس سره : ان لدوران الأمر بين التعيين والتخيير موارد ثلاثة :

الأول : مورد تعارض النصين مع وجود مزية في أحدهما يحتمل ان تكون مرجحة لأحدهما على الآخر مع عدم دليل يدل على التخيير يقول مطلق ، بل ليس الثابت سوى العلم بعدم مشروعية التساقط وطرح كلا النصين ، بل لا بد من الأخذ اما بذي المزية أو بأحدهما مخيرا ، فانه يدور أمر الحجية بين التخيير بينهما وبين تعيين ذي المزية ، وفي هذا المورد يلتزم بالتعيين ولزوم الأخذ بذي المزية.

والوجه فيه : هو ان ذا المزية معلوم الحجية على كل تقدير ، وغيره مشكوك الحجية ، إذ يحتمل الترجيح بالمزية بلا دليل ينفيه ، وقد تقرر ان الشك في الحجية يلازم الجزم بعدم الحجية ، فيتعين لزوم الأخذ بما يعلم جواز الأخذ به والاستناد إليه ، وعدم جواز الأخذ بما يشك في جواز الاستناد إليه.

الثاني : مورد تزاحم الواجبين مع احتمال أهمية الملاك في أحدهما ، فان مقتضى التزاحم هو ترجيح الأهم منهما والتخيير بين الواجبين مع التساوي ، فإذا

ص: 38


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /356- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

احتمل أهمية أحدهما يدور الأمر بين تعيين محتمل الأهمية والتخيير بينهما لو كانا متساويين واقعا. وهاهنا يلتزم بالتعيين أيضا بملاك ان مرجع الالتزام بالتخيير مع التساوي في الملاك إلى الالتزام بتقييد إطلاق كل من الحكمين بحال إتيان الآخر ، لأن منشأ التزاحم هو إطلاق دليل كل منهما الشامل لحال الإتيان بالآخر ، فيقع التزاحم لعدم التمكن من إتيانهما معا ، فيرفع اليد عن الإطلاق بالمقدار الموجب لعدم التزاحم ، فيقيد إطلاق كل منهما بحال إتيان الآخر ، فيكون كل منهما واجبا عند ترك إتيان الآخر ، فلا يتحقق التزاحم. وعليه فإذا احتمل أهمية أحدهما كان ذلك ملازما لاحتمال تقدمه على الآخر الملازم لعدم تقيد إطلاقه وبقائه على حاله ، بل يتقيد إطلاق الآخر فقط - بنحو الترتب كما حقق -. إذن فهو يعلم بسقوط إطلاق الآخر على كل تقدير ولا يعلم بسقوط إطلاق محتمل الأهمية ، فيتعين الأخذ به عملا بالإطلاق ، ولا يجوز الأخذ بالآخر.

الثالث : مورد تعلق الأمر بعمل خاص ثم يشك في التخيير بينه وبين عمل آخر ، كما إذا علم بلزوم الصوم وشك في ان وجوبه تعييني أو انه يتخير بينه وبين العتق.

وفي هذا المورد مذهبان :

أحدهما : الالتزام بالتخيير بملاك ان الوجوب التخييري حقيقته هو التعلق بالجامع بين الفعلين. إذن فهو يعلم بتعلق التكليف بالجامع بين الصوم والعتق ويشك في خصوصية زائدة عليه ، وهي خصوصية الصوم ، فيكون من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر والمرجع فيه البراءة.

والآخر : هو الالتزام بالتعيين بدعوى ان التكليف بالجامع غير معلوم ، وانما المعلوم هو تعلقه رأسا بالحصة الخاصة فيشك في الامتثال بغير هذا العمل ، ومقتضى الاشتغال هو التعيين. فالالتزام بالتعيين هاهنا استنادا إلى قاعدة الاشتغال.

ص: 39

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان ما نحن فيه لا يكون من أحد هذه الموارد ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فان العلم الإجمالي بثبوت أحد الحكمين ، واحتمال أهمية الوجوب على تقدير ثبوته واقعا ليس من قبيل العلم الإجمالي بلزوم الأخذ بإحدى الحجتين ويحتمل تعين إحداهما الملازم لعدم حجية الأخرى ، كما انه ليس من قبيل دوران الأمر بين الإطلاقين مع العلم بتقيد أحدهما وعدم العلم بتقيد الآخر ، ولا من قبيل دوران أمر التكليف بين تعلقه بخصوص عمل أو التخيير بينه وبين غيره ، إذ لا يعلم بثبوت الوجوب ، فقد لا يكون له ثبوت بالمرة ، فلا يتم فيه أحد هذه الملاكات المتقدمة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بل لنا ان نقول إن المورد ليس من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فلا وجه للالتزام بتعيين محتمل الأهمية فيما نحن فيه.

ودعوى : ان تقديم محتمل الأهمية ليس بأحد هذه الملاكات ، كي يقال بعدم انطباقها على المورد ، بل بملاك مستقل في نفسه لا يرتبط بموارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير المعهودة ، وهو ان حكم العقل بالتخيير انما هو بملاك ان إلزامه بأحدهما ترجيح بلا مرجح ، وهذا البيان لا يتأتى مع احتمال أهمية أحدهما ، فان إلزامه بأحدهما لا يكون من الترجيح بلا مرجح.

مندفعة : بان هذا البيان غير صحيح ، لأن المنظور في حكمه بالتخيير لأجل عدم صحة الترجيح بلا مرجح هو عدم المرجح بلحاظ مقام الإطاعة والعصيان ، لعدم تنجز أحد الحكمين بالعلم الإجمالي - كما تقدم - ، وإذا لم يترجح أحدهما بلحاظ هذا المقام كان كل منهما بنظر العقل على حد سواء. ومن الواضح ان احتمال أهمية الوجوب أو الحرمة ، لا يكون موجبا لترجيح جانب الوجوب أو الحرمة على غيره في مقام الإطاعة ، لعدم المنجز ، لأن نسبة العلم الإجمالي إلى كليهما على حد سواء ، ومجرد الاحتمال لا يكون نافعا في التعيين.

وبالجملة : فما أفاده صاحب الكفاية لا يمكن ان نوافق عليه. فلاحظ.

ص: 40

تذنيب : ذكر الشيخ رحمه اللّه - في بعض تنبيهات مبحث الأقل والأكثر - : انّ من دوران الأمر بين محذورين دوران الأمر في شيء بين كونه شرطا أو جزء وكونه مانعا ، لوجوب الإتيان به لو كان شرطا أو جزء وحرمة الإتيان به ، لو كان مانعا ، وبمقتضى ما تقرر من التخيير في دوران الأمر بين المحذورين ، يكون المكلف مخيرا بين الإتيان به وبين تركه ، لعدم التمكن من الجمع والاحتياط.

ثم أشار قدس سره إلى التوقف فيه ، ولكن ظاهر كلامه أخيرا هو البناء عليه (1).

وتحقيق المقام : ان دوران الأمر بين الجزئية والمانعية يرجع في الحقيقة إلى دوران الأمر في الوجوب النفسيّ المتعلق بالمركب بين تعلقه بالمشتمل على الجزء وتعلقه بالفاقد له ، لأن الشك في الأمر الضمني راجع إلى الشك في كيفية تعلق الأمر النفسيّ ، نظير دوران الأمر بين القصر والإتمام ، لأن الركعتين الأخيرتين على تقدير القصر مبطلتان ، ولذا يفرض المورد من موارد دوران الأمر بين المتباينين.

وعليه ، فيجب الاحتياط بتكرار العمل ، لأن هذا العلم الإجمالي منجز للتمكن من مخالفته القطعية وموافقته القطعية ، والاقتصار على أحد الأمرين لا يصح بعد كون العلم الإجمالي منجزا.

ودعوى : انه إذا كان مانعا يحرم إيجاده في الصلاة نفسيا لحرمة إبطال العمل الصلاتي ، فيدور أمر المشكوك بين حرمته النفسيّة لو كان مانعا ووجوبه الضمني لو كان جزء. وهذا العلم الإجمالي غير قابل للتنجيز لعدم التمكن من مخالفته ولا موافقته القطعيتين ، فيكون المكلف مخيرا.

مدفوعة - بعد تسليم حرمة إبطال الصلاة مطلقا وفي خصوص مثل المقام.

ص: 41


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /297- الطبعة الأولى.

مما كان الإتيان بالعمل بعنوان الرجاء وعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال - : بأن عدم تنجيز هذا العلم الإجمالي لا ينافي منجزية العلم الإجمالي السابق الّذي يدور تعلقه بين متباينين كما عرفت ، فإذا جاز الاقتصار على الموافقة الاحتمالية بمقتضى العلم الإجمالي الثاني ، فلا يجوز ذلك بمقتضى العلم الإجمالي السابق الّذي لا قصور في منجزيته ، فيجب تكرار العمل تحصيلا للامتثال اليقيني.

هذا إذا كان الوقت متسعا لتكرار العمل. أما إذا كان ضيقا لا يسع العملين ، كانت الوظيفة هي التخيير بينهما في الوقت لعدم التمكن من الموافقة القطعية للعلم الإجمالي.

لكن يجب عليه الإتيان بالآخر خارج الوقت. وذلك لأنه يعلم إجمالا ، إما بوجوب أحدهما في الوقت أو بوجوب الأخر خارجه لو تركه في الوقت ، فهو يعلم إجمالا ، إما بوجوب القصر في الوقت أو بوجوب التمام خارج الوقت لو تركه في الوقت ، وبالعكس أيضا ، فإذا جاء بالقصر في الوقت وجب عليه الإتيان بالتمام خارج الوقت بمقتضى علمه الإجمالي المزبور ، لأنه منجز للتكليف للتمكن من مخالفته القطعية مع موافقته القطعية. فلاحظ وتدبر.

وبهذا التحقيق عرفت ان مجرد اشتراك المقام مع مقام دوران الأمر بين محذورين في عنوان الدوران بين محذورين لا يستلزم الاشتراك في الحكم. فالتفت.

ص: 42

مبحث الاشتغال

اشارة

ص: 43

ص: 44

فصل : في الشك في المكلف به

اشارة

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف ..

فتارة : يتردد المكلف به بين المتباينين ، كتردد الواجب بين كونه جمعة أو ظهرا.

وأخرى : بين الأقل والأكثر ، كتردد الواجب بين فاقد السورة وواجدها.

فالكلام في مقامين :

ص: 45

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين.
اشارة

ولا يخفى ان المراد من التكليف المعلوم أعم من نوع التكليف - كالعلم بالوجوب المردد متعلقه بين الجمعة والظهر أو القصر والتمام - ، أو جنس التكليف - كالعلم بالإلزام وتردده بين ان يكون وجوب شيء أو حرمة آخر -.

والّذي أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه في تحقيق الحال في هذا المقام هو : ان التكليف المعلوم إذا كان فعليا من جميع الجهات ، بان يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث والزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال ، فلا محيص عن تنجزه بالعلم وصحة العقوبة على مخالفته ، ومعه لا بد عقلا من رفع اليد عن عموم دليل أصل البراءة والإباحة ، لمناقضته للتكليف الفعلي. وإن لم يكن فعليا من جميع الجهات ، لم يكن مانع عقلا ولا شرعا من شمول أدلة البراءة للأطراف. ومنه ظهر أنه لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيليّ إلا في انه لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيليّ ، وله مجال مع الإجمالي ، فلا يصير الحكم الواقعي فعليا بجعل الحكم الظاهري في أطراف العلم. هذا ما أفاده قدس سره (1).

ص: 46


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 358 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد أورد عليه : بان ظاهره كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز كالعلم التفصيليّ ، وأن الفرق بينهما من ناحية المعلوم. وهذا يتنافى مع ما تقدم منه في مباحث القطع من كونه مقتضيا للتنجيز وتأثيره فيه بنحو الاقتضاء لا العلية التامة.

والتحقيق : انه لا تنافي بين ما أفاده في الموردين ، بل هما يتفقان. بيان ذلك : انه قد عرفت فيما تقدم - في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي (1) - انّه يلتزم بان الحكم الواقعي ، تارة يكون فعليا تام الفعلية من جميع الجهات ، فيمتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه. وأخرى يكون فعليا ناقص الفعلية ولو من جهة الجهل به ، وهو لا يتنافى مع الحكم الظاهري على خلافه ، وذهب إلى ان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري يكون بالالتزام بان الحكم الواقعي فعلي ناقص الفعلية من بعض الجهات ، ولم يلتزم بأنه إنشائي لبعض المحاذير. وإذا تمت هذه المقدمة ، فبما أن العلم التفصيليّ لا مجال للحكم الظاهري معه لأخذ الجهل فيه ولا جهل مع العلم التفصيليّ ، كان العلم منجزا لأنه يتعلق بحكم فعلي تام الفعلية بمقتضى دليله.

أما العلم الإجمالي ، فحيث ان كل طرف منه مجهول الحكم ، فللحكم الظاهري مجال فيه ، فإذا جرى الأصل كان كاشفا عن عدم فعلية الواقع التامة ، فلا يكون منجزا ، لأنه انما يكون منجزا إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية.

ومن هنا صح ان يقول : ان العلم الإجمالي مقتض للتنجيز لا بمعنى انه لقصور فيه ، بل بمعنى ان أدلة الترخيص حيث لها مجال معه ، وهي تستلزم الكشف عن عدم فعلية الواقع المعلوم التامة ، فلا يكون منجزا إلا إذا لم يكن هناك ترخيص. فهو مقتض للتنجيز بمعنى انه مؤثر فيه لو لم يمنع مانع من فعلية

ص: 47


1- راجع 4 / 143 من هذا الكتاب.

الواقع ، فيوجب قصوره - أي الواقع - عن قبول التنجيز ، لا انه مقتض لو لم يمنع مانع منه ، كما هو المعنى المألوف للاقتضاء في قبال العلية التامة.

ولا يخفى ان هذا لا يتنافى مع ما ذكره هنا من كونه موجبا للتنجيز مع تعلقه بالحكم الفعلي التام الفعلية ، بل هو متفق معه كلية ، فيصح أن نقول : انه يرى - في كلا المقامين - ان العلم الإجمالي مقتض للتنجيز بالمعنى الّذي عرفته. كما انه يرى في كلا المقامين ان العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز كالتفصيلي إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية.

نعم الّذي يتوجه على صاحب الكفاية - بملاحظة ما أفاده هاهنا - هو : سؤال كيفية معرفة كون الحكم الواقعي تام الفعلية بحيث يمتنع إجراء الأصول معه الّذي بنى عليه الأبحاث الآتية ، مع إنه فرض مجهول ، بل يتوجه عليه إشكال محصله : إن تمامية فعلية الواقع وعدمها معلقة على عدم جريان الأصول في أطراف العلم وعدمه ، وذلك لأن مقتضى دليل الحكم الواقعي هو كونه فعليا تام الفعلية بمجرد حصول موضوعه ، لكنه قدس سره التزم - كما عرفت - ان ثبوت الحكم الظاهري في مورد يكشف عن عدم تمامية فعلية الواقع.

وعليه ، فالذي يكشف عن عدم فعلية الواقع التامة ، هو ثبوت الحكم الظاهري ، كما ان عدمه مستلزم لكون الواقع فعليا تام الفعلية بلا توقف على شيء بمقتضى دليله.

وإذا ظهر ذلك ، فقد التزم قدس سره بان مرتبة الحكم الظاهري مع العلم الإجمالي محفوظة ، وهذا يعني عدم المانع من جريان الأصول في أطراف العلم ، فلا يكون العلم منجزا في حال. فكان اللازم عليه البحث في هذه الجهة وهي انه هل أدلة الأصول تشمل موارد العلم الإجمالي أو لا؟. فانها هي المهمة - كما عرفت - ، أما مجرد ترديده المزبور فهو لا يغني ولا يسمن من جوع.

إذن فلنا أن نقول : إن صاحب الكفاية ليس له تحقيق في المقام فتدبر.

ص: 48

واستيفاء البحث في العلم الإجمالي وشئونه يستدعي التكلم في جهات ...

الجهة الأولى : في حقيقة العلم الإجمالي وتعيين متعلقه.

وقد وقع البحث في ذلك ، وان العلم الإجمالي هل يغاير العلم التفصيليّ سنخا ، أو انه لا يغايره إلا من ناحية المتعلق؟.

وقد ادعي ان متعلق العلم هو الفرد المردد ، ولكن المشهور خلافه ، وان متعلق العلم هو الجامع والشك في الخصوصية ، فالعلم الإجمالي مركب من علم تفصيلي بالجامع وشك بالخصوصية ، وبذلك ينعدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيليّ من حيث السنخ.

وقد اختار المحقق الأصفهاني ذلك لأجل ذهابه إلى امتناع تعلق العلم بالفرد المردّد لوجهين :

الأول : ان الفرد المردد لا ثبوت له في أيّ وعاء لا ذهنا ولا خارجا ، لا ماهية ولا هويّة ، لأن كل شيء يفرض يكون معينا وهو هو لا مرددا بينه وبين غيره ، ولا هو أو غيره - كما أشار إليه صاحب الكفاية في مبحث المطلق والمقيد (1) - وإذا كان الفرد المردد كذلك لم يكن قابلا لتعلق العلم به ، بل يمتنع تعلقه به.

الثاني : ان حضور متعلق العلم بنفس العلم فان العلم من الصفات التعلقية ، فلا يمكن دعوى حضور الخصوصية لأنها مجهولة على الفرض. ولا المردد ، إذ لا يمكن ان يكون حاضرا في النّفس لأنه خلف تردده. وهذا الوجه يبتني على فرض عدم تصور حضور الفرد المردد وثبوته في مرحلة تعلق العلم به مع قطع النّظر عن عالم آخر (2).

والتحقيق : أنه يمكن دعوى تعلق العلم بالفرد المردد - في الجملة - ،

ص: 49


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 246 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 242 - الطبعة الأولى.

بمعنى أن يكون متعلقه فردا خارجيا ووجودا عينيا ، بحيث لا يقبل الانطباق على أكثر من واحد مع تردده بين أمرين أو أكثر ، ولا تنهض هذه الوجوه ولا غيرها لإثبات امتناعه.

ويشهد لذلك الوجدان ، كما في مورد اخبار المخبر عن مجيء زيد أو عمرو ، فانه إنما يخبر عن مجيء أحدهما الّذي لا يشخصه ، لا الجامع بينهما لأن الجائي هو أحدهما الخارجي لا الجامع. وأوضح من ذلك ما إذا رأى شخصا من بعيد اشتبه أمره بين زيد وأخيه بكر للتشابه الكبير بينهما ، وعدم رؤيته العلامة المميزة بينهما - كالخال في خده - فان الرؤية انما تعلقت بالوجود الخارجي الشخصي الّذي لا يقبل الانطباق على كثيرين لأنها من الأمور الحسية التي ترتبط بالمحسوسات الخارجية ، وهي الوجودات لا المفاهيم المدركة ذهنا ، مع ان ما تعلقت به الرؤية شخص وفرد مردد بين شخصين هما زيد وأخوه بكر ، ومن جهة عدم تمييزه بينهما. فالمرئي هو أحدهما خارجا لا بعنوان الجامع.

وبما أن الرؤية تستتبع الإدراك التصوري ، فالصورة الذهنية للمرئي هي صورة الوجود الخارجي ، وهي مرددة بين الشخصين ، لأن الصورة على حد نفس المرئي ، والفرض ان المرئي مردد بينهما. فالعلم التصوري تعلق بصورة خارجية شخصية لكنها مرددة لدى العالم بين فردين ، ولم يتعلق العلم بالجامع بينهما ، إذ ما في ذهنه صورة مماثلة لما رآه وهو الشخص الخارجي المبهم ، ويقال لمثل هذا العلم العلم الإجمالي ، فيصح ان نقول ان العلم الإجمالي هو العلم بالشيء بمقدار من مشخصاته والجهل بمقدار من مميزاته الموجب للتردد في قبال العلم التفصيليّ الّذي هو علم بالشخص بمميزاته له عن غيره مطلقا ، فهو مركب من علم تفصيلي بالصورة الشخصية الإجمالية وجهل تفصيلي بمميزاتها ، فلا فرق بينه وبين العلم التفصيليّ سنخا وان تعلق بالفرد المردد.

وقد يجيء في الذهن ان العلم الإجمالي بالبيان المزبور يكون مغايرا سنخا

ص: 50

للعلم التفصيليّ ، فهو كالنظر الضعيف الّذي لا ينكشف له كل شيء في قبال النّظر القوي الّذي تنكشف له خصوصيات الأشياء.

ولكنه خيال فاسد ، فان النّظر الضعيف لا يختلف عن القوي سنخا ، بل هو في الحقيقة كالنظر القوي إلا انه لا يتعلق بتمام الخصوصيات ، فالضعف يرجع إلى عدم النّظر من بعض الجهات وهي دقائق الأمور أو أباعدها - مثلا -. وبعبارة أخرى : القوة والضعف فيما به النّظر وهو العين لا في النّظر نفسه ، بل هو - بالنسبة إلى ما تعلق به - على حد سواء بين القوي والضعيف فانتبه.

وعلى كل فقد ظهر إمكان تعلق العلم بالفرد الخارجي المردد بين شخصين.

وأما الإيراد الأول الّذي ذكره المحقق الأصفهاني فهو يندفع : بان ما أفاده من ان الفرد المردد لا ثبوت له ، أجنبي عما نحن فيه وما ادعيناه ، فان متعلق العلم - بالنحو الّذي ادعيناه - فرد واقعي متعين في نفسه لا تردد في وجوده ، وإنما التردد لدى العالم به في أنه أي الشخصين ، فلم نلتزم بثبوت المردّد في الواقع ، بل التزمنا بثبوت التردد لدى العالم لجهله بالخصوصية المميزة ، وهذا أمر ممكن بلا كلام ، ففرق بين التردد لدى العالم والتردد في الواقع.

وإيراده ناش من خلط الترديد في الواقع مع الترديد لدى العالم ، وبذلك أفحم الغير ، ولم يعرف الغير كيفية التخلص عن ذلك.

ومن هنا ظهر ان ما جاء في بعض الكلمات في تقريب تعلق العلم بالجامع : بان العلم إما ان يتعلق بالخصوصية المعينة ، فهو خلف لفرض الجهل بها. أو يتعلق بالخصوصية المرددة وهي مما لا تقرر لها في أي وعاء (1). قابل للدفع : بأنه يتعلق بالخصوصية المعينة واقعا المرددة لدى العالم ، وهو مما لا محذور فيه ولا امتناع.

ص: 51


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 242 - الطبعة الأولى.

وأما الإيراد الثاني للمحقق الأصفهاني ، فيردّ : بأنا نتصور شقا ثالثا ، وهو تعلق العلم بالشخص ، بلا تشخيص لخصوصيته المميزة ، ولا ملازمة بين نفي العلم بالخصوصية وتعلقه بالجامع ، كما في مثال الرؤية الّذي عرفته.

وهنا إشكال آخر للمحقق النائيني رحمه اللّه على تعلق العلم بالفرد المردد : بان العلم لو كان متعلقا بفرد واقعي مردد بين شخصين ، لكان له واقع يرتبط به وقابل للعلم به تفصيلا ، بحيث ينكشف انه هو المعلوم إجمالا ، مع انا نرى خلافه في بعض الموارد كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ، ثم ظهر في علم اللّه تعالى نجاسة كلا الإناءين ، فما هو المعلوم بالإجمال منهما؟ ، وبأيهما يرتبط العلم الإجمالي؟. لا يمكن تمييزه لكل أحد حتى علاّم الغيوب (1)

ويندفع هذا الإشكال : بان العلم الإجمالي ..

تارة : ينشأ من تعلق الحس بالصورة الإجمالية المرددة ، كالنظر إلى شخص مشتبه دخل إلى الدار.

ولا يخفى ان المعلوم بالإجمال في مثل ذلك يكون له تميز واقعي لا ترديد فيه ، فلو ظهر إن كلا الشخصين في الدار ، كان معلومه بالإجمال من نظر إليه ورآه دون غيره.

وأخرى : ينشأ من العلم بتحقق منشأ طرو الوصف العارض على أحدهما لا عن طريق الحس كالاخبار الموجب للعلم ، ثم يظهر ان كلا المشتبهين معروضان للوصف ، لكن عروض الآخر كان بسبب منشأ آخر كان مجهولا لديه ، فان معلومه بالإجمال له تعيّن واقعي ، وهو ما علم بتحقق المنشأ الخاصّ فيه ، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد الإناءين ثم ظهرت نجاسة الآخر بوقوع الدم فيه.

ص: 52


1- الفياض محمد إسحاق ، محاضرات في أصول الفقه : 4 / 43 - الطبعة الأولى.

وثالثة : أن يحصل لديه العلم بتحقق منشأ عروض العارض على أحدهما ، ثم يظهر عروضه بنفس ذلك المنشأ لكليهما ، كما لو علم بوقوع قطرة بول واعتقد انها تصل متصلة فتقع في أحد الإناءين ، لكنها - في علم اللّه تعالى - تجزأت ووقع الجزءان في الإناءين.

وهذا هو موضع الإشكال ، إذ لا ارتباط للمعلوم بالإجمال بأحدهما.

لكن نقول : انه في هذا الفرض يوجد علمان :

أحدهما : العلم بنجاسة ملاقي البول الواقعي - وهو يدور بين الأقل والأكثر -.

وعلم آخر : بأن الملاقي أحد الإناءين خاصة من باب الخطأ في التطبيق ، ففي الحقيقة يكون كلا الإناءين معلوما لديه. وشهد لذلك : أنه يحكم بان نجاسة كلا الإناءين تكون منجزة واقعا ، ولو لم يكن سوى العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، لم يتنجز كلاهما لأنه جهل مركب.

فعدم ارتباط العلم الإجمالي الموجود بأحدهما واقعا ، لكونه جهلا مركبا لا حقيقة له واقعا. والتنجز ناشئ عن العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر المنحل بدوا بالعلم الإجمالي التخيلي.

إذن فالعلم الإجمالي الحقيقي بالفرد المردد له ارتباط بالواقع لا محالة.

نعم ، هنا صورة واحدة لا يكون العلم الإجمالي فيها متعلقا بالفرد المردد ولا ارتباط له بالواقع إذا انكشف تفصيلا أصلا ، وهو ما إذا كان منشأ العلم نسبته إلى الفردين واقعا على حد سواء ، بحيث لا يكون لأحدهما خصوصية بالنسبة إليه أصلا ، كما إذا علم إجمالا بمخالفة أحد الدليلين للواقع من جهة العلم بامتناع اجتماع الضدين - لا من جهة إخبار المعصوم علیه السلام بذلك لارتباطه في مثل ذلك بأحدهما واقعا ، وهو ما يعلم كذبه المعصوم علیه السلام - ، فانه لو انكشف كذب أحد الدليلين لا يمكنه ان يقول ان هذا هو معلومي

ص: 53

بالإجمال ، لعدم ميزة لأحدهما على الآخر.

وفي مثل ذلك لا يمكننا ان نلتزم بان متعلق العلم هو أحدهما الواقعي المردد لدينا ، بل هو متعلق بالجامع بهذا المقدار - أعني : عنوان : « أحدهما » - ، لكن هذه الصورة إذا اختلفت موضوعا لامتناع تعلق العلم فيها بالفرد المردد ، فلا يستلزم ذلك كون جميع الصور مثلها.

بل قد يكون لها حكم خاص يختلف عن حكم سائر الصور ، فقد التزم صاحب الكفاية في - مبحث التعارض (1) - ان دليل الحجية لا يثبت الحجية لأكثر من هذا العنوان ، وهو عنوان : « أحدهما » لأنه بهذا العنوان لا أكثر محتمل الصدق ، فانه كما ان أحدهما معلوم الكذب كذلك أحدهما محتمل الصدق ، إذ العلم بكذب أحدهما لا ينافي احتمال صدق أحدهما ، فتثبت الحجية لأحدهما بهذا المقدار ، ويثبت أثره وهو نفي الثالث ومن دون إثبات لأثر إحدى الخصوصيّتين.

وجملة القول : انه لا مانع من تعلق العلم الإجمالي بالفرد المردد ، بمعنى ان المعلوم بالإجمال أمر متعين واقعي خارجي مردد بين طرفين أو أكثر لدى العالم نفسه.

وأما تعلق العلم بالجامع ، بان يتعلق العلم بطبيعي النجاسة في مثل العلم بنجاسة أحد الإناءين ، فقد يوجّه عليه إيرادات :

الأول : ما كنا نورده سابقا من النقض بموارد دوران الأمر بين محذورين. فانه لا يمكن دعوى تعلق العلم بالإلزام بالجامع بين الفعل والترك ، لضرورة تحقق الجامع بواحد من الفعل أو الترك ، فلا معنى للإلزام به.

ويمكن ان يدفع : بأنه بعد ان عرفت فيما تقدم استحالة ثبوت التكليف الفعلي في هذا المورد ، لعدم ترتب الداعوية عليه ، فلا مجال حينئذ لدعوى تعلق

ص: 54


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 439 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العلم بالحكم الفعلي ، سواء تعلقه بنحو بالجامع أو بنحو آخر ، إذ لا حكم يكون موردا للعلم ، فالعلم الإجمالي على تقدير ثبوته لا بد في تصحيحه من إرجاعه إلى مرحلة الجعل لا المجعول ومقام الإنشاء لا الفعلية ، وفي هذا المقام لا محذور في تعلقه بالجامع ، إذ لا ضير في تعلق العلم بإنشاء الإلزام بالجامع بين الفعل والترك ، إذ لا محذور في الإنشاء ما لم يصل إلى مرحلة الفعلية.

الثاني : ما أفاده المحقق العراقي من : ان المعلوم بالإجمال ينطبق على المعلوم بالتفصيل لو انكشف الحال بتمامه ، ولذا يشار إليه فيقال : هذا ما علمته إجمالا. فلا يمكن ان يكون هو الجامع لعدم انطباقه على الفرد الخارجي بتمامه ، بل بجزء تحليلي منه (1).

ويمكن ان يردّ :

أولا : بأنه غير مطرد في جميع موارد العلم الإجمالي ، إذ منها ما لا يكون المعلوم بالإجمال منطبقا على المعلوم بالتفصيل بتمامه ، ولا يمكن أن يشار إليه بأنه هو معلومه الإجمالي ، وهو ما تقدم من العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين من جهة امتناع اجتماع الضدين أو النقيضين.

وثانيا : ان انطباق المعلوم بالإجمال على الخارج المعلوم بالتفصيل خلف مناف للبديهة ، فان الصورة الإجمالية لا تنطبق على الصورة التفصيلية ، وإلا لكان العلم تفصيليا ، وهو خلف.

نعم ، تصح الإشارة إليه باعتبار ان الصورة الإجمالية تتقوم بالشخص والوجود ، وهو ثابت لا يزول حتى بتغير الأوصاف والاعراض ، فيصح ان يقال : ان هذا ذاك ، لكن لا ينطبق عليه بتمام خصوصياته كما هو ظاهر كلامه.

الثالث : ان ما أفيد من ان العلم الإجمالي عبارة عن العلم بالجامع ،

ص: 55


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 47 و 299 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كطبيعي النجاسة مع الشك في الخصوصية يتنافى مع الوجدان والبرهان.

أما الوجدان : فلانا ندرك من أنفسنا أن هناك أمرا زائدا على هذا المقدار من العلم بأصل الجامع ، وهو عدم سعة الجامع وشموله لأكثر من الطرفين وحصر تحققه فيهما.

وأما البرهان : فلأن العلم التصديقي هو عبارة عن العلم بثبوت شيء لشيء لا مجرد تصور الشيء ، فهو انما يتعلق بالنسبة بين الشيئين ، مع أن العلم الإجمالي انما يكون ذا أثر إذا ارتبط الحكم بشيء ، اما مجرد العلم بالجامع فلا أثر له ما لم يرتبط بالخارج.

ومن هنا قد يلتزم بان معروض الجامع هو عنوان : « أحدهما » ، فهو يعلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين. فلا يخرج عن الطرفين ، كما أنه علم بالنسبة وثبوت شيء لشيء.

ولكن الالتزام بان متعلق العلم هو عنوان أحدهما يتوجه عليه : ان المراد بأحدهما ، هل هو أحدهما المعين أم المردد. والأول خلف. والثاني محل منع على الفرض وكرّ على ما فرّ منه. مع ان القائل يحاول ان لا يلتزم بتعلق العلم بأحدهما ، فان المحقق الأصفهاني سلك مسلكه الخاصّ فرارا عن ذلك كما لا يخفى وإلا لصرّح به في كلامه.

وكأنّ المحقق الأصفهاني قدس سره تنبّه إلى هذا الإيراد الثالث ، فذكر : ان العلم الإجمالي عبارة عن علم بالجامع وعلم آخر بأن طرفه لا يخرج عن الطرفين ، فيندفع به الإيراد (1).

ولكن يتوجه عليه :

أولا : ان العلم بانحصار الجامع بين الفردين يتعلق بأمر وجودي بحسب

ص: 56


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 242 - الطبعة الأولى.

مراجعة الوجدان ، ولازمه الأمر العدمي الّذي أشار إليه قدس سره ، فان العالم يرى في نفسه انه يعلم بشيء ثابت بين الإناءين.

وثانيا : ان الأثر العقلي من التنجيز انما يترتب على تعلق العلم بالأمر الوجوديّ ، وهو ثبوت النجاسة بين الطرفين. أما العلم بان النجاسة ليست في غير الطرفين ، فليس له أثر عقلي بلحاظ نفس الطرفين.

هذا ولكن يمكن ان يدفع الإيراد الثالث بالالتزام بتعلق العلم بعنوان أحدهما. واما الإيراد عليه : بان المراد من أحدهما ان كان هو المعين فهو خلف وإن كان المردد فهو محل منع على الفرض.

فيندفع : بان الّذي يلتزم به تعلق العلم بمفهوم أحدهما بلا ملاحظة المصداق الخارجي ، والترديد المزبور بين المعين والمردّد انما يتأتى في مصداق الجامع لا نفس المفهوم كما لا يخفى.

ويتلخص من ذلك انه لا مانع ثبوتا من تعلق العلم بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما ، بل لذلك شواهد عرفية كثيرة ، فانه كثيرا ما يتعلق العلم بالشيء بتوسط عنوان كلي يشير إليه.

بيان ذلك : ان العلم ..

تارة : يتعلق بالشيء بمميزاته عن طريق الحس ، كما إذا رأى زيدا يدخل الدار فيعلم تفصيلا أنه فيها.

وأخرى : يتعلق به بمميزاته عن طريق العناوين الكلية التي يوجب انضمام بعضها إلى بعض تميز المصداق لانحصاره بالفرد ، فيعلم به تفصيلا ، كما إذا قال القائل : « دخل الدار ابن زيد الطويل المعمم الأبيض » وكانت هذه العناوين المنضم بعضها إلى بعض ذات مصداق واحد وهو عمرو ، مع انها جميعها عناوين كلية.

وثالثة : ان يعلم به بعنوان عام ولكنه مردد الانطباق بين فردين ، كما إذا

ص: 57

قال : « دخل الدار ابن زيد الطويل » وكان مرددا بين بكر وعمرو ، فان ما علمه هو العنوان الكلي المردد الانطباق على شخصين ، فيصير العلم إجماليا ، وهذه الصورة هي محل الشاهد فيما نحن فيه.

والّذي تحصل لدينا - لحد الآن - هو إمكان تعلق العلم بالفرد المردد - بالنحو الّذي صورناه - وتعلقه بالجامع الانتزاعي ، وانه لا محذور في كل منهما.

والّذي نلتزم به خارجا : ان العلم الإجمالي له صور ثلاث :

الأولى : ان تكون الصورة الحاصلة في الذهن لمتعلق الحكم صورة شخصية مماثلة للوجود الخارجي ، لكنها مرددة بين كونها هذا الفرد أو ذاك ، فيحصل لديه العلم بثبوت الحكم لتلك الصورة المرددة بين شخصين ، كما إذا رأى شخصا يدخل الدار مرددا بين كونه زيدا أو أخاه لعدم رؤيته المائز بينهما ، فانه يعلم بدخول ذلك الوجود الّذي انطبعت صورته في ذهنه من طريق الرؤية ، وبما انه متردد بين شخصين يكون العلم إجماليا.

الثانية : ان يتعلق العلم بالجامع ، ولكن يكون للجامع ارتباط ومساس بواقع خارجي متعين في نفسه ، بحيث يصح ان يشار إليه إذا علم تفصيلا بمعروض الحكم ، فيقول هذا هو معلومي بالإجمال فالصورة الحاصلة في الذهن صورة كلية لكن لها مطابق في الخارج واقعي متعين في نفسه ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين لوقوع قطرة البول في أحدهما ، فان المعلوم بالإجمال هو نجاسة ما وقع فيه قطرة البول. ولا يخفى ان هذا العنوان وهو : « أحدهما الّذي وقع فيه قطرة البول » عنوان كلي ، لكن مطابقه في الخارج شخصي لا يتعدد ، إلاّ انه مردد بين فردين ، فإذا حصل العلم التفصيليّ بما وقع فيه قطرة البول صح ان يقول : هذا هو معلومي بالإجمال. وبعبارة أخرى : يكون الجامع ملحوظا طريقا إلى الخارج وعنوانا مشيرا إليه.

الثالثة : ان يتعلق العلم بالجامع بلا ان يكون للجامع ارتباط ومساس

ص: 58

بالخارج أصلا كما إذا تعلق العلم بكذب أحد الدليلين لامتناع اجتماع الضدين ، فانه لا يعلم سوى كذب أحدهما لا أكثر بلا إضافة أي شيء لهذا العنوان مما يوجب ربطه بأحد الطرفين واقعا ، وهذا العنوان وحده - وهو عنوان أحدهما - لا يرتبط بواحد منهما على التعيين في الواقع ، بل نسبته إلى كل من الطرفين على حد سواء ، ولأجل ذلك لو علم تفصيلا بكذب أحدهما لا يستطيع ان يقول : ان هذا هو معلومي بالإجمال.

وأثر هذه الصورة قد يختلف عن أثر الصورتين الأولتين اللتين يجمعهما وجود واقع معين للمعلوم بالإجمال يرتبط به ويحمل عليه.

وبالجملة : المعلوم بالإجمال في الصورة الثالثة لا يمكن تعلق العلم التفصيليّ به وتميزه ، لأن المعلوم بالإجمال ، وهو مجرد عنوان أحدهما ، لا واقع له معين كي يقبل العلم التفصيليّ. بخلافه في الصورتين الآخرتين ، فانه قابل لتعلق العلم التفصيليّ ، لأنه مما له واقع معيّن قابل لأن ينكشف بالتفصيل ، لأنه أمر زائد على عنوان أحدهما كما لا يخفى ، إذ هو أحدهما الخاصّ كأحدهما الّذي وقعت فيه قطرة البول ، ونحوه.

ولعله هو مراد العراقي فيما تقدم حكايته عنه من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل بتمامه. فيريد مجرد صحة حمل المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل ، لا أنه ينطبق عليه بخصوصياته ، كي يلزم الكل في قبال الكلي ، فانه لا يحمل على الفرد على انه عينه ، بل بما انه فرده. فالتفت.

ولا يخفى عليك ان الغالب في صور العلم الإجمالي هو تعلقه بالجامع مع ارتباطه بالخارج ومساسه به. ويمكن إرجاع الصورة الأولى إلى الصورة الثانية بالدقة والتأمل. فيكون للعلم الإجمالي صورتان يجمعهما تعلقه بالجامع ، لكنه في إحداهما مما له ارتباط بواقع خارجي معين ، وفي الأخرى لا ارتباط له بالخارج أصلا. والغالب هو الصورة الأولى.

ص: 59

وعليه ، فما التزمنا به فيها هو حد وسط بين تعلق العلم بالفرد المردد ، لأنه لم يتعلق بالأمر الشخصي ، بل بعنوان كلي ، وبين تعلقه بالجامع الانتزاعي ، لأنه لم يتعلق بصرف الجامع بلا ربط له بالخارج ، بل تعلق بالجامع المرتبط بالخارج الساري إليه.

بل لنا أن نقول : إنه متعلق بالجامع بملاحظة المعلوم بالذات ، وهو الصورة الحاصلة في الذهن ومتعلق بالفرد المردد ، باعتبار أن مطابق الصورة الكلية فرد واحد خارجي معين في الواقع مردّد لدى العالم نفسه ، لما عرفت من سراية الجامع المعلوم إلى الخارج وارتباطه به.

ولا يخفى ان ما التزمنا به من تعلق العلم الإجمالي بالجامع المرتبط بالخارج الساري إليه ، يختلف من حيث الأثر مع الالتزام بان العلم الإجمالي متعلق بصرف الجامع بلا سراية إلى الخارج ، كما سيظهر في البحث عن الجهات الأخرى.

وأما ما أفاده العراقي قدس سره : من ان العلم الإجمالي متعلق بالصورة الإجمالية المعبّر عنها بأحد الأمرين ، والعلم التفصيليّ متعلق بعنوان تفصيلي للشيء حاك عن شراشر وجوده ، فيكون الفرق بينهما من حيث المعلوم لا من حيث العلم ...

فقد يورد عليه : بان المراد بالإجمال في قبال التفصيل ..

ان كان هو الإجمال في باب الحدود الراجع إلى ملاحظة المركب من الاجزاء المتعددة شيئا واحدا بنحو الإجمال ، كملاحظة الدار أمرا واحدا مع انها في الواقع أمور متعددة. ففيه : ان هذا لا يقابل العلم التفصيليّ ، فان كثيرا من موارد العلم التفصيليّ يكون المعلوم بالتفصيل الّذي لا ترديد فيه ملحوظا إجمالا بهذا المعنى.

وان كان هو الإجمال بمعنى الإبهام الّذي يذكر في باب لصحيح والأعم

ص: 60

في مقام بيان الجامع وأنه أمر مبهم قابل للانطباق على الزائد والناقص كما تقدم ذكره. ففيه : انه لا ينطبق على المعلوم بالإجمال بتمامه لإبهامه.

لكن الإنصاف : انه يمكن ان يكون مراده ما ذكرناه من تعلق العلم بعنوان جامع مرتبط بالخارج المعين واقعا المردد بين فردين ، بحيث ينطبق على المعلوم بالتفصيل لو تحقق العلم التفصيليّ ، فلا إشكال عليه ، فراجع كلامه تعرف حقيقة مرامه. هذا تمام الكلام في تحقيق العلم الإجمالي وكيفية تعلقه بالجامع.

الجهة الثانية : في شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الإجمالي.

وقد تقدمت الإشارة إلى أهمية البحث في ذلك لمثل صاحب الكفاية الّذي يرى قصور فعلية الواقع مع جريان الأصل في مورده ، فان ثبت شمول دليل الأصل لأطراف العلم الإجمالي منع عن تنجيز العلم لقصور المعلوم ، فلا يكون العلم متعلقا بحكم فعلي كي يتحقق التنجز. كما انه ان ثبت عدم شمول الدليل لأطراف العلم لم يكن الحكم المعلوم قاصر الفعلية ، لأن مقتضى دليله كونه فعليا بحصول موضوعه لعدم دخل شيء في فعليته غيره.

ثم انه بعد تحقيق هذه الجهة والالتزام بشمول الأصول لأطراف العلم الإجمالي ، يقع البحث عن ان العلم هل يصلح مانعا من جريانها أو لا يصلح؟. ومرجعه إلى البحث عن منجزية العلم الإجمالي وعدمها.

فالبحث في هذه الجهة عن شمول الأصول لأطراف العلم الإجمالي مع قطع النّظر عن منجزية العلم الإجمالي.

وتحقيق الكلام في هذه الجهة ان يقال : ان الاحتمالات في المقام ثلاثة :

الأول : عدم شمول أدلة الأصول مطلقا لأطراف العلم الإجمالي.

الثاني : شمول أدلة الأصول مطلقا.

الثالث : التفصيل بين الأصول التنزيلية كالاستصحاب وغيرها ، فلا تجري الأولى في أطراف العلم الإجمالي ، وتجري الثانية. وهو مختار المحقق

ص: 61

النائيني (1).

أما الاحتمال الأول : فالوجه فيه هو ما أفاده الشيخ رحمه اللّه في باب الاستصحاب في روايات الاستصحاب (2). وأشار إليه في مبحث البراءة في روايات البراءة (3) من : ان دليل الأصل مذيل بما ينافي مفاده عند حصول العلم الأعم من التفصيليّ والإجمالي ، فيتحقق التهافت بين الصدر والذيل فيتساقطان. بيان ذلك : ان قوله - في روايات الاستصحاب - : « لا تنقض اليقين بالشك » يشمل كل طرف من أطراف العلم الإجمالي في حد نفسه ، لأن الحكم فيه مشكوك الارتفاع ، فمقتضى هذه الفقرة هو حرمة النقض ووجوب البقاء على طبق الحالة السابقة في كل من الطرفين. إلا انه مذيل بقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، وهو يقتضي وجوب النقض بالنسبة إلى أحد الطرفين المعلوم بالإجمال لشمول اليقين الآخر للعلم الإجمالي.

ومن الواضح انه لا يمكن الجمع بين حرمة النقض في كل منهما ووجوب النقض في أحدهما ، ولذلك يتحقق التهافت بين الصدر والذيل في مورد العلم الإجمالي.

وقد نوقش هذا البيان في محله بوجهين :

أحدهما : ان المنصرف إليه اليقين في الذيل هو اليقين التفصيليّ ، وانه هو من سنخ اليقين بالحدوث الّذي يراد منه اليقين التفصيليّ قطعا ، فلا يشمل المذيل مورد العلم الإجمالي.

وثانيهما : انه لو فرض شمول الصدر والذيل لمورد العلم الإجمالي ، فغاية ما يتحقق هو سقوط النص المشتمل على الذيل عن الاعتبار للتهافت ، فيرجع

ص: 62


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 78 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى - فرائد الأصول / 429 - الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 241 - الطبعة الأولى.

إلى نصوص الاستصحاب الخالية عن الذيل الشاملة بإطلاقها أطراف العلم الإجمالي.

وتحقيق الكلام : ان البحث في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » من جهتين :

الأولى : ان المراد من اليقين هل هو كل يقين ولو لم يتعلق بما تعلق به اليقين الأول ، لكن بشرط ان يكون قابلا لنقض اليقين السابق. أو خصوص اليقين المتعلق بما تعلق به اليقين السابق؟.

وعلى الثاني : فهل يراد به اليقين الّذي تعلق بما تعلق به اليقين السابق بخصوصياته ومميزاته ، فيختص باليقين التفصيليّ ، أو يراد الأعم منه ومما تعلق به بعنوان إجمالي ، فيعم اليقين الإجمالي؟.

الظاهر في الترديد الأول هو الثاني ، فان الظاهر عرفا وحدة متعلق اليقين السابق واللاحق الّذي يتحقق به النقض ، فالمراد اليقين الّذي تعلق بما تعلق به اليقين الأول.

وأما في الترديد الثاني ، فالظاهر هو الثاني ، إذ لا قرينة على لزوم تعلقه بما تعلق به أولا بخصوصياته مع إطلاق لفظ اليقين الشامل لليقين التفصيليّ واليقين الإجمالي ، فالظاهر هو وحدة المتعلق ذاتا ولو بعنوان آخر.

وعليه ، نقول : ان العلم الإجمالي إذا التزم بأنه يتعلق بالجامع الانتزاعي بلا سراية إلى الخارج ومن دون تعدّ إليه ، لم يكن قوله « ولكن تنقضه بيقين آخر » شاملا لمورد العلم الإجمالي ، لعدم وحدة متعلق اليقين التفصيليّ السابق واليقين اللاحق ، إذ اليقين السابق تعلق بكل واحد من الطرفين بخصوصيته ، ومتعلق اليقين اللاحق هو الجامع ، وليس لدينا يقين سابق بالجامع الانتزاعي ، فاليقين الإجمالي بالجامع لم يسبق بيقين.

وإن التزم بأنه يتعلق بالجامع مع سرايته إلى الخارج ، وان مطابقه هو الفرد الواقعي المتعين في نفسه الّذي يشار إليه بالجامع المنطبق عليه ، كان الذيل شاملا

ص: 63

لمورد العلم الإجمالي ، لأن أحد الفردين معلوم الانتقاض حينئذ ، فيكون العلم اللاحق متعلقا بما تعلق به العلم السابق. وهذه إحدى ثمرات الخلاف في تعلق العلم الإجمالي بالجامع الصرف بلا سراية إلى الخارج ، وتعلقه بالجامع الساري إلى الخارج والمشار به إليه.

الثانية : ان قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » هل يتكفل حكما شرعيا تأسيسيا بوجوب رفع اليد عن الحالة السابقة ، أو انه حكم إرشادي إلى ما يدركه العقل من لزوم رفع اليد عن الحالة السابقة عند حصول اليقين؟. ولا يخفى ان الكلام فيما نحن فيه يبتني على استظهار الشق الأول من الكلام ، إذ لو كان القول المزبور في مقام الإرشاد إلى ما يراه العقل ويحكم به ، فلا يمكننا ان نقول بشمول اليقين لليقين الإجمالي تمسكا بإطلاق اللفظ ، بل يبتني على تنقيح النقطة الثانية من البحث في العلم الإجمالي ، وهي البحث عن منجزيته عقلا بحيث يمنع من جريان الأصل. فلا يكون البحث في هذه الجهة منحازا عن البحث في منجزية العلم الإجمالي وليس فيه جهة زائدة عليها كما هو المفروض. فانتبه.

إذن فشمول الذيل لمورد العلم الإجمالي الّذي يحقق التهافت يبتني ..

أولا : على الالتزام بسراية المعلوم بالإجمال إلى الخارج.

وثانيا : على استفادة الحكم الشرعي التأسيسي من الذيل.

ثم إن هنا جهة ثالثة ينبغي التنبيه عليها ، وهي ان أساس دعوى التهافت على كون المستفاد من دليل الأصل هو الحكم الفعلي كالحلية الفعلية المطلقة - في أدلة الإباحة - ، كي تتنافى مع الحرمة المعلومة بالإجمال.

وأما لو كان المستفاد هو إثبات الحلية من جهة ، فلا تنافي ولا تصادم بين الصدر والذيل ، إذ لا منافاة بين حلية الشيء من جهة وحرمته من جهة أخرى ، فلا تنافي بين عدم النقض ووجوبه. فهذا أمر ثالث يبتني عليه الالتزام بالتهافت.

وإذا عرفت ما حققناه تعرف الخدشة فيما أفاده المحقق العراقي في مقام

ص: 64

نفي شمول الذيل لأطراف العلم الإجمالي :

أولا : من دعوى انصراف اليقين في نصوص الاستصحاب والعلم في نصوص البراءة إلى العلم التفصيليّ ، ويشهد له إرداف العلم بقيد : « بعينه » في بعض النصوص الظاهر في إرادة العلم التفصيليّ.

وثانيا : ان كلا من الخصوصيّتين غير معلومة لا تفصيلا ولا إجمالا ، لتوقف العلم الإجمالي على الجامع بلا سراية إلى الخارج.

وثالثا : بان المعلوم الحرمة هو العنوان الإجمالي المعبر عنه بأحد الأمرين ، ونفي السعة من جهته لا يلازم نفيها من غير تلك الجهة (1).

إذ يرد على الأول : إنكار دعوى الانصراف لعدم الشاهد لها سوى القيد المزبور ، وهو قوله : « بعينه » ، ولكن عرفت فيما تقدم في أدلة البراءة المناقشة فيه وانه لا يتنافى مع العلم الإجمالي.

ويرد على الثاني : انه خلاف مبنى دعوى التهافت وما نقّحه هو قدس سره من سراية المعلوم بالإجمال إلى الخارج ، فإحدى الخصوصيّتين معلومة بالإجمال.

ويرد على الثالث : بأنه خلف الفرض ، إذ المفروض ان المستفاد من الصدر هو الحلية الفعلية بقول مطلق.

وبذلك تعرف ان الصدر والذيل يشملان مورد العلم الإجمالي ، فيتحقق التهافت بالتقريب المتقدم.

هذا ، ولكن عرفت ان أساس دعوى التهافت على استظهار كون الذيل - كقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، وكقوله : « فتدعه » في نصوص البراءة - في مقام بيان حكم شرعي تأسيسي.

ص: 65


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 300 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وهو غير مسلم بل ممنوع ، لأنه خلاف الظاهر بعد كون النقض باليقين امرا مرتكزا فيوجب انصراف الأمر إلى الإرشادي ، مضافا إلى أن المتيقن من اليقين والعلم هو التفصيليّ ، وهو - كما حقق في محله - مما لا يقبل جعل الحجية شرعا إثباتا ، كما لا يقبل جعل الحكم المماثل في مورده ، فلا معنى لجعل الناقضية شرعا لليقين الراجع إلى جعل الحجية له ، أو جعل الحرمة عند العلم بها الراجع إلى جعل مثل الحكم عند العلم به ، فالذيل والغاية يرجعان إلى بيان تقيد جريان الأصول عقلا بعدم العلم ، لأنه منجز ومانع من جريان الأصل ، لا بيان حكم شرعي ، كي يتحقق التهافت بين الحكمين في مورد العلم الإجمالي.

وعليه ، فالصدر يشمل أطراف العلم الإجمالي في نفسه لتحقق موضوعه وهو الشك. فلا بد من البحث بعد ذلك في ان العلم الإجمالي بنظر العقل مانع منه كالعلم التفصيليّ أو لا؟. فتدبر.

ثم إنه على تقدير الغض عن ذلك والالتزام بشمول الصدر والذيل لأطراف العلم الإجمالي وتحقق التهافت بينهما وسقوط النص عن الاعتبار ، فهل يصح الرجوع إلى النص الخالي عن الذيل - كما قيل - أولا؟.

الحق هو التفصيل بين ما كان الذيل قيدا متصلا كقوله : « حتى تعلم انه حرام فتدعه » في اخبار أصالة الحلّ ، وما إذا كان قيدا منفصلا وجملة مستأنفة وان كانت في كلام واحد كقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، فانه وإن جاء في رواية واحدة مع الصدر ، لكنه حكم مستقل وليس من القرينة المتصلة ، لأن : « لكن » استدراكية.

ففي الأول يصح الرجوع إلى الخالي ، إذ الرواية المشتملة على الغاية تكون مجملة لا يستفاد منها شيء بالنسبة إلى مورد العلم الإجمالي ، وهذا لا يضر بظهور غيرها ، فيرجع إلى مثل : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » ، لعدم اشتماله على الغاية الظاهرة في ارتفاع الحكم عند حصولها ، كما صرح به بقوله : « فتدعه ».

ص: 66

وفي الثاني لا يصح الرجوع إلى الجميع ، لأن نسبة الذيل إلى الصدر وسائر النصوص على حد سواء ، فيتحقق التهافت بين مدلوله ومدلول جميع النصوص ، فيسقط الجميع عن الاعتبار. فانتبه.

والّذي يتلخص مما حققناه : أنه لا مانع إثباتا من شمول أدلة الأصول جميعها لأطراف العلم الإجمالي ، وأساسه كما عرفت على الالتزام بان الحكم المستفاد من الذيل أو الغاية حكم إرشادي لا تأسيسي.

وأما الاحتمال الثالث : وهو مختار المحقق النائيني ، فقد ذكر قدس سره في توجيهه : ان مرجع الأصل التنزيلي إلى إلغاء الشارع الشك وتعبده بان المكلف محرز للواقع. ومن الواضح منافاة التعبد بإحراز الحالة السابقة في كل من الطرفين مع العلم الإجمالي بانتقاضها في أحدهما ، فانهما لا يجتمعان (1).

ولا يخفى أنه قدس سره اكتفي بهذا البيان ونحوه في إثبات مدعاه ، مع ان ما يذكره مجرد دعوى لا تنتهي إلى برهان. ولذا فالرد عليها سهل.

ولأجل ذلك لا حاجة إلى الإطالة في البحث عن ذلك ، بل الأمر موكول إلى الوجدان ، وهو لا يرى بأسا في التعبد بالإحراز في كلا الطرفين مع العلم الإجمالي بالخلاف ، لأن التعبد خفيف المئونة. فلاحظ.

وننتهي بذلك إلى ان الاحتمال الثاني ، وهو الالتزام بشمول أدلة الأصول مطلقا لأطراف العلم الإجمالي مع قطع النّظر عن منجزيته هو المتعين من بين الاحتمالات الثلاثة المزبورة.

يبقى شيء : وهو ان الشيخ مع التزامه بأن أدلة الاستصحاب لا تشمل أطراف العلم الإجمالي للزوم المناقضة بين الصدر والذيل ، ولذا لم يلتزم بجريان الاستصحاب في مورد لا يكون جريانه فيه مستلزما للمخالفة العملية ، كما لو

ص: 67


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 240 - الطبعة الأولى.

علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين اللذين تكون حالتهما السابقة هي النجاسة ، فانه منع من إجراء استصحاب النجاسة في كل منهما للعلم الإجمالي بالخلاف ، مع التزامه بذلك. التزم بجريان الاستصحاب في بعض موارد العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة ، كما لو علم إجمالا بأنه توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، فانه التزم بجريان استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث ، مع أنه يعلم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة لأحدهما (1).

فيسأل الشيخ رحمه اللّه : بأنه إن كان المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو قصور الأدلة عن ذلك فلا وجه لجريانها في هذا المورد. وان كان المانع هو استلزامها المخالفة العملية ، كان اللازم إجراء الاستصحاب فيما لو علم إجمالا بطهارة أحد الإناءين مع كون الحالة السابقة لهما هي النجاسة ، مع أنه لم يلتزم بذلك ، فالتفكيك بين الصورتين غير وجيه.

وهذا الإيراد عليه تعرض له الكثير ممن تأخر من الشيخ ولم يستوضح أحد منهم الجواب عنه.

لكن الشيخ رحمه اللّه في الرسائل - في أواخر الاستصحاب - أشار إلى جهة الفرق (2).

ومحصل الجواب عن هذا الإيراد بملاحظة ما أشار إليه الشيخ هو : ان المعلوم بالإجمال في هذه الصورة وهو الواحد المردد بين طهارة البدن وبقاء الحدث ليس بموضوع لأثر شرعي ، فلا يكون مشمولا للذيل ، وهو وجوب النقض ، لأنه لا يشمل إلا ما كان ذا أثر. وعليه فيبقى الصدر متحكما بلا مزاحم. بخلاف مورد العلم بطهارة أحد الإناءين ، فان طهارة أحدهما المعلومة بالإجمال ذات أثر ، فيصح التعبد بها فيكون الذيل شاملا للمعلوم بالإجمال ، فيتحقق التهافت ،

ص: 68


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /430- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /430- الطبعة الأولى.

فالتفت واللّه سبحانه العالم العاصم.

الجهة الثالثة : في منجزية العلم الإجمالي.

وتحقيق الكلام فيها : انه بناء على شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الإجمالي بلا قصور - كما حققناه بضميمة والبناء على قصور فعلية الواقع بجعل الحكم الظاهري في مورده بحيث لا يكون تام الفعلية ، لا وجه للقول بمنجزية العلم الإجمالي بعد انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في مورده - إما موضوعا أو موردا - لأن جريان الأصل يستلزم قصور المعلوم بالإجمال عن الفعلية التامة ، فلا يكون قابلا للتنجيز ، لأن الحكم القابل للتنجيز بالعلم هو الحكم الفعلي من جميع الجهات.

فمثل صاحب الكفاية الّذي يلتزم بكلا المبنيين المزبورين لا مجال له للقول بتنجيز العلم الإجمالي في الموارد المتعارفة أصلا.

وقد مرّ إيضاح هذا المعنى بنحو مفصّل فيما تقدم من مباحث القطع (1) وفي أوّل هذه المباحث (2). فراجع.

فالبحث عن منجزية العلم الإجمالي يتفرع على الالتزام بكون الواقع فعليا في مورده وإن شمله دليل الأصل لعدم استلزام جعل الحكم الظاهري لقصور فعلية الواقع ، لعدم المنافاة بينهما.

ولأجل ذلك أخذ المحقق العراقي (3) والمحقق الأصفهاني (4) في محل البحث كون الواقع فعليا مفروغا عنه.

وإذا عرفت ذلك فيقع البحث في مقامين :

ص: 69


1- راجع 4 / 120 من هذا الكتاب.
2- راجع 5 / 49 من هذا الكتاب.
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 298 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 31 - الطبعة الأولى.

المقام الأول : في منجزية العلم الإجمالي بلحاظ المخالفة القطعية ، بمعنى أنه هل يقتضي حرمة المخالفة القطعية أو لا؟.

وكلمات الاعلام لا تخلو من إطالة ، ولكنها إطالة خارجة عن محور البحث الأساسي ولعله لأجل عدم اقتضاء محور البحث لكثير من التطويل ، فالتجئوا إلى إضافة ما لا مساس له في المقام.

والتحقيق : انه مع عدم ورود ترخيص من المولى في ارتكاب جميع الأطراف ، لا إشكال في كون العلم منجزا ، فيحكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة القطعية لأجل العلم الإجمالي ، وليس الحال فيه كالحال في الجهل البدوي الّذي يحكم العقل فيه بعدم استحقاق العقاب ، وإن نسب ذلك إلى بعض. لكنه خلاف البديهية والوجدان.

إنما الإشكال في منجزية العلم مع ورود الترخيص من المولى في المخالفة ، فان ثبت حكم العقل باستحقاق العقاب عند العلم الإجمالي ولو مع ترخيص المولى ، كان ترخيص المولى ممتنعا عقلا لمنافاته لحكم العقل بالقبح. وان لم يثبت حكمه بالمنجزية بقول مطلق حتى مع الترخيص ، لم يكن مانع من ترخيص المولى لعدم منافاته لحكم عقلي قطعي.

ومرجع ذلك إلى الإشكال في ان حكم العقل بمنجزية العلم تنجيزي ، فيتنافى مع ترخيص الشارع ويمنع من تحققه ، لأنه ترخيص في ما يحكم العقل بقبحه. أو انه تعليقي معلق على عدم ورود ترخيص الشارع ، فلا يتنافى مع الترخيص.

فالمهم تحقيق هذه الجهة. وقد ذهب المحقق العراقي إلى أنه تنجيزي ، مستدلا عليه بالارتكاز وتحكيم الوجدان (1). ولكنه قابل للتشكيك عندنا ولم يثبت

ص: 70


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 306 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لدينا بنحو جزمي ، لعدم وجود شاهد عقلائي خارجا كي نميز به صحة ذلك من سقمه ، فمن جزم به فهو في راحة وإلا فلا برهان عليه.

وقد يمنع الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وتثبت منجزية العلم الإجمالي بطريق آخر غير هذا الطريق الراجع إلى منافاة الترخيص ، لحكم العقل بالمنجزية وقبح المخالفة.

وذلك بأن يقال : انه إذا فرض كون الحكم الواقعي فعليا تام الفعلية ، كان الحكم الظاهري منافيا له ، فعدم جريان الأصل ليس لأجل مناقضته مع مقتضى العلم ، بل لأجل مناقضته مع نفس التكليف الواقعي المعلوم في مقام الداعوية الفعلية ، لأن الحكم الواقعي الفعلي يدعو فعلا بنحو الإلزام إلى إتيان متعلقه ، والحكم الترخيصي يطلق العنان للمكلف ، فيتحقق التنافي في مقام الداعوية.

وبالجملة : انما لم يلتزم بالتنافي بين الحكم الظاهري والواقعي بلحاظ عدم الداعوية الفعلية للحكم الواقعي مع الجهل والتضاد بين الأحكام انما هو في هذه المرحلة ، وهذا غير ثابت فيما نحن فيه ، لأن الحكم الفعلي مع العلم به إجمالا يكون ذا داعوية فعلية ، فيضاد الحكم الظاهري على خلافه.

وهذا الطريق غير موصل. وذلك : لأنه قد تقدم - في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري - بيان عدم التنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي الفعلي - لو أمكن تحققه - في مقام الداعوية والامتثال.

ومحصل الوجه في ذلك ، هو أن الداعوية الفعلية الإلزامية للتكليف إنما تنشأ بلحاظ ما يترتب على مخالفته من أثر سيّئ وهو العقاب ، فمع الترخيص والتأمين من العقاب بمقتضى الحكم الظاهري ، فلا تتحقق الداعوية الفعلية للحكم الواقعي ، وإن كان يبقى فعليا بمعنى أنه يمكن ان يكون داعيا - كما بيّناه سابقا -. إذن فلا تنافي بين الحكمين بعد ورود الترخيص من الشارع ، فهذا

ص: 71

الوجه لا يصلح وجها مستقلا قبال الوجه السابق ، بل انما يتم بناء على عدم إمكان الترخيص لتتحقق الداعوية الفعلية. فلا بد من نقل الكلام إلى إمكان الترخيص من الجهة السابقة وامتناعه.

ويتحصل : انه لا دليل لدينا على منجزية العلم الإجمالي بنحو يتنافى مع جعل الأصول في أطرافه ، فيكون محذورا ثبوتيا في إجراء الأصول.

هذا كله على المسلك المشهور الّذي يذهب إلى ثبوت حكم العقل بالعقاب والمنجزية في باب العلم التفصيليّ ، وبتبعه العلم الإجمالي على الخلاف السابق.

أما بناء على ما تقدم منّا في مباحث القطع والبراءة من : انه لا مسرح للعقل في باب العقاب والثواب الأخرويين ، لارتباطه بعالم لا يدرك العقل ملاكاته وخصائصه ، كما تقدم توضيحه ، فدعوى ثبوت حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي واضح الفساد ، بل العقاب لا بد وان يلاحظ فيه جعل الشارع نفسه ، لأنه بيده يجعله كيف يشاء.

وحينئذ نقول : إن ظاهر بعض الآيات الكريمة ترتيب العقاب على نفس مخالفة التكليف ، لكنه يمكن دعوى اختصاص العقاب شرعا بمورد قيام البيان العرفي على التكليف الّذي خالفه لا مطلق التكليف ، إما لدعوى انصراف تلك الآيات المطلقة إلى صورة قيام الحجة والبيان ، أو بملاحظة ما ورد من الآيات الظاهرة في عدم العقاب مع عدم البيان وثبوته معه ، كقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1). وبما ان العلم الإجمالي بيان عرفا للتكليف بحيث يصح للمولى الاعتماد عليه ، كان مقتضى تلك الآيات ثبوت العقاب في مورده ، ومعه لا يصح الترخيص ونفي العقاب من الشارع بمقتضى أدلة الأصول

ص: 72


1- سورة الإسراء : الآية 15.

في المخالفة في مورده ، لأنه مناف لحكمه بثبوت العقاب فيه بمقتضى الآية.

فالالتزام بمنجزية العلم الإجمالي من باب استلزام الترخيص مناقضة الشارع لنفسه.

وتوهم : ان أدلة الأصول مخصصة لحكم الشارع بثبوت العقاب مع البيان بصورة وجود العلم التفصيليّ ، وحكم الشارع يقبل التخصيص.

فاسد : لأن نسبة أدلة الأصول إلى مثل قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) نسبة العموم من وجه لا نسبة الخاصّ إلى العام ، لشمول دليل الأصل موارد عدم العلم بالمرة ، وشمول الآية موارد العلم التفصيليّ ، فلا بد من تقديم الآية ، لأن الرواية لا تنهض لمعارضة الآية ، لاندراجها فيما خالف الكتاب ، فلا بد من طرحها. فلاحظ.

فالخلاصة : انه لم تثبت منجزية العلم الإجمالي بحكم العقل ، لا على المسلك المشهور ولا على مسلكنا ، وانما المنجزية ثابتة بلحاظ حكم الشارع نفسه. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما المقام الثاني : فالبحث فيه في استلزام العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بعد الفراغ عن استلزامه لحرمة المخالفة القطعية بنحو العلية التامة.

ومحور البحث هو : أنه هل يصح للمولى الترخيص في بعض الأطراف أو انه لا يصح له ذلك؟.

فعلى الثاني يكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية.

وعلى الأول : يكون مؤثرا في وجوب الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء الّذي لا ينافيه وجود المانع ، وهو الترخيص في أحد الأطراف.

وقد نسب البعض إلى الشيخ أنه يرى تأثير العلم الإجمالي في الموافقة

ص: 73

القطعية بنحو الاقتضاء (1). ونسب إليه بعض آخر القول بالعلية التامة (2). واستشهد كل منهم على نسبته ببعض كلمات الشيخ (3). وشاهد كل منهما ظاهر في ما ينسبه إليه ، ولأجل ذلك يمكن نسبة التهافت إلى الشيخ في كلامه في المقام والأمر سهل. وكيف كان فقد اختلف الاعلام في ذلك فمنهم من ذهب إلى القول بالعلية التامة ، كالمحقق العراقي (4) والمحقق الأصفهاني (5) ، ومنهم من ذهب إلى القول بالاقتضاء كالمحقق النائيني (6) وتبعه غيره (7).

ولا بد قبل الخوض في تحقيق المطلب من التنبيه على أمرين :

الأمر الأول : في ثمرة القولين العملية ، وهي تظهر في موردين :

أحدهما : ما إذا كانت في أحد الطرفين أصول متعددة طولية ، كاستصحاب عدم الحرمة والبراءة ، وكان في الطرف الآخر أصل واحد كالبراءة.

وقلنا : بعدم معارضة مجموع الأصول الطولية في أحد الطرفين للأصل في الطرف الآخر ، بل المعارضة بين الأصل السابق رتبة وبين الأصل الواحد في الطرف الآخر ، فانه إذا تعارض الاستصحاب في أحد الطرفين والبراءة في الطرف الآخر تساقطا ، فيبقى أصل البراءة في الطرف الّذي كان فيه الاستصحاب بلا معارض ، فان قلنا بإمكان الترخيص في أحد الأطراف في مورد العلم الإجمالي

ص: 74


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 36 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 310 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 35 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 307 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
5- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 32 - الطبعة الأولى.
6- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 247 - الطبعة الأولى.
7- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 218 - الطبعة الأولى.

وان سقوط الأصول جميعا في الأطراف لأجل المعارضة ، أمكن إجراء أصالة البراءة في ذلك الطرف لعدم وجود ما يعارضه. وان قلنا بالعلية التامة وعدم إمكان الترخيص في بعض الأطراف ، لم يمكن إجراء أصالة البراءة في ذلك الطرف ولو لم يكن له معارض ، لعدم كون سقوط الأصول بالمعارضة ، بل لأجل العلم الإجمالي.

والآخر : أنه بناء على ان العلم الإجمالي لا يمنع من الترخيص في بعض الأطراف ، والمفروض شمول أدلة الأصول لكلا الطرفين ، فيتحقق التعارض ، وحينئذ يقع البحث في ان القاعدة في تعارض الأصول هل تقتضي تساقطهما أو التخيير بينهما؟.

وهذا مما لا مجال له بناء على القول بالعلية التامة ، وامتناع الترخيص في بعض الأطراف. كما لا يخفى.

الأمر الثاني : ان الالتزام بالعلية التامة يصاحبه الالتزام بأمرين لا يرى فيه منافاة للعلية التامة :

أحدهما : الالتزام بالانحلال في مورد العلم التفصيليّ بالحكم في أحد الطرفين ، أو قيام إمارة أو أصل شرعي على التكليف في أحدهما ، أو قيام أصل عقلي موجب لانشغال الذّمّة بأحد الطرفين ، وكونه في العهدة كقاعدة الاشتغال.

والآخر : الالتزام بجعل البدل في مقام الامتثال ، بمعنى أنه يصح ان يكتفى الشارع في مقام الخروج عن العهدة بأحد الطرفين بجعله بدلا عن الواقع.

فانه سيظهر فيما بعد : ان الالتزام بالانحلال في موارده وجعل البدل ليس فيه منافاة للالتزام بمنجزية العلم الإجمالي ، لوجوب الموافقة القطعية وكونه علة تامة بالنسبة إليها ، إذ الانحلال يرجع إلى رفع أثر العلم الإجمالي بالمرة حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية.

وجعل البدل فرع الالتزام بتنجز الواقع ، ولذا يثبت في موارد العلم

ص: 75

التفصيليّ بالتكليف الّذي لا شبهة في كونه علة تامة للموافقة القطعية ، كموارد جعل قاعدة الفراغ.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما جاء في الدراسات في مقام إثبات ان العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعية لا علة تامة.

فانه ذكر : أن المحقق صاحب الكفاية وبعض الأساطين من تلامذته ذهبا إلى استحالة الترخيص الظاهري في بعض الأطراف. وما ذكر في وجه الاستحالة أمران :

أحدهما : ما جاء في الكفاية من ان الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال إذا كان فعليا تام الفعلية ، فكما يمتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه في كلا الطرفين لأنه يستلزم القطع بالمتضادين ، كذلك يمتنع جعل الحكم الظاهري في أحدهما ، لأن احتمال المتضادين محال كالقطع بهما.

وقد ذكر في مقام توضيح ذلك ما تقدم نقله عن الكفاية من : ان الحكم الواقعي إذا كان قاصر الفعلية ولو لأجل الجهل به ، أمكن جعل الحكم الظاهري على خلافه في جميع الأطراف فضلا عن بعضها.

والآخر : ما ذكره بعض الأساطين من ان الحكم الواقعي بعد تعلق العلم به ووصوله إلى المكلف وتنجزه عليه ، كما يمتنع جعل الترخيص على خلافه قطعا ، كذلك يمتنع جعل الترخيص على خلافه احتمالا.

وقد تصدى للإيراد على صاحب الكفاية بما يرجع إلى إنكار قصور فعلية الواقع مع حصول موضوعه ، وتوقف فعليته على العلم التفصيليّ ، لكونه موضوعا له ، خلف الفرض.

وبالجملة : ركّز مناقشته الطويلة على إنكار فرض عدم كون الواقع فعليا تام الفعلية وتعليق فعليته على عدم الجهل به.

كما تصدى لمناقشة الوجه الثاني ..

ص: 76

بالنقض بموارد قيام الأصل الشرعي المثبت في بعض الأطراف ، أو موارد قيام قاعدة الاشتغال في بعضها. وبموارد الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في مورد العلم التفصيليّ ، كمورد قاعدة الفراغ والتجاوز.

وبالحلّ بان موضوع الأصول هو الشك والتكليف في كل طرف مشكوك ، لأن احتمال انطباق ذات المعلوم بالإجمال على كل طرف عين الشك فيه ، واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال بوصف المعلومية محال ، إذ لا معنى لاحتمال العلم في مورد ، لأنه صفة وجدانية لا تقبل الشك. فراجع كلامه الّذي لخصناه جدّاً (1).

وأنت خبير : بأنه لا مجال للنقض بالموارد المذكورة ، لأنها ما بين موارد الانحلال وموارد جعل البدل ، وقد عرفت في الأمر الثاني ان محل البحث في غيرها ، وقد تنبّه لذلك المحقق العراقي (2) ، فتعرض لدفع النقض بموارد الانحلال وموارد جعل البدل بما تقدم منّا في الأمر الثاني.

وأما الإشكال الحلّي الّذي ذكره على الوجه الثاني ..

فيندفع : بان المانع من جريان الأصل هو احتمال انطباق ذات المعلوم بالإجمال ، ولكن يوصف تنجزه الثابت بالعلم الإجمالي على جميع المباني في حقيقة العلم الإجمالي ومتعلقه ، من تعلقه بالجامع أو بالفرد المردد أو بالجامع بما هو مشير إلى الخارج ، والترخيص في محتمل المخالفة المنجزة قبيح. فما أفاده لا يخلو عن غفلة أو إغفال للنكتة التي يلحظها القائل ، فلا بد من البحث معه في مرامه لا في شيء آخر لا يريده ولا نظر له إليه.

وأما إيراده على صاحب الكفاية ، فهو أجنبي بالمرة عن محل البحث ، وهو أن الترخيص في أحد الطرفين مع العلم بالتكليف الفعلي يستلزم احتمال الضدين ، وهو محال كالقطع بهما كما لا يخفى جدّاً.

ص: 77


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 222 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 311 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبالجملة : فما جاء في الدراسات في تحقيق هذه المسألة المهمة لا يجدي ولا يغني ولا يسمن من جوع كما عرفت.

وبعد ذلك نوقع البحث في تحقيق أصل المطلب ، فنقول وعلى اللّه الاتكال ومنه نستمد القوة والعون : ان العلم الإجمالي يصلح لأن يكون بيانا - في نظر العرف والعقلاء - للتكليف المعلوم بالإجمال ، بحيث يكون في عهدة المكلف وثابتا عليه في أي طرف كان ، ومعه لا يمكن ان تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في أحد الطرفين. إذ المخالفة الناشئة عن ارتكاب أحد الطرفين ليست مخالفة بدون بيان ، فموضوع البراءة العقلية غير متحقق في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ، لقيام البيان على التكليف الواقعي على تقدير ثبوته فيه واقعا.

وأما البراءة الشرعية ، فمن يرى ان روايات البراءة لا تتكفل أكثر من مفاد البراءة العقلية ، فالحال فيها كالحال في العقلية.

ومن يرى أنها تتكفل حكما ظاهريا هو الإباحة في ظرف الشك ، ويستتبع ذلك التأمين من العقاب ، لأن الترخيص والحلية تتنافى مع العقاب واقعا ، فيكون عدم العقاب من باب بيان العدم لا عدم البيان.

فهل نستطيع أن نقول بإمكان جريان البراءة في أحد الأطراف أو لا؟. الحق أنه لا مانع عقلا من الترخيص في بعض الأطراف وتأمين الشارع من العقاب على تقدير كون الواقع فيه ، فللمولى أن يقول لعبده : إنني أقتنع منك بترك بعض الأطراف وأبيح لك الأطراف الأخرى. وفي مثله لا يحكم العقل بثبوت العقاب على الطرف المرخص فيه على تقدير المصادفة للواقع.

وبالجملة : لا نرى مانعا عقليا في مقام الثبوت من الترخيص في بعض الأطراف والتأمين من العقاب عليه ، ومن هذا الباب جعل البدل ، فانّه وان اصطلح عليه بهذا العنوان ، لكنه في واقعه يرجع إلى الترخيص في بعض

ص: 78

الأطراف.

لكن الإشكال في مقام الإثبات ، فان أدلة الأصول قاصرة إثباتا عن التأمين عن العقاب المحتمل في كل طرف المسبّب عن العلم الإجمالي بالتكليف.

بيان ذلك : ان كل طرف فيه جهتان : إحداهما : انه مشكوك الحرمة واقعا. والأخرى : انه أحد طرفي العلم الإجمالي المنجز للتكليف الواقعي فيه لو كان ، والمصحح للعقوبة عليه لو فرض انه حرام واقعا.

ومن الواضح ان أدلة الأصول إنما تتكفل جعل الإباحة والحلية في المشكوك بما أنه مشكوك الحرمة ، أما جهة كونه من أطراف العلم الإجمالي فهي مما لا نظر فيها إليها.

وعليه : فهي بجعل الحلية فعلا إنما تستتبع التأمين من العقاب من جهة انه مشكوك الحرمة لا أكثر ، لأنها هي الجهة الملحوظة في الحلية المجعولة ، وأما التأمين من العقاب من جهة أخرى فلا نظر للدليل إليها.

لا نقول : بان الدليل يتكفل جعل الحلية من جهة الّذي أنكرناه سابقا على المحقق العراقي.

بل الدليل يتكفل جعل الحلية فعلا ، لكن موضوع الحلية هو الشك في الحرمة ، وهذا يستتبع الأمان من العقاب - الّذي هو لازم الحلية والّذي يهمنا فيما نحن فيه دون نفس الترخيص - من جهة دون جهة ، فلا ينفع في رفع منجزية العلم الإجمالي.

وعلى هذا ، فعدم الالتزام بجريان الأصل من باب ان جعل الحلية لا ينفع في التأمين من ناحية العلم الإجمالي ، لأنه غير منظور إليه في موضوع الحلية ، بل ليس الموضوع سوى الشك في الحرمة ، لأن دليل الأصل يعم موارد العلم الإجمالي وغيره ، فلا يمكن ان نقول إن له نظرا إلى العلم الإجمالي. ولا يخفى ان الأمان من جهة الشك في الحرمة بما هو شك لا ينافي عدم الأمان من جهة العلم

ص: 79

الإجمالي وبيانيته.

نعم ، لو ورد دليل على الترخيص في خصوص موارد العلم الإجمالي كان مؤمنا من العقاب من جهته ، فينفع في عدم وجوب الموافقة القطعية. ومن هذا الباب جميع موارد جعل البدل ، فان مرجع جعل البدل إلى ما عرفت من الترخيص في بعض الأطراف بملاحظة العلم الإجمالي المستلزم للتأمين من جهته. فالفرق بين ما دلّ على الترخيص في موارد جعل البدل وبين أدلة الأصول : ان الأول يتكفل الترخيص بملاحظة جهة العلم الإجمالي. وأما أدلة الأصول فهي مما لا نظر لها إلى جهة العلم الإجمالي ، فلا تنفع في التأمين من ناحيته. فتدبر والتفت فانه لا يخلو من دقة ، وهو مما تفردنا به حسب ما نعلم.

وأما ما أفاده العلمان المحققان العراقي (1) والأصفهاني (2) في مقام بيان امتناع الترخيص في بعض الأطراف ، فهو لا يخلو من مناقشة.

هذا كله على المسلك المشهور في باب العقاب وأنه بحكم العقل.

وأما على المسلك الّذي سلكناه في هذا الباب ، وان العقل لا مسرح له في باب العقاب ، وانما هو أمر شرعي بيد الشارع يجعله كيف يشاء ، فقد تقدم ان ظاهر بعض الآيات وان كان ترتب العقاب على نفس المخالفة ، لكن يرفع اليد عنها إما للانصراف أو بملاحظة آيات أخرى ، فتحمل على مورد قيام البيان.

وعليه ، فلا يمكن ان تجري الأصول في أطراف العلم لا كلا ولا بعضا ، بعد ان عرفت كون العلم بيانا للتكليف عرفا في كل طرف ، لمعارضتها لما دل على ثبوت العقاب عند تحقق البيان من الآيات. والتقديم للآيات.

نعم ، لو ورد دليل بالخصوص في مورد البيان يدل على عدم العقاب في ذلك المورد التزم به ، لعدم المانع من تخصيص الآية بالرواية المعتبرة.

ص: 80


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 310 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 34 و 244 - الطبعة الأولى.

ومن هذا القبيل موارد جعل البدل كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان.

هذا كله بناء على الالتزام بان العلم الإجمالي متعلق بالفرد الواقعي المعين في نفسه المردد لدى العالم. وبعبارة أخرى : كونه متعلقا بالجامع مع سرايته إلى الخارج وارتباطه به.

وأما لو التزم بان متعلق العلم الإجمالي هو صرف الجامع بلا سراية له إلى الخارج - كما التزمنا به في بعض الصور ، كالعلم الإجمالي بكذب إحدى الروايتين لأجل امتناع اجتماع الضدين ، كما تقدمت الإشارة إليه - ، فلا وجه للالتزام بوجوب الموافقة القطعية ، وامتناع الترخيص في بعض الأطراف ، في ما كان متعلق العلم مما يقبل التنجيز كما هو محل الكلام ، مثل ما إذا تعلق العلم بحرمة أحد الشيئين ، وذلك لأن العلم إذا كان مقصورا على الجامع غير الساري إلى الخارج بحيث تكون نسبته إلى كل طرف على حد سواء بلا ارتباط له واقعا بطرف دون آخر ، كان موجبا لتنجيز الجامع بمقداره لا أكثر ، فلا يمتنع الترخيص في بعض الأطراف ، إذ لا يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه كي يمنع ذلك من الترخيص. بل كان كل طرف محتمل التكليف بلا قيام منجز عليه بخصوصه ، فيكون كسائر موارد الشبهة البدوية.

نعم ، لا يصح الترخيص في مجموع الأطراف ، لأنه يستلزم الترخيص في نفس الجامع المفروض تنجزه بالعلم.

وبالجملة : العلم على هذا المبنى يوجب تنجيز مقدار الجامع بين الطرفين دون خصوصيتيهما ، فالترخيص في أحد الطرفين لا ينافي تنجيز الجامع بينهما ، كما هو واضح لا يخفى بأقل تأمل.

وأما ما ذهب إليه صاحب الكفاية في مورد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين للتعارض في المدلول ، بحجية أحد النصين بمقدار : « أحدهما » ، لأنه كما يعلم إجمالا بكذب أحدهما يعلم إجمالا بكون أحدهما محتمل الإصابة ، مع اجتماع

ص: 81

شرائط الحجية فيه ، فتثبت حجيته بهذا المقدار ، لأن المعلوم بالإجمال هو عنوان أحدهما بلا زيادة خصوصية توجب ربطه بأحدهما المعين في الواقع ، ورتّب على ذلك انه لا يثبت بذلك سوى أثر الجامع وهو نفي الثالث (1).

فقد أوضحنا تصويره في مبحث التعادل والتراجيح بما لا مزيد عليه (2). ولكن أوردنا عليه إيرادات متعددة. ومن جملتها (3) : ان دليل الحجية يتكفل إثبات الحجية لكل فرد بخصوصه من أفراد الخبر ، ولا يتكفل بيان حجية : « أحدهما » ، لأنه في حد نفسه ليس فردا من أفراد الخبر.

وعلى كل فنوكل الكلام في ذلك إلى محله.

والّذي يتلخص مما بيناه : ان العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، ولا مجال لجريان الأصول في كل طرف من أطرافه بنفسه.

ثم إنه لو بني على أن تأثير العلم الإجمالي في الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء لا العلية التامة ، بحيث لم يكن مانعا من جريان الأصول في بعض أطرافه دون بعض - كما عليه المحقق النائيني رحمه اللّه (4) - ، فهل يقتضي ذلك تساقط الأصول في أطرافه ، أو التخيير بينها ، فيؤخذ بها في بعض الأطراف دون بعض؟. توضيح ذلك : انه قد عرفت شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الإجمالي مع قطع النّظر عن منجزيته ، وبعد فرض امتناع الترخيص في المخالفة القطعية يمتنع إعمال الأصول في جميع الأطراف لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية.

وعليه ، فيقع التعارض بين الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، فهل

ص: 82


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 439 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- في البحث عن الأصل الأولى في التعارض.
3- هو ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله في هذا المقام.
4- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 242 - الطبعة الأولى.

يقتضي التعارض تساقط الأصول في جميع الأطراف فتجب الموافقة القطعية حينئذ ، أو انه يقتضي التخيير بينها ، فلا تجب الموافقة القطعية؟. - وقد أشرنا سابقا إلى أن هذا البحث يبتني على عدم الالتزام بعلية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ، وصحة ترخيص الشارع في أحد الأطراف.

وإلا فلا موضوع للبحث عن التساقط والتخيير ، لعدم صحة إعمال الأصل في بعض الأطراف ، كي يتحقق التعارض ، إذ الأصل في كل طرف لا يجري بنفسه -.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى : أن مقتضى التعارض هو التساقط ، وذلك لأن إعمال الأصل في كلا الطرفين يستلزم الترخيص في المعصية ، وأعماله في أحد الطرفين معيّنا ترجيح بلا مرجح ، وفي أحدهما لا بعينه غير صحيح ، لأن الأصول انما تجري في كل طرف بعينه. فيتحقق التساقط (1).

ولكن الّذي نختاره في هذه الجهة هو : ان مقتضى التعارض هو التخيير لا التساقط. وبيان ذلك : أن التخيير هاهنا يتصور بنحوين :

النحو الأول : ان يكون مجرى الأصل هو أحد الطرفين لا بعينه ، لأن مقتضى المحذور العقلي هو امتناع إجراء الأصل في كلا الطرفين ، اما إجراؤه في أحدهما لا بعينه فلا محذور فيه. فيلتزم به.

وهذا الوجه لا يمكن الالتزام به لا من جهة ان الواحد لا بعينه ، أو على البدل لا ثبوت له ، بل من جهة قصور مقام الإثبات عن إثبات هذا الوجه.

وذلك فانه لو التزمنا بصحة جعل الأصل في أحد الطرفين لا بعينه ثبوتا ، فان دليل الأصل انما يتكفل جعله في كل فرد من افراد موارده بنفسه وبخصوصه لا في كل فرد لا بعينه وعلى البدل ، فهو نظير دليل الحجية يتكفل جعلها لكل

ص: 83


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 241 و 243 - الطبعة الأولى.

فرد من افراد الخبر بنفسه لا في كل فرد لا بعينه. وليس لأحدهما لا بعينه واقع غير واقع سائر افراده المعيّنة بحيث يكون فردا آخر ، كي يكون مما شمله الإطلاق ، بل هو عنوان ينتزع عن ملاحظة الافراد بنحو خاص.

وبالجملة : فدليل جعل الأصول والحجية لا يتكفل بلسانه جعل الأصل والحجية في أحد الطرفين لا بعينه ، فيحتاج ذلك إلى دليل خاص وهو مفقود بحسب الفرض.

ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ رحمه اللّه مما ذكره من : ان أحدهما لا بعينه ليس فردا ثالثا كي يكون مشمولا للدليل ، فهو يقصد بيان قصور الدليل عن ذلك في مقام الإثبات ، ولا ينظر إلى كون المحذور في مقام الثبوت. فالتفت.

النحو الثاني : ان يلتزم بإجراء الأصل في كل طرف مقيدا بترك الآخر ، فيلتزم بإباحة كل طرف عند ترك الآخر واجتنابه. بتقريب : ان المحذور في الالتزام بإجراء الأصلين في كلا الطرفين من جهة إطلاق دليل الأصل في كل طرف الشامل لحالتي ترك الآخر وفعله ، فيلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعية. أما مع رفع اليد عن الإطلاق وتقييده بحالة ترك الآخر ، فلا تشمل إباحة كل طرف صورة ارتكاب الطرف الآخر. فلا محذور فيه. فيتعين الالتزام به تمسكا بدليل الأصل الّذي لا يصح رفع اليد عنه إلا بمقدار المحذور العقلي ، لأن الضرورات تقدّر بقدرها. فان مقتضى دليل الأصل إجراؤه في كل طرف في كلتا الحالتين - أعني : حالة فعل الآخر وتركه - ، ولما لم يمكن الأخذ به في إحدى الحالتين ، وهي حالة فعل الآخر ، لا يرفع اليد عنه الا في تلك الحالة فيبقى دليله في حالة ترك الآخر محكما.

وبالجملة : مقتضى دليل الأصل بضميمة امتناع الترخيص في المعصية القطعية هو إجراؤه في كل طرف مشروطا بترك الطرف الآخر.

وقد أورد على هذا الوجه إيرادات ثلاثة :

ص: 84

الأول : ان مقتضى ذلك هو ثبوت الترخيص الفعلي في كلا الطرفين عند ترك كليهما لتحقق شرط جريان الأصل في كل منهما ، فيلزم الترخيص في ما علم حرمته بالفعل وهو قبيح.

الثاني : ان الحكم الظاهري لا بد وان يكون مما يحتمل مطابقته للواقع ، والإباحة المشروطة لا يحتمل مطابقتها للواقع لأننا إذا كنا نعلم بحرمة أحد الطرفين وبإباحة الآخر واقعا ، فالحرمة المعلومة غير مقيدة بترك المباح ، كما ان الإباحة المعلومة بالإجمال غير مقيدة بترك الحرام ، بل هي مطلقة غير مشروطة.

الثالث : ان الإباحة الظاهرية انما لا تكون منافية للحرمة الواقعية إذا لم تصل الحرمة إلى المكلف ، أما مع وصولها إليه صغرى وكبرى ، فالمنافاة بينهما متحققة. وذلك لأن المنافاة بين الحكمين انما تنشأ من التنافي بين مبدأيهما ، وهو الإرادة والكراهة ونحوهما ، أو من التنافي في مقام الامتثال ، ومع الجهل بالحكم الواقعي الموضوع للحكم الظاهري لا تنافي في شيء من ذلك ، أما من حيث المبدأ ، فلان الحكم الظاهري انما ينشأ عن مصلحة في نفسه لا من خصوصية في متعلقه. واما في مقام الامتثال فلان الحكم الواقعي على تقدير عدم وصوله لا داعوية له ، فلا ينافي الحكم الظاهري. فإذا فرض وصول الحكم الواقعي ولو بالعلم الإجمالي ، كان جعل الحكم على خلافه من الجمع بين المتضادين (1).

وجميع هذه الإيرادات مردودة :

أما الأول : فلأنه إشكال نظير الإشكال الّذي يورد به على الالتزام بالترتب من الجانبين في طلب الضدين المتساويين في الأهمية. فانه يورد هناك : ان لازمه وجوب كلا الضدين فعلا عند ترك كل منهما ، فيلزم طلب الضدين معا بالطلب الفعلي.

ص: 85


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 228 - الطبعة الأولى.

والجواب عنه ما يذكر من ان طلب الضدين في آن واحد لا محذور فيه ، بعد ان كان طلب كل منهما مشروطا بترك الآخر - ومجرد ترك الآخر لا يخرج الطلب عن كونه مشروطا إلى كونه مطلقا (1). وقد مر الكلام في هذا الأمر في مبحث الترتب فراجع (2) - وذلك لأن المحذور في طلب الضدين هو حصول التنافي ، بينهما في مقام الداعوية ، وبالتقييد المزبور يرتفع التنافي ، لأن فرض داعوية أحدهما لا يكون إلا بفرض عدم داعوية الآخر حتى في فرض ترك كليهما وفعلية كلا الطلبين ، كما يوضح في محلّه.

وبمثل هذا الجواب يدفع الإشكال فيما نحن فيه ، فان محذور الترخيص في كلا الطرفين هو الترخيص في المخالفة القطعية ، وهو يرتفع بتقييد الإباحة في كل طرف بترك الطرف الآخر ، وترك كلا الطرفين لا يخرج الإباحة الثابتة عن كونها مشروطة ، فلا تكون الإباحة في كل طرف فعلية التأثير إلا في فرض عدم تأثير الأخرى ، فلا يلزم الترخيص المؤدي إلى المخالفة القطعية.

وأما ما أفاده من ان المحذور ليس في الترخيص في الجمع ، بل في الجمع بين الترخيصين. ففيه : انه لا محذور في الجمع بين الترخيصين إلا من جهة أنه يؤدي إلى الترخيص في الجمع ، وإلا فمجرد الجمع بين الترخيصين ليس بمحذور.

ودعوى انه محذور مصادرة.

وأما الثاني : فلأن ما ذكر من لزوم احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي صحيح في الجملة ، لكن الوجه فيه ليس قيام دليل لفظي عليه كي يتمسك بإطلاقه ، بل انما هو لجهة عقلية ، وهي ان الحكم الظاهري انما يجعل لتنجيز الواقع أو التعذير عنه ، وهذا إنما يثبت مع احتمال المطابقة ، وإلا فلا معنى

ص: 86


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 293 - الطبعة الأولى.
2- راجع : 2 / 411 من هذا الكتاب.

للتنجيز ولا التعذير.

ولا يخفى ان غاية ما تطلبه هذه الجهة هي لزوم احتمال المطابقة في أصل الحكم لا في خصوصياته من إطلاق أو اشتراط ، فان الاختلاف بين الحكم الظاهري والواقعي في الاشتراط والإطلاق لا ينافي هذه الجهة قطعا. ولا دليل آخر على عدم جواز مثل هذا الاختلاف ، بل الدليل على خلافه ، فان الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب مقيد بثبوت اليقين السابق ، مع ان الواقع ثابت بلا تقيد بذلك كما لا يخفى. فانتبه.

وأما الثالث : فلأن مقتضاه عدم صحة الترخيص في بعض الأطراف ، وكون العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية. وهو خلف الفرض وخلاف مبنى القائل نفسه.

وعلى كل حال فيندفع ما ذكره بان : التنافي في مقام الداعوية مرتفع بعد الترخيص والتأمين من العقاب لأن الداعوية الإلزامية تتحقق بلحاظ ما يترتب على المخالفة من أثر سيّئ وهو العقاب. كما بيناه سابقا في أول هذا المبحث. فلا تنافي بين الترخيص في بعض الأطراف والعلم بالحكم في أحدهما. فلاحظ.

ويتلخص لدينا : أن جميع هذه الإيرادات مندفعة ، فلا مانع من الالتزام بالتخيير بالتصوير المزبور ، وهو الإباحة المشروطة بترك الآخر.

ولكن المحقق النائيني أنكر التخيير غاية الإنكار ، وأسهب في بيان ذلك.

وخلاصة ما أفاده ( قده ) ، بعد تصوير التخيير بتقييد جريان الأصل في كل طرف بعدم أعماله في الآخر ، لا بتقييده بترك الطرف الآخر كما صورناه ، وبعد تقريبه ببيان طويل لا يعدو في لبّه ما تقدم منّا في تصويره ، هو : أن القول بالتخيير قول بلا دليل ولا يساعد عليه العقل ولا النقل. وذلك لأن الموارد التي يلتزم فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص على نحوين :

الأوّل : أن يلتزم بالتخيير بلحاظ اقتضاء الدليل الدال على الحكم

ص: 87

للتخيير. كما إذا ورد عام كقوله : « أكرم العلماء » ، ثم ورد ما يدل على عدم إكرام زيد العالم وعمرو العالم ، ولكن شك في ان خروجهما بنحو الإطلاق بحيث لا يجب إكرام كل منهما في كل حال أو ان خروجهما بنحو خاص ، بان كان عدم وجوب إكرام كل منهما مقيدا بإكرام الآخر. فانه يلتزم في مثل ذلك بالتخيير ، لأن العام يكون حجة في مدلوله إلاّ بالمقدار الّذي يقوم الخاصّ عليه. ومع الشك في مدلول الخاصّ يقتصر فيه على القدر المتيقن ، والمتيقن هو خروج كل من الفردين عند إكرام الآخر ، إذ خروجه مطلقا مشكوك ، ونتيجة ذلك هو التخيير في إكرام أحدهما وعدم إكرام الآخر.

فالتخيير هاهنا ناش من ناحية الدليل لا المدلول كما لا يخفى.

الثاني : ان يلتزم بالتخيير بلحاظ اقتضاء نفس المدلول والمنكشف وان كان الدليل يقتضي التعيينية ، كموارد تزاحم الواجبين في مقام الامتثال لعدم القدرة على امتثالهما معا ، فان التخيير هاهنا يلتزم به من جهة ان المجعول يقتضي التخيير وذلك لأنه يعتبر في التكاليف الشرعية القدرة على متعلقاتها وبما أنه يمتنع على المكلف الإتيان بالضدين وكان المكلف قادرا على إتيان كل منهما عند ترك الآخر ، فالعقل يرى لزوم صرف القدرة في أحدهما تخييرا ، إما من جهة تقييد إطلاق كل من الدليلين بصورة ترك الآخر ، وإما من جهة سقوط التكليفين معا واستكشاف العقل حكما تخييرا لوجود الملاك التام في كل منهما على اختلاف المسلكين في باب التزاحم.

وبعد ان ذكر نحوي التخيير ذكر : ان التخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه لا من ناحية الدليل ولا من ناحية المدلول.

أمّا عدم الشاهد من ناحية الدليل فلأن دليل الأصل يتكفل جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أم لا وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد المتعارضين.

ص: 88

وأمّا عدم الشاهد من ناحية المدلول فلأن المجعول في باب الأصول العملية هو الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل وهذا الحكم يتقوم باجتماع قيود ثلاثة الجهل بالواقع وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع وعدم لزوم المخالفة العملية وبانتفاء أحد هذه القيود يمتنع جعل الأصل ، وبما أنه يلزم من إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عملية ، فلا يمكن جعلها جمعا ، وأما جعل أحدهما تخييرا فهو بمكان من الإمكان لكن لا دليل عليه لا من ناحية دليل الأصل ولا من ناحية المجعول به.

هذا ملخص ما أفاده ( قده ) (1). والنقطة التي يبني عليها مختاره هو عدم الدليل على التخيير لا عدم إمكانه ، فانه يعترف بإمكانه كما هو صريح عبارته.

وأنت خبير : ان التخيير بالنحو الثاني الّذي صورناه لا يحتاج إثباته إلى دليل خاص يقوم عليه ، بل مجرد دليل الأصل كاف في إثباته لأنه مطلق شامل لحالتين. فيرفع اليد عن إطلاقه بمقدار المحذور العقلي لأن الضرورات تقدر بقدرها ، فيثبت الأصل في كل طرف في صورة ترك الطرف الآخر لعدم المحذور فيه. فالتخيير فيما نحن فيه من موارد التخيير بلحاظ الدليل والكاشف.

وأما تصويره التخيير بتقييد كل منهما بعدم إعمال الأصل في الآخر فهو باطل في نفسه ، وبيان ذلك في مقام آخر ، فالتخيير الّذي نلتزم به هو ما صوّرناه.

ونتيجة جميع ما ذكرناه هو : عدم المانع من الالتزام بالتخيير عند التعارض ، والدليل في مقام الإثبات يقتضيه ، فما حاوله بعض الأعلام من إثبات وجوب الموافقة القطعية من طريق تعارض الأصول في الأطراف وتساقطها مع التزامه بعدم علية العلم الإجمالي لذلك ، إنما هو محاولة فاشلة ، فتدبّر والتفت.

ص: 89


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 25 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الجهة الرابعة : في الانحلال.

وتوضيح الكلام فيه هو : انه إذا تعلق العلم الإجمالي بحكم إلزاميّ مردد بين طرفين ، ويحصل العلم التفصيليّ بثبوت الإلزام في أحد الطرفين المعين ، أو تقوم الأمارة على ذلك أو الأصل المثبت ..

فتارة : يتعلق العلم التفصيليّ بنفس المعلوم بالإجمال أو تقوم الأمارة عليه ، بان يعلم تفصيلا بان ذلك الحكم المردد هو في هذا الطرف ، أو تقوم الأمارة على ذلك.

وأخرى : لا يتعلق العلم التفصيليّ بهذا النحو. بل يعلم تفصيلا بثبوت الحرمة - مثلا - في هذا الطرف المعين ، بلا بيان انه هو المعلوم بالإجمال ، بل مع احتمال ان تكون هي الحرمة المعلومة بالإجمال.

أما النحو الأول ، فلا كلام فيه من حيث الانحلال حقيقة أو حكما ، وسيجيء الإشارة إلى وجه ذلك مؤخرا.

انما الكلام والإشكال في النحو الثاني ، وهو ما كان المعلوم بالتفصيل أو مؤدى الأمارة ، أو مفاد الأصل الشرعي أو ما قام عليه الأصل المثبت العقلي محتمل الانطباق على ما هو المعلوم بالإجمال.

ولا يخفى ان تحقيق هذه الجهة لم يعطه الاعلام حقه من الاستيفاء ، مع انه ذو أهمية كبيرة في بعض المسائل الأصولية المهمة ، كمسألة حجية الخبر الواحد ، حيث حاول البعض إثبات حجيته بطريق العلم الإجمالي ، وناقشه الآخرون بانحلاله - كما مرت الإشارة إليه -. ومسألة الانسداد المبتني رد دليل الانسداد فيها على دعوى الانحلال ، ومسألة الاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية التي ادعى الأخباريون فيها لزوم الاحتياط للعلم الإجمالي وكان ردّهم من الأصوليين يتمحض في دعوى انحلاله.

وكيف كان فالذي يبدو ان الانحلال لدى الاعلام مفروغ منه.

ص: 90

وقد ذكرت في تقريبه وجوه لا تخلو من مناقشة. وهي :

الوجه الأول : ان العلم الإجمالي ينحل حقيقة وتكوينا بواسطة العلم التفصيليّ ، لأنه إن كان متعلقا بالجامع بين الطرفين مع الشك في كلتا الخصوصيّتين فهو يرتفع بالعلم التفصيليّ بثبوت الحكم في الطرف المعين. وان كان متعلقا بالفرد المردد ، فلا تردد حينئذ للعلم بالخصوصية على نحو التعيين.

وأما الأمارة ، فالعلم الإجمالي ينحل بها حكما وتعبدا ، لأن دليل الاعتبار يقتضي تنزيل الأمارة منزلة العلم ، فيترتب عليها جميع آثاره ومنها الانحلال كما عرفت.

وأما في صورة قيام الأصل المثبت في أحد الطرفين - شرعيا كان أم عقليا - ، فالانحلال يتحقق من جهة جريان الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ، لأن عدم جريانه لأجل المعارضة ، فإذا لم تكن معارضة فلا مانع من جريانه.

وهذا الوجه يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني - وإن لم يذكر صريحا في كلماته المنسوبة إليه - ، كالتزامه بانحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ تكوينا ، وقياس الأمارة عليه بناء ، على ما يذهب إليه من جعل الطريقية ، وتعليله ذلك بان الأمارة طريق تعبدا (1).

وعلى أي حال ، لا يهمنا ذلك ، بل المهم تحقيق هذا الوجه صحة وبطلانا. فنقول : ما ذكره أخيرا في مورد قيام الأصل المثبت يتأتى في جميع الصور. إذ مع قيام العلم التفصيليّ أو الأمارة ، يمكن أيضا إجراء الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ، وسيأتي الحديث عنه إن شاء اللّه تعالى في الوجه الثالث.

وأما ما أفيد في وجه الانحلال الحكمي عند قيام الأمارة ، فهو غريب ،

ص: 91


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 41 و 3 / 17 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لأن الّذي يترتب على الأمارة بدليل التنزيل هو الآثار العملية الجعلية الشرعية أو العقلية - كالمنجزية - ، دون الآثار التكوينية الناتجة عن الأسباب التكوينية الخارجة عن عالم الجعل والتشريع. ومن الواضح ان انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ من آثار العلم التكوينية لا الجعلية ، فلا يثبت تعبدا بدليل التنزيل.

وأما دعوى الانحلال التكويني الحقيقي بالعلم التفصيليّ ، فهي انما تصح بناء على تعلق العلم الإجمالي بالجامع أو الفرد المردد.

أما بناء على ما اخترناه من تعلقه بالفرد الواقعي المعين في نفسه المردد لدى العالم بين الطرفين ، فلا تصح الدعوى المزبورة ، لأن العلم التفصيليّ بنجاسة أحد الإناءين المعين لا يزيل العلم بنجاسة ما وقعت فيه قطرة البول المردد بين الإناءين.

ومن هنا يظهر بطلان دعوى الانحلال الحكمي في الأمارة قياسا على الانحلال الحقيقي في العلم - مع قطع النّظر عن الإشكال السابق فيه - لعدم ترتب الانحلال على العلم.

ثم إن المحقق العراقي قدس سره أورد على ما ذهب إليه هذا القائل من تحقق الانحلال التكويني بالعلم التفصيليّ بالتقريب المتقدم. وبدعوى الوجدان بعدم العلم بأزيد من حرمة أحد الإناءين معينا ، أورد عليه : بان مجرد تعلق الإجمالي بالجامع لا يقتضي انحلاله بقيام العلم التفصيليّ على التكليف في بعض الأطراف ، لأنه كما يحتمل انطباقه على الطرف المعلوم تفصيلا يحتمل بالوجدان انطباقه على الطرف الآخر ، ووجود هذا الاحتمال كاشف قطعي عن بقاء العلم الإجمالي ، لأنه من لوازمه ، إذ لا يمكن بقاء هذا الاحتمال بلا بقاء ملزومه وهو العلم الإجمالي (1).

ص: 92


1- تعليقة فوائد الأصول 4 / 41 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أقول : إيراده قدس سره يبتني على مختاره في متعلق العلم الإجمالي ، وانه الصورة الإجمالية القابلة للانطباق على كل من الطرفين على سبيل البدل.

وبذلك يكون إيرادا مبنائيا ، وهو خلاف الأسلوب الصناعي ، بل كان ينبغي عليه ان يردّد في مقام الإيراد بين المباني.

والأمر سهل بعد ما عرفت حقيقة الحال.

الوجه الثاني : ما هو ظاهر المحقق النائيني رحمه اللّه في كلا تقريري بحثه - وعلى الأخص أجود التقريرات (1) - ( وهو يغاير ما هو المعهود منه سابقا في أذهاننا وهو الوجه السابق ).

ومحصل ما أفاده قدس سره - كما في تقرير الكاظمي رحمه اللّه - : ان العلم الإجمالي ينحل بقيام ما يوجب ثبوت التكليف في بعض الأطراف المعين ، سواء كان علما أم أمارة أم أصلا شرعيا كان أو عقليا ، ولا فرق بين ان يقوم ذلك قبل العلم الإجمالي وبعده. غاية الأمر انه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الإجمالي من رأس. وفي الثاني يوجب انحلاله وعدم تأثيره بقاء. والسر في ذلك : انه بعد احتمال انطباق ما هو المعلوم بالإجمال على ما قام الدليل المثبت للتكليف فيه ، لا يكون العلم الإجمالي علما بتكليف على كل تقدير. وهذا الوجه يتأتى فيما إذا كان العلم التفصيليّ بالتكليف في طرف معين بعد العلم الإجمالي ، لكن كان المعلوم سابقا ، لأن العلم الإجمالي وان كان منجزا حدوثا ، لكنه بقاء ينحلّ ، وذلك لتبدله وانقلابه عما كان عليه أولا ، إذ بعد العلم التفصيليّ بالتكليف في طرف معين من السابق ، واحتمال انه هو المعلوم بالإجمال السابق ، لا يكون العلم الإجمالي علما بتكليف فعلي على كل تقدير من الأول.

ص: 93


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 245 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : فتأخر العلم التفصيليّ لا يجدي بعد كون المعلوم سابقا ، لأن العلم طريقي لا موضوعي.

هذا محصل ما أفاده قدس سره في المقام (1).

ولكنه مما لا يمكن الالتزام به. بيان ذلك : ان مراده من الحكم الفعلي ..

إن كان هو الحكم المنجز ، فهو - مضافا إلى انه خلاف ما يلتزم به من التفكيك بين المقامين ، وان الفعلية تثبت مع الجهل مع كون قوام التنجز بالوصول - خلف ، إذ الفرض ان التنجيز من قبل العلم لا سابق عليه ، فلا معنى لأن يؤخذ في منجزية العلم تعلقه بتكليف منجز.

وإن كان هو الحكم الفعلي بالمعنى الّذي يختاره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، والّذي لا ينافيه وجود الحكم الظاهري. ففيه : ان هذا الحكم لا يرتفع بالجهل ، ولا بقيام الأمارة على خلافه ، فكيف يقال : ان العلم الإجمالي ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير؟.

وإن كان هو الحكم الفعلي الحادث ، كان صحيحا لأن العلم الإجمالي لا يكون متعلقا بتكليف فعلي حادث على كل تقدير.

لكن فيه : انه لا يشترط في منجزية العلم تعلقه بتكليف حادث ، بل يكفى في تنجزه تعلقه بتكليف فعلي ولو كان في مرحلة بقائه.

ولذا لو تعلق علم إجمالي بحدوث حكم أو بقاء آخر ، كان منجزا بلا إشكال.

وقد يوجّه ما أفاده قدس سره : بان مراده ما يذهب إليه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه في الحكم الفعلي من انه البعث الواصل إلى مرحلة الداعوية ، وإمكان الداعوية لا يكون إلا بالوصول ، فالعلم يكون دخيلا في تحقق

ص: 94


1- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 36 - 37 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

داعويته ، فمراده هو العلم بالتكليف الفعلي بنحو يكون دخيلا في فعليته وداعويته على كل تقدير.

وهذا منتف عند تعلق العلم التفصيليّ بالتكليف في أحد الأطراف المعين ، لأن التكليف يصل بالعلم التفصيليّ لا بالعلم الإجمالي (1).

وهذا التوجيه لو سلم ولم نخدش فيه : بان ذلك لا يمنع من منجزية العلم الإجمالي ، إذ لا يشترط في منجزيته ان يكون دخيلا في تحقق فعلية الحكم الّذي تعلق به ، بل غاية ما يعتبر فيه ان يكون متعلقا بحكم فعلي وقد تحقق هاهنا - فهو انما يتم فيما كان قيام ما يوجب ثبوت التكليف في أحد الأطراف سابقا على العلم الإجمالي.

أما إذا كان متأخرا عنه ، فلا يتم هذا التوجيه ، لأن العلم الإجمالي حين حدوثه كان منجزا وموجبا لوصول التكليف في أي طرف كان ، والعلم التفصيليّ المتأخر وان كشف عن ثبوت الحكم بآثاره من السابق ، إلا انه لا يصحح فعلية الحكم إلا حين حدوثه لا من السابق كما لا يخفى. فالعلم الإجمالي يكون منجزا بلا وجه لانحلاله.

ثم ان الّذي يظهر من بعض عباراته قدس سره هو تحقق الانحلال التكويني ، وانقلاب القضية المنفصلة المانعة الخلو إلى قضيتين حمليتين إحداهما معلومة بالتفصيل والأخرى مشكوكة. وهاهنا لا يلتزم بذلك لالتزامه بقاء العلم الإجمالي ، لكنه ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير.

وهذا نوع من التهافت. فالتفت ولاحظ.

الوجه الثالث : ما يستفاد من بعض كلمات المحقق النائيني - أيضا - من : ان وجوب الموافقة القطعية وعدم جريان الأصل في بعض الأطراف ، بما انه

ص: 95


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 30 - الطبعة الأولى.

مستند إلى تعارض الأصول في أطراف العلم ، فعند قيام المثبت للتكليف في طرف معين ، كان الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ، فلا مانع من جريانه (1).

وهذا الوجه مردود ، وذلك : لأن عمدة الغرض من الانحلال وإثباته ، هو إثبات الانحلال بالعلم المتأخر أو الأمارة المتأخرة لرد الأخباريين الذين يدعون العلم الإجمالي ، بانحلاله بالأمارات القائمة على التكاليف بعد الفحص. ونحو ذلك من الآثار المترقبة للانحلال.

وهذا البيان الراجع إلى تحقق الانحلال فيما إذا لم يمكن إجراء الأصل النافي في أحد الأطراف المعين في مرحلة البقاء لمانع ، لجريانه في الطرف الآخر بلا معارض ، لا يمكن الالتزام به ، وإلا لجرى في كل مورد يسقط الأصل النافي في بعض الأطراف بقاء ، كموارد الاضطرار إلى معين بعد العلم ، والخروج عن محل الابتلاء وفقدان أحد الأطراف ، وتطهيرها ونحو ذلك ، وهو مما لا يلتزم به القائل وغيره كما سيجيء أن شاء اللّه ، والبيان الّذي يذكر في إثبات بقاء العلم الإجمالي على صفة المنجزية يتأتى هاهنا. فالتفت.

الوجه الرابع : ما يستفاد من كلمات المحقق الأصفهاني قدس سره في الموارد المختلفة ، وهو : انه مع قيام العلم التفصيليّ على ثبوت تكليف في طرف معين ، لا يكون العلم الإجمالي علما بتكليف فعلي جديد آخر ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل. وهكذا الحال عند قيام الأمارة بناء على جعل الحكم المماثل.

أما بناء على جعل المنجزية فللانحلال بيان آخر ، وهو انه بعد تنجز أحد الأطراف بقيام الأمارة لا يصلح العلم الإجمالي لتنجيز ذلك الطرف ، لأن المنجز لا يتنجز ، فلا يكون منجزا للتكليف على كل تقدير.

ص: 96


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 38 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

هذا في الأمارة السابقة أو المقارنة للعلم.

أما في الأمارة المتأخرة عن العلم ، فالأمر فيها كذلك ، لأن وجودها الواقعي في معرض الوصول يوجب تنجز الواقع بها ، ولو لم تكن بعد واصلة ، ولذا يجب الفحص في الشبهة ، فالظفر بالأمارة ظفر بالمنجز لا أنه قوام تنجيز الأمارة ، فقيام الأمارة يكشف عن وجود المنجز لأحد الأطراف من السابق ، فلا يصلح العلم الإجمالي للتنجيز.

فالعمدة في هذا الوجه هو ما أفاده من أن المتنجز لا يتنجز (1).

وتمكن الخدشة في هذا الوجه كسوابقه : بأن دعوى ان المتنجز لا يتنجز صحيحة ، بمعنى ان المتنجز فعلا بوصف كونه منجزا لا معنى لتنجزه ، لأنه تحصيل الحاصل.

وأما اشتراك المنجز اللاحق مع المنجز السابق في التنجيز بقاء بحيث يكون التنجيز في مرحلة البقاء لهما ، فلا مانع منه ، لأنه ليس من تنجز المنجز بوصف كونه منجزا.

وحينئذ نقول : انه بعد فرض عدم انحلال العلم الإجمالي تكوينا ، وبقائه على ما كان بعد قيام العلم التفصيليّ أو الأمارة ، فلا قصور فيه عن المنجزية.

وعليه ، يكون دخيلا في تنجيز الطرف الّذي قامت عليه الأمارة ، فيكون التنجيز للمجموع ، فهما ينجزان ذلك الطرف في عرض واحد ، ولا مانع منه.

ولذا لم يتخيل أحد عدم منجزية العلمين الإجماليين إذا اشتركا في طرف معا كما لو علم إجمالا بنجاسة الإناء الأبيض أو الأصفر ، وعلم إجمالا بنجاسة الإناء الأصفر أو الأحمر.

مع أن البيان الّذي أفاده من عدم تنجيز المنجز يتأتى هاهنا.

ص: 97


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 200 و 201 - الطبعة الأولى.

وليس ذلك إلا لكون التنجيز لكلا العلمين ، وبمثله يلتزم فيما نحن فيه ، فيكون التنجيز للأمارة والعلم الإجمالي.

وبالجملة : بعد وضوح التنجيز في المثال المزبور لا مجال لما أفاده من ان المتنجز لا يتنجز.

ولا يخفى إنه لا أثر لأسبقية العلم التفصيليّ ، لأن تأثيره في التنجيز بقاء بلحاظ حالة بقائه لا حدوثه ، لأن تنجيز العلم يدور مدار وجوده - ولذلك يشير الشيخ في أول مبحث القطع بقوله : « ما دام موجودا ». فراجع (1) -.

وعليه ، فهو في مرحلة البقاء في عرض العلم الإجمالي الحادث ، وليس العلم الإجمالي في طوله ، لأن وجوده سابقا لا أثر له في التنجيز بقاء. فلاحظ.

وأما ما أفاده قدس سره في صورة تأخر الأمارة. ففيه :

أولا : أنه لا يتأتى بالنسبة إلى العلم التفصيليّ المتأخر ، لعدم تصور تنجيزه من السابق ، لأنه سبب التنجز ، والمفروض حدوثه متأخرا ، فالتنجيز من حين حدوثه لا من السابق ، فيكون العلم الإجمالي أسبق منه في التأثير ، فيمنعه من التنجيز - بناء على ما أفاده من ان المنجز لا يتنجز -.

وثانيا : انه لا يتم في الشبهات الموضوعية لعدم لزوم الفحص فيها ، والأمارة لا تكون حجة فيها بوجودها الواقعي في معرض الوصول ، مع ان حديث الانحلال عام لا يختص بالشبهات الحكمية ، كما يظهر من ملاحظة البحث في مسألة ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي ونحوها.

وثالثا : انه يبتني على المذهب القائل بان الأمارة حجة بوجودها الواقعي إذا كان في معرض الوصول ، ولا يتم بناء على مذهب صاحب الكفاية القائل بان حجية الأمارة تتقوم بالوصول (2).

ص: 98


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /2- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /279- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ورابعا : ان الظفر بالأمارة ليس ظفرا بالمنجز ، بل المنجز ملتفت إليه من السابق وهو الاحتمال ، لأن الاحتمال قبل الفحص يكون منجزا. مع ان مقتضى ذلك كون المنجز في كلا الطرفين لا في أحدهما ، لأن الشبهة في كلا الطرفين قبل الفحص تكون سببا للتنجيز. فبملاحظة هذه الخصوصية - أعني خصوصية الشبهة قبل الفحص - لا يكون المورد من موارد انحلال العلم الإجمالي ، بل العلم الإجمالي لا أثر له من أول الأمر ، لقيام المنجز على كل طرف من أطرافه بخصوصه. فتدبر.

الوجه الخامس : ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره من الانحلال الحكمي بتقريب : ان تنجيز العلم الإجمالي يعتبر فيه ان يكون العلم الإجمالي صالحا للتنجيز بنحو الاستقلال في كل طرف من أطرافه ، ومع قيام المنجز من علم أو أمارة أو أصل على بعض أطرافه يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثرية واستقلاله فيها في ذلك الطرف ، فيسقط عن التنجيز (1).

وهذا الوجه كسوابقه مردود ، فان اعتبار قابليته للتنجيز بنحو الاستقلال في منجزيته مصادرة مما لا دليل عليه ، بل الشاهد على خلافه كما تقدم من مثال اشتراك العلمين الإجماليين في طرف واحد ، فقد عرفت انه لا إشكال في تنجيز كلا العلمين ، مع ان كلا منهما لا يستقل في التأثير في الطرف المشترك بينهما.

وبالجملة : المثال المزبور كما يدفع دعوى المحقق الأصفهاني ان المنجز لا يتنجز ، كذلك يدفع دعوى المحقق العراقي.

والمتحصل : انه لم ينهض وجه من هذه الوجوه لإثبات الانحلال المتسالم عليه ، والمأخوذ بنحو إرسال المسلمات أصولا وفقها ، بحيث يستلزم إنكاره تأسيس فقه جديد.

ص: 99


1- العراقي المحقّق الشيخ ضياء الدين ، مقالات الأصول : 2 / 66 - 67 - الطبعة الأولى.

والوجه الصحيح الّذي نختاره في تقريب الانحلال هو : انك قد عرفت في البحث عن وجوب الموافقة القطعية أنه لا مانع من الترخيص الشرعي في بعض الأطراف بنحو يستلزم التأمين من ناحية العلم الإجمالي بأن كان ناظرا إليه ، وإلى ذلك أرجعنا جعل البدل. وعرفت ان عدم جريان الأصول في بعض الأطراف من جهة قصور مقام الإثبات لعدم تكفلها التأمين من ناحية العلم الإجمالي.

وعليه ، فنقول : إنه إذا تعلق العلم التفصيليّ بتكليف فعلي في أحد الأطراف المعين ، واحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه لا ينحلّ العلم الإجمالي حقيقة لثبوته وجدانا ، إلا أنه يحصل للمكلف شك في ثبوت تكليف فعلي زائد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، ومثل هذا الشك يكون مجرى للبراءة شرعا فينفي التكليف الزائد بها. ومن الواضح انه بجريانها لا يبقى مجال المنجزية العلم في الطرف الآخر ، لأن أساس منجزيته على تعلقه بتكليف فعلي مردد بين الطرفين ، والمفروض ان أصل البراءة ينفي التكليف الزائد على ما في أحد الطرفين ، فيكون ناظرا إلى العلم الإجمالي قهرا وموجبا للتأمين من ناحيته.

وهذا البيان بنفسه يجري فيما إذا قامت الأمارة على التكليف في أحد الأطراف معينا ، أو قام الأصل الشرعي عليه.

فيقال : ان التكليف زائدا على المقدار المنجز في هذا الطرف مشكوك ، والأصل ينفيه.

نعم ، يشكل الأمر في ما إذا كان القائم في أحد الأطراف أصلا عقليا ، كأصالة الاشتغال ، وسيأتي البحث فيها إن شاء اللّه تعالى.

ومما ذكرنا ظهر انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير مع احتمال الانطباق ، لجريان البيان المذكور فيه كما لا يخفى.

ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه بين كون قيام ما يوجب ثبوت التكليف في أحد

ص: 100

الأطراف قبل العلم الإجمالي أو بعده كما هو واضح. فتدبر جيدا.

هذا تمام الكلام في شئون العلم الإجمالي من حقيقته وأثره.

ويقع الكلام بعد ذلك في تنبيهات ترتبط به.

ص: 101

ص: 102

« تنبيهات المسألة »

التنبيه الأول : فيما إذا اضطر إلى بعض أطراف العلم الإجمالي.

وهو على نحوين :

الأول : ما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين.

والثاني : ما إذا كان الاضطرار إلى غير معين.

أما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين ، فله صور :

الصورة الأولى : ما إذا كان الاضطرار حادثا قبل التكليف والعلم به ، كما لو اضطر إلى شرب هذا الإناء الطاهر ، ثم وقعت نجاسة مرددة بينه وبين إناء آخر ، ثم علم إجمالا بها.

ولا إشكال في عدم منجزية مثل هذا العلم ، لعدم تعلقه بتكليف فعلي على كل تقدير ، بل لا علم بحدوث تكليف لاحتمال وقوعها في الإناء المضطر إليه فلا يحرم.

الصورة الثانية : ما إذا حدث الاضطرار بعد التكليف وقبل العلم به ، بان وقعت نجاسة في أحد الإناءين ، ولم يكن يعلم بها ، ثم اضطر إلى شرب الإناء المعين ، ثم علم بعد الاضطرار بالنجاسة المرددة بين الإناءين.

ص: 103

وقد اختار المحقق النائيني قدس سره في بعض دورات أبحاثه الأولى منجزية العلم الإجمالي. بتقريب : انه علم بحدوث تكليف فعلي ، ويشك في سقوطه بالاضطرار ، ومقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الخروج عنه (1).

ولكنه عدل عنه في دورات بحثه الأخيرة ، فذهب إلى عدم تنجيز مثل هذا العلم (2).

وجاء في تقريرات الكاظمي - بيانا لوجه العدول - ان العلم تمام الموضوع في التنجيز ، فقبل تحقق العلم لا يكون التكليف منجزا ، وبعد حصوله لا يكون العلم علما بتكليف فعلي على كل تقدير ، لاحتمال كون المضطر إليه هو النجس الواقعي (3).

والحق هو ما ذهب إليه أخيرا من عدم التنجيز ، ولأجل تقريبه نقول : ان العلم المتأخر المتعلق بالتكليف السابق لا يصلح لتنجيز التكليف السابق بما هو كذلك.

وذلك لأن معنى التنجيز إما وجوب الإطاعة والامتثال عقلا ، أو استحقاق المؤاخذة على المخالفة. وكل منهما لا يتصور بالنسبة إلى ما سبق ، إذ لا مجال لإطاعته أو مخالفته فعلا. فما يجري على بعض الألسنة من أن العلم المتأخر ينجز التكليف في الزمان السابق ليس له وجه معقول.

نعم ، إذا كان التكليف السابق موضوعا للتكليف في الزمان اللاحق كوجوب القضاء أو نحوه ، كان العلم به مؤثرا في تنجيز التكليف اللاحق من باب تعلق العلم به أيضا بعد تعلق العلم بموضوعه.

وبالجملة : العلم إنما يكون منجزا للتكليف المقارن ، ولا يصلح لتنجيز ما

ص: 104


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 265 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 95 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 95 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

سبق.

وعليه ، ففيما نحن فيه ، بما انه عند حدوث العلم لا يعلم بثبوت التكليف لاحتمال تعلق الاضطرار بمتعلقه فلا يكون منجزا.

الصورة الثالثة : ما إذا حدث الاضطرار بعد العلم الإجمالي بالتكليف ، وهذه الصورة هي محل الكلام والنقض والإبرام.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم منجزية العلم الإجمالي بقاء (1). وذهب الشيخ (2) وتبعه المحقق النائيني (3) وغيره (4) إلى بقاء منجزيته بالنسبة إلى الطرف الآخر غير المضطر إليه.

والّذي أفاده في الكفاية وجها لعدم المنجزية : هو ان التكليف محدود شرعا بحصول الاضطرار إلى متعلقه.

وعليه ، فهو فيما بعد الاضطرار لا يعلم بثبوت التكليف ، فينفيه بالأصل.

وبعبارة أخرى : ان العلم الإجمالي ينحل بالعلم بالجامع إلى حد الاضطرار ، وما بعده مشكوك ، والمرجع فيه الأصل.

ولأجل ذلك يختلف الاضطرار عن صورة فقد أحد الأطراف ، لأن الفقدان ليس من حدود التكليف شرعا ، فلا علم بالتكليف الجامع المحدود بالفقدان ، بل التكليف في كلا الطرفين مطلق (5).

وهذا البيان لا نستطيع أن نؤمن به ونلتزمه لوجهين :

الأول : ان التكاليف الشرعية جميعها محددة بالاضطرار. وعليه فلا

ص: 105


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /360- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /254- الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 267 - الطبعة الأولى.
4- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 247 - الطبعة الأولى.
5- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /360- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

خصوصية لأحد الطرفين ، بل كل من الطرفين يكون التكليف فيه على تقديره محدد بالاضطرار ، سواء تحقق الاضطرار خارجا أم لا.

الثاني : ان المحدد بالاضطرار والمرتفع به ليس هو الحكم الكلي الثابت بنحو القضية الحقيقية ، بل هو الحكم الفعلي الثابت لموضوعه الموجود المردد بين الطرفين.

ومن الواضح ان التكليف الفعلي يدور بين ان يكون التكليف المحدود ، وبين ان يكون التكليف المستمر - لتردده بين الطرفين - ، ولا جامع في البين يكون هو المتيقن ، وما زاد عليه يكون مشكوكا ، لتردد الأمر بين فردين متباينين.

وبعبارة أخرى : ليس التردد بين الأقل والأكثر في تكليف واحد ، كي يقال : ان الأقل معلوم والزائد عليه مشكوك. بل التردد بين تكليفين أحدهما قصير الأمد والآخر طويل الأمد ، وهذا لا يستلزم الانحلال لعدم العلم بالجامع. فالتفت.

وقد يقال : إنه إذا علم إما بوجوب الجلوس ساعة في المسجد أو ساعتين في الصحن ، فهو يعلم بوجوب الجلوس ساعة إما في المسجد أو في الصحن ، وما يزيد على الساعة مشكوك ، ومثل هذا العلم الإجمالي الصغير يوجب انحلال العلم الإجمالي الأول.

أو فقل : انه علم بخصوصية زائدة ، فيوجب انحلال العلم الإجمالي المتعلق بالجامع الصرف.

وإذا ثبت هذا المطلب ثبت الانحلال في مورد الاضطرار وغيره من موارد ارتفاع التكليف في الأثناء كالفقدان ، والخروج عن محل الابتلاء ، لجريان هذا البيان فيها جميعها ، فهذا البيان مما يقرّب مذهب الكفاية لكنه لا يختص بصورة الاضطرار.

ولكن هذا القول واضح الدفع ، لأنه كما يعلم إجمالا بوجوب الجلوس في

ص: 106

الساعة الأولى إما في المسجد أو في الصحن ، ويشك في وجوبه في الساعة الثانية ، للشك في وجوب الجلوس في الصحن ، كذلك يعلم إجمالا اما بوجوب الجلوس في الساعة الأولى في المسجد أو بوجوبه في الساعة الثانية في الصحن لأن الواجب ان كان الجلوس في الصحن ساعتين كان الجلوس في الساعة الثانية في الصحن واجبا. فالجلوس في الساعة الثانية طرف العلم الإجمالي أيضا. فيكون منجزا. فالتفت ولاحظ.

وتحقيق الحال في المقام - بعد أن عرفت وجود العلم الإجمالي بثبوت التكليف الدائر أمره بين المحدود في طرف والمستمر في طرف آخر - : انه ..

إن قيل : بأن العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز من حيث الموافقة القطعية ، وعدم جواز الترخيص في بعض أطرافه - كما هو كذلك بالنسبة إلى المخالفة القطعية -.

فلا إشكال في بقاء العلم الإجمالي على المنجزية بعد عروض الاضطرار ، فلا بد من ترتيب أثرها بالنسبة إلى الطرف الآخر.

وذلك لأن العلم إذا حدث على صفة المنجزية للتكليف ، لا يزول عن هذه الصفة حتى يعلم بالموافقة والامتثال ، ولا يعتبر في بقاء منجزيته استمرار تعلقه بالتكليف بقاء ، بل تثبت المنجزية مع عدم العلم بالتكليف بقاء حتى بالنسبة إلى العلم التفصيليّ ، كما لو علم تفصيلا بوجوب عمل ، ثم جاء بعمل يشك في تحقق الامتثال به ، فانه لا يعلم ببقاء التكليف بعد ان جاء بالعمل المشكوك تحقق الامتثال به ، ومع هذا يحكم بمنجزية علمه السابق ولزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم سابقا ، وتطبّق قاعدة الاشتغال في المورد.

نعم ، يعتبر بقاء العلم بالتكليف حدوثا ، فلو تبدل إلى الشك الساري لم تثبت منجزيته.

وبالجملة : إذا حدث العلم بصفة التنجيز لا بد من العلم بامتثاله ، والشك

ص: 107

في بقاء التكليف من جهة الشك في الامتثال لا يخرجه عن صفة التنجيز. وما نحن فيه كذلك : لأن العلم الإجمالي قد تعلق بتكليف مردد بين المحدود في هذا الطرف والمستمر في ذلك الطرف ، وهو حين حصل كان منجزا للتكليف ، ومما يلزم العلم بالخروج عن عهدته ، فمع عروض الاضطرار وإن حصل الشك في بقاء التكليف ، لكنه لا يجدي في رفع أثر العلم بعد ان كان عدم الاجتناب عن الطرف الآخر موجبا للشك في تحقق امتثال التكليف المعلوم بالإجمال المنجز به الّذي يلزم الخروج عن عهدته.

وإن قيل : بان تأثير العلم الإجمالي في الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء وان تنجز الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول في أطراف العلم ، وإلا فلا مانع من الترخيص في بعض أطرافه.

فالأمر فيما نحن فيه مشكل. وتحقيق ذلك : ان أصالة الطهارة الثابتة للأشياء بما هي مشكوكة الطهارة ..

تارة : نلتزم بأنها تتكفل الحكم بالطهارة الظاهرية حدوثا وبقاء وبنحو الاستمرار ، بمعنى : ان يكون هناك حكم واحد ودلالة واحدة وتطبيق واحد بالنسبة إلى مشكوك الطهارة بلحاظ جميع أزمنة الشك ، نظير الحكم بالملكية عند تحقق موضوعها ، فان المحكوم به هو ملكية واحدة مستمرة ولا تعدد فيها.

وأخرى : نلتزم بأنها تتكفل الحكم بالطهارة بعدد الآنات التي يتصور فيها الحكم بالطهارة وترتب الأثر عليها ، بحيث تكون الطهارة في كل آن فردا غير الطهارة في الآن السابق لا إنها استمرار لما سبق. فهناك أحكام متعددة وتطبيقات متعددة ودلالات متعددة.

وباختلاف النّظر في كيفية تطبيق أصالة الطهارة ونحو دلالتها يختلف الحال فيما نحن فيه.

فان التزم بالاحتمال الأول ، أمكن دعوى بقاء منجزية العلم الإجمالي بعد

ص: 108

عروض الاضطرار - على مسلك الاقتضاء - وذلك لأنه في الآن الأول لحصول العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين المرددة بين المحدودة والمستمرة - وإلاّ فالنجاسة لا ترتفع بالاضطرار بلحاظ وجوب الاجتناب - وقبل عروض الاضطرار ، يتحقق التعارض بين الأصلين الجاريين في الطرفين ، فيتساقطان ، وبعد عروض الاضطرار لا يمكن إجراؤه في الطرف الآخر ، لأن المفروض أنه أصل واحد يجري حدوثا ويثبت الطهارة بقاء ، وقد سقط بالمعارضة.

وإن التزم بالثاني ، كان مقتضاه عدم منجزية العلم الإجمالي بعد عروض الاضطرار ، لأن الأصل الجاري في الطرف الآخر بعد الاضطرار لا معارض له ، نعم تتحقق المعارضة قبل عروض الاضطرار لقابلية الطرفين لجريان الأصل فيهما ، إلا ان المفروض تعدد الأصول والتطبيقات في كل طرف بتعدد الآنات ، فتطبيق أصالة الطهارة بعد الاضطرار غير تطبيقها قبله ، والتطبيق الساقط بالمعارضة هو ما يكون قبل الاضطرار أما بعده فلا معارض لجريان الأصل في الطرف الآخر ، لعدم جريانها في ما اضطر إليه.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الإثبات : فالذي نختاره هو الاحتمال الثاني ضرورة ان موضوع الحكم بالطهارة هو الشك ويراد به الشك الفعلي - ، بمعنى الحاصل فعلا - والحكم بالطهارة يكون بلحاظ آن الشك وظرفه ، والحكم يتعدد بتعدد موضوعه. وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشك ، فكل شك في آن يكون موضوعا للحكم بالطهارة.

وبالجملة : ظاهر الدليل فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فلا يثبت الحكم بالطهارة إلا مع فعلية الشك ، فالحكم بالطهارة في ظرف بلحاظ الشك في ذلك الظرف.

ولا مجال لدعوى إمكان الحكم فعلا بالطهارة للذات في الآن المستقبل

ص: 109

بلحاظ الشك الفعلي بالطهارة في الآن المستقبل ، لأنه إذا زال الشك في الآن المستقبل يزول الحكم بالطهارة ، وهو يكشف عن دخالته فيه.

كما لا مجال لدعوى ان موضوع الحكم الفعلي بالطهارة للذات في الآن المستقبل هو الشك الفعلي المستمر ، فإذا زال الشك يكشف عن عدم تحقق موضوعه ، لأنه إذا فرض حصول الشك في آن ولم يكن الشك في الآن الّذي قبله ثبت الحكم بالطهارة ، مما يكشف عن ان الشك الفعلي تمام الموضوع للحكم بالطهارة ، وكما لا يجوز الحكم بالطهارة فعلا بالنسبة إلى الأمر الاستقبالي ، لذلك لا يجوز الحكم بها بالنسبة إلى الأمر السابق كما سيأتي التعرض إليه في تنبيه الملاقاة للنجس فانتظر. وتدبر فانه دقيق.

ثم إن ما ذكرناه في أصالة الطهارة يجري في أصالة الحلّ. وإن كان الأمر في أصالة الطهارة أظهر ، لأن جعل الطهارة فعلا للأمر في الآن المستقبل فيه محذور ثبوتي يضاف إلى عدم مساعدة دليل الإثبات عليه. وهو ان نسبة الطهارة إلى متعلقها نسبة العنوان إلى المعنون فيستحيل جعلها للمعدوم.

بخلاف جعل الحلية فانه يتصور تعلقها بالمعدوم من قبيل الوجوب المعلق المتعلق بأمر استقبالي ، إلا ان مقام الإثبات لا يساعد عليه كما بيّناه.

وعلى هذا فمقتضى ما ذكرناه : هو انه بناء على الالتزام بالاقتضاء لا يكون العلم الإجمالي منجزا بقاء بعد عروض الاضطرار لجريان الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.

وظهر مما ذكرناه ان ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في مقام بيان ما اختاره من بقاء العلم الإجمالي على صفة التنجيز بعد عروض الاضطرار ، من عدم جريان الأصل في الطرف الآخر بعد سقوطه بالمعارضة ، لأن الساقط لا يعود (1).

ص: 110


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 96 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

غير متين ، لأن الأصل الّذي يجري في الطرف الآخر هو الأصل بلحاظ حل ما بعد الاضطرار ، وهو لا معارض له ، وقد عرفت انه أصل بنفسه غير الأصل الجاري في مرحلة الحدوث الساقط بالمعارضة ، فليس إجراء الأصل من عود الساقط كي يقال : إن الساقط لا يعود.

ثم إنه جاء في الدراسات بعد الالتزام بعدم جريان الأصل ، لأن الساقط لا يعود. الإيراد على نفسه بأنه : لا مانع من إجراء الأصل بعد إطلاق الدليل لجميع الحالات ، غاية الأمر ترفع اليد عنه بمقدار المعارضة ، لأن الضرورات تقدر بقدرها ، فإذا ارتفعت المعارضة لسقوط التكليف في أحد الأطراف لم يكن مانع من التمسك بإطلاق الدليل في الطرف الآخر.

وأجاب عنه : ان المحذور العقلي في إجراء الأصلين في كلا الطرفين ، وهو لزوم الترخيص في المعصية ، كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل لكلا الطرفين في زمان واحد ، يقتضي عدم شموله لها في زمانين.

وما نحن فيه كذلك ، للعلم الإجمالي بحرمة أحد الإناءين المرددة بين المحدودة والمستمرة ، فهو يعلم إجمالا إما بحرمة هذا الإناء قبل الاضطرار إليه أو بحرمة ذاك الإناء بعد الاضطرار إلى الطرف الآخر. فلا يمكن إجراء أصالة الحل في كلا الطرفين لاستلزامه الترخيص في المعصية. لأن الحكم بحلية هذا الإناء فعلا لا يجتمع مع الحكم بحلية ذاك الإناء فيما بعد ، بعد العلم الإجمالي بدوران التكليف بينهما (1).

أقول : الوجه في تعارض الأصول المستلزم لتنجيز العلم الإجمالي من حيث الموافقة القطعية ، ليس هو مجرد استلزام جريانها الترخيص في المعصية ، بل بضميمة شيء آخر ، وهو استلزام إجراء الأصل في أحدهما المعين الترجيح بلا

ص: 111


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 236 - الطبعة الأولى.

مرجح ، فيقال : انه إذا جرى الأصل في كلا الطرفين ، كان ذلك ترخيصا في المعصية. وجريانه في هذا الطرف خاصة ترجيح بلا مرجح ، وكذا جريانه في ذاك الطرف خاصة. فيتحقق التعارض والتساقط.

وعليه ، نقول : انه في آن ما قبل الاضطرار قد يدعى ان إجراء الأصل في هذا الطرف لا يجتمع مع إجرائه في الطرف الآخر ، ولو بلحاظ ما بعد الاضطرار ، لاستلزامه الترخيص في المعصية وتعين أحدهما بلا معين. أما بعد عروض الاضطرار فلا مانع من إجراء الأصل في الطرف الآخر. لعدم قابلية الطرف الأول لإجراء الأصل فيه بعد تصرّم وقته ، فلا يلزم الترخيص في المعصية ولا الترجيح بلا مرجح.

وبمثل هذا البيان تصدّى القائل إلى ردّ المحقق النائيني ، حيث ذهب إلى معارضة الأصل في أحد الأطراف مع جميع الأصول الطولية في الطرف الآخر ، فتسقط جميعها ، باعتبار أنّ المحذور هو جعل ما ينافي المعلوم بالإجمال ، بلا خصوصية للمتقدم رتبة من الأصول ، فلا يصح التعبد بالأصول مطلقا.

فقد ردّه القائل بان المحذور في إجراء الأصول هو استلزام إجراء كلا الأصلين الترخيص في المعصية ، وإجراء أحدهما في الطرف المعين يستلزم الترجيح بلا مرجح.

وهذا لا يتأتى بالنسبة إلى مورد تعدد الأصول الطولية في طرف ووحدة الأصل في الطرف الآخر ، لأن الأصل الطولي لا مجال له مع وجود الأصل المتقدم عليه رتبة ، فلا تتحقق المعارضة بينه وبين غيره ، فيتحقق التعارض بدوا بين الأصل السابق في الرتبة في هذا الطرف والأصل المنفرد في ذلك الطرف ، فيتساقطان فيبقى الأصل الطولي بلا معارض ، فيعمل به ولا يكون من الترجيح بلا مرجح.

فهو في ذلك المبحث نبّه على هذه الجهة - أعني : تقوم المعارضة بضميمة

ص: 112

محذور الترجيح بلا مرجح إلى محذور الترخيص في المعصية - ، ولكنه فيما نحن فيه أغفلها تماما (1).

نعم لو التزم بالاحتمال الأول في مدلول دليل أصالة الطهارة تمّ ما ذكره من المعارضة ، لكنه خلاف التحقيق أولا وخلاف مبناه ثانيا ، لظهور التزامه بالمبنى الثاني من كلامه ، لتعبيره بالحكم بالحلية في الزمان الآخر ، الظاهر في ان ظرف الحكم هو الزمان الآخر. فانتبه.

وجملة القول : انه على مسلك الاقتضاء يشكل الأمر في كثير من الفروع كالاضطرار إلى المعين أو الخروج عن محل الابتلاء أو فقدان بعض الأطراف ، أو تطهير بعض الأطراف ، فان الأصل يجري في الطرف ، الآخر - في جميع ذلك - بلا محذور ولا معارض. بل لو علم إجمالا بوجوب إحدى الصلاتين إما الجمعة أو الظهر ، فجاء بالجمعة ، صحَّ له إجراء الأصل بالنسبة إلى الظهر ، لعدم معارضته بالأصل الجاري في الجمعة لإتيانه بها.

فهو قبل الإتيان بإحداهما وان لم يتمكن من إجراء الأصل في كلا الطرفين ، لكنه بعد الإتيان بإحداهما يتمكن من ذلك لما عرفت. مع ان هذا من الفروع المسلم فيها بقاء تنجيز العلم الإجمالي ، كمسألة تطهير بعض الأطراف أو فقدانه.

ويمكن ان يجعل هذا وجها من وجوه الإشكال على الالتزام بالاقتضاء ، وتعين القول بالعلية التامة فرارا عن الوقوع في ذلك.

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى طرف معين.

وأما إذا كان الاضطرار إلى طرف غير معين.

فقد ذهب فيه صاحب الكفاية إلى : عدم تنجيز العلم الإجمالي سواء

ص: 113


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 230 - الطبعة الأولى.

حصل قبل العلم أم بعده ، لأن الاضطرار يستلزم الترخيص في أحد الأطراف تخييرا ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم فعلا ، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على ما يختاره ، فلا يعلم بثبوت التكليف الفعلي على كل تقدير (1).

وخالفه المحقق النائيني تبعا للشيخ (2) رحمه اللّه ، فذهب إلى منجزية العلم الإجمالي ، لعدم تعلق الاضطرار بالحرام ، لأنه لو فرض علمه التفصيليّ بالحرام لم ترتفع حرمته بالاضطرار وبما جاز له ارتكابه.

وعليه ، فللمكلف ارتكاب أحد الأطراف رفعا للاضطرار. وأما الطرف الآخر فيلزمه اجتنابه للعلم الإجمالي الّذي ترفع اليد عن تأثيره بمقدار الضرورة. وهو ما أسماه بالتوسط في التنجيز (3).

وتحقيق الكلام بوجه يتضح به الحق وتزول به بعض الشبهات ، هو انه تارة : يقال بان العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، بحيث ينافيه الترخيص في بعض الأطراف. وأخرى : يقال بأنه بالنسبة إلى الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء فلا يمتنع الترخيص في بعض أطرافه ، وإنما تثبت الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول.

فعلى مسلك العلية التامة : لا إشكال في سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية ، لأن الاضطرار إلى أحد الأمرين يستلزم الترخيص في أحدهما ، وهو ما يختاره المكلف رافعا للاضطرار ، إما ترخيصا شرعيا واقعيا أو ظاهريا أو ترخيصا عقليا. وعلى جميع التقادير - التي سيأتي البحث فيها مفصلا - يسقط العلم عن التنجيز.

أما إذا كان الترخيص شرعيا واقعيا أو ظاهريا ، فلعدم اجتماعه مع

ص: 114


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 360 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /254- الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 242 - الطبعة الأولى.

الحرمة ، لا يكون العلم متعلقا بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، لاحتمال ان تكون الحرمة فيما يختاره ، وهي مرتفعة على الفرض.

وأما إذا كان الترخيص عقليا فلمنافاته حسب الفرض مع منجزية العلم الإجمالي ، إذ المفروض انه بنحو العلة التامة الّذي ينافيه الترخيص في بعض أطرافه فلو ثبت الترخيص عقلا كما فيما نحن فيه ، فلا بد من الالتزام بعدم كونه منجزا إما لقصور الحكم المعلوم أو عدم كونه منجزا بعد وجود المؤمن العقلي. فتدبر.

وأما على مسلك الاقتضاء : فقد تقدم انه لا مانع من الترخيص الظاهري في بعض الأطراف ، فيبقى العلم منجزا بالنسبة إلى الطرف الآخر. نعم لا يصح الترخيص في كلا الطرفين لأنه مستلزم للمخالفة القطعية.

وعليه ، نقول : انك عرفت ان الاضطرار إلى أحد الأمرين يستلزم الترخيص في ارتكاب أحدهما رفعا للاضطرار ، فان كان الترخيص عقليا أو شرعيا ظاهريا لم يمنع من منجزية العلم الإجمالي ، لعدم منافاته له بحال ، إذ هو لا يصادم تأثيره بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، لأن الترخيص في أحدهما لا يتنافى مع حرمة ارتكابهما معا ، كما لا يخفى جدا.

وأما بالنسبة إلى الموافقة القطعية فالمفروض انه ليس علة تامة لها ، ولا يمنع من الترخيص في عدمها ، فلا ينافيه الترخيص في أحدهما لأجل الاضطرار ، فعدم إخلال الاضطرار بمنجزية العلم واضح جدا.

وأما إذا كان الترخيص شرعيا واقعيا ، فبما انه يتنافى مع حرمة ذلك الطرف واقعا ولا يجتمع معها كالحلية الظاهرية ، فالعلم الإجمالي يسقط عن المنجزية ، لاحتمال كون الحرام هو ما يختاره المكلف المفروض ارتفاع حرمته ، فلا يكون العلم متعلقا بحكم فعلي على كل تقدير ، إذ أحد التقديرين لا حكم فيه.

ولأجل اختلاف الحال باختلاف نحو الترخيص الثابت في المقام ، لا بد

ص: 115

من تحقيق الحال في ذلك.

فنقول : إن الدليل المتوهم دلالته على إثبات الحلية شرعا في مورد الاضطرار هو قوله علیه السلام : « ما من شيء حرمه اللّه إلا وأحله في حال الضرورة » (1).

وهذا الكلام يحتمل - ثبوتا - وجهين :

الأول : أن يكون في مقام بيان ان الضرورة لها اقتضاء للحلية وتأثير فيها ، حتى في الموارد التي يكون فيها مفسدة شديدة تقتضي الحرمة ، فيدل على ثبوت الحلية في موارد الاضطرار الأخرى التي ليست متعلقا للحرمة بالأولوية ومفهوم الموافقة.

الثاني : ان يكون في مقام بيان مانعية الاضطرار عن تأثير مقتضى الحرمة ، وان مقتضى الحرمة لا تأثير له في مورد الاضطرار ، فلا يكون متكفلا سوى ارتفاع الحرمة في مورد الاضطرار ، لا جعل الإباحة والحلية كما هو مقتضى الوجه الأول.

ولا يخفى أن الاضطرار فيما نحن فيه لم يتعلق بنفس الحرام ، لأن الحرام هو أحدهما المعين واقعا ، وهو مما لم يتعلق به الاضطرار ، وانما تعلق بالجامع بين الطرفين وهو أحدهما بلا خصوصية أصلا ، الّذي يقبل أن ينطبق على كل منهما.

وعلى هذا فإذا كان مدلول الرواية هو الوجه الأول كان الاضطرار إلى الجامع مشمولا له ، لأنه يتكفل جعل الحلية لكل ما يضطر إليه المكلف ، ولو لم يكن في نفسه حراما ، فتثبت الحلية شرعا للجامع.

فيقع الكلام بعد ذلك في ان الحلية السارية من الجامع إلى الفرد الّذي

ص: 116


1- وسائل الشيعة : 16 / 137 باب 12 من كتاب الإيمان حديث : 18. عن أبي عبد اللّه عليه السلام : ... وقال : ليس شيء مما حرم اللّه الا وقد أحله لمن اضطر إليه. ومثله في 4 / 690 باب 1 من أبواب القيام حديث 6 و 7.

يختاره المكلف ، هل هي حلية واقعية أو ظاهرية؟.

وأما إذا كان مدلول الرواية هو الوجه الثاني ، لم يكن الاضطرار إلى الجامع مشمولا له ، لعدم كونه اضطرارا إلى الحرام كي يتكفل رفع الحرمة عنه ، نعم يذهب العقل إلى جواز دفع الاضطرار بأحدهما والأمان من العقاب لو صادف الحرام واقعا ، للجزم بعدم الفرق بين هذا المورد من الاضطرار وبين سائر الموارد المحرمة في أنفسها والتي يتعلق بها الاضطرار ، لكن لا يثبت فيما نحن فيه أكثر من الترخيص عقلا الّذي لا يتنافى مع ثبوت الحرمة الفعلية واقعا.

ولأجل ذلك لا يختل تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية كما عرفت ، لأنه لا يخرج عن كونه علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير المستلزم لحرمة المخالفة القطعية ، فلا يصح إجراء الأصل في الطرف الآخر ، لأنه وان لم يكن بلا معارض ، لكنه مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الإثبات ، فالمختار في مدلول النص المزبور هو الوجه الثاني ، وهو تكفله لبيان مانعية الاضطرار من تأثير مقتضى الحرمة ، وانه لا حرمة عند الاضطرار بلا تكفل لجعل الحلية في مورده.

وذلك لظهور هذا المعنى من الدليل المزبور ، فان ظاهره ان الحرمة الثابتة للشيء ترتفع عند الضرورة ، وان المكلف في حلّ منها بعد ان كان مقيدا ، والوجه الأول خلاف الظاهر جدا.

ويشهد لما استظهرناه هو : تطبيق هذه الكبرى الكلية في موارد وجوب الإقدام على ما هو الحرام لأجل الضرورة ، وعدم جواز تركه كبعض موارد التقية ، وموارد حفظ النّفس من الهلاك. ومن الواضح انه لا معنى لتطبيق جعل الإباحة في تلك الموارد ، وانما المناسب هو بيان ارتفاع الحرمة الّذي يتلاءم مع الوجوب واقعا.

ص: 117

وعلى هذا ، فلا يثبت في مورد الاضطرار إلى غير المعين سوى الترخيص العقلي ، لعدم الاضطرار إلى ما هو الحرام واقعا كي ترتفع حرمته بواسطة هذا النص.

وقد عرفت ان مقتضى الترخيص العقلي هو الالتزام بالتوسط في التنجيز ، لعدم منافاة الترخيص في بعض الأطراف لمنجزية العلم الإجمالي على مسلك الاقتضاء.

ولذا لم يكن الإشكال في جريان الأصل في أحدهما بنحو التخيير ثبوتيا بل إثباتيا ، فيبقى العلم الإجمالي منجزا بالنسبة إلى الطرف الآخر لأن إجراء الأصل فيه مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية ، وهي محرمة.

ثم إنه لو التزمنا بان دليل رفع الاضطرار يتكفل جعل الحلية شرعا - كما هو مقتضى الوجه الأول - ، كان الاضطرار إلى الجامع مستلزما لثبوت الحلية له شرعا ، وحينئذ تثبت لأحد الطرفين ، وهو ما يختاره المكلف رفعا للاضطرار باعتبار سراية الحكم من الجامع إلى افراده. فان الحلية وان تعلقت بالجامع لأنه مورد الاضطرار دون الفرد الخارجي ، لأنه غير مورد الاضطرار ، لكن تطبيق الجامع على فرد في الخارج يستلزم اتصاف الفرد بالحلية ، لأن الحكم لا يتعلق بالجامع بما هو هو ، بل بلحاظ وجوده وبما هو سار في أفراده ، نظير اتصاف الفرد الخارجي للصلاة بالوجوب مع تعلق الوجوب بالطبيعي لا بالفرد ، لكن الفرد الّذي يتحقق به الامتثال يقع على صفة الوجوب كما لا يخفى.

وعليه ، فيقع الكلام في ان الحلية الثابتة للفرد واقعية أو ظاهرية ..

أما كونها واقعية ، فلأجل ان الحلية الثابتة للجامع حلية واقعية ، والمفروض انها تسري إلى الافراد كما عرفت ، فتكون الحلية الثابتة للفرد واقعية.

ولكن الصحيح كونها ظاهرية ، لأن الحرام الواقعي لم يتعلق به الاضطرار كما هو الفرض وإنما تعلق بالجامع ، فلو فرض العلم التفصيليّ بما هو الحرام لم

ص: 118

ترتفع حرمته ولم يجز له دفع الاضطرار به ، بل يتعين عليه اختيار الفرد الآخر ، فثبوت الحلية لأي من الفردين شاء - مع حرمة أحدهما واقعا - المكلف ناشئ من جهل المكلف بما هو الحرام واقعا ، فالحلية الثابتة يكون الجهل دخيلا في ثبوتها ، وهو معنى الحلية الظاهرية ، إذ الحكم الظاهري ما كان الجهل بالواقع مأخوذا فيه.

وأما ما أفاده المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي - في تحقيق هذه الجهة من ان الاضطرار والجهل دخيلان في ثبوت الحلية ، فلا بدّ من تشخيص الجزء الأخير من العلة التامة لثبوت الحكم ، فهل هو الاضطرار أم الجهل؟ فان كان الجزء الأخير الّذي تترتب عليه الحلية بلا فصل هو الاضطرار كانت الحلية واقعية وان كان الجزء الأخير هو الجهل كانت الحلية ظاهرية (1).

فهو غير صحيح ، لأن مجرد أخذ الجهل بالواقع في موضوع الحكم يقتضي كونه ظاهريا ، سواء كان جزء أخيرا أم لا ، فان ذلك ليس بذي أثر. فما أفاده وان كان ذا صورة علمية ، لكنه لا واقع له.

هذا ، ولكن الحق هو ان الجهل هاهنا لم يؤخذ في موضوع الحكم شرعا وسابقا في الرتبة عليه ، بل هو في مرتبة نفس الحكم ، وذلك لأنك عرفت ان الحرمة الواقعية مع العلم بها تمنع من سراية الحلية من الجامع إلى الفرد الحرام ، بل يتعين رفع الاضطرار بالفرد الآخر ، لعدم إمكان اجتماع الحكمين المتضادين. أما مع الجهل بالحرام ، فلا تكون الحرمة مانعة من تعلق الحلية بالفرد إذا صادف اختيار المكلف له ، وهذا يقتضي ان يكون أثر الجهل هو نفس أثر عدم الحرمة واقعا ، لأنه يرفع مانعية الحرمة من ثبوت الحلية. ومن الواضح انّ مانعية الحرمة وتأثير عدم الحرمة انما هي في رتبة نفس الحكم بالحلية وليس في رتبة موضوعه ، فيكون في رتبة

ص: 119


1- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 106 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

نفس الحكم ويلحظ مقارنا له ، نظير عدم الضد المأخوذ في رتبة نفس الضد الآخر ، كعدم الحرمة المأخوذ في ثبوت الحكم بالوجوب.

ولكن هذا المعنى لا يمنع من كون الحكم ظاهريا ، بل يكون نظير الحكم الظاهري في باب الأمارات ، لأن الجهل لم يؤخذ في موضوعه ، بل أخذ بنحو الموردية كما هو مذكور في محله فراجع (1).

ثم ان الثمرة المتوخاة من تحرير هذه الجهة هو ما أشرنا إليه في صدر البحث من : انه لو كانت الحلية الثابتة واقعية كانت مستلزمة للإخلال في منجزية العلم الإجمالي ، لاحتمال مصادفة ما اختاره الحرام الواقعي فترتفع حرمته الواقعية لعدم اجتماعها مع الحلية الواقعية لمكان التضاد.

وحينئذ فلا يكون لديه علم بتكليف فعلي على كل تقدير ، فلا يكون منجزا.

أما إذا كانت الحلية ظاهرية فهي تجتمع مع الحرمة الواقعية ولا تنافي مع فعليتها - على مسلك الاقتضاء - ، فلا تستلزم انحلال العلم الإجمالي ، بل يكون منجزا بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، نظير الترخيص الظاهري في أحد الطرفين بدليل الأصل ، بناء على القول بالتخيير.

وبالجملة : مع كون الترخيص ظاهريا يكون حاله حال إجراء الأصل في أحد الطرفين غير مصادم للعلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، لعدم منافاة الحكم الظاهري لفعلية الواقع على القول بالاقتضاء ، ولذا لم يمنع من صحة الترخيص في أحد الأطراف.

هذا ولكن التحقيق : ان الحلية الثابتة فيما نحن فيه وان كان الجهل دخيلا في ثبوتها - موضوعا أو موردا - ، لكنها ليست على حدّ الحلية الظاهرية - في

ص: 120


1- راجع مبحث تعارض الأمارات مع الأصول في أواخر الاستصحاب.

الاصطلاح - غير المنافية مع الواقع ، بل هي تصادم الواقع أيضا فتستلزم عدم منجزية العلم الإجمالي.

وذلك أما على المسلك القائل بمنافاة الترخيص الظاهري الثابت بأصالة الحل لفعلية الواقع ، واستلزامه قصور فعلية الواقع - كما هو مسلك الكفاية وتقدم تقريره وتقريبه - ، فالأمر فيما نحن فيه واضح.

وأما على مسلك المحقق النائيني من عدم منافاة الحكم الظاهري لفعلية الواقع ، فلأن الترخيص الظاهري الّذي لا ينافي الواقع وفعليته هو الترخيص الثابت بعنوان التعذير عن الواقع ، ورفع الحيرة من جهته ، والترخيص الثابت فيما نحن فيه ليس كذلك.

والوجه الّذي يذكر في تصحيح الجمع بين الترخيص الظاهري وفعلية الواقع لا يتأتى في مثل الترخيص الثابت فيما نحن فيه ، فراجع تعرف.

والّذي يتلخص انه على مسلك الاقتضاء نلتزم بالتوسط في التنجيز بالبيان المتقدم المرتكز على ما قربناه من عدم ثبوت أكثر من الترخيص العقلي.

وأما لو التزم بثبوت الحلية الشرعية - واقعية كانت أو ظاهرية - ، فلا بد من الالتزام بعدم منجزية العلم الإجمالي ، لعدم كونه علما بحكم فعلي على كل تقدير. فتدبر جيدا.

ويحسن بنا ان نتعرض بعد هذا إلى بعض ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه في المقام ، والمهم منه نقاط ثلاث :

الأولى : ما أفاده في مقام تقريب التوسط في التنجيز من : ان الاضطرار يقتضي رفع التكليف عما يرفع به الاضطرار. وأما الطرف الآخر ، فهو باق على حكمه ولا موجب للترخيص فيه ، فلا بد من الاجتناب عنه لعدم المؤمن عقلا ولا شرعا (1).

ص: 121


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 101 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وهذا البيان لا يخلو عن قصور ، فان اللازم بيان الوجه في عدم جريان البراءة في الطرف الآخر مع عموم دليلها وعدم المعارض ، وهي صالحة للتأمين لو جرت. فلا بد ان يضيف إلى ما ذكره ان إجراء البراءة في الطرف الآخر يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم. فتدبر جيدا.

الثانية : ما أفاده في مقام رد صاحب الكفاية في التزامه بان الترخيص في بعض الأطراف تخييرا ينافي فعلية الحكم ، فيستلزم عدم منجزية العلم الإجمالي ، لعدم تعلقه بالتكليف الفعلي على كل تقدير. فقد ذكر في ردّه بأن فعلية الحكم تدور مدار وجود موضوعه ، وموضوع التكليف في مورد الاضطرار إلى غير المعين موجود على كل حال ، لعدم وقوع الاضطرار على موضوع التكليف للتمكن من رفعه بغيره. إذن فالاضطرار إلى غير المعين لا يستلزم انتفاء موضوع التكليف بما له من القيود الوجودية والعدمية ، فيكون الحكم فعليا ، فلا يكون الترخيص منافيا لفعلية الواقع بهذا المعنى.

نعم الفعلية بمعنى آخر - كما هو مبناه - ينافيها الترخيص ، وهي كون المولى بصدد تحصيل مراده بأي وجه اتفق ولو برفع الجهل تكوينا أو إيجاب الاحتياط تشريعا ، فان الترخيص يتنافى مع هذا المعنى من الفعلية كما لا يخفى.

لكن دعوى كون الحكم الفعلي عبارة عن وصول الحكم إلى هذه المرتبة ضعيفة ، لعدم كون رفع الجهل من وظيفة الشارع ، بل وظيفته هو إنشاء الحكم على الموضوع المقدر الوجود ، فيكون الحكم فعليا بفعلية موضوعه خارجا (1).

أقول : قد تقدم في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بيان ان مراد صاحب الكفاية من الحكم الفعلي هو المعنى الأول ، وهو وصول الحكم إلى مرحلة البعث والزجر لا المعنى الثاني ، ولكنه يلتزم هناك ان الترخيص الظاهري

ص: 122


1- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 100 - 101 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

يتنافى مع فعلية الواقع ويستلزم قصورها (1).

فما أفاده هنا ليس أمرا جديدا ، بل هو يبتني على ما نقحه هناك ، وقد تقدم منّا تقريبه واختياره. فلا إيراد عليه على مبناه ، والحكم على كلامه هنا بأنه واضح الفساد ليس على ما ينبغي.

الثالثة : ما أفاده تحت عنوان : « كشف القناع » في مقام بيان ان مقتضى الاضطرار إلى غير المعين هو التوسط في التكليف - بمعنى ثبوت التكليف الواقعي على تقدير وعدم ثبوته على تقدير آخر - ، أو التوسط في التنجيز ، بمعنى بلوغ التكليف إلى مرتبة التنجيز على تقدير دون آخر ، مع ثبوت الحكم الواقعي على كل تقدير. فقد أفاد قدس سره ان الاضطرار إلى المعين يقتضي التوسط في التكليف ، لكون الترخيص واقعيا رافعا للحرمة الواقعية لو صادفها الاضطرار.

أما الاضطرار إلى غير المعين ، فتعيين أحد الوجهين فيه يتوقف على تعيين كون الحلية الثابتة ظاهرية أو واقعية ، فان كانت ظاهرية كان الاضطرار مقتضيا للتوسط في التنجيز ، لعدم منافاة الترخيص الظاهري مع فعلية الواقع. وإن كانت واقعية كان الاضطرار مقتضيا للتوسط في التكليف لمنافاتها للحرمة الواقعية. ثم استقرب ان تكون الحلية واقعية - بعد بنائه ذلك على كون الاضطرار هو الجزء الأخير لعلة الترخيص ، أم الجهل الّذي تقدم الحديث عنه والخدشة فيه -. ورتّب على ذلك اختيار التوسط في التكليف. ثم ذكر المقرّر عدول أستاذه في فذلكة البحث عن ذلك ، واختيار الترخيص الظاهري والتوسط في التنجيز ، وذكر بعد ذلك انه لا ثمرة مهمة تترتب على الوجهين (2).

ص: 123


1- راجع 4 / 144 من هذا الكتاب.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 104 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أقول : التوسط في التكليف لا نتصوره فيما نحن فيه ، لأن لازمه هو عدم منجزية العلم الإجمالي ، لأنه لم يتعلق بالحكم الفعلي على كل تقدير.

ودعوى : ان الاضطرار وان كان سابقا على العلم ، لكن الحلية لا تتعلق بأحد الفردين إلا حين ارتكابه ، لأنه زمان دفع الاضطرار ، فالحلية لا تثبت عند الاضطرار ، بل عند دفعه باختيار أحد الفردين ، فيكون الحال فيه كالاضطرار إلى المعين بعد العلم الإجمالي ، لأن الحلية وارتفاع الحرمة بعد العلم وان كان الاضطرار سابقا عليه ، لما عرفت من ان الاضطرار إلى غير المعين ليس اضطرارا إلى الحرام نفسه. نعم يجوز دفع الاضطرار بأي طرف شاء ، فالحلية تثبت حين دفع الاضطرار لا قبله.

فاسدة : لأن ارتفاع الحرمة وثبوت الحلية في ظرف العمل يقتضي لغوية ثبوت الحرمة من أول الأمر ، لعدم تأثيرها في الزجر عن الفعل أصلا ، ولازم ذلك ارتفاع الحرمة من أول الأمر ، فلا يتعلق العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، فيكون ما نحن فيه نظير الاضطرار إلى المعين قبل حصول العلم الإجمالي. فتدبر جيدا.

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى غير المعين سابقا على العلم.

وأما إذا كان متأخرا عنه ..

فعلى القول بالعلية التامة : ان التزم باقتضاء الاضطرار إلى غير المعين للترخيص العقلي فقط ، يبقى العلم الإجمالي منجزا كما كان بالنسبة إلى الطرف الآخر ، كما تقدم تقريبه في الاضطرار إلى المعين المتأخر عن العلم. وان التزم باقتضائه جعل الحلية شرعا للجامع ، كان اللازم القول بانحلال العلم الإجمالي بقاء ، لأن حلية الجامع بما هو جامع تسري إلى كلا الفردين فيكون كل منهما حلالا واقعا ، لامتناع حلية الجامع بما هو جامع ، والملحوظ فيه جهة السراية إلى الخارج مع حرمة أحد أفراده ، فيزول العلم بالتكليف بالمرة.

ص: 124

وبذلك يختلف حال الاضطرار إلى غير المعين ، وحال الاضطرار إلى المعين إذ لا يتأتى هنا العلم الإجمالي التدريجي.

وعلى القول بالاقتضاء ، فالكلام فيه نفس الكلام فيما إذا كان سابقا على العلم من كونه منجزا لو التزم بثبوت الترخيص العقلي ، وارتفاع منجزيته لو التزم بثبوت الترخيص شرعا. فلاحظ وتأمل جيدا واللّه سبحانه العاصم الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

التنبيه الثاني : فيما إذا كان أحد أطراف العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء عادة. والمهم في هذا الأمر هو تحقيق مانعية الخروج عن محل الابتلاء من فعلية التكليف.

وأما أثر ذلك في منجزية العلم الإجمالي ، فهو واضح لا يحتاج إلى بيان ، فانه إذا ثبت ان الخروج عن محل الابتلاء يمنع من فعلية التكليف ، كان الحال فيه هو ما ذكر في الاضطرار إلى المعين بلا إشكال.

وعليه ، فلا بد من صرف الكلام إلى ما هو المهم فيه ، فنقول : ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى ان الفعل إذا كان خارجا عن محل ابتلاء المكلف عادة ، لم يصح تعلق التحريم به (1) ، فلا يصح الأمر بالاجتناب عن النجس أو الخمر الموجود في أقاصي بلاد الهند أو الصين.

وظاهره تخصيص الشرط بالمحرمات. وقد صرّح بذلك المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي - فذهب إلى : ان الأمر بالفعل الخارج عن محل الابتلاء لا محذور فيه ، إذ قد تكون فيه مصلحة ملزمة تستدعي الأمر به وتحصيل مقدماته البعيدة الشاقة ، لأن المفروض هو القدرة عليه عقلا (2).

ص: 125


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /251- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 51 - 52 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وخالفه في ذلك المحقق العراقي ، فذهب إلى استهجان الأمر بمثل ذلك ، كالأمر المتوجه إلى سوقي فقير بتزويج بنات الملوك ، أو بالأكل من طعام الملك الموضوع قدّامه (1).

والّذي يبدو لنا : ان الأمر اختلط على المحققين (قدس سرهما) فان الفرض في الأمر لا بد ان يكون على عكس الفرض في النهي ، فإذا كان موضوع البحث في النهي هو خروج الفعل عن محل الابتلاء ، بحيث يكون المكلف تاركا له بحسب العادة ، فلا بد ان يفرض موضوع البحث في الأمر هو خروج الترك عن محل الابتلاء ، بحيث يكون الفعل قهري الحصول عادة كخروج التاجر إلى دكانه يوميا أو إعطاء الوالد الشفيق الدواء لولده المريض الّذي يحبّه ونحو ذلك.

فالفرض الّذي اختلف فيه المحققان - والّذي نؤيد فيه المحقق النائيني - ليس فرضا للمقام ، بل فرض المقام هو ما ذكرناه ، فانه يتأتى فيه البحث كما يتأتى في فرض النهي بلا اختلاف.

وقد أشار إلى عطف الواجبات - بالفرض الّذي ذكرناه - على المحرمات صاحب الكفاية في حاشيته على متن الكفاية (2).

كما تنبه المرحوم الكاظمي إلى ما يرد على أستاذه من الإيراد الّذي تقدم ، فأشار إلى ذلك في حاشية مختصرة وجيزة فراجع (3).

ثم إن الامتناع ..

تارة : يكون عقليا ، ويقابله القدرة العقلية ، وهي مما لا شبهة في اعتبارها

ص: 126


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 339 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 361 هامش رقم 1- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 52 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

في التكليف.

وأخرى : يكون عاديا ويراد به هو امتناع الفعل عقلا بحسب الوضع العادي للإنسان ، وان كان الفعل ممكنا عقلا بطريقة غير عادية ، وذلك كالطيران إلى السماء. وهذا ما أرجعه صاحب الكفاية إلى الامتناع العقلي والقدرة العقلية (1). وهي بحكم النحو الأول.

وثالثة : يكون عاديا بمعنى ما لا يلتزم به خارجا بحسب العادة ، كالخروج إلى السوق بلا نعل ، وهذا لا يمنع من التكليف قطعا.

وجميع ذلك ليس محل كلامنا ، بل محل الكلام فيما نحن فيه هو : ما كان الفعل لا يتحقق من المكلف عادة لعدم ابتلائه به ، مع إمكان ان يصدر منه عقلا ، كشرب الماء في الإناء الموجود في أقاصي الهند.

ويصطلح على اعتبار الدخول في محل الابتلاء باعتبار القدرة العادية.

وقد وقع الكلام في اعتبارها في التكليف. فذهب الشيخ (2) وتبعه غيره (3) إلى اعتبارها فيه.

وقد اختلاف التعبير عن بيان وجه الاعتبار ، فامتناع التكليف بغير ما هو محل الابتلاء.

والعمدة فيه هو اللغوية الواضحة المعبر عنها في بعض الكلمات بالاستهجان العرفي ، إذ الغرض من التكليف هو إيجاد الداعي إلى الفعل أو الترك ، وهذا المعنى لا يتحقق فيما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء كما لا يخفى.

وقد وقع الخلط بين ما نحن فيه وبين بعض الموارد ، فتخيل البعض سراية هذا الإشكال إلى موردين.

ص: 127


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /92- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 251 - الطبعة الأولى.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 50 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أحدهما : تكليف العصاة.

والآخر : في الواجبات التوصلية التي تصدر من المكلف بحسب طبعه بداع آخر.

وذلك ببيان : ان التكليف وإن كان هو عبارة عن جعل ما يمكن ان يكون داعيا أو زاجرا ، إلا ان الغرض الأقصى منه هو تحقق الداعوية والزاجرية ، بحيث يكون له تأثير فيهما ، وإلا كان لغوا محضا.

فمع العلم بعدم تحقق الداعوية أو الزاجرية يمتنع جعل التكليف ، ومورد العصاة كذلك للعلم بعدم انزجارهم بالنهي وتحركهم بالأمر. فيكون تكليفهم لغوا. وهكذا في الواجبات التوصلية التي يكتفي فيها بمجرد الفعل ، إذا علم بتحقق الفعل من المكلف بداع آخر ، فان التكليف في مثل ذلك لا يترتب عليه غرضه الأقصى من التحريك نحو الفعل ، فيكون لغوا. ولا يخفى ان اللغوية المدعاة هاهنا هي لغوية دقية لا عرفية ، ولذا لا يتخيل أحد من العرف استهجان تكليف العاصي ونحوه.

وعلى كل حال ، فتحقيق الكلام في هذين الموردين ان يقال :

أما مورد العصيان : فلا يخفى ان الغرض الأقصى من الشيء ليس غرضا فلسفيا ، بحيث يكون من علل الشيء الّذي يوجب تخلفه تخلف المعلول ، بل هو فائدة وأثر الشيء ، فهو غرض عرفا.

وعليه ، فمجرد احتمال ترتبه على الفعل يكفي في صحة الفعل والإقدام عليه ، بل أعمال العقلاء جلا تبتني على احتمال ترتب الفوائد عليها ، كتصدي التجار للبيع ، فانه لا يقطع بتحقق البيع أو الربح ، مع إقدامهم عليه وليس هو إلا من جهة كفاية احتمال الفائدة.

ففي مورد العصاة إذا احتمل الامتثال كفى ذلك غرضا أقصى للتكليف.

ومع عدم احتماله والعلم بعدم امتثال الأمر والنهي ، يمكن ان يقال بان

ص: 128

فائدة التكليف والغرض الأقصى منه هو إلقاء الحجة وقطع العذر ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة. نظير التاجر الّذي يتصدى للبيع ، وهو يعلم بعدم تحقق الربح أو البيع دفعا لملامة الناس ونسبة الخمول والكسل إليه.

وأما مورد الواجبات التوصلية فيكفي في رفع اللغوية احتمال صدور الفعل عن التكليف.

نعم ، في المورد الّذي يعلم بصدوره بداع آخر لا بداعي الامتثال ، لا مناص من الالتزام بعدم صحة الوجوب ، لأنه لغو لا أثر له.

ودعوى : ان الغرض من التكليف تكميل النفوس الحاصل بالإتيان بالفعل بقصد الامتثال والإطاعة الموجبة لقرب العبد من مولاه. وحينئذ يمكن ان تكون فائدة التكليف التوصلي في الغرض المزبور هو تمكين المكلّف من الإتيان به بداع الأمر الموجب لكمال النّفس وتطهيرها.

مندفعة : بان الغرض الملزم في الواجبات التوصلية ليس إلا ما يترتب على الفعل ذاته من مصلحة ، والمفروض ان ذلك يتحقق ولو لم يكن أمر.

أما الإتيان بالفعل بداعي الأمر ، فهو لم يصل إلى حد الإلزام في الواجبات التوصلية ، بحيث يكون منشئا للإيجاب ، ولذا كان الواجب توصليا لا عباديا. فالتفت.

ولا يخفى عليك ان ما ذكر في حلّ الإشكال في هذين الموردين لا يتأتى فيما نحن فيه ، وهو ما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء ، فان التكليف لا فائدة فيه أصلا لعدم ترتب الداعوية عليه ، ولا ترتب غيرها من الفوائد.

ولأجل ذلك يكون التكليف مستهجنا عرفا.

فالوجه في امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء هو الاستهجان العرفي المسبب عن لغويته وعدم الأثر له.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني قدس سره إلى : عدم صلاحية

ص: 129

الاستهجان العرفي لمنع ثبوت التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء ، لعدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف. وليس الكلام في مفهوم الخطاب كي يكون المرجع فيه هو العرف كما تقرر ، بل الكلام في واقع التكليف وصحته ثبوتا فلا مسرح لنظر العرف (1).

وفيه :

أولا : ان الاستهجان العرفي المدعى هاهنا لا يرجع إلى تحكيم نظر العرف المبني على المسامحة كي لا يعتمد عليه ، بل المحذور المدعى هو لغوية التكليف ، وهي من الوضوح بنحو يدركها العرف فيستهجن ثبوت التكليف. فالاستهجان العرفي راجع إلى وضوح اللغوية لدى الجميع ، والعمل اللغو مستهجن من الحكيم ، في قبال اللغوية التي لا تدرك إلا بالدقة ، كاللغوية المدعاة في تكليف العصاة.

وبالجملة : المحذور فيما نحن فيه عقلي يلتفت إليه الجميع. فالتفت.

وثانيا : ان التكليف إذا كان مستهجنا عرفا يكفي ذلك في امتناع ثبوته وتوجيهه إلى عامة الناس ، لأنهم لا يؤمنون بصدوره مع بنائهم على انه مستهجن ، فلا يصلح الداعوية أصلا ، والمفروض ان من يتوجه إليه التكليف هو الجميع.

وأما ما جاء في الدراسات في مقام نفي اعتبار الدخول في محل الابتلاء ، وعدم اعتبار أزيد من القدرة العقلية ، من : ان الغرض من التكليف الشرعي ليس مجرد حصول متعلقه فعلا أو تركا كالتكليف العرفي ، بل الغرض منه هو تكميل النفوس البشرية بجعل التكليف داعيا للعبد إلى الفعل أو الترك ، فيحصل له القرب من مولاه ويرتفع مقامه (2).

ص: 130


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 253 - الطبعة الأولى.
2- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 254 - الطبعة الأولى.

ففيه : ان هذا لو تم ، فانما يتم في خصوص الواجبات دون المحرمات ، إذ الفعل المحرم إذا كان خارجا عن محل الابتلاء بنحو لا تحدثه نفسه بارتكابه لم يصلح النهي لزجر المكلف عنه وصرفه عن ارتكابه ، إلا بعد تصدي المكلف لإيجاد الرغبة النفسيّة في فعله ، كي ينصرف عنه ببركة النهي الشرعي ، فلو كان الغرض من النهي ما ذكر ، للزم في مثل هذه الحال على المكلف إيجاد الرغبة إلى فعل المحرم وتهيئة مقدماته ، ثم ينصرف عنه بزاجرية النهي.

وهذا لا يمكن أن يتفوه به ، فان إيجاد مقدمات الحرام بما هي مقدمات له مرجوح ، بل ثبت تحريم بعضها نفسيا كمقدمات عمل الخمر.

هذا مع عدم تماميته في الواجبات التوصلية كما عرفت. فراجع.

وجملة القول : انه لا إشكال في عدم صحة التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء وجوبيا كان أو تحريميا للاستهجان العرفي ، الّذي تقدم بيانه.

والمراد بالخروج عن محل الابتلاء المانع من التكليف ليس كون الشيء خارجا عنه فعلا بحيث لا ابتلاء للمكلف به بحسب وضعه الفعلي ، بل هو كون الشيء خارجا عن ابتلائه بحسب العادة بنحو لا يكون في معرض الدخول في محل الابتلاء عادة.

فمثل الإناء في بيت جاره وإن لم يكن محل ابتلائه فعلا ، لأنه لا يرفع احتياجه بشرب ماء جاره ، بل بشرب ماء داره ، ولكنه في معرض كونه في محل الابتلاء عادة ، لحصول التزاور بين الجيران ، ففي مثل ذلك لا يمتنع التكليف ، لعدم كونه مستهجنا عرفا لاحتمال ترتب الفائدة عليه وهو كاف في رفع اللغوية.

نعم ، الإناء في بلد لا يذهب إليه عادة يكون خارجا عن محل ابتلائه ، فيمتنع التكليف في مورده.

وهذا أفضل ما يمكن أن يقال في تحديد ضابط الخروج عن محل الابتلاء المانع من التكليف. فالتفت.

ص: 131

ثم إنه لو تحقق الشك في مورد في كونه خارجا عن محل الابتلاء أو ليس بخارج عنه ، فتارة يكون الشك من جهة الشبهة المفهومية. وأخرى من جهة الشبهة المصداقية.

فان كان الشك من جهة الشبهة المفهومية ، بان كان لا يعلم ان الخروج عن محل الابتلاء بمفهومه هل يشمل مثل الإناء الموجود في البلد الفلاني أو لا؟ وهل يقال لمثله عرفا انه خارج عن محل الابتلاء أو لا؟. فقد وقع الكلام في صحة التمسك بإطلاق الدليل في إثبات التكليف فيه وعدمها.

والّذي نراه هو صحة التمسك بالإطلاق ، إذ عرفت ان عدم صحة التكليف من جهة الاستهجان العرفي الناشئ عن عدم ثبوت الفائدة فيه ، وعرفت أيضا ان احتمال ترتب الفائدة يرفع الاستهجان العرفي ويصحح التكليف.

وهذا يقتضي ان يختص الامتناع بصورة العلم بعدم الفائدة.

وعليه ، فمع الشك في الخروج عن محل الابتلاء يشك في ترتب الفائدة للتكليف ، فيثبت احتمالها ولا يعلم بعدمها ، وهو كاف في صحة التكليف.

وبالجملة : على ما ذكرناه لا يكون المورد من موارد الشك في التقييد ، بل من موارد العلم بعدمه ، لأن الخارج هو ما علم بعدم الفائدة فيه. فالتفت.

هذا تحقيق الحال على ما سلكناه في تحقيق اعتبار الدخول في محل الابتلاء.

وأما على ظاهر مسلك الاعلام من كون التقييد بأمر واقعي يتعلق به العلم والجهل ، وهو الخروج عن محل الابتلاء.

فقد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى صحة التمسك بالإطلاق. بتقريب : ان المورد من موارد دوران الأمر في المخصص بين الأقل والأكثر ، وقد تقرر في محله الاقتصار في التخصيص على القدر المتيقن ، والرجوع في مورد الشك إلى

ص: 132

العموم (1).

ويرد عليه : ان ما تقرر في محله من الاقتصار على القدر المتيقن والرجوع في المشكوك إلى العموم ، انما هو فيما إذا كان المخصص منفصلا. وأما إذا كان متصلا ، فلا يتم لسراية إجمال المخصص إلى العموم كما بيّن في محله. وما نحن فيه من قبيل المتصل ، لأن امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء من الواضحات لدى العرف التي يمكن ان يعتمد المتكلم عليها ، وتكون من القرائن الحالية الموجبة للتصرف في الظهور.

وقد أورد على هذا الإيراد بوجهين :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني (2) والعراقي (3) (قدس سرهما) من : ان الحكم باعتبار الدخول في محل الابتلاء من الأحكام النظرية التي تحتاج إلى إعمال فكر ونظر ، ولا يدركها كل أحد ، فيكون المورد من قبيل المخصص المنفصل الّذي يصح الرجوع فيه إلى العام ، لعدم انثلام ظهوره.

وفيه : ما عرفت من ان امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء واضح لدى العرف ، وإذا كان محذوره هو الاستهجان العرفي ، فيكون المورد من قبيل التخصيص بالمتصل.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني - بعد تنزله وتسليمه كون المورد من قبيل التخصيص بالمتصل لا بالمنفصل - من : ان إجمال الخاصّ انما يسري إلى العام فيما إذا كان الخاصّ عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب مرددا بين الأقل والأكثر ، كعنوان الفاسق المردد بين خصوص مرتكب الكبيرة ومطلق مرتكب الذنب ولو صغيرة.

ص: 133


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /252- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 59 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 342 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وأما إذا كان الخاصّ ذا مراتب متعددة ، فلا يسري إجماله إلى العام ، لأن المتيقن تخصيصه ببعض مراتبه المعلومة. واما تخصيصه بغيرها فهو مشكوك فيرجع إلى العموم لأنه شك في تخصيص زائد. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن عدم الابتلاء ذو مراتب عديدة كما لا يخفى ، ويشك في تخصيص العام ببعض مراتبه (1).

وأورد عليه المحقق العراقي قدس سره : بان ما أفيد إنما ينفع في انحلال العلم الإجمالي ، لا في عدم إجمال العام ، لأنه يكفي في إجمال العام احتفافه بما يصلح للقرينية ، ولو كان بنحو الشك البدوي ، وما نحن فيه من هذا القبيل نظير مورد الاستثناء من الجمل المتعددة فانهم يحكمون بإجمال العموم في جميع الجمل وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقنا (2).

وبالجملة : فما وجهنا من الإيراد على الشيخ موجّه. لكنه انما يتوجه على التقريب المتقدم لكلامه.

ولكن الإنصاف انه يمكن توجيه كلامه بنحو لا يرد عليه ما ذكر. بيان ذلك : ان المخصص تارة يكون لفظا حاكيا عن مفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، كما في مثل : « لا تكرم فساق العلماء » ، وأخرى يكون حكما عقليا كحكم العقل بقبح تكليف العاجز الموجب لتخصيص أدلة التكاليف العامة.

ففي مثل الأول ، يتصور الترديد في التخصيص للتردد في المفهوم الّذي يحكي عنه اللفظ ، فيشك في مورد أنه محكوم بحكم الخاصّ أو بحكم العام.

وأما الثاني ، فلا يتصور فيه التردد في مقام ، لأن الحاكم لا يتردد في حكمه ، فإذا شك في تحقق مناط حكمه لا يصدر منه الحكم جزما ، لا انه يشك في ثبوت حكمه كما هو واضح جدا.

وما نحن فيه من قبيل الثاني لأن التخصيص كان بحكم العقل والعرف

ص: 134


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 60 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 344 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بقبح التكليف في مورد الخروج من محل الابتلاء.

ولا يخفى ان العقل انما يحكم بقبح التكليف في المورد الّذي يعلم انه من موارد الخروج عن محل الابتلاء ، بنحو يعلم بثبوت مناط القبح فيه.

أما مع الشك ، فلا حكم له بالقبح جزما ، لا انه يتردد ويشك في ثبوت حكمه ، لعدم معقولية ذلك بالنسبة إلى الحاكم نفسه.

إذن فالقدر المعلوم تخصيص العام به هو ما يعلم اندراجه في محل الابتلاء.

أما مورد الشك ، فيعلم بعدم حكم العقل بالقبح فيه ، لعدم إحراز مناط حكمه فيه ، فكيف يحكم بالقبح فيه والتردد غير معقول؟ ، فيعلم بعدم التخصيص ، فيصح التمسك بالإطلاق.

وهذا التوجيه لا يأباه صدر كلامه ، بل يلائمه كمال الملاءمة. نعم ذيل كلامه قد يظهر في التوجيه الأول لقوله : « فمرجع المسألة إلى ان المطلق المقيد بقيد مشكوك ... » ، ولكن يمكن حمله على تنظير ما نحن فيه بذلك المقام لا تطبيق ذلك المقام على ما نحن فيه.

ثم إنه من الممكن ان يكون مراد المحقق النائيني من كلامه السابق هو هذا الوجه ، وإن كان خلاف ظاهر كلامه.

وبالجملة : بهذا البيان يصح الرجوع إلى الإطلاق فيما نحن فيه.

وخالف في ذلك صاحب الكفاية فذهب إلى عدم صحة التمسك بالإطلاق ، واختلفت في ذلك بياناته في الكفاية (1) والفوائد (2) وحاشيته على الرسائل (3).

ص: 135


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /361- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول /320- المطبوعة ضمن الحاشية - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /146- الطبعة الأولى.

ونحن نذكر ما أورده في الكفاية ، وهو : ان التمسك بالإطلاق يتفرع على صحة الإطلاق في حد نفسه ثبوتا ، كي يكون مقام الإثبات كاشفا عن مقام الثبوت.

أما مع الشك في صحة ثبوت الحكم في حد نفسه ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق في إثباته.

وبعبارة أخرى : ان الإطلاق إنما يتكفل مقام الإثبات دون مقام الثبوت ، فلا بد من إحراز صحة ثبوت الحكم كي يتمسك بالإطلاق لإثباته.

وهذا الكلام بحسب ظاهره صار موردا للهجوم العلمي. فقد ذكر في ردّه :

ان الدليل على ثبوت الحكم يكون دليلا على إمكانه مع الشك ، لأنه ملازم له ، فالشك في الإمكان وعدمه يرفع بالدليل الدال على الوقوع ، كما التزم صاحب الكفاية وغيره في أول مباحث الظن ، ولو لا ذلك لا شكل التمسك بالإطلاق في جلّ موارد الشك في التقييد ولو كان المقيد لفظيا ، لأن الشك في التقييد يلازم الشك في ثبوت الملاك للحكم المطلق في الفرد المشكوك. وواضح انه يستحيل ثبوت الحكم بلا ملاك ، فيكون الشك في التقييد مستلزما للشك في إمكان الحكم وعدمه.

ولأجل ذلك تصدى المحقق العراقي قدس سره إلى توجيه مراده بما يدفع عنه هذا الإيراد الواضح ، فذكر : ان الحكم الواقعي كما هو مقيد بعدم الخروج عن محل الابتلاء ، كذلك الأمر في الحكم الظاهري الثابت بالأمارات والأصول ، فانه لغو أيضا ، مع خروجه مورده عن محل الابتلاء.

وعليه ، فكما يشك في ثبوت الحكم واقعا في مورد الشك في الخروج عن محل الابتلاء ، كذلك يشك في صحة ثبوت الحكم الظاهري الثابت بالإطلاق - بمقتضى دليل حجية الظهور -. ومن الواضح انه لا وجه للتمسك بالإطلاق مع وجود هذا الشك ، ولا يتكفل الإطلاق نفيه. فمراد الكفاية هو عدم صحة

ص: 136

التمسك بالإطلاق لأجل الشك في صحة ثبوت الحكم الإطلاقي الظاهري ، لا لأجل الشك في صحة ثبوت الحكم الواقعي ، كي يقال إن الإطلاق دليل على إمكانه. فالتفت.

ثم إنه قدس سره بعد ما وجّه كلام الكفاية بما عرفت ، أورد عليه : بأنه لا يتم بناء على الطريقية الراجعة إلى مجرد الأمر بالبناء العملي على مطابقة الظهور للواقع بلا جعل تكليف حقيقي في البين ، فان الأمر المزبور أمر صوري يعبر عنه بالحكم الأصولي يتكفل تنجيز الواقع على تقدير المصادفة. وهو لا محذور فيه مع الشك في القدرة (1). فتأمل.

وتحقيق الكلام : هو ان المورد ليس من موارد التمسك بالإطلاق لنفي الشك ، إذ من شرائط ذلك هو كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة المشكوكة ، كي يكون عدم بيانه دليلا على إرادة الحكم المطلق. ومن الواضح ان المتكلم ليس بصدد البيان من جهة شرطية الخروج عن محل الابتلاء ، إذ لم يرد منه في الخطابات الشرعية عين ولا أثر ، مما يكشف عن إغفال المولى هذه الجهة وإيكال الأمر فيها إلى غيره ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في مورد الشك لنفيه ، بل لا بد من الرجوع إلى العقل نفسه. وقد عرفت فيما تقدم - ببيانين - عدم حكمه بالقبح في مورد الشك ، فلا يثبت التخصيص والتقييد ، ومع الشك في ذلك لا يمكننا الرجوع إلى الإطلاقات لما عرفت ، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية.

وقد وجدنا المحقق الأصفهاني قد نبّه على هذه النكتة بنحو مختصر (2). فالتفت.

ص: 137


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 346 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 255 - الطبعة الأولى.

ثم إنه إذا وصلت النوبة إلى الأصول العملية ، فهل الأصل في المقام هو البراءة ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية. أو الاشتغال كما ذهب إليه المحقق العراقي؟.

والوجه في البراءة واضح لأنه من موارد الشك في ثبوت التكليف شرعا وهو مجرى البراءة.

واما الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، فوجهه : هو ان المورد من موارد الشك في القدرة ، مع العلم بثبوت الملاك الملزم. فكما يحكم العقل في مورد العلم بتوجه التكليف وشك المكلف في قدرته عقلا على الامتثال بلزوم الفحص والتصدي للامتثال للزوم تحصيل غرض المولى إلا مع عجزه حقيقة - ولا يلتزم أحد في مثل ذلك بإجراء البراءة -. كذلك الحال في مورد الشك في القدرة العرفية ، لأنها كالقدرة العقلية ليست دخيلة في ملاك الحكم ، بل دخيلة في حسن توجهه للمكلف ، فمع الشك في تحققها يحكم العقل بالاشتغال.

وهذا المطلب ذكره المحقق النائيني رحمه اللّه أيضا. لكن المقرر الكاظمي أشار في تعليقة له على المقام بعدول أستاذه عنه بعد مذاكرته في ما يرد عليه من إشكال ، فراجع (1).

وتحقيق الكلام : ان الّذي يبدو وقوع الخلط في كلمات الاعلام بين الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية ، فان ما يذكر في بيان جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في القدرة ، وما يضرب لذلك من الأمثلة ، يختص في الشبهة المصداقية دون الشبهة المفهومية.

ومن الواضح ان كلامنا فيما نحن فيه إنما هو في الاشتباه من حيث المفهوم لا من حيث المصداق ، فالتفت ولا تغفل.

ص: 138


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 57 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

هذا كله إذا كان الشك في الخروج عن محل الابتلاء من جهة الشبهة المفهومية.

وأما إذا كان من جهة الشبهة المصداقية ، كما إذا شك في أن إناء زيد النجس هل هو في البلد الكذائي الّذي يكون داخلا في محل الابتلاء ، أو في البلد الآخر الّذي لا يكون محل الابتلاء؟.

فعلى ما اخترناه من ان التكليف مقيد بالعلم بالخروج عن محل الابتلاء ، بل بواقع الخروج عن محل الابتلاء ، فلا إشكال في الرجوع إلى الإطلاق للعلم بعدم كون المورد من موارد التخصيص.

وأما على مسلك القوم من تقيد التكليف بنفس الخروج عن محل الابتلاء ، يكون المورد من موارد التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص اللبي.

وقد تقدم الحديث فيه واختلاف المباني فيه. فراجع.

ولو وصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فقد قيل : إنه الاشتغال بالتقريب المتقدم.

وتحقيق الحال في صحة ما قيل من ان الأصل في موارد الشك في القدرة هو الاشتغال له مجال آخر. فانتظر.

التنبيه الثالث : في الشبهة غير المحصورة. وقد وقع الكلام في تحديدها وحكمها من حيث المخالفة القطعية والموافقة القطعية.

وقد ادعي الإجماع ، بل الضرورة الفقهية على عدم وجوب الموافقة القطعية فيها.

ولا يخفى ان مثل هذا الإجماع لا يمكن ان يركن إليه ، لعدم العلم بأنه إجماع تعبدي ، بل المظنون قويا خلافه ، لكثرة ما ورد من التعليلات لنفي وجوب الموافقة القطعية.

وكيف كان ، فقد عرفت انها حددت بحدود متعددة ، وأكثرها لا يخلو عن

ص: 139

إشكال ، كتحديدها بما يعسر عدّه ، أو بما بلغ آلافا ، فلا نطيل الكلام بذكرها. إنما المهم من ذلك ضابطان نتعرض إليهما وما يدور حولهما من كلام وما يترتب عليهما من أثر. وهما ما أفاده الشيخ رحمه اللّه وما أفاده المحقق النائيني قدس سره .

أما ما أفاده الشيخ رحمه اللّه ، فهو : ان تكون الكثرة بحدّ يكون احتمال التكليف في كل طرف موهوما لا يعتني به العقلاء ، ويرون الاعتناء به نوعا من الوسوسة ، ولازم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية (1).

وفيه : ان ضعف الاحتمال إن وصل إلى حد الاطمئنان بالعدم فما أفاده صحيح ، لكنه خارج عما نحن فيه ، لأنه من موارد قيام العلم العادي على عدم التكليف في طرف. وإن لم يصل إلى حد الاطمئنان ، فلا يصح كلامه لعدم العبرة بظن عدم التكليف مهما بلغ من القوة ما لم يقم الدليل على حجيته - كما يلاحظ ذلك في الشبهة المحصورة - ، فلا بد من الموافقة القطعية لعدم المؤمّن بعد قيام العلم الإجمالي المنجز.

وأما ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه ، فهو : ان تكون كثرة الأطراف بحدّ يستلزم عدم القدرة العادية على المخالفة القطعية ، وان كان كل طرف في حد نفسه مقدورا عادة وداخلا في محل الابتلاء. وحينئذ تسقط حرمة المخالفة القطعية لعدم القدرة عادة عليها ، وبتبعها يسقط وجوب الموافقة القطعية ، لأنه متفرع على حرمة المخالفة القطعية المستلزم لتعارض الأصول في أطراف العلم ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم تجب الموافقة القطعية.

وأفاد قدس سره : ان هذا الضابط يختص بالعلم بالحرمة ، ولا يتأتى في موارد العلم بالوجوب بين أطراف كثيرة ، لإمكان المخالفة القطعية في باب

ص: 140


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /261- الطبعة الأولى.

الواجبات مهما بلغت الأطراف من الكثرة ، إذ المخالفة في باب الواجبات تحصل بترك جميع المحتملات وهو سهل المئونة ، بخلاف المخالفة القطعية في باب المحرمات ، فانها لا تحصل إلا بإتيان جميع المحتملات وهو ليس بالأمر اليسير مع كثرة الأطراف (1).

وقد أورد عليه وجوه :

الأول : ان هذا الضابط لا يختص بالشبهة غير المحصورة ، إذ قد يتحقق مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة ، كما لو علم بحرمة جلوسه في وقت الزوال إما في هذه الغرفة أو في تلك الغرفة ، فانه لا يتمكن من المخالفة القطعية ههنا (2).

وفيه : انه قدس سره قد تنبه إلى ذلك ، فذكر ان الشبهة غير المحصورة هي ما كانت الكثرة فيها سببا لعدم التمكن من المخالفة القطعية بحيث ينشأ عدم التمكن من الكثرة ، لا مطلق عدم التمكن من المخالفة القطعية.

وبالجملة : اعتبر في الشبهة غير المحصورة أمرين : كثرة الأطراف. وعدم التمكن من المخالفة القطعية. فلا وجه لهذا الإيراد حينئذ (3).

وهو مما أشار إليه في الكفاية حيث ذكر : ان موانع التنجيز في الشبهة غير المحصورة غير مختصة بها (4). لكنه لا يتوجه ممن جاء بعد المحقق النائيني لما عرفت من تقييده الضابط بالكثرة. فالتفت.

الثاني : انه تحديد بأمر مبهم ، لاختلاف ذلك باختلاف المعلوم بالإجمال ،

ص: 141


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 117 - 119 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 374 - الطبعة الأولى.
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 117 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /359- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فلم يحدّد في الضابط أمر كلي يكون جامعا لهذه الموارد (1).

وهذا الإيراد كسابقه في الوهن ، لأن القدرة العادية كالقدرة العقلية أمر متميز في نفسه لا إبهام فيه ، وانما يختلف تحققه باختلاف المتعلق ، فيلحظ كل شيء بحسبه. وكما لا يتأتى هذا الكلام في اعتبار القدرة العقلية ، فلا يقال إنه لا ضابط له لاختلافه باختلاف الحالات ، وكذلك لا يتأتى في القدرة العادية.

وبعبارة أخرى : لا إبهام في مفهوم القدرة عادة أو عقلا ، إنما الاختلاف في مصاديقها. وهذا لا يضر في الضابط ، ويلحظ في المصاديق كل شيء بحسبه وما يفرض له من ظرف خاص. فتدبر.

الثالث : ان عدم التمكن من المخالفة القطعية لا يتصور مع ملاحظة تطاول المدة والارتكاب التدريجي ، للتمكن من المخالفة تدريجيا.

وهذا مما أشار إليه المحقق العراقي أيضا (2).

وفيه : ان هذا إنما يتم في ما لو كانت الأطراف قارّة لا تزول بتطاول المدة ، كما لو علم بحرمة دخوله في إحدى دور النجف ، فانه يتمكن من المخالفة تدريجيا وفي مدة عشرين سنة. ولا يتم فيما لو كانت الأطراف مما يتلف بطول المدة ، كالمآكل ، فإذا علم بحرمة لحم في أحد أسواق النجف ، فهو لا يتمكن من المخالفة القطعية لا دفعة كما هو الفرض ، ولا تدريجا ولمدة سنة - مثلا - لعدم بقاء اللحم وتلفه في هذه المدة. ومثله الجبن وغيره. وهكذا لو علم بنجاسة ثوب من بين ألف ثوب مثلا ، لأنه وان أمكن ان يلبس الألف في ضمن سنين ، لكنه لا يبقى على كيفيته في ضمن هذه المدة ، بل يغسل قطعا ، فيطهر.

وبالجملة : أمثلة الشبهة غير المحصورة بهذا الضابط كثيرة. فتدبر. إذن

ص: 142


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 243 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 329 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فالضابط الّذي أفاده النائيني لا بأس به.

الرابع : وهو يرجع إلى ما رتّبه من عدم منجزية العلم الإجمالي ، وعدم وجوب الموافقة القطعية ، لا إلى الإشكال في نفس الضابط.

وقد ذكره المحققان العراقي (1) والأصفهاني (2) (قدس سرهما) وهو : ان غير المقدور هو العلم بالمخالفة وليس هو مخالفة التكليف المعلوم ، إذ هي مقدورة بعد فرض التمكن من الإتيان بكل طرف في حد نفسه ، والمحذور العقلي يترتب على المخالفة نفسها لا على العلم بها ، لأن ضم غير الحرام إلى الحرام غير دخيل في ثبوت العقاب على مخالفة الحرمة.

وقد أضاف المحقق العراقي إلى ذلك النقض بالشبهة المحصورة ، إذا لم يتمكن من المخالفة القطعية ، كما لو علم بان أحد الإناءين خمر ولم يتمكن من شربهما ، فانه لا يلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعية هاهنا جزما.

وأنت خبير : بان هذا الإيراد يبتني على القول بعلية العلم الإجمالي للتنجيز من حيث الموافقة القطعية الّذي يبتني على حكم العقل بقبح مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال بنفسه ولو لم يحصل العلم بها ، كما في مورد المخالفة الاحتمالية.

وأما على القول بالاقتضاء ، بحيث يكون القبيح هو المخالفة القطعية لا نفس المخالفة ، ولذا لا تحرم المخالفة الاحتمالية ، ويكون وجوب الموافقة القطعية لأجل تعارض الأصول ، فلا يتأتى هذا الكلام. وقد تقدم ان المحقق النائيني لا يلتزم بالعلية التامة ، وإنما يلتزم بالاقتضاء ، فلا يتجه هذا الإيراد عليه ، بل يكون إيرادا مبنائيا.

وتحقيق الكلام في حكم الشبهة غير المحصورة بالضابط الّذي ذكره

ص: 143


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 334 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 256 - الطبعة الأولى.

المحقق النائيني هو : انه يقتضي عدم منجزية العلم الإجمالي بالمرة حتى على القول بالعلية التامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية والموافقة القطعية.

بيان ذلك : ان التكليف مقيد بالقدرة على متعلقه بحيث لا يكون فعليا إلا في ظرف القدرة عليه ، وإذا فرض ان كثرة الأطراف بحدّ لا يتمكن المكلف على الجمع بينها وارتكاب جميعها - الّذي عبّر عنه بالمخالفة القطعية - كانت القدرة على كل طرف من الأطراف مقيدة بترك سائر الأطراف وعدم ارتكابها ، لأن ارتكاب سائر الأطراف يلازم العجز عن هذا الطرف. وعليه فيكون التكليف بتركه مقيدا بحال ترك سائر الأطراف ، لأنه حال القدرة عليه. إذن فالتكليف لا يكون فعليا بالنسبة إلى كل طرف إلا على تقدير ترك الباقي ، فالتكليف لا يكون فعليا على كل تقدير - أي على ثبوته في كل طرف - إلا في ظرف ترك جميع الأطراف.

وفي مثل ذلك يستحيل ان يكون العلم بالتكليف موجبا للزوم الترك عقلا ، إذ العلم به يتفرع على تحقق الترك ، فكيف يكون منجزا بالنسبة إلى لزومه؟!.

ومثل هذا البيان لا يجيء في مثال النقض بالعلم بحرمة أحد الضدين اللذين لهما ثالث كالعلم بحرمة الجلوس أو القيام عند الزوال ، باعتبار انه لا يتمكن من المخالفة القطعية أيضا.

والسرّ في ذلك : ان عدم أحد الضدين لم يؤخذ في موضوع الآخر - كما حرر في محله - ، إذ لا مقدمية لعدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر ، بل هما متقارنان فلا يكون التكليف بأحدهما مقيدا بعدم الآخر ، فالعجز الناشئ من كثرة الأطراف غير العجز الناشئ من وجود أحد الضدين.

وبعبارة أخرى أدق : ان القدرة المعتبرة في صحة التكليف ، والتي تكون نسبتها إلى الحكم نسبة الموضوع إلى الحكم هي القدرة على الفعل في الظرف

ص: 144

المتصل بآن الامتثال والعصيان ، لا القدرة في حال الامتثال ، ولذا لا يكون سلب القدرة في ظرف الامتثال اختيارا من نفي التكليف بنفي موضوعه ، بل من عصيان التكليف وعدم امتثاله.

وعليه ، ففعل أحد الضدين في ظرف التكليف وان استلزم العجز عن الضد الآخر ، لكنه عجز عنه في ظرف امتثاله وعصيانه ، فيكون فعله عصيانا للتكليف بضده لو كان في الواقع متعلقا به ، كما يكون امتثالا للتكليف المتعلق به لو كان متعلقا به واقعا ، فظرف فعل أحدهما هو ظرف الامتثال والعصيان. ولذا لو علم بأنه كلّفه بالقيام فقط فجلس ، فانه يكون عاصيا مع انه غير قادر على القيام عند الجلوس.

ومع قطع النّظر عن هذا الظرف ، يكون المكلف قادرا على كل منهما ، فيكون التكليف فعليا على كل تقدير وليس مقيدا بعدم الضد الآخر.

ولا يقال بمثله في مورد كثرة الأطراف ، لأن العجز لم ينشأ من وجود ما يمنع من تحقق المكلف به في ظرف الإطاعة أو العصيان ، بل هو ناش من وجود ما يمنع منه في زمان سابق على ظرف إطاعته وعصيانه ، وذلك لأن امتناع الجمع من جهة كثرة الأطراف ليس إلا ، وهي تقتضي تدريجية حصول الأفعال ، فلا يكون ظرف حصول أحدهما هو ظرف حصول الآخر كي يكون من باب سلب القدرة في ظرف الامتثال ، وليس كالضدين اللذين يمتنع اجتماعهما لأنفسهما بلحاظ زمان واحد هو ظرف امتثال كل منهما.

وعليه ، فيصح أخذ ترك سائر الأطراف في موضوع النهي عن كل طرف ، لأنه إذا جاء بسائر الأطراف يكون عاجزا عن الإتيان بهذا الطرف في الظرف المتصل بآن الامتثال ، فلا يصح التكليف.

وهذا هو توضيح ما ذكرناه من ان العجز الناشئ عن كثرة الأطراف غير العجز الناشئ عن تضاد الطرفين ، فتدبره فانه دقيق.

ص: 145

نعم مثال الضدين ، يصلح إيرادا على القول بالاقتضاء وتفرع وجوب الموافقة القطعية على حرمة المخالفة القطعية ، فليضم إلى سائر الإيرادات على ذلك القول.

ثم إن الوجه الّذي ذكرناه في عدم منجزية العلم الإجمالي لا يختص بالتحريميات ، بل يشمل الواجبات أيضا ، فان الأمر فيها أوضح ، لأن العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير يتوقف على ترك الكل ، لأن القدرة على كل طرف المصححة للتكليف تحصل بترك سائر الأطراف.

ومع ذلك ، كيف يكون العلم الإجمالي موجبا للزوم الإتيان بالكل؟!. فنقطة الفرق بين المسلك الّذي سلكناه ومسلك المحقق النائيني ، هو : ان المحقق النائيني جعل الضابط هو عدم التمكن من المخالفة القطعية - بهذا العنوان - ، فلذلك اختص ضابطه بالمحرمات كما بيّناه. وأما نحن ، فقد جعلنا الضابط هو عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف ، ولو لم يتعنون بعنوان المخالفة القطعية ، فلم يختص بالمحرمات ، بل شمل الواجبات أيضا. فالتفت.

ثم إنه على ما بيّناه من ملاك عدم تنجيز العلم الإجمالي ، لا مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية عند عدم وجوب الموافقة القطعية ، إذ عرفت عدم منجزية العلم لعدم كونه علما بتكليف فعلي على كل تقدير.

مع ان المفروض عدم التمكن من المخالفة القطعية.

وأما على مسلك الشيخ في ضابط غير المحصورة ، فغاية ما يقتضيه كلامه ، هو نفي وجوب الموافقة القطعية لضعف احتمال التكليف في كل طرف.

وهذا لا يقتضي جواز المخالفة القطعية ، لأنها تتصادم مع العلم نفسه ، والمفروض عدم اعتناء العقلاء بالاحتمال لا بنفس العلم.

وأما على مسلك المحقق النائيني قدس سره ، فالأمر واضح في الشبهة التحريمية. وأما في الشبهة الوجوبية ، فتحرم المخالفة القطعية للتمكن منها. وأما

ص: 146

الموافقة القطعية ، فهي غير ممكنة. فيكون المورد من موارد الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا. فراجع.

تذنيب : في شبهة الكثير في الكثير.

إذا كانت أطراف العلم الإجمالي كثيرة ، ولكن كانت نسبة المعلوم بالإجمال إلى مجموع الأطراف نسبة الواحد إلى الثلاثة - مثلا - ، كما إذا علم بحرمة خمسمائة إناء في ضمن الف وخمسمائة ، فهل يجري عليها حكم الشبهة غير المحصورة ، أو حكم الشبهة المحصورة؟.

التحقيق : انه إن اخترنا في تحديد الضابط للشبهة غير المحصورة ما أفاده الشيخ رحمه اللّه فلا يجري فيما نحن فيه ، لقوة احتمال التكليف في كل طرف من الأطراف ، فيكون حكمها حكم الشبهة المحصورة.

وإن اخترنا ما ذهب إليه المحقق النائيني ، كان مقتضاه إلحاق المورد بالشبهة غير المحصورة ، لعدم التمكن من المخالفة القطعية عادة ، لأنها في مثل المثال المزبور تتوقف على ارتكاب الف إناء وإناء وهو غير مقدور عادة.

وهكذا الحال بناء على ما حققناه في حكم الشبهة غير المحصورة ، لعدم القدرة على كل طرف إلا بترك سائر الأطراف.

اللّهم إلا أن يقال : إنه - في مثل هذه الموارد - عند ما تحصل أي مجموعة كبيرة - كمائة إناء في المثال المتقدم - يحصل الاطمئنان بوجود الحرام فيها ، ولا يحتمل عادة ان جميع الحرام في الأطراف الأخرى ، فيلزمه الاجتناب عن المائة.

فهناك علوم إجمالية متعددة صغيرة بضم بعضها إلى بعض تحصل شبهة الكثير في الكثير. فتدبر.

التنبيه الرابع : في حكم ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة.

والمهم في البحث في هذا التنبيه هو جهتان : إحداهما فقهية. والثانية أصولية.

ص: 147

أما الجهة الأولى الفقهية ، فهي البحث عن كيفية تنجس ملاقي النجس ، وانّه بنحو يكفي في تنجيزه العلم الإجمالي الّذي يدور طرفه بين الملاقى - بالفتح - وطرفه الآخر ، أو أنه بنحو لا يتنجز إلا بمنجز آخر غير العلم الإجمالي المتعلق بالمردد بين الملاقي والطرف الآخر؟.

وأما الجهة الأصولية ، فهي البحث - على التقدير الثاني من الجهة الفقهية - عن ان الملاقي هل هو طرف لعلم إجمالي منجز آخر ، فيجب الاجتناب عنه الملاقى أو ليس كذلك فلا يجب الاجتناب عنه كسائر ما شك في طهارته ونجاسته بالشبهة البدوية؟.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها : أنه لا إشكال في نجاسة ملاقي النجس. إنما الكلام في كيفية تنجسه فيه. وهي ثبوتا تحتمل وجوها أربعة :

الأول : أن يكون من جهة سراية النجاسة إلى الملاقي حقيقة وواقعا ، وانبساطها بنحو تشمله ، فلا يكون الحكم باجتناب الملاقي حكما جديدا ، بل هو عين الحكم الأول ، وإنما اتسعت دائرة متعلقه ، ونظيره في التكوينيات انحلال الجوهر النجس بالماء ، فيتلوّن جميع الماء بلون الجوهر بالسراية الحقيقية ، ويكون الحكم باجتناب الجوهر مستلزما لاجتناب جميع الماء لاتساع دائرة الجوهر ، بعد أن كانت ضيقة عند انكماشه وجموده.

الثاني : ان يكن من جهة ان الاجتناب عن ملاقي النجس من شئون وتبعات الاجتناب عن النجس ، بحيث لا يتحقق الاجتناب عن النجس إذا لم يجتنب عن ملاقيه ، كإكرام خادم العالم أو ابنه الّذي يعد إكراما للعالم نفسه عرفا.

الثالث : ان يكون لزوم الاجتناب عن الملاقي حكما تعبديا مستقلا ، لكن فعليته بفعلية لزوم الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - ، ولا تتوقف على تحقق الملاقاة.

الرابع : ان يكون حكما مستقلا ولا يصير فعليا إلا بفعلية موضوعه وهو

ص: 148

الملاقاة.

ولا يخفى عليك ان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يقتضي بنفسه لزوم الاجتناب عن ملاقي أحدهما على الوجوه الثلاثة الأولى دون الرابع.

وذلك ..

أما على الأول ، فلأن الملاقي يكون أحد طرفي الشبهة ، لسراية النجاسة حقيقة إليه - على تقدير نجاسة ملاقاة - ، فهو نظير ما لو قسم أحد الإناءين قسمين ، فالاجتناب عن النجس المعلوم أولا لا يتحقق جزما إلا بالاجتناب عن الملاقي أيضا.

وأما على الثاني ، فلأن امتثال التكليف المحتمل في الملاقى - بالفتح - المفروض لزومه لتنجزه بالعلم ، لا يتحقق إلا بالاجتناب عن ملاقيه ، لأنه من شئون وتبعات الاجتناب عن نفس الملاقى - بالفتح -.

وأما على الثالث ، فلأن العلم بالحكم الفعلي الثابت في الملاقى يصاحبه العلم بالحكم الفعلي الثابت فعلا في الملاقي لأن المفروض فعليته من الآن وقبل تحقق الملاقاة.

وأما على الرابع ، فلا يتأتى ما ذكر ، لأن فعلية الحكم لا تتحقق إلا بتحقق الملاقاة ، فلا يكون طرفا للعلم من الأول ، وقبل الملاقاة.

فيقع الكلام على هذا الوجه في الجهة الأصولية ، وهي ان الملاقي طرف لعلم إجمالي جديد منجز أو ليس بطرف؟. هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الإثبات ..

فالوجه الأول لا يمكن الالتزام به ، لأنه ..

إن أريد من السراية الحقيقة سراية النجاسة إلى الملاقى. ففيه : انه يبتنى على أساس واه ، وهو كون النجاسة من الأمور الحقيقية الواقعية التي كشف عنها الشارع ، وهو غير صحيح ، فان النجاسة من الأحكام الاعتبارية الوضعيّة ،

ص: 149

ولا معنى للسراية إذا لم تكن من الأمور الحقيقية.

وان أريد سراية ذات النجس لا نفس النجاسة. فيدفعه : انه خلاف الوجدان والعيان غالبا.

كما ان الوجه الثالث لا يمكن البناء عليه ، لمنافاته لظهور الأدلة في دوران الحكم مدار موضوعه ، وهو الملاقاة ، فلا يصير فعليا قبل حصول الملاقاة.

وأما الوجه الثاني ، فيمكن تقريبه بوجهين :

الأول : ان المستفاد من ملاحظة اعتبار الرطوبة في الانفعال ، واعتبار العصر في التطهير ، وعدم كفاية مجرد النضح ، مع عدم النص عليه بالخصوص ، وعدم الانفعال فيما كان الماء متدافعا من العالي إلى السافل النجس الا موضوع الملاقاة ، وانفعال المائع بمجموعه دون الجامد ، فانه ينفعل فيه خصوص موضع الملاقاة - المستفاد من مجموع ذلك - ، وتعليل البعض الحكم في تلك الموارد بالسراية العرفية وعدمها ، مع عدم التزامهم بالسراية الحقيقية جزما ، كون المحكم في أحكام النجاسة من كيفية التطهير والانفعال هو نظر العرف ، وهو يستلزم كون الملحوظ في الاجتناب عن النجس هو نظر العرف أيضا.

ولا يخفى ان العرف يرى ان الاجتناب عن ملاقي القذر من شئون الاجتناب عن نفس القذر ولو تعددت الوسائط ، بحيث يرى ان من ارتكب ملاقي القذر لم يجتنب عن نفس القذر ، لا انه لم يجتنب عن خصوص ملاقيه ، فإذا لاقت اليد العذرة الرطبة ، يجتنب عن الأكل بها ويعدّ ذلك اجتنابا عن العذرة ، فلو أكل بها قيل انه لم يستقذر العذرة.

وبالجملة : هذا الأمر عرفا ثابت في باب القذارات الصورية ، فإيكال الأمر في النجاسات الشرعية إلى النّظر العرفي يستلزم ثبوت نظره في القذارات الصورية فيها ، ويترتب على ذلك ان الاجتناب عن الملاقي من شئون نجاسة الشيء.

ص: 150

وهذا المعنى ثابت عرفا في خصوص الملاقاة ، فلا يتأتى في مطلق الملابسات كالنظر إلى القذارة.

فلا يتوهم : ان فرض كون الاجتناب عن ملاقي النجس من شئون الاجتناب عن النجس ، يقتضي فرض كون الاجتناب عمن نظر إلى النجس - أو نحوه من أنحاء الملابسات - من شئون الاجتناب عن النجس أيضا.

الثاني : ان العناوين المتعددة إذا اشتركت عرفا في أثر جامع ، لكن كانت تختلف باختلاف نحو خصوصيات ذلك الأثر ، بمعنى ان نحو الأثر المترتب على أحدها كان يختلف عن نحو الأثر المترتب على الآخر.

مثلا : العرف يجتنب عن الأسد والسم والقذر ، لكن اجتنابه عن الأسد يرجع إلى عدم التقرب منه أو عدم إثارته. واجتنابه عن السم يرجع إلى عدم استعماله في الأكل أو الشرب. واجتنابه عن القذر يرجع إلى عدم استعماله وعدم استعمال ما يلاقيه في باب الأكل والشرب - كما بيّناه -. فإذا نزّل الشارع شيئا منزلة أحد هذه الأمور وأمر باجتنابه فانه ظاهر في كون مراده النحو المتداول عرفا للاجتناب عن المنزّل عليه. فلو قال : هذا أسد فاجتنبه ، فانه ظاهر في الأمر باجتنابه بالنحو الّذي يجتنب الأسد ، لا بالنحو الّذي يجتنب السم أو القذر.

وعليه ، فإذا قال : هذا نجس فاجتنبه ، كان ظاهرا في أمره باجتنابه بالنحو الّذي يجتنب العرف للقذارات الحقيقية الصورية لأنه نزّله منزلته. وقد عرفت ان اجتناب العرف القذارات الصورية يعم الاجتناب عن ملاقيها ، بنحو يكون الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن القذر. فلاحظ.

وقد أورد على هذا الالتزام - أعني : الالتزام بأن الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - بإيرادات :

الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في حاشيته على الكفاية ، من : انه لا شبهة في وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس المعلوم مع فقد الملاقى

ص: 151

نفسه ، وعدم ثبوت وجوب الاجتناب بالنسبة إليه ، وهذا يكشف عن عدم كونه من شئونه وتبعاته ، وإلا لكان تابعا له حدوثا وبقاء.

وناقشه قدس سره بان الملاقي له حيثيتان ، إحداهما كونه بنفسه نجسا. والثانية كونه من شئون عين النجس. وله بكلتا الحيثيتين حكم ، فإذا انتفى كونه من شئون النجس ، كان ما يجب الاجتناب عنه بالحيثية الأولى ، كما لو كان ابن العالم أو خادمه عالما أيضا (1).

أقول : في الإشكال والجواب عنه مناقشة.

أما الجواب عنه ، لأنه إذا ثبت ان الاجتناب عن النجس من شئونه وتوابعه الاجتناب عن ملاقيه ، كان الأمر المتعلق بالاجتناب عن الملاقي بعنوانه الخاصّ محمولا عرفا على الإرشاد إلى جهة التبعية وإن كان ظاهرا في حد نفسه في الاستقلال.

فهو نظير ما لو قال : « أكرم خادم العالم » مع الالتزام بان إكرام خادم العالم مما يستتبعه وجوب إكرام العالم ، فانه لا يحمل على أن خادم العالم موضوع مستقل لوجوب الإكرام ، بل يحمل على الإرشاد إلى جهة التبعية ، كما لا يخفى.

إذن ، فليس للملاقي حكمان ، بل حكم واحد بعنوان التبعية.

وأما نفس الإشكال ، فلأن الاجتناب عن الملاقي إذا كان من شئون الاجتناب عن الملاقى ، بحيث يكون الاجتناب عن الملاقي اجتنابا عن الملاقى ، فلا يكون انعدام الملاقى مخلا بوجوب الاجتناب عن الملاقي ، للتمكن على اجتناب الملاقى والحال هذه ببعض مراتبه ، وهو بالاجتناب عن ملاقيه ، فيجب الاجتناب عن الملاقي من باب انه اجتناب عن الملاقى ، نظير ما إذا غاب العالم الّذي يجب إكرام خادمه لوجوب إكرامه ، فانه لا يرتفع وجوب إكرام العالم ،

ص: 152


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 258 - الطبعة الأولى.

للتمكن منه ببعض مراتبه بإكرام خادمه.

وبالجملة : بناء على هذا الالتزام يكون وجوب الاجتناب عن الملاقى ثابتا بعد فقدانه ووجود ملاقيه ، فلاحظ والتفت.

الثاني : ما أورده المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية أيضا : من أنّه إذا اجتنب المكلف عن النجس ولم يجتنب عن ملاقيه ، فقد اجتنب حقيقة عن فرد من النجس ولم يجتنب عن فرد آخر منه ، لا أنه لم يجتنب أصلا ، ولو كان الاجتناب عن ملاقي النجس من شئون الاجتناب عنه لم يتحقق الاجتناب عنه بعدم الاجتناب عن ملاقيه (1).

وفيه : ان الاجتناب عن الشيء القذر - بناء على هذا الالتزام - له مرتبتان : إحداهما المرتبة القصوى ، وهي الاجتناب عنه مع الاجتناب عن كل ما لاقاه ولو بوسائط. والأخرى المرتبة الدنيا ، وهي الاجتناب عن خاصة دون الاجتناب عن ملاقيه. فإذا اجتنب عنه خاصة يصدق انه اجتنب النجس ولكن ببعض مراتبه ، كما يصدق انه لم يجتنبه ببعض مراتبه الأخرى. ولا يصدق انه لم يجتنب أصلا ، لأنه اجتنب النجس ببعض مراتبه. وذلك نظير ما لو أكرم العالم ولم يكرم ابنه أو خادمه ، فانه يصدق انه أكرم العالم بمرتبة ما ولم يكرمه بالمرتبة القصوى. فتدبر.

الثالث : ما جاء في كلمات المحقق العراقي قدس سره من ان ظاهر الأدلة ثبوت الحكم عند تحقق الملاقاة وفعليه الحكم بفعلية موضوعه غير قابلة للإنكار ، فيكون مقتضى الأدلة ان الحكم بوجوب الاجتناب لا يصير قطعيا إلا عند تحقق الملاقاة ، وهو انما يتلاءم مع الوجه الرابع دون هذا الوجه (2).

ص: 153


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 258 - الطبعة الأولى.
2- العراقي المحقّق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول2/ 95 - الطبعة الأولى.

ويندفع هذا الوجه : بان الملاقاة ليست دخيلة في أصل ثبوت الحكم بوجوب الاجتناب ، وإنما هي دخيلة في حدوث مرتبة من مراتب الاجتناب المتعلق للحكم ، فيثبت لها الحكم السابق الثابت في حد نفسه بنحو العموم والاستغراق لجميع المراتب ، بمعنى : ان وجوب الاجتناب ثابت لكل مرتبة من مراتب اجتناب النجس مطلقا ، فإذا حدثت مرتبة لم تكن موجودة سابقا تعلق بها الحكم الثابت ، لا أنه يثبت لها حكم جديد مستقل.

وعليه ، فان وجوب الاجتناب وإن لم يتعلق بالملاقي قبل تحقق الملاقاة ، لكن تحقق الملاقاة ليس دخيلا في موضوع الحكم بوجوب الاجتناب ، وانما هو دخيل في تحقق مرتبة من مراتب متعلق الحكم الثابت ، فيتعلق بها الحكم ، نظير ما إذا استخدم العالم خادما جديدا ، فانه يثبت وجوب إكرامه بنفس وجوب إكرام العالم الفعلي الثابت من السابق ، فحدوث مرتبة من مراتب المتعلق انما توجب سعة دائرة الحكم وازدياد انبساطه ، ولا توجب ثبوت حكم جديد.

واما ظهور الدليل الدال على الحكم في كونه حكما مستقلا جديدا ، فهو ليس بأزيد من ظهور كل أمر في التأسيس الّذي يرفع اليد عنه ويحمل على الإرشاد إلى غيره ببعض القرائن. وما نحن فيه من هذا الباب. فانه إذا ثبت كون الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن النجس ، كان الأمر بالاجتناب عنه - أي عن الملاقي - محمولا عرفا على الإرشاد ، وإن كان في حد نفسه ظاهرا في التأسيس. فلاحظ.

ثم أنه قد يشكل الالتزام بهذا المعنى : بان لازمه لزوم الاجتناب عن مشكوك الملاقاة لقاعدة الاشتغال بحكم النجس نفسه.

ويندفع : بان مقتضى أصالة عدم الملاقاة هو نفي تحقق الملاقاة ، فلا مجال لقاعدة الاشتغال حينئذ فالتفت.

والّذي يتحصل : ان جميع هذه الإيرادات لا تصلح لردّ هذا الالتزام الّذي

ص: 154

قرّبناه إثباتا بالوجهين المزبورين.

لكن التحقيق : هو ان الالتزام بالوجه الثاني بالتقريبين المتقدمين يبتني على شيء واحد مفقود خارجا ، فانه يبتني على وجود دليل يدل على لزوم الاجتناب عن النجاسة بهذا العنوان - أعني : بعنوان اجتنب وما شاكله -. وهو مفقود ، إذ الّذي ورد في النصوص هو الأمر بالغسل أو النهي عن الشرب ، ولم يرد فيها أمر بالاجتناب أصلا (1). والأمر بالغسل لا ظهور له في غسل الملاقي عرفا.

وأما الكتاب الكريم فالذي يتخيل دلالته على الأمر بالاجتناب منه آيتان :

إحداهما : آية الخمر والميسر ، للتعبير فيها بقوله : ( فَاجْتَنِبُوهُ ) (2).

ولكن الأمر بالاجتناب هاهنا ليس من جهة النجاسة قطعا ، لكون موضوعه أمورا أربعة وكلها ليس بنجس عدا الخمر ، فلا يمكن ان يكون الملحوظ هو جهة النجاسة ، بل لا بد أن تكون جهة أخرى جامعة ، وقد عرفت ان مجرد الأمر بالاجتناب عن الشيء لا ظهور له في الاجتناب عن ملاقيه ، ولذا لم يحتمل ذلك في باب الغصب ونحوه ، وإنما قلنا ان الأمر بالاجتناب بعنوان النجاسة والقذارة ظاهر في ذلك لا غير.

والأخرى : قوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (3). ودلالتها تبتني على إرادة النجس من الرجز ، وهي محل نظر ، لأن الرجز في تفسير اللغويين بمعنى الرجز - بالكسر - ، وهو العذاب ، فيكون المراد الأمر بالاجتناب عن العذاب ، وهو كناية عن الأمر باجتناب سببه كالأمر بالمسارعة إلى المغفرة ، ويراد بها سبب

ص: 155


1- وسائل الشيعة 2 / أبواب النجاسات. ك- : ح 2 ب 8 قال أبو عبد اللّه علیه السلام : اغسل ثوبك من أبوال ما لا يأكل لحمه. وح 2 باب 82 : عن أبي عبد اللّه علیه السلام ( في حديث ) قال كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلاّ ان ترى في منقاره دما فان رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب. وغيرهما.
2- سورة المائدة ، الآية : 90.
3- سورة المدّثر ، الآية : 5.

المغفرة.

ولو تنزل عن ذلك ، فالذي قيل في تفسيره أيضا : انه بمعنى الرجس ، ولا ظهور له في إرادة النجس منه ، بل يمكن ان يراد منه ما يساوق الرجس في الآية الأولى المحمول على غير النجس ، فيكون الأمر امرا بهجر الإثم ونحوه مما يرجع إلى القذارات المعنوية لا الصورية ، وهو لا يدل على لزوم هجر الملاقي.

وجملة القول : ان الوجه الثاني لا دليل عليه في مقام الإثبات.

وظاهر الأدلة بدوا هو الوجه الرابع. فتدبر.

يبقى الكلام في جهتين :

الجهة الأولى : فيما أفاده الشيخ في المقام ، قال قدس سره : « ... وهل يحكم بتنجس ملاقيه؟ وجهان ، بل قولان مبنيان على ان تنجس الملاقي انما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس بناء على ان الاجتناب عن النجس يراد به ما يعلم الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط ، ولذا استدل السيد أبو المكارم في الغنية على تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة بما دل على وجوب هجر النجاسات في قوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ... ) فإذا حكم الشارع بوجوب هجر كل واحد من المشتبهين ، فقد حكم بوجوب هجر كل ما لاقاه ، وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس سره في المنتهى على ذلك بان الشارع أعطاهما حكم النجس ، وإلا فلم يقل أحد ان كلا من المشتبهين بحكم النجس في جميع آثاره.أو ان الاجتناب عن النجس لا يراد به إلا الاجتناب عن العين ، وتنجس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتب على العنوان الواقعي من النجاسات ... ثم قال : والأقوى هو الثاني. أما أولا ، فلما ذكر ، وحاصله منع ما في الغنية من دلالة وجوب هجر النجس على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز إذا لم يكن عليه أثر من ذلك الرجز ، فتنجيسه حينئذ ليس إلا لمجرد تعبد خاص ، فإذا حكم الشارع بوجوب هجر المشتبه في الشبهة المحصورة ، فلا يدل على وجوب هجر

ص: 156

ما يلاقيه » انتهى موضع الحاجة في كلامه (1).

وقد حمل الاعلام كلامه على الترديد بين كون لزوم الاجتناب عن الملاقي من شئون لزوم الاجتناب عن ما لاقاه ، وبين كونه حكما مستقلا له دليله الخاصّ ، وانه اختار الثاني.

وهذا ما كنا نجري عليه سابقا في توضيح كلامه.

لكن الّذي يبدو لنا فعلا ان مراده ليس ذلك ..

فليس مراده بناء لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين بالنجس على كون لزوم الاجتناب عن الملاقي من شئون لزوم الاجتناب عن الملاقى - بالفتح -.

وإلا لما صح التفريع عليه بقوله : « فإذا حكم الشارع ... » ، إذ لا حاجة إلى بيان ذلك ، بل مجرد العلم بالحكم الواقعي بين المشتبهين يكفي في لزوم هجر الملاقي على المبنى المزبور كما عرفت ، ولو لم يكن هناك حكم شرعي بلزوم هجر كل من المشتبهين ، كما أنه - على هذا المبنى - لا معنى لقوله : « وهذا معنى ما استدل به العلامة قدس سره ... » ، بل الّذي يظهر بملاحظة مجموع كلامه صدرا وذيلا : أنه ليس إلا في مقام بيان الملازمة ثبوتا وإثباتا بين لزوم الاجتناب عن الشيء ولزوم الاجتناب عن ملاقيه ، بحيث يكون الدليل الدال على لزوم الاجتناب عن الشيء دالا بنفسه على لزوم الاجتناب عن ملاقيه بلا حاجة إلى دليل آخر.

وحينئذ ، فإذا دل الدليل على لزوم هجر كل واحد من المشتبهين ، فهو يدل بنفسه على هجر ملاقيه ، وهو معنى كون الشارع أعطاهما حكم النجس ، ولا نظر له قدس سره إلى بيان كيفية انفعال الملاقي ووجهه.

والإشكال على هذا البيان واضح لوجهين - غير ما أورده الشيخ الظاهر

ص: 157


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 253 - الطبعة الأولى.

في إنكار الملازمة - :

الأول : ان لزوم هجر كل واحد من المشتبهين ليس حكما شرعيا نفسيا ، بل هو حكم عقلي يرجع إلى الحكم بتنجيز الحكم الواقعي المردد بين الطرفين في أي طرف كان ، والأمر الشرعي على تقدير ثبوته هاهنا أمر إرشادي لا استقلالي تأسيسي.

الثاني : ان الّذي يدعى في المقام هو الملازمة بين لزوم هجر النجس ولزوم هجر ملاقيه ، لا الملازمة بين وجوب هجر كل شيء ولزوم هجر ملاقيه ، إذ لم يتوهم متوهم ثبوت الملازمة بين لزوم الاجتناب عن الغصب ولزوم الاجتناب عن ملاقيه. إذن فلزوم هجر كل من المشتبهين بما هو مشتبه وبعنوان الاحتياط لا يلازم لزوم هجر ملاقيه ، فتدبر والتفت.

الجهة الثانية : في ما أفاده المحقق النائيني قدس سره قبل الدخول في مسألة الملاقاة.

ومحصل ما أفاده : ان مقتضى العلم الإجمالي هو ترتيب كل أثر يكون المعلوم بالإجمال بالنسبة إليه تمام الموضوع.

أما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للأثر ، بل كان جزءه لم يترتب ذلك الأثر على ارتكاب أحد المشتبهين ، لعدم العلم بتحقق موضوعه التام ، وذلك نظير جواز إقامة الحد على شارب الخمر ، فان موضوعه هو شرب الخمر مع علم الحاكم به ، ومع شرب أحد الإناءين المشتبهين بالخمر لا يعلم تحقق شرب الخمر منه ، فلا يجوز إقامة الحد عليه ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، أو لأصالة عدم شربه الخمر - بل لعدم جواز الإضرار بالغير بعد عدم العلم بشمول عموم إقامة الحد عليه -.

ثم إنه ذكر لما كان الأثر مترتبا على نفس المعلوم بالإجمال الواقعي مثالين. وحكم فيهما بترتب الأثر بمجرد تحقق العلم على كل من المشتبهين.

ص: 158

الأول : العلم الإجمالي بخمرية أحد المائعين بالنسبة إلى عدم جواز بيع كل منهما. فانه ذكر : انه كما لا يجوز شرب كل من الإناءين لا يجوز بيعه أيضا ، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الإناءين فلا تجري أصالة الصحة في بيع أحدهما لمعارضتها بأصالة الصحة في بيع الآخر فيتساقطان ، ومع تساقطهما يحكم بفساد البيع في كل منهما لعدم الدليل على الصحة حينئذ.

ثم أورد على نفسه : بان الحكم بالفساد بالنسبة إلى بيع الخمر يتقوم بأمرين : وقوع البيع خارجا. وخمرية البيع. فمجرد الخمر ليس تمام الموضوع للحكم بفساد البيع ، بل له جزء آخر ، وهو وقوع البيع خارجا لأن الصحة والفساد من أوصاف البيع اللاحقة له بعد فرض صدوره في الخارج.

إذن ، فمع وقوع البيع على أحد الإناءين يحكم بصحته بمقتضى أصالة الصحة ، ولا تعارضها أصالة الصحة في الطرف الآخر لعدم وقوع البيع عليه فلا موضوع لها.

وأجاب عن ذلك : بان الخمر المعلوم تمام الموضوع لعدم السلطنة على بيعه ، وهو ملازم للفساد ، بل هو عينه ، لأنه ليس المجعول شرعا سوى حكم واحد يعبر عنه بعدم السلطنة قبل صدور البيع وبالفساد بعد صدوره ، كما ان السلطنة على البيع وصحته كذلك شيء واحد.

وعليه ، فأصالة الصحة تجري في كل طرف قبل صدور البيع وتسقط بالمعارضة ، كما عرفت.

الثاني : العلم الإجمالي بغصبية أحد الدارين أو الشجرتين. فانه كما يكون مقتضى العلم الإجمالي هو لزوم الاجتناب عن كل من الدارين أو الشجرتين ، كذلك مقتضاه الاجتناب عن ثمرات ومنافع كل من العينين ، لأن لزوم الاجتناب عن إحدى العينين واقعا يقتضي بنفسه لزوم الاجتناب عن الثمرات والمنافع لها سواء المتصلة منها أم المنفصلة ، والموجودة حال العلم أم المتجددة ، وسواء أكانت

ص: 159

كلتا العينين من ذوات المنافع والثمار أم كانت إحداهما كذلك ... إلى غير ذلك من الصور ، فان مقتضى العلم الإجمالي لزوم التجنب عن المنافع مطلقا ، لأن النهي عن المغصوب يقتضي النهي عنه وعن توابعه ومنافعه الموجودة فعلا والمتجددة.فالتجنب عن المنفعة المتجددة يكفي فيه النهي السابق الفعلي المتعلق بنفس العين ويصير بالنسبة إلى الثمرة المتجددة فعليا عند تجددها.

ثم أورد على نفسه : بالفرق بين منافع الدار وثمرة الشجرة ونحوها مما لها وجود مستقل منحاز ، فإن تبعية الثمرة للشجرة انما تكون في الوجود ، وهي لا تستلزم التبعية في الحكم ، بل لا يعقل ذلك بعد ان كانت الثمرة ذات وجود مستقل ، ويدخل تحت اليد بنفسه في قبال الشجرة ، فلا بد ان يكون كل من الأصل والفرع له حكم مستقل يتحقق عند وجوده. وعليه فلا يعقل ان يتقدم حكم الثمرة على وجودها ، لأن الحكم تابع لوجود موضوعه ، فقبل تحقق الثمرة لا حكم إلا بلزوم الاجتناب عن نفس الشجرة المغصوبة ، ثم بعد حصول الثمرة يثبت حكم آخر بحرمة التصرف موضوعه الثمرة. ولكن هذا إذا علم تفصيلا بحرمة الشجرة. أما مع العلم الإجمالي ، فحيث لا يعلم ان هذه الثمرة ثمرة لشجرة مغصوبة لا علم بثبوت الحكم فيها ، فيجري فيها الأصل بلا مزاحم ، إلا إذا كانت طرفا لعلم إجمالي آخر كما يأتي تحقيقه.

نعم ، مثل منافع الدار مما لا وجود له مستقل منحاز عن الدار يكون تابعا في الحكم للدار ، فيتنجز فيه الحكم بتنجز الحكم الثابت للدار نفسها.

وأجاب قدس سره عن هذا الإيراد : بان المقصود من تبعية حكم الثمرة للشجرة ليس هو فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما ، فانه من فعلية الحكم قبل وجود موضوعه وهو محال ، حتى في مثل منافع الدار ، إذ يستحيل فعلية وجوب الاجتناب عن منافع الدار للسنة المقبلة ، بل المقصود بالتبعية هو ان النهي عن التصرف في الشجرة المغصوبة يقتضي بنفسه وجوب الاجتناب عن ثمرتها

ص: 160

عند حصولها بلا حاجة إلى تعبد آخر ، لأن حرمة التصرف في المنافع - سواء أكانت مستقلة في الوجود كالثمرة أو غير مستقلة كمنفعة الدار - من شئون حرمة التصرف في ذي المنفعة ، فلا يتحقق امتثال المعلوم بالإجمال إلا بالاجتناب عن الثمرة عند تجددها. فتدبر.

ثم إنه قدس سره التزم بان الحال في الحكم الوضعي هو الحال في الحكم التكليفي ، فان دخول الأصل تحت اليد يستلزم ضمان المنفعة المتجددة بنفسه ، كما يستلزم حرمة التصرف في الأصل حرمة التصرف في المنفعة هذا ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه في كلا الموردين (1). وفي كلاهما كلام ..

أما مثال بيع أحد المشتبهين بالخمر ونحوه مما لا يصح بيعه شرعا ، فالأمر كما ذكره قدس سره من الحكم بفساد البيع وعدم ترتيب أثره بالنسبة إلى كل واحد من المشتبهين.

والسر فيه : انه لا يصح التمسك بعمومات الصحة والنفوذ بالنسبة إلى بيع أحد المشتبهين لتخصيصها بغير بيع الخمر مثلا ، والمفروض ان البيع الواقع يشك في أنه بيع خمر أو لا ، فيكون التمسك بالعمومات الدالة على الصحة من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. وهو غير جائز ، وإذا لم يتمسك بالعموم فالمرجع هو الأصل العملي ، وهو يقتضي الفساد في باب المعاملات ، لأصالة عدم ترتب الأثر كما يقرّر ذلك في محله.

وأما ما أفاده قدس سره من جريان أصالة الصحة في حد نفسه وسقوطها بالمعارضة ، فلا نعلم وجهه ، لأن الأصل العملي في باب المعاملات هو الفساد لا الصحة.

نعم ، تجري أصالة الصحة في العقد الصادر من الغير المشكوك واجديته

ص: 161


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 68 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لبعض شرائط الصحة ، وهو غير ما نحن فيه كما لا يخفى.

وأما ما ذكره من جعل السلطنة ، وانها ملازمة لجعل الصحة أو عينها وان عدم السلطنة ملازم للفساد أو عينه ففيه : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في نفى إمكان جعل السببية ، بان الجاعل ان اقتصر على جعل السببية بلا جعل المسبب عند حصول السبب ، فلا أثر لجعل السببية ، لعدم تحقق المسبب بدون الجعل ، وان جعل المسبب عند حصول السبب كان جعل السببية لغوا مستغنى عنه (1) فانه يرد مثله في جعل السلطنة ، فان الجاعل ان اقتصر على جعل السلطنة على البيع بلا جعل الأثر عند حصوله ، فلا أثر لجعل السلطنة. وإن جعل الأثر عند حصول البيع ، كفى ذلك عن جعل السلطنة ، فكان جعلها لغوا محضا. إذن فلا وجه للالتزام بجعل السلطنة أو نفيها شرعا ، بل السلطنة وعدمها ينتزعان من جعل الأثر عند حصول البيع وعدمه. فالتفت.

وأما مثال النماء المتصل أو المنفصل لإحدى العينين المشتبهتين بالغصبية ، فحديث ضمان المنفعة المتجددة بمجرد جعل اليد على العين له مجال آخر ، فنوكله إلى محله ، وانما نتكلم فيه من جهة الحكم التكليفي ، وان لزوم الاجتناب عن النماء بنفس لزوم الاجتناب عن العين ، أو انه حكم آخر ذو موضوع مستقل آخر؟.

وقد أشار المحقق العراقي قدس سره إلى هذا المثال ، وردد فيه بين الاحتمالين ، ولم يرجّح أحدهما على الآخر ، بل أهمل ذلك بالكليّة (2).

ولا يخفى ان الالتزام بأحد الاحتمالين يبتني على ظهور ان الاجتناب عن النماء هل هو من شئون الاجتناب عن العين أو ليس من شئونه؟. فإذا ثبت كونه من شئون الاجتناب عن العين كان وجوب الاجتناب عن العين بنفسه يقتضي

ص: 162


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 350 و 351 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار2/ 262 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الاجتناب عن النماء. وإلا فلا.

والظاهر هو الأول ، فان النهي عن التصرف في العين والأمر باجتنابها ظاهر عرفا فيما يعم الاجتناب عن نمائها حتى المتجددة ، ويعد ذلك من شئون الاجتناب عن نفس العين عرفا. وعليه فكلما تتجدد ثمرة للعين تتسع دائرة وجوب الاجتناب عن العين ، ويثبت وجوب الاجتناب عن ثمرة العين بنفس الوجوب الثابت من الأول ، لأنه من مراتبه وشئونه. وهذا يقتضي تنجز الحكم باجتناب الثمرة لإحدى المشتبهين بنفس العلم الإجمالي بغصبية أحدهما ولزوم الاجتناب عن أحدهما بلا حاجة إلى علم آخر ، كما أوضحناه جيدا في مسألة ملاقي أحد المشتبهين بالنجس.

ومما ذكرنا يظهر : انه لا وقع لما جاء في الدراسات من الإيراد على المحقق النائيني في ما ذكره في مثال النماء من « انا لا نتعقل ثبوت ملاك تحريم المنافع قبل وجودها خارجا ، فان حرمة التصرف في مال الغير انما تثبت بعد ثبوت موضوعه في الخارج ، ومع عدم تحققه لا معنى لتحقق ملاك التحريم ، كما لا معنى لثبوت نفسه » (1). فان المحقق النائيني قدس سره قد تنبه إلى ذلك على ما نقلناه من كلامه ، وذهب إلى عدم فعلية الحكم بالاجتناب عن النماء إلا عند حصوله ، لكن الحكم بالاجتناب عنه ليس حكما جديدا ، بل هو بنفس الحكم بلزوم الاجتناب عن الأصل ، لأن الاجتناب عن النماء من شئونه وتوابعه عرفا ، فتتسع دائرته بحصول مرتبة من مراتب متعلقه. فلاحظ تعرف.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى الفقهية.

وأما الجهة الثانية الأصولية : فتحقيق الكلام فيها : انه قد يدعى ان لزوم الاجتناب عن ملاقي النجس وإن كان حكما مستقلا غير وجوب

ص: 163


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 262 - الطبعة الأولى.

الاجتناب عن النجس نفسه ، لكن هذا لا يضر في لزوم الاجتناب عن ملاقي أحد المشتبهين بالنجس ، وذلك لأنه يكون طرفا لعلم إجمالي آخر يقتضي تنجز التكليف فيه ، فانه عند تحقق الملاقاة يحصل عند المكلف علم إجمالي آخر بنجاسة أحد الإناءين ، إما الملاقي - بالكسر - أو الطرف الآخر للملاقى - بالفتح - ، وهذا العلم الإجمالي يوجب تنجز التكليف في الملاقي ، كاستلزام العلم الإجمالي الّذي طرفاه الملاقى والإناء الآخر لتنجيز طرفيه.

وقد تصدى الأعلام إلى دفع هذه الدعوى ، وبيان عدم منجزية العلم الإجمالي الآخر.

فذكر الشيخ رحمه اللّه في هذا المقام : ان أصل الطهارة والحل في الملاقي يمكن إجراؤه بلا ابتلائه بالمعارض الموجب للتساقط. وذلك لأن الشك في نجاسة الملاقي ناشئ ومسبب عن الشك في نجاسة الملاقى ، فالشك في الملاقى سببي وفي الملاقي مسببي ، وقد تقرر في محله انه لا مجال لجريان الأصل في الشك المسببي مع جريانه في الشك السببي ، سواء كان موافقا أم مخالفا ، لحكومة أو ورود الأصل السببي على الأصل المسببي.

وعليه ، فظرف جريان الأصل المسببي هو ظرف امتناع جريان الأصل السببي لمانع منه ، ولا يكونان في رتبة واحدة.

وهذا يقتضي انه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي إلا بعد سقوط الأصل في الملاقى وعدم جريانه ، وهو انما يسقط بمعارضته بالأصل الجاري في الطرف الآخر. فإذا تساقطا معا كان الأصل في الملاقي جاريا بلا معارض.

وبالجملة : لا يلزم من جريان الأصل المرخص في الملاقي محذور لعدم معارضته بمثله في الطرف الآخر ، لسقوط الأصل فيه في مرحلة سابقة على جريانه في الملاقي ، وهي مرحلة جريان الأصل في الملاقى الّذي عرفت تقدمه

ص: 164

رتبة على الأصل في الملاقي. هذا ما أفاده الشيخ رحمه اللّه (1).

وقد أفاد صاحب الكفاية في دفع الدعوى المزبورة : ان الملاقي على تقدير نجاسته بسبب نجاسة الملاقى يكون فردا آخر من أفراد النجس يشك في تحققه ، كما يشك في نجاسة فرد آخر بسبب آخر غير الملاقاة ، فان العلم الإجمالي كما لا يقتضي الاجتناب عن الفرد المشكوك النجاسة بسبب آخر كذلك لا يقتضي الاجتناب عن الملاقي (2).

وهذا البيان مقتضى جدا وهو يختلف عن بيان الشيخ رحمه اللّه .

ولعل الوجه في سلوك صاحب الكفاية هذا المسلك وعدوله عن مسلك الشيخ رحمه اللّه هو : أن مسلك الشيخ رحمه اللّه في الجواب يبتني على القول بالاقتضاء في العلم الإجمالي ، وان وجوب الموافقة القطعية ناشئ من تعارض الأصول ، فيصح إجراء الأصل في أحد الطرفين لو لم يكن له معارض.

وهذا القول لا يرتضيه صاحب الكفاية ولا يذهب إلى صحته ، بل هو يرى القول بالعلية التامة ، بحيث يمتنع إجراء الأصل في أحد الطرفين في حد نفسه ومع قطع النّظر عن المعارضة ، ولأجل وضوح هذه الجهة أهمل الإشارة إلى كلام الشيخ ، بل سلك في دفع الدعوى مسلكا يتلاءم مع مسلكه ، لكن بيانه لا يخلو عن إجمال كما عرفت.

ومن الممكن ان يكون نظره قدس سره إلى بيان عدم منجزية العلم الإجمالي الآخر لانحلاله بالعلم الإجمالي السابق. والوجه فيه - بنظره - ..

إما أن العلم الإجمالي المتأخر ليس علما بتكليف فعلي آخر غير التكليف المعلوم بالعلم الأول ، فلا يكون حينئذ منجزا.

ص: 165


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /253- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /362- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وإما ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من : أن العلم الإجمالي انما يكون منجزا للتكليف إذا لم يقم على أحد طرفيه منجز ، لأن المنجز لا يتنجز ، وما نحن فيه كذلك لأن الطرف الآخر طرف لعلم إجمالي منجز سابق على العلم الإجمالي بينه وبين الملاقي وهو العلم الإجمالي بينه وبين الملاقى. وحينئذ فلا يكون العلم الإجمالي المتأخر قابلا لتنجيز طرفيه (1).

ولكن في كلا الوجهين منع تقدم إيضاحه في مبحث الانحلال.

فقد تقدم : ان دعوى اعتبار تعلق العلم بتكليف فعلي آخر في منجزيته.مدفوعة : بأنه لا دليل عليها ، بل ينافيها ما هو واضح من منجزية العلمين الإجماليين المشتركين في طرف واحد الحاصلين في آن واحد ، مع ان كلا منهما ليس علما بتكليف آخر جديد ، لاحتمال كون المعلوم بالإجمال فيهما هو الطرف المشترك.

كما تقدم : ان دعوى ان المنجز لا يتنجز وجه صوري لبيان الانحلال ، لأن العلم الإجمالي السابق لا يكون منجزا في مرحلة البقاء إلا بلحاظ بقائه لا بلحاظ حدوثه ، وحينئذ فتكون نسبة العلمين بقاء إلى الطرف المشترك على حد سواء ، فيشتركان في التنجيز. فراجع.

إذن فهذان الوجهان لا يصلحان لإثبات دعوى الانحلال في المقام.

ثم إن صاحب الكفاية بعد ما ذكر ما نقلناه عنه قال : « ومنه ظهر : انه لا مجال لتوهم ان قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا ، ضرورة ان العلم به انما يوجب تنجز الاجتناب عنه لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وان احتمل » (2). وهذا القول منه يحتمل ان يكون إشارة إلى

ص: 166


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 259 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /363- طبعة مؤسسة آل البيت.

أحد أمرين :

الأول : نفي دعوى ان الاجتناب عن الملاقي من شئون الاجتناب عن الملاقى ، بحيث يكون تنجز الاجتناب عن الملاقى موجبا لتنجز الاجتناب عن الملاقي التي عرفت ذهاب البعض إليها.

وبيان ان نجاسة الملاقي فرد آخر من النجاسة له حكمه الخاصّ من حيث التنجز ، فلا يتنجز إلا بمنجز يقوم عليه خاصة ، ولا يتنجز بتنجز غيره.

الثاني : نفي توهم ان الأمارة إذا قامت على نجاسة شيء كان مقتضاها هو الحكم بنجاسة ملاقيه ، مع انها لا تفيد سوى تنجيز الواقع كالعلم - كما يراه صاحب الكفاية -.

وهذا يقتضي ان يكون تنجز الاجتناب عن شيء بعنوان النجاسة موجبا لثبوت الحكم بالاجتناب عن ملاقيه ، فيثبت ذلك في مورد العلم الإجمالي لتنجز حكم النجاسة في كلا الطرفين.

والوجه في دفعه : ان الإخبار بأحد المتلازمين إخبار بالملازمة بالآخر ، فإذا قامت البيّنة على نجاسة شيء قامت أيضا على نجاسة ملاقيه بالملازمة ، فالحكم بنجاسة الملاقي ليس من جهة التلازم في التنجيز بينهما ، بل من جهة قيام الأمارة على نجاسته بالخصوص ، وليس كذلك الحال في مورد العلم الإجمالي ، فان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين واقعا لا يكون علما بنجاسة الملاقي لأحدهما المشكوك ، بل لا يكون في البين إلاّ مجرد الاحتمال وهو لا يصلح للتنجيز.

وبعد هذا نعود إلى أصل المطلب ، فنقول : ان عدم تنجيز العلم الإجمالي الحادث بين الملاقي والطرف الآخر يبتني على الالتزام بالانحلال.

وقد عرفت فيما تقدم عدم ارتضاء جميع الوجوه المذكورة للانحلال من الانحلال الحقيقي التكويني وغيره.

نعم ، ذكرنا هناك وجها للانحلال اختصصنا به ، وهو الالتزام بإجراء

ص: 167

الأصل المؤمّن فيما عدا ما قام عليه المنجز من علم أو أمارة - بهذا العنوان أعني : عنوان غير ما قامت عليه الأمارة مثلا - ، إذ يشك في ثبوت التكليف في غيره ، فإذا نفي التكليف بالأصل كان هذا الأصل ناظرا إلى التأمين من جهة العلم الإجمالي وموجبا لانحلاله.

وقد تقدم انه لا مانع من جريان الأصل إذا كان ناظرا إلى العلم الإجمالي. وانما التزمنا بوجوب الموافقة القطعية باعتبار قصور مقام الإثبات ، فراجع تعرف ، وبالوجه الّذي ذكرناه صححنا جعل البدل وأرجعناه إليه.

ولكن تقدم ان الوجه المذكور نلتزم به فعلا في مورد قيام العلم أو الأمارة أو الأصل الشرعي المثبت في أحد الأطراف.

أما موارد ثبوت قاعدة الاشتغال في أحد الأطراف ، أو كون أحد الطرفين طرفا لعلم إجمالي آخر ، كما فيما نحن فيه ، فقد أوكلناه إلى محل آخر ، ونحن الآن لا نريد تحقيق ذلك ، بل نقصر الكلام على المورد الّذي نحن فيه مما كان العلم الإجمالي ناشئا من العلم الإجمالي السابق ومتفرعا عليه. فنقول : إن الوجه المتقدم يتأتى فيما نحن فيه بوضوح لأنا نقول : نحن نعلم إجمالا بثبوت التكليف بين الملاقى وطرفه ، ونشك في ثبوت تكليف زائد على ذلك التكليف ، فننفيه بأصالة البراءة ، فيتصرف في موضوع العلم الإجمالي القائم بين الملاقي والطرف الآخر ويكون مؤمنا منه لأنه ينظر إليه. ولا يمكن دعوى العكس ، بان يقال : انا نعلم بثبوت التكليف بين الملاقي وطرفه ، ونشك في ثبوت تكليف زائد عليه فينفى بأصالة البراءة ، ونتيجته التأمين من الملاقى.

لتفرع نجاسة الملاقي على نجاسة الملاقى فمع قطع النّظر عن الملاقى لا علم بالتكليف في الملاقي ، فكيف يقال : إنا نعلم بالتكليف بين الملاقي والطرف الآخر ونشك في الزائد عليه وننفيه بالأصل؟. فلاحظ.

ثم إن صاحب الكفاية فصّل بين صور الملاقاة من حيث الحكم بلزوم

ص: 168

الاجتناب عن الملاقي وعدمه ، فذكر : ان الصور ثلاث :

الأولى : ما إذا حصلت الملاقاة بعد العلم الإجمالي المنجز القائم بين الملاقى والطرف الآخر ، وهي موضوع الكلام السابق. وقد عرفت انه اختار عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي.

الثانية : ما إذا حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة ، واختار فيها لزوم الاجتناب عن الملاقى والملاقي معا ، للعلم الإجمالي إما بنجاستهما أو نجاسة الطرف الآخر.

الثالثة : ما إذا علم بنجاسة الملاقي أو شيء آخر ، ثم بعد ذلك علم بالملاقاة وعلم بنجاسة الملاقى أو ذلك الشيء. واختار فيها لزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى وان حال الملاقى في هذه الصورة حال الملاقي في الصورة الأولى.

وعطف عليها في الحكم ما إذا علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر ، وكان الملاقى عند حدوث العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء ، ثم صار داخلا فيه (1).

وقد فنّد المحقق النائيني قدس سره هذا التفصيل بشدة ، وذهب إلى عدم صحته ، لأنه يبتني على ان حدوث العلم بما هو علم وصفة قائمة بالنفس تمام الموضوع لحكم العقل بالتنجيز وان انقلبت صورته وانقلبت عما حدثت عليه ، وهذا المبنى فاسد ، لأن المدار في تأثير العلم على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف ، فإذا كان المعلوم بالعلم المتأخر أسبق زمانا من المعلوم بالعلم المتقدم ، كان العلم المتأخر موجبا لانحلال العلم المتقدم. والسر فيه هو : ان العلم المتأخر المتعلق بالمعلوم السابق زمانا يستلزم تنجيز معلومه من السابق ، فيكون العلم

ص: 169


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /362- 363 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المتقدم متعلقا بما هو منجز ، فلا يصلح لتنجيز أطرافه (1).

أقول : إن صاحب الكفاية حيث بنى كلامه في دعوى الانحلال على ان المنجز لا يتنجز ، كما وجهت به عبارته من قبل المحقق الأصفهاني ، كان التفصيل الّذي ذكره بين هذه الصور في غاية المتانة ، إذ المدار حينئذ على تأخر العلم وتقدمه ، لا تأخر المعلوم وتقدمه ، فالعلم المتأخر لا يكون منجزا ، لأنه يتعلق بما هو منجز وهو لا يقبل التنجيز ثانيا ، وليس هذا من جهة أخذ العلم موضوعا لا طريقا كما لا يخفى.

وعليه ، فيرد على المحقق النائيني : انه على تقدير تمامية ما أفاده ، فهو لا يصلح إيرادا على صاحب الكفاية فيما نحن فيه ، لأنه إيراد مبنائي وهو خارج عن الأسلوب العلمي في مقام النقض والإبرام.

هذا ، مع ان ما أفاده غير تام في نفسه ، لأن دعوى تنجيز العلم المتأخر معلومه من السابق خالية عن السداد ، لأن المعلوم إذا كان في ظرفه غير منجز في حق المكلف ، ثم بعد حين تعلق به العلم ، لم يصلح العلم لتنجيزه في ظرفه السابق ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، مع انه لا معنى لتنجيزه بعد مضي ظرفه. نعم العلم يكون منجزا من حين حدوثه ، كما تقدم بيان ذلك في مبحث الانحلال والاضطرار فراجع.

ثم إنك حيث عرفت ان بناء الانحلال على عدم صلاحية المنجز للتنجيز لا ترجع إلى محصل ، فلا بد من معرفة حكم هذه الصور على الوجه الّذي اخترناه في تقريب الانحلال.

والحق ان الوجه الّذي ذكرناه لتقريب الانحلال في الصورة الأولى يأتي في سائر الصور ، لأنه يصح ان نقول في جميعها ان التكليف بين الملاقى والطرف

ص: 170


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 86 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الآخر معلوم ، والزائد عليه مشكوك ينفي بالأصل. فالتفت ولا تغفل.

هذا تحقيق الكلام في أصل المطلب. يبقى الكلام في أمور :

الأمر الأول : ذكر الشيخ رحمه اللّه : انه لو تحققت الملاقاة لأحد المشتبهين قبل العلم الإجمالي وفقد الملاقى بعد الملاقاة ، ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة المفقود أو طرف آخر ، كان الملاقي قائما مقام الملاقى المفقود في وجوب الاجتناب عنه ، لمعارضة أصالة الطهارة فيه بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، إذ لا يجري الأصل في الملاقى المفقود حتى يعارض الأصل في طرفه ، ويبقى الأصل في الملاقي سليما عن المعارض ، لأن الأصل لا يجري فيما لا يبتلي به المكلف لعدم الأثر بالنسبة إليه (1).

وأورد عليه : بان خروج الشيء عن محل الابتلاء ولو كان بسبب عدم القدرة عليه ، لا يكون مانعا عن جريان الأصل فيه إذا كان له أثر فعلي ، كما لو غسل الثوب النجس بماء مع الغفلة عن طهارته ونجاسته ، ثم انعدم ذلك الماء ، وبعد ذلك شك في طهارته ونجاسته ، فانه لا إشكال في جريان أصالة الطهارة فيه أو استصحابها ، فيثبت بها طهارة الثوب المغسول به.

وما نحن فيه كذلك ، لأن الملاقى وإن كان معدوما ، إلا ان إجراء أصالة الطهارة فيه مما يترتب عليه أثر ، وهو طهارة ملاقيه ، فلا مانع من إجراء الأصل فيه في نفسه ، لكنه بواسطة العلم الإجمالي معارض بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ، فتبقى أصالة الطهارة في الملاقي سليمة عن المعارض (2).

وهذا الإيراد لا يمكننا الالتزام به لوجهين :

الأول : ان معارضة الأصول في أطراف العلم الإجمالي ناشئة - على ما

ص: 171


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /254- الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 363 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

تقدم - من استلزام إجرائها في الطرفين الترخيص في المعصية وإجراء أحدهما ترجيح بلا مرجح.

ولا يخفى ان هذا المحذور يرتبط بالعلم الإجمالي بالحكم التكليفي الإلزامي.

أما العلم الإجمالي بحكم وضعي مردد بين طرفين ، فلا يصادم إجراء الأصل النافي لذلك الحكم الوضعي في كلا الطرفين ، إذ ليس فيه ترخيص في معصية.

وعليه ، فنقول : مع العلم الإجمالي بنجاسة أحد الشيئين لا مانع من جريان أصالة الطهارة في كليهما في حد نفسها ، وإنما المانع من جهة ما يترتب على جريان أصالة الطهارة فيهما من مخالفة للتكليف المعلوم المترتب على النجاسة ، لأن أصل الطهارة يترتب عليه الترخيص في استعمال الطاهر ، وهو ينافي العلم بالمنع في أحدهما.

وعلى هذا ، ففيما نحن فيه يعلم بنجاسة أحد الإناءين المفقود أو الموجود ، لكن هذا العلم ليس علما بتكليف إلزاميّ مردد بين الطرفين ، إذ النجاسة على تقدير كونها في الطرف المفقود لا يترتب عليها وجوب الاجتناب لخروجه عن محل الابتلاء المانع من ثبوت التكليف.

وعليه ، فلا معارضة بين أصالة الطهارة في المفقود - على تقدير جريانها - ، وأصالة الطهارة في الموجود ، لأن العلم بالنجاسة بنفسه لا يمنع من إجراء أصالة الطهارة ما لم يكن علما بتكليف إلزامي. فليس لدينا حينئذ علم منجز سوى العلم الجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف الآخر الموجود ، لأنه علم بتكليف إلزاميّ مردد بين الطرفين ، فيمنع من جريان كلا الأصلين في طرفيه.

الثاني : ان ظاهر دليل قاعدة الطهارة هو الحكم بالطهارة عند تحقق الشك ، بحيث يكون ظرف الحكم بالطهارة هو ظرف فعلية الشك - كما هو ظاهر

ص: 172

قضية كل حكم وموضوع ، فان ظاهرها كون فعلية الحكم عند فعلية موضوعه -.

وعليه ، فلا دلالة له على الحكم بالطهارة السابقة للإناء في الزمان السابق ، بحيث تثبت له الطهارة سابقا ، فان مقام الإثبات لا يساعد عليه.

فأصالة الطهارة لا تجري في المعدوم بلحاظ ظرف وجوده السابق ، بحيث تتكفل جعل الطهارة له في الزمان السابق لأنه ليس ظرف الشك. وإنما ظرف الشك فعلي ، ولم يؤخذ الشك بنحو الشرط المتأخر للحكم ، فغاية ما تتكفله جعل الطهارة له فعلا ومن الآن ولكنه معدوم الآن ، فلا يقبل جعل الطهارة له. اذن فجريان أصالة الطهارة في المعدوم لإثبات طهارة ملاقيه أو المغسول به مما لا محصل له.

ودعوى : انه يمكن ان تتكفل جعل الطهارة فعلا لكن للموجود السابق على العكس من الواجب - المعلّق بدعوى ان المحكوم بالطهارة فعلا هو متعلق الشك ، ومتعلق الشك فيما نحن فيه هو الوجود السابق للشيء ، فيحكم فقط بطهارته - فالحكم فعلي والمتعلق سابق كما انه في الواجب المعلق يكون الحكم فعليا والمتعلق استقبالي.

مندفعة : بأنها - على تقدير معقوليتها - لا تنفع في إثبات طهارة الملاقي ، لأن الّذي ينفع هو إثبات الطهارة في ظرف الملاقاة ، أما بعد ذلك فلا ينفع في إثبات طهارة الملاقي أو المغسول به. فالتفت.

نعم ، هذا الكلام لا يجري في مثل الاستصحاب ، إذ يلتزم فيه بأنه يتكفل جعل الحكم في الزمان السابق واللاحق ، كموارد الاستصحاب الاستقبالي ، ولذا يلتزم بجريانه في المعدوم بلحاظ وجوده السابق وتعلق الشك فيه.

وعلى ما ذكرناه ، نقول : انه إذا غسل الثوب بإناء مع الغفلة عن طهارته ونجاسته ، ثم انعدم ، وبعد ذلك حصل الشك ..

فان كانت الحالة السابقة للماء هي النجاسة جرى استصحاب النجاسة

ص: 173

فيه وحكم ببقاء نجاسة الثوب المغسول به.

وان كانت الحالة السابقة له هي الطهارة جرى استصحاب الطهارة فيه وحكم بطهارة الثوب المغسول به.

وإن لم تعلم حالته السابقة ، أو كان مما تواردت عليه الحالتان مع الجهل بتاريخهما ، لم يمكن جريان الاستصحاب فيه ، كما انه لا يمكن جريان قاعدة الطهارة فيه بلحاظ زمان وجوده ، لما عرفت من قصور دليلها ، فيتعين إجراء استصحاب النجاسة في الثوب المغسول به ، فيعامل معاملة النجس.

هذا تحقيق الكلام في هذا الأمر.

الأمر الثاني : إذا حصل العلم بالملاقاة ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف الآخر ، بحيث اتحد زمان الملاقاة مع زمان المعلوم بالإجمال ، كما إذا كان ثوب في إناء فيه ماء فوقعت قطرة بول إما في ذلك الإناء أو في إناء آخر ، فانه يحصل العلم الإجمالي بنجاسة الثوب والماء المشتمل عليه أو الماء في الإناء الآخر.

فهل يجب الاجتناب عن الملاقى والملاقي معا ، كما عليه صاحب الكفاية.

أو يجب الاجتناب عن خصوص الملاقى دون الملاقي ، كما نسب إلى الشيخ ، وتبعه المحقق النائيني؟.

والوجه في الثاني هو : ان الأصل المرخص في الملاقي لما كان في رتبة متأخرة عن الأصل الجاري في الملاقى لمكان السببية والمسببية ، فالمعارضة تقع بين الأصل الجاري في الملاقى والطرف الآخر ، لعدم جريان الأصل في الملاقي قبل سقوط الأصل في الملاقى. وعليه فيبقى الأصل في الملاقي سليما عن المعارض.

وأورد على ذلك : بان الأصل في الملاقي وان كان في رتبة متأخرة على الأصل في الملاقى ، لكن ذلك لا يستلزم عدم وقوعه طرفا للمعارضة لوجهين :

ص: 174

الأول : ان التقدم والتأخر الرتبي انما يؤثران في مثل الأحكام العقلية المترتبة على الشيء بلحاظ رتبته ، دون الأحكام الشرعية المنوطة بالموجودات الخارجية ، سواء من حيث موضوعاتها أم من حيث متعلقاتها ولا دخل للتقدم والتأخر الرتبي فيها.

وعليه ، فالأصل في الملاقي لما كان متحدا زمانا مع الأصول الأخرى كان معارضا لها وان تأخر عنها رتبة. واستشهد على ذلك بالحكم بإعادة الوضوء وصلاتي الظهر والغداة إذا علم إجمالا ببطلان وضوئه لصلاة الغداة أو بطلان صلاة الظهر لفقد ركن منها. والسر فيه : تعارض قواعد الفراغ في جميع هذه الأمور الثلاثة وتساقطها ، مع ان قاعدة الفراغ في صلاة الغداة متأخرة رتبة عن قاعدة الفراغ في الوضوء. فلاحظ.

الثاني : ان الأصل الجاري في الملاقي وان كان في طول الأصل في الملاقى ، لكنهما معا في عرض الأصل الجاري في الطرف الآخر فيعارضهما معا ويوجب تساقطهما.

ومجرد كون الأصل في الطرف الآخر في عرض الأصل في الملاقى السابق رتبة على الأصل في الملاقي لا يستدعي تقدمه رتبة على الأصل في الملاقي من باب ان المتأخر عن أحد المتساويين في الرتبة متأخر عن الآخر بالضرورة ، فانه انما يتم في السبق بالزمان لا في السبق بالرتبة ، ولذا لا يكون المعلول متأخرا عن عدم علته رتبة مع ان عدم العلة في رتبة العلة السابقة على المعلول رتبة. فتدبر (1).

وكلا هذين الوجهين مردودان :

أما الأول : فلأن الأمر في تأثير التأخر والتقدم الرتبي في الأحكام العقلية دون الأحكام الشرعية مسلم في الجملة ، فانه قد تقرر عندهم أن الطبيعة بما هي

ص: 175


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 267 - الطبعة الأولى.

ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة ، فالتزم بارتفاع المتناقضين فيها مع كون المقرر لديهم ان ارتفاع المتناقضين محال ، فلا يمكن سلب الوجود والعدم عن الشيء الواحد في الآن الواحد ، فالطبيعة اما موجودة أو معدومة.

والتزم في دفع هذا الإشكال بان للطبيعة نحوين من الملاحظة ، فتارة : تلحظ بما هي بحيث يقصر النّظر فيها على ذاتها وذاتياتها من دون ملاحظة أمر خارج عن ذاتها وذاتياتها. وأخرى : تلحظ بالإضافة إلى ما هو خارج عن ذاتها وذاتياتها. وهي بالملاحظة الأولى أسبق رتبة منها بالملاحظة الثانية. فقيل بان الحكم بأنها لا موجودة ولا معدومة انما هو بلحاظ الطبيعة بما هي هي ، وان الحكم بأنها إما موجودة أو معدومة انما هو بلحاظها بالملاحظة الثانية ، فالمصحح للاختلاف هو تعدد الرتبة.

ولكن هذا لا ينفع في الأحكام الشرعية ، ولذا لا يلتزم بصحة جعل الحرمة للفعل بملاحظة ذاته ، وجعل الوجوب لذلك الفعل بملاحظة وصف عارض عليه ، بحيث يجتمع الوجوب والحرمة في آن واحد ، مع ان الملاحظة الثانية في طول الملاحظة الأولى.

ولكن في الوقت الّذي يسلم عدم تأثير الاختلاف في الرتبة في اجتماع الحكمين الشرعيين المتضادين ، هناك أمر لا يقبل الإنكار ، وهو تقدم نوبة الأصل الجاري في الموضوع على الأصل الجاري في الحكم ، وارتفاع محذور التزاحم بين الحكمين بالالتزام بالترتب بينهما ، فالاختلاف الرتبي في مثل هذين الموردين له التأثير الكامل والمفعول النافذ الّذي يلتزم به في محله. وكيف كان الحال ، فقضية الطولية في جريان الأصل المسببي وتأخره عن الأصل السببي لا تقبل الإنكار ، كيف؟ وعليها أساس حكومة أو ورود الأصل السببي كما يبيّن في محله.

وإن شئت قلت : لا يهمنا التعبير بالطولية والعرضية. وإنما المهم هو واقع الحال ، فان لدينا أمرا واقعيا ثابتا ، وهو انه لا مجال لجريان الأصل الجاري في

ص: 176

الحكم مع جريان الأصل في الموضوع ، سواء كانا متوافقين أم متخالفين. وما نحن فيه من هذا الباب ، فلا يمكن إعمال المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي والأصل في الطرف الآخر ، إذ لا تصل النوبة إليه إلا بعد سقوط الأصل في الموضوع وهو الملاقى ، وهو انما يسقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر ، فيكون الأصل في الملاقي عند وصول النوبة إليه سليما عن المعارض.

ومن هنا ظهر الإشكال في الوجه الثاني ، فان عدم معارضة الأصل في الملاقي للأصل في الطرف الآخر ليس من جهة دعوى تقدم الأصل الجاري في الطرف الآخر على الأصل في الملاقي رتبة ، بل من جهة أن دليل الأصل لا يشمل الملاقي إلا بعد سقوط الأصل في الملاقى بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر ، لأنه مانع عنه كما عرفت ، وحينئذ فحين تصل النوبة إلى الأصل في الملاقي لا يكون له معارض.

إذن ، فما أفاده الشيخ متين بناء على اختياره من كون المانع من جريان الأصول هو التعارض.

نعم بناء على مسلك صاحب الكفاية من علية العلم الإجمالي التامة ومنعه لجريان الأصل في طرفه مع قطع النّظر عن المعارضة ، يكون الصحيح هو الوجه الأول كما تقدم بيانه. فراجع.

الأمر الثالث : قد عرفت في البحث الفقهي - لهذا التنبيه - انه بناء على الالتزام بان نجاسة الملاقي لأجل السراية الحقيقية ، أو لأجل ان الاجتناب عنه من شئون الاجتناب عن الملاقى ، يكون العلم الإجمالي الأول منجزا للحكم في الملاقي. واما بناء على الالتزام بأنها فرد آخر من النجاسة ثبتت بالدليل الخاصّ ، فلا يكون العلم الإجمالي الأول منجزا ، ولذا يقع الكلام في الجهة الأصولية كما تقدم.

فلو شك في ان النجاسة للملاقي هل هي حكم مستقل آخر ، أو انها

ص: 177

لأجل السراية ، أو كونها من شئون نجاسة الملاقى ، فما هو مقتضى الأصل العملي؟ فهل يقتضي الاحتياط أم البراءة؟.

ذهب المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي (1) وعدل عنه في أجود التقريرات (2) - إلى الأول قياسا على مسألة دوران الأمر بين مانعية شيء وشرطية عدمه في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، فان الشرطية والمانعية تشتركان في الآثار ولا تختلفان الا في أثر عقلي عند الشك في تحقق الشرط أو وجود المانع ، وهي انه مع الشك في تحقق الشرط يحكم العقل بالاحتياط. بخلاف مورد الشك في وجود المانع ، فان العقل يحكم بعدم الاحتياط لأصالة عدم المانع ، فإذا شك في ان الشيء هل أخذ مانعا في الصلاة أو ان عدمه أخذ شرطا فيها ، لا يمكن نفى الأثر المترتب على الشرطية بأصل البراءة ، لأنه أثر عقلي لا شرعي ، والبراءة انما تتكفل رفع المجعولات الشرعية.

وما نحن فيه كذلك ، لعدم الاختلاف بين المسلكين في الجهة الشرعية وهي نجاسة الملاقي على كل تقدير ، وانما الاختلاف بين المسلكين في أثر عقلي في موارد العلم الإجمالي والشك في ملاقاة النجس ، إذ على القول بالسراية أو التبعية لا يتحقق امتثال الحكم في الملاقى إلا بالاجتناب عن الملاقي فيكون العلم منجزا بالنسبة إليه. وعلى القول بالاستقلالية لا يتوقف امتثال الحكم في الملاقى على اجتناب الملاقي فلا يكون العلم منجزا بالنسبة إليه ، فمع الشك لا يمكن نفى هذا الأثر - أعني : وجوب الاجتناب عن الملاقي - بأصالة البراءة ، لأن وجوبه على تقديره عقلي وهو لا يرتفع بالبراءة. هذا محصل ما أفاده قدس سره .

وفيه : انك قد عرفت في مقام بيان السراية ان مرجعها إلى انبساط متعلق

ص: 178


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 89 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 261 - الطبعة الأولى.

الحكم وسعة دائرته ، نظير الجوهر المنحل بالماء ، فالالتزام بالسراية التزام بسعة دائرة الحكم لسعة متعلقه. وهكذا الأمر بناء على الالتزام بالتبعية ، وان الاجتناب عن النجس من شئونه الاجتناب عن ملاقيه ، بحيث يجب الاجتناب شرعا عنه بنفس لزوم الاجتناب عن الملاقى لأنه من مراتبه.

وعلى هذا ، فمرجع الشك في ذلك إلى الشك في انه عند تحقق الملاقاة هل ينبسط الحكم الشرعي ويتعلق بالملاقي أو لا؟ ، فالشك في أمر شرعي لا عقلي ، فيرفع بالأصل ، نظير موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر. فتدبر.

هذا تمام الكلام في مسألة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة.

التنبيه الخامس : في تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات.

وقد بحث الشيخ قدس سره في ذلك فقال : « لو كان المشتبهات مما يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرّجل مضطربة في حيضها بان تنسى وقتها وان حفظت عددها ، فيعلم إجمالا انها حائض ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أم لا؟. وكما إذا علم التاجر إجمالا بابتلائه في يومه أو شهره بمعاملة ربوية ، فهل يجب عليه الإمساك عما لا يعرف حكمه من المعاملات في يومه أو شهره أم لا؟. التحقيق أن يقال : انه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه ، لاتحاد المناط في وجوب الاجتناب. نعم قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات ، كما في مثال الحيض ، فان تنجز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فان قول الشارع ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) ظاهر في وجوب الكف عند

ص: 179


1- سورة البقرة ، الآية : 222.

الابتلاء بالحائض ، إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلب بهذا الخطاب ، كما انه مختص بذوي الأزواج ولا يشمل العزّاب إلا على وجه التعليق ، فكذلك من لم يبتل بالمرأة الحائض. ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف على ترك الوطء في ليلة خاصة ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد ، ولكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدمين » (1). هذا نصّ ما أفاده الشيخ في المقام.

وقد حمل كلامه على التفصيل في التدريجيات بين ما إذا لم يكن للزمان اللاحق دخل في فعلية الخطاب ، وانما كان ظرفا أو قيدا للمتعلق ، بحيث يكون التكليف فعليا على كل تقدير في زمان حصول العلم. وبين ما إذا كان الزمان اللاحق دخيلا في فعلية الخطاب والملاك بحيث لا يصير الخطاب ولا الملاك فعليا إلا عند حصول الزمان اللاحق كمثال الحيض ، ففي مثله لا يكون العلم الإجمالي منجزا ، لأنه لم يتعلق بتكليف فعلي على كل تقدير ، فمراده من الابتلاء دفعة وعدمه هو الإشارة إلى هذين الموردين.

وقد وجّه المقرّر الكاظمي عدم تنجيز العلم الإجمالي في الصورة الثانية بعدم تعارض الأصول المؤمنة والنافية للتكليف فيها ، وذلك لأن ظرف جريان الأصل في كل طرف غير ظرف جريانه في الطرف الآخر ، فلا يتحد زمانها كي تتحقق المعارضة. فمثلا إذا علمت المرأة بحصول الحيض لها في ثلاثة أيام من الشهر ، فهي تحتمل الحيض في كل يوم من أيام الشهر.

ولا يخفى ان الأصل النافي للتكليف في آخر أيام الشهر إنما يجري عند مجيء تلك الأيام ، لأنها ظرف احتمال التكليف فيها ، لعدم ثبوت التكليف قبلها كما هو المفروض ، فالأصل النافي في أول الشهر يجري بلا معارض. وهكذا

ص: 180


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /255- الطبعة الأولى.

الأصل الجاري في آخر الشهر ، إذ لا معنى لجريان الأصل النافي للتكليف أول الشهر في آخر الشهر. إذن فلا تعارض بين الأصلين (1).

وأورد عليه : بان هذا البيان وإن كان موافقا لمقتضى الصناعة العلمية ، لكن يمكن منعه ، لأن العقل مستقل بقبح الإقدام على ما يؤدي إلى تفويت مراد المولى ، فان المقام لا يقصر عن مقام المقدمات المفوتة التي بيّن فيه استقلال العقل بحفظ القدرة عليها مع عدم فعلية الخطاب والملاك ، بل ما نحن فيه أولى من المقدمات المفوّتة ، لاحتمال ان يكون ظرف الوطء في كل زمان هو ظرف الملاك والخطاب.

وجملة القول : انه ذهب قدس سره إلى ان تنجيز العلم الإجمالي من باب وجوب حفظ الغرض والملاك الملزم الّذي يعلم بتحققه إجمالا في أحد الزمانين ، وان لم يعلم فعلا بثبوت تكليف فعلي على كل تقدير (2).

أقول : إن كان مراده قدس سره ان العلم بالغرض الملزم المردد بين الزمانين يوجب امتناع جريان الأصل في كل من الطرفين في نفسه مع قطع النّظر عن المعارضة ، بحيث يكون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز ونفي الترخيص في أحد الطرفين ، فهذا البيان جار في جميع موارد العلم الإجمالي بالتكليف ، لأن العلم بالتكليف يلازم العلم بالغرض الملزم ، مع انه قدس سره لم يلتزم بالعلية التامة.

وإن كان نظره إلى ان العلم المزبور يوجب المعارضة ، فقد عرفت تسليمه عدم تحقق المعارضة ، لأن الزمان الحالي ليس ظرف كلا الأصلين ، فظرف أحدهما غير ظرف الآخر ، فلا معارضة.

وتحقيق الكلام في المقام : انه قد عرفت انه نسب إلى الشيخ انه فصل بين

ص: 181


1- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 109 - 110 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 111 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الصورتين - أعني صورة ما إذا كان الزمان الاستقبالي غير دخيل في فعلية الخطاب كمثال الرّبا ، وصورة ما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب والملاك كمثال الحيض -. ونسب له القول بالتنجيز فيما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب دون الملاك ، ولعله لأجل تفريقه بين مثال الحيض ومثال الرّبا والنذر أو الحلف على ترك الوطء ، مع فرض كون المحذور في التكليف الفعلي بالفعل الاستقبالي ثبوتيا ، فلا يمكن حمل المثالين في كلامه على الواجب المعلق وفعلية الخطاب ، بل على ما كان الملاك فعليا فقط دون الخطاب. فانتبه والأمر سهل.

أما صورة ما إذا كان الزمان دخيلا في فعلية الخطاب والملاك كمثال الحيض.

فالتحقيق : عدم منجزية العلم الإجمالي فيها.

أما على القول بالاقتضاء والالتزام بوجوب الموافقة القطعية من جهة تعارض الأصول ، فواضح لما عرفت من عدم تعارض الأصول لاختلاف ظرف جريانها ، سواء من جهة العلم بالتكليف أم العلم بالملاك والغرض الملزم الّذي يحكم العقل بلزوم تحصيله وقبح تفويته.

وأما على القول بالعلية التامة ، فلأن العلم الإجمالي المردد بين التكليف والملاك الفعلي والاستقبالي لا يصلح للتنجيز.

وذلك ، لأن التكليف اللاحق لا يقبل ان يتنجز بواسطة العلم التفصيليّ الفعلي ، فإذا علم تفصيلا في هذا اليوم بثبوت تكليف فعلي في غد ، فلا يكون العلم التفصيليّ في هذا اليوم منجزا للتكليف في غد وموجبا لترتب العقاب عليه ، بل التنجيز انما يكون للعلم في ظرف التكليف والمقارن له ، ولذا لو تبدل علمه إلى شك في ظرف التكليف أو الغرض ، لا يكون منجزا ، مع انه لو فرض تنجزه سابقا يمتنع ارتفاعه ، لأن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

نعم ، بما انه عند علمه التفصيليّ في هذا اليوم بالتكليف في غد لا يتأتى

ص: 182

لديه احتمال الشك في غد ، لأنه خلف فرض حصول العلم لديه ، فهو يرى فعلا ان التكليف في غد منجز عليه ، لكنه انما يتنجز عليه بالعلم في ظرفه ، فهو يرى انه في ظرفه منجز لا انه فعلا منجز.

ولذا لو فرض ان المنجز الفعلي مما يطرأ فيه فعلا احتمال الزوال لا يمكن الحكم بالتنجيز فعلا ، كما لو قامت الأمارة فعلا على ثبوت التكليف في غد ، وكان هناك احتمال زوال حجية الأمارة في غد أو زوالها نفسها ، لم يحكم بان التكليف في غد منجز فعلا. إذن فالتكليف الاستقبالي يستحيل ان يتنجز بالعلم الفعلي.

وعليه ، فالعلم الإجمالي بتكليف مردد بين الفعلي والاستقبالي ليس علما فعليا بما يقبل التنجيز على كل تقدير ، إذ لا يصلح لأن يكون بيانا على التكليف الاستقبالي ، لأن شأنه لا يزيد على العلم التفصيليّ. وقد عرفت انه لا يصلح لتنجيز التكليف الاستقبالي.

نعم ، لو كان للتكليف الاستقبالي مقدمات وجودية مفوّتة ، كان العلم التفصيليّ موجبا لتنجزه بلحاظ مقدماته ، لأن التكليف الاستقبالي قابل للتنجز فعلا بهذا المقدار ومن هذه الحيثية ، فكان العلم صالحا للتأثير فيه فعلا.

وهذا يختلف عما نحن فيه ، إذ المفروض انه ليس للطرف الاستقبالي مقدمة وجودية فعلية ، بل ليس هناك إلا مقدمة علمية ، ولزومها يتوقف على تنجيز ذي المقدمة ، وهو غير منجز كما عرفت.

ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين مورد حكم العقل بوجوب المقدمة المفوّتة من جهة قبح تفويت الغرض الملزم ، وانه لا ملازمة بين وجوب المقدمات المفوتة وبين تنجيز العلم الإجمالي فيما نحن فيه بلحاظ الغرض الملزم فضلا عن الأولوية التي ادعاها في تقريرات الكاظمي. فالتفت.

وأما صورة ما إذا لم يكن للزمان دخل في فعلية الخطاب ، بل كان الخطاب فعليا وانما الزمان قيد المتعلق.

ص: 183

فقد ذهب الكل إلى منجزية العلم الإجمالي ، لأنه علم بتكليف فعلي على كل تقدير فيكون منجزا ، كما ان حديث المعارضة يأتي فيها لاتحاد ظرف الأصل في كل طرف مع ظرفه في الطرف الآخر. إذن فالعلم منجز على كلا المسلكين في العلم الإجمالي : - أعني : مسلك العلية التامة ومسلك الاقتضاء -.

لكن الإنصاف هو عدم منجزية العلم في هذه الصورة كسابقتها لنفس البيان السابق ، فان العلم بالتكليف لا يصلح لتنجيزه إلا إذا كان متحققا في ظرف العمل نفسه ، ولذا لو علم بالتكليف الفعلي وكان زمان المكلف به متأخرا وزال العلم في وقت العمل لم يكن التكليف منجزا.

وبالجملة : العلم المنجز هو العلم بالحكم أو بالغرض الملزم في ظرف الطاعة والامتثال لا السابق عليه ولا المتأخر عنه ، لأن الحكم المتنجز هو الحكم بثبوت العقاب على تقدير مخالفة الحكم ، وهو انما يكون بلحاظ قيد المنجز في ظرف المخالفة. فالتفت.

وعليه ، فالعلم الإجمالي فيما نحن فيه ليس علما بما يقبل التنجيز فعلا على كل تقدير ، إذ هو لا يصلح للبيانية وتنجيز التكليف المتعلق بما يكون زمانه متأخرا.

ومن هنا ظهر حكم صورة ما إذا كان الزمان دخيلا في الخطاب دون الملاك. فلاحظ ولا تغفل.

ومحصل القول : هو انه لنا ان نقول ان العلم الإجمالي في التدريجات غير منجز بقول مطلق.

هذا بحسب وجوب الموافقة القطعية.

وأما من جهة حرمة المخالفة القطعية ، فالأمر فيه كذلك ، إذ عرفت عدم قابلية العلم الإجمالي للتنجيز ، فكما لا تجب الموافقة القطعية لا تحرم المخالفة القطعية ، سواء قلنا بالعلية التامة أم بالاقتضاء.

ص: 184

نعم ، من يقرّب نفي وجوب الموافقة القطعية بعدم تعارض الأصول لا ينبغي له القول بجواز المخالفة القطعية ، إذ لا ملازمة بينهما ، فان حرمة المخالفة القطعية - على هذا المبنى - ليست من جهة تعارض الأصول كي تنتفي بانتفاء التعارض ، بل العلم علة تامة لها.

فتعليل عدم حرمة المخالفة القطعية بعدم تعارض الأصول - كما جاء في تقريرات الكاظمي - غير وجيه.

ثم ، إنه إذا لم يكن العلم الإجمالي فيما نحن فيه منجزا كما عرفت ، كان المرجع في كل طرف الأصل الجاري فيه.

وعليه ، ففي مثال العلم الإجمالي بابتلائه بمعاملة ربوية إما في يومه أو غده يقع الكلام في جهتين أشار الشيخ رحمه اللّه إلى كلتيهما :

الجهة الأولى : في أنه حيث يشك في صحة المعاملة وفسادها ، فهل المرجع عمومات الصحة أو أصالة الفساد؟.

ذكر الشيخ رحمه اللّه أولا : ان المرجع هو أصالة الفساد لا عمومات الصحة ، للعلم بخروج بعض الشبهات التدريجية عن العموم ، لفرض العلم بفساد بعضها ، فيسقط العام عن الظهور بالنسبة إليها ويجب الرجوع إلى أصالة الفساد. ثم قال بعد ذلك : « اللّهم إلا ان يقال : ان العلم الإجمالي بين المشتبهات التدريجية كما لا يقدح في إجراء الأصول العملية فيها كذلك لا يقدح في الأصول اللفظية ، فيمكن التمسك فيا نحن فيه لصحة كل واحد من المشتبهات بأصالة العموم ، لكن الظاهر الفرق بين الأصول اللفظية والعملية ، فتأمل » (1).

أقول : إن عدم صحة التمسك بالعموم في مورد الشك فيما نحن فيه ليس من جهة العلم الإجمالي بفساد إحدى المعاملتين كي يتأتى ما ذكره من الحديث ،

ص: 185


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /256- الطبعة الأولى.

بل من جهة انه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص ، وهو غير جائز ، ولذا يمتنع التمسك بالعموم حتى في الشبهة البدوية.

وظاهر الشيخ رحمه اللّه وإن كان إناطة المحذور في ما نحن فيه بوجود العلم الإجمالي. لكن يمكن ان يكون قوله : « فتأمل » إلى ما ذكرناه من كون المورد من موارد الشبهة المصداقية ، فلا يتأتى فيه حديث العلم الإجمالي والفرق بين الأصول اللفظية والعملية.

وعلى هذا فلا يتجه رمي كلامه بالفساد كما جاء في تقريرات الكاظمي (1). فالتفت ولا تغفل.

الجهة الثانية : انه حيث يشك في حلية المعاملة وحرمتها لاحتمال انها ربوية ، فتكون مجرى لأصالة الحل. وحينئذ يقع الكلام في ان أصالة الحل هل تكون حاكمة على أصالة الفساد أو لا؟ ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى الأول في عموم المعاملات ، وان لم يلتزم به في فرض المسألة ، باعتبار ان فساد الرّبا ليس ناشئا من الحكم التكليفي.

وبالجملة : التزم قدس سره بان الحلية التكليفية تلازم الحلية الوضعيّة.

ومحصل ما جاء في تقريرات الكاظمي في تقريبه يرجع إلى وجهين :

الأول : ان حرمة المعاملة بما انها آلة لإيجاد النقل والانتقال لا بما هي عقد لفظي. وبعبارة أخرى : حرمة المعنى الاسم المصدري باعتبار صدوره من العاقد بما انها تستتبع الفساد ، لأنها تستلزم نفي السلطنة شرعا ، كان نفيها بأصالة الحل موجبا لنفي أثرها وهو الفساد أو عدم السلطنة.

الثاني : انه كما ان حرمة المعاملة تستلزم الفساد كذلك الحلية التكليفية للمعاملة بالنحو المزبور تقتضي الصحة.

ص: 186


1- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 113 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولأجل ذلك يلتزم بدلالة آية : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) على صحة البيع ولو مع إرادة الحلية التكليفية منها (2).

وفي كلا الوجهين منع.

أما الأول : ففيه - بعد تسليم ما أفاده من اقتضاء النهي للفساد -.

أولا : ان الترتب بين الفساد والنهي أو عدم السلطنة والنهي ليس ترتبا شرعيا كي ينتفي بانتفاء موضوعه ، بل هو - بحسب ما أفاده - ترتب عقلي نظير التلازم بين حرمة الشيء وعدم وجوبه. فدليله انما يتكفل الملازمة عقلا بين الحرمة وعدم السلطنة باعتبار عدم إمكان تصور الجمع بينهما ، إذن فلا ينتفي الفساد بانتفاء الحرمة بالأصل.

وثانيا (3)3) : انه لو فرض كون الترتب شرعيا ، فأصالة الحل انما تنفع في نفى الفساد لو فرض ان دليلها يتكفل جعل الحلية بلحاظ جميع آثارها.

أما لو فرض ان دليلها انما يتكفل جعل الحالية ونفي الحرمة بلحاظ خصوص المعذرية وعدم العقاب ، كما يحتمل قويا ذلك ، فلا يترتب عليها نفى الفساد.

وأما الثاني : ففيه - مضافا إلى ما ورد على الأول - : انه لا تلازم بين الحلية التكليفية والصحة - لو سلمت الملازمة بين الحرمة والفساد - للقطع بحلية كثير من المعاملات الفاسدة كالمعاملة الغررية ونحوها ، فانه يكشف عن عدم الملازمة بين الحلية والصحة.

وأما فهم جعل الصحة من آية حلّ البيع ، فهو من جهة ان نفس التصدي

ص: 187


1- سورة البقرة. الآية : 275.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 115 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- قد يقال بإمكان الرجوع إلى استصحاب عدم الحرمة في نفي الفساد. فلا حاجة إلى أصالة الحل كي يأتي الإشكال المذكور. فتأمل. منه عفي عنه.

لبيان حليته تكليفا ظاهر عرفا في أنه نافذ وصحيح ، كما لا يخفى. فتدبر.

التنبيه السادس : في الكلام عما إذا كان في أحد الأطراف أصول طولية دون الآخر. فانه بناء على الالتزام بتعارض الأصول ومنجزية العلم الإجمالي من جهة الموافقة القطعية بسبب المعارضة ، يقع الكلام في ان المعارضة هل تكون بين مجموع الأصول الطولية في طرف والأصل المنفرد في الطرف الآخر ، أو انها تكون بين الأصل المنفرد في طرف والأصل المتقدم رتبة في الطرف الآخر ، فيكون الأصل المتأخر في ذلك الطرف رتبة سليما عن المعارض ، فلا مانع من جريانه؟.

ومثال ذلك : ما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، وكان أحدهما متيقن الطهارة قبل العلم الإجمالي دون الآخر ، فان متيقن الطهارة مجرى لأصلين الاستصحاب وقاعدة الطهارة ، وهي في طول الاستصحاب لحكومته أو وروده عليها. وأما الإناء الآخر ، فهو ليس مجرى إلا لقاعدة الطهارة.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى القول الأول ، فالتزم بمعارضة مجموع الأصول الطولية المرخصة في طرف للأصل المنفرد في الطرف الآخر.ببيان : ان تعارض الأصول بتعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها الّذي ينافى بنفسه المعلوم بالإجمال ، والمجعول في كل من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة المشكوك ، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة لكلا الإناءين.إذن فمؤدى الاستصحاب وقاعدة الطهارة في طرف يعارض مؤدى قاعدة الطهارة في الطرف الآخر فيتساقطان في عرض واحد.

وبالجملة : المحذور في عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي يرجع إلى مقام الثبوت ، وهو منافاة الترخيص في كلا الطرفين للمعلوم بالإجمال ، فلا ينفع حديث الحكومة والطولية ، وليس يرجع إلى مقام الإثبات ، حتى ينفع حديث حكومة أحد الأصلين على الآخر.

نعم لو كان أحد الأصلين سببيا والآخر مسببيا ، كان طرف المعارضة

ص: 188

خصوص الأصل السببي ، فلا مانع من جريان الأصل المسببي عند سقوط السببي بالمعارضة ، لعدم المعارض ، كما تقدم في مسألة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ،. لأن المحذور في جريان الأصلين هناك إثباتي لا ثبوتي (1).

وهذا البيان مندفع ، وذلك لأن المحذور في جريان كلا الأصلين المنتهى إلى المخالفة القطعية العملية وإن كان ثبوتيا ، لكن المحذور في جريان أحدهما المنتهى إلى عدم الموافقة القطعية ليس ثبوتيا ، إذ لا محذور فيه عقلا بنظره قدس سره ، وإنما هو ناشئ من المعارضة بين إطلاقي الدليلين الشاملين لكلا الطرفين الناشئة من عدم الترجيح بلا مرجح.

ومن الواضح أن التعارض انما يكون بين الأدلة بما هي أدلة ، فالمحذور المستلزم لسقوط الأصلين إثباتي لا ثبوتي ، وحينئذ ينفع فيه حديث الطولية ، إذ مع وجود الأصل الحاكم لا تصل النوبة إلى الأصل المحكوم ولا يكون إطلاق دليله شاملا للمورد في حد نفسه ، فلا معنى لأن يكون طرف المعارضة ، فلا تصل النوبة إليه إلا بعد سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر.

وعليه ، فهو يجري بلا معارض. وبذلك يظهر أن القول الثاني هو المتعين.وهذا البيان يختلف عما تقدم منّا في مناقشة المحقق النائيني في مبحث الاضطرار إلى المعين ، فراجع. وكلاهما صالح لردّ ما التزم به قدس سره . فتدبر.

التنبيه السابع : في الكلام عن استصحاب الاشتغال.

لا يخفى عليك ان ما ذكرناه في أحكام العلم الإجمالي وخصوصياته يتأتى في مطلق العلم الإجمالي بالتكليف تحريما كان أو إيجابا. إلا في بعض الخصوصيات التي نبهنا عليها في بعض التنبيهات (2).

ص: 189


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 48 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- راجع بحث الشبهة غير المحصورة.

ولكن العلم الإجمالي بالحكم الإيجابي بين طرفين - كالعلم بوجوب صلاة القصر أو التمام عليه - يختص ببحث تعرض له الشيخ (1) وغيره ، وهو انه إذا جاء بأحد الطرفين كصلاة القصر ، فهل يمكن إجراء استصحاب الوجوب المعلوم سابقا ثبوته عليه والمشكوك في بقائه فعلا بعد إتيان أحد الطرفين أو لا يمكن (2)؟.

فنقول - وعلى اللّه سبحانه الاتكال - : ان الحديث يقع في جهتين :

الأولى : في استصحاب الفرد المردد من الوجوب ، بحيث تترتب عليه آثار الفرد.

والثانية : في استصحاب كلي الوجوب المتحقق في ضمن أحد الفردين.

أما استصحاب الفرد المردد ، فهو مما لا يصح إجراؤه ، وذلك لأن الاستصحاب يتقوم بركنين أحدهما اليقين بالحدوث. والآخر الشك في البقاء. وكلاهما مفقودان في المقام.

أما الشك في البقاء فلوجهين - أشار إليهما المحقق النائيني في كلامه -.

الأول : ان البقاء عبارة عن الوجود بعد الوجود وعلى تقدير الحدوث ، ولا شك في المقام في بقاء الفرد الحادث المردد على أي تقدير من تقديري حدوثه ، لأنه على أحد تقديريه مقطوع العدم وعلى التقدير الثاني مقطوع البقاء.

الثاني : ان المطلوب في باب الاستصحاب هو تحقق الشك في بقاء الحادث على ما هو عليه وعلى جميع تقادير حدوثه ، بحيث يحاول في الاستصحاب الحكم ببقاء ذلك الحادث على ما هو عليه ، ومن الواضح انه لا شك في الحادث

ص: 190


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 268 - الطبعة الأولى.
2- وقد أطال المحقق النائيني رحمه اللّه في تحقيق هذا المبحث ، وتعرض سيدنا الأستاذ ( مد ظله ) في مجلس الدرس أولا إلى كلامه ، ثم عقّبه بتحقيق المطلب ، ونحن لا نرى لزوما في نقل ما أفاده النائيني قدس سره ، بل المهم بيان تحقيق المبحث وبه يتضح كلام الاعلام صحة وفسادا.

- المطلوب إبقاؤه - على كلا تقديريه ، لأنه على أحد تقديريه مرتفع قطعا ، وعلى التقدير الآخر باق قطعا. فلا شك في بقاء ما تحقق سابقا على ما هو عليه وكيف ما كان.

وأما اليقين بالحدوث ، فعدمه واضح ، بناء على الالتزام بان العلم الإجمالي متعلق بالجامع وعدم سرايته إلى الخصوصية أصلا ، إذ الفرد لا يقين به كما لا يخفى.

ولا ندري لما ذا لم يتعرض المحقق النائيني رحمه اللّه إلى هذا الإيراد مع التزامه بالمسلك المزبور.

وأما بناء على ما اخترناه من تعلق العلم بالجامع وسرايته إلى الخارج وارتباطه بواقع معين خارجا ، بحيث يكون الجامع مشيرا إليه ، ويمكن ان يقول العالم إجمالا : ان هذا هو معلومي بالإجمال لو انكشف له الحال ، بناء على هذا المسلك قد يتخيل تعلق اليقين بالفرد المردد. لكنه تخيل فاسد ، لما عرفت سابقا من ان الفرد المردد لا علم به بخصوصياته ، بل بمقدار الجامع المشير إليه.

وعليه ، فالفرد الواقعي متعلق لليقين من جهة واحدة مجملة ومجهول من سائر الجهات المميزة لها.

ومن الواضح : ان ظاهر اليقين بالشيء المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين به بقول مطلق وبجهاته المميزة ، بحيث يصح ان يقال له عرفا انه معلوم ، والمعلوم بالإجمال لا يقال له انه معلوم ، بل يقول القائل انه لم يكن يدري به ، ولذا قلنا انه مردد لدى العالم ، وهو يعني انه ليس بعالم به ، فالحرمة الثابتة للإناء النجس الواقعي المردد بين إناءين لا يقال عرفا إنها معلومة.

وبعبارة أخرى : ان المعلوم شخصا هو الكلي المرتبط بواقع معين خاص ، والمنطبق على أحد الفردين خاصة واقعا والمتشخص به في الواقع.

أما المنطبق عليه فليس معلوما وان ارتباط به المعلوم ، إذ عرفت ان العلم

ص: 191

الإجمالي هو العلم بالجامع. غاية الأمر انه يرتبط بالخارج وينطبق عليه ، وهذا لا يصحح تعلق العلم بالخارج ، بحيث يقال عرفا انه معلوم. بخلاف موارد العلم التفصيليّ ، فانه يقال انه معلوم بنفسه وان كان مجهولا من سائر جهاته.

فالواقع في مورد العلم الإجمالي معلوم لكنه بالإجمال ، وهو كما عرفت يرجع إلى تعلق العلم بالصورة الإجمالية الجامعة ، فالعلم لم يتعلق بالفرد ، بل تعلق بالكلي وهو غير الفرد.

والنتيجة : ان استصحاب الفرد المردد مما لا يمكن الالتزام به لفقدانه ركني الاستصحاب.

وأما استصحاب الكلي المتحقق في ضمن أحد الفردين ، فلا إشكال فيه من جهة اليقين بالحدوث والشك في البقاء فانهما متوفران فيه.

ولكن يشكل من جهة أخرى ، وهي : ان المقصود به.

إن كان إثبات وجوب الفرد الباقي الّذي لم يأت به المكلف فهو أصل مثبت.

وإن كان المقصود به إثبات لزوم الخروج عن عهدة التكليف ، فهو ثابت بقاعدة الاشتغال الثابتة بمجرد الشك ، فلا حاجة في ذلك إلى الاستصحاب لأنه لغو ، أو تحصيل للحاصل ، بل قيل انه أردأ أنحاء تحصيل الحاصل ، لأنه من باب إحراز موضوع الأثر الثابت لما هو محرز بالوجدان بالتعبد.

وهذا إشكال ذكره المحقق النائيني على الاستصحاب هنا ، وفي موارد البراءة ، فذهب إلى : انه لا مجال لإجراء استصحاب البراءة لإثبات عدم العقاب لترتبه على مجرد الشك ، فيكون الاستصحاب لإثبات ذلك تحصيلا للحاصل ، بل من أردأ أنحائه.

وقد يقال : ان الاستصحاب هاهنا وارد على قاعدة الاشتغال ، لأن موضوع القاعدة هو الضرر المحتمل ، وهي ثابتة بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل.

ص: 192

ومن الواضح انه باستصحاب التكليف يرتفع احتمال الضرر للقطع به بعد القطع بالتكليف تعبدا. فالأثر وان اتحد ، لكن لا مانع من جريانه بعد انتفاء قاعدة الاشتغال به لارتفاع موضوعها ، وإلا لأشكل الأمر في كل وارد ومورود متفقين في الأثر وهو خلاف المتسالم عليه عند الكل.

وبمثل ذلك يقال في استصحاب عدم التكليف وانه وارد على قبح العقاب بلا بيان ، لأنه يكون بيانا على العدم فيرتفع اللابيان. إذن فلا لغوية فيه وليس هو من تحصيل الحاصل ، فضلا عن ان يكون من أردإ أنحائه.

ويمكن المناقشة في هذا القول :

أولا : بان قاعدة الاشتغال ليست بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل ، لما عرفت - في مبحث البراءة العقلية في تفسير كلام الشيخ - من أن وجوب دفع الضرر المحتمل على تقدير ثبوته يتفرع على تنجيز التكليف الموجب لاحتمال الضرر ، إما بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال قبل الفحص أو بقيام الدليل على وجوب الاحتياط في الشبهة ، فالتنجيز في مرحلة سابقة على وجوب دفع الضرر المحتمل ، وقاعدة الاشتغال ترجع إلى الحكم بتنجز التكليف وثبوت العقاب على مخالفته.

ومن الواضح ان تنجز التكليف في كل من الطرفين فيما نحن فيه ناشئ من العلم الإجمالي بالتكليف واحتمال انطباقه على كل طرف من أطرافه - سواء أقلنا بالعلية التامة أم بالاقتضاء وتعارض الأصول - ، فمجرد حدوث العلم يوجب الحكم بالتنجيز وترتب العقاب على مخالفته ، وهذا هو معنى قاعدة الاشتغال فيما نحن فيه. ولا يخفى ان الاستصحاب لا يرفع موضوعها ، إذ هو لا يرفع العلم السابق ، كيف؟ وهو يتقوم بثبوته. كما لا ينفي أو يثبت الانطباق ، بل غاية ما يثبت هو التعبد بثبوت الحكم بقاء ، وهو لا يزيد على العلم به ، وقد عرفت ان العلم الحادث دخيل في تحقق القاعدة لا رافع لها. مع أن الأثر العقلي يترتب على

ص: 193

مجرد حدوث العلم بالتكليف للزوم الخروج عن عهدته ولو حصل الشك بعد ذلك في بقائه ، كما عرفت ذلك في مبحث الاضطرار فراجع. ولعل هذا هو مقصود المحقق النائيني من ان الأثر يترتب على مجرد الحدوث ، فإحراز البقاء لا فائدة فيه.

وثانيا : لو سلمنا ان قاعدة الاشتغال بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل لا بملاك التنجيز ، فالاستصحاب لا يوجب القطع بالضرر.

أما بناء على انه لا يتكفل سوى التنجيز والتعذير فواضح جدا ، إذ هو يتكفل بيان ثبوت العقاب على الواقع لو كان ثابتا ، وهذا لا يزيد على ما هو ثابت في نفسه بواسطة العلم الإجمالي واحتمال الانطباق ، فلا يرفع موضوع قاعدة الاشتغال.

وأما بناء على تكفله جعل حكم ظاهري مماثل للواقع ، فلأن العقاب في مورده على مخالفة الواقع لو صادفه ، ولا عقاب على مخالفة الظاهر لو لم يصادف الواقع. وعليه فهو لا يفيد أكثر من تنجيز الواقع ، فلا يكون واردا على قاعدة الاشتغال.

نعم ، قد يتوهم حكومة الاستصحاب على قاعدة الاشتغال ، لأنها وان تكفلت بيان احتمال الضرر ، لكن بلسان إثبات الواقع وثبوته.

ولكنه توهم فاسد ، إذ لا معنى للحكومة في باب الأحكام العقلية ، بل هي تختص بالأدلة اللفظية الشرعية.

نعم ، إذا التزم بثبوت العقاب على مخالفة الحكم الظاهري وعدم تعدد العقاب مع موافقة الواقع للظاهر ، يكون المورد - بالاستصحاب - من موارد القطع بالعقاب - إذ لو التزم بالتعدد ، فالعقاب على الواقع يكون محتملا لا مقطوعا ، كما لا يخفى وجهه فانتبه - ، نظير موارد العلم التفصيليّ بالحكم الشرعي فلا موضوع لقاعدة الاشتغال حينئذ ، ولكنه مبنى فاسد لا نلتزم به.

ص: 194

وجملة القول : ان مبنى قاعدة الاشتغال على حدوث اليقين بالتكليف واحتمال انطباقه على كل طرف ، والاستصحاب لا يتصرف في شيء من ذلك. ولو فرض كون الشك في البقاء دخيلا أيضا في قاعدة الاشتغال ، بمعنى عدم الدليل على التكليف وجودا أو نفيا ، فهو انما يسلم في مورد العلم التفصيليّ بالحكم الشخصي ، فان قاعدة الاشتغال تنشأ من الشك في الفراغ ، إذ قبل الشروع في الامتثال لا معنى لقاعدة الاشتغال للعلم بالحكم. لا فيما نحن فيه مما كانت قاعدة الاشتغال تتقوم بالعلم الإجمالي والشك في الانطباق ، فان قاعدة الاشتغال لا تتقوم بعدم الدليل على ثبوت التكليف كالاستصحاب ، إذ الاستصحاب غاية ما يثبت التكليف الإجمالي ويرفع الشك في بقاء الكلي ، أما تعيين انطباقه فلا يتكفله فلا يستغنى به عن قاعدة الاشتغال بل نحتاج إليها ، ولذا قلنا انه لا يزيد على العلم بالحدوث. نعم هي تتقوم بعدم الدليل على ارتفاع التكليف ، وهو محرز بالوجدان ولا ربط للاستصحاب فيه كما لا يخفى. هذا مضافا إلى ان الاستصحاب لا يرفع الشك في العقاب لأنه إنما يتكفل تنجيز الواقع لا أكثر.

فظهر بذلك : ان الاستصحاب لا مجال له فيما نحن فيه - وفاقا للشيخ - لأنه من تحصيل الحاصل ، أو أردأ أنحائه كما قيل.

نعم ، لو فرض ان للاستصحاب أثرا آخر غير أثر قاعدة الاشتغال ، فلا مانع من جريانه بلحاظ ذلك الأثر ، إذ لا يكون حينئذ لغوا ، كما التزم به الشيخ في استصحاب البراءة إذا ترتب عليها أثر غير الأثر العقلي بملاك قبح العقاب بلا بيان (1).

ومن هنا يظهر أنه لا وقع للإيراد على الشيخ في التزامه بإجراء الاستصحاب في مورد الشك في بقاء التكليف الشخصي ، كاستصحاب وجوب

ص: 195


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /204- الطبعة الأولى.

الظهر عند الشك في أدائها. ببيان : انه يكفي في لزوم الخروج عن عهدتها قاعدة الاشتغال المترتبة على حدوث اليقين بالوجوب والشك في الامتثال.

وجه ظهور فساد هذا الإيراد : ما أشار إليه الشيخ رحمه اللّه في ذيل كلامه من : انه يترتب على استصحاب التكليف الشخصي أثر آخر ، وهو جواز الإسناد والاستناد بحيث يصح له الإتيان بصلاة الظهر بنية الظهر جزما ، وهذا مما لا يترتب على قاعدة الاشتغال ، كما لا يثبت في موارد استصحاب الكلي الّذي هو محل الكلام.

هذا غاية ما يمكن أن نقوله في هذا المجال ، فتدبره فانه لا يخلو من دقة.

ص: 196

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
اشارة

الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين يقع في صورتين :

الصورة الأولى : في الشك في الجزئية.

كتردد الواجب بين كونه واجد السورة أو فاقدها.

ولا يخفى عليك ان البحث في الأقل والأكثر يكون بعد الفراغ عن جهتين :

الأولى : الالتزام بالبراءة في الشبهات البدوية.

الثانية : الالتزام بمنجزية العلم الإجمالي عند دوران الأمر بين المتباينين.

وذلك ، لأن غاية ما يحاوله القائل بالاحتياط في مورد الدوران بين الأقل والأكثر ، هو دعوى عدم انحلال العلم الإجمالي وإلحاق الأقل والأكثر بالمتباينين ، فإذا لم يثبت الاحتياط في المتباينين فلا يثبت فيما نحن فيه ولا مجال لتوهمه.

كما ان غاية ما يحاوله القائل بالبراءة هو دعوى انحلال العلم الإجمالي ، وكون شبهة وجوب الأكثر بدوية ، فإذا لم تثبت البراءة في الشبهات البدوية فلا مجال لتوهمها فيما نحن فيه.

ص: 197

إذن ، فلا بد من فرض هاتين الجهتين مفروغا عنهما ، والبحث في أن الأقل والأكثر من قبيل المتباينين فيجب الاحتياط ، أم من قبيل الشبهة البدوية فلا يجب الاحتياط.

وبعد ان عرفت ذلك ، نقول : إن الوجه الّذي يرتكز عليه القائل بالاحتياط هو أمران :

الأمر الأول : العلم الإجمالي بوجوب العمل المردد بين الأقل والأكثر ، إذ العلم الإجمالي يوجب تنجيز كلا طرفيه فيجب الإتيان بالأكثر.

وأساس القول بالبراءة على الالتزام بانحلال العلم الإجمالي وعدم تأثيره.

وقد اختلفت كلمات الاعلام في هذا المجال تفصيلا وإطلاقا.

ويمكننا ان نشير إلى المسالك المذكورة في تقريب الانحلال بأربعة وجوه :

الأول : الانحلال في حكم العقل - بمعنى الانحلال الحكمي الراجع إلى عدم تأثير العلم الإجمالي في التنجيز - بقيام العلم التفصيليّ بتنجز الأقل وعدم تنجز الأكثر.

الثاني : الانحلال الحقيقي في حكم الشرع بقيام العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك في وجوب الأكثر.

الثالث : الانحلال الحكمي بجريان الأصل المؤمن في الأكثر بلا معارض ، وهو يبتني على القول بالاقتضاء.

الرابع : الانحلال بواسطة حكومة دليل البراءة على أدلة الأجزاء والشرائط ، وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه اللّه .

وقد نسب إلى الشيخ رحمه اللّه القول بالانحلال في حكم الشرع.

ببيان : ان الأقل معلوم الوجوب تفصيلا إما بالوجوب النفسيّ أو المقدمي الغيري ، والأكثر مشكوك الوجوب فينحل العلم الإجمالي.

ص: 198

واستشكل فيه : بعدم الأثر العملي العقلي للوجوب الغيري لعدم قابليته للتنجز ، وبأنه قدس سره لا يلتزم باتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري (1).

والّذي يظهر لنا ان نظر الشيخ رحمه اللّه إلى الانحلال في حكم العقل لا في حكم الشرع.

وقد يقرّب الانحلال في حكم العقل بدوا : بان الأقل منجز على المكلف وفي عهدته قطعا سواء كان هو الواجب أم كان الأكثر هو الواجب. بخلاف الأكثر. فانه لا يعلم بوجوبه فلا يكون منجزا ، وبذلك ينحل العلم الإجمالي بلحاظ أثره العقلي وهو التنجيز ، فلا يؤثر في تنجيز الأكثر.

ولكن صاحب الكفاية ذهب إلى استحالة الانحلال المزبور ، لأنه يستلزم الخلف ، كما انه يستلزم من فرض وجوده عدمه. وذلك.

أما استلزامه الخلف ، فلأن تنجز الأقل على كل حال يتوقف على فرض تنجز الأكثر ، إذ لا يكون الأقل منجزا مطلقا إلاّ إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال منجزا مطلقا حتى لو فرض تعلقه بالأكثر ، فلو كان تنجز الأقل مطلقا مستلزما لعدم تنجز الأكثر كان خلفا ، لأنه خلاف المفروض ، أو لأنه يلزم ان يكون المعلول للتنجز مانعا عنه ، فيكون الشيء سابقا ولاحقا في آن واحد.

وأما استلزام عدمه من فرض وجوده ، فلأنه إذا كان تنجز الأقل على كل حال مستلزما لعدم تنجز الأكثر كان ذلك مستلزما لعدم تنجز الأقل مطلقا لعدم تنجز التكليف على كل حال ، وهو يستلزم عدم الانحلال ، لأن أساس الانحلال بتنجز الأقل مطلقا. فيلزم من الانحلال عدمه (2).

هذا ما أفاده في الكفاية ، وعليه بنى عدم انحلال العلم الإجمالي وعدم

ص: 199


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 262 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /364- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

جريان البراءة العقلية من الأكثر لقيام البيان.

وهو ينظر إلى ما سلكه الشيخ رحمه اللّه من دعوى الانحلال في حكم العقل التي تظهر من كلماته الأخيرة ، حيث ذهب إلى العلم التفصيليّ بثبوت العقاب على ترك الأقل ، إما لوجوبه لنفسه أو لأنه سبب لترك الأكثر ، بخلاف الأكثر فيكون العقاب عليه عقابا بلا بيان.

ولكن كلام الشيخ ودعواه تبتني على أمر غفل عنه صاحب الكفاية وغيره ، فكان نتيجته هو إيراد الكفاية على دعوى الانحلال بما عرفت.

بيان ذلك : ان التكليف بمركب ذي أجزاء عديدة ..

تارة : يلتزم بان له تنجيز واحد بلحاظ مجموع الأجزاء ، فاما ان يتنجز مطلقا واما ان لا يتنجز كذلك.

وأخرى : يلتزم بأنه قابل للتبعض في التنجيز بلحاظ تعدد أجزائه ، فيكون منجزا من جهة بعض أجزائه ، ولا يكون منجزا من جهة بعض آخر - نظير بطلان العمل ، فانه تارة يستند إلى ترك الكل ، وأخرى يستند إلى ترك أحد الاجزاء خاصة -. فإذا علم المكلف بوجوب بعض اجزاء المركب وجهل البعض الآخر ، فلو ترك الاجزاء المعلومة وظهر وجوب الكل المركب منها ومن المجهول ، كان للمولى ان يعاقبه على ترك الأكثر المستند إلى ترك الاجزاء المعلومة له ، لأن المركب بذلك المقدار مما قام عليه البيان. أما إذا جاء بها فليس له أن يعاقبه على ترك الأكثر المستند إلى ترك الاجزاء المجهولة لأنه عقاب بلا بيان.

ولا يخفى عليك انه مع الالتزام بالتبعض في التنجيز بالتقريب الّذي عرفته ، يتم الانحلال في حكم العقل بلا تأتي محذور الكفاية عليه.

وذلك ، لأنه إذا علم إجمالا بوجوب الأقل أو الأكثر فقد علم بوجوب الأقل تفصيلا ، إما لنفسه أو لكونه جزء الأكثر ، وهذا يستلزم العلم بان ترك الأقل موجب للعقاب إما لوجوبه لنفسه أو لتنجز الأكثر من جهته ، فمخالفة الأقل

ص: 200

معلومة القبح تفصيلا ، فهو منجز على كل حال كان هو الواجب أو كان الواجب الأكثر.

أما الزائد على الأقل ، فلا علم بقبح مخالفته وبترتب العقاب على تركه ، فيكون موردا للبراءة عقلا ، لأن العقاب عليه - يعني على الأكثر من جهته - عقاب بلا بيان ، لسقوط العلم الإجمالي عن صلاحيته للبيانية والتنجيز بعد العلم التفصيليّ بقبح المخالفة في أحد طرفيه وتنجزه.

ولا يخفى انه حينئذ لا مجال لإيراد الكفاية على دعوى الانحلال بما تقدم ، إذ لا خلف في فرض منجزية الأقل على كل حال ، إذ هو مستلزم لفرض تنجز الأكثر من جهة الأقل خاصة لا تنجزه بقول مطلق ، كي يكون فرض عدم تنجزه خلفا. كما انه لا يستلزم من فرض وجود الانحلال عدمه ، إذ الانحلال يبتني على فرض منجزية الأكثر من جهة الأقل المستلزم لعدم تنجز الأكثر من جهة الزائد المشكوك وهو لا يستلزم عدم الانحلال.

نعم ، إيراد الكفاية متجه على تقدير الالتزام بعدم التبعض في التنجيز ، وأن الأكثر إما أن يفرض تنجزه من حيث المجموع أو يفرض عدم تنجزه كذلك ، ولا معنى للتنجيز من جهة دون أخرى.

إذا عرفت ذلك. فاعلم ان أساس كلام الشيخ هو الالتزام بالتبعض في التنجيز كما هو ظاهر صدر كلامه (1) فلاحظه.

وعليه ، فلا يرتبط به إشكال الكفاية ، لما عرفت من انه يبتني على عدم فرض التبعض في التنجيز ، وهو غفلة من صاحب الكفاية عن أساس كلام الشيخ رحمه اللّه .

ولعله مما يؤيد غفلة الكفاية عن نظر الشيخ إلى التبعض في التنجيز هو :

ص: 201


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول 273- الطبعة الأولى.

ان المحقق الأصفهاني - وهو تلميذ صاحب الكفاية - ينقل كلاما لصاحب الحاشية (1) يشير فيه إلى التبعّض في التنجيز ويردّه ولا يشير إلى احتمال ذلك من كلام الشيخ (2). مما يظهر منه انه قد أخذ عدم التبعّض في التنجيز مفروغا عنه في كلام الشيخ. فالتفت.

ثم إنه إذا ظهر لك ان مدار صحة تقريب الانحلال في حكم العقل على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، فلا بد من تحقيق هذه الجهة. فان الّذي نراه هو انحصار مستند القول بالبراءة على الانحلال في حكم العقل بالبيان المتقدم ، وإلا أشكل الأمر في باب الأقل والأكثر ، إذ ستعرف ما في الوجوه المذكورة من الضعف. وعلى كل حال فالذي نبني عليه - تبعا للشيخ - هو التبعض في التنجيز إذ هو مما يشهد له بناء العقلاء في مقام امتثال الأحكام ، ولا مجال لإنكاره.

وعلى هذا فالذي نبني عليه في مسألة الأقل والأكثر هو الانحلال في حكم العقل بالتقريب الّذي عرفته المستلزم لجريان البراءة عقلا ونقلا من الأكثر من جهة الزائد المشكوك جزئيته.

وهذا هو العمدة في هذه المسألة كما سيتضح.

وقد حمل المحقق النائيني رحمه اللّه كلام الشيخ على إرادة الانحلال في حكم الشرع ، لكن لا بالتقريب المتقدم ، بل بتقريب آخر وهو : انه يعلم تفصيلا بوجوب الأقل إما نفسيا استقلاليا أو ضمنيا ، فلا مجال لجريان أصل البراءة فيه لا عقلا ولا شرعا ، بخلاف وجوب الأكثر ، فانه مشكوك ، فلا مانع من إجراء البراءة فيه عقلا وشرعا ، إذ العلم الإجمالي لا يصلح للمانعية بعد انحلاله.

ثم انه أورد عليه : بان العلم التفصيليّ بوجوب الأقل هو عين العلم

ص: 202


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد تقي ، هداية المسترشدين : / 448 - الطبعة الأولى.2/ 262.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 262 - الطبعة الأولى.

الإجمالي بين الأقل والأكثر ، إذ التردد بين الأقل والأكثر يرجع إلى التردد بين أخذ الأقل لا بشرط من جهة الجزء الزائد ، وبين أخذه بشرط شيء الّذي هو عبارة عن الأكثر ، والعلم التفصيليّ بوجوب الأقل إما لنفسه أو ضمنا هو عين ذلك العلم الإجمالي ، فيلزم ان يكون العلم الإجمالي موجبا لانحلال نفسه.

هذا خلاصة ما أفاده في نقل كلام الشيخ والإيراد عليه (1).

وهو متين ، لكن عرفت ان منظور كلام الشيخ ليس إلى الانحلال في حكم الشرع ، بل إلى الانحلال في حكم العقل بالتقريب الّذي عرفته ، فالتفت.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى الانحلال في حكم الشرع ببيان محصله : ان الاجزاء لا تكون واجبة بالوجوب الغيري المقدمي ، بل ليس هناك إلا وجوب واحد نفسي منبعث عن إرادة نفسية واحدة منبعثة عن غرض واحد قائم بالأجزاء بالأسر التي هي عين الكل. وعليه فهذا الوجوب النفسيّ الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة اجزاء مثلا بتعلق واحد وانبساطه بغير ذلك التعلق على الجزء المشكوك غير معلوم ، فالتكليف بالمقدار المعلوم يكون فعليا منجزا وبالمقدار المجهول لا مقتضي لفعليته وتنجزه. وبما ان التكليف المتعلق بالأقل هو الوجوب النفسيّ الّذي يترتب الثواب والعقاب على مخالفته وموافقته فلا تتوقف فعليته وتنجزه على تكليف آخر غير معلوم.

هذا خلاصة ما أفاده قدس سره (2) ومرجعه كما يظهر إلى انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل بالوجوب النفسيّ الاستقلالي أو الضمني ، كما أن مبناه على الالتزام بقابلية الأمر الضمني - في حد نفسه - للتنجز ، بحيث تكون له إطاعة مستقلة. فيكون الأقل معلوم التنجز على

ص: 203


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 152 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 264 - الطبعة الأولى.

كل حال ، والزائد مشكوك فيكون مجرى للبراءة.

وبذلك يختلف عما ذكرناه في تقريب الانحلال ، لأنا وان التزمنا بتنجز الأقل على كل حال لكن من باب تنجز الأكثر من جهة الأقل ، لا تنجزه على كلا تقديريه ولنفسه مع قطع النّظر عن تنجز الأكثر كما هو مبنى كلام الأصفهاني.

ونحن لا نريد أن نطيل في مناقشته والتعرض إلى جهات كلامه كلها فذلك مما لا يهمنا فعلا.

بل نقتصر في مقام المناقشة على بيان ان الأمر الضمني لا إطاعة له مستقلة ، فلا يقبل التنجيز المستقل ، فلا ثواب ولا عقاب على موافقته ومخالفته خاصة ، كما عرفت ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي. كما انه قد تقدم منه هناك ما ينافي ما التزم به هنا ، فراجع.

وعليه ، فالعلم بوجوب الأقل على كل حال لا ينفع في حلّ العلم الإجمالي ، إذ أحد تقديري وجوبه وهو الوجوب الضمني لا أثر له عقلا ولا معنى لتنجزه ، فلا يكون العلم به موجبا لانحلال العلم الإجمالي. فتدبر والتفت.

وقد ذهب المحقق العراقي رحمه اللّه إلى الانحلال في حكم الشرع أيضا ، بل ادعى انه ليس لدينا علم إجمالي في الحقيقة إلا وهما ، وانما الموجود ليس إلا العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك بدوا في وجوب الأكثر. ببيان محصله : ان الاختلاف بين الأقل والأكثر ليس ناشئا من اختلاف الوجوب المتعلق بالأقل مع الوجوب المتعلق بالأكثر ، بل الوجوب المتعلق بالأقل لا يختلف سنخا ووجودا ، سواء سرى الوجوب إلى الأكثر أم لم يسر ، وانما الاختلاف ناشئ من اختلاف حد التكليف من حيث وقوفه على الأقل أو سرايته إلى الجزء الزائد ، ومرجع الضمنية والاستقلالية إلى ذلك.

وهذا نظير الخطّ القصير والطويل ، فانه إذا رسم الشخص الخطّ القصير

ص: 204

ثم أضاف إليه ما يوجب طوله فان واقع الخطّ القصير لم يختلف في كلا الحالين ، وانما الاختلاف نشأ من جهة الحد الخاصّ وثبوت الزيادة ، وهي لا توجب تغيرا في واقع القصير عما كان عليه قبل الزيادة.

وإذا ظهر ذلك ، فعند الشك بين الأقل والأكثر يكون مرجع الشك إلى الشك في ثبوت الزيادة على المقدار الأقل وعدمه ليس إلا ، واما وجوب الأقل فهو معلوم بالتفصيل سواء أكانت الزيادة أم لم تكن ، إذ المفروض ان حقيقته ووجوده واحد لا يختلف على كلا التقديرين ، فلا شك لدينا في وجوب الأقل أصلا وإنما الشك في ثبوت الوجوب للجزء الزائد المشكوك. إذن فليس لدينا إلا علم تفصيلي وشك بدوي (1).

وما أفاده قدس سره - مع قطع النّظر عن دعوى عدم اختلاف سنخ الوجوب الضمني والاستقلالي - لا يمكن المساعدة عليه لوجهين :

الأول : ان الوجوب الضمني للأقل لو كان الواجب هو الأكثر يختلف وجودا عن الوجوب الاستقلالي له لو كان الواجب هو الأقل ، إذ ما أفاده من عدم الاختلاف وجودا نظير الخطّ القصير والطويل انما يتم لو فرض رسم الخطّ تدريجا ، فان ضم الزيادة إليه لا يغير منه شيئا أصلا. لا ما إذا رسم الطويل دفعة ، كما لو كان بواسطة الطابعة ، فان وجود الأقل في ضمن الأكثر يختلف وجوده عن وجوده بنحو الاستقلال. فمع الشك يكون الدوران بين وجودين ، فلا علم تفصيلي بوجود خاص للأقل ، بل يشك بأنه بأي نحو وجد.

والأوامر الشرعية من هذا القبيل ، لأن تعلقها بالمجموع دفعي لا تدريجي ، فلا يحصل العلم التفصيليّ بالوجود الخاصّ للأقل ، بل يتردد أمره بين نحوي وجوده من الاستقلالي أو الضمني.

ص: 205


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 380 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الثاني : انه سلمنا وحدة وجود وجوب الأقل الضمني والاستقلالي ، لكن نقول : ان الوجود الضمني لا أثر له في مقام الطاعة ، فالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل على كلا التقديرين لا ينفع حينئذ في إثبات الانحلال ، إذ لا أثر له عقلا على تقدير كون الواجب هو الأكثر ، إلاّ إذا كان الأكثر منجزا ، ولكن يثبت محذور الكفاية المتقدم. نعم إذا التزم بالتبعض في التنجيز - كما يصرح به في أواخر كلامه - يتم الانحلال ، ومعه لا حاجة إلى إتعاب النّفس في إثبات الانحلال بالنحو المزبور ، بل يتحقق الانحلال ولو اختلفت حقيقة الوجوب الضمني مع حقيقة الوجوب الاستقلالي ووجوديهما.

وبالجملة : الانحلال يتوقف على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، وإلا فلا وجه له. فتدبر.

أما المحقق النائيني قدس سره ، فقد ذهب إلى عدم صحة الرجوع إلى البراءة العقلية للعلم الإجمالي الصالح لتنجيز كلا طرفيه ، ودعوى انحلاله بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل مدفوعة بما تقدم منه ، من ان العلم التفصيليّ المدعى هو عين العلم الإجمالي ، فلا معنى للانحلال به. ولكنه ذهب إلى صحة الرجوع إلى البراءة الشرعية وانحلال العلم الإجمالي حكما بواسطتها ، وذلك لوجهين :

الأول : ان العلم الإجمالي ينحل حكما بجريان الأصل المثبت في طرف والنافي في طرف آخر كما تقدم ، وما نحن فيه كذلك. غاية الأمر ان الأصل غير متعدد ، بل هو أصل واحد يتكفل كلتا الجهتين ، أعني : نفي التكليف في طرف وإثباته في طرف آخر ، وهو أصالة البراءة من الجزء الزائد المشكوك ، فانه بنفسه يثبت إطلاق الأمر ظاهرا وعدم تقيد متعلقه بالجزء المشكوك ، وهو معنى وجوب الأقل ، لأن وجوبه يرجع إلى أخذه لا بشرط وعدم لحاظ شيء زائد معه ، وهذا بنفسه يثبت بأصالة البراءة ، لأنه مفادها لا من باب الملازمة كي يرد عليه أنه يكون من الأصل المثبت. فأصل البراءة كما ينفي الأكثر يثبت الأقل ، وإطلاق

ص: 206

الأمر ظاهرا من جهة الجزء المشكوك.

وهذا هو معنى ما يعبّر عنه بالإطلاق الظاهري.

الثاني : ان لزوم الاحتياط في باب العلم الإجمالي من جهة تعارض الأصول النافية في أطرافه ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك لجريان الأصل في الأكثر بلا معارض. أما جريانه في التكليف بالأكثر فلأنه مشكوك.

وأما عدم معارضته بجريانه في الأقل ، فلأن الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير ، فلا تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه ، فينحل العلم الإجمالي بذلك (1).

هذا توضيح ما أفاده في المقام ، وعبارته من حيث كون مجرى الأصل هو وجوب الأكثر أو جزئية المشكوك مختلفة لا يمكن ان يستفاد منها شيء واحد.

وما أفاده لا يمكننا الالتزام به ..

أما الوجه الأول ، ففيه : ان مجرى البراءة اما ان يكون جزئية المشكوك ، واما ان يكون وجوب الأكثر.

فان كان المقصود إجراء البراءة في جزئية المشكوك. فيدفعه : انه انما يتم لو التزم بالتبعض في التنجيز.

أما إذا لم يلتزم به - كما هو ظاهر كلامه ، ولذا منع من إجراء البراءة العقلية - ، فلا يصح إجراء البراءة في الجزئية ونفي اعتبار الجزء المشكوك بالأصل ، لأن مجرى البراءة على المسالك المختلفة في مفاد حديث الرفع من تكفله رفع الاحتياط أو جعل الإباحة ونفي الإلزام كناية ، لا بد أن يكون مما يقبل التنجيز ومما يكون فيه إلزام وكلفة بنفسه على المكلف.

ومن الواضح ان الجزء لا تنجيز فيه ولا معنى للاحتياط من قبله ، كي

ص: 207


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 163 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ينفي بحديث الرفع ، كما لا إلزام من جهته نفسه ، بل الإلزام به من جهة الأمر بالكل وأنه بعضه ، فلا معنى لجعل الإباحة ونفي الإلزام به كناية.

نعم لو فرض الالتزام بالتبعض في التنجيز كان الجزء قابلا للتنجّز وعدمه فيقبل الرفع ، لكن عرفت أنه خلاف مبناه ، إذ لازم التبعض هو إجراء البراءة العقلية وهو لا يلتزم به.

وإن كان المقصود إجراء البراءة في وجوب الأكثر ، فهي معارضة بإجرائها في وجوب الأقل استقلالا لأنه مشكوك أيضا ، كما ان إجراء البراءة في وجوب الأكثر لا يثبت وجوب الأقل إلا بالملازمة ، وليس حالها حال البراءة من جزئية المشكوك. فانتبه.

وأما حديث إطلاق الأمر وثبوت وجوب الأقل بإجراء البراءة من الزيادة المشكوكة ، فهو غير سديد ، لأن نفي الجزئية ظاهرا - كما التزم به قدس سره - يرجع إلى عدم وجوب الاحتياط من جهة الجزء المشكوك ، وهذا لا يتكفل إثبات إطلاق الأمر ونفي تعلقه بالمقيد الراجع إلى وجوب الأقل ، لأن عدم وجوب الاحتياط لا يتنافى مع وجود الواقع وثبوته.

هذا ، مضافا إلى ان الرفع الظاهري إنما يثبت إطلاق الأمر إذا كان الأمر ثابتا بدليل ظاهري بأن كان الأمر ظاهريا ، كوجوب الاحتياط إذا تردد بين الأقل والأكثر.

أما إذا كان الأمر المردد واقعيا ، فرفع الجزئية ظاهرا في مرحلة الشك وبلسان الغض عن الواقع وقطع النّظر عنه ، لا يثبت إطلاق الأمر الواقعي ظاهرا ، إذ الفرض انه لم ينظر فيه إلى الواقع ، بل أغفل أمر الواقع فيه وقطع النّظر عنه ، فتدبر فانه لا يخلو عن دقة (1).

ص: 208


1- وبذلك يختلف عن الإطلاق الثابت بالأمارة ، فانه إطلاق ظاهري ويحكم على الواقع بأنه مطلق ظاهرا ، إذ حكم الأمارة وان ثبت عند الشك لكن لوحظ فيه إثبات الواقع لا قطع النّظر عنه ، ومثل الأمارة الحكم الاستصحابي ، فافهم.

وأما الوجه الثاني ، ففيه : ان العلم بوجوب الأقل على كل حال لا يمنع من إجراء البراءة فيه ، لأن وجوبه الضمني لا أثر له عقلا وبلحاظه هو ، بل الأثر العقلي في مقام الإطاعة يترتب على الوجوب النفسيّ الاستقلالي ، وهو مشكوك ، فتجري فيه البراءة وتعارض البراءة في الأكثر. فالتفت.

وأما صاحب الكفاية فقد أشرنا إلى انه سلك في هذا المقام مسلكا يختلف عن مسالك القوم ، فانه بعد ما نفي البراءة العقلية لعدم انحلال العلم الإجمالي التزم بجريان البراءة الشرعية ، فتتكفل رفع جزئية المشكوك.

وأورد على نفسه : بان الجزئية لا يمكن أن يشملها حديث الرفع لأنها ليست بمجعولة ولا أثر لها مجعول وحديث الرفع انما يتكفل المجعول أو ذي الأثر المجعول.

وأجاب عن ذلك : بأنها وان لم تكن مجعولة بنفسها إلا انها مجعولة بمنشإ انتزاعها ، وهو الأمر الضمني ، وهو يكفي في صحة تعلق الرفع بها.

ثم أورد على نفسه : بان رفع الأمر الضمني انما يكون برفع الأمر بالكل ، إذ لا استقلال له في الوضع ، وإذا تكفل الحديث رفع الكل فلا دليل على ثبوت الأمر بالفاقد.

وأجاب عن ذلك : بان نسبة حديث الرفع إلى أدلة الأجزاء نسبة الاستثناء ، فكما انه لو ورد ما يدل على جزئية شيء وقيده بحال دون حال لا تثبت الجزئية إلا في ذلك الحال ويثبت الأمر بالفاقد في غيره ، فكذلك أدلة الاجزاء بضميمة حديث الرفع الناظر إليها ، يثبت الجزئية في حال دون حال ، ففي حال الجهل لا جزئية للسورة مثلا. فتدبر.

ص: 209

ثم انه جاء في عبارته الأصلية لفظ : « السورة المنسية ».

وأبدلت في بعض النسخ بلفظ : « المجهولة » ، لأن البحث في مورد الجهل لا النسيان ، ولكن يمكن فرض صحة العبارة الأولى ، بان يكون ناظرا إلى بيان مورد من موارد الجهل بالجزئية ، وهي جزئية المنسي ، بان شك في ثبوت الجزئية حال النسيان ، فمقصوده تطبيق فقرة : « رفع ما لا يعلمون » على المورد ، لا تطبيق فقرة : « رفع النسيان » فان له مبحثا آخر يأتي التعرض إليه إن شاء اللّه تعالى ، وعلى كل فالأمر سهل.

وما أفاده قدس سره غير وجيه ، وذلك لأنه إما ان يلتزم بتكفل حديث الرفع في صورة عدم العلم للرفع الواقعي على حد سائر الفقرات. أو يلتزم بتكفله للرفع الظاهري.

فعلى الأول - كما قربناه في محله - يرد عليه :

أولا : ان الجزئية لا تقبل الرفع ، لأن المرفوع في حديث الرفع ما كان قابلا للوضع شرعا ، فان المراد به على ما حرر في محله هو رفع ما له اقتضاء الوضع لا رفع ما كان ثابتا ، وهذا ظاهر في إرادة رفع ما يقبل الوضع ، والجزئية ليست من الأمور المجعولة ، لأن جعلها مع عدم تعلق الأمر بالمجموع المشتمل على الجزء لا ينفع في لزوم الامتثال ، لأنه من توابع الحكم التكليفي. ومع تعلق الأمر بالمجموع المشتمل على الجزء لا أثر لجعلها ولا حاجة إليه لانتزاعها من تعلق الأمر بالمركب.

وثانيا : لو سلمنا قابلية الجزئية للرفع ولو لم تكن قابلة للوضع ، بدعوى انه لا يعتبر في صحة الرفع سوى كون المرفوع بيد الشارع ولو بالواسطة ، ولا يعتبر قابليته لوضعه مباشرة. فما أفاده من كون حديث الرفع بمنزلة الاستثناء لحكومته على أدلة الاجزاء إنما يسلم فيما إذا كان الدليل الدال على رفع الجزئية خاصا بان يأمره بمركب ثم يقول له إذا عجزت أو عسر عليك الجزء الفلاني فانا

ص: 210

لا أريده فان مثل هذا الدليل ظاهر عرفا في ثبوت الأمر بالباقي عند العجز عن الجزء الخاصّ.

أما مثل حديث الرفع مما كان دليلا عاما يدل على رفع المجهول بهذا العنوان بقول مطلق لا بعنوان الجزئية ، فلا ظهور له في بقاء الأمر بالفاقد لو شمل الجزء المجهول ، بل هو ظاهر في رفع الجزئية برفع الأمر بالكل.

وأما ثبوت الأمر بالأقل الفاقد ، فهو مما يحتاج إلى دليل خاص.

فما أفاده رحمه اللّه من كون دليل الرفع مخصصا لدليل الجزئية ، بحيث يثبت الأمر بالفاقد غير تام ، لأن رفع الجزئية ملازم لرفع الأمر بالكل ولا ظهور للدليل حينئذ في ثبوت الأمر بالفاقد.

وعلى الثاني : ففيه :

أولا : ان رفع الحكم في مرحلة الظاهر لا يتنافى مع ثبوته واقعا - كما قرره في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية -. وعليه فكيف يكون دليل الرفع حاكما على أدلة الجزئية الواقعية وموجبا لتخصيصها في غير حال الجهل؟.

وثانيا : ان مرجع الرفع الظاهري إلى عدم وجوب الاحتياط - كما تقدم تقريبه في محله - فرفع الجزئية يرجع إلى نفي تنجزها.

ومن الواضح انه بناء على عدم التبعض في التنجيز - كما هو مبنى كلامه - لا معنى لمنجزية الجزئية أو رفعها ، بل التنجيز بلحاظ الكل. وعليه فمرجع الرفع ظاهرا إلى نفي منجزية الأكثر ، وهي معارضة بنفي منجزية الأقل ، لأنها مشكوكة على مبنى عدم التبعض في التنجيز (1).

ص: 211


1- ثم انّ سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) عدل عن تفسير عبارة الكفاية بما فسّرها به الاعلام والتي صارت محط الإشكال من الكل وهو أحدهم. فذهب إلى أنّ المنظور في كلامه ليس هو إثبات تعلق الأمر بالباقي بواسطة دليل البراءة ، بل مقصوده ليس إلاّ دفع ما استشكله المستشكل من أنّ رفع الأمر بالجزء يلازم رفع الأمر بالكل فلا دليل على الأمر بالباقي. فانّه أجاب عنه بعد الفراغ عن إمكان توجه الرفع إلى الجزئية وعدم المناقشة فيه ، بأن حديث الرفع يتكفل النّظر إلى أدلّة الاجزاء ، فيوجب تخصيصها بحال العلم - مثلا - ، أو بحال الاختيار بحسب اختلاف فقراته. ومن الواضح انّ ارتفاع الجزئية لازم أعم من ارتفاع الأمر بالمرة ومن تعلقه بالباقي في الحال الخاصّ. إذن فالدليل الدال على رفع الجزئية لا يدل على ارتفاع الأمر بالكل بالمرة. وهذا هو ما يريد إثباته قبالا للمستشكل ، إذ يضم إليه العلم التفصيليّ بوجوب الأقل ويترتب عليه الأثر حينئذ. وجملة القول : انّ النكتة التي يحاول صاحب الكفاية التنبيه عليها ، هو عدم ملازمة رفع الجزئية لارتفاع الأمر بالعمل حتى يحتاج في إثباته إلى أمر جديد ، لا انّه يريد إثبات تعلقه بالباقي بواسطة رفع الجزئية كي يرد عليه ما تقدم ، لأنّه في مقام دفع الإشكال على نفسه ، وقد عرفت انّ الإشكال يرجع إلى ملازمة رفع الجزئية لرفع الأمر بالكل. نعم ، ينحصر الإيراد عليه بأن ما أفاده لا يتم إلاّ بناء على الالتزام بالتبعض في التنجيز وهو واضح ، فالتفت.

وخلاصة ما تقدم : ان جميع ما قيل في وجه الانحلال غير صحيح إلا ما ذهب إليه الشيخ على الوجه الّذي ذكرناه ، وهو يبتني على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، فان الأقل يكون معلوم التنجز ، والأكثر من جهة الزائد مشكوك ، فيكون مجرى لأصالة البراءة عقلا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وشرعا لأدلة البراءة الشرعية ، فانه لا قصور في شمولها إما للجزئية بنفسها لتصور التنجيز فيها لو قلنا بصحة رفعها ، أو لوجوب الأكثر من جهة الزائد خاصة ، لأنه مشكوك التنجز من جهته خاصة.

وظهر ان الوجوه المذكورة في رد لزوم الاحتياط لأجل العلم الإجمالي متعددة :

أحدها : ما ذهب إليه المحقق العراقي من عدم العلم الإجمالي أصلا ، وانه ليس لدينا سوى العلم التفصيليّ والشك البدوي.

ص: 212

والثاني : ما ذهب إليه بعض من انحلال العلم حقيقة إلى علم تفصيلي وشك بدوي - كما استظهر ذلك من عبارة الشيخ أولا -.

والثالث : ما وجهنا به كلام الشيخ من الانحلال في حكم العقل.

والرابع : الانحلال بواسطة جريان البراءة الشرعية خاصة في طرف الأكثر ، إما لأجل عدم المعارضة كما ذهب إليه النائيني. واما لحكومة دليلها على أدلة الاجزاء كما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية.

وقد جاء تحقيق المطلب في الدراسات متشتتا لا يخلو من خلط بين الكلمات. فقد قرب أولا الانحلال في حكم الشرع كالوجه الثاني ، ثم ذكر الانحلال في حكم العقل بنحو الّذي ذكره الشيخ بعنوان انه عبارة أخرى. ثم تعرض لكلام الكفاية ونفاه بدعوى الانحلال بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل بالنحو الّذي يظهر منه اختيار مذهب العراقي المتقدم (1).

وهذا يرد عليه :

أولا : انه قد عرفت ان نكتة الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية هي الالتزام بالتبعض في التنجيز وعدمه لا غير. وان المنظور في كلماتهما الانحلال في حكم العقل خاصة ، فإهمال هذه الجهة مستدرك.

وثانيا : انه لا يلتزم بمستلزمات مختار العراقي ، لأنه نفي تنجيز العلم بجريان الأصل في طرف الأكثر بلا معارض ، مما يكشف عن انه يختار وجود العلم الإجمالي.

ثم أنه ذكر في مقام بيان جريان الأصل بلا معارض : ان الأمر يدور بين إطلاق الواجب وتقييده بالزائد ، والأصل يجري في التقييد لأنه كلفة زائدة ، ولا يجري في الإطلاق لعدم الكلفة فيه.

ص: 213


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 271 - الطبعة الأولى.

وهذا البيان ممنوع ، وذلك لأن الإطلاق والتقييد وان كانا طرفي العلم الإجمالي ، لكن هذا العلم الإجمالي لا يرتبط بالعلم الإجمالي المدعى تنجزه ، إذ العلم الإجمالي المدعى تنجزه هو العلم بتكليف وإلزام مردد. ومن الواضح أنه لا موهم لأخذ الإطلاق في متعلق الإلزام ، بحيث يتحقق الإلزام به ، لأن مرجع الإطلاق إلى عدم دخالة شيء في متعلق التكليف ولا معنى للإلزام بذلك. إذن فالعلم المدعى تنجزه هو العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ، وهذا وان لازم العلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد لكن لا ربط له بمحل الكلام ، فهو نظير العلم الإجمالي بان الزمان فعلا إما ليل أو نهار. إذن فمجرى البراءة على تقديرها هو وجوب ذات الأقل لا نفس الإطلاق ، وهي مما لا مانع من جريانها فيه ، فتعارض البراءة في وجوب الأكثر. فالتفت ولا تغفل. ونكتفي بهذا المقدار من التنبيه على بعض المؤاخذات على الدراسات ، واللّه سبحانه ولي العصمة.

وجملة القول : ان رد القول بالاحتياط لأجل العلم الإجمالي ينحصر في دعوى الانحلال في حكم العقل المبتني على الالتزام بالتبعض في التنجيز. فتأمل جيدا (1).

الأمر الثاني : من وجهي القول بالاحتياط - ما أشار إليه الشيخ في كلامه ، وهو انه لا إشكال في لزوم تحصيل غرض المولى الملزم بحكم العقل ، فيجب الإتيان بما يحققه ، وبما ان الواجبات الشرعية تنشأ من مصالح وأغراض

ص: 214


1- ثم إن سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) ذكر في بداية هذا البحث ضرورة التعرض إلى تحقيق نحو نسبة وجوب الكل إلى اجزائه ، وانه هل يقبل التبعض بحيث يتصف كل جزء بحصة من الوجوب ، نظير اتصاف الجسم الأبيض بالبياض فان كل جزء منه يقال انه أبيض. أو لا يقبل التبعض بحيث لا يتصف كل جزء بالوجوب نظير الحمى العارضة على الجسم ، فانها وان سرت إلى جميع اجزاء الجسم لكن كل جزء منه لا يصلح ان يتصف بالحمى ، فيقال انه محموم؟. ولعل في بعض كلمات الكفاية في مبحث التعبدي والتوصلي ما يشير إلى التزامه بهذا المبنى. ولكنه ( دام ظله ) أغفل تحقيق ذلك ، لأجل عدم أهميته فيما نحن فيه ، وذكر انه سيتعرض له في المحل المناسب الّذي يكون لتحقيقه فيه أثر فانتظر.

واقعية ملزمة في متعلقاتها ، فمع العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر يعلم إجمالا بوجوب غرض ملزم واحد يدور أمره بين ترتبه على الأقل أو على الأكثر ، فيجب الإتيان بالأكثر للزوم تحصيل الغرض الملزم ، وهو لا يعلم إلاّ بإتيان الأكثر وهو غرض واحد بسيط ، فالشك بين الأقل والأكثر إنما هو فيما يحققه لا فيه نفسه ، وهو مجرى الاحتياط بالاتفاق ، لأنّه من موارد الشك في المحصل.

وقد استشكل الشيخ في هذا الوجه بإشكالين :

الأول : ان مسألة البراءة والاحتياط لا تبتني على مذهب المشهور من العدلية القائلين بنشوء الواجبات الشرعية عن مصالح ملزمة واجبة التحصيل عقلا ، بل هي يبحث فيها حتى على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح ، وعلى من يكتفي بثبوت المصلحة في نفس الأمر من العدلية ، فهذا البيان للاحتياط لا ينفع الجميع.

الثاني : عدم التمكن من إحراز تحقق الغرض الملزم بإتيان الأكثر ، وذلك لأن الغرض إنما يترتب على العمل إذا جيء به بقصد الامتثال. وعليه فيحتمل ان يكون الغرض متوقفا على الإتيان به بقصد الوجه لاحتمال اعتباره ، وهو متعذر فيما نحن فيه للجهل بما هو الواجب ، فإحراز تحقق الغرض غير متحقق ، فلم يبق سوى التخلص من تبعة الأمر الموجه إليه ، وقد عرفت الانحلال بلحاظه (1).

وقد التزم صاحب الكفاية بالوجه المزبور ، وردّ وجهي الشيخ.

أما الأول ، فبأن ما أفاده قدس سره لا ينفي لزوم الاحتياط على من يذهب مذهب المشهور من العدلية كالشيخ رحمه اللّه ، وعموم الحديث في مسألة البراءة لجميع المذاهب لا ينافي ذلك كما لا يخفى.

ص: 215


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /273- الطبعة الأولى.

وأما الثاني ، فقد ردّه بوجوه عديدة ...

أهمها : إنكار اعتبار قصد الوجه في العبادة لما أشار إليه في مبحث التعبدي والتوصلي ، من انه من الأمور التي يغفل عنها العامة غالبا. فعدم بيان اعتبارها من الشارع دليل على عدم اعتبارها.

كما انه ذكر إمكان الإتيان بالأكثر بداعي الوجوب ، إذ لا يعتبر تمييز الاجزاء ، إذ المراد وجه الواجب لا وجه الاجزاء ، والأكثر واجب ولو بلحاظ كون الأقل في ضمنه ، إذ الأقل مأخوذ لا بشرط.

وكيف كان فما أفاده الشيخ رحمه اللّه لا يخلو عن مسامحة وهو لا يتناسب مع مقامه العلمي (1).

وقد تصدى المحقق النائيني قدس سره إلى حلّ هذه الشبهة - أعني : شبهة الغرض - والتخلص من وجوب الاحتياط ، ببيان مفصل محصله : ان الغرض من المأمور به ..

تارة : تكون نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة ، وهذا كمطلق موارد المسببات التوليدية إذا تعلق الأمر بأسبابها ، كالأمر بالإلقاء في النار لغرض تحقق الإحراق.

وأخرى : تكون نسبته إليه نسبة المعلول إلى مقدمته الإعدادية ، فلا يترتب الغرض مباشرة على المأمور به ، وانما يحتاج إلى انضمام مقدمات أخرى لا تكون اختيارية ، كالأمر بالزرع لغرض صيرورة الزرع سنبلا. فان ما يصدر من الفاعل من افعال اختيارية من الحرث والبذر والسقي لا يكفي في حصول السنبل ، بل يحتاج إلى مقدمات أخرى غير اختيارية كإشراق الشمس ونحوها من الأمور الإلهية. نعم فعل المأمور مقدمة إعدادية للغرض.

ص: 216


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /364- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فإذا كان الغرض بالنحو الأول ، كان واجب التحصيل ، بل قد يقال ان التكليف متعلق به حقيقة. بخلاف النحو الثاني ، فانه لا يجب تحصيله لخروجه عن الاختيار فلا يتعلق به الأمر.

وبما ان الأغراض والمصالح التي تبتني عليها الأحكام الشرعية من قبيل الثاني الّذي يصطلح عليه بالعلل الغائية ، فانها مما لا تترتب مباشرة على فعل المأمور به بل تتحقق بتوسط مقدمات غير اختيارية ، فتكون نسبة الفعل إليها نسبة المقدمة الإعدادية ، لم يلزم تحصيلها لعدم تعلق الإرادة التشريعية بها. ومما يكشف عن ذلك عدم وقوع الأمر بتحصيل الملك أصلا ، ولو كانت من المسببات التوليدية لتعلق الأمر بها في غير مقام ، لأن المسبب التوليدي هو المأمور به حقيقة ، وتعلق الأمر بسببه لكونه آلة إيجاده.

ثم انه لا أقل من الشك في ذلك ، وهو يكفي في عدم لزوم تحصيلها. هذا محصّل ما أفاده قدس سره (1).

ويرد عليه : ما ذكره جملة من الاعلام من سابق الأيام من أن المأمور به له غرضان غرض أقصى وغرض أدنى. والأول ما تكون نسبته إليه نسبة المعد. والثاني ما تكون نسبته إليه نسبة السبب التوليدي ، وهو تهيئة المكلف وإعداده لحصول الغرض الأقصى ، وهذا مما يلزم تحصيله باعترافه قدس سره ، فإذا شك فيما يحصّله بين الأقل والأكثر لزم الاحتياط ، لأنه شك في المحصّل ، كما إذا شك في ان الاعداد لحصول السنبل هل يتحقق بمجرد البذر أو يتوقف على ضميمة الحرث إليه ، فانه لا بد من الاحتياط. فالتفت.

فالتحقيق أن يقال في حلّ شبهة الغرض : انه لا وجه لدعوى لزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يكن المولى بصدد تحصيله بالأمر به مع التمكن.

ص: 217


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 165 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وما جيء به شاهدا على حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم من أنه لو وجد عبد المولى ولد مولاه في حالة الغرض وكان أبوه المولى نائما فلم يتصد العبد لإنقاذ ولد مولاه مع قدرته على الإنقاذ استحق العقاب والملامة والذم بنظر العقل. لا يصلح شاهدا على الدعوى ، إذ المفروض في المثال عدم تمكن المولى من الأمر لنومه أو غفلته. ولذا لو علم المولى بحالة ولده ، كما إذا كان بمرأى منه ولم يأمر عبده بإنقاذه لم يجب - بحكم العقل - على العبد إنقاذ ولد مولاه وتحصيل غرضه ، وليس للمولى والحال هذه ان يلوم عبده ويؤاخذه على عدم تحصيل غرضه.

وبالجملة : إذا كان الآمر متمكنا من الأمر فلم يأمر لم يكن تحصيل غرضه الملزم واجبا عقلا ، ولا شاهد عليه.

وعليه ، ففيما نحن فيه لا بد من ملاحظة الأمر ومقدار فعليته ، فان المولى وإن تصدى فيما نحن فيه لتحصيل غرضه بالأمر لثبوت الأمر واقعا ، لكن عرفت ان الأمر بالأكثر - لو كان واقعا - لا يصلح للداعوية إلا بالمقدار الّذي تعلق به العلم ، واما الزائد عليه فهو مجهول ، يكون مجرى البراءة عقلا وشرعا في حد نفسه ، ولا معنى لنفي البراءة بواسطة لزوم تحصيل الغرض المردد لعدم لزومه مع تمكن المولى من إيصاله في حال الجهل بجعل إيجاب الاحتياط ، فلا يلزم تحصيل غرض المولى على تقدير كونه يترتب على الأكثر لتمكنه من الأمر بما يحصله ولو بواسطة جعل الاحتياط عند الجهل فلم يفعل ، فلا يلزم تحصيله. وأمره الواقعي لا ينفع بعد عدم العلم به وعدم تنجزه في حق المكلف وعدم داعويته إلا بمقدار خاص وهو الأقل. فتدبر واعرف.

هذا تمام الكلام في إجراء أصالة البراءة في الأقل والأكثر.

ويقع الكلام بعد ذلك في التمسك لإثبات عدم لزوم الأكثر بالاستصحاب.

ص: 218

وقد تعرض له الشيخ رحمه اللّه هاهنا ، كما تعرض له في ذيل الكلام في البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية.

وكما منع جريانه هناك منع جريانه هنا. وتوضيح ما أفاده هاهنا : انه قد يتمسك لإثبات عدم وجوب الأكثر باستصحاب عدم وجوبه. لكنه منعه : بان التمسك بأصالة عدم وجوب الأكثر ان قصد به نفي العقاب على ترك الأكثر ، فقد عرفت فيما تقدم ان انتفاء العقاب لا يحتاج فيه إلى الاستصحاب ، بل مجرد الشك فيه كاف في نفيه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فيكون الاستصحاب من تحصيل الحاصل. وان قصد به نفي آثار الوجوب النفسيّ الاستقلالي للأكثر ، فهو معارض بأصالة عدم وجوب الأقل كذلك.

ثم إنه قدس سره تعرض بعد ذلك إلى وجهين آخرين للاستصحاب.

الأول : أصالة عدم وجوب المشكوك في جزئيته ، وحكم بان حاله أردأ من حال سابقه ، لأن المقصود به ان كان نفي وجوبه الضمني ، فهو يرجع إلى نفى وجوب الكل ، لأن الوجوب الضمني هو عين وجوب الكل وليس مغايرا له. وان كان نفي الوجوب المقدمي ، بمعنى اللابدية ، فهي ليست حادثة ، بل من لوازم ذات الجزء كزوجية الأربعة. وان كان نفي وجوبه المقدمي ، بمعنى الطلب الغيري ، فهو وإن كان حادثا مغايرا ، لكنه لا ينفع في إثبات كون الواجب هو الأقل إلا بنحو الأصل المثبت.

الثاني : استصحاب عدم جزئية الشيء المشكوك للمركب. ومنعه قدس سره بان المقصود إن كان نفي جزئية السورة - مثلا - للمركب الواقعي. فهي ليست من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم كي يستصحب ، بل من الأمور الأزلية. وإن كان نفي جزئية السورة للمأمور به ، فمرجعه إلى نفي وجوب الأكثر المشتمل على هذا الجزء ، وهو لا يثبت تعلق الأمر بالأقل إلا على القول بالأصل المثبت.

ص: 219

ولكنه حاول تقريب هذا الأصل بإرجاع الجزئية إلى مرحلة ثالثة وسط بين مرحلة دخالته في المركب الواقعي وبين مرحلة دخالته في المأمور به. ببيان : ان الماهيات المركبة كالصلاة انما يكون تركبها جعليا ، إذ هي في حد ذاتها اجزاء متباينة ومتنوعة المقولات لا ارتباط بينها في أنفسها ، وانما تصير شيئا واحدا بالاعتبار. بان يلحظ الآمر مجموع هذه الأمور المتباينة أمرا واحدا ، فيكون كل من هذه الأمور جزء ، بمعنى انه لوحظ مع غيره أمرا واحدا.

وعليه ، فإذا شك في جزئية شيء ، فيكون مرجع الشك إلى الشك في ملاحظته مع غيره شيئا واحدا ، وفي تعلق اللحاظ به كذلك ، فيجري استصحاب عدمه ، ويترتب عليه ثبوت كون الماهية هي الأقل ، وذلك لأن الأقل يتقوم بأمرين جنس وجودي ، وهو ملاحظة الاجزاء المعلومة. وفصل عدمي وهو عدم ملاحظة غيرها. واحد هذين الأمرين ثابت بالوجدان وهو الجنس والآخر يثبت بالأصل وهو الفصل ، فيثبت في مرحلة الظاهر كون الواجب هو الأقل (1).

ولا يخفى عليك ان فائدة التمسك بالاستصحاب لأجل إثبات وجوب الأقل ونفي وجوب الأكثر والاهتمام بهذه الجهة ، انما هي دفع من يذهب إلى الاحتياط بواسطة ان العلم الإجمالي وان انحل إلى العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك في وجوب الأكثر ، لكن وجوب الأقل المعلوم تفصيلا مردد بين كونه استقلاليا وكونه ضمنيا ، وإذا كان ضمنيا لا يتحقق امتثاله إلا بإتيان الأكثر. وعليه فمقتضى العلم التفصيليّ باشتغال الذّمّة بالأقل هو لزوم تحصيل الفراغ التفصيليّ عن الأقل ، وهو لا يكون إلاّ بإتيان الأكثر. وقد ينسب هذا البيان إلى صاحب الفصول (2).

ص: 220


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /279- الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 387 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولا يخفى انه إذا قام دليل على كون الواجب هو الأقل دون الأكثر لا يبقى مجال لهذا القول ، لتشخيص ما هو الواجب الّذي يلزم الخروج عن عهدته ، ولا طريق إلى ذلك فيما نحن فيه سوى الاستصحاب.

وقد عرفت توجيه الشيخ رحمه اللّه للاستصحاب بالنحو المتقدم ، ويظهر منه ارتضاؤه ، وإن استشكل فيه تحت عنوان « اللّهم إلاّ ان يقال ... ».

ولكن يمكن ان يورد على استصحاب عدم الجزئية بالتقريب المتقدم : بأن المقصود ..

إن كان نفي الجزئية في مقام اللحاظ بحيث يرجع التركيب إلى لحاظ المجموع امرا واحدا ، فيقصد من نفي الجزئية نفي تعلق لحاظ المولى بالجزء المشكوك.

ففيه : ان اللحاظ ليس من الأمور الجعلية للمولى ، وانما هو من أفعاله التكوينية كما انه ليس موضوعا لحكم شرعي ، والاستصحاب يعتبر ان يكون مجراه امرا مجعولا أو موضوعا لأمر مجعول ، إذ التعبد انما يتصور في الأمور الجعلية لا الأمور التكوينية.

وإن كان المقصود من البيان السابق للتركيب كون التركيب اعتباريا لا لحاظيا ، كما قد يظهر ذلك من التعبير بالمركبات الاعتبارية ، بمعنى ان يعتبر الوحدة للأمور المتباينة لا انها تلحظ شيئا واحدا فقط. فنفي الجزئية يرجع إلى نفي اعتباره جزء.

ففيه : ان اعتبار جزئية الجزء عين اعتبار كلية الكل ، فنفي اعتبار الجزئية يرجع إلى نفي اعتبار كلية الأكثر ، وهو لا يثبت كلية الأقل إلا بالأصل المثبت.

وبالجملة : يرد على هذا التقدير ما يورد على نفي تعلق الأمر الضمني من انه راجع إلى نفي الأمر بالكل.

ولعله هو المقصود مما أفاده الشيخ رحمه اللّه تحت عنوان : « اللّهم إلا ان

ص: 221

يقال ... » فراجع. وسيأتي توجيه كلامه بنحو آخر بعد التعرض لكلام النائيني.

وقد تصدى المحقق النائيني للبحث عن استصحاب عدم الأكثر بصورة مفصلة ، ونحن نذكر جملة من كلامه فنقول : ذكر قدس سره ان المستصحب تارة يكون عدم وجوب الجزء المشكوك. وأخرى يكون عدم وجوب الأكثر المشتمل على المشكوك.

وعلى كلا التقديرين اما ان يراد من العدم هو العدم الأزلي السابق على تشريع الأحكام. واما ان يراد به العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات ، كقبل الزوال بالنسبة إلى صلاة الظهر. واما ان يراد به العدم السابق على البلوغ.

وعلى جميع التقادير لا يجري استصحاب العدم ، لكن يختلف الوجه في عدم الجريان باختلاف الوجوه ، إذ منها ما لا يكون له متيقن سابق. ومنها لا يكون لبقائه أثر شرعي. ومنها ما يجتمع فيه الأمران.

أما استصحاب عدم وجوب الجزء المشكوك بالعدم الأزلي ، فان أريد به العدم النعتيّ وما هو مفاد ليس الناقصة ، فيقال الأصل عدم تعلق الجعل واللحاظ بالمشكوك في ظرف تشريع المركب ، فهو مما لا حالة سابقة له ، إذ لم يسبق زمان شرّع المركب فيه بدون لحاظ الجزء ، بل المركب عند تشريعه إما شرع الجزء المشكوك في ضمن اجزائه أولا. وان أريد به العدم المحمولي وما هو مفاد ليس التامة فهو وان كان متيقنا لأن اللحاظ والجعل أمر حادث مسبوق بالعدم ، إلا انه يرد عليه :

أولا : ان المقصود باستصحاب العدم هو إثبات تعلق الجعل بالأقل وإلا فلا أثر له. ومن الواضح انه لا يمكن إثبات ذلك بالأصل المزبور إلا على القول بالأصل المثبت.

وثانيا : ان عدم الجعل مما لا أثر له أصلا ، لأن الآثار الشرعية بل العقلية

ص: 222

من الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك ، انما تترتب وجودا وعدما على الحكم المجعول لا على الجعل بما هو جعل إلاّ بلحاظ استتباعه للمجعول.

وعليه ، فأصالة عدم الجعل لا أثر لها إلا إذا أريد بها إثبات عدم المجعول ، وهو مما لا يمكن إلا بناء على حجية الأصل المثبت - إذ المجعول ليس من الآثار الشرعية للجعل بل من لوازمه - أو دعوى خفاء الواسطة.

وبالجملة : استصحاب العدم المحمولي لوجوب الجزء المشكوك مثبت من جهتين.

وأما استصحاب عدم وجوب الأكثر بالعدم الأزلي. بتقريب : ان تعلق الجعل بما يشتمل على السورة مثلا أمر حادث فالأصل عدمه. فيرد عليه :

أولا : ما تقدم من عدم الأثر لأصالة عدم الجعل إلا بلحاظ إثبات عدم المجعول فيكون الأصل مثبتا.

وثانيا : معارضته بأصالة عدم وجوب الأقل ، لأن لحاظ الأقل لا بشرط يباين لحاظه بشرط شيء وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم.

ثم أنه ذكر : أن هذا لا ينافي ما تقدم في رد المحكي عن صاحب الحاشية من أن الماهية لا بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فان ذلك باعتبار نفس الملحوظ لا باعتبار نفس اللحاظ ، وإلاّ فهما متباينان ، وكل منهما حادث والأصل عدمه. ثم تعرض إلى سائر صور الاستصحاب ، ونكتفي فعلا بهذا المقدار من كلامه (1).

ولا بد من البحث في جهات عديدة في كلامه :

الأولى : - وهي أهمها - في ما أفاده من عدم جريان استصحاب عدم الجعل

ص: 223


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 395 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لعدم الأثر المترتب عليه ، فانه لا بد من البحث في ذلك ، فانه محل كلام ، وعلى جريان هذا الاستصحاب يبتني عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لابتلائه بالمعارض دائما وهو أصالة عدم الجعل ، كما ذهب إليه المحقق النراقي (1) وتبعه عليه غيره (2).

الثانية : فيما أفاده من عدم جريان أصالة عدم لحاظ الجزء بنحو العدم المحمولي ، من دون تعرض لكلام الشيخ حيث قرّبه بما عرفت من تقوّم الأقل بجنس وجودي وفصل عدمي ، وان استشكل فيه بعد ذلك. فلا بد من الكلام في هذه الجهة ومعرفة مقدار ارتباطها بكلام الشيخ.

الثالثة : في ما أفاده من معارضة استصحاب عدم جعل وجوب الأكثر باستصحاب عدم جعل وجوب الأقل ، مع التزامه سابقا بعدم معارضة أصالة البراءة في الأكثر بأصالة البراءة في الأقل ، فلا بد من معرفة انه هل هناك فرق بين الاستصحاب والبراءة أولا؟.

أما الكلام في الجهة الأولى - وقد عرفت أنها ذات أهمية جدا - ، والّذي نتعرض للكلام فيه فعلا هو خصوص أصالة عدم الجعل وانها هل تجري أو لا تجري لعدم الأثر أو لغيره؟.

أما الجهات الأخرى التي ترتبط باستصحاب الأحكام الكلية ، فالكلام فيها موكول إلى محله.

وكيف كان ، فقد عرفت توقف المحقق النائيني من جريان أصالة عدم الجعل لعدم أثر عملي يترتب عليه ، إذ الأثر العملي الشرعي أو العقلي انما يترتب على المجعول وجودا وعدما ، وعدمه لا يثبت بأصالة عدم الجعل إلاّ بالملازمة

ص: 224


1- النراقي المحقّق ملاّ أحمد ، المستند / 156 - الطبعة القديمة.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 36 - الطبعة الأولى.

وبنحو الأصل المثبت.

وقد قيل في دفع ما أفاده قدس سره وجهان :

الأول : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من ان الأثر غير الشرعي انما لا يترتب على المستصحب الثابت بالاستصحاب إذا كان أثرا لخصوص الوجود الواقعي للمستصحب ، فيقال إن ثبوته بالاستصحاب يبتني على القول بالأصل المثبت لأنه لازم غير شرعي للمستصحب. أما إذا كان لازما وأثرا للمستصحب بوجوده المطلق أعم من الواقعي والظاهري ، ترتب على الاستصحاب قهرا ، إذ يثبت المستصحب ظاهرا فيترتب عليه الأثر ، وذلك نظير وجوب الإطاعة العقلي ، فانه يترتب على الحكم الشرعي الثابت واقعا أو ظاهرا ، فإذا ثبت الحكم بواسطة الاستصحاب ترتب عليه وجوب الإطاعة عقلا.

ولا يخفى ان ترتب المجعول على الجعل كذلك ، فانه يترتب على الجعل بوجوده الواقعي والظاهري ، فالجعل الظاهري يستتبع المجعول ظاهرا.

وعليه ، فنفي الجعل ظاهرا يستتبع نفي المجعول ، لأنه من آثار عدم الجعل الواقعي والظاهري. فلا يكون ثبوته من باب الأصل المثبت.

ولو لا ذلك لما صح استصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ لإثبات المجعول ، مع ان جريانه وترتب المجعول عليه عند تحقق الموضوع من المسلمات ، وذلك كاستصحاب بقاء جعل وجوب الحج على المستطيع مع كون الشخص مستطيعا فعلا ، فانه يترتب عليه ثبوت الوجوب عند تحقق الاستطاعة.

وليس ذلك إلا لما ذكر من ان المجعول لازم للجعل أعم من وجوده الواقعي والظاهري (1).

الثاني : ان الجعل والمجعول متحدان وجودا مختلفان اعتبارا ، كالإيجاد

ص: 225


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 395 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والوجود ، فليس أحدهما غير الآخر. وعليه فاستصحاب الجعل بنفسه إثبات للمجعول ، كما ان استصحاب عدم الجعل بنفسه إثبات لعدم المجعول ، ولا ملازمة ولا ترتب بينهما.

ولو لا ذلك لما صح استصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ لغرض إثبات المجعول في ظرفه ، مع انه من المسلمات غير القابلة للإنكار ، بل عليه يبتني بقاء الشريعة (1).

أقول : الوجهان يشتركان في النقض باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ ، ويختلفان في الحل.

ولكن كلاهما قابل للدفع ...

أما استصحاب عدم النسخ ، فهو - على ما حققناه - لا يرجع إلى الاستصحاب المصطلح ، بل يرجع إلى التمسك بإطلاق دليل كل حكم الدال بنفسه على الاستمرار ، حتى انه لا حاجة أيضا إلى التمسك بما ورد من : « ان حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (2).

ولو سلم انه يرجع إلى الاستصحاب المصطلح كما بنى عليه المحقق النائيني ، فانه بنى على ان طريق إثبات استمرار الأحكام هو استصحاب عدم النسخ (3). فهناك فرق بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.

ولا وجه لكلا الوجهين :

أما ما أفاده المحقق العراقي من ان المجعول وجودا وعدما يلازم الجعل وجودا وعدما أعم من الواقعي والظاهري.

ففيه : انه مسلم في طرف الوجود دون العدم.

ص: 226


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 169 - الطبعة الأولى.
2- أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرّأي والمقاييس الحديث 19.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 511 - الطبعة الأولى.

وذلك لأن مرجع الجعل إلى إنشاء الحكم. ومن الواضح ان الإنشاء بلا منشأ محال ، فالإنشاء يتقوم تكوينا بالمنشإ.

وعليه ، فيمكن ان يقال : كما ان الجعل والإنشاء الواقعي يلازم المنشأ والمجعول واقعا ، كذلك الإنشاء والجعل ظاهرا يلازم المنشأ والمجعول ظاهرا ، إذ لكل إنشاء منشأ ولكل جعل مجعول. فالإنشاء الظاهري يلازم المنشأ ظاهرا ، فاستصحاب الجعل الّذي يرجع إلى ثبوت الجعل ظاهرا يترتب عليه ثبوت المجعول ظاهرا ، فتترتب عليه آثاره العملية العقلية والشرعية.

أما عدم الجعل ظاهرا ، فهو أيضا يلازم عدم المجعول ظاهرا ، كالملازمة بين عدم الجعل واقعا وعدم المجعول واقعا ، لكن مجرد عدم الجعل والمجعول ظاهرا لا ينفع في إثبات المعذورية من الواقع المحتمل ، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع انما هو على نفس الواقع ، فعدم جعل الظاهر جزما لا أثر له في نفى العقاب على الواقع المحتمل.

كما ان مفاد استصحاب العدم ليس مجرد ثبوت عدم الجعل ظاهرا ، إذ هو مقطوع به فلا حاجة إلى الاستصحاب. فيحتاج في مقام المعذورية من الواقع المحتمل إلى التعبد ظاهرا بعدمه باستصحاب أو غيره. ومن الواضح ان التعبد ظاهرا بعدم الجعل في الواقع لا يمكن ان يثبت به عدم المجعول واقعا ، كي يتحقق العذر ، وذلك لأن ثبوت عدم المجعول واقعا بواسطة التعبد بعدم الجعل إما من جهة ان التعبد بعدم الجعل عين التعبد بعدم المجعول ، أو من جهة الملازمة بين التعبد بعدم الجعل والتعبد بعدم المجعول ، أو من جهة الملازمة الواقعية بين عدم الجعل وعدم المجعول.

والأول باطل قطعا كما لا يخفى. والثاني لا وجه له ، إذ أي ملازمة بين التعبد بعدم الجعل والتعبد بعدم المجعول ، إذ يمكن التفكيك بين التعبدين. والثالث يرجع إلى الأصل المثبت وهو باطل.

ص: 227

وبالجملة : إشكال الأصل المثبت يتأتى في استصحاب عدم الجعل دون استصحاب بقائه ، فلا يصح النقض ، كما لا يصح ما أفيد من ان عدم المجعول أثر لعدم الجعل الأعم من الظاهري والواقعي ، إذ عرفت ان التعبد بعدم الجعل لا يترتب عليه التعبد بعدم المجعول ، إذ لا ملازمة بين التعبدين ، فينحصر وجه ترتب عدم المجعول على الاستصحاب عدم الجعل بالملازمة الواقعية بينهما فيرجع إلى الأصل المثبت. نعم عدم المجعول يترتب على عدم الجعل ، لكن عرفت انه لا ينفع في المعذورية ، وان مفاد الاستصحاب هو التعبد بعدم الجعل لا نفس عدم الجعل. فانتبه.

فما أفاده المحقق النائيني من ان أصالة عدم الجعل لا أثر لها إلا بناء على الأصل المثبت متين جدا.

وأما حديث وحدة الجعل والمجعول كوحدة الإيجاد والوجود ، فهو يبتنى على الالتزام بان الإنشاء ليس هو التسبيب للاعتبار العقلائي في ظرفه ، كما هو مسلك المشهور ، بل هو إبراز للاعتبار النفسانيّ الشخصي ، فليس لدينا اعتبار عقلائي ، بل لدينا اعتبار شخصي يبرزه الإنشاء. ومن الواضح عدم انفكاك الاعتبار عن المعتبر ، فالمعتبر موجود من حين الإنشاء لكنه على تقدير ، بمعنى ان مورد الاعتبار هو الأمر على تقدير خاص ، فالموصي حين يوصي بداره لزيد بعد موته ، يعتبر الملكية فعلا لكن لزيد بعد موته ، فالملكية متحققة من الآن. وهكذا الوجوب على تقدير شرط خاص ، فان الوجوب فعلي قبل حصول الشرط بفعلية الإنشاء والاعتبار ، لكن متعلقه امر على تقدير خاص.

وبالجملة : الجعل والمجعول يراهما هذا القائل بمعنى الاعتبار والمعتبر.

ومن الواضح وحدتهما وجودا وتغايرهما اعتبارا.

ونحن نتكلم في مناقشة هذا القول مع قطع النّظر عن أصل مبناه وبطلانه ، فان له محلا آخر قد تقدم إسهاب الكلام فيه فراجع. فنقول : ان

ص: 228

الاعتبار الشخصي يطرأ على الموضوع الكلي كوجوب الحج على المستطيع. ويثبت الوجوب من حين الاعتبار وان لم يكن للموضوع وجود أصلا ، فالوجوب ثابت فعلا قبل صيرورة الشخص مستطيعا ، وبعد الاستطاعة يتصف الشخص بأنه من وجب عليه الحج. ولا يخفى ان هذا الوجوب الحادث غير الوجوب الثابت بمجرد الاعتبار ، إذ ذلك كان ثابتا ولم يكن الشخص متصفا به. وهذا يكشف عن وجود مرحلة أخرى للوجوب هي مرحلة التطبيق الحاصلة عند حصول الموضوع خارجا. ومن الواضح ان هذه المرحلة هي محط الآثار العملية العقلية ، إذ لا أثر لمجرد اعتبار الحكم الكلي مع قطع النّظر عن انطباقه على موضوعه الخارجي.

وعليه ، نقول : إن استصحاب عدم الجعل الكلي لا ينفع في إثبات عدم المجعول بمرحلته الثانية ذات الأثر العملي إلا من باب الأصل المثبت. كما ان استصحاب عدم اللون الأبيض لا ينفع في إثبات عدم المرتبة الخاصة من اللون الأبيض المشكوكة إلا من باب الأصل المثبت.

وبالجملة : يتأتى هاهنا نفس البيان الّذي ذكرناه على تقدير الالتزام بتغاير الجعل والمجعول.

والمتحصل : ان ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه من ان استصحاب عدم الجعل لا أثر له إلا بناء على القول بالأصل المثبت مما لا محيص عنه. هذا مع قطع النّظر عن عدم قابلية العدم للتعبد ، وإلا فالإشكال فيه أوضح. فانتبه.

ثم انه قد أشرنا إلى ارتباط هذا البحث بجريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية. وبيان ذلك بنحو الإجمال : ان الشك في الحكم الشرعي إيجابا كان أو تحريما تارة : يكون في ثبوته لحصة في عرض سائر الحصص ، كالشك في حرمة الصوت مع عدم الترجيع أو الطرب ، مع العلم بحرمة الفرد المشتمل على الترجيع والطرب. وأخرى : يكون في ثبوته لحصة في طول سائر الحصص من حيث الزمان ،

ص: 229

ومرجعه إلى الشك في استمرار الحكم المتيقن حدوثه ، كالشك في بقاء النجاسة للماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه.

ولا يخفى ان الشك بالنحو الأول لا مسرح للاستصحاب فيه ، لأن موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء الحكم واستمراره ، وإنما يجري حديث الاستصحاب بالنسبة إلى الشك بالنحو الثاني ، فيتكلم في إمكان جريان استصحاب النجاسة الثابتة سابقا - مثلا - ، وفي هذا المقام يقع حديث استصحاب عدم الجعل ، فيقال بأنه يعارض استصحاب بقاء الحكم المجعول دائما. ببيان يذكر في محله. ونتيجته يلتزم بعدم جريان استصحاب المجعول لأجل المعارضة دائما.

فإذا ثبت انه لا مجال لاستصحاب عدم الجعل كان استصحاب بقاء المجعول سليما عن المعارض.

إذن فتحقيق صحة جريان استصحاب عدم الجعل وعدم صحته له الأثر المهم في صحة جريان استصحاب بقاء الأحكام الكلية عند الشك في استمرارها وعدم صحته.

وكما يكون لاستصحاب عدم الجعل ارتباط بتلك المسألة ، فان له ارتباطا أيضا بمسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وهي : انه هل يمكن إثبات وجوب الأقل بأصالة عدم الجعل الجارية في خصوص الجزء المشكوك أو لا؟. وسبب الاهتمام في ذلك يبتني على الالتزام بعدم انحلال العلم الإجمالي وجريان قاعدة الاشتغال عقلا في حد نفسها ، فانه إذا كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان بالأكثر لعدم العلم بالامتثال بمجرد الإتيان بالأقل لفرض كون الواجب ارتباطيا ، فلا رافع لذلك إلا قيام الدليل التعبدي على تعيين كون الواجب هو الأقل دون الأكثر ، لكي يرتفع موضوع قاعدة الاشتغال ، إذ بعد حكم الشارع بان الواجب هو الأقل وتعيين تعلق الأمر بالأقل دون الأكثر لا مجال حينئذ

ص: 230

لحكم العقل بالاحتياط ، بل يكون المورد من قبيل موارد جريان قاعدة الفراغ مع العلم التفصيليّ بالتكليف.

ولا يخفى ان هذا يختص بالأقل والأكثر الارتباطيين ، إذ لا مجرى لقاعدة الاشتغال في الاستقلاليين ، كي يحتاج إلى تعيين الواجب في ضمن الأقل. فالتفت.

وعلى كل حال. فقد عرفت ان المحقق النائيني ذهب إلى ان استصحاب عدم الجعل لا يتكفل هذه المهمة ، لأنه أصل مثبت بلحاظ هذه الجهة. ولكنه ذهب سابقا إلى إثبات تعيين الواجب هو الأقل بأصالة البراءة ، وانها تتكفل إثبات الإطلاق الظاهري للمأمور به. ومن هنا قد يورد عليه بالتهافت في كلامه ، إذ كيف تتكفل البراءة تعيين الواجب ولا يتكفله الاستصحاب الا على القول بالأصل المثبت؟.

ولكن يمكن بيان الفرق بين البراءة والاستصحاب : بان المفروض في الاستصحاب كون المستصحب هو العدم بنحو العدم المحمولي ، ومن الواضح انه لا يتكفل تعيين الواجب في الأقل إلاّ بالملازمة العقلية. نعم لو جرى الاستصحاب في العدم النعتيّ ثبت تعيين الأقل ، لأن مفاده ذلك رأسا ، إذ مفاده عدم أخذ الجزء في المركب المأمور به ، ولكن عرفت المناقشة باختلال اليقين السابق الّذي هو ركن من أركان الاستصحاب.

أما البراءة ، فمفادها مفاد الاستصحاب الجاري في العدم النعتيّ. وقد عرفت انه لا إشكال عليه من جهة انه أصل مثبت ، بل الإشكال فيه من جهة أخرى ، وذلك لأن مفادها عدم جعل الجزء المشكوك في المركب المأمور به وعدم ارتباط التكليف المعلوم بالإجمال فيه ، وهذا بنفسه يرجع إلى تعيين كون المأمور به هو الأقل. إذن فلا تهافت في كلامه.

وبذلك يظهر ان ما أفاده المحقق النائيني من عدم جريان أصالة عدم

ص: 231

الجعل فيما نحن فيه للوجهين المتقدمين متين جدا بكلا وجهيه.

ثم انه ظهر مما ذكرناه هاهنا : ان محط نظره قدس سره في حديثه عن إجراء البراءة الشرعية هو إثبات تعيين الواجب ، وانه الأقل ، ليرتفع بذلك حكم العقل بلزوم الاحتياط ، وان غرضه من إثبات الإطلاق الظاهري ذلك ، لا ما سبق منّا في بيان كلامه من رجوع مقصوده إلى انحلال العلم بجريان الأصل المثبت في أحد أطرافه والنافي في الطرف الآخر ، أو انحلاله بعدم تعارض الأصول. بل النكتة التي ينظر إليها قدس سره هو بيان ان مقتضى أصالة البراءة تعيين الشارع المأمور به ظاهرا مما يستلزم ارتفاع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، نظير موارد جريان قاعدة الفراغ الراجع إلى اكتفاء الشارع بما جاء به المكلف ، ولو لم يكن مصادفا للواقع. فانتبه ولا تغفل.

وأما ما أفاده قدس سره من ان جريان أصالة العدم في وجوب الأكثر يعارضه جريان أصالة العدم في وجوب الأقل ، لتباين لحاظ الشيء لا بشرط مع لحاظه بشرط شيء ، فقد أشرنا إلى انه مثار إيراد عليه : بأنه قد تقدم منه ان إجراء البراءة في الأكثر لا يعارضه إجراء البراءة في الأقل ، فأي فرق بين المقامين؟.

وكأنه انتبه إلى هذا الإيراد فذكر : ما تقدم منّا في عدم تباين لحاظ الأقل لا بشرط مع لحاظه بشرط شيء لا يتنافى مع ما ذكرناه هنا من تنافي اللحاظين.وذكر في وجه التنافي وجها مجملا ولأجله أورد عليه المقرر بما يرجع إلى عدم الفرق بين الموردين وان الحق عدم المعارضة.

والصحيح في الجواب عن هذا السؤال : انك عرفت أخيرا ان محط نظره في إجراء البراءة ليس هو نفي وجوب الأكثر ، بحيث يكون وجوب المجموع مجرى البراءة ، بل مجرى البراءة هو نفي اعتبار الجزء المشكوك في المركب المأمور به الّذي يحاول به تعيين كون الواجب هو الأقل.

ومن الواضح ان جريان البراءة في الجزء المشكوك لا يعارض جريان

ص: 232

البراءة في الأقل ، لأنه معلوم الجعل على كل حال ، وانما الشك في أخذه لا بشرط وبنحو الإطلاق ، أو أخذه بنحو التقييد وبشرط شيء.

وهذا بخلاف فرض الاستصحاب ، إذ المفروض ان مجراه عدم وجوب الأكثر بنحو المجموع ، ونفي احتمال وجوب الأكثر بنحو الاستقلال يقابله احتمال وجوب الأقل بنحو الاستقلال وهو مشكوك ، فيكون مجرى لأصالة العدم أيضا. ولا فرق في هذه الجهة بين أصالة البراءة أو الاستصحاب.

فعمدة الفرق بين المقامين ليس راجعا إلى الاختلاف بين البراءة والاستصحاب بل إلى ان المفروض في مجرى الأصل هاهنا يختلف عن مجراه فيما تقدم ، وذلك سبب تحقق المعارضة في ما نحن فيه وعدم تحققها فيما تقدم. فانتبه.

يبقى أمر واحد في كلام المحقق النائيني وعدنا بالتنبيه عليه وهو مدى ارتباط كلامه بكلام الشيخ ، حيث ذهب إلى تقريب جريان أصالة عدم الجزئية بالبيان المتقدم.

وتوضيح ما أفاده الشيخ رحمه اللّه هو : انك عرفت انه فرض للجزئية مرحلة وسطى بين مرحلة الجزئية للمركب الواقعي الراجع إلى دخالة الجزء في المصلحة وبين مرحلة الجزئية للمأمور به ، وهي الجزئية في مقام اللحاظ.

وقد عرفت الإشكال فيه : بان اللحاظ ليس من المجعولات الشرعية كي يصح التعبد بها ، وانما هو من افعال الشارع التكوينية فلا معنى لاستصحابه.

ولكن يمكن توجيه كلامه بما أشار إليه المحقق العراقي قدس سره (1) بإرجاع ما أفاده إلى استصحاب عدم الجعل أو التعبد به ، ببيان : ان للأحكام الشرعية مرحلتين مرحلة الإنشاء والجعل. ومرحلة الفعلية. ولا يخفى ان موضوع الإنشاء والجعل هو لحاظ المركب بنحو الوحدة لتقومه به. فاذن لحاظ كل جزء

ص: 233


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 394 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

مأخوذ في موضوع جعل الحكم له ، فاستصحاب عدم اللحاظ إما يقصد به استصحاب عدم الجعل ، أو يقصد به التعبد بأثر اللحاظ ، وهو الجعل ، فينتفى بواسطة استصحاب عدم الموضوع ، إذ مرجع استصحاب الموضوع إلى التعبد بحكمه.

ونتيجة هذا البيان : انه لا إشكال في استصحاب عدم اللحاظ من الجهة التي عرفتها ، لرجوعه إلى التعبد بعدم الجعل.

أما تقريب إثبات وجوب الأقل به ، فقد تقدم بيانه بان الأقل مركب من جنس وجودي وفصل عدمي ، والجنس الوجوديّ وهو تعلق الحكم بغير المشكوك من الاجزاء محرز بالوجدان ، والفصل العدمي وهي عدم جعل الجزء المشكوك يثبت بأصالة عدم الجعل بنحو العدم المحمولي. ولكن هذا البيان إنما يتأتى لو تم ما ذكر من تقوّم الأقل بأمر وجودي وأمر عدمي بنحو التركيب.

أما إذا ادعى بان الأقل يتقوم بأمرين وجوديين : أحدهما ثبوت الجعل للاجزاء التسعة - مثلا -. والآخر لحاظ كونها لا بشرط بالنسبة إلى العاشر ، لا مجرد عدم لحاظ الجزء العاشر المشكوك. فأصالة عدم جعل الجزء العاشر لا يثبت تقيد الاجزاء الأخرى بالقيد الوجوديّ إلا بالملازمة العقلية فيكون الأصل مثبتا. كما تقدم بيانه في كلام المحقق النائيني.

وبما ان الأمر في الأقل كذلك - أعني انه يتقوم بأمرين وجوديين - ، وذلك لأن الاجزاء التسعة إما ان تلحظ مقيدة بالعاشر أو تلحظ غير مقيدة به ، إذ الإهمال ثبوتا ممتنع عقلا ، فلا يصح ان لا تلحظ مقيدة ولا غير مقيدة.

وعليه ، فيكون الأقل هو المركب الملحوظ عدم تقيده بالجزء العاشر ، فأصالة عدم الجعل بالنسبة إلى الجزء المشكوك لا يتكفل إثبات وجوب الأقل إلا بالملازمة والأصل المثبت. وإلى هذا يرجع ما أفاده الشيخ تحت عنوان : « اللّهم إلا ان يقال .. ».

ص: 234

والّذي يتحصل مما ذكرناه ان ما أفاده المحقق النائيني يوافق مختار الشيخ أخيرا ، فلا اختلاف بينهما.

هذا جميعه حول ما يرتبط بما أفاده المحقق النائيني بالنسبة إلى استصحاب عدم الأكثر بنحو العدم الأزلي.

وأما ما أفاده في استصحاب العدم قبل الوقت في الموقتات ، فلا يهمنا فعلا التعرض إليه لعدم الأثر العملي له فيما نحن فيه. والجهة المهمة فيما ذكره في هذا المقام هو بيان اختصاص الاستصحاب بلحاظ الوقت باستصحاب عدم المجعول ، ولا يتأتى استصحاب عدم الجعل ، واختصاص استصحاب العدم الأزلي باستصحاب عدم الجعل ، ولا يتأتى فيه استصحاب المجعول لاختلاف رتبة الجعل والمجعول ، ومقام كل منهما غير مقام الآخر. وهذه الجهة سنتعرض لها في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى. وهكذا الحال فيما أفاده في استصحاب العدم الثابت قبل البلوغ والمنع من جريانه لأجل ان العدم الثابت قبل البلوغ لا يستند إلى الشارع ، لامتناع جعل التكليف في حق الطفل ، فلا يستند العدم إلى الشارع ، بل هو عدم عقلي ، وهو مرتفع قطعا بعد البلوغ إما بجعل التكليف أو بتبدله إلى العدم المستند إلى الشارع ، فلا مجال على هذا لاستصحابه. فان تحقيقه فيما نحن فيه ليس بذي أثر كبير. فنوكل البحث فيه إلى محله إن شاء اللّه تعالى. هذا كله فيما إذا كان الشك في الجزئية.

الصورة الثانية : في الشك في الشرطية :

وفيما إذا كان الشك في شرطية شيء للمركب.

فقد فصّل الشيخ الكلام في الشروط بين ما كان منشأ الشرط فعلا خارجيا مغايرا للمقيد في الوجود الخارجي ، كالطهارة المنتزعة عن الوضوء وبين ما كان متحدا مع المقيد في الوجود الخارجي ، كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة في قوله :

ص: 235

« أعتق رقبة مؤمنة » وقرّب أولا إلحاق القسم الأول بالجزء ، فيكون المرجع عند الشك فيه هو البراءة ، وإلحاق القسم الثاني بالمتباينين ، فيكون الشك فيه موردا للاحتياط. ثم اختار أخيرا أنّ حكم القسمين واحد وانّ الأقوى فيه إلحاقهما بالجزء ، فالمرجع عند الشك في الشروط هو البراءة (1).

وذهب صاحب الكفاية إلى : أنّ الشك في الشرط لا يكون مورد البراءة العقلية للعلم الإجمالي ، وإنّ الوجه في الانحلال المتوهم عند الشك في الجزئية لا يتأتى هاهنا (2). وسيتّضح كلامه إن شاء اللّه تعالى.

وتحقيق الكلام أن يقال : انّه بناء على ما سلكناه في الشك في الجزء تبعا للشيخ رحمه اللّه من الالتزام بالانحلال في حكم العقل المبتني على الالتزام بالتبعض في التنجيز ، وإمكان تنجز التكليف من جهة دون جهة وبمقدار دون آخر. فحكم الشك في الشرط بجميع أنحائه حكم الجزء ، إذ المقدار المنجز من التكليف هو التكليف بالمطلق. أما خصوصية الشرط ، فلا يعلم اعتبارها ، فالتكليف غير منجز من جهتها فيكون العقاب على إهمالها عقابا بلا بيان ، كما أنّه يمكن إجراء البراءة الشرعية في التكليف من تلك الجهة ، لأنّ مرجعها إلى عدم إيجاب الاحتياط ، وهو متصور بعد تصور التبعض في التنجيز.

وأما بناء على الالتزام في مورد الشك في الجزء بالانحلال الحقيقي في حكم الشرع ، بدعوى العلم التفصيليّ بوجوب الأقل والشك في وجوب الزائد. فقد أشير إلى أنه يبتني على القول بانبساط الوجوب النفسيّ المتعلق بالكل على الاجزاء ، بحيث يكون كل جزء متصفا بالوجوب ، بأن يكون الوجوب نظير الاعراض الخارجية كالبياض التي يتصف بها مجموع الجسم وفي الوقت نفسه

ص: 236


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /284- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /367- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يكون كل جزء منه متصفا به. وبتعبير أوضح : يكون نظير الغطاء الواحد الّذي يغطي مجموع البدن ، ويتصف كل جزء من البدن بأنه تحت الغطاء أو مغطى.

أما على القول بعدم الانبساط وكون الوجوب نظير الحمى العارضة على مجموع البدن ولا يتصف كل جزء منه بها ، فلا يقال للرأس انّه محموم ، فلا مجال لدعوى الانحلال كما لا يخفى.

وإذا ظهر أنّ الانحلال المدعى يبتني على القول بانبساط الوجوب فيقع الكلام في انّ انبساطه هل يختص بالاجزاء أو يعم الشروط؟. ولا يخفى انّ الشرط بنفسه لا يكون موردا للأمر النفسيّ ، وانّما هو طرف للإضافة ، فما يتوهم اتصافه بالأمر النفسيّ الضمني هو التقيد بالشرط.

وقد ذهب صاحب الكفاية - كما أشرنا إليه - إلى عدم قابليته للاتصاف بالوجوب النفسيّ. بدعوى انّ الجزء التحليلي لا يتصف به.

ويمكن ان يوجّه ما أفاده قدس سره ويقرّب : بأنّ التقيد إذا لوحظ بنحو المعنى الاسمي كان كسائر المفاهيم الاسمية مما يمكن أن يتصف بالوجوب. اما إذا كان ملحوظا بنحو المعنى الحرفي الراجع إلى ملاحظة ذي القيد بنحو خاص ، لأنّ حقيقة المعنى الحرفي - كما مرّ إيضاحها - هي الوجود الرابط الّذي عبّر عنه بالربط بين المفاهيم الكلامية ونحو ذلك ، وهو كيفيّة من كيفيّات وجود المفهوم الاسمي المرتبط به. فليس له وجود غير وجود المعنى الاسمي المتقوم به ، بل هو نحو خاص من وجود المعنى الاسمي.

فإذا كان التقيد ملحوظا بنحو المعنى الحرفي ، كان فانيا في المقيد ، وكان الواجب في الحقيقة هو الحصة الخاصة من المطلق. فلا يكون الوجوب منبسطا على التقيد.

ولا يخفى أن الشرط على تقدير اعتباره انما يلحظ التقيد به بنحو المعنى

ص: 237

الحرفي ، فيلحظ واقع التقيد به لا مفهومه ، فلا وجه حينئذ للانحلال ، لعدم القدر المتيقن في البين ، بل الأمر يدور بين تعلق الحكم بالحصة الخاصة أو بغيرها. هذا ما يمكن ان يقرّب به كلام الكفاية.

ويمكن الإشكال فيه : بان كون المعنى الحرفي كذلك لا ينافي تعلق التكليف به وكونه موردا للأثر الشرعي ، ولا ينافي لحاظه الاستقلالي في مقام ترتيب الأثر عليه. وان اشتهر بان المعنى الحرفي آلي لا استقلالي ، إذ معنى الآلية فيه ليس هو المرآتية والفناء في مقام التصور والملاحظة ، بل بمعنى انه سنخ معنى يتقوم بالغير ويفنى فيه ولا ينحاز عنه ، فيصح تعلق التكليف به كما بيّن ذلك في العبادات المكروهة. فقد أفيد في محله : ان الكراهة - في الصلاة في الحمام مثلا - راجعة إلى تقيد الصلاة بالكون في الحمام وإيقاعها فيه من دون حدوث حزازة في نفس الصلاة. كما ان الكون في الحمام لا كراهة فيه في نفسه لو لم يكن راجحا.وهكذا في مثل استحباب الصلاة في المسجد ، فان المرغوب للمولى هو إيقاع الصلاة في المسجد وتقيدها بالمكان الخاصّ ، وهو محط نظره في قوله : « صل في المسجد ».

وبالجملة : كون التقيد ملحوظا بنحو المعنى الحرفي لا ينافي تعلق التكليف به وانبساط التكليف عليه وسرايته إليه.

فالمتجه أن يقال : إن كل مورد تكون الخصوصية المشكوكة فيه راجعة إلى نفس متعلق التكليف ، بحيث توجب سعة التكليف وزيادته عرفا ودقة كانت مجرى البراءة شرعا ، لأنها تقبل انبساط التكليف ، فالشك فيها يكون شكا في تكليف زائد مع وجود قدر متيقن في البين هو ذات المقيد. فيتحقق الانحلال المدعى ، وذلك نظير الطهارة مع الصلاة ، فان الصلاة مع الطهارة والصلاة بدونها بنظر العرف من الأقل والأكثر ، فالصلاة مع الطهارة صلاة وزيادة ، وترك الطهارة وإتيان الصلاة بدونها يكون إيجادا للفرد الناقص دقة وعرفا.

ص: 238

أما إذا كانت الخصوصية المشكوكة غير راجعة إلى متعلق التكليف ، بل إلى موضوع المتعلق بنحو لا يستلزم وجودها زيادة في المتعلق ولا فقدها نقصا فيه - وذلك نظير عتق الرقبة المؤمنة ، فان إيمان الرقبة أو عدم إيمانها لا يلازم زيادة في العتق أو نقصا ، بل نفس العتق على كلا التقديرين بنحو واحد لا اختلاف فيه - ، فالشك فيها لا يكون مجرى البراءة ، إذ لا يتصور الانبساط هاهنا ، إذ لا يكون المتعلق مقيدا بتلك الخصوصية ، إذ هي ليست من خصوصياته المضيقة له.

وبالجملة : لا متيقن في البين - في متعلق التكليف - يشار إليه ويقال انه معلوم الوجوب والشك في الزائد عليه ، بل الفعل بدون الخصوصية مباين للفعل المنضم للخصوصية ، فلا يتحقق الانحلال.

فالحق هو التفصيل بين الصورتين في مقام الانحلال المبتني على القول بانبساط الوجوب.

هذا ، ولكنك عرفت إننا في غنى عن الالتزام بالانحلال الحقيقي في حكم الشرع كي نضطر إلى التفصيل بين قسمي الشروط ، ولنا فيما سلكناه من طريق الانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز غنى وكفاية فانه يوصلنا إلى المطلوب.

وقد عرفت ان الحال فيه لا يختلف بين قسمي الشروط ، إذ الشك في كلا القسمين شك في اعتبار خصوصية زائدة لم يقم عليها المنجز ، فتكون موردا للبراءة العقلية والشرعية ، بمعنى عدم إيجاب الاحتياط شرعا من الجهة المشكوكة.

ص: 239

يبقى الكلام في موارد :

المورد الأول : في دوران الأمر بين العام والخاصّ.

ولا يخفى انهما بحسب اللغة لا يختلفان عن المطلق والمقيد ، وانما الفرق بينهما اصطلاحي بحسب مقام الدال ، فإذا كان الدال على العموم وضعيا سمي عاما ، وإذا كان الدال عليه بمقدمات الحكمة سمي مطلقا.

والّذي يبدو من المحقق العراقي قدس سره انه جمع بين المطلق والمقيد وبين العام والخاصّ في الحكم ولم يفرز لكل منهما بحثا خاصا به (1).

وقد ذهب البعض في مقام بيان الفرق موضوعا فيما نحن فيه إلى : ان المراد بالعامّ والخاصّ هو ثبوت الحكم لعنوان عام ، ثم ثبوته لعنوان خاص من حيث الصدق مباين من حيث المفهوم ، نظير مفهوم الصلاة ومفهوم الجمعة.

فيختلف عن المقيد ، لأنه ما أخذ فيه نفس العنوان المطلق بإضافة القيد الزائد ، نظير الصلاة وصلاة الجمعة (2).

وهذا الوجه لا يهمنا التعرض إلى تفنيده وبيان انه يرتبط بمقام الإثبات لا مقام الثبوت كما لا يخفى جدا.

وإنما المهم بيان الفرق الصحيح بين الموردين - أعني : مورد العام والخاصّ ، ومورد المطلق والمقيد - ، بحيث يصحح افراد كل منهما بالبحث والكلام فيه على حدة.

فنقول : ان المراد بالخاص ما كانت الخصوصية فيه متحدة في الوجود مع ذي الخصوصية بمعنى ان وجودها بعين وجوده واقعا ولا تعدد في وجودهما ، نظير

ص: 240


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 399 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 208 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الجنس والفصل ، فإن وجود الجنس والفصل واحد. فالحيوان عام والإنسان خاص.

وبذلك يختلف عن المطلق والمقيد ، إذ الخصوصية في المقيد ليست موجودة بنفس وجود ذي الخصوصية وإن كانت متقومة به تقوم العارض بالمعروض ، لكن وجودها مغاير لوجود ذي الخصوصية ، فان وجود الإيمان غير وجود الرقبة ووجود العدالة غير وجود العالم ، كما ان الربط بينهما موجود بوجود انتزاعي غير وجود ذي الربط وان تقوّم به.

وإذا اتضح المراد بالخاص يتضح حكمه من حيث الانحلال وعدمه ، مع الشك في اعتبار الخصوصية ، فانه لا مجال لدعوى الانحلال ، إذ لا انبساط للتكليف على تقدير اعتبار الخصوصية بعد فرض وحدة الوجود دقة وعدم تعدده ، فليس الدوران بين العام والخاصّ من الدوران بين الأقل والأكثر في متعلق التكليف. فلا وجه للانحلال فيه حتى إذا قيل بالانحلال في مورد الشك في القيد ودوران الأمر بين المطلق والمقيد.

إذن ، لا بد من الاحتياط لمن يذهب إلى البراءة من باب الانحلال الحقيقي في حكم الشرع.

نعم ، على مسلكنا في إجراء البراءة لا مانع من جريانها هاهنا ، إذ التكليف من جهة الخصوصية الزائدة المشكوكة غير منجز ، لعدم العلم ، فيكون مجرى البراءة العقلية والشرعية الراجعة إلى عدم وجوب الاحتياط - كما أشرنا إليه -.

هذا ، ولكن لا يذهب عليك ان هذا البحث فرضي بحث ، إذ الخصوصيات المأخوذة في متعلقات التكاليف ليست من قبيل الفصل إلى الجنس ، لأن المتعلقات افعال المكلفين ، وهي من الاعراض ، وهي بسائط لا تركب فيها كي يجري فيها حديث العام والخاصّ والجنس والفصل.

وأما موضوعها ، فهو وان أمكن ان يكون من الجواهر المركبة من الجنس

ص: 241

والفصل ، لكن عرفت عدم الانحلال فيها حتى إذا كانت من قبيل المطلق والمقيد ، فلا أثر لكونها من قبيل العام والخاصّ.

ومن يدعي الانحلال في المطلق والمقيد من جهة ثبوت التقيد بين الفعل وخصوصية موضوعه ، فهو يقول به في العام والخاصّ أيضا ، لأن الفعل أيضا مقيد بخصوصية الموضوع في مورده وان اتحد وجود الخصوصية مع ذي الخصوصية.

وبالجملة : لا فرق بين العام والخاصّ والمطلق والمقيد من هذه الجهة. فلاحظ. هذا حكم دوران الأمر بين الطبيعي ونوعه.

وأما لو دار الأمر بين الطبيعي وفرده الجزئي ، كدوران الأمر بين الإنسان وزيد. فان قلنا : بان التفرد يحصل بنفس الوجود ، فالنوع والفرد متحدان وجودا لا تغاير بينهما أصلا ، لأن وجود الطبيعي بوجود فرده ، وليس لكل منهما وجود منحاز عن وجود الآخر ، فالحكم فيهما من حيث الانحلال المبتني على الانبساط حكم الطبيعي ونوعه. وان قلنا : بان التفرد لا يحصل بمجرد الوجود ، بل بلوازم الوجود من المكان والزمان وسائر العوارض ، فبما ان هذه من المقولات التي يلتزم بان لها وجود مستقل عما تقوم به ، فيكون الشك في الفرد نظير الشك في اعتبار شرط زائد ، وقد عرفت الكلام فيه. فتدبر.

المورد الثاني : في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ولا يخفى ان لدوران الأمر بين التعيين والتخيير موارد متعددة :

الأول : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المسألة الأصولية ، كمورد تعارض النصين مع ثبوت مزية في أحدهما يحتمل ان تكون مرجحة لذيها ، وعدم إطلاق يدل على التخيير حتى في هذه الصورة ، فانه يدور الأمر بين حجية ذي المزية خاصة وبين حجية أحدهما بنحو التخيير ، وفي مثل ذلك يلتزم بالتعيين ، لأن ذا المزية مقطوع الحجية على كلا التقديرين. وأما غيره فهو مشكوك الحجية ، وقد تقرر ان الشك في الحجية يلازم القطع بعدمها. فيتعين الالتزام بذي المزية.

ص: 242

الثاني : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم ، كما إذا تزاحم واجبان كان أحدهما محتمل الأهمية ، فانه يدور الأمر بين تعيين محتمل الأهمية والتخيير بينه وبين غيره. وفي مثل ذلك يلتزم بالتعيين أيضا ، لأن مرجع التخيير إلى الالتزام بتقييد إطلاق كل منهما بصورة عدم الإتيان بالآخر - إذ المزاحمة تنشأ من تعارض الإطلاقين -.

وعليه ، فمع احتمال أهمية أحدهما ، يعلم بتقييد إطلاق الآخر ، على كلا التقديرين كما هو واضح. وأما محتمل الأهمية فلا يعلم بتقييد إطلاقه ، فيكون إطلاقه محكما ، وهو معنى الترجيح.

الثالث : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال. كدوران الأمر في مقام الطاعة مع التمكن من الإطاعة التفصيلية بين تعينها عقلا أو التخيير بينها وبين الإطاعة الإجمالية. والحكم هو التعيين أيضا ، للشك في تحقق الامتثال وسقوط التكليف بالاقتصار على الإطاعة الإجمالية ، وقاعدة الاشتغال تستدعي الفراغ اليقيني.

وجميع هذه الموارد الثلاثة ليست محل كلامنا فيما نحن فيه من البراءة والاحتياط. وانما محل الكلام هو المورد ..

الرابع : وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأمر معين وشك في انه واجب بنحو التعيين أو بنحو التخيير بينه وبين غيره ، كما إذا علم بوجوب العتق عند القدرة عليه على تقدير الإفطار عمدا ، وشك في انه واجب عليه خاصة أو انه مخير بينه وبين الصوم - مثلا -.

ومن هنا يظهر انه ليس من محل الكلام ما إذا تعلق الأمر بطبيعة وشك في أخذ خصوصية فيها ، فيشك في تعيين ذي الخصوصية أو التخيير بينه وبين غيره ، فان جميع موارد الأقل والأكثر في الجزئية والشرطية كذلك ، بل محل الكلام ما إذا علم ملاحظة ذي الخصوصية - كالعتق في المثال - وشك في اعتباره بخصوصه أو

ص: 243

مخيرا بينه وبين غيره. فتدبر ولا تغفل.

وقد تعرض الشيخ رحمه اللّه إلى هذا المبحث بنحو مجمل (1). وأهمله صاحب الكفاية رحمه اللّه . وأسهب الكلام فيه المحقق النائيني رحمه اللّه (2).

وتحقيق الكلام فيه بنحو يرتفع عنه الغموض ويتضح به كلام الاعلام في المقام صحة وسقما ، أن يقال : ان حديث جريان البراءة وعدمه يختلف باختلاف الأقوال في حقيقة الوجوب التخييري ، فلا بد من الإشارة إليها ومعرفة أثر كل منها من ناحية جريان البراءة وعدمه. وعمدتها أربعة أقوال :

الأول : انه عبارة عن وجوب كل من العدلين مشروطا بترك الآخر.

الثاني : انه عبارة عن وجوب أحدهما ، فمتعلق الوجوب التخييري هو عنوان انتزاعي في قبال موارد التخيير العقلي ، فان متعلق الوجوب فيه هو الجامع الحقيقي كالصلاة والصيام ونحوهما.

الثالث : انه سنخ خاص من الوجوب متعلق بكل من العدلين يعرف بآثاره. وهو ما ذهب إليه صاحب الكفاية (3). وقد عرفت تصويره بأنه مرتبة وسطى بين الاستحباب غير المانع من الترك مطلقا وبين الوجوب التعييني المانع من الترك مطلقا.

الرابع : انه عبارة عن وجوب أحدهما المردد مصداقا. وبعبارة أخرى : انه وجوب الفرد المردد وعلى سبيل البدل كما قربناه ، ودفعنا ما توجه من الإشكال فيه.

أما على القول الأول : فالشك في التعيين والتخيير يرجع إلى الشك في إطلاق الوجوب المعلوم واشتراطه بترك العدل المشكوك. فيمكن إجراء البراءة

ص: 244


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى ، فرائد الأصول / 285 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 417 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /141- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

في إطلاقه ، لأن مرجع الإطلاق إلى ثبوت تكليف زائد. وبعبارة أخرى : المكلّف شك في ثبوت الوجوب على تقدير إتيان العدل المحتمل ، والأصل هو البراءة.

ولا يختلف فيما ذكرناه بين كون أساس جريان البراءة في الأقل والأكثر هو انحلال العلم الإجمالي حقيقة على مبنى الانبساط في التكليف وبين كونه ما ذكرناه من انحلاله حكما على مبنى التبعض في التنجيز.

إذ الشك كما عرفت يرجع إلى الشك في زيادة التكليف وثبوته على كلا التقديرين ، وقلته وثبوته على أحد التقديرين ، وهو تقدير عدم الإتيان بالعدل المشكوك ، فتكون الزيادة مجرى للتكليف ، للعلم التفصيليّ بثبوته على تقدير ترك الآخر ، أما على تقدير إتيان الآخر فالتكليف مشكوك فيكون مجرى البراءة.

وأما على القول الثاني : فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في ان الواجب هل هو الجامع الانتزاعي - أعني : عنوان أحدهما - أو انه الأمر المعين بعنوانه الخاصّ ، كالصوم - مثلا - ، فهو يعلم إجمالا بوجوب أحد الأمرين عليه؟.

لا مجال حينئذ لدعوى انحلال العلم الإجمالي حقيقة المبني على انبساط التكليف ، لعدم كون الدوران بين الأقل والأكثر ، فلا متيقن في البين.

وان توهم ذلك بدعوى : ان ثبوت التكليف بنحو التعيين يرجع إلى تعلق التكليف بالجامع وهو عنوان أحدهما وزيادة الخصوصية ، إذ عنوان أحدهما ينطبق على الصوم. إذن فيصح ان يقال ان تعلق التكليف بالجامع معلوم على كلا التقديرين والشك في اعتبار خصوصية زائدة عليه ، فيكون المورد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الشروط ، فيثبت الانحلال كما تقدم.

فان هذا الوهم باطل : لأن الجامع الانتزاعي لا يكون مأخوذا في متعلق التكليف لو ثبت الوجوب التعييني ، بل متعلق الوجوب ليس إلاّ المفهوم المعين الخاصّ كالصوم - مثلا - ، وانما يلتزم به على تقدير ثبوت الوجوب التخييري من باب ضيق الخناق في تصوير الواجب التخييري ، فليس الواجب على تقدير

ص: 245

تعلق التكليف بالصوم بنحو التعيين سوى الصوم ، لا انه عنوان أحدهما المتخصص بخصوصية الصوم ، قياسا على الحال في الجامع الحقيقي كالصلاة مع الطهارة.

فالشك على هذا ليس شكا في كون متعلق التكليف هو المطلق أو المقيد ، بل الأمر دائر بين متباينين. وما نبهنا عليه واضح لكل من له قليل التفات وفضل.

ولأجل ذلك التزم المحقق العراقي بالاشتغال هاهنا (1) مع التزامه بالانحلال الحقيقي في الأقل والأكثر على ما عرفت (2).

وأما الانحلال الحكمي الّذي قربناه مبنيا على التبعض في التنجيز ، فله على هذا القول مجال ، وذلك لأن العلم الإجمالي إنما يوجب تنجيز الجهة المشتركة بين طرفيه ، وترتب الأثر العقلي في مقام الإطاعة بالمقدار المتيقن ثبوته على كلا التقديرين إذا كانت هناك جهة جامعة. ولا يخفى ان المقدار الثابت الجامع بين الطرفين هو تنجيز التكليف المعلوم بالإجمال على تقدير ترك العدل الآخر المحتمل.

أما مع الإتيان به ، فلا يعلم بثبوت اقتضاء للتكليف في مقام العمل ، لاحتمال كون الواجب هو أحدهما. والعلم الإجمالي لا يصلح ان يكون بيانا لذلك ، لأنه يكون بيانا بالمقدار المعلوم ثبوته ، فيكون التكليف على هذا التقدير غير منجز ، فتجري فيه البراءة.

وبالجملة : بعد فرض إمكان التبعض في التنجيز من جهة متعلقه ، فالتبعض في التنجيز من جهة تقادير الوجوب ممكن أيضا ، بل الأمر فيه أوضح ، فيمكن ان يكون التكليف منجزا على تقدير وغير منجز على تقدير.

ص: 246


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 288 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- راجع 4 / 202 من هذا الكتاب.

وعليه ، فالعلم بثبوت الوجوب التعييني أو التخييري انما ينجز التكليف على تقدير عدم الإتيان بالآخر المحتمل. وأما على تقدير الإتيان به ، فليس الحكم منجزا فيكون موردا للبراءة. فانتبه.

واما على القول الثالث : فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في ثبوت أي السنخين من الوجوب وتعلقه بالفعل الخاصّ.

ومن الواضح انه لا مجال أيضا لدعوى الانحلال الحقيقي المزبور ، لأن الدوران بين المتباينين ، والشك لا يرجع إلى الشك في زيادة التكليف وقلته ، بل إلى ان الثابت هذا النحو أم ذاك ، فليس في المقام قدر متيقن يكون معلوم الثبوت تفصيلا ويشك في ثبوت الزائد عليه ، بل المورد من قبيل دوران الأمر بين ثبوت الوجوب للعمل أو الاستحباب ، فانه لا يقول أحد بأنه من موارد الدوران بين الأقل والأكثر.

نعم ، لدعوى الانحلال الحكمي الّذي بنينا عليه مجال ، وذلك لأن المقدار المعلوم ثبوته هو تأثير الحكم المعلوم بالإجمال في مقام الطاعة عند عدم الإتيان بالمحتمل الآخر.

أما على تقدير الإتيان به ، فلا علم بما له تأثير في مقام العمل من التكليف ، لاحتمال ان يكون الثابت هو الوجوب التخييري الّذي يكون قاصرا عن التأثير والمحركية على تقدير الإتيان بالعدل الآخر ، فالتكليف على هذا التقدير لا يكون منجزا ، فيكون موردا للبراءة.

وقد عرفت عدم صلاحية العلم الإجمالي للتنجيز لأكثر من الجهة الجامعة بين الطرفين في مقام الأثر العقلي في باب الإطاعة.

وأما على القول الرابع : فمرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في تعلق الوجوب بالفرد المعين أو تعلقه بالفرد المردد ، وهما متباينان ، وليس هناك قدر متيقن في البين.

ص: 247

وعليه ، فلا مجال لدعوى الانحلال الحقيقي المبني على الانبساط لدوران الأمر بين المتباينين.

وأما الانحلال الحكمي الّذي قربناه ، فله مجال أيضا بعين التقريب على الأقوال السابقة ، فان التكليف المعلوم إجمالا لا علم بتأثيره على تقدير الإتيان بالعدل المحتمل ، والعلم الإجمالي انما ينجز التكليف المعلوم بالإجمال بمقدار ما يعلم تأثيره في مقام الطاعة على كلا تقديريه. فلا يكون التكليف منجزا على تقدير الإتيان بالعدل المحتمل ، فيكون مورد البراءة.

ويتلخص من جميع ما ذكرناه : ان جريان البراءة في الأقل والأكثر ..

ان كان مبناه هو الانحلال الحقيقي المبتني على انبساط الوجوب ووجود القدر المتيقن ، فلا يمكن إجراء البراءة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير على جميع الأقوال في الوجوب التخييري إلا على القول الأول.

وإن كان مبناه هو الانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز ، أمكن إجراء البراءة على جميع الأقوال. بل عرفت ان الالتزام بالتبعض في التنجيز هاهنا أوضح منه في متعلق التكليف ، لأنه هاهنا بلحاظ تقادير التكليف نفسه. فلاحظ. هذا غاية التحقيق في دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

المورد الثالث : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصل، بمعنى أن المأمور به يكون معلوما بحدوده وقيوده ، وإنما يشك فيما يحققه وما يكون سببا لحصوله في أنه الأقل أو الأكثر. كما لو فرض تعلق الأمر النفسيّ بالطهارة ، وقيل انها أمر بسيط مسبب عن الأفعال الخاصة من الوضوء والغسل والتيمم ، وليس الأمر متعلقا بنفس الأفعال المركبة كما هو ظاهر بعض النصوص الدالة على وجود أمر مستمر ، يتعلق به النقض والبقاء ، وهذا لا يتصور بالنسبة إلى نفس الأفعال لأنها تتصرم وتنعدم كما هو واضح.

ص: 248

ولا يخفى ان الأصل هاهنا هو الاشتغال ، فإذا شك في ان السبب المحصّل للمسبب هل هو الأقل أم الأكثر فلا بد من الاحتياط بإتيان الأكثر ، وذلك لأن التكليف بالمسبب معلوم منجز ، والتردد في السبب يكون من التردد في تحقق الامتثال وحصول الواجب ، وقاعدة الاشتغال تلزم بتحصيل العلم بحصوله بإتيان الأكثر.

ولا فرق فيما ذكرناه بين ان يكون السبب والمحصل شرعيا أو غير شرعي ، إذ السببية غير مجعولة شرعا بجعل مستقل ، بل هي منتزعة من الحكم بحصول الواجب عند إتيان ذات السبب ، فلا موهم لجريان حديث الرفع فيها عند الشك.

نعم لو التزم بأنها مجعولة بجعل مستقل كان للحديث في جريان حديث الرفع مجال وإن كان ممنوعا. وتحقيقه في مقام آخر.

ثم إن هاهنا بحثا صغرويا في خصوص الطهارة والوضوء أو الغسل. وهو :

ان الشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء والغسل إنما يكون مجرى لأصالة الاحتياط لو فرض ان نسبة الوضوء إلى الطهارة المأمور بها نسبة السبب إلى المسبب ، بحيث يكون للطهارة وجود غير وجود نفس الوضوء ، نظير الملكية المسببة عن العقد ، فان العقد لا يقال عنه انه ملكية. وليس الأمر كذلك ، بل نسبة الطهارة إلى الوضوء نسبة العنوان إلى المعنون ، نظير التعظيم الحاصل بالقيام ، ولكنه عنوان له ، فالقيام بنفسه تعظيم لا أن التعظيم شيء وراء القيام ، فيقال للقيام انه تعظيم. ونظير الاستيلاء الاعتباري على الأرض الشاسعة الحاصل بمجرد ملك المفتاح وكونه مطلق العنان فيها ، فان نفس ذلك يقال عنه انه استيلاء اعتبارا لا حقيقة ، إذ الاستيلاء الحقيقي يحصل بالإحاطة الحقيقية وكون الشيء تحت قبضته حقيقة ، وهذا لا يتصور في مثل الأرض الشاسعة.

ويدل على ذلك ما ورد من النصوص مما ظاهره إطلاق الطهارة على نفس

ص: 249

الوضوء وترتيب بعض آثارها عليه ، كقوله : « الوضوء نور » ونحو ذلك (1) ، فانه ظاهر ان الطهارة هي الوضوء ونسبتها إليه نسبة العنوان إلى المعنون.

وإذا فرض أن الأمر كذلك ، فالشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء يكون مجرى البراءة لاتحاده مع المأمور به وجودا. هذا ما ذهب إليه بعض الاعلام (2).

وفيه : - مع الغض عن عدم تعقل كون الطهارة عنوانا للوضوء ، كما تقدم تفصيل الكلام فيه في مبحث مقدمة الواجب - ان كون نسبة الطهارة إلى الوضوء نسبة العنوان إلى المعنون لا يقتضي جريان البراءة مع دوران الوضوء بين الأقل والأكثر ، بل الحال فيه هو الحال على القول بكون نسبتها إليه نسبة المسبب إلى السبب.

والوجه في ذلك : انه بعد فرض ان المأمور به هو الطهارة : وهي أمر اعتباري بسيط يتحقق بالافعال الخاصة ، وليست نسبته إلى الأفعال الخاصة نسبة اللفظ إلى المعنى كي يكون الأمر به أمرا بها حقيقة ، بل هي عنوان اعتباري يتحقق بالافعال. فمع إتيان الأقل يشك في تحقق ذلك العنوان ، فيكون من الشك في الامتثال ، نظير ما إذا أمر المولى عبده بتعظيم زيد فشك العبد ان التعظيم هل يحصل بمطلق القيام أم القيام بضميمة التحية ، فانه ليس له الاكتفاء بمجرد القيام للشك في حصول الامتثال به.

نعم ، لو التزم بان الطهارة ذات مراتب يتحقق كل مرتبة منها بحصول جزء من الوضوء أو الغسل ، كما قد يظهر ذلك من بعض الروايات الواردة في الغسل ، كان الشك في اعتبار جزء زائد في الوضوء أو الغسل شكّا في اعتبار المرتبة الزائدة في الطهارة ، فيكون الشك في متعلق التكليف ، فيكون مجرى

ص: 250


1- وسائل الشيعة 1 / باب 8 من أبواب الوضوء الحديث : 8 وفيه : ( الوضوء على الوضوء نور على نور ) وسائل الشيعة 1 / باب 8 من أبواب الوضوء الحديث : 5 ( الوضوء شطر الإيمان ).
2- الغروي الشيخ ميرزا علي. التنقيح4/ 61 - كتاب الطهارة - الطبعة الأولى.

البراءة.

لكن هذا خلاف المفروض في الكلام من انها أمر وحداني بسيط لا تعدد فيه ولا تشكيك.

المورد الرابع : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات ، كما لو دار أمر الغناء المحرم بين كونه خصوص الصوت المطرب أو انه الصوت المطرب المشتمل على الترجيع.

وقد يقال : أن الأمر فيه على عكس الأمر في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الواجبات ، إذ الأقل في مورد المحرمات غير معلوم التحريم ، والأكثر معلوم التحريم ، فلذا لا يلزم ترك الأقل.

ولكن لا يخفى ان الالتزام في باب الواجبات بالانحلال إذا كان من باب الانحلال الحقيقي المبتني على الانبساط ، باعتبار ان الأقل معلوم الوجوب إما نفسيا استقلاليا أو ضمنيا ، والزائد مشكوك. فهو بعينه يجري في باب المحرمات ، إذ حرمة المجموع تستلزم حرمة كل جزء جزء ضمنا. وعليه فمع دوران أمر المحرم بين الأقل والأكثر يصح ان يقال : إن الأقل معلوم الحرمة على كل حال اما استقلالا أو ضمنا. وأما الخصوصية الزائدة فهي مشكوكة الاعتبار.

نعم ، على مسلكنا في مقام الانحلال وهو الالتزام بالانحلال الحكمي المبتني على التبعض في التنجيز ، يكون الأمر في المحرمات على عكسه في الواجبات. وذلك لأن فعل الأكثر مما يعلم بترتب العقاب عليه على كل حال ، وأما فعل الأقل فلا يعلم بترتب العقاب عليه على كل حال ، لاحتمال كون المحرم هو الأكثر ، فلا يكون فعله موجبا للعقاب ، إذ المخالفة في باب المحرمات إنما تتحقق بفعل المجموع. وأما في باب الواجبات ، فهي تتحقق بترك بعض الاجزاء ، لأن ترك البعض سبب لترك الكل دون فعل البعض ، فانه لا يكون سببا لفعل الكل. فلاحظ والتفت.

ص: 251

المورد الخامس : ما إذا كان منشأ الشك في الشرطية هو الشك في حكم تكليفي مستقل. كما لو كان منشأ اعتبار الشرطية حكما تكليفيا مستقلا ، نظير ما يقال في اشتراط عدم الغصب في الصلاة من جهة حرمة الغصب وثبوت التضاد بين الحرمة والوجوب ، فإذا شك في جواز الصلاة في مكان للشك في انه غصب أو لا ، فمنشأ الشك في جواز الصلاة في ذلك المكان هو الشك في حرمة الكون فيه.

وقد التزم الشيخ رحمه اللّه : بان جريان أصالة البراءة في الحكم التكليفي يكون حاكما على الأصل في الشرطية المشكوكة من براءة أو احتياط ، لأن نسبة الشك في الحكم التكليفي المستقل إلى الشك في الشرطية نسبة الشك السببي إلى المسببي ، والأصل الجاري في الشك السببي يكون حاكما على الأصل الجاري في الشك المسببي (1).

وقد استشكل فيه المحقق النائيني - بعد ان بيّن ان الشرطية قد تكون منتزعة عن تكليف غيري مع قطع النّظر عن الحكم التكليفي ، سواء كان في موردها حكم تكليفي كلبس الحرير في الصلاة ، أو لم يكن كالصلاة فيما لا يؤكل لحمه. وقد تكون ناشئة من الحكم التكليفي ، وعلى الأخير تارة : يكون منشأ الشرطية هو الحكم الواصل ، كاشتراط عدم الغصب في الصلاة باعتبار حرمته بناء على التزاحم. وأخرى : يكون منشؤها هو الحكم بوجودها الواقعي ، كالمثال المتقدم بناء على التعارض. وان محط نظر كلام الشيخ هو الصورة الأخيرة ، إذ الصورة الأولى لا يحتاج فيها إلى الأصل عند الشك ، بل مجرد عدم الوصول والشك يكفي في عدم المزاحمة وارتفاع الشرطية.

بعد أن بيّن ذلك استشكل قدس سره - : بأن الأصل الجاري في الحكم

ص: 252


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /286- الطبعة الأولى.

التكليفي انما يكون حاكما على الأصل في الشرطية إذا كان من الأصول المحرزة ، كالاستصحاب ، لأنه يتكفل نفي الواقع ظاهرا ، فيرتفع به موضوع الشك المسببي. واما إذا لم يكن محرزا كالبراءة فلا ينفع في الحكومة ، لأن غاية مدلول البراءة هو الترخيص في الفعل والترك بلا تصرف في الواقع ، فيبقى الشك في الشرطية على حاله فلا بد من علاجه بإجراء الأصل فيه (1).

والّذي يبدو لنا : انه لا مجال لجريان الأصل في الحكم التكليفي النفسيّ ، لأجل رفع الشك في الشرطية ، إذا كان التكليف بوجوده الواقعي منشأ للشرطية ، سواء كان الأصل إحرازيا أم لم يكن.

وذلك لأن الحرمة الثابتة للغصب وان كانت منشأ لاعتبار شرطية عدم الغصب في الصلاة من جهة التعارض وغلبة ملاك الحرمة ، إلا ان الشرط ليس هو عدم الحرمة كي يكون إجراء الأصل في الحرمة رافعا للموضوع ونافيا للشك في الشرط ، إذ عدم الضد لا يؤخذ في متعلق الضد الآخر ، فلا معنى لأن يقيّد الواجب بعدم كونه حراما. وإنما الشرط هو عدم متعلق الحرمة ، وهو الغصب ، فالمعتبر في الصلاة هو عدم الغصب ، ومنشأ اعتبار عدمه هو حرمته ، فإذا شك في الحرمة فالأصل فيها لا ينفي الشرط وهو عدم الغصب إلا بالملازمة العقلية.

وبعبارة أخرى : إذا شك في مكان انه غصب أم لا ، يشك في اعتبار عدمه في الصلاة من جهة الشك في الحرمة ، ونفي حرمته واقعا وإن استلزم انتفاء اعتبار عدمه ، لكن ذلك لا يثبت بالأصل إلا على القول بالأصل المثبت ، لأن الملازمة بين الحرمة والشرطية ملازمة عقلية ، وترتب اعتبار العدم على حرمة الفعل مما يحكم به العقل لا الشارع. فمجرد منشئية الحرمة للشرطية لا يصحح الاقتصار على إجراء الأصل في الحرمة ، بل لا بد من إجراء الأصل في الشرطية المشكوكة

ص: 253


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 193 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أيضا. فالتفت ولا تغفل.

المورد السادس : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية.

وقد تعرض الشيخ رحمه اللّه لذلك. وفرض موضوع الكلام ما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي ، وهو ما بين الهلالين ، فشك في انه ثلاثون أو ناقص ، ومثل ما إذا أمر بالطهور لأجل الصلاة وهو الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشك في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين.

كما انه حكم قدس سره بلزوم الاحتياط هنا لتنجز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلا ، والشك انما هو في تحققه بالأقل ، وهو مجرى قاعدة الاشتغال (1).

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه - كما في تقريرات الكاظمي - إلى ان الشيخ رحمه اللّه أرجع الشبهة الموضوعية إلى ما يرجع إلى الشك في المحصّل ، كما يظهر من تمثيله بالشك في جزئية شيء للطهور الرافع للحدث ، ومن التزامه بأصالة الاشتغال خلافا لما التزم به في الشبهة الحكمية.

وذهب إلى ان ذلك منه قدس سره لعله للغفلة أو لتخيله عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية. ثم ذكر : انه يمكن تصور الشبهة الموضوعية في نفس متعلق التكليف. ببيان طويل محصله : ان التكليف تارة : يكون له تعلق بموضوع خارجي كوجوب إكرام العالم. وأخرى : لا يكون له تعلق بموضوع خارجي كوجوب السورة.

ومن الواضح ان التكليف في المورد الأول يختلف سعة وضيقا باختلاف سعة الموضوع وضيقه ، فإذا ثبت وجوب إكرام مطلق افراد العالم بنحو العموم

ص: 254


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /283- الطبعة الأولى.

المجموعي كان هناك تكليف واحد بإكرام مجموع العلماء فإذا شك في فرد انه عالم أولا ، يشك في سراية الحكم إليه وكون إكرامه جزء من متعلق الحكم أولا ، فيكون من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف ، ومنشأ الشك هو اشتباه الموضوع الخارجي. نعم إذا لم يكن للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فلا يمكن ان تتحقق فيه الشبهة الموضوعية ، بل الشبهة فيه لا بد وان تكون حكمية.

وبالجملة : فالشبهة الموضوعية لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين متصورة فيما كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي.

وذكر قدس سره بعد ذلك : ان أمثلتها في الفقه كثيرة. ومنها : تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره بناء على مانعية غير مأكول اللحم لا شرطية كونه من مأكول اللحم ، إذ كل فرد فرد من اجزاء غير المأكول منهيا عن الصلاة فيه بالنهي الغيري ، ويكون عدمه مأخوذا في الصلاة ، فالشك في ان هذا اللباس من مأكول اللحم أو لا يستلزم الشك في أخذ عدمه في الصلاة ، فيكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية.

نعم ، لو أخذ كون اللباس من مأكول اللحم شرطا في الصلاة لم يتأت البيان المزبور ، إذ التكليف في الشروط لا ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد ما للموضوع من أفراد ، إذ لا معنى للأمر بإيقاع الصلاة في كل فرد من افراد مأكول اللحم ، بل التكليف متعلق بصرف الوجود. وهذا معلوم لا شك فيه ، فلا بد من إحراز امتثاله بإحراز كون اللباس من مأكول اللحم ، ولا مجال لجريان البراءة هنا ، لأن الشك في المحصل لا في نفس متعلق التكليف ، فالحال يختلف بين أخذ كون اللباس من مأكول اللحم شرطا وبين أخذ كونه من غير مأكول اللحم مانعا.

فعلى الأول : لا يرجع الشك في كون هذا اللباس من المأكول وعدمه إلى

ص: 255

الشك في الأقل والأكثر.

وعلى الثاني : يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر.

ولذا كان الشك على الأول مجرى الاشتغال. وعلى الثاني مجرى البراءة.

كما يحقق ذلك في مبحث اللباس المشكوك. هذا ملخص ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه في المقام (1).

وقد ذهب المحقق العراقي إلى تقسيم صور الشك في المصداق إلى ما يكون من جهة الشك في اتصاف الموجود بعنوان الكبرى ، كالشك في اتصاف زيد بعنوان العالم في مثال : « أكرم العالم ». وإلى ما يكون من جهة الشك في وجود ما هو المتصف بعنوان الكبرى.

وذكر ان الأول على قسمين ، لأن الخطاب تارة يكون مبهما من جهة حدود الموضوع ، بحيث يقبل الانطباق على الكثير والقليل ، مثل إكرام العالم. وأخرى : يكون معينا بلا إبهام فيه من هذه الجهة أصلا ، كالأمر بإكرام عشرة علماء.

ثم ذكر : ان الشك في المصداق في مثل الأول يستلزم الشك في مقدار إرادة المولى وشمولها للمشكوك فيه وعدمه. وعليه يكون المورد من دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

ولكنه أفاد : بان نظر الشيخ رحمه اللّه إلى غير هذا الفرض ، كما يظهر من تمثيله بالأمر بصوم ما بين الهلالين والشك في المحقق ، فانه ظاهر في كون محط نظره ما إذا لم يكن في الخطاب إبهام من حيث مقدار دائرة الحكم ، بل الإبهام في مقام التطبيق.

وذكر : ان الفرض الأول مما لا يخفى على أصاغر الطلبة فضلا عن مثل الشيخ رحمه اللّه الّذي هو أستاذ هذا الفن ، فلا ينبغي نسبة الغفلة إليه أو تخيل

ص: 256


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 200 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

عدم إمكان فرض الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر. ثم تعرض لبيان عدم تصور دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الفرضين الآخرين ، ولا يهمنا التعرض إليه فعلا (1).

ولا يخفى عليك ، ان ما أفاده العراقي اعتراف بما أفاده المحقق النائيني في واقعه ، وإن جعل نظر الشيخ رحمه اللّه مقصورا على غيره ، إذ لا يرتفع التساؤل عن سبب إغفال الشيخ للفرض الأول مع انه هو المثال الواضح للشبهة الموضوعية ، والفرض ان موضوع كلامه فيها.

ومثاله الأول وان أمكن إرجاعه إلى الشبهة الموضوعية ودوران الأمر بين الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف كما لا يخفى ، لكن مثاله الثاني وتعليله لزوم الاحتياط بالعلم بتعلق التكليف بمفهوم مبين مردد مصداقه بين الأقل والأكثر يأبى عن ذلك ، ويظهر منه ان المفروض كون الشك في المحصّل.

وكيف كان ، فقد عرفت ان تصور الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر بمكان من الإمكان ، والحكم فيها من حيث جريان البراءة العقلية والنقليّة هو الحكم في الشبهة الحكمية ، لجريان نفس البيان هاهنا بجميع شئونه. فالتفت ولا تغفل.

ص: 257


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 408 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
يبقى الكلام في تنبيهات المسألة.

التنبيه الأول : في الشك في ركنية الجزء مع العلم بأصل الجزئية.

وقد ذكر الشيخ رحمه اللّه : أن عنوان الركن لم يرد في النصوص كي يقع البحث في تشخيص مفهومه العرفي ، وانما هو اصطلاح فقهي يعبّر به عن بعض الاجزاء التي يختل العمل بتركها سهوا - كما هو تعريف بعض الفقهاء للركن - ، أو التي يختل العمل بتركها سهوا وزيادتها عمدا وسهوا - كما هو تعريف بعض آخر للركن -. إذن فالمهم هو البحث عن هذه الجهات في الجزء ، فيقال انه إذا ثبت جزئية شيء وشك في اختلال العمل بتركه سهوا أو بزيادته عمدا وسهوا فما هو مقتضى الأصل العملي؟. فالكلام يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في بطلان العمل بتركه سهوا.

ولا يخفى ان مفروض الكلام إنما في مورد يكون هناك أمر جزمي بالعمل. بحيث لو غفل عنه أو نام ثم التفت إلى وجوده لثبت في حقه قطعا.

وبعبارة أخرى : ان النافي للصحة والمثبت يلتزم كلاهما بأنه لو لم يقم دليل على الصحة كان اللازم إعادة العمل لوجود الأمر في حق المكلف والشك في الخروج عن عهدته.

والوجه في تصحيح العمل منحصر في طريقين :

أحدهما : إثبات ان عمل الناسي للجزء هو المأمور به في حقه.

والآخر : إثبات ان عمل الناسي مسقط للأمر وإن لم يكن مأمورا به ، بلحاظ وفائه بغرض المأمور به ، فان سقوط الأمر بغير المأمور به غير عزيز.

فإذا لم يثبت كلا الطريقين تعين الالتزام ببطلان العمل عملا بقاعدة الاشتغال.

وقد يتوهم ان قاعدة الاشتغال انما تتم لو كان المكلف ملتفتا في حال

ص: 258

دخول الوقت للتكليف المتعلق بالتام ، بحيث يتنجز في حقه ثم يطرأ عليه النسيان ، فانه يشك في الخروج عن عهدة ذلك التكليف المعلوم بالمأتي به الناقص ، فالأصل يقتضي الاشتغال. ولا تتم فيما إذا كان المكلف ناسيا من أول الوقت ثم استمر نسيانه إلى حين العمل ، إذ لا أمر بالتام قبل العمل وفي أثنائه للنسيان ، وأما بعد العمل فهو يشك في حدوث الأمر بالتام ومقتضى الأصل البراءة لا الاشتغال.

ولكنه توهم فاسد ، لأنه في مثل هذا الفرض وان لم يكن هناك أمر ، إلا انه يعلم بوجود غرض ملزم في العمل التام وكان المولى بصدد تحصيله ، وانما ارتفع الأمر لمانع عقلي وهو النسيان ، وهو لا يعلم بأن ما أتى به هل يحصل الغرض أو لا؟. والعقل يلزم بتحصيل العلم بحصوله ، فمع الشك يكون مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الإتيان بالتام ليحصل العلم بحصول الغرض الملزم.

وإذا ظهر لك ما ذكرنا ، فيقع الكلام في الوجه الّذي يحاول به تصحيح العمل وإثبات سقوط الأمر بواسطة المأتي به الفاقد للجزء عن نسيان ، وقد عرفت انه ينحصر في طريقين ، فيقع البحث في كل واحد منهما على حدة.

أما الطريق الأول : وهو إثبات تعلق الأمر بالعمل الفاقد ، وأنه مأمور به في حق الناسي. فتحقيق الكلام فيه يدعو إلى التكلم في مقامين :

الأول : في إمكان تعلق التكليف بالناقص بالنسبة إلى الناسي وعدمه.

الثاني : انه على تقدير إمكانه فيقع البحث في الدليل على ثبوت الأمر بالناقص.

فالمقام الأول بلحاظ مقام الثبوت. والمقام الثاني بلحاظ مقام الإثبات.

أما المقام الأول : فقد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى استحالة تعلق التكليف بالناسي بعنوانه. والوجه فيه : ان التكليف لا يمكن ان يكون باعثا ومحركا للعبد نحو العمل إلا مع الالتفات إليه وإلى موضوعه ، فالتكليف بالحج المأخوذ في

ص: 259

موضوعه الاستطاعة لا يصلح للمحركية إلا مع الالتفات إلى الاستطاعة. ومن الواضح ان الناسي لا يمكن أن يلتفت إلى موضوع التكليف وهو كونه ناسيا مع بقاء النسيان ، بل بمجرد الالتفات إليه يزول النسيان ، فالتكليف المأخوذ في موضوعه الناسي غير صالح للمحركية في حال من الأحوال. أما مع الغفلة عن النسيان فواضح. وأما مع الالتفات إليه فلزواله (1).

وهذا الوجه مما لم نجد من استشكل فيه ، بل الكل اتفق مع الشيخ في استحالة تكليف الناسي بعنوانه.

ولكن ذهب صاحب الكفاية إلى إمكان تعلق التكليف بالناسي واختصاصه به لكن لا بعنوانه ، وذكر في ذلك طريقين :

الأول : ان يتعلق التكليف بما عدا الجزء المنسي بمطلق المكلّف أعم من الذاكر والناسي للجزء ، ثم يثبت تكليف آخر للذاكر خاصة بالجزء الّذي يذكره ، فيختص الناسي بالتكليف بما عدا الجزء المنسي بلا لزوم المحذور المزبور ، إذ لم يؤخذ عنوان الناسي في موضوع الحكم بالمرة.

الثاني : ان يوجّه التكليف بالناقص للناسي بعنوان ملازم للنسيان ، بحيث يمكن الالتفات إليه مع عدم زوال النسيان ، كعنوان بلغمي المزاج ونحوه ، فيكون مثل هذا التكليف صالحا للداعوية في حال النسيان (2).

ويرد عليه قدس سره ان التكليف المتعلق بالناقص بكلا نحويه لا يكون هو الداعي لإتيان المركب الناقص ، بل المكلف الناسي يأتي بالفاقد على كل حال ثبت هناك أمر في الواقع أو لم يثبت ، والشاهد على ذلك هو انه قد يأتي بالعمل الفاقد الباطل الّذي لا أمر به كفاقد الركن ، بنفس النحو الّذي يأتي به

ص: 260


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /286- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /368- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالعمل الفاقد الصحيح أو ما يتكلم في صحته.

والسر فيه : هو انه ينبعث عن الأمر المتعلق بالتام لغفلته عن نقصان العمل وعن ارتفاع الأمر ، بل هو يرى نفسه كالذاكر ، فالأمر بالناقص لا يترتب عليه التحريك والانبعاث بالنسبة إلى الناسي فيكون لغوا.

هذا مع ما يرد على الوجه الأول من : ان التكليف المختص بالذاكر بالجزء الّذي يذكره إما ان يكون تكليفا نفسيا استقلاليا غير التكليف بما عدا المنسي من الاجزاء ، واما ان يكون تكليفا ضمنيا متحدا مع التكليف بما عدا المنسي ، بحيث يكون للذاكر تكليف واحد لا تكليفان.

فالأوّل أجنبي عن محل الكلام ، فانه ليس من تخصيص التكليف بالناقص بالناسي ، بل من تخصيص الذاكر بتكليفه بشيء وعدم تكليف الناسي به.

وعلى الثاني كما هو المفروض ، إما ان يكون التكليف بما عدا المنسي ثبوتا عاما للناسي والملتفت. أو يكون مهملا. أو يكون خاصا بالناسي.

فالأوّل خلف الفرض ، لأن الذاكر مكلف بالعمل التام دون الفاقد. والثاني محال لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت. فيتعين الثالث ، فيعود المحذور.

ويرد على الطريق الثاني : انه مجرد فرض ووهم لا واقع له ، إذ ليس لدينا من العناوين ما هو ملازم لنسيان الجزء بلحاظ جميع المكلفين مع فرض عدم التفات الناسي إلى الملازمة وإلا لالتفت إلى نسيانه فيزول ، خصوصا بملاحظة اختلاف المنسي ، فتارة يكون هذا الجزء. وأخرى يكون ذاك وهكذا ، ولأجل ذلك لا نطيل البحث فيه.

وقد التزم المحقق النائيني قدس سره بالوجه الأول من وجهي الكفاية. ولكنه التزم بتعدد التكليف حقيقة لا وحدتهما ، وان كانا في مقام الامتثال مرتبطين لارتباط حصول الغرض في كل منهما بحصول الآخر. فهو نظير الالتزام بتعدد

ص: 261

الأمر في أخذ قصد القربة في متعلق التكليف ، فان التكليف وان تعدد لكنه ناشئ من غرض واحد ينحصر طريق تحصيله بتعدد الأمر ، ولأجل ذلك كان لهما امتثال وعصيان واحد (1).

وبهذا البيان يتخلص عن الإيراد الّذي ذكرناه على صاحب الكفاية ثانيا ، إذ هو يلتزم بان التكليف بما عدا المنسي عام للذاكر والناسي ، وهناك تكليف آخر يختص بالذاكر بخصوص الجزء الذاكر له.

لكن يرد عليه : ان داعوية الأمر الضمني بالجزء لا تتحقق إلا في ظرف الإتيان بالجزء الآخر وداعوية الأمر به إليه ، فالأمر بالناقص لا يصلح للداعوية إلا في ظرف داعوية الأمر بالجزء الآخر ، أو في ظرف عدم تعلق الأمر بجزء آخر.

فعدم تعلق الأمر بجزء آخر مأخوذ في موضوع داعوية الأمر بالناقص ، وهذا مما لا يمكن الالتفات إليه إلا بالالتفات إلى الجزء والجزم بعدم الأمر به ، وهو ملازم لزوال النسيان عنه ، فداعوية الأمر بالناقص المتوجه إلى الناسي لا تتحقق إلا في ظرف زوال نسيانه ، وهو المحذور المزبور. فالتفت.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني في تصحيح اختصاص التكليف بالناسي - بعد مناقشته صاحب الكفاية في وجهه الأول ، بأنه خلاف ما وصل إلينا من أدلة الاجزاء ودليل المركب ، فان الأمر فيها بالتمام لا بما عدا المنسي مطلقا ، مضافا إلى عدم تعين المنسي حتى يؤمر بما عداه ذهب - إلى : ان الأمر بما عدا الاجزاء الركنية متعلق بالاجزاء على تقدير الالتفات إليها ، واما الاجزاء الأركانية ، فالأمر متعلق بها بقول مطلق بلا تقييد بالالتفات (2).

وكلامه بحسب ظاهره يرجع إلى نفس وجه الكفاية الأول ، ولا يظهر لنا

ص: 262


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 213 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 280 - الطبعة الأولى.

وجه الفرق بينهما أصلا ، فما أورده على الكفاية يرد عليه. ولعل في نظره نكتة لا تظهر من كلامه ، فتأمل فيه تعرف.

وجملة القول : ان اختصاص الناسي بالتكليف بالناقص مما لا يمكن الالتزام به تبعا للشيخ رحمه اللّه . وخلافا لصاحب الكفاية ومن تأخر عنه.

وعلى هذا فلا موضوع للبحث في المقام الثاني وتحقيق مقام الإثبات ، وانه هل هناك دليل على ثبوت الأمر بالعمل الّذي أتى به الناسي أو لا؟.

ومنه ظهر ان التمسك بحديث : « رفع ما لا يعلمون » في نفي جزئية المنسي وتعلق الأمر به وإثبات الأمر بالباقي لا وجه له ، ولأجل ذلك نفي الشيخ جريان الحديث في نفي الجزئية ، والتزم ببطلان العمل.

ولكن يقع الكلام في المقام الثاني تنزلا ، فيبحث عن الدليل العام الدال على تعلق الأمر بما عدا المنسي على تقدير إمكان ذلك. فنقول : الدليل المتوهم دلالته على ذلك بنحو عام هو حديث الرفع بكلتا فقرتيه - أعني : « رفع ما لا يعلمون » و: « رفع النسيان » -. وتحقيق الكلام فيهما :

أما : « رفع ما لا يعلمون » ، فقد يقال فيه : ان جزئية المنسي في حال النسيان مجهولة ، فيتكفل الحديث رفعها فيثبت ان الواجب هو الأقل في حق الناسي.

ولكن فيه : ان إجراء حديث الرفع إن كان بلحاظ حال النسيان ، فلا معنى له ، إذ لا جهل في حال النسيان للغفلة فلا موضوع للرفع. وان كان بلحاظ ما بعد زوال النسيان ، فيقال : ان جزئية السورة المنسية - مثلا - مجهولة فعلا ، فهي مرفوعة ، فهو مما لا محصل له ، إذ حديث الرفع يتكفل بيان المعذورية وعدم تنجيز التكليف في حال الجهل.

ومن الواضح انه لا معنى له بعد ظرف العمل ، فلا معنى لبيان المعذورية فعلا بالنسبة إلى العمل السابق ، إذ العمل السابق حين صدر إما كان صادرا بنحو يعذر فيه المكلف فلا حاجة إلى حديث الرفع. واما كان صادرا بنحو لا

ص: 263

يعذر فيه ، فهو لا ينقلب عما وقع عليه ، فلا مجال لحديث الرفع. فالتفت.

وأما : « رفع النسيان » ، فهو بلحاظ حال النسيان لا مجال لجريانه لأجل الغفلة عن موضوعه فلا يكون الرفع فعليا ، كما لا يصح الوضع في حال الغفلة.

وأما بعد زوال النسيان ، فقد يتمسك به في إثبات الرفع الواقعي في حال العمل ، إذ هو حال النسيان وان التفت إليه متأخرا ، فليس الحال فيه كرفع الجهل ، إذ الجهل متأخر عن العمل.

لكن يشكل التمسك بحديث رفع النسيان أيضا : بأنك قد عرفت فيما تقدم من مباحث الانحلال ان الحكم السابق لا معنى لتنجيزه في الزمان اللاحق ، ولا معنى لإثباته أو نفيه بلحاظ كونه حكما شرعيا مجعولا يترتب عليه الداعوية والتحريك ، لفوات ظرف التحريك.

وعليه ، فلا معنى لتكفل حديث رفع النسيان تعلق الأمر بالمأتي به بعد مضي وقته. نعم بلحاظ كون ثبوت الأمر في الزمان السابق موضوعا لآثار شرعية متأخرة لا مانع من جريان الحديث فيه.

وبالجملة : فبما أنه حكم شرعي مجعول لا معنى لإثباته بالحديث فعلا ، إذ لا يترتب عليه أي أثر من هذه الجهة. وبما انه موضوع لحكم شرعي له كلام آخر.

والّذي يبدو لنا ان النكتة في نظر الشيخ هي ما ذكرناه ، ولذا أخذ عدم جريان الحديث في إثبات الأمر مفروغا عنه لوضوحه ، وانما تكلم في رفع الحكم بلحاظ أثره من وجوب الإعادة والقضاء. ومن الغريب عدم تفصيل القول في الكفاية ، بل فرض جريان الحديث مفروغا عنه بلا إشارة إلى اختلافه مع الشيخ في ذلك.

وجملة القول : ان حديث الرفع لا مجال لجريانه في نفي جزئية المنسي وإثبات الأمر بالباقي ، لاستحالة تعلق الأمر بالناقص أولا ، وقصور دليل الرفع

ص: 264

عن إثبات الأمر بعد زوال النسيان ثانيا.

ثم انه قد يفصل فيما نحن فيه بين ما إذا كان الدليل الدال على الجزئية بلسان الإخبار والوضع كقوله علیه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (1). وما إذا كان الدليل بلسان التكليف كقوله : « اركع في الصلاة ». فيلتزم بعموم الجزئية في القسم الأول لحالتي الذّكر والنسيان عملا بإطلاق الدليل ، ومقتضاه بطلان العبادة بترك الجزء نسيانا. ويلتزم باختصاص الجزئية في القسم الثاني بحالة الذّكر ، لاختصاص التكليف به بالذاكر فتختص الجزئية به.

ويرجع في غير الذاكر إلى إطلاق دليل المركب الّذي يقتضي نفي اعتبار الجزء الزائد. ويلحق بذلك ما إذا كان دليل الجزئية هو الإجماع ، فان القدر المتيقن منه هو الجزئية حال الذّكر ، ويرجع في غير حالة الذّكر إلى إطلاق دليل المركب ، أو أصالة البراءة.

وقد نفي الشيخ رحمه اللّه هذا التفصيل : بان التكليف الّذي يتكفله دليل الجزئية هو التكليف الغيري لا النفسيّ ، إذا التكليف النفسيّ لا يستلزم جزئية متعلقه. ومن الواضح ان التكليف الغيري معلول للجزئية لا علة لها ، فارتفاعه في حال النسيان لا يكشف عن ارتفاع الجزئية فيها (2).

وهذا النفي من الشيخ رحمه اللّه انما يتم لو كان منظور المدعي هو ظهور الدليل في اختصاص الجزئية بحال الذّكر كاختصاص التكليف نفسه ، ولكن نظره ليس إلى ذلك ، بل نظره إلى انه لا دليل على الجزئية في غير حال الذّكر ، لأن الكاشف عن الجزئية هو التكليف الغيري وهو يختص بحال الذّكر ، فيرجع في غير حال الذّكر إلى إطلاق دليل الواجب ، نظير ما إذا ثبتت الجزئية

ص: 265


1- مستدرك الوسائل 4 / باب 1 من أبواب القراءة الحديث : 8 - تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /287- الطبعة الأولى.

بالإجماع. فجواب الشيخ قاصر.

ولا يخفى عليك ان البحث في هذه الجهة انما هو بعد الفراغ عن إمكان تعلق التكليف بالناسي واختصاصه به ، وإلا فلا مجال له كما هو أوضح من أن يخفى.

وقد عرفت ان الشيخ نفي التفصيل المزبور والتزم بعموم الجزئية في كلا القسمين ، إلاّ أنّك عرفت قصور كلامه في تحقيق ذلك.

فالصحيح ان يقال في نفي التفصيل والالتزام بعموم الجزئية في كلا القسمين : ان التكليف المتعلق بالجزء ظاهر في كونه تكليفا إرشاديا إلى جزئية متعلقه ، فان ذلك هو الظاهر من الأوامر الواردة في باب المركبات.

وعليه ، فيكون حالها حال الدليل المتكفل للجزئية بلسان الاخبار. وذلك ..

أما على المسلك القائل بان الأوامر الإرشادية حقيقتها الاخبار والاعلام ، وانها إنشاء بداعي الاعلام فواضح ، لرجوع الأمر الإرشادي هاهنا إلى الاخبار عن جزئية متعلقه للمركب ، وإن كان إنشاء بحسب الصورة. فيكون حاله حال الدليل بلسان الإخبار رأسا.

وأما على ما استقربناه تبعا للفقيه الهمداني من ان الأمر الإرشادي أمر حقيقة على حد سائر الأوامر الحقيقية المولوية ، لكنه في فرض خاص وموضوع معين وهو فرض إرادة الإتيان بالعمل الصحيح وكون المكلف بصدد إتيان العمل التام بجميع اجزائه وشرائطه. ومن هنا كان إرشاديا ، إذ لا استقلالية فيه ، بل هو ثابت لأجل التوصل إلى الغير ، فالدليل يعم الذاكر والناسي أيضا. وذلك ، لأن المراد بذلك ليس هو تكفل الأمر الإرشادي للبعث والتحريك كي يدعى انه لا يصح إلا بالنسبة إلى المتمكن دون غيره ، بل المراد انه أمر حقيقة وطلب واقعا في قبال من يذهب إلى انه في واقعه اخبار وانما صورته صورة إنشاء ، فاللفظ في الحقيقة مستعمل في النسبة الطلبية حقيقة والمراد الواقعي ذلك واقعا ، لكن لم

ص: 266

يصدر ذلك بداعي التحريك والبعث كما هو الحال في الأوامر الإنشائية ، بل صدر بداعي بيان لا بدية متعلقه في العمل ولزومه فيه.

وبالجملة : تترتب على الأمر الإرشادي جميع آثار الأمر المولوي غير التحريك والداعوية من انتزاع اللزوم واللابدية والثبوت.

ومن الواضح انه بهذا المعنى يصح عمومه للمتمكن وغيره. فالأمر الإرشادي على هذا المبنى حد وسط بين كونه اخبارا حقيقة وبين كونه بعثا في موضوع معين. فانّ البعث في موارد الأوامر الإرشادية لا يترتب على الأمر الإرشادي وانّما يترتب على الأمر بالمركب. فانتبه.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني رحمه اللّه إلى نفي التفصيل المزبور ، لكنه التزم باختصاص القسم الأول بالذاكر كالدليل المتكفل للتكليف. ببيان : ان مثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » يتكفل الاخبار عن جزئية الفاتحة للمأمور به.

ومن الواضح ان الأمر بالتام في حال النسيان محال ، فالجزء المنسي ليس جزء للمأمور به قطعا.

نعم ، لو كان يتكفل بيان جزئيته لما هو الدخيل في الغرض لكان للعموم وجه ولكنه ليس في هذا المقام (1).

وما أفاده قدس سره لا يمكن الالتزام به ، إذ ليس مفاد قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » هو جزئية الفاتحة لما هو مأمور به فعلا وما يفرض تعلق الأمر به فعلا ، كي يقال : إن التام ليس بمأمور به في حال النسيان فلا تكون الفاتحة جزء له قطعا. بل مفاده انه لا يكون العمل مأمورا به ومتعلقا للأمر إلا إذا انضمت إليه الفاتحة ، أما انه أي ظرف يثبت الأمر وأي ظرف لا يثبت فذلك خارج

ص: 267


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 281 - الطبعة الأولى.

عن مدلول الكلام.

ومن الواضح ان المفاد المزبور يعم حالتي النسيان والذّكر ، فيدل على عدم تعلق الأمر بما لا يشتمل على الفاتحة مطلقا في حالة الذّكر وحالة النسيان. فالتفت ولا تغفل.

وأما ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في مطاوي هذا البحث من : ان المرجع بعد قصور دليل الجزئية وعدم إطلاق دليل الأمر بالمركب هو أصالة البراءة (1) ، فقد تقدم البحث فيه مفصلا وعرفت أنه محل خدشة ومنع ، فراجع.

وأما الطريق الثاني : وهو إثبات مسقطية المأتي به للأمر مع قطع النّظر عن كونه مأمورا به أو ليس بمأمور به.

والّذي ذكره الشيخ وجها لذلك هو حديث رفع النسيان ، ببيان : ان الترك إذا كان عن عمد يستلزم وجوب الإعادة ، وبما ان حديث رفع النسيان يتكفل رفع الآثار المترتبة على الأمر العمدي إذا صدر عن نسيان ، فيكون متكفلا لرفع وجوب الإعادة المترتب على الترك لصدور الترك عن نسيان.

ولا يخفى ان أثر ذلك هو إثبات صحة العمل فيما لم يقم دليل على الصحة أو البطلان.

وناقش الشيخ رحمه اللّه هذا البيان بان وجوب الإعادة ليس من آثار ترك الجزء رأسا ، بل هو من آثار ترك الكل المسبب عن ترك الجزء. وحديث الرفع انما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على المنسي ، لا الآثار العقلية ولا الآثار الشرعية المترتبة على ما هو ملازم عقلا للمنسي. وشبّهه بالاستصحاب الّذي لا يكون حجة إلا في الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب ، كما يقرر ذلك في مبحث الأصل المثبت (2).

ص: 268


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 220 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /288- الطبعة الأولى.

وقد يتساءل بان حديث رفع النسيان من الأدلة الاجتهادية وهي مما يلتزم بثبوت الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية لمجاريها ، فكيف جعله الشيخ كالاستصحاب الّذي هو أصل عملي؟.

والجواب عنه : ان الّذي يلتزم به هو ان الدليل الاجتهادي على تقدير جريانه يكون مقتضاه ثبوت الآثار الشرعية ولو كانت بوسائط عقلية متعددة. والّذي يدعيه الشيخ هاهنا هو قصور دليل الرفع عن شمول مثل هذا المورد واستظهاره انه انما يتكفل رفع الآثار الشرعية المترتبة على نفس المنسي خاصة. لأنه ناظر إلى الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام في موارد المنسي ، فمع عدم ثبوت الأثر للمنسي يكون الدليل قاصرا ، فعدم شمول حديث الرفع هاهنا ليس لأجل عدم حجيته في اللوازم العقلية كي يقال ان هذا شأن الأصل العملي لا الدليل الاجتهادي ، وانما لأجل قصور دليله ، ولذلك جعله الشيخ نظير الاستصحاب لا أنه بحكمه. فالتفت.

وبذلك يظهر انه لا دليل على صحة العمل المأتي به الفاقد للجزء عن نسيان. وقد عرفت ان القاعدة تقتضي الاشتغال ولزوم الإعادة للشك في الخروج عن عهدة الأمر أو الغرض الملزم وهذا هو مراد الشيخ من ان كل ما ثبتت جزئيته في حال الالتفات تثبت جزئيته في حال الغفلة ، لا أن مراده ثبوت جزئيته قطعا ، كيف؟ والمفروض هو الشك ، بل المقصود ثبوتها حكما بلحاظ لزوم الإعادة. وان النتيجة العملية هي نتيجة ثبوت الجزئية بقول مطلق. فانتبه.

ومن مجموع ما تقدم تعرف ما في كلام الكفاية من التزامه بجريان حديث الرفع في نفي جزئية المنسي في حال النسيان مرسلا إرسال المسلمات ، إذ عرفت انه لا مجال له بالمرة بكلتا فقرتيه. فتدبر.

الجهة الثانية : في بطلان العمل بزيادته مطلقا عمدا أو سهوا.

ولا يختص الكلام بالزيادة السهوية ، كما هو الحال في النقص ، إذ بطلان

ص: 269

العمل بالنقص العمدي هو المتيقن من مقتضى الجزئية ، فلا مجال للبحث عن بطلان العمل بترك الجزء عمدا وعدم بطلانه. وهذا بخلاف الزيادة العمدية ، فان عدم بطلان العمل بها لا يتنافى مع مقتضى الجزئية ، كما لا يخفى.

ووضوح الكلام في هذه الجهة يستدعي أولا تحديد موضوع البحث.

فنقول : ان الجزء ..

تارة : يؤخذ بشرط عدم الزيادة عليه ، فالزيادة تكون مبطلة ، لكن لا من جهة زيادة الجزء بل من جهة نقصه ، ولفقدان شرطه وقيده بالزيادة فلا يكون الجزء وهو الذات المقيدة بالعدم محققا فلنا ان نقول ان زيادة الجزء غير مقصودة في هذا الفرض.

وأخرى : يؤخذ لا بشرط من حيث الوحدة والتعدد ، بمعنى ان يكون الجزء هو الطبيعة الصادقة على الواحد وعلى المتعدد. وفي هذا الفرض لا تتصور الزيادة أيضا ، إذ كل ما يؤتى به من الأفراد يكون مقوما للجزء لا زائدا عليه لصدق الجزء على المجموع.

وثالثة : يؤخذ لا بشرط من حيث الزيادة وعدمها بالمعنى الاصطلاحي للابشرطية الراجع إلى رفض القيود ، وهو ان يكون الجزء هو ذات العمل - كالسورة مثلا - وصرف وجودها بلا دخل لتكراره وعدمه في جزئيته ، فسواء كرّر أو لم يكرر يكون هو جزء ولا يكون التكرار مضرّا بجزئيته كما لا يكون دخيلا فيها. فتكون زيادة الجزء وتكراره بالنسبة إلى الجزئية كسائر الأعمال الأجنبية عن الجزء غير الدخيل عدمها ولا وجودها في جزئية الجزء ، كالنظر إلى الجدار أو حركة اليد أو غير ذلك.

وفي هذا الفرض تتصور زيادة الجزء لتحققه بصرف الوجود ، فالإتيان به ثانيا يكون زيادة له ، ولو كانت الزيادة مانعة فهي ليست من جهة إخلالها بنفس الجزء ومنافاتها لجزئية الجزء ، بل من جهة إخلالها بالصلاة نظير التكلم المانع ، فانه

ص: 270

مانع من الصلاة ، ولا يكون مضرا بجزئية ما تحقق من الاجزاء ، لأنها مأخوذة بلحاظه لا بشرط بالمعنى الاصطلاحي.

ومن هنا يتضح ان محل الكلام في بطلان الصلاة بزيادة الجزء هو هذا الفرض خاصة دون الفرضين الأولين ، لما عرفت من عدم تصور الزيادة فيهما. مضافا إلى بطلان العمل في الفرض الأول بالزيادة قطعا وعدم بطلانه في الثاني قطعا فلا شك فيهما. بخلاف الفرض الأخير ، لتصور الزيادة فيه ويأتي احتمال مبطليتها وكونها مانعة من الصلاة أو غيرها كسائر الموانع.

وإلى هذا التقسيم لاعتبارات الجزء وتحديد موضوع البحث فيما نحن فيه أشار الشيخ رحمه اللّه في الرسائل بقوله : « وانما يتحقق - يعني الزيادة - في الجزء الّذي لم يعتبر فيه عدم الزيادة ، فلو أخذ بشرطه فالزيادة عليه موجب لاختلاله من حيث النقيصة ، لأن فاقد الشرط كالمتروك. كما انه لو أخذ في الشرع لا بشرط الوحدة والتعدد لا إشكال في عدم الفساد » (1). فانه وان لم يصرح بالفرض الثالث ، لكنه يشير إليه بإخراج الفرضين الأولين.

ومع هذا البيان لا يبقى مجال لتوهم عدم صدق الزيادة ، والإشكال في ذلك : بان الجزء إما ان يؤخذ بشرط لا واما ان يؤخذ لا بشرط ولا ثالث لهما. وعلى الأول ترجع زيادته إلى النقيصة ، وعلى الثاني لا يكاد تتحقق الزيادة ، لأن الضمائم لا تنافي الماهية لا بشرط ولا تكون زيادة فيه بل المجموع يتصف بالجزئية.

لما عرفت من ان اللابشرطية من حيث الوحدة والتعدد غير اللابشرطية الاصطلاحية ، فهناك فرض ثالث غفل عنه المستشكل. بل مثل هذا الإشكال لا ينبغي أن يسطر ، فان منشأه عبارة الشيخ المتقدمة والغفلة عن مراد الشيخ

ص: 271


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /288- الطبعة الأولى.

وتعبيره باللابشرطية من حيث الوحدة والتعدد لا اللابشرطية الاصطلاحية. فلا وجه لذكره في تقريرات المرحوم الكاظمي.

كما ان الجواب عنه : بان مقام الإمكان الثبوتي غير مقام الصدق العرفي ، ولا إشكال في صدق الزيادة عرفا على الوجود الثاني فيما إذا كان الواجب صرف الوجود - كما جاء في تقريرات الكاظمي - (1).

غير سديد ، إذ ليس البحث فيما نحن فيه في مدلول دليل لفظي وارد على عنوان الزيادة كي يبحث في مفهوم الزيادة عرفا ، بل البحث فيما هو مقتضى الأصل العملي عند تكرار الجزء من حيث الابطال وعدمه ، فصدق الزيادة عرفا لا أثر له بعد الجزم بعدم الإضرار بالتكرار على تقدير والجزم بإضراره على تقدير آخر كما هو مقتضى الإشكال. فالمتعين في الجواب عنه ما ذكرناه. فانتبه.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه أشار إلى اعتبار قصد الجزئية في صدق الزيادة ، وان الإتيان بصورة الجزء بلا قصد الجزئية لا يحقق الزيادة ، وإن ورد في بعض الاخبار (2) إطلاق الزيادة على سجود العزيمة في الصلاة ، مع أنه لا يؤتى به بعنوان الزيادة.

وقد فصّل القول في ذلك هاهنا بعض الأعلام (3).

والّذي نراه : انه لا مجال لهذا الحديث هاهنا بالمرة ، إذ ليس البحث عن مفاد الأدلة الدالة على مانعية الزيادة - بمفهومها - ، كي يبحث عن حدود مفهوم الزيادة ، وانه هل تتحقق الزيادة بكل عمل خارج عن الصلاة ولو لم يقصد به الجزئية ، أو انها تتقوم بما إذا قصد الجزئية فيه ، أو غير ذلك؟. بل البحث عن مقتضى الأصل العملي عند الشك في مانعية الزيادة. ومن الواضح انه

ص: 272


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 230 - طبعة مؤسسة النشر الأسامي.
2- وسائل الشيعة 4 / 779 باب 40 من أبواب القراءة في الصلاة. الحديث 1.
3- الشاهرودي السيد علي ، دراسات في الأصول العملية 3 / 293 - الطبعة الأولى.

لا خصوصية لعنوان الزيادة بملاحظة الأصل العملي ، بل المدار على كونها مشكوكة المانعية ، فلو شك في مانعية تكرار الجزء بذاته ولو بدون قصد الجزئية ، نظير التكلم الّذي يكون مانعا مع عدم قصد الجزئية كان موردا للبحث أيضا. فالذي ينبغي ان يجعل مورد البحث هاهنا ، هو انه مع العلم بالجزئية والشك في مانعية تكرار الجزء - بقصد الجزئية أو لا بقصدها - للمركب ، فما هو مقتضى الأصل؟. فموضوع الكلام هو تكرار الجزء لا زيادته.

وإذا عرفت موضوع الكلام ، فيقع الحديث في حكم الشك فيما نحن فيه ، ومن مطاوي ما تقدم تعرف ان مرجع الشك هاهنا إلى الشك في اعتبار عدم تكرار الجزء في المركب ، بحيث يكون وجوده مانعا من صحة المركب.

وحكم هذا الشك واضح ، فانه مجرى البراءة شرعا وعقلا على ما تقدم بيانه في الشك في الشرطية. فلا حاجة إلى الإطالة.

ومقتضى نفي مانعية الزيادة صحة العمل معها وعدم بطلانه بها بأي نحو تحققت.

نعم ، قد يكون وجودها - ببعض صورها - مخلا بالعمل العبادي ، لكن لا من جهة كونها من موانع العمل ، بل من جهة منافاتها لقصد التقرب على ما سيتضح بيانه. وهذه جهة أخرى لا ترتبط بما نحن فيه.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه - بعد ان فرض تقوم الزيادة بقصد الجزئية - ذكر انها تتصور على وجوه ثلاثة :

الأول : ان يأتي بالزيادة بقصد كونها جزء مستقلا ، كما لو اعتقد شرعا أو تشريعا ان الواجب في كل صلاة ركوعان كالسجود.

الثاني : ان يأتي بالزيادة وبقصد كون المجموع من المزيد والمزيد عليه جزء واحد ، كما لو اعتقد ان الواجب في الصلاة طبيعة الركوع الصادقة على الواحد والمتعدد.

ص: 273

الثالث : ان يأتي بالزائد بدلا عن المزيد عليه ، إما اقتراحا أو لفساد الأول.

وحكم قدس سره : بفساد العبادة في الصورة الأولى إذا نوى ذلك قبل الدخول في العمل أو في أثنائه ، لأن ما أتى به وقصد الامتثال به وهو المجموع المشتمل على الزيادة لم يكن مأمورا به ، وما هو مأمور به واقعا لم يقصد الامتثال به.

وحكم في الصورتين الأخيرتين : بان مقتضى الأصل عدم البطلان لرجوع الشك فيهما إلى الشك في مانعية الزيادة والأصل عدمها (1).

وقد توقف صاحب الكفاية في البطلان في الصورة الأولى بقول مطلق ، والتزم بالتفصيل بين ما إذا جاء بالمجموع المشتمل على الزيادة بنحو التقييد ، وما إذا جاء به بنحو الخطأ في التطبيق.

بيان ذلك : ان المكلف تارة : يأتي بالمجموع المشتمل على الزيادة بداعي الأمر المتعلق به بخصوصيته بنحو لو كان الأمر الثابت غيره لم يكن في مقام امتثاله ، فهو لم يقصد سوى امتثال الأمر الخاصّ الّذي يعتقد ثبوته شرعا أو تشريعا بخصوصيته وليس في مقام امتثال غيره. وأخرى : يأتي بالمجموع بداعي الأمر الواقعي الموجود ، فهو يقصد إتيان الواجب الواقعي على واقعه ، لكنه بما انه يعتقد انه هو المجموع المشتمل على الزيادة جهلا أو تشريعا فهو يقصد الخصوصية.

ففي الصورة الثانية يكون عمله صحيحا ، لأنه أتى بالواجب الواقعي ، وقصده الزيادة لا يضر بعد ان كان قصد امتثال الأمر الخاصّ ينحل إلى قصدين ، ومن جهة الخطأ أو التشريع في التطبيق ، فهو يقصد امتثال الأمر

ص: 274


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 288 - الطبعة الأولى.

الواقعي على واقعة ولكنه يعتقد انه هو الأمر الخاصّ خطأ أو تشريعا ، وهذا لا يضر في الامتثال والتقرب ، فيبقى احتمال مانعية الزيادة وهو منفي بالأصل.

وبالجملة : لا يتأتى ما أفاده الشيخ من ان ما قصده لا وجود له وما له الوجود لم يقصد.

فهذا الفرض نظير من صلى خلف امام المسجد معتقدا انه زيد العادل ، فبان انه عمرو العادل وكان بحيث لا يختلف الحال لديه بين زيد وعمرو ، فانه يحكم بصحة صلاته لأن قصده ينحل إلى قصدين قصد الصلاة خلف العادل وقصد الصلاة خلف زيد ، فإذا تخلف الثاني ولم يتخلف الأول كان عمله صحيحا ، لأن المدار في الصحة على الأول.

وأما في الصورة الأولى ، فقد التزم ببطلان العمل فيها ، إذ هو لم يقصد امتثال الأمر الواقعي الموجود على ما هو عليه ، وما قصده لا ثبوت له. فما أفاده الشيخ يتم في الصورة الأولى خاصة.

ثم ان صاحب الكفاية ردد - في هذه الصورة - بين الالتزام بالبطلان في صورة عدم دخله واقعا وبين الالتزام به مطلقا ولو ثبت ان المزيد جزء واقعا.

ومبنى الترديد المزبور على الالتزام بدخل الجزم في النية في صحة العبادة وعدمه ..

فعلى القول باعتبار الجزم في النية ، يلتزم بالبطلان مطلقا ، لعدم تحقق الجزم بها ، إذ الفرض انه لم يقصد امتثال الأمر على كل حال ، بل على تقدير تخصصه بالخصوصية المعينة.

وعلى القول بعدم اعتبار الجزم بالنية ، يلتزم بالبطلان في خصوص صورة عدم دخله واقعا ، إذ في صورة الدخل لا قصور في الامتثال لقصد الأمر في المأتي به ولا مانع من صحة العمل.

ثم إن هاهنا شبهة قد تثار حول صحة العمل في الصورة الثانية إذا كان

ص: 275

قصد الزيادة عن تشريع ، إذ التشريع حرام فينافي المقربية. وقد دفعها في الكفاية : بان حرمة التشريع لا تسري إلى العمل الخارجي ، لأنه فعل من أفعال القلب فحرمته أجنبية عن المأمور به خارجا. فلا تنافي صحة العمل.

هذا توضيح ما جاء في الكفاية بقوله : « نعم لو كان عبادة ... » (1). وهو كما يتكفل الإشكال على الشيخ من الجهة التي أوضحناها يتكفل الإشارة إلى إشكال آخر ، وهو ان الكلام فيما نحن فيه لا يختص بالواجبات العبادية ، بل يعم التوصليات ، فكان ينبغي تعميم الكلام للواجبات بقول مطلق. والبحث فيها عن الأصل العملي من جهة مانعية الزيادة ، وافراد البحث عن العبادات من جهة أخرى. فالجزم بالبطلان في الوجه الأول من وجوه الزيادة - كما ارتكبه الشيخ - لا يصلح بقول مطلق ، إذ لا يتم في الواجبات التوصلية ، لأنه لا يعتبر فيها قصد الامتثال.

ثم انه لا بد من الكلام في نقاط ثلاثة فيما أفاده صاحب الكفاية :

الأولى : ان مفروض الكلام هو الإتيان بالزيادة بحيث يكون الشك في ان المزيد هل هو مانع أو لا؟ ، ولا يحتمل أنه جزء للمركب ، وإلا لم يكن زيادة. وبعبارة أخرى : ان مورد البحث هو الشك في مانعية التكرار ، ولا شك في جزئيته.

وعليه ، فلا وجه لما جاء في الكفاية من الترديد بين تخصيص البطلان في الصورة الأولى بصورة عدم دخل الزائد واقعا ، أو تعميمه لصورة الدخل واقعا أيضا ، إذ فرض الدخل واقعا خلاف المفروض في محل الكلام.

الثانية : ان فرض الخطأ في التطبيق مع التشريع لا يمكن الالتزام به وبعبارة أخرى : ان فرض التشريع في قصد الزيادة مساوق للتقييد في مقام الامتثال. وذلك لأن مرجع التشريع إلى البناء على ان الواجب الواقعي الشرعي

ص: 276


1- الخراسانيّ المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول /369- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هو المشتمل على الزيادة ، وان الأمر الثابت هو الأمر المتعلق بما يشتمل على الزيادة. وهذا لا يجتمع مع قصده امتثال الأمر الواقعي على واقعه ، إذ مرجعه إلى إلغاء ثبوت الأمر والمأمور به بنحو آخر وكيفية ثانية ، فكيف يتصور انه يقصد الواقع على واقعه ، وكيف يكون الأمر الواقعي محركا له بوجوده الواقعي؟.

الثالثة : قد أشرنا أخيرا إلى حديث حرمة التشريع وسرايته إلى العبادة ، ولا بأس بتفصيل القول فيه شيئا ما. فنقول : ان التشريع كما يفسر ، هو إدخال ما ليس في الدين في الدين. ومن الواضح انه بهذا المفهوم يكون فعلا من أفعال النّفس لا يرتبط بالفعل الخارجي المجعول له الحكم ولا ينطبق عليه. فمفهوم التشريع أو مفهوم إدخال ما ليس في الدين في الدين ونحو ذلك ، ليس مما ينطبق على الأفعال الخارجية ، بل هو يساوق مفهوم جعل القانون وسن الشريعة ، وهو يتمحض في إنشاء الأحكام ولا ينطبق على متعلقاتها.

ولكنه بهذا المفهوم لم يرد في لسان دليل شرعي ، بل ورد في الأدلة حرمة البدعة والافتراء والقضاء بغير العلم (1).

ولا يخفى ان هذه المفاهيم أيضا ليست منطبقة على الخارجيات ، إذ الابتداع في الدين يساوق التشريع ، والبناء على ثبوت حكم شرعا لا ثبوت له واقعا ، وهكذا القضاء بغير علم فانه الحكم بشيء بغير علم ، واما الافتراء فهو راجع إلى الكذب وهو أجنبي عن الفعل المشرع فيه.

إلا ان التشريع - كما قيل - من المحرمات العقلائية بلحاظ انه تصرف في سلطان المولى ، فلا بد من ملاحظة ما عليه بناء العقلاء والارتكاز العرفي من

ص: 277


1- سورة يونس ، الآية : 59. وسورة المائدة ، الآيات 44 و 45 و 47. وسائل الشيعة 8 / 575 ، باب : 129 من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج. وسائل الشيعة 18 / 9 ، باب : 4 من أبواب صفات القاضي.

ان المحرم هو فعل النّفس وما يساوق مفهوم التشريع خاصة ، أو ان الحرمة تسري إلى الفعل الخارجي المأتي به بعنوان موافقة أمر المولى؟. ولا يمكننا الجزم بالثاني ، والقدر المتيقن هو الأول. وعليه فلا دليل على قبح الفعل الّذي يشرع فيه ، فلا تسري حرمة التشريع إلى العمل الخارجي ، فلا يلزم من حرمته بطلان العمل. فتدبر.

التنبيه الثاني : فيما إذا علم بجزئية شيء أو شرطيته للمركب في الجملة

، ودار الأمر بين كونه كذلك مطلقا حتى في حال العجز عنه ، ولازمه سقوط الأمر بالمركب في حال العجز لعدم القدرة عليه. وبين كونه كذلك في خصوص حال التمكن منه فلا يكون جزء في حال العجز عنه ، ولازمه ثبوت الأمر بالباقي عند العجز عنه ، للقدرة على المركب ، لأنه خصوص الباقي في هذا الحال. ولا يخفى ان مرجع الشك المزبور إلى الشك في وجوب الباقي بعد العجز عن الجزء.

والكلام هاهنا تارة في ما هو مقتضى الأصل العملي. وأخرى في قيام دليل اجتهادي يدل على ثبوت الأمر بالباقي.

أما الكلام فيما هو مقتضى الأصل العملي ، فهو انما يقع بعد فرض عدم وجود إطلاق لدليل الجزئية ظاهر في ثبوت الجزئية في جميع الحالات. وعدم إطلاق لدليل الأمر بالمركب - لو لم يكن لدليل الجزئية إطلاق - يدل على ثبوت الأمر به في مطلق الحالات ولو مع تعذر الجزء.

وإلا فعلى الأول يكون مقتضى إطلاق دليل الجزئية ثبوت الجزئية المطلقة ، ومقتضاها سقوط الأمر بالباقي.

كما أنه على الثاني يكون مقتضى الإطلاق ثبوت الأمر بالباقي ، فلا مجال حينئذ للأصل العملي.

وإذا عرفت محل الكلام في الأصل العملي ، فاعلم ان الأصل العملي في المقام هو البراءة عن وجوب الباقي ، للشك في وجوبه بعد العجز عن الجزء ،

ص: 278

فدليل البراءة محكّم من عقل ونقل.

وقد يتوهم عدم جريان البراءة في وجوب الباقي لوجهين :

الوجه الأول : ان مقتضى حديث الرفع - إذا يمكن ان يجري الحديث بلحاظ رفع الاضطرار وبلحاظ رفع ما لا يعلمون ، لأن جزئية المتعذر مجهولة حال التعذر ، فيكون مقتضى الحديث - هو عدم جزئية المتعذر في حال التعذر ، ومقتضى ذلك ثبوت الأمر بالباقي.

وأورد عليه في الكفاية بان حديث الرفع وارد مورد الامتنان ، فيختص جريانه في مورد يستلزم نفي التكليف لا إثباته ، فإذا كان جريانه مستلزما لإثبات التكليف كما فيما نحن فيه لم يجر لمنافاته للامتنان (1).

وزاد على هذا الإيراد بعض المحققين رحمه اللّه وجهين آخرين :

أحدهما : ان الجزئية للمأمور به المجعولة بالأمر المركب مقطوعة الانتفاء للقطع بانتفاء الأمر بالمركب لأجل التعذر. والجزئية بلحاظ مقام الغرض وان كانت مشكوكة الثبوت ، لكنها واقعية لا مجعولة ، فالجزئية القابلة للجعل والرفع غير مشكوكة ، والجزئية المشكوكة غير قابلة للرفع. إذن فلا مجال لحديث الرفع.

والآخر : ان دليل الواجب إما ان يكون له إطلاق أو لا يكون له إطلاق ، فان كان له إطلاق يدل على ثبوت الأمر بالباقي كفى ذلك في نفي الجزئية ولا مجال معه لحديث الرفع كما عرفت. وان لم يكن له إطلاق ، فحديث الرفع لا ينفع في إثبات الأمر بالباقي ، لأنه إنما يتكفل الرفع دون الإثبات (2).

وبهذه الوجوه تعرف انه لا مجال للالتزام بإجراء حديث الرفع في جزئية المتعذر.

ص: 279


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /369- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 296 - الطبعة الأولى.

الوجه الثاني : الرجوع إلى الاستصحاب في إثبات وجوب الباقي ، ومعه لا مجال لجريان البراءة منه ، لتقدم الاستصحاب على البراءة - كما حقق في محله -.

وقد قرّر الاستصحاب بوجوه عديدة :

الأول : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه وصاحب الكفاية ، وهو استصحاب كلي الوجوب الثابت سابقا للاجزاء المقدورة ، فان الباقي كان معلوم الوجوب لتعلق الوجوب الغيري به ، وهو وإن زال بزوال وجوب الكل ، لكن يحتمل تعلق الوجوب النفسيّ به فيكون سببا للشك في بقاء الوجوب الجامع فيستصحب.

وأورد عليه :

أولا : بأنه يبتني على تصحيح القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي ناشئا من الشك في حدوث فرد آخر ، مع العلم بزوال الفرد السابق الّذي حدث به الكلي. والتحقيق على بطلانه ، إلا إذا كان الفرد الحادث المشكوك يعد عرفا من مراتب الفرد السابق لا مباينا له ، كالشك في تبدل السواد إلى مرتبة أضعف منه مع العلم بزوال مرتبته الحادثة أولا. وليس الاختلاف بين الوجوب الغيري والوجوب النفسيّ في الشدة والضعف ، بل هما متباينان عرفا.

وثانيا : انه يبتني على تعلق الوجوب الغيري بالأجزاء ، وقد ثبت امتناعه ، كما مرّ في مبحث المقدمة الداخلية والخارجية من مسألة مقدمة الواجب.

وثالثا : بان الجامع بين ما لا أثر له عقلا في مقام الإطاعة وما له الأثر لا ينفع إثباته في الحكم بلزوم الإطاعة عقلا. والأمر كذلك في الوجوب الجامع بين النفسيّ والغيري ، إذ الوجوب الغيري - كما مر تحقيقه - مما لا إطاعة له ولا امتثال ، فاستصحاب الجامع لا يجدي فيما هو المهم من لزوم الإتيان بالباقي عقلا ، ولزوم الخروج عن عهدة التكليف به ، فإثبات كلي الوجوب يكون بلا أثر عملي ، فيكون لغوا.

ص: 280

الثاني : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه وأشار إليه في الكفاية ، وهو استصحاب الوجوب النفسيّ الشخصي الثابت سابقا بدعوى المسامحة عرفا في موضوعه ، إذ العرف يرى الباقي والمركب التام شيئا واحدا ، ولذا يرى عدم ثبوت الحكم للباقي ارتفاعا للحكم السابق كما انه ثبوته بقاء له. فيقال حينئذ : هذا - ويشار إلى الباقي - كان واجبا والآن كذلك. ونظيره استصحاب كرية الماء الّذي كان كرا وأريق منه بعضه فشك في كريته (1).

وقد أورد عليه : بأنه يبتني على المسامحة في الموضوع مع كون الباقي مما يتسامح فيه عرفا ، كما إذا كان المتعذر جزء واحدا - مثلا - لا ما إذا تعذرت كمية من الاجزاء معتد بها ، لعدم صدق الوحدة عرفا بين الباقي والمركب حينئذ (2).

هذا ، ولكن الّذي نراه عدم تأتي المسامحة في مثل ما نحن فيه. وبيان ذلك : ان المراد بالمسامحة العرفية والنّظر العرفي هو ما يراه العرف بحسب مرتكزاته وبحسب ربطه بين الحكم وموضوعه موضوعا للحكم ، فهو يرى ان الموضوع في مثل : « أطعم العالم » ذات العالم ، وجهة العلم جهة تعليلية ، إذ لا ربط للإطعام بجهة العلم ، بل يرتبط بالذات نفسها ، فإذا زال العلم لا يزول الموضوع بنظر العرف ، وانما يرى انه قد زالت بعض حالاته ، فيصح استصحاب وجوب الإطعام مع الشك.

أما في مثل : « قلّد العالم » فانه يرى ان الموضوع العالم بما هو عالم ، لارتباط التقليد وأخذ الأحكام بجهة علمه لا بذاته خاصة. فمع زوال العلم يزول الموضوع عرفا. فلا مجال للاستصحاب مع الشك.

ومن الواضح انه هذا الاختلاف في النّظر انما يتأتى في موضوعات

ص: 281


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 294 - الطبعة الأولى. الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /370 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 297 - الطبعة الأولى.

الأحكام ، إذ ارتباط الحكم بها بلحاظ متعلقه وارتباط المتعلق بها ارتباط تكويني ، فيمكن ان يختلف نظر العرف في تشخيصه بحسب اختلاف الموارد وان اتحد لسان الدليل كما عرفت في المثالين.

أما بالنسبة إلى متعلقات الأحكام ، فلا يتأتى فيها المسامحة العرفية ، إذ ارتباط الحكم بمتعلقه جعلي يرتبط بالمولى الجاعل نفسه وان كان المولى عرفيا ، فإذا أثبت الحكم لمركب ذي أجزاء عشرة لا يرى العرف وجوب التسعة وان متعلق الحكم هو الجامع بين العشرة والتسعة ، بل نظر العرف هاهنا يتبع ما قرره المولى داعيا إلى أي مقدار كان من الاجزاء. فإذا أوجب المولى المركب ذي الاجزاء العشرة ، كان المركب ذو الاجزاء التسعة مباينا لمتعلق الحكم عرفا لا متحدا معه ، وإن كان الجزء المفقود ضئيلا جدا.

وإذا ظهر ذلك تعرف بطلان دعوى تأتي المسامحة العرفية فيما نحن فيه ، إذ موضوع الكلام فيما نحن فيه هو تعذر الجزء من متعلق الحكم لا موضوعه.

وما ذكرناه كما يكون إشكالا على نفس تقرير الاستصحاب بهذا الوجه يكون إشكالا على الاعلام (قدس سرهم) ، حيث التزموا بهذا الاستصحاب في الجملة مبنيا على المسامحة في الموضوع. فلاحظ.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه في حاشيته على الكفاية وهو استصحاب شخص الوجوب الثابت سابقا للباقي مع قطع النّظر عن كونه نفسيا أو غيريا لعدم الفرق والتمايز بينهما بنظر العرف ، إذ العرف لا يرى جهة الغيرية والنفسيّة من الجهات المقومة للوجوب وانما هي من طوارئ الوجوب ، فالتسامح الموجود في هذا الاستصحاب في المستصحب لا في الموضوع ، كما انه لا يرجع إلى أخذ الجامع (1).

ص: 282


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 297 - الطبعة الأولى.

وقد ناقشه قدس سره بما لا يخلو عن نظر ولا يهمنا التعرض إليه. والعمدة في مناقشة هذا الوجه هو انه يبتني على تعلق الوجوب الغيري بالاجزاء ، وقد عرفت امتناعه ، فأساس هذا الوجه غير مسلم.

الرابع : ما أشار إليه المحقق الأصفهاني أيضا في حاشيته ، وهو استصحاب الوجوب النفسيّ مع قطع النّظر عن تعلقه بالباقي ، نظير استصحاب وجود الكر في إثبات كرية الموجود ، فيقال : إن الوجوب النفسيّ للصلاة كان ثابتا والآن يشك في بقائه ، فيحكم به بمقتضى الاستصحاب. وبعبارة أخرى : المستصحب هو وجوب الصلاة بمفاد كان التامة ، لا الناقصة (1).

وفيه : ان نسبة الصلاة إلى مجموع الاجزاء ليست نسبة المسبب إلى السبب ، بل نسبة اللفظ إلى المعنى ، فالمراد بالصلاة هو الاجزاء الخاصة.

وعليه ، فالمراد بالصلاة في استصحاب وجوب الصلاة ، إن كان المركب التام ، فهو مما لا إشكال في ارتفاع وجوبه فلا معنى لاستصحابه. وان كان المراد الأعم من المركب التام والناقص بدعوى المسامحة العرفية في موضوع الوجوب ، فهو راجع إلى الوجه الثاني الّذي قد عرفت الإشكال فيه.

هذا ان أريد بالاستصحاب استصحاب الوجوب الشخصي السابق المتعلق بشخص الصلاة والحصة الخاصة منها. وإن أريد به استصحاب الوجوب المتعلق بكلي الصلاة ، فلا يرد عليه ما تقدم ، إذ لا يتوقف على المسامحة وتنزيل الفاقد منزلة الواجد عرفا ، إذ الكلي ينطبق على الفاقد والواجد حقيقة. لكن يرد عليه : انه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، لأن وجوب الكلي كان متحققا في ضمن فرد خاص ، وهو قد ارتفع قطعا ويشك في حدوث فرد جديد ، ولا مجال لتوهم ان الفرد الجديد هو نفس الفرد السابق لتباينهما بتباين موضوعهما

ص: 283


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 297 - الطبعة الأولى.

الشخصي ، فتدبر جيدا.

وأما الإيراد على هذا الوجه بأنه مثبت بلحاظ إثبات وجوب الباقي. فهو قابل للمنع. فتأمل. فالعمدة في الإيراد ما ذكرناه.

الخامس : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه أيضا تحت عنوان : « يمكن ان يقال ». وتوضيحه مع شيء من التصرف فيه : ان الاجزاء الباقية كانت متعلقة للوجوب النفسيّ المنبسط على الكل ، فهي متيقنة الوجوب سابقا ، لكن وجوبها وجوب ضمني ، إذ الوجوب الاستقلالي انما يتعلق بالكل ، وبملاحظة المسامحة العرفية في الوجوب الضمني والاستقلالي ، فان العرف لا يرى تعددهما ، بل يرى الضمنية والاستقلالية من الحالات الطارئة. يمكن ان يستصحب الوجوب النفسيّ المتعلق بالأجزاء لليقين بحدوثه مع الشك في بقائه ، والجزم بارتفاع صفة الضمنية بارتفاع الأمر بالكل لا يضر بعد دعوى المسامحة المزبورة (1).

وهذا الوجه قابل للمناقشة أيضا كسوابقه ، وذلك لأن وجود الوجوب الضمني للاجزاء متقوم بوجود الوجوب الاستقلالي للكل ، ولا يمكن فصله عن وجوب الكل ، وبما ان وجوب الكل متقوم بالمركب التام لتقوم الصفة التعلقية بمتعلقها ، فان نسبته إليه نسبة الوجود إلى الماهية ، كان الوجوب الضمني متقوما بالتام ، فمع تعذر التام ينعدم الوجوب الضمني ، فإذا ثبت الوجوب للاجزاء الباقية بعد التعذر فهو فرد آخر للوجوب ، فلا يكون استمرارا لذلك الوجوب لاختلاف الموضوع.

نعم ، إذا بني على التسامح في متعلق الوجوب النفسيّ الثابت أولا وتنزيل الباقي منزلة التام عرفا ، فيتحد الموضوع بلحاظ المسامحة في المتعلق. كان أمرا

ص: 284


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 298 - الطبعة الأولى.

آخر ، لكن عرفت المناقشة فيها في رد الوجه الثاني الّذي تقدمت المناقشة فيه. فراجع.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه : انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيما نحن فيه ، فلا مانع من جريان البراءة من الباقي من جهة الاستصحاب.

هذا فيما يرتبط بالأصل العملي.

ص: 285

« قاعدة الميسور »
اشارة

وأما فيما يرتبط بالدليل الاجتهادي ، فقد ادعي ثبوت الاخبار الدالة على وجوب الباقي عند تعذر بعض الاجزاء. واستفيد من هذه الاخبار قاعدة يصطلح عليها ب- : « قاعدة الميسور ». وهذه الاخبار ثلاثة مروية في غوالي اللئالي :

الأول - النبوي الشريف وهو - : انه خطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « ان اللّه كتب عليكم الحج. فقام عكاشة أو سراقة بن مالك فقال : في كل عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه ، حتى أعاد مرتين أو ثلاثا ، فقال : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، واللّه لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » (1).

والثاني - العلوي الشريف وهو - : قول علي علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (2).

والثالث - العلوي الشريف أيضا وهو - : قوله علیه السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (3).

ويقع الكلام في كل واحد من هذه الاخبار على حدة.

أما النبوي : فمحل الاستشهاد به هو قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ». فانه ظاهر في وجوب الإتيان بالاجزاء التي يتمكن منها ،

ص: 286


1- عوالي اللئالي 4 / 58.
2- عوالي اللئالي 4 / 58.
3- عوالي اللئالي 4 / 58.

مع تعذر الباقي.

وقد استوضح الشيخ رحمه اللّه دلالتها على المدعى جدا ، وبنى ذلك على ظهور لفظ : « من » في التبعيض (1).

وتوضيح ذلك كما أشار إليه المحقق الأصفهاني قدس سره : ان لفظ : « شيء » اما ان يراد منه المركب أو العام أو الكلي والطبيعة. ولفظ : « من » إما ان يراد بها معنى التبعيض أو تكون بيانية أو بمعنى الباء.

ومن الواضح انها انما تفيد المدعى لو أريد من الشيء المركب وكانت : « من » تبعيضية ، فانها تكون ظاهرة في انه إذا تعلق الأمر بمركب ذي اجزاء فأتوا بعضه الّذي تستطيعونه.

أما إذا أريد من : « من » معنى الباء ، فتكون ظاهرة في إرادة انه إذا تعلق الأمر بشيء فأتوا به مدة استطاعتكم ، ومن الواضح انه أجنبي عما نحن فيه.

كما أنه إذا كان المراد من : « من » البيان ، كانت ظاهرة في انه إذا تعلق الأمر بكلي فأتوا من افراده ما استطعتم. وذلك أجنبي عن المدعى بالمرة.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في تقريب كلام الشيخ : انه لا معنى لكون « من » بيانية في خصوص الرواية ، ضرورة ان مدخولها لا يصلح بيانا للشيء ، لأنه الضمير وهو مبهم.

وأما كونها بمعنى الباء ، فالذي يوهمه عدم تعدي الإتيان بنفسه ، وانما يتعدى بالباء ، فيقال : « أتيت به » بمعنى أوجدته. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الإتيان يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) (2) وقوله تعالى : ( وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (3). ويتعدى بالباء أخرى كقوله تعالى :

ص: 287


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /294- الطبعة الأولى.
2- سورة النساء الآية : 15.
3- سورة الأحزاب الآية : 18.

( يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) (1). وعليه فلا يتعين كونها بمعنى الباء في الرواية.

وأما لفظ : « الشيء » ، فلا يراد به العام الاستغراقي ، لأنه يعبر به عن الواحد ولا يعبر عن المتعدد ، وانما يعبر عنه بأشياء ، فلو أراد العام لناسب أن يعبر بأشياء.

كما ان إرادة الطبيعة والكلي في : « منه » ممكنة في حد نفسه ، إلا ان إرادة الكلي في المقام ممتنعة ، إلاّ انه لا يناسب التبعيض ، إذ الفرد مصداق للكلي لا بعضه ، فيتعين ان يراد به المركب ذو الاجزاء. فتكون دالة على المدعى (2).

هذا تقريب دلالة الرواية على المدعى.

لكن هاهنا إشكالا نبّه عليه في الكفاية (3) وتبعه عليه غيره (4) وهو : أن مورد الرواية لا يتلاءم مع المركب ذي الاجزاء ، بل يلائم الكلي ذي الافراد ، إذ المسئول عنه هو وجوب تكرار الحج وعدمه بعد تعلق الأمر به ، وبمقتضى البيان المزبور للجواب لا يكون الجواب مرتبطا بالسؤال ، ولأجل ذلك ذهب البعض إلى إجمال الرواية أو التصرف في لفظ : « من » بحمله على معنى الباء أو كونها بيانية ، إذ يرتفع التنافي بذلك كما لا يخفى.

واما المحقق الأصفهاني ، فقد ذهب إلى كون مقتضى التحقيق : ان : « من » ليست بمعنى التبعيض بعنوانه كي لا يتلاءم مع إرادة الكلي من الشيء ، بل هي لمجرد اقتطاع مدخولها من متعلقه ، وهذا الاقتطاع قد يوافق التبعيض أحيانا ، وبما ان الفرد منشعب من الكلي لانطباقه عليه ، صح اقتطاع ما يستطاع منه ، فلا يتعين مع ذلك إرادة المركب ، بل يراد من : « الشيء » الكلي ويراد من لفظ : « منه »

ص: 288


1- سورة النساء الآية : 19.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 298 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق محمد كاظم كفاية الأصول / 370 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
4- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4 / 254 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

من افراده ، وتكون ما موصولة لا مصدرية ظرفية. فيتلاءم مع مورد الرواية والسؤال (1).

أقول : ما أفاده قدس سره وان استلزم حل المشكلة ، لكن كون : « من » بمعنى الاقتطاع لا بمعنى التبعيض لا طريق إلى إثباته ، وانما هو مجرد تصور وفرض ، فلا نستطيع الجزم به كما لا نجزم بعدمه ، ومثله لا يكفينا في حلّ المشكلة.

فالمتعين أن يقال في معنى الرواية : انه لا يحتمل ان يكون المراد من قوله صلی اللّه علیه و آله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » هو الأمر بتكرار المأمور به قطعا إذ ظاهر الصدر انه ليس بواجب - بملاحظة قوله : « ويحك ... ». وبذلك يظهر غفلة الاعلام ( قدّست أسرارهم ) عن هذا الأمر الواضح ، إذ تصوروا دلالة الرواية على التكرار لو حملت : « من » على معنى الباء أو البيانية ، فلاحظ كلماتهم -. مضافا إلى ان عدم وجوب تكرار الحج من القطعيات ، بل الّذي يراد به هو الأمر به في حال الاستطاعة.

ولا يخفى ان عدم عموم قوله المزبور - على هذا التفسير - ، للأمر بالطبيعة والأمر بالمركب إنما ينشأ من تخيل ان مقتضى حمله على المركب يقتضي تقييد الموضوع بصورة تعذر بعض اجزائه ، ومقتضى حمله على الكلي يقتضي عدم تقييده ، إذ المفروض تعلق الأمر به والبعث نحوه بلا نظر لمرحلة تعذر بعض اجزائه. ولكنه تخيل فاسد ، إذ لا داعي لهذا التقييد لو أريد به المركب ، إذ ليس المراد هو الأمر بالمستطاع من الاجزاء مع تعذر البعض ، بل المراد هو الأمر بالمركب بمقدار ما يستطيعه المكلف منه ، فان كان مستطيعا على الكل وجب الجميع ، وإلا وجب البعض.

وهذا نظير ان يقول المولى لعبده بعد أمره بمجموعة أجزائه : « ائت

ص: 289


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 299 - الطبعة الأولى.

بالذي تستطيعه » فإذا استطاع على الكل وجب عليه الكل. إذن فقوله : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » ، يمكن ان يعم حالتي التعذر وعدمه ، فيمكن ان يعم الكلي وهو مورد الرواية ، وانه يلزم الإتيان به ، ويعم المركب الّذي تعذر بعض أجزائه مع التحفظ على ظهور « من » في التبعيض.

وبالجملة : يكون قوله المزبور كناية عن ان الأمر بالمركبات بنحو تعدد المطلوب. إذن فهذه الجملة قابلة للدلالة على المدعى مع عدم منافاتها لمورد الرواية.

يبقى شيء وهو : ان هذا الجواب بهذا المقدار لا يرتبط بالسؤال عن وجوب التكرار في الحج وعدمه ، إذ وجوب الإتيان بالمأمور به معلوم لدى السائل ، ولزوم الإتيان ببعض اجزائه مع تعذر غيرها لم يقع موردا للسؤال.

فنقول : ان الجواب مرتبط بالسؤال بلحاظ إفادته الحصر الدال على نفى التكرار ، فان النبي صلی اللّه علیه و آله بعد ما وبّخ السائل على تطفله وإلحاحه وطلب منه الانصراف عن كثرة السؤال ، ذكر له انه عند الأمر بشيء يلزم الإتيان به خاصة وبهذا المقدار ولا يلزم شيء آخر.

وهذه الجهة - أعني : جهة الحصر - لا بد من ملاحظتها على أي تقدير ، سواء أريد من : « من » التبعيض كما قربناه ، أم كونها بمعنى الباء أو غير ذلك ، إذ لو كانت بمعنى الباء كان معنى قوله : « إذا أمرتكم ... » هو انه يجب الإتيان بالشيء المأمور به عند الاستطاعة ، وهذا ليس محل سؤال بل مما لا يجهله السائل ، فلا يرتبط الجواب بالسؤال ، إلا بتضمين الجواب جهة الحصر. نعم لو احتمل كونه في مقام لزوم التكرار بمقدار الاستطاعة لم نحتج إلى الحصر ، إذ الجواب يرتبط بالسؤال بوضوح. ولكن عرفت انه لا مجال لتوهم إرادة ذلك ، بل الجواب اما يتكفل الأمر بالشيء حال الاستطاعة لو أريد من لفظ : « من » معنى الباء أو يتكفل ما ذكرناه لو أريد من لفظ : « من » التبعيض. وعلى أي تقدير لا

ص: 290

يرتبط بالسؤال إلا بتضمينه معنى الحصر. فهذه الجهة مما نحتاج إليها على كل تقدير بملاحظة السؤال ، وهي مستفادة على ما عرفت من كيفية الجواب ومقدماته ، وليست أمرا خفيا في الكلام.

ومحصل ما ذكرناه : ان الرواية تتكفل بيان أمرين :

أحدهما : لزوم الإتيان بالشيء خاصة عند الأمر به وعدم لزوم شيء آخر وراءه.

والآخر : ان الأمر بالشيء المركب بنحو تعدد المطلوب والمراتب.

وبلحاظ هذه الجهة الثانية تكون دالة على المدعى بوضوح.

وما ذكرناه واضح بنظرنا من الرواية وظاهر بقليل من التأمل ، وبذلك تنحل المشكلة ، ونجمع بين تكفل الرواية لما نحن فيه مع ارتباطها بمورد السؤال. فالتفت وتدبر ، فانه لم يسبق بيانه فيما تقدم.

وأما قوله علیه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور ». فجهة الاستدلال بها واضحة ، لكن نوقش في دلالتها : بان المراد بها ان حكم الميسور لا يسقط بسبب سقوط حكم المعسور. وذلك لأن السقوط لا يحمل على نفس الميسور ، لأنه فعل المكلف ، ولا معنى لسقوطه وبقائه ، وانما الّذي يقبل السقوط هو الحكم ، فيراد من النص ما عرفت. ولا يخفى ان مرجع ذلك إلى الحكم ببقاء الحكم الثابت للميسور واستمراره.

ومن الواضح ان النص بهذا المعنى لا يشمل المركب الّذي يتعذر بعض اجزائه ، إذ الحكم الّذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الأمر الضمني ، وهو مرتفع قطعا بتعذر الكل لسقوط الأمر بالكل ، فلا مجال للحكم بعدم سقوطه. وببيان آخر : ان الأمر الّذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الأمر الضمني ، وهو مرتفع بارتفاع الأمر بالكل ، فإذا فرض ثبوت أمر للميسور بعد التعذر كان أمرا استقلاليا ، وهو لا يعد بقاء للأمر الأول. وقد عرفت ان مفاد النص هو الحكم

ص: 291

ببقاء الحكم الأول وعدم سقوطه.

وعليه ، فلا بد ان تحمل الرواية على موارد الأحكام المستقلة التي يتوهم سقوط بعضها بسقوط الآخر ، كما إذا كانت منشأة بدليل واحد ، نظير : « أكرم كل عالم » مع تعذر إكرام بعض افراد العالم ، فتحمل على مورد العموم الأفرادي.

والجواب عن هذه المناقشة بما ذكره الشيخ رحمه اللّه :

أولا : من إمكان التحفظ على اسناد السقوط إلى الميسور نفسه بلا حاجة إلى تقدير الحكم ، بان يراد من عدم سقوطه بقاؤه في العهدة وفي عالم التشريع والجعل ، فانه وظيفة الشارع ، فيدل على تعلق الأمر به بقاء ، ولو كان أمرا آخر غير الأول ، إذ تعدد الأمر لا يغيّر ثبوت المتعلق في العهدة ويصدق معه بقاء المتعلق في العهدة حقيقة.

وعليه ، فتكون الرواية شاملة للمركب إذا تعذر بعض اجزائه.

وثانيا : لو سلم ان المسند إليه السقوط هو الحكم بتقديره في الكلام ، فهي تشمل المركب أيضا ، لأن بقاء الحكم صادق عرفا عند ارتفاع الأمر الضمني عن الميسور من الاجزاء وتعلق الأمر المستقل بها ، لمسامحة العرف في النفسيّة والغيرية ، فلا يرونهما إلا من حالات الوجوب لا من مقوماته ، ولذلك يعبّرون عن تعلق الوجوب بالميسور ببقاء وجوبه وعن عدم تعلقه بارتفاع وجوبه. وقد تقدم نظير هذا الكلام في استصحاب الوجوب (1).

والحاصل : ان الرواية ظاهرة في بقاء الميسور في عهدة المكلف ، لا بهذا اللفظ - أعني : لفظ العهدة كي يدعى عدم شمولها للمستحبات ، لأنها لا عهدة لها ، وإن كان هذا الكلام محل نظر - ، بل بما يساوقه من كونه مجعولا على المكلف ونحو ذلك ، فيدل على بقائه بما له من الحكم سابقا من وجوب أو استحباب ، فيعم

ص: 292


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /294- الطبعة الأولى.

الواجبات والمستحبات.

ولوضوح الكلام في هذه الرواية تماما لا بد من التنبيه على جهتين :

الجهة الأولى : قد عرفت في مقام بيان معنى الرواية تفسير السقوط وعدمه بما يساوق الارتفاع والبقاء الظاهر في لزوم تحقق الحكم حدوثا كي يرتفع أو يبقى ، نظير مفاد دليل الاستصحاب.

هذا ولكن المراد بالسقوط هاهنا عدم الثبوت أعم من الارتفاع بعد الحدوث ومن عدم الحدوث ، نظير ما يقال في حديث الرفع من ان المراد بالرفع أعم من الدفع والرفع ، فلا يراد من عدم السقوط هو الحكم بالبقاء ، بل أعم من الحكم بالبقاء ومن الحكم بالحدوث. وذلك لوجهين :

الأول : ان السقوط عرفا يستعمل في الأعم من الارتفاع بعد الحدوث ومن عدم الحدوث رأسا ، فيقال للنائم قبل الوقت إذا استغرق نومه جميع الوقت ان التكليف بالصلاة عنه ساقط - بلا أي مسامحة في التعبير - ، مع انه لم يسبق حدوث التكليف في حقه. وهكذا للمسافر قبل الوقت ، يقال له إن التكليف بالتمام عنه ساقط مع انه لم يحدث في حقه. ويقال للحائض ان التكليف بالصلاة ساقط عنها ، مع عدم حدوثه في حقها. والأمثلة على ذلك كثيرة مما يدل على ان السقوط بنظر العرف أعم من الارتفاع بعد الحدوث ومن عدم الحدوث رأسا.

الثاني : ان العلماء جميعا يتمسكون بالقاعدة في موارد تحقق التعذر من أول الوقت ولم يعهد من أحد منهم تخصيص النص بما إذا طرأ العذر بعد دخول الوقت ، والتوقف فيه فيما إذا تحقق العذر من أول الوقت ، وهذا الأمر أوضح من أن يخفى. فيدل على ان المرتكز في أذهانهم ما ذكرناه من عموم السقوط ، وإن جاء في كلماتهم في مقام بيان معنى الرواية حملها على إفادة الحكم بالبقاء كدليل الاستصحاب. فتدبر.

هذا ، ولكن مجرد عدم الحدوث لا يصحح صدق السقوط ، إذ كثيرا ما لا

ص: 293

يصدق السقوط عند عدم حدوث التكليف ، بل انما يصدق السقوط على عدم الحدوث فيما كان هناك مقتض للثبوت ، سواء كان مقتضيا بلحاظ مقام الثبوت أم بلحاظ مقام الإثبات ، وانما لا يثبت الحكم لوجود مانع - مثلا -.

أما مع عدم المقتضي فلا يصدق السقوط على عدم ثبوت الحكم ، كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية.

ومن هنا قد يشكل صدق السقوط على عدم ثبوت التكليف بالاجزاء الميسورة مع تعذر بعضها ، لعدم إحراز المقتضي ثبوتا فيها وهو الملاك ، إذ لا يعلم انها واجدة لملاك الوجوب أو لا. وعدم وجوب المقتضي إثباتا وهو الدليل ، إذ الموجود من الدليل على ثبوت الحكم هو الدليل على الأمر بالكل وهو مرتفع قطعا بالتعذر ، فلا دليل على ثبوت الحكم في الميسور كي يكون عدم ثبوته سقوطا.

ولكن يمكن التفصي عن هذه المشكلة بوجهين - بعد الجزم بصدق السقوط وعدمه بالنسبة إلى الاجزاء في هذا الحال عند عدم ثبوت التكليف بها أو ثبوته - :

أحدهما (1) : الالتزام بالاكتفاء بالمقتضي على تقدير عدم التعذر وعدم لزوم وجود المقتضي الفعلي ، فان ملاك الحكم في الاجزاء الميسورة ثابت عند عدم تعذر غيرها. وهذا الملاك الثابت يصحح صدق السقوط عند حصول التعذر.

والآخر : ان نفس المقتضي لثبوت التكليف بالكل المصحح لصدق سقوطه ، يكون مقتضيا لثبوت التكليف بالميسور من الاجزاء ، بنحو من المسامحة

ص: 294


1- لعله إلى ذلك ينظر الشيخ في قوله ( يعني ان الفعل الميسور إذا لم يسقط. ). خصوصا بملاحظة قوله عند التكلم في الشروط : « واما الثانية فاختصاصها كما عرفت سابقا بالميسور الّذي كان له مقتضى للثبوت ... » إذ لم يسبق منه ما يشير إلى ذلك غير تلك العبارة. وان كان بعيدا لعله ينظر إلى ما رامه السيد الأستاذ في تعميم القاعدة لصورة التعذر من أول الوقت فتأمل في كلامه. منه.

في متعلق الحكم النفسيّ وفرضه الأعم من الواجد والفاقد - كما تقدم نظيره في الاستصحاب -.

والفرق بين هذين الوجهين من الناحية العملية ، هو انه ان بنينا على الثاني وصححنا صدق السقوط بناء عليه ، لم تجر القاعدة إلا في ما كان الميسور معظم الاجزاء ، بحيث تصح المسامحة فيه عرفا بفرضه نفس الواجب النفسيّ ، دون ما كان الباقي اجزاء قليلة من المركب ، إذ لا يرى العرف وحدته مع الكل ، فلا يثبت له المقتضي لثبوت الحكم فيه.

وأما إن صححنا صدق السقوط بناء على الوجه الأول ، كانت القاعدة جارية ولو مع كون الميسور قليلا جدا ، لثبوت المقتضي التقديري فيه ، فيصح نسبة السقوط وعدمه إليه.

وبما انا نرى صدق السقوط عرفا على الأجزاء الميسورة ولو كانت قليلة ، كان ذلك كاشفا عن كون الملحوظ في المصحح هو الوجه الأول لا الثاني. فانتبه.

الجهة الثانية : قد عرفت تقريب دلالة الرواية على بيان عدم سقوط الميسور من الاجزاء عند تعسر بعضها. وقد ناقشها صاحب الكفاية باحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها (1).

وهذه المناقشة بهذا المقدار خارجة عن الأسلوب العلمي ، ومجرد الاحتمال لا ينفع في قبال الظهور المدعى ، فمع الاعتراف بالظهور لا معنى للتوقف لمجرد الاحتمال. ولو كان هو في مقام التشكيك في الظهور - كما يظهر من كلامه - فكان يلزمه أن يبين جهة التشكيك وينبّه عليها ولا معنى للاكتفاء بإلقاء الاحتمال فقط.

ثم إنه لا مانع من شمول النص لكلا الموردين ، فيدلّ على عدم سقوط

ص: 295


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /371- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الميسور من الاجزاء بمعسورها ، كما يدل على عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها ، فلا وجه لترديده بينهما وتوقفه عن الجزم بأحدهما.

وكيف كان لا بد من تحقيق هذه الجهة - أعني الالتزام بعموم النص للمركب الّذي تعذر بعض اجزائه وللطبيعة التي يتعذر بعض افرادها. وبعبارة أخرى : للأحكام المستقلة التي يتعذر بعضها - بنحو يرتفع الغموض عن بعض جهاتها. فنقول : إنه كما يتأتى احتمال سقوط الأجزاء الميسورة عند تعذر غيرها ، كذلك يتأتى هذا الاحتمال لبعض في الأحكام الاستقلالية ، بأن يكون هناك حكمان استقلاليان مجعولان بنحو يتوهم الارتباط بينهما في الثبوت والسقوط. وهذا لا ينافي استقلاليتهما إذ الارتباط بين الحكمين لا يلازم الارتباط في متعلقيهما ، بل يكون لكل منهما إطاعة وعصيان على حدة ، لكن لا يثبت أحدهما بدون الآخر لمصلحة تقتضي جعلهما كذلك ، فإذا تعذر امتثال أحدهما جاء احتمال سقوط الآخر.

وإذا تصورنا هذا ثبوتا في الأحكام الاستقلالية. فنقول : ان الحكم الميسور امتثاله من الحكمين إن كان له دليل إثباتي بعد التعذر واضح ، فهو يدفع احتمال سقوطه ، فلا تكون القاعدة ناظرة إليه.

وذلك نظير الأحكام التي يتكفلها دليل واحد بنحو العموم - مثل : « أكرم كل عالم » - ، فانه مع تعذر إكرام بعض العلماء يكون العام حجة ودليلا على ثبوت الحكم للباقي ، وحجيته في الباقي عرفا لا تقبل التشكيك والإنكار ، وإن اختلف العلماء في وجهها ، من كونه أقرب المجازات ، أو بالدلالة الضمنية ، أو غير ذلك على ما تقدم تحقيقه في محله.

ففي مثل ذلك يستبعد جدا نظر الرواية إليه ، لعدم توهم السقوط بلحاظ الدليل الإثباتي الواضح على عدمه ، فلا نقول بأنه ممتنع - كما جاء في كلمات

ص: 296

المحقق الأصفهاني (1) - ، بل نقول بأنه مستبعد جدا.

وأما إذا لم يكن له دليل إثباتي بعد التعذر ، فالرواية ناظرة إليه ، نظير ما لو قال : « أكرم العشرين عالما » بنحو يكون كل فرد محكوما بحكم مستقل وتعذر إكرام زيد العالم منهم ، فاحتمل سقوط الباقي ، فان لفظ : « العشرين » ليس من ألفاظ العموم كي يكون حجة فيما بقي ، بل هو عنوان يعبر عن المجموع ، فلا يمكن ان يصدق على الأقل منه.

وعليه ، فلا يكون حجة فيما بقي كما حققناه في مبحث العموم والخصوص. ولذا التزمنا هناك ، بان الدليل الدال على عدم إكرام أحد العشرين يكون معارضا للدليل الدال على إكرام العشرين لا مخصصا له. إذن فتوهم السقوط لا دافع له في مثل ذلك ، فالرواية تنظر إليه وتفيد عدم سقوط الميسور من الافراد بسبب المعسور. ومثله ما لو قال : « صم شهر رجب » فتعذر صوم بعض أيامه ، وكان صوم كل يوم ملحوظا واجبا مستقلا ، لا ان المجموع محكوم بحكم واحد.

فظهر مما حققناه : ان الرواية كما تشمل المركبات إذا تعذر بعض اجزائها ، تشمل موارد الأحكام الاستقلالية التي يتكفلها دليل واحد بعنوان يعبر عن عدد خاص لا بعنوان عام. فالتفت وتدبر.

وأما العلوي الآخر ، وهو قوله علیه السلام : « ما لا يدرك كله لا يترك كله ». فجهة الاستدلال به على المدعى واضحة ، وقد نوقش الاستدلال به بمناقشات تعرض إليها الشيخ وأجاب عنها فلا يهمنا التعرض إليها (2).

وإنما المهم تحقيق المراد بالرواية ، وهو يظهر بمعرفة المراد من الموصول ولفظ : « كل » في الموضعين. فنقول :

ص: 297


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2 / 299 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /295- الطبعة الأولى.

أما الموصول ، فهو - كما أفاد الشيخ - لا يكنّى به عن المتعدد ، وانما يكنّى به عن الواحد ، فيراد به الفعل الواحد لا الأفعال المتعددة كي يدعى انه يكون دالا على ان الأفعال المتعددة لا يسقط بعضها إذا تعذر البعض الآخر ، فيكون مختصا بمورد تعلق الحكم بافراد العام بنحو العموم الاستغراقي ، فلا يشمل صورة تعذر بعض أجزاء المركب الّذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه. فالمراد بما هو فعل المكلف ، أعم من الطبيعة والمركب ، فيكون النص دالا على عدم سقوط بعض افراد الطبيعة عند عدم إدراك البعض الآخر ، كما يكون دالا على عدم سقوط بعض اجزاء المركب إذا تعذر البعض الآخر.

واما لفظ : « كل ». فقد ذكر الشيخ رحمه اللّه ان المراد به المجموع ، ولا يمكن ان يحمل على العموم الاستغراقي ، إذ إرادة العموم الاستغراقي منه تقتضي ان يكون المفاد : ان الافراد والاجزاء التي لا يدرك شيء منها لا يترك كل واحد واحد منها ، وهذا مما لا معنى له ، إذ مع عدم التمكن من كل فرد فرد كيف يؤمر بكل فرد فرد؟.

ولكن نقول : انه كما لا يمكن ان يراد ب- : « كل » ما أفاده الشيخ رحمه اللّه لا يمكن ان يراد به المجموع أيضا ، إذ بعد فرض عدم التمكن من المجموع كيف يؤمر به؟ ، فانه متعذر على الفرض.

وحل المشكلة بما أفاده المحقق العراقي وتوضيحه : ان الامتناع إرادة العموم الأفرادي من لفظ : « كل » انما يتم لو فرض ان العموم وارد على السلب - المعبر عنه اصطلاحا بعموم السلب - بحيث يراد سلب القدرة عن كل فرد فرد ، ومعه لا معنى للنهي عن ترك كل فرد فرد - كما أفاد الشيخ -. وليس الأمر كذلك بل السلب وارد على العموم ، فالمراد هو سلب العموم الّذي يتحقق بانتفاء بعض الافراد ، نظير قولنا : « ليس كل عالم عادل » ، فان النفي لم يتوجه للمجموع ، إذ العدالة ليست من صفات المجموع ، كما انه لا يراد نفي العدالة

ص: 298

عن كل فرد فرد من افراد العالم ، بل المقصود بيان نفي العدالة عن عموم الافراد وبيان انها ليست ثابتة لكل فرد فرد.

وعليه ، فالمراد في قوله : « ما لا يدرك كله » عدم إدراك عموم الافراد أو الاجزاء بنحو سلب العموم. وهكذا المراد بقوله : « لا يترك كله » يراد به النهي عن الترك بنحو سلب العموم الراجع بحسب الظهور العرفي إلى النهي عن الجمع بين التروك ، فلفظ : « لا » متعلق بالترك بنحو سلب العموم لا عموم السلب.

ومثل هذا الاستعمال كثير عرفا ، ويراد به ما ذكرناه من انه إذا لم يدرك المكلف إتيان جميع الافراد والاجزاء فلا يترك الجميع بنحو لا يأتي بأي فرد أصلا.

وقد عرفت ان أساس ذلك على توجه النفي إلى ترك الجميع ، ونفي ترك الجميع يتحقق بالإتيان بالبعض. فالتفت ولا تغفل (1).

وكيف كان فقد عرفت دلالة النص على المدعى بحسب الظهور العرفي.

وقد استشكل فيه صاحب الكفاية : بأنه لا ظهور له في حرمة الترك لعموم الموصول للمستحبات ، وتخصيص الموصول بالواجبات ليس بأولى من حمل النهي على الكراهة أو مطلق الطلب (2).

وقد تعرض الشيخ رحمه اللّه إلى هذا الإشكال ، ودفعه : بان الموصول في نفسه يشمل المباحات بل المحرمات ، وانما خصصناه بالراجح بقرينة قوله : « لا يترك » ، فإذا كان قوله : « لا يترك » قرينة على المراد بالموصول لزم حمل الموصول على خصوص الواجبات عملا بظهور القرينة ، ولا مجال لتخيل تقدم ظهور

ص: 299


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار /3/ 457 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /372- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الموصول ، إذ ظهور القرينة هو المحكم والمقدم عرفا (1). وهذا الكلام للشيخ متين جدا.

لكن الّذي نستظهره من الرواية عموم الموصول للمستحبات ، مع التحفظ على ظهور : « لا يترك » في الوجوب. بيان ذلك : ان الإنسان قد يطلب منه شيء وتعرض حالة يتوهم فيها المأمور عدم لزوم العمل ، فيقول له القائل لا تترك العمل في هذه الحالة ، أو لا يسوغ لك ترك العمل لأجل هذه الجهة ، ومقصود القائل ليس إنشاء الأمر والإلزام ، بل قد لا يكون ممن شأنه الأمر والإلزام ، بل مقصوده الكناية عن بقاء الأمر السابق وعدم سقوطه في هذه الحالة ، ويتأتى هذا حتى فيما كان الأمر السابق هو الاستحباب لا الوجوب ، فيقول له - مثلا - ان التعب لا يسوّغ لك ترك صلاة الليل ، أو لا تترك صلاة الليل لأجل التعب ، إذا تخيل المكلف سقوط استحبابها لأجل التعب. ومن الواضح ان : « لا يسوّغ » صحيح في الإلزام. لكن قد عرفت ان هذا الالتزام لا يعدو مجرد اللفظ وليس القصد إنشاء الإلزام حقيقة في هذا الكلام ، وانما القصد إلى بيان بقاء الأمر وعدم سقوطه.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان قوله : « لا يترك كله » وان أنشئ به الإلزام لكن ليس المراد الأصلي به في هذا الكلام هو الإلزام بعدم الترك كي يختص بالواجبات ، بل يراد به بيان ان تعذر بعض الاجزاء لا يسوّغ ترك المطلوب بالكلية وهو كناية عن بقاء الأمر الأول ، فلا مانع من عمومه للمستحبات ، فيكون مثل العلوي الأول الّذي يعم الواجبات والمستحبات.

وبالجملة : الأمر هاهنا لا يراد به إلا المدلول الكنائي وهو لازمه من بقاء الأمر الأول على ما كان وعدم سقوطه ، فلا مانع من استعماله في الوجوب وعموم

ص: 300


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 295 - الطبعة الأولى.

الموصول للمستحبات ، فهو نظير الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهمه ، أو النهي الواقع عقيب الأمر أو توهمه ، في عدم إرادة المدلول المطابقي منهما ، بل يراد الكناية عن ارتفاع التحريم في الأول وارتفاع الإيجاب في الثاني. فتدبر.

هذا تمام الكلام في دلالة الروايات على المدعى ، وقد عرفت تقريب دلالتها بأجمعها ، فهي من حيث الدلالة لا كلام فيها.

وأما من حيث السند ، فهي ضعيفة السند ، ولكن ادعي انجبارها بعمل المشهور.

أقول : لو ثبت شهرتها بين القدماء كشهرتها بين المتأخرين حتى قيل ان القاعدة مما يعرفها الأطفال والنسوان ، كان ذلك موجبا لليقين بصحتها ، ولو لم نبن علي انجبار الضعف بعمل المشهور كلية ، إذ التسالم على هذه النصوص يزيد على الشهرة. وبما انه لم يثبت ذلك لدينا ، وهو محتاج إلى مزيد فحص ، فالاحتياط في مواردها مما لا بأس به.

يبقى التنبيه على أمرين :

التنبيه الأول : في عموم القاعدة لتعذر الشرط أو الركن، وفي اختصاصها بصورة القدرة على معظم الأجزاء.

وتحقيق الكلام في ذلك : ان الميسور تارة : يراد به الميسور من المراتب ، بان يكون الشيء ذا مراتب متعددة فيقال ان الميسور من المرتبة لا يسقط بالمعسور منها. وأخرى : يراد به الميسور من الاجزاء. والفرق بين اللحاظين ، انه يعتبر على الأول ان يكون الميسور مصداقا من مصاديق الطبيعة ، وإلا لم يكن من مراتبها.وليس الأمر كذلك على الثاني ، إذ جزء الشيء لا يلزم ان يكون مصداقا له وفردا من أفراده.

ثم إنه ..

ص: 301

تارة : يلتزم بتقدير أمر في قوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » ، فيلتزم ..

إما بإضافة الميسور إلى عنوان : « شيء » ، فيكون المراد ميسور الشيء لا يسقط بمعسوره ، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف مع وحدته ، فكأنه قال : « الصلاة الميسورة لا تسقط بالصلاة المعسورة » فيكون المراد بالميسور والمعسور شيئا واحدا.

وإما بتقدير : « من الشيء » بعد الميسور والمعسور ، فيراد : الميسور من الشيء لا يسقط بالمعسور منه ، على ان تكون : « من » تبعيضية ، فيكون المراد من الميسور غير المراد بالمعسور ، فيراد من الميسور اجزاء ومن المعسور اجزاء أخرى ، فلا تسقط الاجزاء الميسورة بواسطة الاجزاء المعسورة من العمل الواحد.

وأخرى : لا يلتزم بالتقدير أصلا ، بل يراد كل ما هو ميسور لا يسقط بسبب ما هو المعسور.

فالاحتمالات المتصورة ثلاثة :

وعلى الاحتمال الأول ، يختص جريان القاعدة بما إذا كان الباقي المقدور مما ينطبق عليه عنوان العمل ، إذ المفروض لحاظه مقسما لليسر والعسر ، فتكون القاعدة مساوقة لبيان الميسور بلحاظ المراتب ، فلا تشمل فاقد الركن إذا فرض تقوّم المسمى به ، كما لا تشمل فاقد المعظم لعدم صدق الصلاة - مثلا - عليه. كما انها تشمل فاقد الشرط مع صدق المسمى عليه على إشكال يأتي دفعه.

وعلى الاحتمال الثاني ، فيمكن ان يراد بها الميسور من الاجزاء والمراتب.

وعليه فتعم فاقد الركن أو المعظم وان لم يصدق المسمى عليه ، لأنه ميسور من اجزاء العمل ، وان لم يكن من مراتبه.

نعم لا يشمل فاقد الشرط إلا بتصور التبعيض فيه عرفا ، وكون فاقد الشرط وواجده من قبيل الأقل والأكثر والبعض والكل ، وهو على تقديره انما

ص: 302

يتصور في بعض الشروط كما سننبه عليه.

وعلى الاحتمال الثالث ، تشمل فاقد الركن والمعظم ، إذ هو ميسور في نفسه كما تشمل فاقد الشرط أيضا ، فانه ميسور في نفسه ، فلا يسقط بواسطة المعسور وهو واجد الشرط ، ولا يتوقف ذلك على تصور التبعيض لعدم أخذه فيها.

نعم هنا شيء ، وهو انه قد عرفت ان السقوط لا يصدق إلاّ في مورد يكون للميسور مقتض للثبوت فلا يثبت ، فلا يصدق في مطلق موارد عدم الثبوت. ومن الواضح ان فاقد الشرط بما انه يباين واجد الشرط فلا يكون له مقتض للثبوت ، فلا يصدق سقوط الفاقد على عدم ثبوت الحكم له.

والجواب عن هذا الإشكال : ان الشروط على قسمين ..

فمنها : ما يكون مقوما لذات المشروط ، بحيث يكون الفاقد للشرط مباينا بالمرة لواجد الشرط ، والمصداق الواضح لذلك ما كان مثل الناطقية للحيوان ، فإذا تعذر الحيوان الناطق ، كان الحيوان غير الناطق مغايرا لمتعلق الحكم عرفا.

ومنها : ما لا يكون مقوّما لذات المشروط عرفا ، بل يرى انه من حالاته وزوائده وكمالاته ، نظير الصلاة مع الاستقبال ، فان الصلاة بدون الاستقبال لا تكون مغايرة عرفا للصلاة معه ، بل يرى ان الصلاة بدونه صلاة ناقصة والصلاة معه صلاة وزيادة.

والإشكال المزبور انما يتم في النحو الأول من الشروط لا النحو الثاني ، إذ يقال : ان الصلاة المتعذر فيها الاستقبال ، كان لها مقتض للثبوت لو لا التعذر ، ويشهد لذلك صدق السقوط عرفا في مثل ذلك بلا إشكال أصلا في الموارد العرفية كما لا يخفى على من لاحظها.

التنبيه الثاني : قد عرفت ان موضوع الكلام في الأصل العملي ما إذا لم يكن الدليل الجزئية إطلاق ولم يكن لدليل المأمور به إطلاق ، بل كان كلا الدليلين

ص: 303

مجملين.

ولا يخفى انه مع تمامية قاعدة الميسور لا مجال للأصل العملي المتقدم.وهذا لا إشكال فيه.

انما الإشكال فيما إذا كان لدليل الجزئية إطلاق يقتضي ثبوتها في حالتي التمكن والتعذر ، نظير قوله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » ، فهل يتأتى في مثله الالتزام بقاعدة الميسور أو لا؟.

ومنشأ الإشكال هو وجود التنافي بين دليل الجزئية والقاعدة ، لأن مقتضى دليل الجزئية المطلقة هو سقوط الأمر عند التعذر ، ومقتضى القاعدة ثبوت الأمر بالباقي عند التعذر.

وقد يتخيل حكومة القاعدة على دليل الجزئية. ببيان : ان القاعدة ناظرة إلى دليل الجزئية وتفيد تقييدها بحال التمكن ، فتكون حاكمة على أدلة الجزئية ومقدمة عليها. ولكن هذا ممنوع (1) ، فان تفرع قاعدة الميسور على ثبوت الأمر بالمركب ذي الاجزاء مسلم لا يقبل الإنكار.

وهذا لا يلازم سوى انها متفرعة عن الدليل الدال على الأمر بالمركب في الجملة ، فتفيد عدم سقوطه بتعذر بعض اجزائه ، فهي حاكمة عليه.

لكن دليل الجزئية المطلقة - مثل لا صلاة إلا بطهور - أيضا حاكم على دليل الأمر بالصلاة ، ويفيد سقوطه بتعذر الطهور ، ولا حكومة لقاعدة الميسور عليه لعدم تعرضها بمدلولها إليه وعدم تفرعها عليه ، بل هما متعارضان بلحاظ المدلول الالتزامي لكل منهما ومنافاته للمدلول المطابقي للآخر ، فدليل الجزئية يثبت الجزئية المطلقة ولازمه سقوط الأمر بالمركب عند تعذره. وقاعدة الميسور

ص: 304


1- ذكر السيد الأستاذ دام ظله في مجلس البحث وجها آخر للمنع لكنه صار محلا للإشكال والرد والبدل ، وبعد المذاكرات المتعددة اختار هذا الوجه وان لم يظهر منه العدول عن ذلك الوجه لكنه لا يبعد ذلك ولأجل ذلك لم نذكره هاهنا. ( منه عفي عنه ).

تثبت عدم السقوط عند التعذر ولازمه الجزئية المقيدة. بل يمكن ان يقال : انهما متعارضان بلحاظ مدلولهما المطابقي في مثل : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو بطهور » ، إذ المدلول المطابقي لهذا الدليل هو سقوط الأمر وعدم ثبوته بدون الفاتحة ، وهو ينافي مدلول القاعدة رأسا.

وبالجملة : هما متعارضان بلا حكومة لأحدهما على الآخر لعدم تفرع أحدهما عن الآخر فلاحظ ولا تغفل.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه بعد تمامية القاعدة تعرض إلى ذكر فرعين من فروع قاعدة الميسور (1) :

الفرع الأول : ما لو دار الأمر بين ترك الجزء وترك الشرط ، فهل يتعين ترك الشرط أو يتخير بينهما؟.

والّذي يظهر من الشيخ فرض المورد من موارد القاعدة ولزوم الإتيان بالباقي ، وانما يدور الأمر بين ترك الجزء أو ترك الشرط.

ولكن يخطر في الذهن إشكال في ذلك سواء في ذلك دوران الأمر بين ترك الجزء أو الشرط ، أو دورانه بين ترك أحد جزءين.

وذلك ، لأن كل جزء جزء مقدور في نفسه فلا يقال انه معسور ، وما هو المعسور - وهو الجمع بينهما - ليس متعلق الحكم الشرعي ، وظاهر النص إرادة المعسور مما كان متعلقا للحكم الشرعي ، فرواية : « الميسور لا يسقط بالمعسور » لا تشمل هذا المورد ، ومثلها رواية : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » ، لأن كلا من الجزءين في حد نفسه متعلق الاستطاعة.

نعم ، رواية : « ما لا يدرك كله » تشمل هذا الفرض.

وكيف كان ، فمع الغض عن هذا الإشكال الصناعي ، فيرد على الشيخ

ص: 305


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /296- الطبعة الأولى.

رحمه اللّه :

أولا : ان المورد ليس من موارد التزاحم كي تلاحظ فيه الأهمية ، بل من موارد التعارض لما تقدم من ان موارد تزاحم الواجبات الضمنية خارجة عن أحكام التزاحم ، بل هي من موارد التعارض. فراجع.

وثانيا : انه لو فرض ان المورد من موارد التزاحم ، فالالتزام بتقديم الجزء على الشرط بقول مطلق ليس كما ينبغي ، إذ قد يكون من الشروط ما هو أهم بنظر الشارع والعرف من بعض الاجزاء ، فالكلية ممنوعة.

واما ما ذكره من التعليل العرفي من ان فوات الوصف أولى من فوات الموصوف ، فهو أجنبي عما نحن فيه ، لأنه يرتبط بما إذا دار الأمر بين الشرط والمركب بتمامه ، والعمل العرفي غالبا على تقديم ترك الشرط لأنه مفقود على كل حال ، وذلك نظير دوران الأمر بين تحصيل دار مبنية بالإسمنت لا الطابوق وبين عدم الدار بالمرة ، فان البناء العرفي على القناعة بفاقد الشرط ، وما نحن فيه دوران الأمر بين ترك الشرط وترك الجزء ، نظير ما لو دار الأمر بين دار من الإسمنت ذات ست غرف ودار من الطابوق ذات خمس غرف. ولم يثبت من العرف تقديم الأولى على الثانية. فانتبه.

الفرع الثاني : ما لو كان للكل بدل اضطراري كالتيمم في باب الوضوء ، فهل يقدّم على العمل الناقص ، أو يقدّم الناقص عليه؟.

ذكر الشيخ في وجه الأول : ان مقتضى البدلية كونه بدلا عن التام في جميع آثاره ، فيقدّم على الناقص كما يقدّم التام عليه.

وذكر في وجه الثاني : ان البدل انما يجب عند تعذر التام ، والناقص بمقتضى قاعدة الميسور تام لانتفاء جزئية المفقود فيقدّم على البدل.

أقول : في كلا الوجهين ما لا يخفى ، فان دليل التيمم ليس فيه لعنوان البدلية عين ولا أثر كي يتمسك بإطلاقه بلحاظه في ترتيب جميع الآثار. كما ان

ص: 306

قاعدة الميسور لا تفيد ان الميسور تام كالواجد ، بل غاية ما تفيد تعلق الأمر به لا غير.

فالتحقيق ان يقال : ان دليل التيمم ..

تارة : يكون مفاده تشريع التيمم عند تعذر المرتبة العليا التامة للوضوء.

وأخرى : يكون مفاده تشريع التيمم عند تعذر الوضوء بجميع مراتبه المأمور بها. وبعبارة أخرى : يفيد مشروعية التيمم عند تعذر الوضوء المشروع ، وما هو الوظيفة الفعلية للمكلف لو لا التعذر.

فعلى الثاني : تكون قاعدة الميسور حاكمة على دليل التيمم ، لأنها تتكفل تشريع الوضوء وتوظيف المكلف به فعلا ، فيرتفع موضوع مشروعية التيمم.

وعلى الأول : يتصادم دليل التيمم مع قاعدة الميسور ، إذ دليل التيمم يثبت مشروعية التيمم عند تعذر الوضوء التام ، وقاعدة الميسور تثبت مشروعية الوضوء الناقص ، وبما انه يعلم بعدم مشروعية الجمع بينهما ، إذ الطهارة إذا حصلت بأحدهما لا مجال لتحصيلها بالآخر يتحقق التصادم.

وعلاج التعارض هو الالتزام بالتخيير ، وذلك لأن منشأ التصادم هو ظهور إطلاق الدليلين في مشروعية كل منهما بنحو التعيين ، ومقتضى تعارض الإطلاقين هو تساقطهما ، فيرتفع اليد عن ظهور كل من الدليلين في التعيين ، وينحفظ على ظهور كل منهما في أصل المشروعية والوجوب. ونتيجة ذلك هو التخيير بينهما.

فتدبر. هذا تمام الكلام في قاعدة الميسور بشئونها (1).

التنبيه الثالث : في دوران الشيء بين كونه شرطا وكونه مانعا، أو دورانه بين كونه جزء أو زيادة مبطلة. وقد تعرض صاحب الكفاية للكلام فيه هنا. وبما أنه قد تقدم منا البحث فيه في مبحث دوران الأمر بين محذورين فلا نعيد. فراجع البحث هناك.

ص: 307


1- تم البحث في يوم الخميس 13 / 6 / 91.

ص: 308

فصل : في دوران الأمر بين المحذورين

في دوران الأمر بين الواجب والحرام ، بان كان هناك فعل واجب وفعل حرام واشتبه أحدهما بالآخر. فهو يعلم إجمالا بوجوب أحد الفعلين ، كما انه يعلم إجمالا بحرمة أحدهما. وفي الوقت نفسه يدور أمر كل فعل منهما بين محذورين ، فيعلم المكلف بأنه إما واجب أو حرام.

وقد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى لزوم الإتيان بأحدهما وترك الآخر بنحو التخيير ، لأن الموافقة القطعية لأحد العلمين تستلزم المخالفة القطعية للآخر ، فيتعين الموافقة الاحتمالية لكل منهما ، لأنها أولى من الموافقة القطعية لأحدهما والمخالفة القطعية للآخر. وذكر ان منشأه ان الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع (1).

وقد وافق المحقق النائيني رحمه اللّه الشيخ قدس سره في الالتزام بتنجيز العلم الإجمالي في المورد ، لكنه خالفه في الحكم بالتخيير مطلقا ، فذكر : انه لا يخلو عن إشكال ، بل لا بد من ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فتقدم الموافقة القطعية للأهم منهما ملاكا وان استلزم ذلك المخالفة القطعية للآخر ، لأن

ص: 309


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /298- الطبعة الأولى.

المورد من صغريات باب التزاحم ، وإن كان يختلف التزاحم هنا عن التزاحم في موارده المعروفة ، فان التزاحم فيها يرجع إلى عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين ، والتزاحم هنا يرجع إلى ناحية تأثير العلم الإجمالي ، لأن العلم الإجمالي يقتضي تنجيز التكليف وتأثيره في لزوم القطع بامتثاله ، وبما انه لا يمكن تحصيل القطع بالموافقة بالنسبة إلى كلا العلمين - هنا - ، فلا محالة يقع التزاحم في تأثير العلم في وجوب الموافقة القطعية ، فيقدم الأقوى ملاكا بلحاظ متعلقه ويسقط الآخر عن التأثير. والنوبة إلى التخيير الّذي ذكره لا تصل إلا عند فرض عدم الأهمية لأحد الحكمين على الآخر (1).

أقول : لا بد من البحث في جهات :

الجهة الأولى : في الفرق بين هذا المقام وبين مورد دوران الأمر بين محذورين في الوقائع المتعددة.

بيان ذلك : انه قد تقدم (2) في دوران الأمر بين محذورين البحث في التخيير البدوي أو الاستمراري مع تعدد الواقعة ، وقد مرّ هناك انه كما يوجد علم إجمالي بحرمة أو وجوب كل من الواقعتين كذلك يوجد علم إجمالي بحرمة هذه الواقعة أو وجوب تلك الواقعة ، وعلم إجمالي بوجوب هذه الواقعة أو حرمة تلك الواقعة ، وهذان العلمان الإجماليان المنعقدان بلحاظ تعدد الواقعة مما لا يمكن موافقتهما القطعية معا ، بل الموافقة القطعية لأحدهما مستلزمة للمخالفة القطعية للآخر ، ولأجل ذلك يدور الأمر بين ترجيح أحد العلمين أو الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية لكل منهما ونتيجته التخيير البدوي.

ولا يخفى ان هذا المقام يشابه ما نحن فيه - أعني : دوران الأمر بين

ص: 310


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 263 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- راجع 5 / 32 من هذا الكتاب.

الواجب والحرام - من حيث تعدد العلم الإجمالي وعدم التمكن من الموافقة القطعية لكل منهما.

والمحقق النائيني رحمه اللّه في ذلك اختار التخيير الاستمراري ، لأجل عدم منجزية العلم الإجمالي ، فلا مانع من المخالفة القطعية (1). وهاهنا التزم بمنجزية العلم وان اختلف مع الشيخ في تقديم الأهم.

فلا بد من معرفة جهة الفرق وانها صالحة للتفريق بين المقامين أو لا؟.

وقد أفاد المحقق النائيني في مقام بيان عدم تنجيز العلم الإجمالي في الوقائع المتعددة لدوران الأمر بين محذورين ما يمكن إرجاعه إلى ما أوضحه المحقق الأصفهاني - في ذلك المبحث - من : ان العلم لا ينجز سوى طرفه مع القدرة على امتثاله. ومن الواضح ان لدينا تكاليف متعددة بتعدد الوقائع ، فهناك علوم متعددة في الوقائع المتعددة ، وكل علم لا ينجز سوى طرفه ، والمفروض ان كل علم بلحاظ كل واقعة غير منجز لدورانه بين محذورين ، وانضمام العلوم المتعددة بعضها إلى بعض لا يوجب علما آخر بتكليف آخر. نعم ينتزع من انضمام الوقائع تكليف انتزاعي يتصور فيه المخالفة القطعية ، فليس هناك تكليف مجعول غير التكليف في كل واقعة المفروض عدم تنجزه (2).

وبالجملة : العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الواقعتين ناشئ من العلم الإجمالي الموجود في كل واقعة بحيالها ، وهو غير منجز على الفرض. فلا يكون العلم الإجمالي بالتكليف المردد منجزا ، لأنه ليس تكليفا آخر وراء التكليف الموجود في كل واقعة.

وهذا البيان لا يتأتى هاهنا ، إذ العلم الإجمالي متعلق أولا بوجوب أحد

ص: 311


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 453 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 236 - الطبعة الأولى.

الأمرين وبحرمة أحدهما. وكل منهما قابل للتنجيز في نفسه ، ويتصور فيه المخالفة القطعية. والعلم الإجمالي بدوران كل فعل بين الوجوب والحرمة لا أثر له لأنه ناشئ من انضمام العلمين المزبورين أحدهما إلى الآخر ، فلا يضر بتنجيزهما.

فحاصل الفرق بين الموردين : ان العلم الإجمالي المردد بين الواقعتين - هناك - متفرع عن العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة في كل واقعة المفروض عدم تنجيزه.

وهاهنا الأمر بالعكس ، فان العلم بوجوب أو حرمة كل من الفعلين من فروع العلم الإجمالي المردد بين الواقعتين والفعلين ، وقد عرفت قابليته للتنجيز في نفسه.

هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به الفرق بين الموردين. لكنك عرفت فيما تقدم الإشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني. وان عدم تنجيز التكليف بالعلم الإجمالي بلحاظ كل واقعة بحيالها لا ينافي حدوث علم إجمالي حقيقي آخر يستلزم تنجيز التكليف بلحاظ تعدد الواقعة ، فراجع ما ذكرناه هناك ، ولو لا ذلك لتأتي نفس البيان هاهنا ، فان كل فعل في نفسه واقعة لها تكليفها الخاصّ ، والعلم الإجمالي بلحاظ غير منجز ، لأن الأمر يدور بين محذورين ، وضم أحد الفعلين إلى الآخر وان استلزم حدوث علم إجمالي آخر ، لكنه لا ينفع في التنجيز بعد ان كان التكليف في كل واقعة بحيالها غير منجز.

وبالجملة : ظهر مما ذكرنا انه لا فرق في التنجيز بين المقامين ، وان الالتزام به هاهنا وعدم الالتزام به هناك بلا موجب.

ثم إنه قد جاء في تقريرات المرحوم الكاظمي في مقام بيان عدم منجزية العلم الإجمالي في دوران الأمر بين محذورين مع تعدد الواقعة التعبير : بتفرع وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية عقلا عن تنجز التكليف

ص: 312

عقلا (1).

وهذا لا يخلو من مسامحة ، إذ الأمر بالعكس ، فان الحكم بالمنجزية يرجع إلى الحكم باستحقاق العقاب على المخالفة ، وهذا متفرع عن الحكم عقلا بقبح المخالفة القطعية ولزوم الموافقة القطعية ، ويتضح ذلك بمراجعة أول مباحث القطع. فراجع تعرف والأمر سهل.

الجهة الثانية : قد عرفت عدم الفرق بين محل الكلام وبين دوران الأمر بين محذورين مع تعدد الواقعة من حيث تنجز العلم الإجمالي ، لكن هناك فرقا من جهة أخرى وهي : عدم تأتي التقييد الّذي ذكره المحقق النائيني في محل الكلام - عدم تأتيه - في ذلك المورد ، وهو ما أفاده قدس سره من : انه إذا كان أحد التكليفين المعلومين بالإجمال هاهنا أهم من الآخر لزم موافقته القطعية ولو استلزم ذلك المخالفة القطعية للآخر (2).

فان هذا المعنى لا يتأتى - صغرويا - في مورد دوران الأمر بين محذورين.

وذلك لعدم تصور أهمية متعلق أحد العلمين من الآخر ، إذ ما هو متعلق كل علم من التكليف المردد بين وجوب إحدى الواقعتين وحرمة الأخرى هو نفسه متعلق العلم الآخر مع تبديل ظرف متعلق الحكم. فالوجوب والحرمة في قولنا : « يعلم إجمالا بحرمة الجلوس يوم الجمعة أو وجوبه يوم السبت » هما أنفسهما في قولنا : « يعلم إجمالا بوجوب الجلوس يوم الجمعة أو حرمته يوم السبت ». وانما اختلف ظرف المتعلق وزمانه ، لأنه ليس لدينا إلا حكم واحد مردد بين الطرفين.

وعليه ، فلا معنى لدعوى أهمية المتعلق في أحدهما ، لكي يدعى تقدمه في مقام التأثير.

ص: 313


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 453 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 263 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وهذا بخلاف ما نحن فيه مما كان هناك حكمان ثابتان لا يعرف متعلقهما. فالتفت ولا تغفل.

الجهة الثالثة : في حكم دوران الأمر بين الواجب والحرام على تقدير عدم أهمية أحدهما.

وقد عرفت ان الشيخ ذهب إلى لزوم الاقتصار على الموافقة الاحتمالية في كل منهما وعدم جواز الموافقة القطعية لأحدهما لاستلزامها المخالفة القطعية للآخر ، ولا يحسن دفع الضرر المحتمل بالوقوع في الضرر المقطوع.

وهذا التعليل بظاهره لا يخلو من خدش ، إذ المراد بالضرر هو العقاب ، ومن الواضح انه بحكم العقل المتفرع على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا فرض انه يحكم بجواز الموافقة القطعية لأحدهما وان استلزمت المخالفة القطعية للآخر ، فمقتضاه انه لا يرى حسن العقاب على المخالفة القطعية فلا ضرر أصلا.

فلا معنى لتعليل حرمة المخالفة القطعية هنا بأنه ارتكاب للضرر المقطوع ، إذ القطع بالضرر من توابع الحكم بالحرمة ومتفرعاته فالتفت ولا تغفل.

ويمكن توجيه كلامه : بان المراد من الضرر ليس هو العقاب ، بل المراد المفسدة الواقعية التي يحكم العقل بلزوم التحرز عنها ، أو نحوها مما له وجود واقعي مع قطع النّظر عن التنجيز ، فإذا دار الأمر بين دفع الضرر المحتمل - بهذا المعنى - أو الضرر المقطوع ، قدّم الثاني بنظر العقل. وبعبارة أخرى : ان كلا من الموافقة القطعية وعدم المخالفة القطعية لازم بنظر العقل بأي ملاك كان ، مع قطع النّظر عن المزاحمة. فكلّ من العلمين تلزم موافقته قطعا وتحرم مخالفته قطعا مع قطع النّظر عن التزاحم. إذن فهناك ملزم عقلي يستلزم حكم العقل بدفع احتمال عدم الموافقة ، ويستلزم حكما العقل لعدم المخالفة. فإذا دار الأمر بينهما في مقام - كما فيما نحن فيه - كان الترجيح لعدم المخالفة على تحصيل الموافقة ، لأن ما يستلزم تحصيل الموافقة القطعية لا يستلزمها مع حصول المخالفة القطعية.

ص: 314

هذا توضيح ما أفاده الشيخ. وقد مرّ في مبحث دوران الأمر بين محذورين بيان رجحان دفع المخالفة القطعية على تحصيل الموافقة القطعية عند دوران الأمر بينهما ، بوجهين. فراجع.

هذا تمام الكلام في مباحث قاعدتي البراءة والاشتغال ويبقى مبحث واحد في شرائط العمل بالأصول العملية ذكره الاعلام بعنوان الخاتمة (1).

ص: 315


1- كما في كفاية الأصول / 374 ، وفوائد الأصول 4 / 264 ، ومصباح الأصول 1 / 488. ، ونهاية الأفكار3/ 461 القسم الثاني ، وفرائد الأصول / 298.

ص: 316

« خاتمة : في شرائط الأصول »

والكلام يقع في مقامات :

المقام الأول : في الاحتياط.

وقد ذكر صاحب الكفاية - تبعا لمن تقدمه وتبعه من تأخر عنه - : انه لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء أصلا ، بل هو حسن على كل حال بلا تفاوت بين الموارد ولا استثناء.

نعم إذا كان مستلزما لاختلال النظام لم يكن حسنا ، ولعل منه الاحتياط في باب الطهارة والنجاسة لندرة حصول العلم الجزمي بالطهارة فيما هو محل الابتلاء من المأكول والملبوس ونحوهما (1).

ثم انه وقع الكلام في الاحتياط في العبادات مع التمكن من العلم لا من جهة حسنه كبرويا ، بل من جهة الإشكال في تحققه صغرويا فيها. فالإشكال في الاحتياط في العبادة صغروي لا كبروي.

وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في أواخر مباحث القطع (2).

ص: 317


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /374- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- راجع 4 / 127 من هذا الكتاب.

ونتكلم الآن فيما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه من الإشكال في الاحتياط ، وما يدور حوله من كلام ونقض وإبرام.

فقد تعرض قدس سره أولا لبيان شبهة شبهة تحوم حول الاحتياط في العبادة ، وهي : شبهة لزوم قصد الوجه في العبادة ، ومع الإتيان بالعبادة بعنوان الاحتياط لا يتحقق قصد الوجه فيختل العمل ، فلا بد من الفحص وتحصيل العلم ليتحقق قصد الوجه لأنه يتوقف على العلم بوجه الأمر من وجوب أو استحباب. ودفعها :

أولا : بالقطع بعدم دخل قصد الوجه في تحقق الامتثال والطاعة ، بل يكفى مجرد العلم بالأمر وقصده بلا لزوم قصد وجهه من وجوب أو استحباب.

وثانيا : بأنه لا أثر لاعتبار قصد الوجه في الاخبار التي بأيدينا ، مع انها من الأمور العامة البلوى ، مع غفلة عموم الناس عن دخله في العبادية ، وليست من الأمور الارتكازية عند العموم كي يصح للشارع الاعتماد على ارتكاز العامة ، فلو كان معتبرا للزم تنبيه الشارع وتأكيده عليه ، فحيث لم يثبت ذلك أصلا كان ذلك دليلا على عدم اعتباره.

ثم ذكر : انه لو تنزل عن دعوى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه ، فلا أقل من الشك فيه ، فتجري أصالة البراءة فيه ، لأنه مما يمكن أخذه في متعلق الأمر بنحو نتيجة التقييد ، فيكون اعتباره بيد الشارع ، فيصح إجراء البراءة فيه. خلافا للشيخ حيث التزم بالاشتغال مع الشك بدعوى انه ليس من قيود متعلق الأمر (1).

ودعوى احتمال دخل قصد الوجه في حصول الطاعة عقلا ، بحيث لا تتحقق بدونه.

ص: 318


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 268 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

تندفع : بأنه ليس من وظيفة العقل اعتبار شيء في حسن الطاعة والامتثال ، بل هو وظيفة الشارع ، والمرجع عند الشك فيه هو البراءة.

وبعد ان تعرض لما عرفت ذكر : انه يعتبر في حسن الاحتياط عقلا عدم التمكن من إزالة الشبهة. بتقريب : ان مراتب الامتثال عقلا أربعة : الأولى : الامتثال التفصيليّ. الثانية : الامتثال الإجمالي. الثالثة : الامتثال الظني. الرابعة :الامتثال الاحتمالي. وهذه المراتب مترتبة عقلا ، فلا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللاحقة إلا بعد تعذر المرتبة السابقة.

وقد علّل تقدم المرتبة الأولى : بان المعتبر في العبادة قصد الإطاعة ، وهي كون إرادة العبد تابعة لإرادة المولى وانبعاث العبد عن بعث المولى ، وهذا يتوقف على العلم بالأمر ، والانبعاث عن الأمر المحتمل ليس انبعاثا عن الأمر حقيقة.

نعم الانبعاث عن البعث المحتمل مرتبة من العبودية ونحو من الطاعة ، لكن لا يكون حسنا إلا عند عدم التمكن من الانبعاث عن الأمر المعلوم.

وذكر بعد ذلك : انه على تقدير الشك في ذلك وانتهاء الأمر إلى الأصول العملية ، فالمرجع قاعدة الاشتغال لا البراءة ، لأن الأمر يدور بين التعيين والتخيير ، والأصل يقتضي التعيين. ولا جامع بين الامتثال التفصيليّ والاحتمالي كي يجري فيه حكم الشك بين الأقل والأكثر ، بل حكم الشك فيه حكم الشك بين المتباينين.

ولأجل التزامه بتقدم رتبة الامتثال التفصيليّ على الامتثال الاحتمالي ، ذهب إلى : انه في مورد توقف الاحتياط على التكرار إذا قامت الحجة الشرعية المعتبرة على تعيين الواجب في أحد المحتملين ، فطريقة الاحتياط ان يأتي أولا بما قامت عليه الحجة ثم يأتي بالمحتمل الآخر ، ولا يجوز له العكس ، لأنه مع التمكن من الامتثال التفصيليّ بواسطة الحجة لا يحسن له الامتثال الاحتمالي.

كما علّله بوجه آخر ، وهو : ان مؤدى دليل اعتبار الأمارة هو إلغاء احتمال

ص: 319

الخلاف ، والإتيان بالمحتمل الآخر أولا بداعي الأمر المحتمل ينافي ذلك ، لأنه اعتناء باحتمال الخلاف. هذا ملخص ما أفاده قدس سره في هذا المقام (1).

ولا بد من تنقيح جهات عديدة في كلامه :

إحداها : الفرق بين الامتثال التفصيليّ وقصد الوجه ، حيث نفي دخالة العقل في الحكم باعتبار قصد الوجه في الطاعة وانه من وظائف الشارع ، مع التزامه بحكم العقل باعتبار الامتثال التفصيليّ في الطاعة ، لأنه إذا فرض ان تشخيص ما يعتبر في الطاعة بيد الشارع فكيف انعكس الأمر في الامتثال التفصيليّ؟!.

الثانية : حكمه بالاشتغال مع وصول النوبة للشك في اعتبار الامتثال التفصيليّ لأجل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إذ قد يورد عليه : بان الجامع بين الامتثال التفصيليّ والاحتمالي موجود وهو طبيعي الامتثال ، والشك في خصوصية زائدة ، فالمرجع هو البراءة.

الثالثة : ما ذكره من لزوم تقديم المحتمل الّذي قامت عليه الحجة الشرعية على المحتمل الآخر وعدم جواز العكس ، فانه فيه شبهة ، بل المقرر نفسه توقف فيه.

وتحقيق الكلام في ذلك يقتضي أولا بيان مراد المحقق النائيني ودليله ، فان ما جاء في التقريرات في مقام بيان مراده أشبه بالدعوى المصادرة التي لم يذكر لها دليل ، ولعل كثيرا من الإيرادات عليه ناشئ من عدم تشخيص مراده كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

فنقول : قد تكرر في الكلمات أخذ داعي الأمر في العبادة ، وانه يعتبر فيها الإتيان بها بداعي الأمر. وهذا التعبير لا يخلو من مسامحة ، وذلك لأن الداعي

ص: 320


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 269 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

هو ما يترتب على الشيء بحيث يكون بوجوده الخارجي معلولا للشيء ، وبوجوده التصوري علة وسابقا على الشيء.

ومن الواضح ان الأمر ليس مما يترتب على العمل ، بل هو سابق بوجوده على العمل ، ويكون سببا للتحرك نحو متعلقه. فالذي يراد من ذلك ليس هذا المعنى ، بل المراد دخل قصد الإطاعة في العبادية ، بمعنى انه يعتبر ان يؤتى بالعمل بداعي إطاعة الأمر وموافقته ، فانها مما تترتب على العمل. ولا يخفى عليك ان الطاعة عبارة عن موافقة إرادة المكلف لإرادة المولى والتحرك بتحريكه ، كما يقال هذا طوع إرادته ، بمعنى ارتباط إرادته بإرادته وطواعيته له.

وقصد الطاعة بهذا المعنى مما يتوقف على العلم بالأمر ، فانه في فرض العلم يمكن صدور العمل بداعي الموافقة والمطاوعة لإرادة المولى ، أما مع عدم العلم بالأمر ومجرد الاحتمال ، فلا يمكن ان يصدر العمل بداعي الإطاعة ، لأن الأمر غير معلوم فكيف يقصد تحقق إطاعته؟ ، إذ هو لا يعلم بتحقق موضوعها.

وقصد احتمال الأمر غير معقول كقصد الأمر ، لأنه سابق في الوجود على نفس العمل. نعم هو يقصد الموافقة احتمالا ، نظير سائر موارد الدواعي العقلائية غير المقطوع حصولها كشرب الدواء للاستشفاء ، وفتح الدكان للربح. ومرجع القصد في مثل ذلك إلى قصد الإتيان بما يكون معرضا لحصول الغاية.

وبالجملة : المقصود في مورد احتمال الأمر ليس هو الطاعة ، بل التعرض للطاعة والتهيؤ لها بالعمل. فإذا فرض اعتبار الطاعة لم يصح الإتيان مع الاحتمال عند التمكن من العلم وتحصيل الشرط. نعم مع عدم التمكن من العلم ، يكتفي بقصد الموافقة احتمالا لأجل قيام الإجماع والتسالم - بل النص (1) - على تحقق العبادة بالقصد الاحتمالي ، وان لم ينطبق عليه عنوان الطاعة.

ص: 321


1- كإخبار من بلغ وسائل الشيعة 1 / 59. باب : 18.

هذا غاية ما يمكن ان يقرّب به مختار المحقق النائيني ، وبه يتضح الفرق بين اعتبار الامتثال التفصيليّ واعتبار قصد الوجه.

فان اعتبار قصد الوجه - على تقديره - ليس لأجل تقوم مفهوم الطاعة به ، وانما هو خصوصية زائدة تعتبر في المأمور به ، وقد ثبت جزما عدم اعتبارها - كما تقدم -.

أما الامتثال التفصيليّ ، فاعتباره من جهة تقوّم مفهوم الإطاعة به ، والمفروض اعتبار الإطاعة في العبادة بلا كلام.

كما انه ليس من جهة دخله في حسن الطاعة ، كي يرد عليه ما أورده على قصد الوجه من عدم دخل العقل في ذلك ، بل من جهة دخله في أصل تحققها ، وهو أمر عقلي.

كما ظهر الوجه في اختيار إجراء الاشتغال لو وصلت النوبة إلى مرحلة الشك. وذلك إما من جهة ان الشك يرجع إلى تحقق الإطاعة المعتبرة في العبادة بغير الامتثال التفصيليّ ، فيكون من الشك في المحصل ، وهو مجرى الاشتغال.

واما من جهة ما أفاده قدس سره من ان الشك يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير لعدم الجامع بين الامتثال التفصيليّ وغيره ، إذ عرفت بالبيان السابق ان الامتثال الاحتمالي ليس من مصاديق الإطاعة ، فاعتباره لو فرض يكون في عرض اعتبار الامتثال التفصيليّ ، فيدور الأمر عند الشك بين تعيين الامتثال التفصيليّ وعند التخيير بينه وبين غيره. والأصل في مثل ذلك يقتضي التعيين.

وبذلك يختلف عن قصد الوجه ، إذ الشك فيه يرجع إلى الشك في اعتبار خصوصية زائدة في المأمور به وهو مجرى البراءة - على مختاره -.

وأما تعبيره قدس سره : بان الامتثال الاحتمالي مرتبة من مراتب الإطاعة ، فلا يريد به انه إطاعة حقيقة ، بل مسامحة ، نظير قول القائل : « النصف الأكبر للشيء » مع ان أحد النصفين لا يمكن ان يكون أكبر من النصف الآخر ،

ص: 322

فهو يريد انه يكتفي به في مقام العبادية عند تعذر الامتثال التفصيليّ.

وعلى هذا فلا يصلح قوله المزبور سندا للإشكال عليه : بان المورد ليس من موارد الشك في التعيين والتخيير ، لوجود الجامع بين الامتثالين كما صرح به قدس سره ، نظير سائر الطبائع التي تصدق على أفرادها بالتشكيك. فالتفت ولا تغفل.

هذا غاية توضيح ما اختاره المحقق النائيني رحمه اللّه بنحو يدفع عنه كثير من الإيرادات الناشئة من عدم تشخيص مراده.

وقد يورد عليه بوجوه :

الأول : ان أساس ما أفاده هو اعتبار قصد الإطاعة في العبادة ، وهو مما لا دليل عليه ولا ملزم به ، بل الأمر المعتبر في العبادة هو الإتيان بالعمل المأمور به بقصد القربة ، وهو يتحقق بالامتثال الاحتمالي لأنه انقياد فيتحقق به التقرب.

وفيه : ان قصد التقرب أو القربة لا يصلح ان يكون مأخوذا في العبادة ، لأن التقرب لا يمكن ان يكون داعيا إلى نفس العمل ، لأنه لا يترتب على ذات العمل ، لأن ذات العمل لا يكون مقربا كي يؤتى به بداعي القربة ، بل المقرب هو العمل المأتي به بداعي الموافقة ونحوها من الدواعي الموجبة للقرب. فقصد القربة يكون داعيا للداعي لا انه داع لنفس العمل.

نعم لو أريد من قصد القربة الداعي الموجب للقربة ، فيلتزم بان المعتبر في العبادة الإتيان بها بداع مقرب ، بمعنى انه يتحقق بسببه التقرب ، لا أن الداعي نفس التقرب.

لو التزم بذلك لم يرد عليه ما تقدم. لكن هذا مما لا يلتزم به المخالفون للمحقق النائيني رحمه اللّه ، لأن مقتضاه ان المرجع عند الشك في تحقق القربة بشيء هو الاشتغال ، لأن الشك في المحصل ، كما لو شك في ان الامتثال الاحتمالي موجب للقربة أو لا؟. مع ان بناءهم على إجراء البراءة في مثل ذلك مما يكشف

ص: 323

عن عدم أخذهم الداعي المقرب في المأمور به.

الثاني : ان أساس ما أفاده قدس سره على اعتبار قصد الطاعة بنحو الداعي في العبادة ، وهو مما لا ملزم به ، لعدم تقوّم مفهوم الإطاعة بذلك ، بل الإطاعة تتحقق بالإتيان بالمأمور به عن قصد واختيار. وهو كما يتحقق مع العلم بالأمر كذلك يتحقق مع احتماله والإتيان بالعمل الموافق على تقدير ثبوت الأمر.

فانه مع احتمال تحقق المسبب عند حصول السبب إذا التفت الفاعل إلى هذه الجهة وصدر منه السبب يكون وقوع المسبب اختياريا ، نظير ما إذا رمى زيدا بسهم وهو يحتمل انه يصيبه ، فان اصابته تكون قصدية - على تقدير تحققها - ويترتب عليها آثار العمل الاختياري.

ففيما نحن فيه مع احتمال ترتب الموافقة على العمل لأجل احتمال الأمر ، إذا جاء المكلف بالعمل قاصدا للموافقة على تقدير الأمر ، فصادف تحقق الأمر ، كانت الموافقة اختيارية فيتحقق ما هو المعتبر في المأمور به - وهو الإطاعة - اختيارا.

وفيه : انه ليس المعتبر تحقق الإطاعة عن قصد واختيار فقط ، بل المعتبر تحقق الإطاعة بنحو تكون داعيا للعمل ليتحقق التقرب ، لوضوح بطلان العمل مع الموافقة الاختيارية بداع دنيوي كالرياء مثلا ، وهو ثابت بالضرورة. فيكشف عن اعتبار الإطاعة بنحو الداعي.

وقد عرفت عدم صلاحيتها للدعوة إلا في مورد العلم بالأمر.

الثالث : ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من ان الإتيان بالعمل بداعي الأمر المحتمل يوجب التقرب ، لأنه انقياد ، بل حسنه أكثر من حسن الانقياد للأمر المعلوم. بنظر العرف والعقلاء (1).

ص: 324


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 305 - الطبعة الأولى.

وفيه :

أولا : ما سبق تحقيقه من ان الانقياد وان كان حسنا ، لكنه ليس من العناوين المنطبقة على الفعل بحيث توجب صيرورة الفعل حسنا ، بل حسنه وتحقق التقرب به من جهة كشفه عن الحسن الفاعلي ، فهو نظير التجري الّذي يلتزم بأنه لا يسرى قبحه إلى الفعل لأنه ليس من عناوينه ، بل هو قبيح من جهة القبح الفاعلي ، وهو كون الشخص بصدد الطغيان وهتك المولى. فما أفاده من حسن الانقياد ، بل أهميته من الإطاعة ، أمر مسلم لكن لم يثبت انه لأجل خصوصية في الفعل ، بل انما هو لخصوصية في الفاعل.

وثانيا : انه إذا فرض كون الإطاعة معتبرة في العبادة ، وعرفت ان الإتيان بالفعل بداعي الأمر المحتمل لا يمكن ان يؤتى به بقصد الإطاعة ، لم ينفع فرض الفعل بالانقياد حسنا ، إذ التوقف فيه ليس من جهة حسنه ، بل من جهة فقدانه لما يعتبر في المأمور به. وإجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل.

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه أيضا من ان القائل نفسه قد اعترف بحسن الانقياد والإطاعة الاحتمالية. غاية الأمر انه قيد ذلك بصورة عدم التمكن من الإطاعة التفصيلية. ومن الواضح ان الشيء إذا كان حسنا بذاته لا يمكن ان يزول حسنه إلا بعروض عنوان قبيح عليه. كالضرر في الصدق الّذي يكون في نفسه حسنا ومقتضيا للحسن.

ومن الواضح انه ليس التمكن من الامتثال التفصيليّ من العناوين الموجبة للقبح كي تستلزم زوال حسن الانقياد ، فيكون الانقياد حسنا في كلتا الصورتين. هذا ما أفاده قدس سره بتلخيص (1).

وفيه : انه مع الغض عما سنذكره في مناقشة المحقق النائيني رحمه اللّه ،

ص: 325


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 304 - الطبعة الأولى.

يمكن التقضي عن هذا الإشكال بدعوى دخالة عدم التمكن من الإطاعة التفصيلية في حسن الإطاعة الاحتمالية ، لا ان التمكن مانع ، بل يكون اقتضاؤها للحسن قاصرا في صورة التمكن بان نقول : انه في موارد استلزام الاحتياط للتكرار ، بما ان كل عمل لا يمكن ان يصدر بداعي الموافقة لعدم العلم بترتبها عليه ، فلا محالة يصدر عن داعيين أحدهما دنيوي والآخر إلهي - كما أوضحناه سابقا في مبحث القطع ، ونشير إليه عن قريب في مناقشة النائيني - فيحصل التشريك في الداعي. ومن الواضح ان التشريك لا يحسن مع التمكن من انحصار داعي العمل بداع إلهي كما في مورد العلم بالأمر.

نعم مع عدم التمكن تحسن الإطاعة الاحتمالية ولو كان لها شريك في مقام الداعوية. لأنها أولى من ترك الإطاعة بالمرة ، وقد قامت الضرورة الفقهية والإجماع على الاكتفاء بها. فتدبر جيدا.

الخامس : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره - وتبعه عليه السيد الحكيم رحمه اللّه في المستمسك (1) - من ان الفعل في مورد الاحتمال يؤتى به بداعي امتثال الأمر المحتمل ، فالمقصود هو امتثال الأمر في كلتا صورتي العلم والاحتمال ، وليس الداعي هو احتمال الأمر ونحوه (2).

وأنت خبير : بأنه عند احتمال الأمر يمتنع قصد الإطاعة لعدم العلم بتحققها ، كما بيناه في توضيح مراد النائيني رحمه اللّه ، وعرفت ان المأخوذ في المأمور به هو الإطاعة. فانتبه.

ونتيجة ما تقدم : أنّ ما وجّه على المحقق النائيني بعد بيان كلامه بما عرفت غير وارد عليه.

ص: 326


1- الحكيم الفقيه السيد محسن. مستمسك العروة الوثقى1/ 8 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 463 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والعمدة في الإيراد عليه أن يقال : ان المعتبر في العبادة أمران : أحدهما الإطاعة والآخر الإتيان بها بنحو عبادي من طريق قصد الإطاعة. وكلاهما متحقق في مورد الاحتمال ، وذلك بالإتيان بالعمل بداعي الموافقة على تقدير تعلق الأمر به.

وتوضيح ذلك : ان كلا من العملين المحتمل تعلق الأمر به في مورد العلم الإجمالي يترتب عليه عنوان الموافقة على تقدير ، لأن هذا المعنى - أعني : الموافقة على تقدير الأمر - ذو ثبوت حقيقي واقعي ، نظير الحكم التعليقي الثابت على تقدير المعلق عليه ، كالحرمة المعلقة على الغليان ، فانها حكم على تقدير ولها نحو ثبوت ، ولذا تكون مجرى الاستصحاب وغيره من الآثار.

ويمكن ان نعبر عن ذلك بالملازمة بين المعلق والمعلق عليه. فالفعل الّذي يحتمل تعلق الأمر به يترتب على إتيانه - والموافقة على تقدير الأمر -. وبتعبير آخر : الملازمة بين الموافقة والأمر. وهذا مما لا تحقق له قبل العمل ، إذ بدون العمل لا يترتب هذا المعنى ، فلا يحكم بتحقق الموافقة على تقدير الأمر.

وإذا فرض ترتب هذا العنوان عليه صح الإتيان به بداعي حصول هذا العنوان ، وترتبه عليه متيقن لا شك فيه. وانما المشكوك هو الموافقة الواقعية الخارجية التنجيزية ، وهي غير مقصودة بنحو الداعي ، بل الداعي هو الموافقة التقديرية ، والإتيان بالعمل بداعي الموافقة على تقدير الأمر موجب للتقرب والعبادية ، فإذا صادف الفعل الواقع وكان متعلقا للأمر واقعا ، تحققت الإطاعة والموافقة الواقعية. فيتحقق كلا الأمرين المعتبرين في العبادة ، فلا إخلال بقصد الإطاعة المعتبر في العبادة بهذا البيان.

وبهذا البيان يندفع ما تقدم منا في مباحث القطع في مقام المنع عن الامتثال الاحتمالي المقتضي للتكرار من : ان كلا من العملين بما انه لا يعلم بتعلق الأمر به ، فالجمع بينهما لا بد ان ينشأ من داعيين أحدهما موافقة الأمر والآخر داع

ص: 327

دنيوي ، كالتخلص من التعب في تحصيل العلم. ونسبة كلا الداعيين إلى كل من الفعلين على حد سواء ، ولا يتعين الداعي الإلهي لما هو الموافق للأمر واقعا.فيكون كل من الفعلين صادرا عن داعيين فيتحقق التشريك في الداعي ، ويبطل العمل.

وجه الاندفاع : ان الملتزم به ليس هو صدور الفعل عن داعي الموافقة الواقعية كي يمتنع ان تكون داعيا إلا بنحو التشريك ، بل هو صدوره بداعي الموافقة على تقدير ، وهي كما عرفت مما تترتب على كل من العملين جزما ، فلا تشريك في الداعي.

كما اتضح أيضا اندفاع ما أوردناه سابقا على دعوى إمكان الإتيان بالعمل بداعي موافقة الأمر على تقدير ثبوته ، فعلى تقدير ثبوت الأمر يكون قد أتى بالعمل بداعي الموافقة ، لأن حصول المقدّر عليه يقتضي حصول المقدر. فقد أوردنا عليه : ان الإرادة التنجيزية يمتنع ان تصدر عن مجرد الموافقة على تقدير الأمر ، إذ من المحتمل ان لا يحصل التقدير ، والحال ان الإرادة حاصلة ، فلا بد ان تتحقق بلحاظ كلا تقديري الفعل ، والداعي يختلف باختلاف التقديرين ، فيصدر الفعل عن داعيين ، فيلزم التشريك في الداعي.

ووجه اندفاعه بما ذكرناه هنا : ان الداعي ليس هو الموافقة الواقعية التنجيزية كي يقال انها لا تحقق لها إلا على تقدير دون آخر ، بل الداعي هو الموافقة على تقدير بهذا العنوان - وبمفاد الحكم التعليقي - ، وهذه مما تترتب على العمل جزما بلا تردد. فتدبر والتفت.

هذا تمام الكلام في العمل بالاحتياط. وقد ظهر انه حسن عقلا وشرعا ، ولا يعتبر في حسنه شيء سوى عدم اختلال النظام.

ص: 328

المقام الثاني : في العمل بالبراءة.

وقد قيل : انه يعتبر في إجرائها الفحص.

والكلام تارة في إجراء البراءة في الشبهة الموضوعية وأخرى في إجرائها في الشبهة الحكمية.

أما البراءة في الشبهة الموضوعية : فقد قيل بعدم اعتبار الفحص في إجرائها بل يجوز إجراؤها بدون فحص.

وتحقيق ذلك يستدعي الكلام في جهتين :

الأولى : في البراءة العقلية بملاك قبح العقاب بلا بيان.

الثانية : في البراءة الشرعية.

أما البراءة العقلية: فالكلام في اعتبار الفحص في جريانها يتفرع عن أصل الالتزام بجريانها في الشبهة الموضوعية ، إذ قد تقدم بيان شبهة عدم جريان قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الموضوعية ، وقد تقدم منا دفع تلك الشبهة تبعا للمحقق النائيني رحمه اللّه .

ولكن في النّفس منه شيء ، فلا بد من تحقيق ذلك قبل تحقيق اعتبار الفحص وعدمه.

فنقول : انه قد عرفت سابقا الإشكال في أصل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل إنكار القاعدة بقول مطلق.

وعلى تقدير الالتزام بتمامية هذه القاعدة يقع الإشكال في جريانها في موارد الشبهة الموضوعية ، ولوضوح الإشكال في ذلك لا بد من الإشارة إلى محتملات مفاد العمومات بلحاظ افراد الموضوع. بيان ذلك : ان العام الّذي يتكفل إثبات الحكم على الموضوع العام نظير : « إكرام كل عالم » ..

تارة : يلتزم بان حجيته في مدلوله منوطة بوجود الموضوع ، فكل فرد يوجد من افراد الموضوع يكون العام حجة في ثبوت الحكم له عند وجوده ، وعلى هذا

ص: 329

الاحتمال تكون أصالة العموم منحلة إلى حجج متعددة تدريجية بعدد ما يوجد من افراد الموضوع تدريجا.

وإلى هذا الاحتمال يشير التعبير المألوف عند وجود أحد افراد الموضوع وتكوّنه ، بأنه صار الآن مشمولا للعام وان العام شمله فعلا.

وأخرى : يلتزم بأن حجيته في مدلوله فعلية لا تناط بوجود الموضوع ، بل قد يكون حجة ولا موضوع له أصلا ، وانما يكون وجود الموضوع منشئا لحصول الأثر العملي بانضمامه إلى العموم.

وهذا الاحتمال هو الصحيح ، ويساعد عليه الارتكاز والسيرة على الالتزام بتخصيص العام وحجيته في الباقي ونحو ذلك ، والالتزام بالاحتمال الأول يستلزم الالتزام بطريقة جديدة في أحكام العموم والخصوص وتأسيس أسلوب جديد في ذلك.

والالتزام بالاحتمال الثاني ..

تارة : بدعوى ان مفاد العموم ليس إلا الملازمة بين الحكم والموضوع ، فمفاده قضية شرطية ، وهي كما قيل لا يتوقف صدقها على صدق طرفيها ، فهو حجة في الملازمة ولو لم يكن موضوع. نعم إذا وجد الموضوع يتحقق الأثر العملي لثبوت الحكم بثبوته.

وأخرى : بدعوى ان مفاده الحكم على تقدير الموضوع ، وهو ..

تارة : يراد به إنشاء الحكم على تقدير فعلا ، بحيث يكون له وجود فعلي من حين الإنشاء ، لكن الموجود فعلا هو الحصة الخاصة من الوجوب ، وهي الوجوب على تقدير ، إذ الوجوب مفهوم عام يقبل التقييد وينشأ المفهوم المقيد خاصة ، فيكون للحكم وجود فعلي قبل وجود موضوعه ، نعم وجود موضوعه.يكون منشئا للآثار العملية من الداعوية أو وجوب الإطاعة. ولعل هذا يستفاد من كلمات المحقق العراقي الّذي يلتزم بان ظرف فعلية الحكم ظرف الإنشاء

ص: 330

والجعل نفسه ، وانما وجود الموضوع ظرف فاعلية الحكم (1).

وأخرى : يراد به إنشاء الحكم الفعلي في ظرف وجود الموضوع ، فلا يكون الحكم فعليا ، إلا عند وجود الموضوع ، والعام يكون حجة فيه من الأول وقبل وجود الموضوع. فيلاحظ ثبوت الحكم عند حصول الموضوع وينشأ بواسطة العموم فيكون حجة في الحكم من حينه.

فظهر ان محتملات العام أربعة.

إذا عرفت ذلك. فاعلم : انه بناء على الاحتمال الأول يكون إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد الشبهة الموضوعية واضحا ، لأنه مع الشك في الموضوع يشك في قيام الحجة على الحكم في مورده ، لأن المفروض ان الحجية منوطة بوجود الموضوع ، ولا يكون العام حجة في الحكم إلا عند وجود الموضوع ، فمع الشك في تحقق الموضوع يشك في ثبوت الحجة على الحكم فيه ، والشك في الحجية مستلزم للقطع بعدمها - كما قيل -. إذن فلا حجة على الحكم في مورد الشك في الموضوع ، فيتحقق موضوع القاعدة وتثبت البراءة العقلية.

وهكذا الحال بناء على الاحتمال الثاني - وهو كون العام متكفلا لبيان الملازمة بين الحكم والموضوع لا أكثر ، من دون تعرض لثبوت الحكم ولا لثبوت الموضوع - ، وذلك لأن العام لا يكون حجة على الحكم عند وجود الموضوع ، بل هو حجة على الملازمة لا أكثر ، وبواسطة العلم بالملازمة يتحقق العلم بالحكم عند حصول الموضوع ، فالحجة على الحكم هو العلم به بواسطة العلم بالملازمة. ومع الشك في الموضوع لا علم بالحكم ، فلا حجة عليه ، فيكون المورد من موارد عدم البيان.

وأما على الاحتمالين الآخرين ، فيمتنع جريان القاعدة ، وذلك لأن

ص: 331


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 69 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المفروض ان العام حجة على الحكم الشرعي مع قطع النّظر عن وجود الموضوع ، ووجود الموضوع انما هو دخيل في ترتب الأثر العملي. فمع العلم بالموضوع يكون الحجة على الحكم هو نفس العموم من الأول.

وعليه ، فمع الشك في وجود الموضوع لا يشك في قيام الحجة على الحكم كي يكون مستلزما للقطع بعدمها فيتحقق موضوع البراءة العقلية - كما هو الحال على الاحتمالين الأولين - ، بل يشك في انطباق ما قامت عليه الحجة على المورد ، ومثل ذلك لا يكون موردا للبراءة العقلية ، بل هو مورد للاشتغال تحصيلا للعلم بالفراغ عما قامت عليه الحجة ، نظير مورد العلم الإجمالي ، فان كل طرف من أطرافه مما يشك في كونه مما قامت عليه الحجة وهو العلم. ولذا لا يكون مجرى للبراءة عقلا. فلاحظ وتدبر.

وإلى روح هذا الإشكال أشار المقرر الكاظمي رحمه اللّه - وإن كنا لا نجزم بأنه ملتفت إلى خصوصيته الدقيقة - ، فقد ذكر في تقريب الإشكال على البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية : بأنه ليس الشك في قيام الحجة كبرويا. بل الشك في صغرى ما قامت عليه الحجة الراجع إلى الشك في الانطباق.

ولكنه أجاب عنه بما لا يخلو عن خدش ، فانه ذكر في مقام الجواب : ان الحجية تتقوم بأمرين : العلم بالكبرى والعلم بالصغرى. وذلك لأن الحكم القابل للتنجيز هو الحكم الفعلي ، وهو متقوم بأمرين أصل الجعل ووجود الموضوع خارجا ، فبدون العلم بوجود الموضوع لا يعلم بالحكم الفعلي فلا حجة عليه. وقد تقدم منا بيان كلامه بنحو التفصيل.

وأنت خبير : بان ما أفاده لا يدفع به الإشكال ، إذ المستشكل لا يختلف معه في ان الحكم القابل للتنجيز هو الحكم الفعلي دون غيره ، وان الحكم الفعلي منوط بوجود الموضوع - كما هو الاحتمال الرابع - ، لكنه يرى ان الحجة على الحكم الفعلي في ظرفه هو نفس العموم بلا ضميمة شيء آخر ، فكان ينبغي في

ص: 332

مقام الرد أن يرد بان الحجة ليس هو خصوص العموم ، بل بضميمة العلم بالموضوع ، فمع عدمه لا حجة على الحكم. لا أن يرد بان موضوع الحجية هو الحكم الفعلي ، وهو منوط بوجود الموضوع. فانه لا يدفع الإشكال بحال.

وجملة القول على هذين الاحتمالين في باب حجية العموم يكون منع جريان القاعدة متجها ، لما عرفت من ان العموم حجة في الحكم الفعلي مع قطع النّظر عن فعلية وجود الموضوع ، فيكون الشك في الموضوع شكا في انطباق ما قامت عليه الحجة لا في أصل قيام الحجة ، وهو مورد قاعدة الاشتغال - كما عرفت - ، نظير كل طرف من أطراف العلم الإجمالي.

وقد عرفت ان الاحتمال الأول من الاحتمالات الأربعة غير صحيح ، وان تعارف على الألسن من التعبير ما يتلاءم معه ، لأنه خلاف المرتكز. ويلحق به الاحتمال الثاني ، لأن جعل الملازمة غير معقول ، بل المجعول هو نفس الحكم الشرعي ، كما سيتضح في مبحث الأحكام الوضعيّة.

فيكون الأمر دائرا بين الاحتمالين الأخيرين ، وقد عرفت امتناع جريان البراءة العقلية بناء عليهما.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول : بمنع جريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية.

ومعه يرتفع موضوع البحث عن اعتبار الفحص في جريانها وعدمه.

نعم لا بأس بالبحث عنه تنزلا ، فيكون البحث عن لزوم الفحص فرض في فرض في فرض ، فانتبه.

وكيف كان ، فالوجه في عدم وجوب الفحص عن قيام الحجة على الموضوع ، هو ما سبق في مبحث تأسيس الأصل في باب الحجية من : ان الشك في الحجية يستلزم القطع بعدمها لتقوم الحجية بالوصول ، فمع الشك في قيام الحجة على كون زيد عالما - مثلا - يقطع بعدم الحجة عليه ، فيتحقق موضوع البراءة

ص: 333

عقلا وهو عدم البيان ، بلا توقف على الفحص.

لكن هذا الوجه لا يمكن ان يلتزم به من يرى ان الحجة إذا كانت في معرض الوصول ، كفى ذلك في حجيتها وصحة الاحتجاج بها - كما تقدم إيضاحه في مبحث تأسيس الأصل -. وعلى هذا الأساس بنى لزوم الفحص في موارد الشبهات الحكمية.

وذلك ، لأنه لا فرق حينئذ بين الشبهات الموضوعية والحكمية. فإذا كانت الحجة على الموضوع في معرض الوصول بحيث يظفر بها عند الفحص عنها كفى ذلك في حجيتها.

وعليه ، فمع احتمال قيام الحجة على الموضوع في مورد الشك والظفر بها لو تفحص عنها يحتمل ان يكون المورد من موارد قيام الحجة ، فلا يجز بعدم البيان قبل الفحص ، فلا يمكنه إجراء البراءة بدون الفحص ، لأن الشبهة مصداقية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهكذا الحال لو احتمل تحصيل العلم بالموضوع بالفحص - مع جزمه بعدم وجود حجة شرعية معتبرة أصلا - ، فان العلم وان كانت حجيته بحصوله ، وليس حجة إذا كان في معرض التحقق بدون أن يحصل ويتحقق ، فقبل العلم لا حجة جزما. لكن نقول : كما انه يكفي في الحجية كون الحجة في معرض الوصول ، كذلك يكفي في تنجيز الحكم عقلا وصحة المؤاخذة عليه كونه في معرض الوصول ، فلا يحكم العقل بقبح العقاب عند مخالفة الحكم إذا كان الحكم في معرض الوصول أو كانت الحجة عليه في معرض الوصول.

وعليه ، فمع احتمال تحصيل العلم بالموضوع والحكم ، لا يقين بتحقق موضوع القاعدة ، فلا يمكن تطبيقها لأن الشبهة مصداقية.

وبالجملة : فمع احتمال تحصيل العلم أو قيام الحجة لا يمكن إجراء البراءة العقلية ، بل لا بد من الفحص وإزالة هذا الاحتمال.

ص: 334

نعم من يرى ان الحجية تتقوم بالوصول وانه لا أثر لمعرضية الوصول للحجة أو الحكم ، له ان يجري البراءة العقلية قبل الفحص.

ولا يخفى عليك ان تحقيق أحد الوجهين في ذلك لا يقوم على أساس البرهان ، بل على أساس الوجدان وما يراه العاقل ويدركه إذا راجع وجدانه. فلاحظ.

هذا كله في البراءة العقلية.

وأما البراءة الشرعية : فالذي يظهر من صاحب الكفاية انها جارية في الشبهة الموضوعية بلا تقييد بصورة الفحص ، بل تجري مع عدم الفحص لإطلاق أدلتها بلا مخصص ، بل فرض ذلك من المسلمات ، كما يظهر ذلك من قوله : « كما هو حالها في الشبهات الموضوعية » (1).

وأما الشيخ رحمه اللّه ، فقد أفاد : ان الشبهة ..

إن كانت تحريمية ، فلا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الفحص ، ويدل عليه إطلاق الاخبار ، كقوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام » (2) وغيره ، مع عدم وجود ما يصلح للتقييد.

وإن كانت وجوبية ، فمقتضى الأدلة عدم وجوب الفحص. لكن قد يتراءى ان بناء العقلاء على الفحص في بعض الموارد ، كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبائها.

كما ان بعض الفقهاء يظهر منه وجوب الفحص في موردين :

أحدهما : مورد الشك في تحقق الاستطاعة للحج ، فانه لا يجوز له إجراء البراءة قبل الفحص لعدم العلم بالوجوب ، بل يجب عليه المحاسبة.

ص: 335


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /374- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- وسائل الشيعة 12 / 60 حديث : 4.

الآخر : مورد العلم ببلوغ الخالص من الفضة المغشوشة النصاب والشك في مقداره ، فانه تجب التصفية للعلم بمقدار الفضة الخالصة أو الاحتياط بما يحصّل اليقين بالبراءة (1).

وقد استشكل الشيخ رحمه اللّه في وجوب الفحص في هذه الموارد ، وذكر :

ان الأمر أشكل في التفرقة بين الشك في بلوغ الخالص النصاب وبين العلم ببلوغه والشك في مقداره حيث حكم بعدم لزوم الفحص في الأول ولزومه في الثاني ، مع انهما من واد واحد ، لأن العلم بأصل النصاب لا ينفع بعد كون الموارد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، وثبوت الانحلال فيه لا ينكر ، ولذا لا يتوقف في إجراء البراءة قبل الفحص لو دار أمر الدين بين الأقل والأكثر.

ثم إنه قدس سره بعد ان ذكر ذلك ذكر تفصيلا في وجوب الفحص ، ومحصله : انه إذا كان العلم بالموضوع يتوقف غالبا على الفحص بحيث يكون إهمال الفحص وإجراء البراءة مستلزما للوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، وجب الفحص قبل العمل بالبراءة.

وذكر : ان من موارده مثال الاستطاعة ، فان العلم بالاستطاعة في أول أزمنة حصولها يتوقف غالبا على الحساب ، فيكون تركه وإجراء البراءة مستلزما لتأخير الحج عن أول أزمنة الاستطاعة بالنسبة إلى غالب الأشخاص ، وهو ينافى وجوب الفورية فيه (2).

أقول : الاستشهاد بالمثال العرفي على وجوب الفحص في الشبهة الموضوعية لا يرتبط بما نحن فيه ، لأن الكلام في البراءة الشرعية لا البراءة

ص: 336


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /309- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /310- الطبعة الأولى.

العقلية ، فالمثال انما يصلح شاهدا على عدم جريان البراءة العقلية ، لا ما إذا صرح المولى نفسه بالبراءة عند الجهل ، فانه في مثل ذلك لم يعلم من حالهم لزوم الفحص على العبد بل يتمسك بإطلاق كلام المولى ويجري البراءة بلا فحص.

نعم لو أوكل المولى عبده إلى ما يراه عقله ، كان هذا المثال صالحا للاستشهاد على لزوم الفحص. فانتبه.

وأما ما أفاده من التفصيل فهو متين ، والوجه فيه هو : انه في الموارد التي يتوقف العلم بالموضوع غالبا على الفحص يكون جعل الحكم في مثل ذلك ظاهرا بالملازمة العرفية في لزوم التفحص عن أفراد الموضوع وعدم إيكال الأمر إلى حصول العلم به من باب الاتفاق ، فانه خلاف الظاهر عرفا في مثل هذا المورد ، بل يكون جعل الحكم العام مع عدم الإلزام بالفحص المستلزم للمخالفة الكثيرة أشبه بتخصيص الأكثر من حيث الاستهجان.

لكن تطبيقه على موارد الشك في الاستطاعة فيه منع ، لأن الأمر في باب الاستطاعة ليس كذلك ، إذ يغلب العلم بها بلا فحص ولا محاسبة ، لمعرفة غالب الكسبة - ذوي الشأن الكبير منهم والصغير - مقدار أرباحهم من السلعة ومقدار مصرفهم ، بحيث يعرف مقدار ما يحصّله في السنة بنحو التخمين ، فليس العلم بالاستطاعة مما يتوقف غالبا على الفحص.

وبالجملة : ما أفاده الشيخ رحمه اللّه مسلم كبرويا ممنوع صغرويا ، ولعله يشير إلى المناقشة الصغروية بقوله في آخر كلامه : « ولكن الشأن في صدق هذه الدعوى ».

وقد أضاف المحقق النائيني رحمه اللّه إلى هذا التفصيل تفصيلا آخر وهو : انه ..

تارة : تكون مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من التوجه والنّظر إلى تلك المقدمات.

ص: 337

وأخرى لا تكون المقدمات حاصلة ، فتحصيل العلم يحتاج إلى تحصيلها والفحص عنها.

ففي الصورة الأولى يجب النّظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة وجوبية كانت أو تحريمية إلاّ بعد النّظر لعدم صدق الفحص على مجرد النّظر وانما يصدق على تمهيد مقدمات العلم وتحصيلها.

وعليه ، فإذا كان العلم بطلوع الفجر لا يتوقف على أزيد من رفع الرّأس والنّظر إلى الأفق فلا يجوز الأكل اعتمادا على استصحاب الليل كما انه لا يجوز شرب المائع المردد بين الخمر والخل إذا كان يتوقف العلم به على مجرد النّظر إلى الإناء.

نعم يستثنى من ذلك باب الحكم بالطهارة ، لظهور الأدلة في البناء على عدم الفحص بأي نحو كان بل ظاهر بعض الأدلة جواز ارتكاب ما يوجب التشكيك في التنجس ، كترطيب البدن حتى يحتمل إذا وجد على بدنه رطوبة ان تكون من الماء لا من البول. ونحو ذلك (1).

أقول : الّذي يبدو من هذا البيان الّذي نقلناه عن تقريرات الكاظمي هو التفرقة بين ما إذا كان الفحص لا مئونة فيه أصلا وبين ما فيه مئونة ومشقة ، فلو توقّف العلم بالفجر على مجرد النّظر إلى الأفق وجب الفحص ، أما لو توقّف على الصعود من السرداب العميق إلى السطح للنظر فلا يجب.

ولكن يستبعد جدا ان يكون مراده قدس سره ذلك فانه تفصيل بلا وجه ظاهر. بل القريب ان يكون نظره إلى التفصيل بين ما كان الموضوع بحسب وعائه المناسب له واضحا وجودا أو عدما ، بحيث يتضح لكلّ أحد إذا طلبه في وعائه المناسب له كالفجر في الأفق الصافي الّذي لا علة فيه ، وكرؤية الهلال

ص: 338


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 302 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

إذا كانت شائعة جدا ، وبين ما لم يكن الموضوع بهذه المثابة من الوضوح ، فالفحص واجب في الأول وان كانت فيه مشقة ومئونة ولا يجب في الثاني.

والوجه فيه : ان الموضوع إذا كان من النحو الأول ، يصدق عليه عرفا إنه معلوم وواضح ومعروف فيقال عن الفجر عرفا أنه معلوم.

والغاية المأخوذة في موضوع البراءة وان كانت هي العلم الظاهر بدوا في إرادة العلم الدقي الحقيقي ، فلا عبرة بالصدق العرفي.

إلا انه ، بملاحظة هذا الصدق العرفي يكون العلم المأخوذ غاية للأصول منصرفا إلى المصداق العرفي منه. فيثبت وجوب الفحص في مثل ذلك حينئذ.

هذا تمام الكلام في إجراء البراءة في الشبهة الموضوعية ولزوم الفحص فيها.

واما البراءة في الشبهة الحكمية : فقد اتفق الكل على لزوم الفحص قبل إجرائها وعدم جواز العمل بها قبل الفحص وإن كانت أدلتها بحسب الظاهر مطلقة من هذه الجهة.

وقد وقع الكلام في الدليل على لزوم الفحص وتقييد إطلاق أدلة البراءة الشرعية به.

وقد ذكر لذلك وجوه متعددة :

الأول : الإجماع القطعي على اعتبار الفحص في الشبهات الحكمية.

ونوقش الإجماع في الكفاية وغيرها بأنها غير صالح للحجية بعد وجود الوجوه الأخرى التي أقيمت على اعتبار الفحص. لاحتمال استناد المجمعين إليها فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم علیه السلام (1).

الثاني : حكم العقل بلزوم الفحص فيما كان بناء المولى على تبليغ أحكامه

ص: 339


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /375- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالطرق المتعارفة العادية. بحيث لا يصل المكلف عادة إلى الحكم إلا بعد الفحص. ويكون ترك الفحص موجبا لاستحقاق العقاب على المخالفة. وبما ان بناء الشارع في تبليغ أحكامه على هذه الكيفية ، فيلزم الفحص عن الحكم الشرعي عند احتماله في مظانّ وجوده.

ولا يخفى عليك ان هذا الوجه يصلح لإنكار جريان البراءة العقلية قبل الفحص ، فان العقل لا يحكم بقبح العقاب إذا ترك العبد الفحص عن الأحكام التي بنى المولى على تبليغها بالطرق المتعارفة ، بل يحكم بحسن عقابه على تقدير المخالفة. ولكنه لا يصلح لتقييد البراءة الشرعية ، وذلك لأنه لو فرض تصريح المولى بالخصوص لعبده بأنه لا يعاقب على المخالفة إذا كانت عن جهل ولو لم يتصد العبد للفحص ، فلا إشكال في عدم حكم العقل بحسن العقاب عند ترك الفحص.

ومن الواضح ان إطلاق أدلة البراءة يقوم مقام التنصيص الخاصّ ، لشمول الإطلاق مورد الفحص وعدمه ، فيكون رافعا لحكم العقل. فانتبه.

الثالث : العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في الشريعة وهو لا ينحل إلاّ بالفحص ، فالعمل بالبراءة قبل الفحص غير جائز للعلم الإجمالي المنجز المانع من جريان البراءة في أطرافه.

وقد ناقشه صاحب الكفاية : بان هذا العلم الإجمالي البدوي منحل - بعد الشروع في الاستنباط - بالعلم بمقدار من التكاليف في أبواب الفقه المتفرقة يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليها. وحينئذ فيلزم ان لا يجب الفحص في الشبهات الحكمية بعد تحقق الانحلال ، مع ان المفروض هو لزوم الفحص في جميع الشبهات بلا استثناء (1).

ص: 340


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /375- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وإلى هذا الجواب أشار الشيخ رحمه اللّه في كلامه (1).

وقد تعرض المحقق النائيني رحمه اللّه إلى هذا الوجه ، وذكر : بان العلم الإجمالي بثبوت أحكام في الشريعة ينحل بعلم إجمالي صغير آخر ، وهو العلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعية تؤديها الأمارات الموجودة في ضمن الكتب التي بأيدينا ، وهي بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحل العلم الإجمالي العام بالعلم الإجمالي الخاصّ ، ومقتضى ذلك لزوم الفحص في خصوص ما بأيدينا من الكتب لا أزيد وقد بنى بهذا الوجه على لزوم الفحص في الكتب التي بأيدينا الّذي هو المدعى.

ثم انه تعرض إلى مناقشة في العلم الإجمالي الصغير : بأنه لا يستدعي الفحص في مطلق الشبهات ، لأن العلم الإجمالي المزبور ينحل باستعلام جملة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها. فيكون هذا الوجه أخص من المدعى.

ودفع هذه المناقشة بإنكار الانحلال باستعلام جملة من الأحكام بالنحو المزبور ، ببيان : ان الانحلال انما يتحقق إذا كان متعلق العلم الإجمالي مرددا من أول الأمر بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بوجود الموطوء في القطيع من الغنم وتردد بين الأقل والأكثر ، لأن العلم الإجمالي لا يوجب سوى تنجيز الأقل ، فإذا علم ، موطوئية هذه العشرة من هذا القطيع ينحل العلم الإجمالي.

ولا يتحقق الانحلال فيما إذا كان متعلق العلم الإجمالي عنوانا واقعيا بما له من الافراد وتردد أفراده بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بموطوئية البيض في هذا القطيع وترددت بين العشرة والعشرين. فانه بالعلم بموطوئية عشرة من الغنم لا ينحل العلم الإجمالي ، لأنه يستلزم تنجيز متعلقه بما له من العنوان على

ص: 341


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /301- الطبعة الأولى.

واقعه ، فهو يوجب - في المثال - تنجيز التكليف المتعلق بافراد الغنم البيض الواقعية ، فلا يتحقق الانحلال بالعثور على جملة من الافراد يحتمل انها تمام افراد المعلوم بالإجمال ، بل لا بد من الفحص التام في جميع الافراد.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأن المعلوم بالإجمال هو الأحكام الموجودة في الكتب التي بأيدينا ، فيستلزم تنجيز جميع الأحكام الموجودة في الكتب على واقعها ، ولازمه الفحص التام عن جميع ما في الكتب التي بأيدينا وعدم انحلال العلم الإجمالي باستعلام جملة من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها.

واستشهد على ذلك : بأنه لو علم المكلف باشتغال ذمته لزيد بما في الطومار وتردد ما في الطومار بين الأقل والأكثر ، لا يجوز للمدين الاقتصار على القدر المتيقن ، بل لا بد من الفحص التام ، وهو مما يشهد به بناء العرف والعقلاء ، فلا يرى العقلاء أن المدين معذور إذا ترك الفحص واقتصر على الأقل (1).

أقول : الحديث في ثبوت الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيليّ ببعض الأطراف قد مرّ مفصلا وعرفت منّا إنكاره ، وان الثابت ليس إلا الانحلال الحكمي بوجه تفردنا به. فراجع تعرف. وهذا ليس بمهم.

إنما المهم ما أفاده من عدم انحلال العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الكتب المعتبرة ، بواسطة العلم بمقدار من التكاليف يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه.

فان ما أفاده في مقام بيان عدم الانحلال مردود.

أما ما ذكره شاهدا - أخيرا - ، فهو لا يرتبط بما نحن فيه بالمرة ، لأن لزوم الفحص ثابت لدى العقلاء حتى مع عدم العلم بأنه مدين أصلا ، وإنما كان

ص: 342


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 279 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

يحتمل ذلك بدوا ، فانه إذا كان البناء على تسجيل كونه مدينا لزيد في دفتره ، فجاءه زيد وطلب منه فحص دفتره ليجد أنه مدين له أم لا؟ ليس له رفض ذلك والتمسك بالأصل ، وبناء العرف والعقلاء على لزوم الفحص في مثل ذلك مما لا ينكر. إذن فلزوم الفحص في مثال الدين أجنبي عن عدم انحلال العلم الإجمالي للزومه في الشبهة البدوية ، بل له وجه آخر غير مرتبط بما نحن فيه.

وأما ما أفاده من انه إذا تعلق العلم الإجمالي بعنوان ، وترددت افراده بين الأقل والأكثر ، فلا ينحل العلم الإجمالي بالعلم بجملة من الافراد يحتمل انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي عليها ، فهو مسلم فيما إذا كان الفرد المعلوم بالتفصيل غير معلوم المصداقية للعنوان المعلوم بالإجمال ، كما لو علم بان إناء زيد نجس. واشتبه إناء زيد بغيره ، ثم عثر على إناء نجس لا يعلم انه إناء زيد أم لا ، فانه لا ينحل العلم الإجمالي الّذي استلزم تنجيز التكليف المتعلق بإناء زيد.

وأما إذا كان الفرد المعلوم بالتفصيل من افراد العنوان المعلوم بالإجمال ، كان ذلك موجبا للانحلال ، لأن العلم الإجمالي بالعنوان وان أوجب تنجيزه ، لكنه انما ينجزه بما له من الأفراد المعلومة لا غير ، فإذا عثر على مقدار من افراده يحتمل انها تمام أفراده ينحل العلم الإجمالي ، إذ لا علم بتكليف زائد على أكثر مما عثر عليه ، فتكون سائر الأطراف مجرى الأصل المؤمن - على ما بيناه في وجه الانحلال -. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ التكاليف المعلومة بعد الفحص معلومة بعنوان انها تكاليف واقعية لا بعنوان آخر ، فيلزم انحلال العلم الإجمالي ، وهو ما نبّه عليه في الكفاية.

وجملة القول : ان الاستدلال بالعلم الإجمالي على لزوم الفحص ، استدلال بما هو أخص من المدعى. فتدبر جيدا.

الرابع : الأخبار الدالة على وجوب التعلم ، مثل الخبر المروي عن أمالي

ص: 343

الشيخ في تفسير : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (1) من : أنه يقال للعبد يوم القيامة هل كنت عالما؟ فان قال : نعم. قيل له : لما ذا لم تعمل بما علمت؟. وان قال : كنت جاهلا. قيل له : هلا تعلمت حتى تعمل. فيخصم. فتلك الحجة البالغة (2).

وتقريب الاستدلال بها : أنها تدل على ترتب العقاب عند ترك التعلم. فتدل على عدم معذورية العبد عند ترك التعلم والفحص.

وتحقيق الكلام في دلالة هذه الاخبار ، هو : انه قد يستشكل في دلالتها باعتبار أنها تتكفل الإخبار عن ترتب العقاب على مخالفة الواقع عند ترك التعلم ، وهذا يستلزم ان يكون الحكم منجزا في نفسه ومع قطع النّظر عن هذه الاخبار ، إذ لو لم يكن الحكم منجزا في نفسه لما اتجه ترتب العقاب عليه الّذي تتكفل هذه النصوص الاخبار به.

وبالجملة : الحال في هذه الاخبار كالحال في اخبار التوقف التي مرّ في مناقشة دلالتها على وجوب الاحتياط بأنها لا تتكفل تنجيز الواقع ، بل هي متفرعة عن تنجزه لفرض ترتب العقاب مفروغا عنه فيها ، فتختص بموارد قيام المنجز على الواقع من علم إجمالي ونحوه ، فان اخبار التعلّم قد أخذ فيها ترتّب العقاب مفروغا عنه ، فلا تتكفل تنجيز الواقع قبل الفحص ، بل تختص بموارد يثبت المنجز للواقع قبل الفحص من علم إجمالي ونحوه ، على ما سنشير إليه.

وقد يدفع هذا الإشكال : بان الجملة وان كانت خبرية تتكفل الاخبار بثبوت العقاب عند ترك التعلم ، لكنها مسوقة في مقام إنشاء الحكم بالتنجيز عند ترك التعلم ، نظير كثير من الاخبار التي ينشأ فيها الحكم ببيان لازمه من ترتب الثواب على الفعل أو العقاب عليه ، لأن ترتب الثواب والعقاب ملازم للحكم

ص: 344


1- سورة الأنعام ، الآية : 149.
2- الطوسي المحقّق الشيخ محمد بن الحسن ، الأمالي : 1 / 8 - باب 1 ، حديث 10.

عرفا ، فيكون المقصود الأصلي من الإخبار بهما إنشاء الحكم على سبيل الاستعمال الكنائي ، حتى انه يصح ذلك ولو علم المولى من نفسه انه لا يرتب الأثر من ثواب أو عقاب. إذن فيكون النص فيما نحن فيه دالا على وجوب التعلم وتنجيز الواقع به.

وتحقيق الحال في ذلك : ان الاخبار عن ترتب العقاب تارة يكون مسبوقا بأمر المولى بالفعل أو نهيه عنه. وأخرى لا يكون مسبوقا به ، بل يكون اخبارا ابتداء عن العقاب.

ففي مثل الأول : لا ظهور للكلام في الإنشاء وإرادة المدلول الالتزامي وهو جعل الحكم ، بل يكون محمولا على ظاهره من الاخبار إرشادا إلى ثبوت أمر المولى أو نهيه ، نظير ما يتصدى له الواعظ من بيان أثر العمل المحرم من العقاب والمؤاخذة ، فانه ليس بصدد إنشاء الحكم أصلا ، بل بصدد محض الاخبار عن لازم الحكم ترهيبا.

وأما في مثل الثاني : فيكون للكلام ظهور في جعل الحكم وإنشائه على سبيل الكناية على ما تقدم ، كقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ... ) (1) ، فانه ظاهر في حرمة القتل ، لعدم الوجه في ترتب العقاب سوى الحرمة.

وإذا ظهر ذلك ، فالشبهة التي يترك المكلف فيها الفحص ذات فردين : أحدهما : يكون الحكم فيه منجزا مع قطع النّظر عن وجوب التعلم كموارد العلم الإجمالي. والآخر : لا يكون منجزا في نفسه ومع قطع النّظر عن وجوب التعلم كالشبهة البدوية.

وأخبار ترتب العقاب عند ترك التعلم إن كانت ناظرة إلى النحو الأول ،

ص: 345


1- سورة النساء ، الآية : 93.

كانت ظاهرة في مجرد الاخبار بلا تكفل لإنشاء وجوبه ، بل هي نظير اخبار الواعظين تتكفل الإرشاد إلى تنجيز الواقع في حد نفسه والتحذير عن مخالفته. وان كانت ناظرة إلى النحو الثاني ، كانت ظاهرة في إنشاء وجوب التعلم لتنجيز الواقع ، والجمع بين كلتا الشبهتين لا دليل عليه ولا وجه له إذا أمكن صرف الكلام إلى ما يبقي الاستعمال معه على ظاهره من الإخبار.

وعليه ، فيدور الأمر بين نظرها إلى النحو الأول أو النحو الثاني ، ولا معين لأحدهما فتكون مجملة ، فتكون قاصرة عن الدلالة على التنجيز في الشبهة البدوية ، وقد مرّ نظير هذه المناقشة ودفعها في اخبار التوقف فراجع.

وقد يدعى : ان ظاهر الخبر المؤاخذة والتأنيب من جهة ترك التعلم ، إذ التكبيت والتنديم على ترك التعلم ، وهذا لا يتناسب مع نظرها إلى موارد العلم الإجمالي ، إذ المؤاخذة فيه من جهة العلم ومنجزيته ولم تنشأ عن ترك التعلم.

ولعل هذا هو نظر صاحب الكفاية في قوله : « لقوة ظهورها في ان المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا .. » (1).

ولكن هذه الدعوى تندفع بان العلم الإجمالي ..

تارة : يتعلق بعنوان معين مردد بين أمرين ، نظير العلم بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر ، ففي مثله يكون التنديم على ترك العمل لأجل العلم ولا يقال له هلا تعلمت لتعمل.

وأخرى : يتعلق بثبوت أحكام بنحو الإجمال بلا تعينها بعنوان خاص ، كما يحصل لمن يدخل في الإسلام حديثا. أو للشخص في أول بلوغه وقبل تعلمه. فانه إذا ترك الجاهل بعض الأعمال في مثل هذا الحال ، كان له ان يقول لم أكن أعلم

ص: 346


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /375- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

به ، وصح ان يقال له لما ذا لم تتعلم.

وعليه ، فيمكن ان تكون الرواية ناظرة إلى هذا النحو من الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي المنجز. ولا تكون ناظرة إلى الشبهة البدوية التي هي محل الكلام.

والنتيجة : ان هذا الوجه كسوابقه قابل للمناقشة.

الخامس - وهو عمدة الوجوه - : ان الغرض من إنشاء التكليف هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا ومحركا للمكلف.

ومن الواضح ان هذا إنما يصح إذا كان للمكلف طريق عادي للوصول إليه ، بحيث يمكن ان يعتمد عليه المولى في وصول حكمه ، إذ مع عدم الطريق العادي للوصول إليه يكون جعل التكليف مستهجنا عرفا للغويته.

وعليه ، فإذا جعل المولى أحكاما على عبده فليس له أن يسد باب طريق وصولها العادي عليه ، فانه عرفا يعد مستهجنا منه ، وأشبه بالتناقض.

وعلى ذلك ليس للمولى أن يرخص عبده في ترك الفحص عن أحكامه المحتملة وإيكال الأمر إلى الصدفة والاتفاق في تحصيل العلم ، خصوصا مع علمه بعدم تحقق الاتفاق ، فان جعل الأحكام واقعا مع الترخيص في ترك الفحص يعد عرفا من المستهجنات ، لأن الطريق العادي لوصول الحكم هو الفحص عنه وبدونه لا يصل عادة بل من باب الاتفاق. وقد عرفت ان جعل الحكم مع عدم الطريق إليه عادة مستهجن لدى العرف فانه من المستهجن جدا ان يجعل المولى أحكاما على عبده ويبيّنها إلى شخص زيد مثلا ، ثم يقول لعبده لا يلزم ان تفحص عن أحكامي إذا احتملتها ولا يجب عليك ان تسأل زيدا عنها ، ولا يوجب على زيد بيانها لعبده.

نعم قد يكون الغرض الباعث نحو التكليف والمصلحة الداعية إليه بنحو لا يكون لازم التحصيل كيف ما كان ، بل إذا وصل من باب الصدفة والإنفاق ، وفي

ص: 347

مثله لا يجب الفحص بلا إشكال. لكن اللازم في مثله إنشاء الحكم مقيدا بما يلازم الوصول الاتفاقي ، فانه لا مانع منه ولا محذور فيه ولا معنى لإنشائه مطلقا ، والالتزام بعدم إيجاب الفحص لأنه مستهجن كما عرفت.

كما انه قد يكون الغرض الباعث نحو التكليف بمكان من الأهمية بنحو يلزم على المولى إيصاله للمكلف بأي نحو كان ، ولو بمثل إيجاب الاحتياط وعدم الاعتماد على الطرق العادية ، كما هو الحال في باب الشبهات المتعلقة بالدماء والفروج.

لكن نوع الأحكام الشرعية حد وسط بين هذين ، فان الغرض من التكليف بنحو يلزمه تحصيله بإيصاله بالطرق العادية. وفي مثله يمتنع تجويز ترك الفحص لاستلزامه تفويته.

والسر في ذلك : هو عدم تصدي الشارع لجعل الاحتياط في الشبهات حتى يستكشف منه أنه من قبيل الثاني. كما ان الأحكام لم تقيد بصورة الوصول اتفاقا كي يستكشف أنها من قبيل الأول. بل جعلها مطلقة غير مقيدة ، وقد عرفت ان لازم ذلك منع سد الطريق العادي ، فلا بد من إيجاب الفحص لاستهجان العرف عدم إيجابه والحال هذه فيكشف عن أن نحو الغرض ما ذكرناه.

نعم بعد نصب الطرق العادية وفحص المكلف ، وعدم عثوره على الحكم ، لا يعدّ جعل الحكم مستهجنا مع وجود الطريق العادي وقصور المكلف عن الوصول إليه لجهة خاصة.

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام المحقق الأصفهاني من الإشكال فراجع تعرف (1).

ص: 348


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 307 - الطبعة الأولى.

وهذا الوجه هو الّذي ينبغي ان يعتمد عليه ، ويؤيده جعل الطرق الشرعية إلى الأحكام ، والحث والترغيب على طلب العلم وحفظ الأحكام وإرشاد الجهّال ، فانه يؤكد كون الغرض من الحكم بنحو يلزم إيصاله بالطرق الاعتيادية ، لا انه بنحو لا يلزم إلا إذا وصل من باب الصدفة والاتفاق.

ولعل نظر الشيخ رحمه اللّه في الركون إلى الإجماع - في آخر كلامه - إلى ذلك ، وان هذا الأمر من المسلمات العقلائية ، لا انه يحاول الاستناد إلى الإجماع تعبدا (1). فالتفت.

هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.

وأما مقدار الفحص اللازم ، فالمعتبر فيه بحسب ما تقدم من الأدلة هو الوصول إلى حد اليأس عن الظفر بالدليل ، وهو عقلائيا يحصل بالاطمئنان بعدم الدليل.

أما على دعوى عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص بعد ملاحظة كون بناء المولى على تبليغ أحكامه بالطرق الاعتيادية ، ان الطريق حينئذ إذا كان في معرض الوصول كان حجة ، فلأنه مع الاطمئنان بعدم الدليل يتحقق موضوع القاعدة ، وهو عدم الحجة والبيان.

وأما على دعوى العلم الإجمالي بالتكاليف قبل الفحص فيما بأيدينا من الكتب فلان الطرق يخرج عن أطرافه مع الاطمئنان بعدم الدليل في الكتب التي بأيدينا.

وأما بناء على دلالة الاخبار على وجوب التعلم ، فمع حصول الاطمئنان بعدم الدليل يحصل العلم العادي بعدمه ، فيتحقق التعلم بالفحص ، وسيأتي ان المنظور في اخبار التعلم تنجيز الطرق لا الواقع مباشرة.

ص: 349


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /201- الطبعة الأولى.

كما انه لو كان المنظور هو تنجيز الواقع ، فوجوب التعلم انما يثبت مع التمكن منه ، ومع اليأس عن الدليل يحصل الاطمئنان بعدم التمكن منه فلا يجب.

وأما بناء على دعوى الإجماع ، فهو لم يقم على أكثر من ذلك.

وأما على المختار من الوجه الّذي ذكرناه أخيرا ، فلأنه مع الاطمئنان بعدم الطريق واليأس عنه لا مخصص لأدلة البراءة ، إذ غاية ما يدل عليه هو وجوب الفحص عن الطرق الاعتيادية للحكم. فتدبر.

ثم ان هاهنا شبهة أشير إليها في الرسائل ، وهو : انه بناء على دعوى لزوم الفحص لأجل العلم الإجمالي بالتكاليف لا يكون اليأس عن الدليل على الحكم مؤثرا في إجراء البراءة ، وذلك لأن احتمال التكليف لا يزول بالفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، فيكون منجزا بالعلم الإجمالي لكونه من أطرافه ، فهو نظير ما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وفحص عن النجس فلم يعثر عليه ولم يستطع تشخيصه وتعيينه ، فإنه لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي ولزوم الاجتناب عن الإناءين.

وتندفع هذه الشبهة : بان المعلوم بالإجمال فيما نحن فيه بنحو يكون الفحص وعدم العثور على الدليل موجبا لخروج المحتمل عن أطرافه ، فان العلم الإجمالي لم يتعلق بثبوت تكاليف وأحكام بنحو الإجمال ، بل تعلق بثبوت تكاليف فيما بأيدينا من الكتب - كما أشرنا إليه في انحلال العلم الكبير - ، أو تعلق بثبوت تكاليف لو تفحص عنها لظفر بها. ومن الواضح انه مع الفحص واليأس عن الدليل يكون التكليف المحتمل خارجا عن أطراف العلم الإجمالي ، إذ يعلم إنه ليس من الأحكام الموجودة في الكتب التي بأيدينا ، كما انه ليس مما لو فحص عنه لظفر به. فلاحظ جيدا.

هذا تمام الكلام في لزوم الفحص ومقداره.

ص: 350

ويقع الكلام بعد ذلك في ما يترتب على العمل بالبراءة قبل الفحص ، والبحث عنه في جهتين :

الجهة الأولى : في حكمه من حيث العقاب وعدمه.

والجهة الثانية : في حكمه من حيث صحة العمل وفساده.

أما الجهة الأولى : فترتب العقاب على العمل بالبراءة قبل الفحص في الجملة ، كما إذا انكشف انه مخالف للواقع ، مما لا إشكال فيه على جميع وجوه لزوم الفحص لتنجز التكليف وعدم قيام المؤمّن عقلا ولا شرعا.

إنما الكلام في موضوع العقاب ، فهل هو مخالفة الواقع ، أو انه ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة ، أو انه ترك التعلم مطلقا ولو لم يؤد إلى المخالفة؟.

وتحقيق ذلك : انه بناء على وجوب الفحص بملاك عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص وثبوت قاعدة الاشتغال بملاك دفع الضرر المحتمل ، يكون العقاب على مخالفة الواقع ، لأن قاعدة الاشتغال لا تنجز غير الواقع المحتمل كما لا يخفى.

كما انه بناء على وجوب الفحص بملاك العلم الإجمالي يكون العقاب على مخالفة الواقع أيضا ، لأن العلم ينجز الواقع المعلوم. وهكذا الحال بناء على المختار ، لأنه يرجع إلى تقييد الأدلة الشرعية على البراءة بصورة الفحص ، فلا يحكم الشارع بالمعذرية قبل الفحص ، فالمنظور فيه هو الواقع نفسه.

وبالجملة : بناء على هذه الوجوه لا موهم لثبوت العقاب على ترك الفحص والتعلم ، لعدم كونه واجبا شرعيا.

وإنما الموهم لثبوت العقاب على ترك التعلم - في صورة عدم المخالفة - أحد وجهين :

الأول : التجري ، فان الإقدام على ما يحتمل معه مخالفة المولى مع عدم

ص: 351

المؤمن شرعا ولا عقلا تجر على المولى. وقد تقدم الكلام في التجري بشئونه في مبحث القطع. فراجع.

الثاني : ما دل من الاخبار على وجوب التعلم ، فانه قد يدعى ظهورها في الوجوب النفسيّ ، فيترتب العقاب على مخالفته مع قطع النّظر عن الواقع.

ولكن هذا الوجه قابل للمناقشة ، ببيان : ان محتملات مفاد اخبار وجوب التعلم متعددة ، أحدها : ان يكون الوجوب غيريا مقدميا. والثاني : ان يكون الوجوب إرشاديا. والثالث : ان يكون الوجوب طريقيا. والرابع : ان يكون الوجوب نفسيا استقلاليا. والخامس : أن يكون الوجوب نفسيا تهيئيا.

والّذي نستظهره منها هو الاحتمال الأول ، فان ظاهر الخبر هو ثبوت العقاب على مخالفة الواقع وكون سببه هو الجهل ، وان ترك العمل كان ناشئا عن الجهل ، فالتنديم وان كان موضوعه ترك التعلم ، لكنه بلحاظ ان التعلم مقدمة للواقع لا لموضوعيّة نفسه ، فهو نظير ما لو أمر المولى عبده بشراء اللحم ، فلم يشتر العبد اللحم واعتذر بأنه لم يدخل السوق ، فان المولى يقول له مستنكرا : لما ذا لم تدخل السوق لتشتري اللحم ، فان المنظور الأصلي هو الواجب النفسيّ.

وبالجملة : ظاهر الرواية خصوصا بملاحظة قوله : « هلاّ تعلمت حتى تعمل » فرض التعلم مقدمة للعمل ، فلا ظهور في الاستنكار على تركه في كونه واجبا نفسيا ، بل يكون ظاهرا في كونه بلحاظ مقدميته ، وهو كثيرا ما يقع كما عرفت في المثال العرفي.

يبقى سؤال وهو : انه كيف يكون التعلم مقدمة وفي أي حال؟. والجواب عنه : انّ له موردين :

الأول : مورد الجهل بمتعلقات الأحكام المستحدثة شرعا ، كالصلاة والحج والوضوء والغسل ، فان ترك التعلم فيها يؤدي إلى عدم أدائها بالنحو المطلوب.

الثاني : مورد العلم الإجمالي بثبوت أحكام في الشريعة بنحو الإجمال من

ص: 352

دون تمييز متعلقاتها ، كما أشرنا إليه سابقا. فان ترك التعلم قد يؤدي إلى الوقوع في خلاف الواقع لأجل الغفلة عنه بالمرة.

ولو تنزّلنا عن البناء على هذا الاحتمال ، فالذي نلتزم به من الاحتمالات الأخرى هو الثاني - أعني : كون مفادها الوجوب الإرشادي - ، لما عرفت من أن الإخبار بالعقاب لا ظهور له في الإنشاء إذا كان مسبوقا بقيام المنجز على العمل ، بل يبقى على ظاهره من الإخبار ويكون إرشادا إلى وجود المنجز ، وقد عرفت قيام الدليل على التنجيز قبل الفحص في الشبهة ، ولو لم يكن الدليل تاما في مطلق موارد الشبهة ، فقد عرفت تماميته في بعض افرادها ، فراجع ما تقدم تعرف.

ولو تنزلنا عن هذا الاحتمال أيضا والتزمنا ان. الاخبار تتكفل جعل حكم مولوي لا إرشادي ، فهو يدور بين كونه طريقيا بداعي تنجيز الواقع ، وبين كونه نفسيا. والأول هو المتعين.

ولكن الّذي نلتزم به أنه ليس لتنجيز الواقع المحتمل بل لتنجيز الطريق المحتمل. وذلك لأنه وان لم نعتبر ان يكون الوجوب الطريقي المنشأ بداعي التنجيز ، ان يكون بمضمونه مطابقا للحكم المنجز على تقدير المصادفة كوجوب الاحتياط ، أو كوجوب تصديق العادل والعمل بقوله الّذي يكون منجزا للواقع ، الا انا نعتبر ان يكون له نحو ارتباط بالحكم المنجز بحيث يتناسب مع تنجيزه وكونه في عهدته ، كي يدل الحكم التنجيزي على تنجيز الحكم الّذي يراد تنجيزه.

ومن الواضح ان وجوب التعلم لا ربط له بالواقع المحتمل ، إذ متعلق الوجوب فيه أمر غير متعلق الوجوب الواقعي على تقدير ثبوته ، فليس هو كوجوب الاحتياط. كما ان التعليم ليس من آثار تنجز الواقع ، كي يكون إيجابه مقتضيا لتنجيز الواقع بالملازمة ، ويصح إيجابه بهذا الداعي لأجل وجود هذا الربط ، إذ لو فرض تنجز الواقع المحتمل فلا يكون باعثا عادة للتعلم ، بل يكون باعثا

ص: 353

نحو الاحتياط. إذن فهو لا يصلح ان يكون تنجيزا للواقع ، وإنما هو منجز للطريق. ببيان : ان الطريق الواقعي للحكم الشرعي إذا فرض انه ليس منجزا بوجوده الواقعي وإلا كان وجوب التعلم إرشاديا ، والمفروض التنزل عنه. وإنما يكون منجزا بوجوده الواصل ، فمع احتمال وجود الطريق في الواقع - لو فرض ثبوت تنجزه بمعنى انه فرض ان الطريق المحتمل منجز - لا إشكال في انه يكون باعثا نحو الفحص والتعلم تحصيلا للمنجز أو دفعا له. إذن فالتعلم من لوازم تنجيز الطريق المحتمل عادة ، فيصح إنشاء وجوبه بداعي تنجيز الطريق الواقعي المحتمل لكفاية هذا المقدار من الربط في تصحيح إيجاب التعلم بداعي التنجيز ، وان لم يكن التعلم عين الواجب الواقعي المنجز على تقدير ثبوته ، فيكون مقتضى وجوب التعلم تنجيز المنجز للواقع.

يبقى سؤال ، وهو : ان هذا البيان لا يعدو كونه تصويرا لكون وجوب التعلم تنجيزيا طريقيا في قبال من أنكر صحة ذلك - كالمحقق العراقي (1) - ، بدعوى : ضرورة كون الواجب الطريقي المنجز عين الواجب المنجز على تقدير الموافقة. فان هذه الدعوى عرفت انّها مردودة بالتصوير المزبور ، لكفاية وجود نحو ارتباط بين الواجب الطريقي وذي الطريق ، بحيث يناسب الوجوب الطريقي كون ذي الطريق في العهدة ولو بنحو الملازمة.

ولكن ما الوجه في كون الوجوب طريقيا لا نفسيا؟.

والجواب عن هذا السؤال : بان استفادة كون الوجوب طريقيا لا نفسيا إنما هو باعتبار المناسبة العرفية التي يجدها العرف بملاحظة الحكم والموضوع ، فانه يرى ان الملحوظ في وجوب التعلم هو الوصول إلى الواقع بطريقه بعد ان عرفت المناسبة بينهما ، فالإيجاب هنا نظير إيجاب تصديق العادل والعمل بقوله ،

ص: 354


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار3/ 476 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فانه وان أمكن كونه إيجابا نفسيا مستقلا ، لكن العرف لا يستظهر ذلك ، بل يستظهر انه إيجاب طريقي يكون الغرض منه الوصول إلى الواقع والتحفظ عليه.

والمتحصل : ان اخبار وجوب التعلم لا تقتضي ترتب العقاب على ترك التعلم نفسه ، بل غاية ما يقتضيه هو ترتب العقاب على مخالفة الواقع. فالذي ينتج أن جميع أدلة وجوب الفحص لا تقتضي ترتب العقاب إلا على ترك الواقع.

وهذا السلوك الّذي التزمناه في تحقيق هذه الجهة من ملاحظة أدلة وجوب الفحص وملاحظة مقتضاها ، هو الّذي ينبغي أن يلتزم. لا ما نهجه المحقق الأصفهاني ( رحمه اللّه في تحقيق هذه الجهة والتزامه ترتب العقاب على الواقع ، وردّد وجهه بين وجوه ثلاثة نفي اثنين منها وعيّن الثالث فإنّه فرض كون الاحتمال منجزا ، وردّد ذلك بين محتملات ثلاثة ثم نفي الأولين وعيّن الثالث بتقريب عقلي.

ومن الواضح انه لا ملزم لأخذ الاحتمال هو المنجز ، وأي وجه لذلك حتى يدور الأمر بين هذه المحتملات؟. بل قد فرض قدس سره أولا كون المنجز هو الطريق في معرض الوصول ثم انتقل إلى هذا البحث فلاحظ كلامه تعرف حقيقة الحال (1).

ثم ان الشيخ رحمه اللّه تعرض في هذه الجهة إلى اختيار صاحب المدارك وأستاذه الأردبيلي (قدس سرهما) من كون العقاب في حال الغفلة عن الواقع على ترك التعلم لا الواقع ، وحاول نفيه وتوجيه ترتب العقاب على الواقع ، ولكن من حين الغفلة ، ولكنه ذكر انه خلاف ظاهر المشهور من التزامهم بثبوت التكليف في حال الغفلة وتعرض إلى بعض فروع الصلاة في المغصوب

ص: 355


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 308 - الطبعة الأولى.

جهلا بالحكم والموضوع أو نسيانا ، أو اضطرارا عن اختيار (1).

ولا يخفى ان التعرض لهذه الفروع له محل آخر مرّ سابقا ، وهو مبحث اجتماع الأمر والنهي. فليراجع.

كما ان كون ظرف العقاب حين الغفلة أو حين العمل مرّ تحقيقه في مبحث مقدمة الواجب في ترتب الثواب على الواجب الغيري.

وأما صاحب الكفاية ، فقد يبدو من كلامه في هذه الجهة لأول وهلة انه خلط بين بحثين وأقحم أحدهما في الآخر (2) ، بيان ذلك : ان لدينا بحثا هاهنا ، وهو أن المكلف إذا ترك التعلم والفحص وعمل بالبراءة ، فهل يستحق العقاب على ترك التعلم أو على ترك الواقع لو صادف عمله بالبراءة مخالفة الواقع؟. وبعبارة أخرى : ان الواقع المحتمل هل يكون منجزا عند ترك التعلم أو لا؟. وعلى تقدير تنجزه فهل يثبت العقاب على تركه أو ترك التعلم؟. من دون ان يفرض في هذا المبحث كون التعلم من مقدمات امتثال الواقع ، ولم ينظر إلى ذلك أصلا.

كما أنه قد مرّ في مبحث مقدمة الواجب بحث آخر ، وهو أن التكليف إذا كان منجزا ، وفرض ان له مقدمات مفوتة بحيث يلزم من تركها ترك الواجب في ظرفه وعدم التمكن منه ، نظير الغسل قبل الفجر لأجل الصوم ، فهل يلزم الإتيان بمقدماته المفوتة أو لا؟. وعلى تقدير اللزوم فما هو الوجه فيه؟.

ومن الواضح انفصال المبحثين موضوعا ومحمولا وملاكا ولا ربط لأحدهما بالآخر.

والّذي يظهر من صاحب الكفاية هاهنا خلطه بين المبحثين ، لاستدلاله

ص: 356


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /302- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /376- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

على ثبوت العقاب هاهنا عند ترك التعلم بما يرجع إلى الاستدلال على لزوم المقدمة المفوتة من : ان تركها يؤدي إلى ترك الواجب وامتناعه بالاختيار لا ينافى الاختيار ، ثم استدراكه بقوله : « نعم يشكل في الواجب المشروط والموقت ... » ، وهو إشكال راجع إلى لزوم المقدمة المفوّتة ، وانه لا يتم في الواجبات المشروطة والموقتة بالبيان الّذي أشار إليه ، ولا يرتبط بما نحن فيه من المبحث.

نعم ، في بعض الحالات قد يكون التعلم من المقدمات المفوتة بحيث يكون تركه موجبا لترك الواجب ، لكن البحث عنه فيما نحن فيه ليس من جهة مقدميته ، بل من جهة منجزيته للواقع كما عرفت ، ولا مضايقة في البحث عنه من جهة مقدميته أيضا ، لكن لا بنحو يخلط بين الجهتين وتدرج إحداهما في الأخرى.

ولم أجد من تنبه إلى هذا الخلط في ظاهر كلامه قدس سره .

هذا ، ولكن يمكن أن يصحح كلامه بربط إحدى الجهتين بالأخرى ، ببيان : انه إذا التزم بان العقاب عند ترك التعلم على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم نفسه ، فقد يتوجه سؤال ، وهو ان التعلم قد يكون في بعض الأحيان من المقدمات التي يفوت الواجب بفواتها ، وذلك في موردين :

أحدهما : ما إذا كان الوقت مضيقا ولم يكن يعرف متعلق الحكم بخصوصياته ، فان ترك التعلم خارج الوقت يستلزم ترك الواجب في وقته لجهله به وضيق الوقت عن التعلم في ظرفه.

والآخر : ما إذا كان وقت الواجب موسعا ، لكن كان عدم تعلم الواجب يستلزم الغفلة عنه في وقته بالمرة ، فلا يتمكن من الإتيان به لأجل غفلته عنه.

وإذا فرض ان التعلم كان من المقدمات المفوتة ، فيشكل وجوبه قبل الوقت في الواجبات الموقتة أو قبل الشرط في الواجبات المشروطة ، كسائر المقدمات المفوتة التي استشكل في وجوبها في مثل ذلك ، وقد تصدي إلى حلّ هذا الإشكال بوجوه ، كالالتزام بالواجب المعلق أو الواجب المشروط بالشرط

ص: 357

المتأخر ، فتكون المقدمات المفوّتة واجبة فعلا قبل الوقت لفعلية وجوب ذيها. وكالالتزام بلزوم حفظ الغرض الملزم في ظرفه ممن لا يرى إمكان الواجب المعلق والمشروط كالمحقق النائيني (1).

ومنهم من لم يرتض جميع هذه الوجوه والتزم بوجوب المقدمة المفوتة وجوبا نفسيا تهيئيا ، بمعنى كون الغرض التهيؤ لامتثال الواجب الآخر.

ومن الواضح انه بناء على هذا الالتزام يشكل الأمر في التعلم فيما نحن فيه ، فانه إذا التزم ان التعلم إذا كان مقدمة مفوّتة كان وجوبه نفسيا فيعاقب المكلف على تركه ، لا يمكن الالتزام بوجوبه الطريقي حينئذ في سائر موارده مما لا يكون فيه مقدمة أصلا ، أو كان ولكن لم يكن من المقدمات المفوّتة. وذلك : لأنه من الواضح ان اخبار وجوب التعلم تشمل مورد ما إذا كان التعلم مقدمة مفوّتة.

ومن الواضح انه لا يمكن ان تتكفل غير وجوبه النفسيّ لامتناع وجوبه الطريقي في ذلك الحال ، لعدم قابلية الواقع للتنجز بعد ان كان مشروطا بشرط لم يحصل بعد. فإذا كان مفاد الاخبار في هذا المورد هو خصوص الوجوب النفسيّ ، فهو ثابت في جميع موارده لامتناع التفكيك بين الموارد في إنشاء واحد.

إذن ، فالالتزام بثبوت العقاب على الواقع مشكل على هذا النبأ في المقدمات المفوّتة الملازم لكون وجوب التعلم وجوبا نفسيا بقول مطلق وفي جميع موارده.

وبذلك يتضح الربط جيدا بين المسألتين ، ويكون نظره في قوله : « نعم يشكل ... » أنه يشكل الأمر بملاحظة بعض الوجوه في حل مشكلة المقدمات المفوتة ، وهو الالتزام بالوجوب النفسيّ التهيئي بضميمة شمول اخبار التعلم لمورد ما إذا كان من المقدمات المفوّتة ، ووحدة الوجوب المنشأ فيها.

ص: 358


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 281 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولقد كان من الجدير ببعض مدققي المحشين التعرض إلى إيضاح نظر الكفاية وكلامه. وكيف كان فقد عرفت مراده. وقد مرّ منا في محله تحقيق الحال في المقدمة المفوّتة والوجه في لزومها بما لا يرجع إلى الوجوب النفسيّ التهيئي كي يقع الإشكال فيما نحن فيه بما عرفت. فراجع.

نعم هاهنا أمر يحسن التنبيه عليه - وقد مرّ منا في محله ذكره - وهو : انه إذا كان ترك التعلم موجبا لفوات الواجب من جهة الغفلة عنه لا من جهة ضيق الوقت ، فيشكل الالتزام بوجوبه لأجل مقدميته ، وذلك لأن التعلم في مثل ذلك يكون من مقدمات التحفظ وعدم الغفلة ، فيكون مقدمة للمقدمة.

وقد نبّه - في حديث الرفع - على ان مرجع رفع النسيان إلى رفع إيجاب التحفظ على المكلف ، فإذا كان التحفظ ليس بواجب بحكم الشارع لم تكن مقدمته وهي التعلم واجبة. فالالتزام بوجوب التعلم لأجل التحفظ من الغفلة الموجبة لفوات الواجب بملاك الوجوب المقدمي غير سديد ، فالالتزام بالواجب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر لا ينفع في إثبات وجوب التعلم في مثل ذلك. فانتبه.

ثم إنك قد عرفت ان أدلة وجوب الفحص انما تنهض على ترتب العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك الفحص ، فيقع الكلام في ان العقاب هل يترتب على مخالفة الواقع مطلقا ، أو في خصوص ما كان عليه طريق قائم واقعا؟. فلو فرض انه خالف الواقع ولكن لم يكن عليه طريق في الواقع ، بحيث لو كان يتفحص لا يصل إلى الواقع فلا عقاب.

الحق هو الثاني خلافا للشيخ رحمه اللّه حيث انه اختار الأول (1).

والوجه فيما ذكرناه : أن أدلة وجوب الفحص لا تقتضي أكثر من تنجيز

ص: 359


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /307- الطبعة الأولى.

الواقع إذا كان في معرض الوصول بالعلم أو بالطريق.

أما إذا لم يكن في معرض الوصول ، فلا يكون منجزا بأدلة وجوب الفحص ، فيكون العقاب على مخالفته عقابا على تكليف غير منجز وهو قبيح.

أما إذا كان الدليل على وجوب الفحص هو العلم الإجمالي بثبوت الأحكام الشرعية ، فلأنك عرفت ان متعلق العلم الإجمالي - المدعى - هو التكاليف التي لو فحص عنها لعثر عليها ، أو التكاليف في ما بأيدينا من الكتب. والمفروض ان الواقع الّذي خالفه ليس في الكتب ، وليس بنحو لو فحص عنه لعثر عليه ، فهو ليس من أطراف العلم الإجمالي فلا يكون منجزا به. نعم هو قبل الفحص يحتمل ان يكون التكليف المحتمل من أطراف العلم ، فيكون منجزا عليه ، لكنه بعد انكشاف الحال يعلم انه ليس من أطراف العلم وان الحكم الثابت لم يقم عليه منجز ، نظير ما لو علم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ، فاشتبه إناء زيد بإناء بكر ، فان إناء بكر بما هو مشتبه وان صار فعلا من أطراف العلم بالنجاسة ، لكنه واقعا ليس من أطراف تلك النجاسة المعلومة ، فلو ارتكب إناء بكر فظهر انه نجس بنجاسة أخرى لم يكن منجزا عليه ، لأن العلم انما استلزم تنجيز ما تعلق به لا مطلق الأحكام الواقعية. فالتفت.

وأما إذا كان الدليل هو أخبار وجوب التعلم ، فقد عرفت انها تتكفل تنجيز الطريق المحتمل ، والمفروض انه لا طريق واقعا ، فلا تشمل اخبار وجوب التعلم هذا المورد ، فلا منجز للواقع.

وأما إذا كان الدليل ما ذهبنا إليه من التنافي بين عدم وجوب الفحص وجعل الحكم ، فتتقيد أدلة البراءة بالفحص عند احتمال الطريق ، فهو غاية ما يتكفل تقيد أدلة البراءة ، فيرجع إلى سلب جعل الحكم الظاهري قبل الفحص ، وهو لا ينافي ثبوت العذر العقلي بواسطة البراءة العقلية ، كما يأتي بيانها. فعلى هذا البناء وان لم يكن منجزا ، لكن لا معذّر شرعي أيضا لتقيد أدلة البراءة بوجوب

ص: 360

الفحص الثابت بمجرد احتمال الطريق وان لم يكن طريق واقعا.

وهكذا الكلام على البناء على اخبار التعلم ، فانها وان كانت قاصرة عن تنجيز الواقع الّذي لم يقم عليه طريق واقعا ، لكنها مقيدة لاخبار البراءة بمجرد احتمال الطريق ، ولا يناط الحكم الظاهري بقيام الطريق واقعا ، بل بمجرد احتماله. وعليه فلا بد من الحكم بالمعذورية من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان - التي سيجيء الحديث عنها - أو ما هو بمفادها من النصوص الشرعية على تقدير إنكار الحكم العقلي ، على ما تقدم.

وأما إذا كان الدليل حكم العقل بالاشتغال ، لعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان إذا كان الحكم في معرض الوصول ، إذ الطريق إذا كان في معرض الوصول كان حجة في نفسه ، فلا يحرز قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، قبل الفحص ، فلأن المفروض ان الحكم ليس في معرض الوصول ولا طريق واقعا ، فلا حجة ولا بيان ، فيكون المورد مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ودعوى : انه يكفي في العقاب عدم وجود المؤمّن منه على تقدير المخالفة ، فانه بنفسه منجز للواقع.

ومن الواضح ان المكلف إذا أقدم على إجراء البراءة قبل الفحص لا يعلم ان المورد من موارد البيان والحجة ، أو انه ليس من موارد البيان والحجة ، فهو لا يحرز موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا يحرز ثبوتها ، فلا مؤمّن من مخالفة التكليف ، فيكون ذلك كافيا في التنجيز لوجوب دفع الضرر المحتمل.

تندفع : بان وجوب دفع الضرر المحتمل قد عرفت انه لا يصلح لتنجيز الواقع ، بل هو متفرع عن التنجيز. وعليه. فنقول : ان قبح العقاب بلا بيان حكم عقلي وارد على موضوع واقعي وهو عدم الحجة ، سواء أحرزه المكلف أم لم يحرزه.وعليه فإذا تردد المكلف بين قيام الطريق الواقعي المصحح للعقاب وعدمه ، فهو يتردد بين كون المورد من الموارد التي يستحيل فيها العقاب لعدم البيان والتي لا

ص: 361

يستحيل فيها العقاب لوجود البيان ، فالعقاب مردد بين كونه محالا وكونه ليس بمحال.

وفي مثل ذلك لا يكون التكليف منجزا على كل حال ، وان كان العقاب محتملا ، بل يتبع الواقع ، فإذا انكشف عدم الطريق الواقعي انكشف ان المورد من موارد قبح العقاب ، فكيف يلتزم بالعقاب حينئذ؟. ومجرد عدم المؤمن لا يصحح العقاب إذا لم يكن منجزا للواقع ، بل لا بد ان يكون المصحح ما ينجز الواقع ويجعله في عهدة المكلف.

وبهذا التحقيق تعرف ما في كلام الشيخ رحمه اللّه مما يرتبط بمحل الكلام. فراجع تعرف.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

وأما الكلام في الجهة الثانية : وهو الكلام في حكم العمل بالبراءة قبل الفحص من حيث الصحة والفساد.

وقد أوقع الشيخ رحمه اللّه الكلام في المعاملات وفي العبادات (1).

وقد أهمل صاحب الكفاية التعرض للمعاملات ، ولعله لأجل وضوح الحال فيها. وهو ما ذكره الشيخ رحمه اللّه من. ان الحكم بصحة المعاملة وفسادها يناط بالواقع ، وذلك لأن موضوع ترتب الأثر على المعاملة وعدم ترتبه شرعا هو المعاملة الواقعية الخاصة من دون مدخلية للعلم والجهل ، فإذا أوقعها المكلف ترتب عليها حكمها وإن كان المكلف جاهلا بصحتها وفسادها.

وأما العبادات ، فقد توقف الشيخ في صحة العمل إذا جيء به مع التردد في صحته ، بل ظاهره المنع عن الصحة ولو فرض مطابقة العمل للواقع.

ص: 362


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /303- الطبعة الأولى.

ولا منشأ للإشكال في الصحة الا ما تقدم من الإشكال في الاحتياط مع التمكن من العلم باعتبار عدم تحقق قصد الإطاعة مع التردد. وهذا ما أشار إليه الشيخ رحمه اللّه هاهنا وبنى عليه المحقق النائيني رحمه اللّه بإصرار (1).

وقد تقدم منّا تحقيق هذه الجهة ، واختيار صحة الإتيان بمحتمل الأمر مع التمكن من تحصيل العلم ، فلا نعيد.

وعليه ، فإذا كانت العبادة التي جاء بها قبل الفحص بقصد احتمال الأمر - بالنحو الّذي قربناه - مطابقة للواقع كانت صحيحة ، وإن كانت غير مطابقة كانت باطلة.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان العبادة تقع باطلة في صورة المخالفة ، بل في صورة الموافقة أيضا فيما إذا لم يتأتّ منه قصد القربة (2).

وما أفاده قدس سره لا يمكن ان يكون إشارة إلى مذهب الشيخ والنائيني قدس سرهما ، لأنه حكم بمنعه في محله.

ولأجل ذلك حمل كلامه على مورد تكون العبادة محرمة واقعا ، فلا يصح قصد القربة لعدم صلاحية الفعل للمقربية بعد أن كان الجهل عن تقصير ، كما في بعض موارد اجتماع الأمر والنهي. فلاحظ.

ثم ان الاعلام (قدس سرهم) تعرضوا في هذا المقام إلى فرع فقهي وهو : مسألة ما إذا أتم في موضع القصر عن جهل بالحكم ، وما إذا جهر في موضع الإخفات أو أخفت في موضع الجهر ، فانه يلتزم بصحة صلاة الجاهل في هذه المقامات ، وفي الوقت نفسه يلتزم بعدم معذوريته من العقاب إذا كان جهله عن تقصير.

ص: 363


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3/ 72 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /377- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وجعلوا هذه المسائل مما استثني من مقتضى القاعدة في العمل بالبراءة قبل الفحص ، من دوران صحة العمل وبطلانه مدار الواقع.

وقد وقع الإشكال في الجمع بين صحة العمل وترتب العقاب على ترك الواقع.

وبيّنه الشيخ رحمه اللّه : بأنه إذا لم يكن معذورا من جهة العقاب كشف ذلك عن استمرار تكليفه بالواقع ، وحينئذ فما أتى به ان لم يكن مأمورا به فكيف يسقط معه الواجب؟. وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع مع الأمر بالواقع ، إذ المفروض عدم الأمر إلاّ بصلاة واحدة.

وقد تصدى الاعلام قدس سرهم إلى حله ، والجمع بين الأمرين صحة العمل وثبوت العقاب على ترك الواقع.

وذكر الشيخ في حله وجوها ثلاثة :

الوجه الأول : الالتزام بعدم تعلق التكليف الفعلي بالواقع المتروك ..

إمّا بدعوى : كون القصر - مثلا - واجبا على المسافر العالم بالحكم ، وهكذا في الجهر والإخفات.

وإما بدعوى : كونه معذورا فيه ، نظير الجاهل بالموضوع الّذي يحكم عليه ظاهرا ، بخلاف الواقع. والجهل هاهنا وإن لم يحكم في مورده بخطاب ظاهري كجاهل الموضوع ، لكنه مستغنى عنه باعتقاده وجوب الشيء في الواقع ، فلا حاجة إلى إنشاء وجوبه ظاهرا.

واما بدعوى : عدم تكليفه بالواقع المجهول ، لأجل الغفلة عنه. والمؤاخذة انما تترتب على ترك التعلم كما بنى عليه صاحب المدارك.

وإما بدعوى : انه وان كان مكلفا بالواقع لكن ينقطع تكليفه به عند الغفلة لقبح تكليف الغافل لعجزه ، ولكن بما ان العجز عن اختياره يعاقب على ترك الواقع من حين الغفلة ، وان لم يكن مأمورا به في حال الغفلة.

ص: 364

وقد نفى قدس سره هذا الوجه بشقوقه : بأنه خلاف ظاهر المشهور ، حيث ان ظاهرهم بقاء التكليف بالواقع المجهول وعدم ارتفاعه.

ثم انه يمكن المناقشة في الدعوى الأولى بان لازمها عدم ترتب العقاب على ترك القصر لعدم حصول شرط وجوبه.

وفي الدعوى الثانية بذلك أيضا ، إذ الحكم بالمعذورية يستلزم انتفاء العقاب ، وهو خلف فرض المسألة.

وفي الدعوى الثالثة والرابعة : بان مفروض الكلام بالنسبة إلى من أجرى البراءة قبل الفحص ، وهذا يستلزم فرض المكلّف ملتفتا لا غافلا.

نعم ، الحكم المزبور يتأتى بالنسبة إلى الغافل أيضا ، لكن ما يرتبط بما نحن فيه هو الملتفت ، ولذا جعل استثناءه من مقتضى القاعدة في العمل بالبراءة قبل الفحص.

الوجه الثاني : الالتزام بعدم تعلق الأمر بالمأتي به ، ولكنه مسقط للواجب الواقعي ، وسقوط الواجب بغير المأمور به لا محذور فيه.

وناقشه الشيخ رحمه اللّه بان ظاهر الأدلة فيما نحن فيه تعلق الأمر بالمأتي به للتعبير في النصوص بتمامية الصلاة وصحتها ، وهو ظاهر في تعلق الأمر بها.

الوجه الثالث : ما ذكره كاشف الغطاء من تعلق الأمر بالتمام مترتبا على معصية الأمر بالقصر ، فيكون كل من العملين مأمورا به ، ولكن بنحو الطولية لا في عرض واحد ، فيرتفع التنافي بينهما حينئذ ، لأن الأمر بالضدين انما يمتنع إذا كانا في عرض واحد لا بنحو الترتب (1).

ورده الشيخ بعدم معقولية الترتب ، وانما المعقول هو حدوث التكليف

ص: 365


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /308- الطبعة الأولى.

بالضد بعد تحقق معصية التكليف بالضد الآخر وسقوطه بحيث لا يجتمعان في زمان واحد.

وقد اكتفي الشيخ رحمه اللّه في تحقيق هذه الجهة بهذا المقدار (1).

ولا يخفى عليك ان مقتضى ما نقلناه عنه انه لم يتصدّ إلى حل الإشكال بنفسه وأنه ملتزم به ، إذ هو ذكر الإشكال وردّ الحلول المذكورة له ، فليتنبّه.

وكيف كان ، فلا بد من تحقيق الحال في المسألة بنحو يرتفع عنها الإجمال ، فنقول :

قد عرفت تصدي كاشف الغطاء رحمه اللّه إلى حلّ الشبهة بالالتزام بتعلق الأمر بكل من التمام والقصر بنحو الترتب ، وهذا وجه بنى عليه في مسألة الضد ، فالتزم بصحة تعلق الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم.

والكلام في كبرى الترتب طويل دقيق ، والّذي يظهر من الشيخ مناقشته كبرويا. وقد مرّ تحقيق صحة الترتب ومعقوليته.

ولكن قد يستشكل في صحة تطبيق كبرى الترتب على المورد ، فيكون الإشكال صغرويا.

وقد ذكر لتقريب الإشكال وجوه :

الأول : ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه من : ان موضوع الترتب ما إذا كان كل من الحكمين واجدا للملاك في متعلقه وانما كان المانع هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين في الامتثال ، بحيث لو لا ذلك لكان إطلاق كل من الدليلين محكما ، فيرفع اليد عن الإطلاق بمقدار ما يرتفع به التنافي.

ولذا ثبت - هناك - ان الالتزام بمعقولية الترتب مساوق للالتزام بوقوعه بلا حاجة إلى دليل خاص يدل على وقوعه.

ص: 366


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /309- الطبعة الأولى.

وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ لا دليل على الأمر بكل من القصر والتمام في نفسه حتى ترفع اليد عنه بمقدار ما يرتفع به التنافي ، فمعقولية الترتب لا تجدي فيما نحن فيه بعد عدم إحراز الملاك وعدم قيام الدليل على ثبوت الحكمين في حد أنفسهما.

الثاني : ما أفاده قدس سره أيضا من : ان الملتزم به في الترتب هو تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم ، وهو غير معقول في المقام ، إذ لا يعقل ان يعلّق وجوب التمام على عصيان الأمر بالقصر ، لغفلته عن الموضوع وهو العصيان لفرض جهله بالحكم ، ولو التفت إليه خرج عن كونه جاهلا بالحكم فلا تصح منه الصلاة التامة فيرتفع عنه الأمر بالتمام.

وبالجملة : تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر يستلزم عدم فعلية الحكم أصلا (1).

الثالث : ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من : ان تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم إنما يصح إذا لم يكن عصيان الأهم بنفس إتيان المهم ، وإلا فالأمر به غير معقول لأنه طلب الحاصل.

وما نحن فيه كذلك ، لأن عصيان الأمر بالقصر وفوات امتثاله انما يحصل باستيفاء مصلحته بفعل التمام ، إذ بدون فعل التمام لا يسقط القصر مع بقاء الوقت.

وعليه ، فيلزم من تعليق الأمر بالتمام على عصيان الأمر بالقصر تعليق الأمر بالتمام على فعله فيكون طلبا للحاصل (2).

وجميع هذه الوجوه قابلة للمناقشة ..

ص: 367


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 293 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 315 - الطبعة الأولى.

أما الأول : فلأن موضوع الكلام في الترتب وان كان مورد ثبوت الإطلاق لكل من الحكمين ، لكنه لا ينافي تأتيه في مورد آخر إذا فرض قيام الدليل الخاصّ على تعلق الأمر بالضدين.

وعليه ، فإذا فرض معقولية الترتب فيما نحن فيه ثبوتا ، فيبقى الإشكال بحسب مقام الإثبات ، ويرتفع ذلك بملاحظة نفس الدليل الدال على الأمر بالتمام مع الجهل بالقصر ، فانه كاشف عن ثبوت الملاك في كل من العملين. كما انه إذا انحصر الجمع بينهما بطريق الترتب كانت معقوليته مساوقة لوقوعه كسائر الموارد. فلاحظ.

وأما الثاني : فلأنك قد عرفت في مبحث الترتب انه لا ملزم للالتزام بتعليق الأمر بالمهم على عصيان الأهم ، بل يجوز أخذ الشرط كل ما يصحح الطولية ويرفع التنافي في مقام الداعوية الفعلية ، ولذا قلنا بجواز أخذ الشرط ترك الأهم لا عصيانه.

وعليه ، فيمكننا ان نلتزم بان الأمر بالتمام مشروط بالعلم بعدم وجوب القصر ، وهو ممّا يلتفت إليه المكلّف ، ومما يصحح الترتب ويرفع التنافي بين الأمرين في مقام الداعوية ، إذ مع العلم بعدم وجوب القصر ، لا يكون وجوب القصر داعيا فعلا نحو متعلقه.

ومن هنا يظهر ما في الوجه الثالث ، إذ لا ملزم لأخذ الشرط عصيان القصر ، بل يؤخذ الشرط هو العلم بعدم وجوب القصر ولا محذور فيه.

فالمتجه أن يقال : انه إما ان يؤخذ في موضوع الأمر بالتمام عصيان الأمر بالقصر. ففيه ما عرفت من استلزامه طلب الحاصل ، لأن العصيان يتحقق بفعل التمام.

وإما أن يؤخذ في موضوعه العلم بعدم وجوب القصر. ففيه : انه في هذا الحال لا يتصور ثبوت الأمر الفعلي بالقصر ، لعدم إمكان داعويته. هذا في مورد

ص: 368

الجهل المركب.

وأما مورد الجهل البسيط فالأمر بالقصر قابل للداعوية للالتفات إليه ، فلا يصح الأمر بالتمام ، للتزاحم. فتدبر.

والمتحصل : ان تطبيق كبرى الترتب على المقام غير صحيح ، فهذا الوجه مما لا يمكن رفع الإشكال فيه.

وأما الوجه الثاني (1) : - أعني : الالتزام بان التمام ليس بمأمور به ، لكنه مسقط عن الواجب - ، فقد عرفت ان الشيخ ناقشه بان ظاهر النصوص صحة العمل وتماميته ، ولازم ذلك تعلق الأمر به. ولعل السر فيه : ان العمل إذا كان عباديا فصحته تتوقف على تعلق الأمر به ، والمفروض ان التمام يقع عبادة ، فلا بدّ ان يكون مأمورا به إذا كان صحيحا ، كما هو ظاهر النصوص.

ولكن صاحب الكفاية رحمه اللّه التزم بهذا الوجه ودفع إشكال الشيخ رحمه اللّه ببيان : ان الصحة كما تنشأ من تعلق الأمر بالعبادة كذلك تتحقق باشتمال العبادة على ملاك ومصلحة يوجب المحبوبية وان لم تكن مأمورا بها لمانع.

وعليه ، فيلتزم باشتمال التمام في حال الجهل بوجوب القصر على مصلحة تامة ملزمة في نفسها ، كما ان صلاة القصر تشتمل على مصلحة ملزمة ولكنها أهم من مصلحة التمام.

ولأجل التضاد بين المصلحتين بحيث لا يمكن استيفاء إحداهما مع استيفاء الأخرى ، تعلق الأمر بالقصر لأهميته ، ولم يأمر بالتمام لأنه أمر بالقصر ذي المصلحة الأهم ، ولا يمكن استيفاؤهما معا كي يأمر بكلا الفعلين. فإذا جاء بالتمام جهلا بوجوب القصر كانت الصلاة صحيحة لاشتمالها على الملاك المقرّب ، ولا يجب عليه الإتيان بعد ذلك بالقصر لعدم التمكن من استيفاء مصلحته ، فلا

ص: 369


1- من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ ( قده ) وقد تقدمت المناقشة في الوجهين الأول والثالث منها.

تقع صحيحة حينئذ ، وإذا كان مقصرا في ترك التعلم كان معاقبا لتفويته الواجب وهو صلاة القصر.

وبهذا البيان يجمع بين صحة المأتي به وتعلق الأمر بالواقع وترتب العقاب على مخالفته.

وقد أورد على هذا البيان بوجهين :

الوجه الأول : ما أشار إليه الشيخ في رسائله (1) ، وصرح به في الكفاية ، من : ان التمام - على هذا البيان - يكون سببا لتفويت الواجب الفعلي وهو القصر ، وما يكون سببا لتفويت الواجب الفعلي يكون حراما فيكون فاسدا للملازمة بين حرمة العبادة وفسادها.

وقد ردّه صاحب الكفاية : بان فعل التمام ليس سببا ، وإنما يكون مضادا لفعل القصر ، وقد تقدم في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده بيان عدم توقف وجود الضد على عدم ضده ، بل هما متلازمان لا أكثر (2).

وقد يورد على صاحب الكفاية : بان الّذي حققه في مبحث الضد عدم وجود التوقف بين الضد وعدم ضده ، ولكنه التزم بان عدم علة أحد الضدين يكون من مقدمات الضد الآخر ، لأن علة أحد الضدين تكون مانعة من الضد الآخر ومزاحمة لتأثير مقتضية فيه.

وعليه ، فنقول : انه لا تضاد - فيما نحن فيه - بين صلاتي القصر والتمام لا مكان الجمع بينهما ، وإنما التضاد بين مصلحتيهما ، ونسبة كل منهما إلى مصلحته نسبة السبب التوليدي لمسببه.

وعليه ، فكل من فعل التمام والقصر مانع من تحقق مصلحة الآخر ، فيكون

ص: 370


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /309- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /378- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عدمه مقدمة لتحقق مصلحة الآخر ، فيكون عدم التمام من مقدمات حصول المصلحة الملزمة ، فيكون مطلوبا لأن مقدمة الواجب واجبة. أو فقل : انه يكون منهيا عنه بمقتضى ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ بملاك المقدمية.

ويمكن دفع هذا الإيراد : بان ما يكون دخيلا في ترتب المصلحة على الواجب يكون مأخوذا في الواجب إما بنحو الجزئية إذا كان جزء المؤثر ، أو بنحو الشرطية إذا كان شرطا لتحقق التأثير. وبما أن عدم المانع يكون دخيلا في تأثير المقتضي في مقتضاه كان مأخوذا في الواجب بنحو الشرطية ، ففيما نحن فيه يكون عدم التمام قيدا للواجب وهو القصر ، لأن عدم التمام دخيل في تأثير القصر في المصلحة ، فالوجوب متعلق بصلاة القصر المقيدة بعدم وقوع التمام.

وعلى هذا يكون ترك التمام من مقدمات الواجب كسائر مقدماته الوجودية والعدمية.

فان لم نقل بوجوب المقدمة ، فلا محذور في فعل التمام ، إذ الفرض ان التمام واجد للملاك والمحبوبية في نفسه ، وتركه لم يتعلق به أمر شرعي كي ينافي صحة العمل. وان قلنا بوجوب المقدمة ، فالملتزم به ليس هو تعلق طلب شرعي وأمر إنشائي مولوي بالمقدمة كي تكون مخالفته عصيانا ومبغوضة للمولى ، بل الملتزم به ان المقدمة تكون متعلقة للمحبوبية الشرعية ليس إلا ، فيكون كل من الترك والفعل محبوبا ، ومحبوبية الترك لا تنافي إمكان التقرب بالفعل لمحبوبيته. كما مرّ نظير ذلك في العبادات المكروهة. فراجع.

وجملة القول ان الوجه الأول من وجهي الإيراد غير وارد.

نعم ، هنا شيء ، وهو : أن تفويت المصلحة مبغوض للمولى ، فإذا كان الإتيان بالتمام مانعا من تحقق مصلحة القصر كان سببا لتفويت المصلحة فيكون سببا للمبغوض. فلو لم نقل بان سبب الحرام حرام لا بالحرمة النفسيّة ولا

ص: 371

الغرية فلا إشكال. وإن قلنا بأنه حرام ومبغوض إما بالحرمة النفسيّة بدعوى ان النهي عن المسبب نهي عن السبب حقيقة ، كما مر في مبحث مقدمة الواجب. أو بالحرمة الغيرية من باب المقدمية. فقد يستشكل في صحة التمام حينئذ لأنه حرام ويمتنع التقرب به ، فلا يقع عبادة. ونظيره ما يقال في حمل المغصوب في الصلاة. فان الحركة الصلاتية تكون سببا للتصرف فيه بتحريكه فتكون محرمة.

لكن نقول بعد قيام الدليل على صحة التمام والحال هذه - أعني : مع كونها مفوتة لمصلحة القصر - ، نستكشف انه بالتمام لا تفوت مصلحة القصر وتتدارك بفعل التمام - وإلاّ لكانت باطلة لمبغوضيتها - ، وهذا ملازم لعدم ترتب العقاب على ترك القصر لعدم فوات مصلحته. ولا محذور في الالتزام بذلك على هذا التقدير بملاحظة دليل الصحة. فلاحظ.

ولا يخفى ان هذا الإشكال - أعني حرمة التمام لكونه مفوتا للواجب الواقعي وسبب الحرام حرام - لا يرد على خصوص صاحب الكفاية ، بل على جميع المسالك ، فلو تم لا محيص عن الالتزام بعدم العقاب ، بملاحظة دليل الصحة ، إذ بدون ذلك لا مجال للصحة. فانتبه.

وأما الوجه الثاني : فهو ما يمكن أن يستفاد من كلام المرحوم النائيني رحمه اللّه ، وإن كان كلامه في كلا تقريري بحثه لا يخلو عن اختلاف (1).

وقد ذكر هذا الوجه في الدراسات ، وبيانه : ان المصلحتين المفروضتين التي تقوم إحداهما بالطبيعي والأخرى بخصوص القصر - مثلا - ، اما ان تكونا ارتباطيتين بحيث لا يمكن حصول إحداهما بدون الأخرى ، فلا وجه للحكم بصحة التمام لعدم ترتب أي مصلحة عليه بعد ان لم تحصل المصلحة الزائدة. واما ان تكونا استقلاليّتين ، فلازمه تعدّد الواجب كون القصر واجبا في واجب ، وهو

ص: 372


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 298 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 339 - الطبعة الأولى.

يستلزم تعدّد العقاب عند ترك أصل الصلاة ، مع أنه مناف للضرورة وظواهر الأخبار (1).

وهذا الوجه كسابقه قابل للمنع بكلا شقيه.

فان لنا ان نختار الشق الأول ونلتزم بارتباطية المصلحتين ، ولكن نقول ان المترتب على التمام مصلحة وغرض غير ما يترتب على القصر من مصلحة وغرض ، وان كان بينهما جامع نوعي.

وعليه ، فمصلحة القصر بما لها من المرتبة الزائدة على مصلحة التمام مصلحة ارتباطية لا يتصور حصول جزء منها وحده ، وهذا لا ينافي ترتب مصلحة ارتباطية أخرى على التمام تمنع من حصول مصلحة القصر للتضاد بينهما.

ونظيره في العرفيات : ان يكون الشخص مبتلى بألمين ألم في أذنه وألم أشد في عينه ، وفرض ان الثاني أهم ، وكان هناك كأسان من الدواء يترتب على أحدهما رفع ألم الأذن وعلى الآخر رفع ألم العين ، وكان استعمال أحدهما موجبا لانتفاء الانتفاع بالآخر ، فانه إذا استعمل الكأس الرافع لألم الأذن يصح ان يقال بحصول مقدار من المصلحة بملاحظة المصلحة الجامعة ، فيقال ان بعض الألم ارتفع ، وان كان ارتفاع الألم في كل واحد من العين والأذن بنحو الارتباط لا يقبل التخفيف ، بل اما أن يرتفع كله أو يبقى كله.

وجهة التوهم المزبور هو : فرض وجود مصلحة واحدة تترتب بالنحو الأتم على القصر وبالنحو الناقص على التمام ، مع انه لا ملزم له ، بل يمكن الالتزام بتعدد نوع المصلحة مع التضاد بينهما. فانتبه.

ثم إن لنا ان نختار الشق الثاني : بان نلتزم باستقلالية المصلحتين ، ولكن نقول : إن ترتب مصلحتين في عرض واحد - لا بنحو الطولية كباب النذر للصلاة

ص: 373


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 315 - الطبعة الأولى.

أول الوقت ، فان التداخل فيه محل كلام - لا يستلزم تعدد الحكم ، بل يكون هناك حكم واحد ، لكنه يكون آكد من الحكم الثابت للفعل ذي المصلحة الواحدة.

وعليه ، فالقصر وان كانت فيه مصلحتان ، لكن لا يدعو ذلك لتعلق وجوبين به ، بل يثبت وجوب واحد بنحو أكيد ، نظير المحرمات التي يترتب عليها مفاسد متعددة.

وعلى هذا فلا يتعدد العقاب بترك القصر ، لأن تعدد العقاب فرع تعدد التكليف لا فرع تعدد المصلحة.

نعم ، لا محذور في الالتزام بان العقاب عليه أشد من العقاب على ترك القصر لأهميته ، إذ لم تقم الضرورة على عدم ذلك. إذن فما أفاده المحقق النائيني ممنوع أيضا.

فيتحصل : ان ما أفاده صاحب الكفاية في دفع الإشكال في المسألة لا محذور في الالتزام به في مورد التمام والقصر والجهر والإخفات.

وأما الإيراد عليه : بان التضاد في الملاكات مع إمكان الجمع بين الفعلين في الخارج بعيد ، بل يكاد ان يلحق بأنياب الأغوال (1).

فهو مندفع :

أولا : بان الملاكات الشرعية غير معلومة لدينا كي نستطيع الحكم عليها بعدم التضاد.

وثانيا : ان الأمثلة العرفية على التضاد في الملاكات مع إمكان الجمع بين الفعلين أكثر من أن تحصى ، خصوصا في مثل باب الأطعمة والأشربة والأدوية. فان منافاة الطعام السابق لحصول الانتفاع باللاحق ملموسة في كثير من الموارد ، فلاحظ تعرف ، ولسنا بحاجة إلى الإطالة.

ص: 374


1- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملية3/ 315 - الطبعة الأولى.

ثم إنك عرفت أن أساس الإشكال في هذه الموارد هو ترتب العقاب على ترك العمل الواقعي مع الالتزام بصحة المأتي به. ولأجل ذلك ذهب المحقق النائيني في مقام دفعه إلى إنكار ترتب العقاب على العمل المتروك ، وذكر : ان الإجماع المدعى لا يمكن ان يعتمد عليه ، لأن استحقاق العقاب ليس حكما شرعيا ، والإجماع انما يعتمد عليه في كشفه عن رأي المعصوم علیه السلام إذا كان إجماعا على حكم شرعي لا على أمر عقلي (1).

وهذا البيان لا يمكن الموافقة عليه بوجه من الوجوه ، لأنه لا يحتمل ان يكون إجماع المجمعين مستندا إلى مراجعة البحوث الفلسفية ، والالتزام بالعقاب على أساس فلسفي أو كلامي أجنبي عن ثبوت الحكم الشرعي ، وإنما هو مستند إلى التزام ثبوت الحكم الشرعي في هذا المورد ، فيترتب العقاب على مخالفته قهرا ، فإجماعهم على ترتب العقاب يرجع في الحقيقة إلى الإجماع على ثبوت حكم شرعي ، وهو وجوب العمل المتروك بنحو التعيين ، بحيث يكون تركه مستلزما لاستحقاق العقاب. فلا وجه لما أفاده قدس سره ، وتابعة على ذلك السيد الخوئي في الدراسات (2).

والحاصل : انه في المورد الّذي يلتزم بثبوت التكليف الفعلي بالفعل المتروك وعدم تدارك مصلحته بالمأتي به يكون تفصي صاحب الكفاية هو المتعين ، بعد عدم إمكان الالتزام بالترتب في المقام ، فان ما أفاده قدس سره يدفع جميع جهات الإشكال. واللّه سبحانه العالم العاصم.

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

ص: 375


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 295 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الشاهرودي السيد علي. دراسات في الأصول العملي3/ 317 - الطبعة الأولى.

وقد نقل الشيخ (1) وغيره (2) - بعد ذلك - عن الفاضل التوني اشتراط العمل بالبراءة بشرطين :

أحدهما : ان لا يكون مستلزما لإثبات حكم تكليفي ، ومثاله إجراء أصالة البراءة من الدين ، فيثبت بها وجوب الحج لعدم المزاحم.

والآخر : ان لا يكون مستلزما للإضرار بالغير ، كفتح قفص طائر يستلزم طيرانه ، فانه لا مجال للتمسك بأصالة البراءة في إثبات جواز فتح القفص.

وقد توجهت المناقشات على الفاضل التوني ..

فنوقش الوجه الأول : بأنه لا مانع من جريان البراءة إذا كانت موضوعا للحكم الشرعي ، واما إذا لم تكن موضوعا للحكم الشرعي فلا تتكفل البراءة إثبات الحكم إلا على القول بالأصل المثبت.

ونوقش الوجه الثاني : بان المورد ان كان من موارد دليل نفي الضرر ، فعدم جريان البراءة لأجل وجود دليل اجتهادي مقدم عليها لا من جهة الضرر.

وان لم يكن من موارد دليل نفي الضرر ، فلا مانع من إجراء البراءة.

هذه خلاصة بعض المناقشات.

وقد تصدى المحقق النائيني قدس سره في مناقشة الوجه الأول إلى بيان الموارد التي ينفع إجراء البراءة في إثبات التكليف فيها ، والموارد التي لا ينفع إجراء البراءة في إثبات التكليف فيها ، وذكر تفصيلا رشيقا وإن كان لا يخلو عن بحث في بعض أمثلته وخصوصياته - كمثال الحج ، فانه التزم ان إجراء البراءة لا ينفع في إثبات وجوبه ، لأن الحج مقيد بعدم اشتغال الذّمّة واقعا ، والبراءة لا

ص: 376


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /311- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 302 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 512 - الطبعة الأولى.

تتكفل نفي الشغل الواقعي. وفيه : انه لم يقم دليل خاص على أخذ عدم الشغل واقعا في موضوع وجوب الحج ، وانما يعتبر من باب أخذ الاستطاعة الشرعية في موضوعه ، وهي لا تتحقق مع وجوب أداء الدين ، بل مع مزاحمة أقل الواجبات ، ومن الواضح ان سلب القدرة شرعا يناط بفعلية وجوب أداء الدين ، وأصل البراءة ينفيه ، فلاحظ -. لكن لا يخفى ان هذا التفصيل العلمي الرشيق أجنبي عن كبرى دعوى الفاضل التوني ، وإنما هو تحقيق راجع إلى الصغرى.

فالمهم تحقيق الكبرى التي ادعاها الفاضل التوني.

ويمكن توجيه ما أفاده - مع قطع النّظر عما ينقل من كلامه في توجيهها - : بان المعروف بين الأصحاب كون حديث الرفع واردا مورد الامتنان وبملاكه نظير رفع الضرر ، فلا يجري في مورد يكون في جريانه منافاة للامتنان ، كما لو كان إجراؤه مستلزما لثبوت تكليف شرعي أكثر كلفة ومشقة من التكليف المنفي ، كمثال براءة الذّمّة من الدين الّذي يترتب عليه وجوب الحج ، فانه لا امتنان في رفع التكليف بالدين لوقوع المكلف بسببه في كلفة الحج.

وهكذا لو كان إجراؤه مستلزما للإضرار بالغير ، بملاحظة ان الملحوظ هو الامتنان على الأمة والنوع لا خصوص من يجري في حقه حديث الرفع ، فانه لا امتنان في إجراء البراءة مع استلزامها ضرر الغير ، فهي لا تجري مع قطع النّظر عن أدلة نفي الضرر.

فاشتراط هذين الشرطين انما هو بملاك عدم الامتنان في جريان البراءة.

فلا بد في تحقيق صحة ذلك من ملاحظة ان الملحوظ هل هو الامتنان في نفسه أو الامتنان الفعلي بملاحظة خصوصيات الواقعة وملازماتها؟. فإذا كان الملحوظ هو الأول لم يتوجه اعتبار هذين الشرطين ، إذ في إجراء البراءة امتنان في نفسه. وإذا كان الملحوظ هو الثاني توجه اعتبارهما كما عرفت. وظاهر الأصحاب هو الثاني ، نظير ما يلتزم به في حديث نفي الضرر كما سيأتي.

ص: 377

وقد تقدم منّا في مبحث حديث الرفع إنكار هذا الاستظهار من أساسه ، وأنّه لا وجه لدعوى كون حديث الرفع واردا بملاك الامتنان ، ولو سلم أن يكون للامتنان فلم يظهر أنّه علة ، بل غايته أن يكون حكمة.

هذا مع أنه لا يتعقد الأمر في مثال الحج لو فرض عدم جريان أصالة براءة الذّمّة من الدين لأجل عدم الامتنان ، إذ في استصحاب عدم التكليف غنى وكفاية ، وقد عرفت انه لا مانع من جريانه إذا كان موضوعا لحكم شرعي. فلاحظ.

هذا تمام الكلام في شروط العمل بالبراءة.

وقد تعارف لدى الاعلام تذييل مباحث البراءة والاشتغال بالبحث عن قاعدة نفي الضرر ، ونحن نجاريهم في هذا الأمر ونوقع البحث فيها ، ومن اللّه سبحانه نستمد المعونة والعصمة وهو حسبنا ونعم الوكيل (1).

ص: 378


1- تم البحث في يوم الأحد 5 / 8 / 91 ه.

قاعدة نفي الضرر

اشارة

ص: 379

ص: 380

« قاعدة نفي الضرر »

لا يخفى انه لا أهمية للبحث عن كون هذه القاعدة أصولية أو فقهية ، فانه ليس بذي جدوى.

وإنما المهم تحقيق الحال في ثبوت القاعدة وحدودها وقيودها. ولا بد من سرد الاخبار التي تكفلت نفي الضرر بنحو العموم ، ثم البحث عن المستفاد من متونها.

وهي متعددة ..

فمنها : رواية عبد اللّه بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام ، قال : « ان سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري ان يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه ( صلی اللّه علیه و آله فشكا إليه وخبره الخبر. فأرسل إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخبره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبى. فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه ، فأبى ان يبيع.فقال : لك بها عذق يمد لك في الجنة. فأبى ان يقبل. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا

ص: 381

ضرار » (1).

ومنها : رواية عبد اللّه بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام نحو ما تقدم ، إلا انه قال : « فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن. ثم قال : ثم أمر بها فقلعت ورمي بها إليه. فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : انطلق فاغرسها حيث شئت » (2).

ومنها : رواية أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر علیه السلام نحو ما تقدم ، ولكن في آخرها قال صلی اللّه علیه و آله : « ما أراك يا سمرة الا رجلا مضارا ، اذهب يا فلان فاقلعها - فاقطعها - واضرب بها وجهه » (3).

ومنها : رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نفع الشيء ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ ، فقال : لا ضرر ولا ضرار » (4).

وفي الكافي ، بدل قوله : « فقال » قوله : « وقال لا ضرر ... ».

ومنها : رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار. وقال : إذا أرفت الأرف وحدث الحدود فلا شفعة » (5).

ص: 382


1- الكافي 5 / 292 ، حديث : 2.
2- الكافي 5 / 294 ، حديث : 8. التهذيب 7 / 146 ، حديث : 36. من لا يحضره الفقيه 3 / 233 ، حديث : 3859.
3- من لا يحضره الفقيه 3 / 103 ، حديث : 3423.
4- الكافي 5 / 263 ، حديث : 6.
5- الكافي 5 / 280 ، حديث : 4. التهذيب 7 / 164 ، حديث : 4. من لا يحضره الفقيه 3 / 76 ، حديث : 3368.

ومنها : رواية الصدوق في الفقيه في مقام بيان ان المسلم يرث من الكافر والكافر لا يرث من المسلم قال : « وان اللّه عزّ وجل انما حرّم على الكفار الميراث عقوبة لهم لكفرهم ، كما حرم على القاتل عقوبة لقتله ، فاما المسلم فلأي جرم وعقوبة يحرم الميراث؟! وكيف صار الإسلام يزيده شرا؟! مع قول النبي ( صلی اللّه علیه و آله : الإسلام يزيد ولا ينقص ، ومع قوله علیه السلام : لا ضرر ولا إضرار في الإسلام. فالإسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا (1). ومع قوله علیه السلام : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ... » (2).

ومنها : ما حكي عن المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « انه سئل عن جدار الرّجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط عنه فامتنع من بنائه ، قال : ليس يجبر على ذلك إلا ان يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل اشتر على نفسك في حقك إن شئت. قيل له : فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه؟. قال : لا يترك ، وذلك ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لا ضرر ولا ضرار ، وان هدمه كلف أن يبنيه » (3).

وهذه جملة من النصوص الواردة في هذا المقام.

ويقع الكلام فيها تارة من ناحية السند وأخرى من ناحية المتن.

أما ناحية السند : فالظاهر انه لا يحتاج إلى إتعاب النّفس لأن السند في بعض ما تقدم وإن لم يكن تاما ، لكن يحصل من المجموع مما رواه الخاصة والعامة الوثوق بصدور هذا المضمون من الرسول صلی اللّه علیه و آله .

ص: 383


1- من لا يحضره الفقيه 4 / 334 ، حديث : 5718.
2- من لا يحضره الفقيه 4 / 334 ، حديث : 5719.
3- دعائم الإسلام 2 / 504 ، حديث : 1805.

واما ناحية المتن فالكلام فيها من جهات عديدة :

الجهة الأولى: ان كثيرا من النصوص المتقدمة المروية بطرقنا ومثلها المروي بطرق العامة ورد فيها قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار » من دون تقييد بكلمة : « في الإسلام » وإنما ورد التقييد بذلك في رواية الصدوق خاصة ، ونقل أيضا عن نهاية ابن الأثير من كتب العامة (1).

فيقع الكلام في انه هل يمكن البناء على ورود هذا القيد أم لا؟.

ولا يخفى ان للبناء على ثبوته وعدمه أثرا عمليا في ما يستفاد من الهيئة التركيبية لنفي الضرر.

فقد جعله الشيخ من القرائن على ما استفاده من تكفل الرواية نفى الحكم المستلزم للضرر من باب نفي السبب بلسان نفي المسبب ، ومن مبعدات احتمال إرادة النهي عن الضرر من نفي الضرر (2).

وكيف كان ، فالحق انه لا يمكننا البناء على ثبوت هذا القيد وصدوره من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

ولا يخفى أن محور الكلام هو رواية الصدوق دون مرسلة ابن الأثير في النهاية ، إذ لا يحتمل ان يستند إلى رواية النهاية في البناء على صدور هذا القيد ، بعد ان كانت مرسلة لعامي.

والّذي نستند إليه في التوقف عن العمل برواية الصدوق رحمه اللّه هو وجهان :

الوجه الأول : الوثوق أو قوة احتمال كون كلمة : « في الإسلام » زيادة من الصدوق لا قولا للنبي صلی اللّه علیه و آله .

ص: 384


1- ابن الأثير. النهاية3/ 81 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /314- الطبعة الأولى.

والوجه الثاني : عدم تمامية السند.

أما الوجه الأول : فلنا عليه قرائن ومؤيدات :

أولا : ان النقل ..

تارة يكون باللفظ مع قطع النّظر عن معناه ، بل قد لا يفهم الناقل معنى اللفظ وانما ينقله بنصه لغرض هناك.

وأخرى : يكون بالمضمون والمعنى. فلا يلحظ فيه نقل النص اللفظي للمنقول عنه ، بل نقل ما يفهمه الناقل من كلام المنقول عنه.

ومن الواضح ان الصدوق رحمه اللّه في روايته ليس في مقام النص اللفظي لكلام النبي صلی اللّه علیه و آله ، بل في مقام حكاية المضمون والمعنى ، لأنه في مقام الاستدلال على إرث المسلم من الكافر ، وهو يرتبط بمفاد قول النبي صلی اللّه علیه و آله لا بنفس اللفظ.

وإذا اتضحت هذه الجهة نضم إليها جهة أخرى ، وهي : ان صاحب القانون والتشريع إذا شرع حكما بإنشاء معين صح ان ينقل عنه تشريع ذلك الحكم في القانون ولو لم يكن لفظ - في القانون - واردا عند تشريعه.

فيصح ان يقال : ان اللّه حرّم الغيبة في الإسلام مع ان إنشاء تحريم الغيبة لم يكن مشتملا على كلمة : « في الإسلام ».

كما يصح ان يقال : ان الحكومة شرعت السجن في العراق ، ولو لم يكن الإنشاء مشتملا على كلمة : « في العراق ».

ويصح أن يقال : ان زيدا يقول لا أرضى باللعب في بيتي ، والحال انه لم ينه الا عن اللعب بلا ان يقول : « في بيتي » ، ولكن كان ظاهر حاله باعتبار سلطنته على بيته كون تحريمه بلحاظ بيته.

ولا يعد مثل هذا خيانة في النقل ، بل هو أمر يجري عليه الكل بعد ان كان النقل بالمعنى لا بنص اللفظ. والناقل للمعنى لا يتقيد بخصوص اللفظ

ص: 385

وحدوده ، بل له ان ينقل المعنى بما يستفيده من ملاحظة الحال.

وبما أن الشارع بما هو شارع انما ينفي الضرر بلحاظ تشريعه ودينه ، فنسبة نفي الضرر في الإسلام إلى النبي صلی اللّه علیه و آله كما تتلاءم مع نطقه بها كذلك تتلاءم مع عدم نطقه بها بملاحظة حاله وشأنه.

فبملاحظة هاتين الجهتين لا يثبت ظهور لنقل الصدوق رحمه اللّه في انه يريد بيان ان كلمة : « في الإسلام » جزء قول النبي صلی اللّه علیه و آله ، بل يمكن ان يكون نقلا بحسب ملاحظته ظاهر حال الرسول صلی اللّه علیه و آله وشأنه.

وثانيا : ان ارتكاز الأشباه والنّظائر قد يوقع في الغفلة ، وبما ان لهذه الجملة أشباها كثيرة مثل « لا رهبانية في الإسلام » ، و: « لا مناجشة في الإسلام » ، و: « لا أخصاء في الإسلام » ، فقد يكون ذلك منشئا لاشتباه الصدوق رحمه اللّه في رواية : « لا ضرر » لأنّها شبيهة بتلك النصوص.

وأصالة عدم الغفلة لا يبنى عليها إذا كان احتمال الغفلة معتدا به عرفا كما في المورد ، فيكون نظير مورد معلومية كثرة الغفلة من الناقل ، فانه لا يبني على أصالة عدم الغفلة في نقله.

وثالثا : ان كلمة : « في الإسلام » لو كانت جزء من كلام الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فلا يصح إلا بتقدير ، إذ الظرفية لا تصح بلحاظ نفس الضرر إذ لا معنى له كما لا يخفى. كما لا تصح بلحاظ نفي الضرر ، لأن النفي هاهنا مفاد الحرف وهو لا يصلح لأن يكون طرفا للربط ، فلا بد من تقدير. بخلاف ما لو كانت راجعة إلى كلام الصدوق ، بحيث يكون : « في الإسلام » مرتبطا ب- : « قوله » فيكون المراد : « وقوله في الإسلام لا ضرر ... » ويراد من القول التشريع والجعل.

ورابعا : ان الظاهر انّ هذه الجملة - أعني : « لا ضرر ولا ضرار » - غير مستقلة بالبيان ، بل هي من ذيول قصة سمرة أو غيرها ، ولا ظهور لكلام الصدوق في انها

ص: 386

واردة ابتداء ، لأنه ليس في مقام نقل الرواية ، بل في مقام الاستدلال بهذه الفقرة فلا ينافي كونها من ذيول واقعة معينة كواقعة سمرة.

ولا يخفى ان رواية سمرة بجميع صورها لم ترو بهذا النحو - أعني : بإضافة قيد : « في الإسلام » - ، وهكذا غير رواية سمرة المذيّلة بنفي الضرر.

وعليه ، فيدور الأمر بين احتمال النقص فيها واحتمال الزيادة في رواية الصدوق.

والثابت في محله وان كان تقديم أصالة عدم الزيادة مع التعارض ، لقوة احتمال الغفلة الموجبة للنقص من الغفلة الموجبة للزيادة.

إلا ان تظافر النقل مع النقيصة ، مع قوة احتمال الزيادة بملاحظة الوجوه الثلاثة المتقدمة يبعد جريان أصالة عدم الزيادة.

والحاصل : انه بملاحظة هذه الوجوه لا يبقى مجال للبناء على ثبوت هذا القيد في كلام الرسول صلی اللّه علیه و آله وعدم كونه من كلام الصدوق ، لعدم الاطمئنان بذلك وعدم ما يصحح البناء عليه تعبدا.

وأما الوجه الثاني : فان رواية الصدوق رحمه اللّه وان لم تكن مرسلة كأن يقول : « روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله ... » ، لأنه أسند القول إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله بصورة باتة جزمية ، وهكذا يكشف عن بنائه على صدور هذا الكلام من النبي صلی اللّه علیه و آله .

إلا ان هذا لا ينفع في صحة البناء على حكايته ، وذلك لأنه لم يظهر من حكايته انه قد اعتمد على رواية تامة السند كي يكون ذلك منه شهادة على صحة السند ، إذ يمكن ان تكون الرواية الواصلة إليه غير تامة السند لكنه اطمأن بصدورها اعتمادا على قرائن قد لا توجب الوثوق لنا لو عثرنا عليها. فلا يمكن الاعتماد على حكايته. فالتفت.

الجهة الثانية : في إمكان البناء على ثبوت قيد : « على مؤمن » بعد قوله :

ص: 387

« لا ضرر ولا ضرار » وعدم إمكانه.

ولا يخفى عليك ان جميع الروايات التي نقلناها خالية عن هذا القيد ما عدا رواية ابن مسكان عن زرارة الواردة في قصة سمرة بن جندب.

ولكنها لا تصلح للاستناد إليها ، فانها مضافا إلى ورود الوجه الرابع الّذي ذكرناه بالنسبة إلى رواية الصدوق المتكفلة لإضافة قيد : « في الإسلام ». ضعيفة السند ، لأن بعض أفراد سلسلة السند مجهول للتعبير عنه ب- : « بعض أصحابنا » ، فلا تكون حجة. ومن الغريب ان الشيخ رحمه اللّه في الرسائل ذكر هذه الرواية وجعلها من أصح ما في الباب سندا (1). فانتبه.

والّذي يتحصل لدينا من مجموع ما تقدم : ان الشيء الثابت من النصوص هو خصوص جملة : « لا ضرر ولا ضرار » بلا زيادة كلمة : « في الإسلام » أو : « على مؤمن ».

الجهة الثالثة : في ان جملة : « لا ضرر ولا ضرار » هل وردت مستقلة كما وردت جزء ، أو انها لم ترد إلا جزء كلام آخر؟.

والحق : انه لا يمكن الالتزام بورودها مستقلة لوجهين :

الأول : انه لا طريق إلى إثبات ذلك لا من طرق العامة ولا من طرق الخاصة.

أما العامة ، فانهم وإن أوردها في أحاديثهم مستقلة فقط ، فلم يرووا سوى هذه الجملة فقط ، لكنا نعلم بأنهم حذفوا مواردها للقطع بورودها في بعض الموارد الخاصة ، ومنها واقعة سمرة بملاحظة نصوصنا ، فانه يكشف عن إغفالهم لمواردها سهوا أو عمدا.

وعليه ، فلا يمكن ان يعتمد على نقلها مستقلة في إثبات انها وردت كذلك.

ص: 388


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /314- الطبعة الأولى.

نعم ، لو رويت بطرقهم بنحوين مستقلة وغير مستقلة ، لأمكن دعوى ظهور ذلك في الاستقلال.

وأما الخاصة ، فلم ترد في الروايات مستقلة إلا في رواية الصدوق ورواية دعائم الإسلام المتقدمتين.

ولكن لا ظهور لرواية الدعائم في كونها مستقلة الورود ، لأنه ليس في مقام الحكاية ابتداء ، بل في مقام الاستدلال على الحكم الّذي بيّنه ، فمن الممكن ان يكون نظره علیه السلام إلى ورود هذه الفقرة في رواية سمرة مثلا ، فذكرها شاهدا.

وأما رواية الصدوق رحمه اللّه ، فقد عرفت انه في مقام الاستدلال على فتواه ، فلا ظهور لحكايته في ورودها مستقلة كما لا يخفى.

الثاني : انه لا يظهر لهذه الجملة بنفسها وابتداء معنى محصل من دون سابق ولاحق كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام. نعم لو كانت ملحقة بقيد : « في الإسلام » أو : « على مؤمن » لكانت ذات معنى ، إلا انك عرفت عدم ثبوت أحد هذين القيدين. فتدبر.

الجهة الرابعة : في تطبيق قاعدة : « لا ضرر ولا ضرار » في مورد الحكم بالشفعة ومورد النهي عن المنع عن فضل الماء ليمنع فضل كلأ ، في روايتي عقبة بن خالد.

فقد وقع البحث فيه من ناحيتين :

الناحية الأولى : في صحة تطبيق نفي الضرر والضرار في هذين الموردين.

وعمدة الإشكال في صحة ذلك في مورد الحكم بالشفعة وجهان :

أحدهما : عدم تحقق الضرر فعلا في بيع حصة الشريك لغير شريكه. نعم قد يتحقق الضرر في المستقبل ، كما إذا كان الشريك الجديد سيّئ الخلق وغير ذلك ، فالبيع يكون مقدمة إعدادية للضرر التي قد يترتب عليها الضرر ، وقد لا

ص: 389

يترتب وفي مثله لا يصدق الضرر فعلا كي يصح نفيه بالقاعدة ، فهل يقال لبيع السكين أو إمضائه انه ضرري لأنه مقدمة إعدادية للإضرار بالغير بالجرح؟!.

والآخر : ان نفي الضرر لا يتكفل على تقدير انطباقه سوى نفي اللزوم وإثبات الجواز الحكمي من دون أن يثبت حقا للشريك على حد سائر الحقوق ، مع ان الثابت في مورد الشفعة هو الجواز الحقي ، فان الشفعة تعد من الحقوق.

واما الإشكال في صحة تطبيق نفي الضرر على مورد منع فضل الماء ، فهو وجهان أيضا :

أحدهما : ان منع المالك فضل مائه عن الغير لا يعدّ إضرارا به ، بل هو عدم إيصال للنفع إليه ، فلا ربط له بنفي الضرر.

والآخر : ان الملتزم به في هذا المورد هو كراهة المنع لا حرمته.

ومن الواضح ان مقتضى نفي الضرر هاهنا هو حرمة منع الماء ، إذ الضرر - على تقديره - انما يترتب على الجواز بالمعنى الأعم لا خصوص الإباحة.

ولو ادعى ان مفاد نفي الضرر تحريم الضرر. فالإشكال من هذه الجهة أوضح.

وبالجملة : هذان الموردان لا يصلحان لتطبيق نفي الضرر فيهما بأي معنى فرض له من المعاني التي سيأتي البحث فيها إن شاء اللّه تعالى.

ومن هنا التجأ البعض إلى دعوى : ان ذكر لا ضرر في كلتا الروايتين من باب الجمع في الرواية لا في المروي (1).

كما التجأ المحقق النائيني إلى حمل تطبيق نفي الضرر في الموردين من باب الحكمة لا العلة (2).

ص: 390


1- الواعظ الحسيني محمد سرور ، مصباح الأصول 1 / 521 - الطبعة الأولى.
2- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /195- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

والتحقيق : إنا لا نرى إشكالا في صحة تطبيق نفي الضرر في هذين الموردين بنحو العلية ، فلا تصل النوبة إلى ما أشرنا إليه بيان ذلك :

أما في مورد الشفعة ..

فالوجه الأول من الإشكال يندفع : بان بيع الحصة من شخص آخر يكون معرضا لترتب الضرر على مشاركته للشريك الأول ، للجهل بحاله وخصوصياته وما يترتب على اشتراكه في الملك والتصرف. مثل هذا البيع يوجب نقصا في مالية حصة الشريك الأول بلا إشكال ، وهو ضرر واضح. فالضرر مترتب مباشرة على البيع بملاحظة ان المعرضية للابتلاء بشخص آخر مجهول الحال يستلزم نقص المالية وهو ضرر فعلي ، وليس بملاحظة ترتب الضرر الخارجي ، كي يقال ان نسبة البيع إليه نسبة المعدّ لا السبب.

فالإشكال نشأ من ملاحظة الضرر الصادر من الشريك نفسه ، والغفلة عن الضرر الحاصل من الشركة نفسها ، فانتبه.

وهذا البيان وان تأتى نظيره في موارد القسمة بلحاظ ان جوار مجهول الحال أيضا يوجب نقص المالية ، لكن بعد قيام الدليل الخاصّ على عدم الشفعة فيها ، ولو بملاحظة اختلاف مرتبة الضرر فيها عن مرتبته في مورد الشركة ، لتوقف تصرف الشريك الأول على إذن الشريك الجديد ، بخلاف مورد القسمة.

لا يبقى مجال لدعوى تأتي نفي الضرر في موارد القسمة.

وأما الوجه الثاني ، فيندفع : بان ثبوت الحق في مورد الشفعة ليس بدليل نفي الضرر ، بل هو بواسطة دليل منفصل بملاك آخر ودليل نفي الضرر لم يتكفل سوى إثبات الجواز ، ولا ينافيه ان يقوم دليل آخر على ثبوت الحق. ولا دليل على ان السائل استظهر من كلام الإمام علیه السلام ثبوت الحق بلا ضرر.

وبالجملة : لا ظهور للتعليل في كونه تعليلا للحق ، بل هو تعليل للجواز

ص: 391

وكونه حقا ثابتا بملاك آخر وبدليل آخر.

وأما في مورد منع فضل الماء ..

فالوجه الأول من الإشكال يندفع : بان الرواية واردة في مورد يكون للشخص ماء ويكون في جنبه كلأ للرعي ، فإذا رعت أغنام الغير في الكلاء عطشت فاحتاجت إلى الماء ، فإذا منع المالك ماءه عنها كان ذلك سببا لعدم رعيها في الكلام لأنها تموت عطشا ، فيضطر مالك الغنم إلى ترك هذا المرعى إلى مرعى آخر.

وهذا أوجه ما قيل في معنى الرواية.

وعليه ، فمنع الماء يكون سببا لمنع الانتفاع بالمرعى ، فيكون سببا للضرر ، لأن عدم النّفع وان لم يعدّ ضررا بقول مطلق ، لكنه في مورد قيام المقتضي للانتفاع يكون المنع عنه معدودا عرفا من الإضرار. إذن فمورد الرواية هو ما يكون المنع من فضل الماء موجبا للضرر. فيصح تطبيق نفي الضرر عليه.

وأما الوجه الثاني ، فيندفع : بأنه لا مانع من الالتزام بالتحريم كما نسب إلى جمع من المحققين ، وليس فيه مخالفة لضرورة فقهية.

والّذي يتحصل انه لا إشكال في تطبيق لا ضرر في كلا الموردين. ولو لا ما ذكرناه لأشكل الأمر على ما سلكه المحقق النائيني في الالتزام بان الملحوظ في تطبيق نفي الضرر هو بيان الحكمة لا العلة ، فان مقتضاه التوقف في ظهور نفي الضرر في رواية سمرة في العلية ، إذ لا محذور في أخذ الضرر بنحو الحكمة في مورد وبنحو العلة في مورد آخر. لكن بعد وحدة التعبير في جميع النصوص يبعد ان يختلف المراد منه ، بل الظاهر ان المراد به واحد ، بان يكون علة في الجميع ، أو حكمة في الجميع. فتدبر.

الناحية الثانية : في ان حكاية قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار » في روايتي عقبة المزبورتين في موردي الشفعة ومنع فضل الماء ، هل هو

ص: 392

من باب الجمع في الرواية ، بمعنى انه صدر في غير هذين الموردين ومنفصلا عن قضائه فيهما ، ولكن جمع الراوي بين روايته ورواية قضائه في موردي الشفعة ومنع فضل الماء؟ ، أو انه من الجمع في المروي ، بمعنى انه جزء من قضائه في مورد الشفعة ومن قضائه في مورد منع فضل الماء؟. ولا يخفى ان البحث في الناحية الأولى متفرع على الثاني ، ولا مجال له على الأول الّذي قد أصر عليه المحقق شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه اللّه في رسالته الصغيرة ، بتقريب : ان عبادة بن الصامت نقل أقضية النبي صلی اللّه علیه و آله وهي كثيرة ، ونقل من جملتها نفي الضرر والضرار ، والشفعة ، والنهي عن منع فضل الماء ليمنع فضل كلأ. ونقله ظاهر في انفصال قضائه صلی اللّه علیه و آله بنفي الضرر عن قضائه بالشفعة وعدم منع فضل الماء.

وبملاحظة التشابه بين نقل عبادة ونقل عقبة بعض تلك الأقضية - ومنها ما نحن فيه - في الألفاظ ، بل ربما تكون بلفظ واحد ، يحصل الاطمئنان بان ما يروم نقله عقبة هو ما يروم نقله عبادة ، وانهما ينقلان وقائع واحدة ، وبملاحظة وثاقة عبادة وتثبته في النقل يحصل الاطمئنان بان عقبة في اختلافه مع عبادة في تذييله قضائه صلی اللّه علیه و آله في موردي الشفعة ومنع فضل الماء كان قد جمع بين الرواية لا المروي (1).

ولكن ما أفاده قدس سره لا يمكن الالتزام به ، فان ظهور رواية عقبة في كلا الموردين في كون قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار » جزء من قضائه بالشفعة أو بعدم منع فضل الماء ، وانه صلی اللّه علیه و آله في مقام تعليل قضائه بهما بنفي الضرر والضرار ، ببيان كبرى كلية مما لا يكاد ينكر ولا يخفى ، خصوصا روايته الواردة في الشفعة ، لتعقيبه نقل لا ضرر ببيان حكم

ص: 393


1- الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة ، قاعدة لا ضرر / 20 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ما إذا وقعت القسمة وانه لا شفعة بعدها. فان ذلك ظاهر غاية الظهور انه لم ينتقل في حكايته قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار » إلى بيان قضاء آخر صدر منه صلی اللّه علیه و آله في واقعة أخرى ، بل هو في مقام بيان ما صدر من الأحكام في مورد بيع الشريك.

وبالجملة : رواية عقبة بمقتضى ظهورها تأبى عن حملها على الجمع في الرواية.

ومجرد رواية عبادة قضاؤه صلی اللّه علیه و آله في هذين الموردين بلا تذييل بنفي الضرر والضرار ، لا يصلح ان يكون قرينة على رفع اليد عن هذا الظهور بل الصراحة.

مع ان وثاقة عبادة لا تدعو إلى ذلك ، بعد ان كانت سلسلة السند إليه ليست بتلك المرتبة من الوثاقة.

مضافا إلى العلم بان عبادة لم يكن بصدد نقل موارد ورود نفي الضرر ، بل بصدد نقل الكبرى الكلية لا غير بقطعها عن موردها ، إذ من الواضح ورود نفي الضرر في واقعة سمرة ولم ينقلها عبادة أصلا. فلا يكون نقله : « لا ضرر ولا ضرار » منفصلا عن القضاء بالشفعة دليلا على عدم وروده في ذلك المورد. خصوصا بملاحظة ما تقدم منا في الجهة الثالثة من عدم تصور معنى محصل لهذه الجملة إذا وردت مستقلا. فراجع.

ولعل منشأ الالتزام بان المورد من موارد الجمع في الرواية هو الإشكال الّذي عرفته من الناحية الأولى - كما صرح به بعض -. لكن عرفت اندفاعه بحذافيره فلا مقتضى للتكلف ، واللّه سبحانه العالم.

الجهة الخامسة : في معنى مفردات هذه الفقرة ، أعني : « لا ضرر ولا ضرار ».

أما لفظ : « الضرر » ، فلا شبهة في انه يصدق على مطلق النقص في المال والعرض والبدن.

ص: 394

وهل يصدق على عدم النّفع؟. لا شبهة في عدم صدقه على عدم النّفع إذا لم يكن في معرض الوصول بتمامية مقتضية.

إنما الإشكال في صدقه على عدم النّفع إذا كان في معرض الوصول ، كما لو كان مقتضى النّفع وشرطه تاما فمنع من تحققه.

ولا يخفى ان هذا النحو يتصور على نحوين :

أحدهما : ان يكون النّفع في معرض الوصول إلى هذا الشخص كزيد - مثلا - ، ولكن لا بخصوصيته وبما أنه زيد ، بل بما انه فرد من افراد العنوان الكلي المنطبق عليه الّذي يصل إليه النّفع عادة. غاية الأمر ان العنوان انحصر فرده بزيد. مثلا ، إذا كان في بلد النجف خبازا واحدا ، فعند حلول موسم الزيارة يكون مقدار بيعه للخبز كثيرا جدا ، ولكن شراء الزوار منه لا لخصوصيته بل بما انه خبّاز ، وانما يقصدون الشراء منه خاصة لانحصار الكلي به. والأمثلة على ذلك كثيرة.

والآخر : ان يكون النّفع في معرض الوصول للشخص الخاصّ بخصوصيته.

كما إذا كان الناس يشاورون زيدا ويتركون غيره من مماثليه من جهة حسن خلقه ومساهلته في باب المعاملة.

ولا يخفى ان العرف يطلق لفظ الضرر على عدم النّفع في كلا هذين الموردين. ففي المثال الأول لو فتح شخص آخر دكانا لبيع الخبز ، وانه قد ضرني ، كما يقال في الفارسية : « ضرر به من زده ».

وهكذا في المثال الثاني لو صرف شخص آخر الناس عن زيد إليه بأفضل من أخلاق زيد ، يقول زيد انه تضرر بذلك وان فلانا ضرّه.

وبالجملة : صدق الضرر عرفا في هذه الموارد لا ينبغي الإشكال فيه. إلا

ص: 395

ان الالتزام بانطباق قاعدة نفي الضرر في الأول - بأي معنى من المعاني المفروضة لها من النهي أو نفي الحكم أو غيرهما - مما لا يقول به أحد ، ويستلزم تأسيس فقه جديد.

فهل يلتزم أحد بحرمة فتح الآخر دكانا يوجب تقليل الشراء من الأول؟. فهو وان كان ضررا موضوعا ، لكن ليس له حكمه الّذي نبحث عنه في قاعدة نفي الضرر. وأما الثاني : فهو مما لا يمكن الالتزام بانطباق القاعدة المبحوث عنها عليه بقول مطلق وان أمكن الالتزام به في بعض الموارد ، إذ لا أظن ان أحدا يلتزم بحرمة فتح دكان في قبال زيد وصرف الناس عن زيد ووجوههم إليه ، أو بحرمة صرف المشتري من زيد لخصوصيته إلى عمرو.

نعم ، في مثل ما لو كان ماء جار كان بمقتضى طبع جريانه يمرّ بدار زيد ، يمكن الالتزام بحرمة تحويل مجراه عن دار زيد.

ومما ذكرناه في تحقيق معنى الضرر يظهر ان تقابله مع النّفس ليس بتقابل التضاد لصدقه على عدم النّفع. وليس بتقابل العدم والملكة لصدقه على النقص وهو أمر وجودي ، بل هو أعم من النقص المضاد للنفع ومن عدم النّفع في المورد الّذي فيه اقتضاء للنفع المقابل للنفع بتقابل العدم والملكة.

وكيف كان فهذا ليس بمهم فيما نحن بصدده ، وانما المهم تحقيق معنى الضرر وتحديده وانه خصوص النقص أو أعم من عدم النّفع في موارد وجود المقتضي للنفع ، وقد عرفت تحقيق ذلك.

وهذا أولى من صرف البحث إلى الكلام في صحة دعوى ان التقابل بينهما تقابل التضاد ، كما هو ظاهر أهل اللغة (1). أو العدم والملكة كما هو ظاهر صاحب الكفاية (2) ، وعدم صحتها بعد فرض ان الضرر بمعنى النقص. لأنه بحث

ص: 396


1- الضرّ والضرّ : ضدّ النّفع ، اقرب الموارد والنهاية - الضرّ : ضدّ النّفع ، الصحاح.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /381- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اصطلاحي صرف لا أهمية له فيما نحن فيه ، بل كان ينبغي تحقيق معنى الضرر وحدوده كما عرفت.

وبذلك تظهر لك المسامحة في حاشية المحقق الأصفهاني. فراجع (1).

وأما لفظ : « الضرار » : فقد قيل في معناه : انه فعل الاثنين وانه الجزاء على الضرر. ولعل الوجه في ذلك ما اشتهر ان مصدر باب المفاعلة يدل على تحقق المبدأ من اثنين كالقتال والضراب. والضرار منها لأنه مصدر من المضارّة.

ولكن تصدى المحققون والمتتبعون (2) إلى إنكار هذا الأمر المشهور بسرد الشواهد الكثيرة من الكتاب والسنة والاستعمالات العرفية مما لا يراد بها فعل الاثنين من المصدر. فراجع تعرف. وذلك يكفي تشكيكا أو منعا لهذا القول.

هذا مضافا إلى انه لم يرد به ذلك في رواية سمرة قطعا ، لأنه طبّق عنوان : « المضار » على سمرة مع انه لم يتحقق الضرر من الأنصاري ، بل كان سمرة منفردا به.

مع أن المنفي ان كان فعل الاثنين الحاصل في زمان واحد ، فنفس نفى الضرر يتكفل نفيه فلا يزيده نفي الضرار شيئا. وان كان المنفي فعل الثاني الحاصل بعنوان الجزاء ، فهو يتنافى مع مفاد قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (3) فلا يمكن الالتزام به.

إذن فتحقيق صحة هذا القول في معنى الضرار وعدم صحته لا أهمية له فيما نحن فيه.

كما انه لا أهمية لتحقيق صحة ما أفاده بعض المحققين بعد ردّ هذا القول. من : ان مصدر باب المفاعلة يدل على نفس المبدأ ولكن بضميمة ملاحظة تعديه

ص: 397


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 317 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 317 - الطبعة الأولى.
3- سورة البقرة ، الآية : 194.

إلى المفعول وتعلقه بالغير ، فالضرار يدل على الضرر الملحوظ وقوعه على الغير ، بخلاف الضرر ، فانه يدل على نفس المبدأ بلا ملاحظة جهة تعدّيه إلى الغير.

وذلك لأن مرجع هذا القول إلى كون معنى الضرار هو حصة خاصة من الضرر ، ومن الواضح انه يكفي في نفيه نفي الضرر ، فالالتزام به لا يزيدنا شيئا.

كما ان الالتزام بان الضرار بمعنى التصدي إلى الضرر (1) ، ان أريد به مجرد التصدي ولو لم يتحقق الضرر ، فلا يلتزم بنفيه وحرمته قطعا. وان أريد به التصدي المقارن للضرر ، فهو مما يكتفي فيه بنفي الضرر. فلا أثر لتحقيق هذا القول أيضا.

كما انه لا أثر لتحقيق ما أفاده المحقق النائيني في معناه من : انه قصد الضرر وتعمده ، وتطبيقه على سمرة بهذه الملاحظة (2).

وذلك لاندراجه في الفقرة الأولى - أعني : نفي الضرر - ، خصوصا إذا كان المقصود بنفي الضرر النهي عنه ، لاختصاص متعلق النهي بما إذا كان عن قصد وإرادة.

وبالجملة : جميع ما ذكر في معنى الضرار لا أهمية لتحقيقه ومعرفة الصحيح منه ، فلا داعي إلى إتعاب النّفس في ذلك ، بل الأولى صرفها في ما هو أهم.

وأما لفظ : « لا » : فلا يخفى انها نافية لا ناهية ، لأن : « لا » الناهية لا تدخل على الاسم ، بل تدخل على الفعل المضارع. فانتبه.

الجهة السادسة : في ما هو المراد من الهيئة التركيبية - أعني : « لا ضرر » - والمحتملات المذكورة فيها أربعة :

ص: 398


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 318 - الطبعة الأولى.
2- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /199- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

الأول : ان يكون المقصود بها النهي عن الضرر وتحريمه ، وهو المنسوب إلى العلامة شيخ الشريعة قدس سره (1).

ويمكن أن يبيّن هذا المدعى بنحوين :

أحدهما : ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء ، فيكون الداعي إلى الاخبار عن نفي الضرر هو إنشاء النهي عن الضرر ، نظير استعمال الجملة الخبرية الموجبة بداعي إنشاء الوجوب ، مثل : « يعيد صلاته » و: « يغتسل ».

وقد ذكر في محله : ان الجملة الخبرية الإيجابية في مقام الإنشاء تكون في الدلالة على الوجوب آكد من الجملة الطلبية ، لكشفها عن شدة المحبوبية بنحو يرى الطالب حصول مطلوبه فيخبر عنه.

ونظير هذا البيان يتأتى في الجملة الخبرية السلبية المستعملة في مقام إنشاء الحرمة.

والآخر : ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الاخبار عن عدم الضرر حقيقة ، لكن المقصود الأصلي لهذا الاخبار هو الاخبار عن الملزوم ، وهو وجود المانع الشرعي من الضرر الخارجي ، وهو الحرمة ، بملاحظة ان العدم يكون لازما للمنع الشرعي والنهي الصادر من الشارع المتوجه للمكلف المطيع.

ومثل هذا النحو من الاستعمال كثير في العرفيات ، فكثيرا ما يخبر - رأسا - عن عدم المعلول ، ويكون المقصود الأصلي الاخبار عن وجود المانع ، فيقال انه لا يتحقق احتراق الثوب في البيت ، ويكون المقصود بيان رطوبته المانعة عنه. ونحو ذلك كثير. فلاحظ.

الثاني : ان يكون المقصود نفي الحكم الشرعي المستلزم للضرر ، فينفى

ص: 399


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 526 - الطبعة الأولى.

المسبب ويراد نفي السبب ، وهو الّذي قرّبه الشيخ رحمه اللّه (1).

وهو مما يمكن ان يبيّن بنحوين أيضا :

أحدهما : ان يكون المراد بالضرر في قوله : « لا ضرر » سببه ، وهو الحكم ، فيكون إطلاق الضرر عليه إطلاقا مسامحيا ادعائيا من باب إطلاق لفظ المسبب وإرادة السبب ، نظير إطلاق لفظ : « الإحراق » على إلقاء الثوب في النار وإطلاق لفظ : « القتل » على الرمي أو الذبح.

وبالجملة : يكون ما نحن فيه من استعمال لفظ المسبب في السبب ادعاء ، فيراد من : « لا ضرر » : « لا حكم ضرري ».

والآخر : ان يكون المراد نفي نفس الضرر حقيقة ، ولكن المقصود الأصلي هو الاخبار عن نفي سببه وهو الحكم الشرعي.

والأخبار عن ثبوت المسبب أو نفيه بلحاظ ثبوت السبب أو نفيه كثير عرفا ، نظير الاخبار عن مجيء المرض ويكون الملحوظ بيان مجيء سببه ، أو الاخبار عن عدم مجيء العدو للبلد ويكون المقصود بيان عدم توفر أسباب المجيء لديه ، أو الأخبار بمجيء الهلاك والمراد بيان مجيء سببه. ونحو ذلك.

الثالث : ان يكون المقصود نفي الضرر غير المتدارك ، وهو مما يمكن ان يبين بنحوين أيضا.

أحدهما : ان يكون المنفي رأسا هو الحصة الخاصة ، وهي الضرر غير المتدارك ، بان يراد من الضرر : الضرر الخاصّ ، ويكون المقصود بيان لازمه ، وهو ان كل ضرر موجود متدارك فيدل على ثبوت الضمان ، كما يقال : ان كل مجتهد يلبس العمامة ، في مقام بيان عدم اجتهاد شخص لا يلبس العمامة.

والآخر : ان يكون المنفي هو الطبيعة بلحاظ تحقق التدارك في الأضرار

ص: 400


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /314- الطبعة الأولى.

الواقعة خارجا ، فان الضرر وان كان يصدق بحسب الدقة في مورد التدارك ، لكن لا يصدق عرفا ، فيصح نفي الضرر إذا تحقق تداركه ، ولذا يقال لمن غصب منه مال وعوض بمثله : انك لم تتضرر لأنك أخذت مثله.

ففيما نحن فيه يكون المنفي هو الضرر بلحاظ تشريع التدارك الموجب لعدم صدق الضرر عرفا.

ولا يخفى ان النص على هذا الاحتمال يختص بنفي الضرر على الغير لا الضرر على النّفس ، إذ لا معنى للتدارك بلحاظ ضرر النّفس.

وعلى هذا الأساس تنحل مشكلة عدم ثبوت خيار الغبن مع العلم بالغبن ، بناء على كون مدرك الخيار هو قاعدة نفي الضرر ، إذ وجّهه الاعلام بما لا يخلو من مناقشة ، كدعوى عدم شمول القاعدة على مورد الإقدام لعدم الامتنان ونحو ذلك. ولكن على هذا الاحتمال يتضح وجهه ، لأن الضرر الواقع على المشتري بالغبن لم يكن من البائع خاصة ، بل هو مشترك بين البائع والمشتري نفسه ، لعلمه بالغبن واقدامه ، وقد عرفت عدم شمول القاعدة لضرر النّفس. فلاحظ وتحقيق الكلام موكول إلى محله.

الرابع : ان يكون المقصود نفي الحكم الثابت للموضوع الضرري ، فيراد من نفي الضرر نفي أحكام الموضوع الضرري من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه نظير : « لا شك لكثير الشك » و: « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » ونحو ذلك.

وهذا الوجه مما بنى عليه صاحب الكفاية رحمه اللّه في نفي الضرر وشبهه من نفي العسر والحرج (1).

وتظهر الثمرة بين ما أفاده وبين مختار الشيخ في بيان نفي الاحتياط بأدلة

ص: 401


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /382- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

نفي العسر والحرج في مقدمات دليل الانسداد. فراجع تعرف.

هذه هي المحتملات الأربعة المذكورة ، وقد عرفت ان لكل منها شواهد وأمثلة عرفية.

فيقع الكلام في أن أيها المرجّح؟ فنقول وعلى اللّه سبحانه الاتكال :

ان ما أفاده صاحب الكفاية لا يقبل القبول ، لأن نفي الحكم بلسان نفى الموضوع وان تعارف في الاستعمالات العرفية والشرعية ، لكن المتعارف توجه النفي إلى نفس موضوع الحكم الشرعي ، ويراد نفي الآثار المترتبة عليه شرعا ، نظير : « لا شك لكثير الشك ». فان الشك في الصلاة له أحكام خاصة فيقصد نفيها عن شك كثير الشك بهذا اللسان.

والنفي في ما نحن فيه تعلق بنفس الضرر ، وهو مما لا أثر له يراد نفيه بنفيه ، ولو كان له أثر فلا يقصد جزما نفيه ورفعه ، بل هو يترتب على تحقق الضرر مع انه أجنبي عن مدعى صاحب الكفاية.

وقياس المورد على مورد رفع الاضطرار بحديث الرفع قياس مع الفارق ، لأن الرفع في حديث الرفع تعلق بالفعل في حال الاضطرار لا بنفس الاضطرار ، فيكون مقتضاه نفي الآثار المترتبة عليه في حال الاضطرار. وليس كذلك فيما نحن فيه ، لأن المنفي هو الضرر نفسه لا الفعل الضرري.

ثم إن نظر صاحب الكفاية ..

إن كان إلى دعوى ان لسان الحديث وما شابهه هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم بلحاظ عدم ترتب أثره عليه ، فينفي ادعاء ومسامحة.

فيرد عليه إشكال آخر : وهو ان الّذي يتوخاه صاحب الكفاية هو الالتزام بعدم ترتب الأثر على الموضوع الضرري وانتفاء حكمه أيضا من وجوب أو حرمة أو غيرهما.

ومن الواضح ان تنزيل الموجود منزلة المعدوم انما يصح بلحاظ عدم ترتب

ص: 402

أثره المترقب عليه. كعدم ترتب الصحة أو اللزوم على البيع الضرري ، فيقال انه لا بيع.

ولا يصح ذلك بلحاظ عدم ثبوت حكمه له ، فلو لم يجب الوضوء الضرري لا يصح ان يقال إنه لا وضوء.

وبالجملة : لا يصح التنزيل المزبور بلحاظ انتفاء الحكم التكليفي المتعلق بالفعل الضرري ، فلا يتوصل صاحب الكفاية إلى ما يبغيه بما التزم به.

نعم ، إذا كان نظره إلى دعوى تكفل الحديث وما شابهه نفي الموضوع حقيقة في عالم التشريع ، فيدل على انتفاء اثره وانتفاء حكمه ، لم يرد عليه هذا الإيراد ، إذ يصح نفي الفعل عن عالم التشريع إذا كان حكمه التكليفي منفيا ، كما هو واضح. وكيف كان ، فالعمدة هو الإيراد الأول الّذي ذكرناه ، وقد كنا نتخيّل انّه مغفول عنه في الكلمات لكن اطلعنا على تعرض غير واحد (1) له وفي مقدمتهم شيخ الشريعة رحمه اللّه (2).

وأما احتمال كون المقصود نفي الضرر غير المتدارك.

فقد أورد عليه بوجوه عمدتها ثلاثة :

الأول : ما أفاده الشيخ رحمه اللّه في رسالته من ان التدارك المانع من صدق الضرر عرفا هو التدارك الخارجي لا مجرد الحكم بالضمان أو وجوب التعويض ونحو ذلك ، فانه لا يمنع من صدق الضرر حقيقة (3).

وعليه ، فالتدارك الجعلي التشريعي لا يصحح نفي الضرر كما يحاول المدعي إثباته.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه من ان مقتضى هذا الوجه

ص: 403


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 527 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة. قاعدة لا ضرر /24- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /315- الطبعة الأولى.

تكفل الحديث لتشريع الضمان ، مع انه لم نر من العلماء من استدل على ثبوت الضمان في مورد ما بحديث نفي الضرر مع ورود بعض النصوص في باب الضمان المأخوذ في موضوعها الضرر الموجب لتنبههم إلى ذلك على تقدير الغفلة عنه ، مما يكشف عن عدم فهم العلماء ذلك من الحديث ، وبما انهم أهل عرف ولسان ، يكشف ذلك عن ان هذا الوجه بعيد عن الفهم العرفي ، فلا يمكن أن يصار إليه (1).

الثالث : ما أفاده في الكفاية من استهجان التعبير بالضرر وإرادة خصوص حصة منه ، فيراد من لفظ الضرر : « الضرر غير المتدارك » (2).

هذا محصل الإيرادات على هذا الوجه.

ولا يخفى عليك ان الأخير منها انما يتوجه على التقريب الأول للاحتمال المذكور.

أما على التقريب الثاني ، فلا يتوجه عليه ، لأن المنفي - بالتقريب الثاني - هو طبيعي الضرر.

ومن الغريب ان المحقق الأصفهاني يقرر بدائيا إشكال الكفاية بلا إيراد عليه ، ثم ينبّه في آخر كلامه بمناسبة أخرى على هذا التقريب السالم عن ورود الإشكال ، فراجع كلامه (3).

وأما ما أفاده الشيخ رحمه اللّه ، فيمكن دفعه بما أشار إليه المحقق الأصفهاني من : أن الحكم الوضعي بالضمان يجبر النقص المالي بنفسه ، لأنه حكم باشتغال ذمة الضامن للمضمون له ، فيملك المضمون له في ذمة الضامن قيمة ما أضرّه به ، فلا يفوته شيء بذلك ، فلا يتحقق الضرر.

ص: 404


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /200- المطبوعة ضمن غنية الطالب.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /381- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 320 - الطبعة الأولى.

وأما ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه ، فيمكن التفصي عنه : بأن حديث نفي الضرر ..

إن كان متكفلا لإنشاء التدارك والضمان في مورد الضرر ، تم ما ذكره من انه لازمه كون الضرر من أسباب الضمان ، مع انه لم يذكر ذلك في كلمات العلماء والفتاوي.

واما ان كان متكفلا للاخبار عن عدم ترتب الضرر لتشريع التدارك والضمان في موارده لكن لا بعنوان الضرر بل بعناوين أخرى ملازمة له كالإتلاف والتغرير ونحوهما - نظير ما ذكرناه في رواية مسعدة بن صدقة المذكورة في أخبار أصالة الحلّ من انها لا تتكفل جعل أصالة الحلّ ، بل تتكفل الإخبار عن جعل الحلية في موارد الشك بعناوين مختلفة من يد واستصحاب ونحوهما -. فلا يكون مقتضى ذلك كون الضرر من أسباب الضمان بل سببه هو العنوان الآخر الملازم له كالإتلاف ، فعدم ذكر الضرر من أسباب الضمان في كلمات العلماء لا ينافى تكفل الرواية بيان تشريع الضمان في موارد الضرر ، لذكرهم الأسباب المأخوذة في الحكم بالضمان في أدلة تشريعه ، ولا معنى لذكرهم الضرر بعد أن لم يكن بعنوانه سببا.

نعم ، عند الشك في ثبوت الضمان في مورد من موارد الضرر لعدم دليل. خاص يساعد عليه يمكن التمسك بهذا الحديث لإثبات تشريع الضمان فيه ولو كان موضوعه مجهولا. ولعل من تلك الموارد مورد تفويت المنفعة الّذي وقع الكلام في ترتب الضمان عليه. وقد بنى البعض على الضمان لأنه من مصاديق الإتلاف. فتدبر جيدا.

ثم انه قد أورد على هذا الوجه بوجه رابع وهو : ان كل ضرر في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا ، فلو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر أموالا كثيرة لم يجب تداركه لا تكليفا ولا وضعا ، والالتزام بوجوب التدارك

ص: 405

في أمثاله يستلزم تأسيس فقه جديد (1).

وهذا الإيراد لا يختص به هذا الوجه بل هو وارد على جميع الوجوه الأربعة ، لأن الاستيراد إذا كان ضرريا فيلزم ان يبنى على تحريمه كما هو مقتضى الوجه الأول ، أو على عدم صحة البيع أو عدم لزومه ، كما هو مقتضى الوجه الثاني والرابع. مع انه لا يلتزم به.

فلا بد من التصدي لدفعه ، وقد أشرنا إلى بعض الكلام فيه في تفسير : « الضرر » ، وسيجيء توضيح الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

والّذي تحصل ان شيئا ممّا ذكر من هذه الإيرادات غير وارد.

والّذي يبدو لنا ان هذه الإيرادات التماس لوجه الارتكاز الموجود في النّفس ، فان الارتكاز العرفي والذوق الفقهي لا يساعد على هذا الوجه ، فصار كل منهم إلى بيان سبب ذلك بوجه خاص قد عرفت ما فيه.

والعمدة في دفع هذا الوجه أن يقال : إن الضرر له نسبتان وارتباطان نسبة إلى الفاعل الصادر منه الضرر ونطلق عليه الضارّ ، ونسبة إلى المفعول الواقع عليه الضرر ونطلق عليه المتضرر. ومن الواضح ان التدارك ينفي صدق الضرر عرفا بالنسبة إلى المتضرر ، فيقال له إنك لم تتضرر ، ولا ينفي صدقه على الضار ، فانه لا يقال له عرفا إنك لم تضر زيدا بل يقال له انك أضررته فتدارك. كيف؟

وموضوع التدارك هو صدور الضرر منه ، والتدارك فرعه كما لا يخفى. ومن الظاهر ان الملحوظ في الحديث - خصوصا بملاحظة تطبيق المضار على سمرة - هو نفي الضرر بلحاظ نسبته إلى الضار لا المتضرر ، فلا يناسب حملها على تشريع التدارك.

وببيان آخر : ان المنفي في الحديث هو الضرر بقول مطلق ، وهو لا يصح

ص: 406


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 529 - الطبعة الأولى.

لو كان بملاحظة جعل التدارك ، لأنه بهذه الملاحظة لا بدّ ان يقيد بالضرر بالنسبة إلى المتضرر نفسه لا ان ينفي مطلقا. فلاحظ.

والّذي يتحصل مما ذكرنا هو بطلان الاحتمالين الثالث والرابع فيبقى لدينا الاحتمال الأول والثاني.

أما الثاني ، فقد استشكل فيه :

أولا : بان إطلاق لفظ المسبب على السبب وان تعارف في الاستعمالات ، إلا انه انما يصح في الأسباب والمسببات التوليدية كالإلقاء والإحراق ، والرمي والقتل. فيقال عن الإلقاء إنه إحراق ، ويقال عن الرمي إنه قتل.

أما في مثل المقدمات الإعدادية ، فلا يطلق عليها اسم المسبب وذي المقدمة ، فلا يقال لبيع السكين انه قتل إذا ترتب عليه ذبح المشتري لشخص بالسكين الّذي اشتراه.

ومن الواضح ان نسبة التكليف إلى الفعل الضرري ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه ، بل نسبة المعدّ ، لتخلل الإرادة والاختيار من المكلّف ، كيف؟ والفعل لتحريك الإرادة من المكلف.

وعليه ، فلا يقال عن التكليف إنه ضرر ، إذا كان مما يترتب عليه الضرر.

فلا وجه لدعوى كون المراد من نفي الضرر نفي الحكم الضرري.

وقد يجاب عن هذا الإشكال : بأنه وإن كانت الإرادة تتخلل بين الفعل والتكليف ، لكن هذا لا ينافي نسبة الفعل إلى المولى المكلّف إذا كانت له قوة قاهرة تلزم المكلف بامتثال حكمه بنحو يكون تجاه مولاه ضعيف الإرادة ، ولذا ينسب القتل إلى السلطان إذا أمر جنده بقتل أحد ، فيقال : إن السلطان قتله ، لأجل ان إرادة الجندي تجاه أمر السلطان كلا إرادة.

وعليه ، فمن الممكن ان يكون الملحوظ في نفي الضرر مقام الطاعة وامتثال العبد أمر مولاه ، بحيث يكون الأمر هو الجزء الأخير للإرادة والتحرك

ص: 407

نحو العمل ، فيصح بهذا اللحاظ إطلاق الضرر على الحكم ونفي الحكم بلسان نفي الضرر.

وثانيا : ان الضرر اما اسم مصدر أو هو مصدر لم تلحظ فيه جهة الصدور ، بل هو تعبير عن نفس المبدأ ، وليس كالإضرار يحكي به عن المبدأ بملاحظة جهة الصدور فيه ، فالضرر كالوجود والإضرار كالإيجاد ، ومثله لا يصح إطلاقه على سببه التوليدي ، بل الّذي يصح هو اسم المسبب الملحوظ فيه جهة الصدور ، فمثل الإحراق يصح إطلاقه على الإلقاء ، أما لفظ الحرقة فلا يصح إطلاقه على الإلقاء.

وعليه ، فلا يقال للحكم انه ضرر وإن صح ان يقال انه إضرار. وإلى هذا أشار المحقق الأصفهاني رحمه اللّه في حاشيته على الكفاية (1). وهو إشكال متين لا دافع له.

هذا ولكن لا يخفى عليك ان هذين الإيرادين انما يتوجهان على هذا الاحتمال بالتقريب الأول.

أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى كون المنفي نفس الضرر حقيقة وجدّا وانما المقصود الأصلي بيان لازمه من رفع الحكم الضرري باعتبار نشوء الضرر منه ، فلا مجال لهذين الإشكالين ، إذ لم يطلق الضرر على الحكم بل استعمل في معناه الحقيقي وأريد نفي الحكم بالملازمة ، بل يكون هذا الاحتمال بالتقريب الثاني احتمالا وجيها ثبوتا لعدم إشكال فيه ، وإثباتا لأن له نظائر في الاستعمالات العرفية كما تقدم.

وأما الأول : - وهو احتمال تكفل الحديث النهي عن الضرر - فقد أورد عليه :

ص: 408


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 320 - الطبعة الأولى.

أولا : بعدم معهودية استعمال مثل هذا التركيب وإرادة النهي منه جدا. وهذا الإيراد ذكره في الكفاية (1).

وثانيا : أنه بعيد كما أفاده المحقق النائيني ، ولعله لأجل انه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا إذا قامت قرينة عليه أو انحصر المراد به - كما في مثل : « لا يعيد صلاته » - وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك (2).

ولا يخفى ان هذين الإيرادين - لو تمّا - لا يردان إلا على التقريب الأول لهذا الاحتمال. أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى استعمال الجملة في نفى الضرر حقيقة بداعي الاخبار ويكون المقصود الأصلي بيان إيجاد المانع من الضرر وهو النهي عنه ، فلا مجال لهذين الإيرادين ، إذ لم يستعمل في مقام النهي كي يقال انه لم يعهد ذلك في مثل هذا التركيب ، أو انه خلاف الظاهر ، لأن الجملة خبرية فلا يصار إليه إلا بدليل ، بل استعمل في معناه الحقيقي وأريد جعل الحرمة بالملازمة ، ولا بعد فيه بعد ان عرفت ان له نظائر عرفية في مقام المحاورة.

والمتحصل : ان الوجهين الأولين في حديث نفي الضرر بالتقريبين المزبورين لا محذور فيهما.

ولا يخفى عليك انهما بملاك واحد وملاحظة جهة واحدة ، وهي بيان عدم المعلول مع كون الغرض الأصلي هو بيان عدم تحقق أحد اجزاء علته غاية الأمر ان الملحوظ في الاحتمال الثاني ، هو بيان عدم المعلول - وهو الضرر - من جهة عدم تحقق مقتضية ، وهو الحكم المستلزم للضرر ، فيدل على رفع الحكم الضرري. والملحوظ في الاحتمال الأول بيان عدم المعلول من جهة تحقق مانعة ، وهو الحرمة المانعة من تحقق الضرر ، فيدل على تحريم الضرر.

ص: 409


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول. /382- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /200- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

وقد عرفت ان كلا الاستعمالين متداول عرفا ، فمثلا إذا توجه سيل ماء على بيت شخص بحيث يشكل خطرا عليه ، فقد يقول القائل انه لا خطر على صاحب البيت ويكون قصده بيان تفرق السيل وتبدده في الرمال فلا مقتضي للخطر. وقد يقول انه لا خطر على صاحب البيت ويكون قصده بيان وجود مانع يصدّ السيل عن الوصول إلى البيت فيرتفع الخطر ، وهو في كلا الاستعمالين أخبر عن ارتفاع الخطر حقيقة وكان في نفس الوقت يقصد بيان لازمه من عدم المقتضي أو وجود المانع. فلا مخالفة للظاهر في هذا الاستعمال.

ولأجل ما ذكرنا كان الاحتمالان الأول والثاني كفرسي رهان لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لعدم وجود ما يعينه.

نعم قد يقال بترجيح الثاني بملاحظة تطبيق القاعدة في بعض الروايات على مورد لا يحرم الضرر فيه ، بل الثابت فيه ارتفاع الحكم الضرري ، وهو مورد الأخذ بالشفعة ، فان بيع الشريك حصته من غير شريكه ليس محرما ، بل لا لزوم له لأجل الضرر ، فالالتزام بالوجه الأول يتنافى مع تطبيق الحديث في مورد الشفعة.

ولكن في قبال هذا الإشكال إشكال آخر على الوجه الثاني نظيره ، فان الحديث طبق أيضا في مورد لا حكم فيه من الشارع يستلزم الضرر فلا بدّ ان يحمل فيه على إرادة النهي والحرمة ، وهو مورد قضية سمرة بن جندب.

وتوضيح ذلك : ان الحكم الشرعي على نحوين اقتضائي كالوجوب والحرمة ، وغير اقتضائي كالإباحة. والحكم الّذي يستلزم الضرر ويكون منشئا لتحقق الضرر خارجا هو الحكم الاقتضائي ، لأنه يكون داعيا للمكلف نحو العمل ويتحرك المكلف نحو الفعل بملاحظة وجوده. وأما الحكم الترخيصي مثل الإباحة ، فبما انه لا اقتضاء فيه ولا تحريك ، فلا يكون منشئا للضرر ، لأن مرجع الإباحة إلى بيان عدم المانع من قبل الشارع وبيان عدم الملزم من قبله ، فهو لا

ص: 410

اقتضاء بالنسبة إلى الفعل وبالنسبة إلى الترك ، ومثله لا يصحح استناد الضرر إلى المولى ، إذ ما لا اقتضاء فيه بالنسبة إلى الفعل كيف يصحح نشوء الفعل من قبله؟. ومجرد التمكن من المنع وعدم التصدي له لا يصحح اسناد الفعل إليه ، فلو رأيت شخصا يريد قتل زيد وكنت متمكنا من منعه وصدّه فلم تصدّه فقتله ، فهل يصح ان يسند القتل إليك؟ لا إشكال في عدم صحته.

وإذا اتضح ذلك ، فمن الواضح انه في قضية سمرة لا إلزام من قبل الشارع لسمرة في العبور على بيت الأنصاري بدون إذنه ، كي يكون هذا الحكم مرتفعا لأجل الضرر ، بل غاية ما هناك هو جواز العبور ، ومثله لا يستلزم الضرر كما عرفت ، فتطبيق نفي الضرر بلحاظ نفي الحكم الضرري في هذا المورد غير صحيح ، فلا بدّ ان يكون الملحوظ فيه جهة إيجاد المانع وهو تحريم الضرر.

إذن ، فكل من الوجهين لا يخلو عن إشكال.

نعم ، لو التزم ان الضرر في موارد الإباحة يستند إلى الاذن الشرعي والإباحة الشرعية ، لم يكن في تطبيق الحديث في قضية سمرة بلحاظ رفع الإباحة إشكال. وعليه فلا إشكال في الالتزام بالوجه الثاني ، ويكون لازما للتحريم في بعض الموارد مما كان الحكم المرتفع فيه هو الجواز. ونتيجته تكون ملازمة لنتيجة الالتزام بتكفلها النهي عن الضرر ، لأنها تثبت حرمة الضرر ، مضافا إلى رفع الحكم الإلزامي على تقدير ثبوته.

لكن عرفت ان الإباحة لا تصلح ان تكون منشئا للفعل الضرري ، لأن مرجعها إلى عدم الملزم ، والاقتضاء بكل من طرفي الفعل والترك ، فلا يصح ان يستند إليها أحد الطرفين. فالإشكال متوجه.

والّذي نختاره - بعد جميع ما تقدم - في معنى قوله : « لا ضرر ولا ضرار » هو : كون المراد الاستعمالي والجدي نفي الضرر والضرار في الخارج حقيقة ، والقصد الأصلي من ذلك بيان تصدي الشارع إلى لازم ذلك وهو رفع مقتضى

ص: 411

الضرر وإيجاد المانع منه ، فان عدم المعلول لازم لأمرين كما عرفت ، فالكلام بصدد بيان كلا الأمرين من عدم المقتضي ووجود المانع.

وقد عرفت كثرة مثل ذلك في الاستعمالات العرفية كما تقدم بيان بعض الشواهد.

ولا يخفى ان هذا لا يرجع إلى استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، إذ : « لا ضرر » لم يستعمل الا في معناه وهو نفي الضرر.

يبقى لدينا سؤالان يدوران حول تحديد المختار وتوضيحه :

السؤال الأول : انه هل الملحوظ بيان ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد ، أو ان الملحوظ بيان ثبوتهما بنحو الطولية ، بان يكون المقصود بيان ارتفاع الضرر برفع مقتضية شرعا ، فإذا لم يكن له مقتض شرعي يجعل المانع ، ففي المورد الّذي يكون فيه حكم ضرري ، فنفي الضرر لا يتكفل سوى بيان رفعه من دون جعل تحريم ، وانما يتكفل جعل الحرمة في مورد لا يكون فيه حكم ضرري؟.

والجواب عن هذا السؤال : ان بيان ثبوت اللازمين بنحو الطولية وإن كان لا محذور فيه ثبوتا ولا إشكال فيه ، إلا انه يحتاج إلى مئونة زائدة في مقام الإثبات وإلى قرينة تقتضي ذلك ، وهي غير موجودة. فمقتضى إطلاق النفي كون المراد ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد ، ففي موارد الضرر كما يرتفع الحكم الضرري يثبت تحريم الضرر ، وذلك لأن نفي الضرر خارجا لا يحصل بمجرد رفع الحكم ، بل لا بد من إيجاد المانع منه ، وهو الحرمة ، لأن مجرد ارتفاع وجوب الوضوء مثلا لا يمنع من تحققه خارجا ، فقد يأتي به المكلف. نعم ارتفاع الضرر لا يمكن ان يكون إلا برفع منشئه وهو الحكم.

وبالجملة يكون مفاد الحديث كلا الأمرين من نفي الحكم وحرمة الفعل الضرري معا في عرض واحد ولا محذور في الالتزام بذلك.

نعم بعض الموارد قد لا تكون قابلة لكلا الأمرين فلا يثبت فيها إلا

ص: 412

أحدهما فقد لا يقبل المورد لرفع الحكم لعدم ثبوت الحكم الضرري القابل للرفع كما في مثل قضية سمرة ، فلا يثبت فيها سوى تحريم الإضرار وهذا لا ينافى التعميم في المورد القابل.

وقد يشكل بناء على ذلك بان مقتضى ما ذكر من التعميم ثبوت الحرمة في مورد الشفعة مضافا إلى رفع الحكم الضرري ، والمفروض عدم الحرمة. ولذا جعل تطبيقها في مورد الشفعة من موارد الإشكال على كون المراد بالقاعدة النهي عن الضرر - كما تقدم - فالإشكال بعينه وارد على المختار أيضا.

ويندفع هذا الإشكال بان ما ينشأ منه الضرر لا يقبل تعلق التحريم به ويمتنع ثبوت الحرمة له ، فهو من الموارد التي لا تكون قابلة لكلا اللازمين بيان ذلك :

ان بيع أحد الشريكين حصته من شخص ثالث مجهول الحال لا ضرر فيه إلا بلحاظ لزوم البيع وعدم قابليته للفسخ. وإلاّ فلو فرض كونه متزلزلا وأمره بيد الشريك الآخر ، فلا تعد شركة الشخص الجديد ضررا.

إذن فما يستلزم الضرر هو لزوم البيع ، فهو مرتفع لأنه حكم شرعي قابل للرفع ، لكن لا معنى للنهي عنه لأنه ليس من أفعال المكلف بل من أفعال الشارع نفسه فيمتنع تعلق الحرمة به. اذن فمورد الشفعة نظير مورد قصة سمرة مما لا يقبل ثبوت كلا اللازمين. فتدبر.

السؤال الثاني : ان استعمال « لا ضرر » في نفي الضرر هل هو من باب الاستعمالات الكنائية التي لا يكون المراد الاستعمال فيها مرادا جدا بل يكون المراد الجدي هو اللازم مثل قول القائل : ( زيد كثير الرماد ) وهو يريد واقعا انه كريم فهو لم يقصد الاخبار عن كثرة رماده وانما أخبر عن كرمه ، بل قد يستعمل ذلك ولا رماد له أصلا كما إذا كانت وسائل طبخه على الكهرباء التي لا تخلّف رمادا أو انه ليس من ذلك الباب بل المدلول الاستعمالي مراد جدا وحقيقة ، وفي الوقت

ص: 413

نفسه يقصد الاخبار عن الملازم؟.

والجواب : ان الالتزام بأنه من باب الاستعمالات الكنائية وان لم يكن فيه محذور ويتم المطلب به أيضا لكن الظاهر من نظائره كما في الاستعمالات العرفية هو الثاني ، فمثل قول القائل : « لا خطر عليك » ، بملاحظة دفعه مقتضى الخطر أو إيجاد المانع منه ، كما يقصد بيان ارتفاع المقتضى جدا ، بقصد نفي الخطر حقيقة لأجل تهدئة باله تسكين اضطرابه ، وليس قصده مجرد بيان رفع المقتضي من دون بيان ارتفاع الخطر ، نظير « زيد كثير الرماد ».

وعليه ، فالظاهر ان نفي الضرر الوارد في كلام الشارع نظير نفي الخطر الوارد في كلام أهل العرف يراد منه بيان عدم الضرر واقعا إظهارا للامتنان والرحمة ، فان في بيان عدم المسبب من مظاهر الامتنان والعطف ما لا يوجد في بيان عدم السبب.

نعم قد يشكل الالتزام بذلك بان مقتضاه هو كون الحديث يتكفل الاخبار عن عدم الضرر خارجا بملاحظة عدم المقتضي أو وجود المانع ، نظير اخبار المخبر بزوال الخطر لحدوث مانع من السيل.

ومن الواضح ان هذا يصح لو فرض ان الشارع تكفل جعل المانع التكويني من حدوث الضرر أو رفع المقتضي التكويني له ، والحال انه لم يتكفل ذلك ، بل تكفل رفع المقتضي التشريعي وجعل المانع التشريعي ، وهو الحرمة ، وغير خفي ان ذلك لا يلازم عدم الضرر. لفرض حصول العصيان من العبيد ، وما أكثره ، فيكون اخباره بعدم الضرر حقيقة مخالفا للواقع وهو مما يستحيل عليه تعالى.

فيتعين ان يحمل على كونه استعمالا كنائيا لم يقصد به جدا إلا الاخبار عن لازمه من دون الاخبار عن المدلول الاستعمالي.

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنه يمكن ان يكون الملحوظ في نفي الضرر

ص: 414

مقام الطاعة والمكلّف المطيع ، بان يراد انه لا يتحقق الضرر من مثله ، وهو لا ينافي جعل المانع بالنسبة إلى جميع المكلّفين ، إذ جعل الحرمة لجميع المكلّفين يلازم عدم تحقق الضرر خارجا من المطيع.

والداعي إلى الالتزام بهذا التقييد ما عرفت ان الظاهر من : « لا ضرر » بملاحظة نظائرها في الاستعمالات العرفية هو الاخبار عن المدلول المطابقي بنحو الجدّ ، فلا وجه لرفع اليد عنه مع إمكان الالتزام به ولو بارتكاب التقييد.

والمتحصل : ان قاعدة نفي الضرر تتكفل معنى عاما شاملا جامعا بين نفي الحكم المستلزم للضرر وبين حرمة الضرر في آن واحد ، ولا نرى في ذلك محذورا ، ولا يرد عليه أي إشكال.

وهي بذلك تكون قاعدة عامة سارية في جميع الموارد من عبادات ومعاملات.

لكن قد يتوقف عن الالتزام بذلك لجهتين أشار إليهما الشيخ رحمه اللّه في كلامه :

أما الجهة الأولى : فهي ما ذكره في كتاب الفرائد من : ان هذه القاعدة موهونة بكثرة التخصيص الوارد عليها بنحو يكون الخارج عنها أضعاف الباقي تحتها ، بل لو التزم بالعمل بعموم القاعدة لزم منه فقه جديد.

وبما ان تخصيص الأكثر يكون مستهجنا عرفا فلا يمكن الالتزام بما هو ظاهرها لاستلزامه تخصيص الأكثر ، بل يكون هذا التخصيص قرينة على كون المراد منها معنى لا يلزم منه ذلك.

وعليه ، فلا يمكن التمسك بها في قبال أدلة الأحكام إلا في مورد يتمسك فيه الأصحاب بها ليكون ذلك منهم معينا للمراد بها بناء على كفاية مثله.

ثم انه بعد ما ذكر هذا الإشكال دفعه بوجهين :

أحدهما : منع أكثرية الخارج وان كان كثيرا في نفسه ، ومثل ذلك لا

ص: 415

استهجان فيه.

والآخر : إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن كان مجهولا لدينا. وقد ثبت في محله ان تخصيص الأكثر إذا كان بعنوان واحد لا استهجان فيه ، كما إذا قيل : « أكرم الناس » ودل دليل آخر على خروج الفاسق منهم وهو يشمل أكثر أفراد الناس ، فانه لا استهجان فيه عرفا. هذا ما أفاده الشيخ رحمه اللّه (1).

وقد أورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل : بأن خروج الأكثر بعنوان واحد إنما لا يكون مستهجنا فيما إذا كان الافراد التي استوعبها العام هي العناوين التي يعمها لا الأشخاص المندرجة تحتها ، لعدم لزوم تخصيص الأكثر بإخراج أحد العناوين حينئذ ، لأنه أحد افراد العام لا أكثر افراده.

وأما إذا كان الملحوظ في العموم هو الأشخاص المندرجة تحت العناوين المنطبقة عليها ، كان إخراج أكثرها بعنوان واحد مستهجنا ، لأنه تخصيص للأكثر ، وهو مستهجن مطلقا.

هذا ما أفاده في الحاشية ، وكأنه يحاول أن يقول : إن نفي الأحكام الضررية بحديث : « لا ضرر » من قبيل الثاني ، وهو ما كان الحكم فيه على ذوات الأشخاص لا على العناوين ، فلا يندفع محذور تخصيص الأكثر بوحدة عنوان الخارج كما أفاده الشيخ رحمه اللّه (2).

وللمحقق النائيني رحمه اللّه تحقيق في المقام يحاول فيه التفصيل بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية والالتزام بان تخصيص الأكثر بعنوان واحد إنما لا يستهجن في القضايا الحقيقية لا الخارجية ، ثم يختار ان عموم نفي الضرر

ص: 416


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /316- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /169- الطبعة الأولى.

من قبيل القضايا الخارجية. وهو بذلك ينتهي إلى موافقة صاحب الكفاية رحمه اللّه (1).

ونحن لا نرى أنفسنا بحاجة إلى نقل كلامه.

بل نذكر ما نراه هو القول الفصل في هذا المقام ، فنقول - بعد الاتكال عليه سبحانه - : ان العموم الشامل لجميع أفراده قد يكون له جهتان من العموم :

إحداهما : العموم بحسب الأنواع والأصناف المندرجة تحته ، كالنحوي والفقيه والطبيب والمتكلم والعادل والفاسق بالنسبة إلى العالم ، فقد يلحظ جميع هذه الأصناف وغيرها في الحكم على العالم ، فيراد به الطبيعة السارية في جميع هذه الأصناف ، كما أنه قد يلحظ بعضها ويخرج البعض الآخر.

والأخرى : العموم بحسب الافراد من جميع الأصناف ، فيكون الملحوظ كل فرد فرد من افراد الأصناف المختلفة للعالم ، فيراد به الطبيعة السارية في جميعها ، كما انه قد يريد بعض تلك الافراد مع المحافظة على العموم الأنواعي.

وفي مثل هذا العموم الحاوي لكلتا الجهتين إذا ورد تخصيصه بعنوان واحد جامع لكثير من الافراد ، فانما يصطدم دليله مع العموم الأنواعي للعام فيخرج منه النوع الخاصّ.

ومن الواضح انه لو كان ذلك العنوان جامعا لأكثر الافراد ، لا يكون تخصيص العام به مستهجنا ، لأن المخصص به هو جهة العموم الأنواعي ، وهو بالنسبة إليه ليس تخصيصا للأكثر. وإما إذا ورد دليل أخرج أكثر الافراد بنحو يصطدم مع العموم الأفرادي كأن يقول - مثلا - لا يجب إكرام هؤلاء التسعين من أفراد العالم ، وكان مجموع افراده مائة ، كان ذلك من تخصيص الأكثر المستهجن.

ص: 417


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /210- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

وبذلك يظهر لك وجه كلام الشيخ رحمه اللّه في التزامه بعدم الاستهجان لو كان المقدار الخارج بعنوان واحد.

كما انه يظهر لك وجه كلام صاحب الكفاية ، فان الإخراج بعنوان واحد انما لا يكون مستهجنا إذا كان الملحوظ فيه تخصيص العموم الأنواعي.

وهذا في المورد الّذي يكون العام مشتملا فيه على كلتا الجهتين من العموم.

أما إذا كان متمحضا في العموم من حيث الافراد بحيث أخذ العنوان العام طريقا لإثبات الحكم على أفراده بلا ملاحظة جهة الأنواع ، فان الدليل المخصص يصطدم رأسا مع العموم الأفرادي ، فإذا كان ما يندرج تحته أكثر الافراد كان من تخصيص الأكثر المستهجن.

وقد يفرّق بين هذين القسمين من العموم ، فيلتزم بان مثال القسم الأول هو العموم الملحوظ بنحو القضية الحقيقية. ومثال القسم الثاني هو العموم في القضايا الخارجية ، نظير : « قتل من في العسكر ».

ونحن بعد أن بيّنا جهة الفرق ونكتته لا يهمنا التسمية ولا نتقيد بها. إنما المهم هو. تحقيق أن عموم نفي الضرر من أي النحوين؟. وعليه يبتني تحديد رجحان ما أفاده الشيخ أو ما أفاده صاحب الكفاية.

والّذي نراه هو ان عموم نفي الضرر من النحو الثاني - أعني : ما لوحظ فيه الحكم على الافراد بلا ملاحظة الأصناف - فهو مما يتمحض في جهة العموم الأفرادي ، فهو أشبه بالقضية الخارجية وإن لم يكن منها ، كما سنشير إليه.

بيان ذلك : ان المفروض هو كون دليل : « لا ضرر » موجبا للتصرف في أدلة الأحكام ومقيدا لها بصورة عدم الضرر ، فالملحوظ فيه هو الأحكام المجعولة بأدلتها من قبل الشارع ، كوجوب الوضوء ووجوب الصلاة ووجوب الصوم وحرمة التصرف في مال الغير ولزوم المعاملة ونحو ذلك.

ص: 418

ومن الواضح ان كل حكم من أحكام الشريعة ينشأ بمفرده وشخصه لا بعنوان جامع ، فلم ينشأ وجوب الصلاة ووجوب الصوم ووجوب الحج بعنوان جامع بل كل جعل بمفرده. إذن فالجامع بين هذه الوجوبات ليس حكما شرعيا مجعولا ، إذ لم يتعلق الإنشاء به بل تعلق بمصاديقه ، وتصنف الأحكام من عبادات ومعاملات - مثلا - أو تكليف ووضع أو نحو ذلك ، وإن كان ثابتا ، لكن العنوان الصنفي أو النوعيّ الجامع عنوان انتزاعي واقعي ينتزع بعد ورود الأدلة المتكفلة لجزئيات الأحكام في الموارد المختلفة ، وليس أمرا مجعولا شرعا.

وعليه ، فبما ان دليل نفي الضرر قد لوحظ فيه تضييق دائرة المجعول الشرعي بغير مورد الضرر ، فلا محالة يكون النفي واردا على كل حكم حكم لا على الجامع ، إذ ليس الجامع بينها حكما كي ينفي بدليل نفي الضرر.

نعم ، قد يلحظ طريقا إلى أفراده ، ولكن هذا غير تعلق النفي به ، بل النفي متعلق حقيقة بافراد الحكم المجعولة.

وبعبارة أخرى : ان ملاحظة الصنف بما هو انما تكون إما لنفي دخله في الحكم وبيان ان الحكم وارد على الطبيعي الساري بحيث لا يكون الفرد بما هو ذا خصوصية ، بل بما هو فرد للطبيعي. أو لبيان دخله في الحكم بما هو صنف.

وهذا انما يكون في مورد يحتمل دخالة الصنف في ثبوت الحكم ويكون قابلا لورود الحكم عليه ، وصنف الحكم مما لا يقبل ورود نفي الجعل عليه ، لأنه ليس بمجعول ، فكيف يؤخذ موردا للنفي والإثبات؟ ، بل غاية ما هناك يؤخذ طريقا إلى افراده ويكون النفي والإثبات متعلقا مباشرة بالافراد ، فلا يكون العموم في دليل : « لا ضرر » إلا افراديا. فتدبر.

وما ذكرناه لا ينافي الالتزام بعدم اختصاصها بالاحكام الفعلية التي كانت مجعولة قبل ورود نفي الضرر ، بل يعم كل حكم يجعل بعد ذلك ، إذ ليس ملاك ما بيناه هو كون قضية : « لا ضرر » خارجية ينظر فيها إلى الافراد المحققة

ص: 419

الوجود ، كما قد يتوهم فيرد عليه ما عرفت ، بل الملاك هو كون المنظور هو افراد الحكم ولو التقديرية ، لا الجامع الصنفي.

وإذا تبيّن لك ما ذكرناه ، يظهر لك كون الحق في جانب صاحب الكفاية في إيراده على الشيخ رحمه اللّه .

لكن لا يخفى عليك ان أصل الإيراد على القاعدة يبتني على مقدمتين : إحداهما : كبرى استهجان تخصيص الأكثر. والأخرى : صغرى ثبوت تخصيص الأكثر بالنسبة إلى دليل نفي الضرر.

والمقدمة الأولى محل كلام ليس محله هاهنا ، ولعلنا نتوفق لإيضاح الحق فيها في مجال آخر ، وما تقدم منّا من البيان السابق انما هو يبتني على المفروغية عن أصل الكبرى والتسليم بها.

ولأجل ذلك يكون الإيراد على هذه القاعدة من ناحية الكبرى مركزا.

فالمهم في دفع الإيراد هو إنكار الصغرى.

فان الموارد التي ذكرت شاهدا على ثبوت تخصيص الأكثر هي موارد الدّيات والقصاص والحدود والخمس والزكاة والنفقات والحج ونجاسة المانع المضاف المسقط له عن المالية ، والضمان وغير ذلك.

وقد تصدى الاعلام إلى إنكار الصغرى وإثبات ان أكثر هذه الموارد ليست خارجة بالتخصيص ، بل بالتخصص فلا استهجان فيه. وقد قيل في ذلك وجوه لا نطيل الكلام بذكرها.

وعمدة ما يمكن ان يقال في هذا المجال : ان دليل نفي الضرر انما يكون الملحوظ فيه هو خصوص الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية بحيث تكون له حالتان ، فيتقيد بخصوص حالة عدم الضرر بمقتضى الدليل.

وأما الأحكام الواردة في مورد الضرر فلا نظر للدليل إليها فيكون خروجها عنه بالتخصص.

ص: 420

وعليه ، فمثل الأحكام في باب الخمس والزكاة والضمان والحدود والدّيات والقصاص كلها واردة مورد الضرر فلا تكون مشمولة للحديث رأسا.

وأما غير ذلك من الموارد كمورد نجاسة المائع المضاف ونحوه ، فعلى تقدير ثبوت الحكم الضرري جزما ولم يمكن العمل فيه بقاعدة نفي الضرر ، فلا مانع من الالتزام بخروجه عن القاعدة بالتخصيص. إذ هي موارد قليلة لا يلزم من خروجها تخصيص الأكثر ، فلاحظ.

وما ذكرناه في حديث نفي الضرر ، هو نظير ما يذكر في حديث رفع الخطأ والنسيان من انه ناظر إلى الأحكام الثابتة للموضوع الأولي دون ما هو ثابت للخطإ بعنوانه ، فيكون خروجه بالتخصص لا بالتخصيص. فراجع.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى من الإشكال.

أما الجهة الثانية ، فهي ما أشار إليها الشيخ في رسالته الخاصة المعمولة في قاعدة نفي الضرر.

وهي عدم انطباق الحكم بنفي الضرر على الأمر بقلع العذق في رواية سمرة ، فقال قدس سره : « وفي هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي صلی اللّه علیه و آله بقلع العذق مع ان القواعد لا تقتضيه ، ونفي الضرر لا يوجب ذلك ، لكن لا يخل بالاستدلال » (1).

وتحقيق الكلام في ذلك : ان محصل الإشكال في رواية قصة سمرة - وهي عمدة الروايات - هو : ان الأمر المستتبع للضرر في الواقعة هو دخول سمرة في البستان من دون استئذان من الأنصاري ، لأنه يلزم منه الاشراف على عرضه وهو ضرر عليه ، فالحكم المستتبع للضرر هو جواز الدخول بدون إذن ، أو سلطنته على الدخول بلا إذن لو قيل بجعل السلطنة.

ص: 421


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة نفي الضرر /372- المطبوعة ضمن المكاسب.

ومن الواضح إن نفي الضرر لم يجعل في الرواية علة لحرمة الدخول بدون إذن ووجوب الاستئذان عند الدخول ، بل جعل علة للأمر بالقلع وهو لا يرتبط بنفي الضرر كما عرفت ، إذ ليس في بقاء العذق ضرر ، بل الضرر ينشأ من الدخول بلا إذن ، فأي ربط للأمر بالقلع بنفي للضرر والضرار الوارد في الحديث؟.

وقد أجاب المحقق النائيني رحمه اللّه عن هذا الإشكال بوجهين :

الأول : ان قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر » ليس علة لقلع العذق ، بل هو علة لوجوب الاستئذان عند الدخول ، والأمر بقلع العذق كان مترتبا على إصرار سمرة على إيقاع الضرر على الأنصاري وعدم اهتمامه بأمر النبي صلی اللّه علیه و آله ، لأنه بذلك أسقط احترام ماله فأمر صلی اللّه علیه و آله بقلع العذق من باب الولاية حسما للفساد.

الثاني : وقد أطال فيه ، ومحصله : انه يمكن ان يفرض كون نفي الضرر علة لقلع العذق. ببيان : ان حديث نفي الضرر حاكم على قاعدة السلطنة التي يتفرع عليها احترام مال المسلم الّذي هو عبارة عن سلطنته على منع غيره عن التصرف في ماله ، فإذا تكفلت القاعدة نفي السلطنة فقد جاز قلع العذق لعدم احترام ماله حينئذ.

وقد نفي دعوى كون السلطنة ذات جزءين ، وجودي ، وهو سلطنته على التصرف في ماله. وعدمي ، وهو سلطنته على منع غيره من التصرف في ماله. والضرر الوارد على الأنصاري انما هو بملاحظة الجزء الوجوديّ لا السلبي ، فغاية ما ترفعه قاعدة : « لا ضرر » هو الجزء الوجوديّ ، وأما سقوط احترام ماله رأسا فلا وجه له ، ولذا لا إشكال في جواز بيعه وهبته. نفي هذه الدعوى : بأن التركب المدعى تحليل عقلي. والضرر وان نشأ من الدخول بلا استئذان ، إلا انه حيث كان متفرعا على إبقاء نخلته في البستان فالضرر ينتهي إليه لأنه علة العلل ،

ص: 422

فيرتفع حق الإبقاء بمقتضى نفي الضرر.

وليس التفرع هاهنا نظير تفرع اللزوم على الصحة ، كي يورد : بان الضرر الناشئ من اللزوم انما يرفع خصوص اللزوم دون الصحة ، إذ التفرع في باب اللزوم والصحة لا يراد به إلا مجرد الطولية في الرتبة ، وإلا فهما حكمان مستقلان.

وأما التفرع هاهنا بين جواز الدخول وحق بقاء النخلة ، فهو من قبيل تفرع وجوب المقدمة عن وجوب ذيها ، يكون تفرعا تكوينيا بحيث يعد الفرع من آثار الأصل ، فالضرر في الحقيقة ينتهي إلى الإبقاء ، فيرتفع الحق فيه بقاعدة : « لا ضرر ». هذا خلاصة ما أفاده قدس سره (1).

ولكن في كلا الوجهين منع :

أما الأول : فهو انما يمكن تأتيه في رواية ابن مسكان ، فقد ورد الأمر بالقلع فيها بعد بيان : « لا ضرر » ، فيمكن ان يقال : ان الأمر بالقلع حكم مستقل لا من باب نفي الضرر إذ لم يطبق عليه نفي الضرر بل من باب آخر. ولكن رواية ابن مسكان ضعيفة السند كما عرفت فلا يعتمد عليها.

وإنما الرواية المعتمدة هي رواية ابن بكير. وقد ورد فيها الأمر بالقلع ثم علله بنفي الضرر بقوله صلی اللّه علیه و آله : « فانه لا ضرر ولا ضرار ». وهي ظاهرة في كون التعليل للأمر بالقلع ، وليس في الرواية للحكم بتحريم الدخول عليه بلا استئذان عين ولا أثر كي يقال إن التعليل راجع إليه - ولو بارتكاب خلاف الظاهر -. كما انه لو كان الحكم بتأديب من فعل محرما أمرا ارتكازيا في الإذن ، أمكن ان يقال إن قوله : « فانه لا ضرر » تعليل للتأديب الحاصل من النبي صلی اللّه علیه و آله . ببيان صغراه وهو ارتكابه محرما وهو الإضرار بالغير ، فكأنه قال : « تقلع نخلته لأجل التأديب بعد فعله المحرم وهو

ص: 423


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /209- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

الإضرار بالغير » ، نظير ما يقال : « يجوز تقليد زيد لأنه أعلم » ، فانه ظاهر في كون تقليد الأعلم أمرا ارتكازيا فيعلل به جواز تقليد زيد.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ لم يسبق ارتكاز في الأذهان لثبوت تأديب كل شخص يرتكب المحرم.

وبالجملة : لم يظهر من الرواية ولا بنحو الإشارة إلى كون المنظور في التعليل هو حرمة الدخول بغير الاذن ، فمن أين نستفيد منها رفع الحكم الضرري؟.

وأما الثاني : فمع الغض عن بعض خصوصيات كلامه والتسليم بأن الإبقاء ضرري ، باعتبار انه علة العلل. فغاية ما يقتضيه هو ارتفاع حق الإبقاء لا حرمة التصرف في ملك الغير ، لأنه ليس مقتضى ارتفاع حق الإبقاء جواز تصرف كل أحد في المال ، بل لا بد من رفع الأمر إلى الحاكم فيأمره بالقلع بنفسه ، فإذا امتنع جاز ان يخوّل غيره من باب ولايته على الممتنع.

وهذا المعنى لم يظهر تحققه من الرواية ، بل الظاهر منها هو أمره ( صلی اللّه علیه و آله للأنصاري بالقلع بمجرد إبائه - أي سمرة - عن المعاوضة.

وعلله بلا ضرر ولم يأمر سمرة بذلك. وقد عرفت ان ذلك لا ينسجم مع تطبيق « لا ضرر » في نفي حق الإبقاء ، إذ ليس للأنصاري التصرف في مال سمرة بمجرد ارتفاع حق الإبقاء.

والّذي يتحصل : انه لم يظهر لنا وجه تطبيق : « لا ضرر » على الأمر بالقلع بوجه من الوجوه.

وبذلك تكون الرواية مجملة لدينا ، ولا يمكن ان يستفاد منها قاعدة كلية لنفي الحكم المستلزم للضرر ، إذ مقتضى ذلك عدم انطباقها على المورد ، وتخصيص المورد مستهجن.

ومن هذا يظهر النّظر فيما أفاده الشيخ رحمه اللّه من : ان عدم العلم

ص: 424

بكيفية الانطباق لا يضر بالاستدلال.

بل ما ذكرناه في تقريب الإشكال يقرّب كونها بيانا لملاك الحكم وحكمته لا بيانا للعلة التي يستفاد منها قاعدة عامة في كل مورد وجدت فيه. فتدبر.

وإذا سقطت هذه الفقرة في رواية قصة سمرة عن قابلية الاستدلال بها سرى الإشكال إلى الفقرة الواردة في غير هذا المورد ، لأن التعبير واحد لا اختلاف فيه ، فيبعد ان يراد منه معنى مختلف ، فيرتفع ظهوره في التعليل في تلك الموارد.

هذا ، مع ان في تطبيق : « لا ضرر » في مورد الشفعة بنحو العلية والكبرى العامة ما لا يخفى. فان ما هو ثابت في باب الشفعة من وجوب البيع على المشتري الثالث ، أو ولاية الشريك على تملك الحصة المبيعة - على اختلاف في ذلك بين الفقهاء - ، لا يرتبط بنفي الضرر الّذي لا يتكفل سوى النفي كنفي اللزوم لا الإثبات ، والمفروض ان ظاهر الرواية هو تطبيق : « لا ضرر » على القضاء بالشفعة.

هذا ، مع ان الحكم لا يسري مع تعدد الشركاء وفي غير المساكن والأرضين وبعد القسمة ، مع ان الملاك - وهو الضرر - ثابت في الجميع ، بل قد يثبت بالنسبة إلى الجوار كما نبهنا عليه سابقا. مضافا إلى ثبوت الشفعة ولو لم يكن ضرر أصلا في الشركة الجديدة. ثم إن في الشفعة خصوصيات لا ترتبط بنفي الضرر بالمرة كما لا يخفى على من لاحظ أحكام الشفعة.

وبالجملة : بملاحظة مجموع ما ذكرناه يبعد استظهار كون تطبيق : « لا ضرر » في مورد الشفعة من باب العلة والقاعدة العامة ، بل يقرب انها ذكرت كتقريب للحكم من باب الملاك والحكمة ، أضف إلى ذلك كله أن الأصحاب في موارد تطبيقها لا يلتزمون بالضرر في كل فرد من افراد مورد التطبيق ، كمورد خيار الغبن ، فانهم يلتزمون به من باب الضرر مع انهم يلتزمون به مطلقا ولو لم

ص: 425

يكن شخص المعاملة ضرريا. كما أشار إليه في كلامه.

وهذا يصلح تأييدا - وان لم يصلح دليلا - لما ذكرناه من قرب كون ذكر « لا ضرر » من باب بيان الحكمة لا ضرب القاعدة العامة ، ويتأكد ذلك بملاحظة ان الأقدمين من الأصحاب « قدس سرهم » لم يوردوا تطبيقها في كثير من موارد العبادات والمعاملات ، وإنما ذكروها في موارد خاصة.

وجملة القول : ان ملاحظة ما ذكرناه بمجموعه ترفع من النّفس الاطمئنان بكون : « لا ضرر » قاعدة عامة تتكفل نفي الأحكام الضررية في جميع موارد الشريعة ، بل قد توجب الاطمئنان بالعدم ، وكون ذكرها من باب بيان حكمة التشريع. فلاحظ.

ثم إن الّذي يظهر من نفي الضرر في موارده في النصوص : كون الملحوظ نفي الضرر والإضرار بين الناس ، فتنفى جواز إضرار أحدهم بالآخر.

أما ارتكاب الشخص فعلا يستلزم الإضرار به نفسه ، فلا تعرض لها إليه ، ولذا لم يفهم الصحابة - جزما - عند ما قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار » نفي الضرر المتوجه من قبل الشخص على نفسه ، بل المفهوم منها لديهم المنع عن إضرار أحدهم بالآخر.

وعلى هذا الاستظهار ، فلو سلم انها قاعدة عامة كلية ، فهي لا تشمل موارد العبادات كالوضوء والصوم والحج والصلاة وغير ذلك.

كما انه يظهر بذلك ان إنكار كلية القاعدة لا يلزم منه محذور ، لأن موارد تطبيقها في المعاملات قليلة ، وكثيرا ما يتوفر دليل في الموارد الخاصة يكون بديلا لها ويغني عن الرجوع إليها.

ولعل ما أوضحناه هو الوجه في عدم معاملة القدماء مع : « لا ضرر » معاملة القاعدة الكلية العامة ذات السعة والشمول بالنحو الّذي حققه المتأخرون.

ثم إنه بملاحظة هذا الاستظهار الأخير يتضح لدينا سر عدم شمول

ص: 426

القاعدة لموارد الإقدام على الضرر ، كالإقدام على المعاملة مع العلم بالغبن ، إذ قد عرفت عدم شمولها لغير الإضرار بين الناس.

وقد تمحّل البعض في تعليل عدم شمول القاعدة لمورد الإقدام ، فذهب إلى تعليله بأنها قاعدة امتنانية ولا امتنان في نفي الضرر في صورة الإقدام.

وهذا الوجه مما لا دليل عليه ، إذ لا ظهور ولا قرينة على ان نفي الضرر بملاك الامتنان بحيث يدور مداره.

نعم ، نفي الضرر عموما يكون فيه تخفيف ومنّة على العباد ، ولكن هذا غير كون النفي بملاك الامتنان ، فلاحظ ولا تغفل.

هذا تمام الكلام فيما يستفاد من النصوص في معنى الهيئة التركيبية.

وقد عرفت عدم استفادة قاعدة عامة منها.

وعلى تقدير الالتزام بكون مؤداها قاعدة عامة تتكفل نفي الحكم المستلزم للضرر وتحريم الضرر يقع الكلام في أمور تتعلق بالقاعدة ذكرت بعنوان تنبيهات :

التنبيه الأول : في بيان طريقة الجمع بين القاعدة وأدلة الأحكام الشاملة بعمومها أو بإطلاقها مورد الضرر. بيان ذلك : ان نسبة هذه القاعدة مع دليل كل حكم نسبة العموم من وجه ، فمثلا دليل لزوم البيع يدل على لزومه مطلقا في مورد الضرر ومورد عدم الضرر ، وقاعدة : « لا ضرر » تنفي الحكم الضرري سواء كان هو اللزوم أو غيره.

ومقتضى القواعد في تعارض العامين من وجه هو تساقطهما في مورد الاجتماع. ولكن الملتزم به في ما نحن فيه هو العمل بما يوافق قاعدة نفي الضرر.

وقد ذكر في توجيه ذلك وجوه يجمعها العمل على طبق قاعدة : « لا ضرر » ، وإن لم يكن عملا بنفس دليل : « لا ضرر ». وإليك بيانها :

الأول : ان مقتضى تعارض دليل القاعدة مع أدلة الأحكام وعدم المرجح

ص: 427

لأحدهما هو تساقطهما في المجمع ، فيرجع إلى الأصول العملية ، وهي غالبا توافق مؤدى نفي الضرر ، لجريان أصالة البراءة في موارد الأحكام التكليفية الضررية ، وجريان أصالة الفساد في موارد الأحكام الوضعيّة الضررية.

الثاني : ان دليل القاعدة بما انه يتكفل نفي جميع الأحكام الضررية ، فتلحظ جميع أدلة الأحكام بمنزلة دليل واحد ونسبة دليل نفي الضرر إليه نسبة الخاصّ إلى العام فيخصص جميع الأدلة.

الثالث : ان نسبة دليل نفي الضرر إلى دليل كل حكم وإن كانت هي العموم من وجه ، إلا انه يتعين تقديم دليل نفي الضرر ، لأن تقديم أدلة الأحكام على دليل نفي الضرر يستلزم إلغاءه بالمرة ، لعدم مورد له أصلا ، وتقديم بعضها خاصة ترجيح بلا مرجح لأن نسبتها إليه على حد سواء. بخلاف تقديم دليل نفي الضرر ، فانه لا يستلزم إلغاء أدلة الأحكام لشمولها لموارد عدم الضرر.

وقد تقرر في محله انه إذا دار الأمر بين العامين من وجه وكان العمل بأحدهما مستلزما لطرح الآخر بالمرة كان الآخر هو المقدّم ويرجّح علي غيره.

الرابع : ان دليل نفي الضرر حاكم على أدلة الأحكام ، فيقدّم عليها ، ولا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم. وهذا الوجه بنى عليه الشيخ رحمه اللّه (1).

الخامس : ان العرف يجمع بين كل دليلين يتكفل أحدهما بيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الأولية ، ويتكفل الآخر بيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الثانوية ، بحمل الأول على بيان الحكم الاقتضائي والثاني على بيان الحكم الفعلي.

وبما ان دليل نفي الضرر يتكفل بيان الحكم لعنوان ثانوي ، فيجمع العرف بينه وبين أدلة الأحكام الأولية بحمله على بيان الحكم الفعلي وحمل أدلة

ص: 428


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 315 - الطبعة الأولى.

الأحكام على بيان الحكم الاقتضائي.

وهذا ما بنى عليه صاحب الكفاية في دليل : « لا ضرر » ونحوه كدليل نفى الحرج ، واصطلح عليه بالتوفيق العرفي (1).

هذه زبدة الوجوه المذكورة في هذا المقام.

أما الأول : فهو فرع تحقق التعارض بنحو لا يمكن الجمع بينهما ، فهو في طول سائر الوجوه وسيتضح لك ان النوبة لا تصل إليه.

وأما الثاني : فهو لا وجه له ، إذ لا مجال لملاحظة جميع الأدلة دليلا واحدا ، بعد ان كانت الأحكام مبيّنة بأدلة مستقلة ، ومجرد الملاحظة لا يصيرها دليلا واحدا كي تتغير النسبة.

وأما الثالث : فهو وجه متين يلتزم بنظائره في موارد متعددة من الفقه.

ويمكن تصويره بنحو أكثر صناعة وأبعد عما يدور حوله من إشكال ، بأن يقال : إنه بعد الجزم بصدور : « لا ضرر » وإرادة نفي الضرر في الجملة بنحو تكون : « لا ضرر » نصا في بعض الموارد على نحو الإجمال.

وهذا ينافي إطلاق أدلة الأحكام وعمومها ، ويكون العمل بأدلة الأحكام موجبا لطرح ما يكون دليل : « لا ضرر » نصا فيه لا مجرد ظهوره فيه ، لأنها نصّ في بعض الموارد بنحو الموجبة الجزئية ، ومقتضى ذلك حصول العلم الإجمالي بتقييد وتخصيص بعضها ، فلا يمكن العمل بكل واحد منها لعدم جريان أصالة العموم بعدم العلم الإجمالي بتخصيص البعض ، فتسقط أصالة العموم في الجميع.

ولكن لا يخفى عليك ان هذا الوجه إنما تصل النوبة إليه بعد عدم إمكان الجمع العرفي بين دليل نفي الضرر وأدلة الأحكام ، إما بنحو الحكومة أو بنحو التوفيق العرفي الّذي يبني عليه صاحب الكفاية ، لأنه فرع المعارضة.

ص: 429


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /382- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وإلا فمع إمكان الجمع عرفا وإمكان الأخذ بعموم دليل نفي الضرر في حد نفسه ، لا تصل النوبة إلى هذا الوجه وان كان وجيها في نفسه.

فالعمدة إذن تحقيق الوجهين الأخيرين.

أما الرابع : وهو دعوى الحكومة ، فقد عرفت تبني الشيخ لها. وقد ناقشه صاحب الكفاية : بأن الحكومة تتوقف على كون الدليل الحاكم بصدد التعرض لحال الدليل المحكوم.

ودليل نفي الضرر لا نظر له إلى أدلة الأحكام ولا تعرض له إلى حالها ، بل يتكفل بيان ما هو الواقع من نفي الضرر ، وهذا المقدار لا يصحح الحكومة ، بل هو كسائر أدلة الأحكام (1).

وقد ردّه المحقق النائيني - بعد أن فهم من كلامه تخصيص الدليل الحاكم بما يكون متعرضا للدليل المحكوم بالمدلول اللفظي المطابقي ، نظير أن يقول : أعني ، أو أردت بذلك الدليل كذا ، ونحو ذلك. وقد تأملنا في صحة هذه النسبة إلى صاحب الكفاية في أول مباحث التعادل والترجيح - بتصوير الحكومة وانطباق ضابطها على المورد.

والبحث في ضابط الحكومة بتفصيل يأتي الكلام فيه في مجال آخر.

ولكن نتعرض له هاهنا بنحو الإجمال ونوكل تحقيقه التفصيليّ إلى مجاله.

والأولى التعرض إلى ما ذكره المحقق النائيني هاهنا ، ثم نعقبه بما نراه صوابا. فنقول : ذكر قدس سره : ان القرينة على قسمين : قرينة المجاز وقرينة التخصيص والتقييد. والفرق بينهما ان قرينة المجاز تكون بيانا للمراد الاستعمالي من اللفظ ، وتبيّن المدلول التصديقي للفظ ، نظير لفظ : « يرمي » في قول القائل : « جاء أسد يرمي » ، فانه يكون بيانا لكون المراد من : « أسد » هو الرّجل الشجاع.

ص: 430


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /382- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأما قرينة التخصيص ، فهي ليست بيانا للمراد الاستعمالي ، بل هي بيان للمراد الواقعي الجدي ، فتكون مبيّنة لما هو موضوع الحكم واقعا ، وان عنوان العام ليس تمام الموضوع بل جزؤه.

وبعد أن ذكر ذلك بعنوان المقدمة ، أفاد قدس سره : أن الحكومة بنظر الشيخ رحمه اللّه لا تختص بما إذا كان الحاكم من قبيل قرينة المجاز مبيّنا للمراد الاستعمالي من المحكوم ، بان يتكفل الحاكم التفسير للدليل المحكوم بمثل كلمة : « أعني » أو : « أي » أو : « مرادي كذا » ونحو ذلك ، بل هي بنظره ان يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا للدليل الآخر.

وهذا أعم من كون التعرض للدليل الآخر بالنصوصية بمثل كلمة : « أعني » ، أو التعرض للمراد الواقعي للدليل الآخر بظهور الحال أو السياق بنحو يفهم كون النّظر في هذا الدليل للدليل الآخر ، نظير ان يرد دليل يتكفل الحكم على موضوع عام ، ثم يأتي دليل آخر يتكفل إخراج بعض افراد الموضوع عنه ، أو يتكفل إثبات عنوان العام لفرد خارج عنه واقعا ، مثلا يأتي دليل يتكفل إثبات وجوب الإكرام لكل عالم ، ثم يأتي دليل يقول : « ان زيدا ليس بعالم » وهو عالم واقعا ، ويكون المنظور فيه نفي حكم العام عنه ، فيتكفل هذا الدليل تضييق موضوع حكم العام ، فيشترك مع التخصيص في الأثر وفي كونه بيانا للمراد الواقعي ، إلا ان الفرق بينه وبين التخصيص ، هو ان في التخصيص لا يكون في اللفظ إشعار بالحكم الثابت للعام بحيث لا يفهم بحسب المدلول اللفظي انه متعرض لحال دليل آخر ، نظير قوله في المثال المتقدم : « لا تكرم زيدا » فانه لا تعرض له بحسب المدلول لحكم العام ، ولذا يتم هذا الكلام ولو لم يكن هناك دليل عام أصلا.

نعم ، بعد العلم بصدور العام والمفروغية عن عدم جواز صدور حكمين متنافيين من العاقل الملتفت ، يحكم العقل بملاحظة أظهرية الخاصّ أو نصوصيته

ص: 431

بعدم إرادة هذا الفرد الخاصّ من العموم ، فيكون الخاصّ بيانا للمراد الواقعي من الدليل العام ، لكن بحكم العقل ومن باب الجمع بين الدليلين.

وهذا بخلاف الدليل الحاكم ، فان بيانيته بمدلوله اللفظي لا بتوسط حكم العقل ، بحيث يفهم من مدلوله اللفظي انه بيان لحال دليل آخر فيضيق دائرته أو يوسّعها.

ولأجل ذلك كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم ، فيتوقف على ورود المحكوم أولا ثم يرد الحاكم. بخلاف الخاصّ فانه لا يتفرع على ثبوت حكم العام أصلا كما عرفت.

ثم ذكر : ان الحكومة على أقسام :

فمنها : ما يتعرض لموضوع المحكوم ، كما إذا قيل : « زيد ليس بعالم » بعد قوله : « أكرم العلماء ».

ومنها : ما يتعرض لمتعلق الحكم الثابت في المحكوم ، كما لو قيل ان الإكرام ليس بالضيافة.

ومنها : ما يتعرض لنفس الحكم ، كما لو قيل : « ان وجوب الإكرام ليس في مورد زيد ».

ثم ذكر أن الوجه في تقدم الحاكم على المحكوم هو انه لا تعارض بين الدليلين أصلا ، لأن الدليل المحكوم يتكفل الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ، فلا تعرض له لثبوت ذلك التقدير وعدمه ، والدليل الحاكم يتكفل هدم تقدير ثبوت الموضوع وبيان عدم تحققه ، وفي مثله لا تنافي أصلا بين الدليلين.

وعلى هذا الأساس صحّح الترتب بين الأمر بالضدين ، ببيان عدم المنافاة بين تعلق الأمر بالأهم مطلقا وتعلق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم ، فان امتثال الأمر بالأهم يدعو إلى هدم موضوع الأمر المهم ، فلا يصادمه ولا ينافيه ، بل هو كالحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم.

ص: 432

وبعد هذا البيان ذكر أن دليل نفي الضرر يكون حاكما على أدلة الأحكام الواقعية الأولية ، سواء قلنا بمقالة صاحب الكفاية من تكفله نفى الحكم بنفي الموضوع. أو قلنا بمقالة الشيخ من تكفله نفي الحكم الضرري. لأنها ناظرة إلى أدلة الأحكام الواقعية على كلا المسلكين ، وانما الفرق انها على مسلك صاحب الكفاية تكون شارحة لموضوع الأحكام. وعلى مسلك الشيخ تكون شارحة لأصل الحكم.

هذا ما أفاده قدس سره نقلناه مع توضيح وتلخيص (1).

والكلام معه في مقامين :

المقام الأول : في ضابط الحكومة وبيان حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام.

أما ضابط الحكومة ، فقد أسهبنا القول فيه في غير هذا المقام. والّذي نختاره يتعارض مع ما ذكره قدس سره .

ومجمله : ان يكون الدليل الحاكم متعرضا وناظرا بمدلوله اللفظي للدليل المحكوم ، سواء كان تعرضه بالتفسير والدلالة المطابقية ، كما إذا تكفل التفسير بمثل كلمة : « أعني ». أو كان تعرضه بالظهور السياقي ونحوه ، نظير قوله : « لا شك لكثير الشك » بالنسبة إلى أدلة أحكام الشك. ولا يختلف الحال فيه بين ان يكون متعرضا للموضوع فيضيقه أو يوسعه ، وبين أن يكون متعرضا للحكم مباشرة ، نظير أدلة نفي الحرج المتكفلة لنفي الأحكام الحجية.

ومن هنا كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم ، بحيث يكون الحاكم لغوا بدون المحكوم لارتباطه به ونظره إليه.

واما حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام ، فهي تكون واضحة بعد

ص: 433


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /213- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

بيان هذا الضابط للحكومة ، بناء على مختار الشيخ ومختار صاحب الكفاية.

إذ هي على مختار الشيخ تكون ناظرة إلى نفي الأحكام المستلزمة للضرر ، فتكون متفرعة عن أدلة الأحكام الأولية. كما أنها على مختار صاحب الكفاية تكون موجبة للتصرف في موضوع أدلة الأحكام الأولية بإخراج الموضوع عنها.

ومنه اتضح حكومتها على مختارنا في مدلولها من تكفلها نفي الضرر حقيقة ، ونظرها الأصلي إلى نفي الحكم أو إثبات التحريم. فلاحظ.

وأما على المسلك القائل بان مفادها النهي عن الضرر فقط ، فلا تستلزم الحكومة ، وسيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالى عند التعرض لمورد تعارض دليل نفي الضرر مع دليل يتكفل الحكم بالعنوان الثانوي كدليل نفي الحرج ، ومورد تعارض الضررين. فانتظر.

المقام الثاني : في بيان بعض المؤاخذات على كلامه قدس سره . وهي عديدة :

الأولى : فيما أفاده من ان بيانية الخاصّ للعام بحكم العقل ، بحيث يكون تقدمه عليه بحكم العقل بعد ملاحظته التنافي بين الحكمين. فانه يرد عليه.

أولا : انه لا دخل للعقل في تقديم أحد الدليلين على الآخر ، وليس ذلك من مهماته ، فهل يختار العقل تقديم الخاصّ ولا يختار تقديم العام؟.

وثانيا : انه التزم في مبحث التعادل والترجيح ان الخاصّ مقدم على العام بالقرينية ومقتضاه عدم ملاحظة أقوائية ظهور الخاصّ ، بل يقدّم الخاصّ ولو لم يكن ظهوره أقوى من ظهور العام بل كان أضعف ، نظير تقديم ظهور : « يرمي » في رمي النبل على ظهور : « أسد » في الحيوان المفترس ، لأجل أنه قرينة ، ولو كان ظهوره في معناه أضعف من ظهور أسد في معناه.

وما التزم به هناك مناف لما أفاده هاهنا من تقدم الخاصّ بحكم العقل أو بالأظهرية ، فلاحظ.

ص: 434

الثانية : فيما أفاده من لزوم تأخر الدليل الحاكم عن الدليل المحكوم زمانا.

فانه يرد عليه : ان الضابط الّذي تقدم بيانه للحكومة وإن اقتضى تفرع الحاكم على المحكوم. لكنه لا يقتضي تفرعه عليه تفرع المعلول عن العلة والمسبب عن السبب كي لا يصح تقدمه زمانا ، بل انما يقتضي كون الحاكم من شئون الدليل المحكوم وتوابعه ، وهذا لا ينافي تأخر المحكوم وجودا.

نعم ، غاية ما يلزم هو ثبوت المحكوم وتحققه ولو في زمان متأخر ، إذ من الممكن ان يكون الشيء من توابع شيء آخر مع تقدمه زمانا ، كتهيئة الطعام للضيف قبل الظهر مع انه من شئون مجيئه للدار المتأخر زمانا. فتدبر.

الثالثة : فيما أفاده في وجه تقدم الحاكم على المحكوم من عدم المعارضة بينهما. فانه يرد عليه :

أولا : ان الدليل الّذي يتكفل هدم موضوع الدليل الآخر ، انما لا ينافيه إذا كان تصرفه فيه تكوينيا ، نظير تصرف الأمر بالأهم في موضوع الأمر بالمهم في باب الترتب ، لا ما إذا كان تصرفه فيه تعبديا ، لأن مرجع النفي التعبدي للموضوع إلى نفي الحكم نفسه ، فيتنافى مع دليل إثبات الحكم لذلك الفرد ، والدليل الحاكم كذلك ، لأنه يتكفل نفي الموضوع تعبدا وتنزيلا لا حقيقة.

وثانيا : ان الدليل الحاكم لا ينحصر فيما يتكفل نفي الموضوع ، بل من الأدلة الحاكمة ما يتكفل نفي الحكم مباشرة ، بل قد جعله قدس سره من أوضح افراد الحكومة.

ومثل هذا الدليل يصادم الدليل المحكوم في مدلوله وينافيه. فما أفاده قدس سره لا يمكن الاعتماد عليه.

والّذي ينبغي ان يقال في وجه تقديم الحاكم على المحكوم ، هو : ان تقدمه عليه للقرينية ، إذ بعد ثبوت نظره للدليل المحكوم وتعرضه له يعدّ عرفا قرينة

ص: 435

على تشخيص المراد بالمحكوم.

وبالجملة : انه لا إشكال في كون الدليل المتكفل لتفسير الدليل الآخر بكلمة : « أعني » ونحوها ، يكون مقدما على الدليل الآخر عرفا لقرينيته عليه ، ولا يرى العرف أي تناف بينهما ولا حيرة في الجمع بينهما.

ومثل هذا الدليل الّذي يكون ناظرا إلى الدليل الآخر بدون كلمة التفسير ، لأنه أيضا يعدّ قرينة عرفا. فكلا نحوي الحاكم يكون مقدما بملاك القرينية. غاية الأمر أن قرينية النحو الأول بالنص وقرينية النحو الثاني بالظهور ، وهو لا يكون فرقا فارقا ، فتدبر. هذا تمام الكلام في الحكومة.

وأما الخامس : وهو دعوى التوفيق العرفي التي بنى عليها صاحب الكفاية. فتوضيح ما أفاده قدس سره : انه ذكر ان دليل نفي الضرر انما يتكفل في حال الضرر نفي الحكم الثابت للفعل بعنوانه الضرر ، وذلك لأن ظاهر دليل نفي الضرر كون الضرر علة للنفي ومانعا من ثبوت الحكم المنفي ، فلا يمكن ان يشمل الموارد التي يكون الضرر مقتضيا لثبوت الحكم ، إذ المقتضي للحكم يمتنع ان يكون مانعا عنه.

ومن هذا البيان انتقل إلى تقدّم دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام بلا ملاحظة النسبة بينهما ، إذ بعد استظهار العرف من دليل نفي الضرر كون الضرر مانعا من ثبوت الحكم وأنه يرتفع بالضرر ، يوفّق بين الدليلين بحمل الأدلة الأولية على بيان الحكم الاقتضائي وان الضرر مانع عن فعلية الحكم.

ثم قال بعد كلام له : « هذا ، ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله كما قيل » ويمكن أن يرجع قوله : « كما قيل » إلى نفي الحكومة ، وانه ليس ، امرا تفردنا به بل قيل به. كما يمكن ان يرجع إلى نفس الحكومة ، وهي المنفي ، فيكون إشارة إلى دعوى الشيخ رحمه اللّه ، والأمر سهل.

ص: 436

وكيف ما كان فما أفاده قدس سره في بيان تقدم دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام الأولية يبتني على كون المستفاد من دليل نفي الضرر ان الضرر مانع من ثبوت الأحكام ، فتكون مرتفعة بثبوته لوجود المانع.

ولا يخفى عليك ان ما أفاده قدس سره يرجع في الحقيقة إلى دعوى نظر دليل نفي الضرر إلى أدلة الأحكام وتعرضه لها ، فينطبق عليه تعريف الحكومة على رأي الشيخ ، فيتقدم دليل نفي الضرر بهذا البيان بالحكومة.

نعم ، لما كان قدس سره لا يلتزم بان الحكومة هي مطلق النّظر ، بل هي النّظر بالشرح والتفسير المطابقي ، مثل ان يقول : « أعني » لم يعلّل التقدّم هاهنا بالحكومة بل علّله بالتوفيق العرفي.

فهو في ملاك التقديم يشترك مع الشيخ رحمه اللّه ولكنه يختلف معه في عنوان التقدّم ، فالاختلاف بينهما لفظي اصطلاحي ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

هذا فيما يرجع إلى جهة السلب في كلامه - أعني : تكفل دليل نفي الضرر نفي الأحكام الأولية وعدم ثبوتها -.

وأما ما يرجع إلى جهة الإيجاب وهي حمل العرف لأدلة الأحكام الأولية علي بيان الحكم الاقتضائي في مورد الضرر.

فقد وقعت مورد النقض والإبرام ممن تأخر عنه ، وبحث في معقولية الحكم الاقتضائي وما المراد منه؟. وفي مقدّمة من تعرض لذلك بإسهاب المحقق الأصفهاني رحمه اللّه (1).

وبما انه لا أثر عمليا للبحث في ذلك فعلا فالأولى ترك التعرض له إلى مجال آخر.

والخلاصة : هي ان أدلة نفي الضرر حاكمة على أدلة الأحكام الأولية بناء

ص: 437


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 324 - الطبعة الأولى.

على تكفلها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرري ، أو تكفلها نفي الحكم المستلزم للضرر.

وأما دعوى التوفيق العرفي ، فهي في واقعها ولبّها ترجع إلى دعوى الحكومة بحسب مصطلح الشيخ رحمه اللّه وانما الاختلاف اصطلاحي.

ثم ان ما أفاده صاحب الكفاية في وجه التقدم من ظهور دليل نفي الضرر في مانعية الضرر ، انما هو متفرع على ما استفاده من كون الحديث متكفلا لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

ولا يتأتى على سائر الأقوال في مفاد حديث نفي الضرر ، إذ لا ظهور في نفي الحكم المستلزم للضرر في كونه مانعا من الحكم وعلة للنفي ، إذ لم يؤخذ الضرر في موضوع النفي كي يستظهر عليته له ، كما هو الحال على مسلك صاحب الكفاية. فانتبه ولا تغفل واللّه سبحانه العالم.

التنبيه الثاني : في ان الضرر المنفي بحديث نفي الضرر هل يراد به الضرر الواقعي ، سواء علم به المتضرر أم لم يعلم ، أو يراد به الضرر المعلوم؟.

الّذي ذكره المحقق النائيني رحمه اللّه في هذا المقام ، هو : ان مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعية لا المعلومة كون المراد بالضرر المنفي الضرر الواقعي لا المعلوم (1).

لكن يظهر من الشيخ رحمه اللّه في باب الوضوء اشتراط علم المكلف بكون الوضوء ضرريا في جريان دليل نفي الضرر ، فلو توضأ وهو يعتقد عدم الضرر فبان الضرر بالوضوء كان وضوءه صحيحا (2).

كما انه يظهر من غير واحد في المعاملة الغبنية اشتراط الجهل بالغبن

ص: 438


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /215- المطبوعة ضمن غنية الطالب.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة /151- الطبعة الأولى.

في جريان دليل نفي الضرر لإثبات الخيار ، فلو علم بالغبن لم يثبت الخيار.

كما انه في غير هذين الموردين سلكوا مسلكا آخر ، فجعلوا المدار على الضرر الواقعي علم به أم لم يعلم ، ولذا حكموا بأنه ليس للمالك حفر البئر في داره إذ استلزم ضرر الجار ولو لم يعلم الجار بالضرر.

ومن هنا يحير الإنسان ، ويقع الإشكال في اعتبار العلم بالضرر في مورد الوضوء ، واعتبار الجهل به في مورد البيع الغبني ، وعدم اعتبار العلم ولا الجهل في مورد ثالث. هذا ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه .

ثم إنه تصدى لحل الإشكال في باب الوضوء ، وان أخذ العلم ليس من جهة كون المراد بالضرر هو الضرر المعلوم ، كي يتصادم هذا الالتزام مع الالتزام بعدم اعتبار العلم في غير مورد ، بل أخذ العلم بالضرر في مورد الوضوء منشؤه وجهان :الأول : ان قاعدة نفي الضرر قاعدة امتنانية واردة بملاك الامتنان ، فلا تجري فيما كان إجراؤها خلاف المنّة ، بان استلزم إيجاد كلفة على المكلف.

وهذا هو المانع من إجرائها في مورد الوضوء المتقدم ، لأن إجراء حديث نفي الضرر فيه يستلزم الحكم ببطلان وضوئه السابق وصلاته لو فرض أنه صلّى به ، فتجب عليه إعادة الوضوء والصلاة ، وهو إيقاع للمكلف في الكلفة ، وهو ينافى التسهيل والامتنان.

الثاني : ان حديث نفي الضرر انما يرفع الحكم إذا كان موجبا للضرر ، بحيث يكون هو الجزء الأخير للعلة التامة للضرر ، وفيما نحن فيه ليس الحكم بوجوب الوضوء كذلك ، فان الضرر لا يستند إليه ، بل منشأ الضرر هو جهل المكلف واعتقاده عدم الضرر ، ولذا لو فرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع المكلف في الضرر لجهله بترتبه على الفعل. وبعبارة أخرى : انك قد عرفت ان الحديث يتكفل نفي الحكم بلسان نفي الضرر من باب ان نفي السبب ملازم لنفي

ص: 439

المسبب ، وهذا المعنى لا يتأتى في المورد ، لأن نفي الحكم فيه لا يستلزم نفى الضرر ، بل المكلف يقع في الضرر على كل حال كان الحكم بالوضوء ثابتا أم لم يكن. إذن فلا يتكفل الحديث نفي الحكم في مثل هذه الصورة.

نعم ، لو كان مفاد الحديث نفي الحكم عن الموضوع الضرري ، فلا وجه للتقييد بالعلم بالضرر فيما نحن فيه ، إذ الوضوء ضرري ويستند إليه الضرر بلا كلام ، فينتفي حكمه بمقتضى حديث نفي الضرر. ولكن هذا المذهب غير صحيح كما تقدم.

هذا ما أفاده قدس سره في حل الإشكال. ومقتضاه اعتبار الأمرين في عدم وجوب الوضوء ، الضرر الواقعي والعلم به ، ومن هنا قد يتوجه إشكال ، وهو : ان لازم ذلك انه لو اعتقد الضرر ولم يكن ضرر في الواقع لم يسقط عنه وجوب الوضوء ، فلو كان صلى عن تيمم لزمه إعادة الصلاة ، لعدم انتقال فرضه إلى التيمم. مع ان المشهور عدم وجوب الإعادة ، مما يكشف عن كون اعتقاد الضرر ذا موضوعية بنفسه.

وقد دفع قدس سره هذا الإشكال : بان ظاهر عدم الوجدان في الآية الكريمة : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ... ) (1) هو الأعم من الواقعي والعلمي ، واعتقاد الضرر يدرج المكلف في من لم يجد الماء ، إذ المراد من عدم الوجدان عدم التمكن من استعمال الماء ، إما لعدم وجوده وإما لعدم القدرة على استعماله لمانع شرعي أو عادي ، ولذا لو اعتقد عدم وجود الماء في راحلته وصلى متيمما ثم تبين وجود الماء أفتوا أيضا بصحة الصلاة ، وليس ذلك إلا من باب ان عدم الوجدان أعم من عدم الوجود واقعا أو اعتقادا.

ثم إنه قدس سره تعرض لمطلب استطرادي ، وهو : انه إذا انقلب

ص: 440


1- سورة النساء ، الآية : 43 ، وسورة المائدة ، الآية : 6.

الفرض إلى التيمم كما لو كان الوضوء ضرريا وعلم به ، فهل يصح وضوءه لو أراد أن يتوضأ أم لا؟. ذهب قدس سره إلى عدم صحته ، إذ ما يمكن تصحيح الوضوء به إما دعوى اشتمال الوضوء على الملاك. واما دعوى تعلق الأمر به بنحو الترتب وأما دعوى ان الأمر بالتيمم رخصة لا عزيمة. وإما دعوى ان حديث نفي الضرر يرفع اللزوم لا الجواز. والجميع باطل.

أما الأول : فلأن مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة المشروعية ، فلا يثبت فيه الملاك ، لعدم وجود كاشف له.

وأما الثاني : فلما ثبت في محله من عدم جريان الترتب في الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا.

وأما الثالث : فلأن التخصيص بلسان الحكومة يكشف عن عدم شمول العام للفرد الخارج ، فلا معنى لاحتمال الرخصة.

وأما الرابع : فلان الحكم بسيط لا تركب فيه ، فلا معنى لرفع اللزوم دون الجواز.

وقد ذكر قدس سره بعد ذلك : انه لو لا توهم بعض الأعاظم وحكمه بصحة الوضوء الحرجي - لورود نفي الحرج مورد الامتنان فلا يكون الانتقال إلى التيمم عزيمة - لما كان للبحث عن صحة الوضوء في مورد الضرر مجال ، ولا فرق بين نفي الحرج ونفي الضرر في ذلك ، لاشتراكهما في كونهما حاكمين على أدلة الأحكام.

هذا مجموع ما أفاده قدس سره في مسألة الوضوء.

ولنا على كلامه ملاحظات :

الأولى : ان نفي وجوب الوضوء وإيجاب التيمم أجنبي عن حديث نفى الضرر بالمرّة ، ولا تصل النوبة إلى تحكيم : « لا ضرر » فيه ، كي يقع الكلام في حدود تطبيقها ومورد جريانها.

ص: 441

والوجه في ذلك : ان المعلوم ضرورة من الأدلة فرض المكلف على قسمين ، واجد للماء بمعنى متمكن منه ، وفاقد له بمعنى غير متمكن منه. والأول موضوع وجوب الوضوء. والثاني موضوع وجوب التيمم. بحيث يعلم انه لا يشرع التيمم أصلا في حق المتمكن ، كما لا يشرع الوضوء في حق غير المتمكن.

وعليه ، فنقول : إن الضرر الناشئ من استعمال الماء سواء أكان واقعيا أم معلوما ، إما ان يكون مستلزما لصدق عدم التمكن من استعمال الماء فلا يشرع الوضوء لعدم موضوعه ، فلا معنى لتحكيم : « لا ضرر » في نفيه ، إذ لا وجوب له كي ينفي ب- : « لا ضرر ». واما لا يستلزم ذلك ، بل يصدق التمكن من استعمال الماء فيشرع الوضوء ولا مجال لنفيه ب- : « لا ضرر » وإثبات وجوب التيمم ، لما عرفت من ان الواجد موضوع للوضوء مطلقا ولا يكون موضوعا لوجوب التيمم.

وبالجملة : إدراج مسألة التيمم والوضوء في مصاديق قاعدة نفي الضرر غير وجيه ، إذ لا مجال لتحكيمها في حال من الأحوال.

وبعد ان تعرف هذا ، لا يهمنا تحقيق الوجهين اللذين ذكرهما لعدم تطبيق : « لا ضرر » ومقدار صحتهما ، وإن كنا قد أشرنا سابقا إلى عدم صحة الأول منهما. فراجع.

وأما حلّ الإشكال - بناء على ما سلكناه - فهو بان يقال : انه مع اعتقاد عدم الضرر يصدق التمكن عرفا من استعمال الماء ولو كان مضرا واقعا ، فيندرج في موضوع وجوب الوضوء فيكون صحيحا. كما أنه مع اعتقاد الضرر وليس في الواقع كذلك يكون الوضوء حرجيا ، إذ الإقدام على ما يعتقد إضراره حرجي ، فيصدق عدم التمكن العرفي ، فيصح تيممه وإن لم يكن الماء مضرا له واقعا.

الثانية : ان ما ذكره في مقام حلّ الإشكال الثاني ، وهو مورد التيمم مع اعتقاد الضرر بلا ان يكون الوضوء ضرريا واقعا ، من ان عدم الوجدان المأخوذ

ص: 442

في الآية أعم من الواقعي والاعتقادي ، وإن كان تاما بالبيان الّذي عرفته من كون اعتقاد الضرر مستلزما لصدق عدم التمكن من الماء للحرج فيشرع التيمم. إلا انه من المحقق النائيني ليس كما ينبغي ، إذ موضوع كلامه تطبيق قاعدة نفي الضرر وعدمه ، وان المأخوذ في الموضوع هو الضرر مع العلم به أو غير ذلك ، فنقل الكلام إلى مدلول الآية الكريمة لا يخلو من خلط. ومفاد : « لا ضرر » لا يعيّن مفاد الآية الكريمة كما لا يخفى.

وقد عرفت انه مع العمل بالآية الكريمة ونحوها من الأدلة لا مجال لقاعدة نفي الضرر بالمرة ، فانتبه.

الثالثة : ومركزها الجهة الاستطرادية التي أشار إليها ، وهي ما لو توضأ مع كون الوضوء ضرريا وكان عالما بذلك ، فانه حكم ببطلان وضوئه لعدم المصحح. ولكن ما أفاده غير تام على مبناه من الالتزام بان حديث نفي الضرر وارد مورد الامتنان وبملاكه ، وذلك لأن مقتضى كون رفع التكليف امتنانا وإرفاقا هو ثبوت الملاك للحكم ، وانما لم يجعله المولى امتنانا على عبده ، إذ لو لم يكن للحكم ملاك ، فعدم جعله يكون لعدم ملاكه لا لأجل الامتنان ، فلا منّة في رفعه حينئذ. إذن فكونه في مقام الامتنان قرينة على ثبوت الملاك ، فيمكن تصحيح العمل بذلك.

نعم ، ما أفاده يتم على ما اخترناه من عدم ظهور كون الرفع بملاك الامتنان والإرفاق ، وإن كان رفع الحكم بنفسه إرفاقيا ، لكنه غير كونه بملاك الإرفاق. فانتبه.

ثم انه قدس سره ذكر في صدر كلامه ثبوت الإشكال في الصوم المضر أيضا ، إذ كان معتقدا عدم الضرر فيه ، فانهم حكموا بصحة الصوم مع ثبوت الضرر فيه واقعا.

ولا يخفى عليك ان باب الصوم يختلف عن باب الوضوء ، إذ ليس لدينا في باب الصوم تكليفان وعملان يبحث في إجزاء أحدهما عن الآخر. فلا يتأتى

ص: 443

فيه الإشكال الثاني - أعني لو اعتقد الضرر فأفطر ولم يكن في الواقع مضرا - ، إذ لا يحتمل إجزاء الإفطار عن الصوم كي يبحث في صحته.

نعم ، هو يشترك مع الوضوء في الإشكال الأول. وحلّه بوجوه :

منها : ان المأخوذ في موضوع الصوم خوف الضرر لا نفسه. ومن الواضح انه مع اعتقاد عدم الضرر لا خوف في الوقوع في الضرر ، فيكون مشروعا.

ومنها : ما أشار إليه المحقق النائيني من ورود الحديث مورد الامتنان ، ونفى مشروعية الصوم والحال هذه خلاف المنّة كما لا يخفى. وتحقيق ذلك في محله في كتاب الصوم. فراجع.

هذا كله فيما يرتبط بأخذ العلم بالضرر في بعض الموارد كالوضوء والصوم.

وأما ما يرتبط بأخذ الجهل بالضرر ، كمورد المعاملة الغبنية التي اعتبر في ثبوت الخيار بمقتضى : « لا ضرر » الجهل بالغبن. فقد تصدى المحقق النائيني إلى حلّ الإشكال فيها ، وان سبب التقييد بالجهل لا يرجع إلى عدم أخذ الضرر الواقعي موضوعا ، بل إلى جهة أخرى يقتضيها المقام بالخصوص. وهي : انه إذا وقع المعاملة مع العلم بالغبن وتفاوت الثمن ، فقد أقدم على الضرر ، ومع اقدامه على الضرر لا يكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي بنحو يكون هو الجزء الأخير لعلة الضرر ، بل يستند الضرر إلى اقدام المشتري ، ويكون الحكم الشرعي من المقدمات الإعدادية للضرر ، فلا يرتفع بحديث نفي الضرر ، لأن ما يرتفع به هو الحكم الّذي يستند إليه الضرر استناد المعلول إلى الجزء الأخير من علته.

وهذا الوجه قابل للمنع ، فان الضرر لا يترتب على اقدام المشتري على الشراء ، وإنما يترتب على حكم الشارع بعد الإقدام على الشراء ، بصحته أو لزومه ، فانه مترتب على الإقدام وإيقاع المعاملة ، فيكون هو الجزء الأخير لعلة

ص: 444

الضرر ، فيكون مرفوعا بحديث نفي الضرر.

وقد وجّه التفصيل بين صورتي العلم بالغبن والجهل به : بان الحكم بعدم اللزوم في مورد العلم بالغبن خلاف المنّة والتسهيل.

وفيه : ما أشرنا إليه من عدم ثبوت كون الحديث واردا بملاك الامتنان بنحو يكون علة للنفي يدور مداره وجودا وعدما.

فالصحيح ان يقال في وجه التفصيل هو ما أشرنا إليه في مقام تحقيق معنى الحديث من : أن المستفاد من الحديث هو نفي الضرر الصادر من خصوص الغير ، ومع العلم بالضرر في المعاملة لا يستند الضرر إلى البائع خاصة ، كما هو الحال في صورة جهل المشتري ، بل يستند إلى كل من البائع والمشتري بنحو الاشتراك ، فلا يكون مرفوعا بالحديث (1). فراجع تعرف.

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

والمتحصل : ان الضرر المنفي بحديث : « لا ضرر » هو الضرر الواقعي بلا ان يتقيد بجهل أو بعلم ، وإنما يكون الجهل أو العلم دخيلا في تطبيق القاعدة في بعض الموارد لأجل خصوصية في المورد. فالتفت.

يبقى الكلام فيما تعرض له أخيرا من الفروع التي قد يتوهم التنافي بينها بأنفسها أو بين بعضها ، وما ذكره من ان الإقدام على الضرر في التكليفيّات لا يوجب عدم حكومة القاعدة عليها ، وفي الوضعيات موجب لذلك ، وهي :

أولا : لو أقدم على موضوع يترتب عليه حكم ضرري ، كمن أجنب نفسه متعمدا مع كون الغسل ضرريا ، إن هذا الإقدام لا يوجب عدم جريان قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الغسل. ومثله ما لو شرب دواء يتضرر معه بالصوم ، فان الصوم يسقط عنه لأجل الضرر.

ص: 445


1- مقتضى ذلك عدم ثبوت الخيار في صورة جهل البائع أيضا إذ لا يستند الضرر إلى كل منهما ( المقرر ).

وثانيا : ما لو غصب لوحا من شخص ونصبه في سفينته ، فانه يقال بجواز نزع مالك اللوح لوحه من السفينة وان تضرر مالكها بلغ ما بلغ ما لم يؤد إلى تلف نفس محترمة. فالإقدام في هذا الفرع يمنع من جريان : « لا ضرر » في حق الغاصب.

وثالثا : ما لو استأجر أرضا إلى مدة وبنى فيها بناء أو غرس فيها شجرا يبقى بعد انقضاء زمان الإجارة فانه يقال : ان لمالك الأرض هدم البناء أو قلع الشجر وإن تضرر به المستأجر.

وقد ذكر قدس سره انه لا تنافي بين هذه الفروع وما تقدم ، كما ان هنا فرقا بين الفرع الأول منها وبين الفرعين الأخيرين ، وذلك فان المجنب نفسه أو شارب الدواء لم يكن مكلفا بالغسل والصوم حال الإجناب وشرب الدواء ، بل التكليف بهما بعد الإجناب وشرب الدواء. ومن الواضح ان الغسل والصوم ضرريان ، فيكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي ، والإقدام على الإجناب وشرب الدواء لا ينفي الاستناد المذكور ، لأن فعله بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم الضرري ، وفعله في ظرفه مباح لا ضرر فيه. وأما غاصب اللوح ، فهو مأمور قبل النصب بالرد ، ولم يكن الرد في حقه ضرريا قبل النصب لكنه بعصيانه ومخالفته التكليف بالرد أقدم على إتلاف ماله ، فإقدامه وإرادته هي الجزء الأخير لعلة الضرر ، وليست إرادته واقعة في طريق امتثال الحكم كي يستند الضرر إلى الحكم - كما هو الحال في الغسل والصوم - ، بل هي واقعة في طريق عصيان الحكم ومخالفته ، فالضرر يستند إلى إقدامه لا إلى الحكم الشرعي بوجوب الرد. ومثله الكلام في مسألة الغرس في الأرض المستأجرة ، فانه مع علمه بعدم استحقاقه للغرس بعد مضي مدة الإجارة ، فبغرسه قد أقدم على الضرر ، ولا يستند الضرر إلى الحكم الشرعي بل إلى إقدامه.

ثم إنه أضاف في مسألة غصب اللوح ونصبه في السفينة إلى ما ذكره في

ص: 446

عدم شمول : « لا ضرر » وجهين آخرين :

الأول : ان كسر السفينة ليس ضررا على صاحبها ، لأنه مع كون اللوح مغصوبا فصاحب السفينة لا يكون مالكا لتركيب السفينة ، وإذا لم تكن الهيئة الخاصة مملوكة له لم يكن رفعها ضررا عليه ، لأن الضرر هو النقص في المال الّذي يملكه ، فحال نزع اللوح بعد النصب حال انتزاعه من الغاصب قبل النصب.

الثاني : انه قد دل دليل على انه ليس لعرق ظالم حق (1) ، فيدل على عدم ثبوت الحرمة لماله ، فلا تشمله القاعدة تخصصا ، لأنها انما تنفي الضرر الوارد على المال المحترم.

وقد أطال قدس سره في تحقيق الفرق بين هذه الفروع ، ولا يهمنا نقل غير ما ذكرناه من كلامه فانه العمدة.

ولكنه لا يخلو عن إشكال ، بيان ذلك : ان محل الكلام في مسألة اللوح المغصوب ما إذا كان نزع اللوح يوجب تضرر مالك السفينة بغرق سفينته أو تلف متاعه المحمول عليها لدخول الماء في السفينة. وأما إذا لم يلزم منه سوى خراب نفس هيئة السفينة ، كما لو كانت على الأرض ، فلا يستشكل أحد في جواز أخذ مالك اللوح لوحه ، وانه يجوز له ذلك كما كان يجوز له أخذ لوحه قبل التركيب والنصب.

وبعد ذلك نقول : إنه قدس سره ذكر وجوها ثلاثة في عدم جريان : « لا ضرر » في هذا الفرع.

وجميعها محل منع :

أما الأول : وهو دعوى استناد الضرر إلى إقدامه وعصيانه التكليف بالرد الثابت قبل النصب ففيه :

ص: 447


1- وسائل الشيعة 17 / 311 ، حديث : 1.

أولا : ان التكليف بالرد يتعدد بتعدد الأزمنة وينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد الأزمنة ، ففي كل آن يكون هناك تكليف بالرد ، ولأجل ذلك يتعدد العصيان.

وعليه ، فالتكليف بالرد قبل تحقق النصب غير التكليف بالرد بعد تحققه ، وهو بالنصب لم يتحقق منه سوى عصيان عن التكليف بالرد السابق ، وهو ليس بضرري.

وأما التكليف بالرد بعد النصب فهو ضرري. والنصب ليس عصيانا له كي يكون إقداما على المخالفة والضرر ، بل الضرر يستند إليه لا إلى إرادة المكلف ، بل إرادة المكلف الأول للنصب تكون بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم الشرعي بالرد بعد النصب ، وهذا التكليف ضرري ، إذ إرادة الرد معلولة له والرد في هذا الحال يستلزم الضرر ، فيستند الضرر إلى الحكم لوجوبه.

وبهذا البيان ظهر أنه لا فرق بين هذا المثال والفرع الأول في كون الإقدام ليس على الضرر وانما هو مقدمة إعدادية لثبوت الحكم الضرري ، وان أساس الفرق كان يبتني على ملاحظة التكليف بالرد تكليفا واحدا ، وقد عرفت انه غير صحيح.

وثانيا : ان الإقدام على الضرر في مثال المثال لا يرفع نسبة الضرر إلى الحكم لأنك قد عرفت في مسألة المعاملة الغبنية ، ان الجزء الأخير لعلة الضرر هو الحكم الشرعي ، فلا فائدة في الأقدام.

وثالثا : ان الإقدام على الضرر انما يصدق بحيث يستند الضرر إلى الأقدام لا إلى الحكم ، فيما إذا فرض عدم شمول حديث « لا ضرر » لمورد الإقدام ، وإلا فلا ضرر كي يقال انه أقدم عليه ، وعدم شمول « لا ضرر » يتوقف على ثبوت الإقدام على الضرر بحيث يصح اسناد الضرر إلى الإقدام لا إلى الحكم ، وهذا دور واضح.

وبعبارة أخرى : ان الإقدام على الضرر إنما يصدق إذا كان المكلف عالما

ص: 448

بعدم رفع الحكم الضرري ، أما إذا لم يعلم ذلك بل هو أقدم على العمل موطنا نفسه على ما يحكم به الشارع بعد ذلك ، فلا يكون ذلك إقداما على الضرر بل هو إقدام على الضرر على تقدير حكم الشارع عليه لا له ، فلا يمكن ان يحكم الشارع عليه استنادا إلى إقدامه على الضرر فانه خلف.

وقد أشار إلى بعض هذا الإشكال المحقق الأصفهاني في بعض كتاباته الفقهية فراجع حاشية المكاسب مبحث خيار الغبن (1).

وأما الوجه الثاني : وهو دعوى ان نزع اللوح من السفينة لا يوجب ضررا على مالكها لعدم ملكيته الهيئة التركيبية الحاصلة من نصب اللوح.

ففيه ما عرفت من : ان محل الكلام ما إذا استلزم النزع ضررا زائدا على فوات الهيئة التركيبية للسفينة.

وأما الوجه الثالث : وهو التمسك بما ورد من انه ليس لعرق ظالم حق ، ففيه : ان ذلك يقتضي عدم احترام مال الظالم والغاصب والمرتبط بنفس المغصوب كأن يوجد عملا في المغصوب ، كما لو غصب فضة فصاغها خاتما ، فانه لا يحكم بشركته في الخاتم أو بثبوت الأجرة له كما هو الحال لو صاغها غير الغاصب. ولا يقتضي عدم احترام جميع أمواله ، لجميع آلات الصياغة ، فانه مما لا قائل به ولا يقتضيه الدليل المزبور.

وعليه ، فغصب اللوح لا يقتضي عدم احترام الألواح الراجعة إليه أو المال المحمول على السفينة ، كي يجوز الإضرار به ، فانتبه ولا تغفل.

والّذي يتحصل : ان ما أفاده قدس سره من الوجوه الثلاثة في مسألة اللوح المغصوب غير تام.

وعليه ، نقول إذا تم ما يقال من ان الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال ، فقد

ص: 449


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. حاشية المكاسب2/ 54 - الطبعة الأولى.

يستظهر منه جواز نزع المالك اللوح وان أوجب ضررا على الغاصب. وتحقيق ذلك موكول إلى مبحث الغصب من كتب الفقه.

وأما مسألة الغرس الباقي بعد انقضاء مدة الإجارة ، فقد حققنا الكلام فيه بإسهاب في مبحث خيار الغبن في مسألة تصرف الغابن في العين تصرفا موجبا للزيادة. فراجع. واللّه سبحانه العالم.

التنبيه الثالث : في شمول الحديث للأحكام العدمية ، كما انه شامل للأحكام الوجودية. وتوضيح ذلك : انه لا إشكال في ان حديث نفي الضرر يوجب التصرف في الأحكام الوجودية فيخصصها بغير مورد الضرر. وإنما الإشكال في شمولها للأحكام العدمية إذا ترتب عليها الضرر. مثال ذلك : ما إذا حبس حرا غير أجير ففات عمله ، فان قواعد الضمان لا تشمل مثل ذلك ، لعدم كونه إتلاف مال - نعم لو كان المحبوس عبدا أو حرا أجيرا ، يكون الحبس إتلافا لمال المالك والمستأجر ، فيكون الحابس ضامنا -. وعليه يقال : إن عدم الضمان حكم ضرري لاستلزامه الضرر على الحر لفوات عمله ، فهل يشمله حديث نفى الضرر ، ومقتضاه ثبوت الضمان والتدارك هاهنا؟. ومثله ما لو كان بقاء الزوجة على الزوجية مضرا بها ، وكان الزوج غائبا ، فان عدم كون الطلاق بيدها أو بيد الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين يكون ضرريا. ونحوه ما إذا كان العبد تحت الشدة ، فيكون عدم عتقه ضرريا. فيقع الكلام في شمول : « لا ضرر » لمثل ذلك ، فيقتضي ثبوت حق الطلاق للزوجة أو لغيرها في مثال الزوجة ، وثبوت الحرية للعبد في مثاله.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى عدم شمول الحديث للأحكام العدمية ، وقد أطال في تحقيق ذلك والاستدلال عليه ، والّذي يتلخص من كلامه وجوه ثلاثة :

الأول : ان حديث : « لا ضرر » انما يشمل الأحكام المجعولة شرعا ، لأنه

ص: 450

ناظر إلى ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية ، وعدم الضمان ونحوه من الأمور العدمية ليست أحكاما شرعية مجعولة من قبل الشارع.

وما يدعى من : ان العدم حدوثا وان لم يستند إلى الشارع ، لأنه ناش من عدم علة الوجود لا وجود علة العدم إلا انه بقاء يستند إليه ، ولذا صح تعلق النهي بمجرد الترك وعدم الفعل بلحاظ ان عدم الفعل بقاء يستند إلى المكلف.

يندفع : بان ذلك وإن كان موجبا للقدرة على العدم وهي المصححة للتكليف ، لكن لا يصحح اسناد العدم إلى الشارع ما لم يتعلق به جعل شرعي.

الثاني : ان لازم الالتزام بشمول الحديث للحكم العدمي ، ثبوت الضمان في المثال المتقدم ، وهذا يعني تكفل الحديث لنفي الضرر غير المتدارك ، وهذا المعنى قد تقدم بطلان استفادته من الحديث وتوهينه ، وأنه أردأ الوجوه.

الثالث : ان لازم الالتزام بعموم الحديث للأحكام العدمية تأسيس فقه جديد ، لاستلزامه في مثال الزوجة ثبوت حق الطلاق للحاكم الشرعي وهو مما لا يلتزم به (1).

وهذه الوجوه بأجمعها غير تامة :

أما الأول : فلأنه بعد فرض القدرة على العدم بحيث يكون تحت الاختيار ، كيف لا يستند العدم إليه؟ ، فان نفي استناد العدم إليه وعدم صدوره منه مساوق لنفي القدرة عليه ، وهو خلف فرض القدرة على الوجود.

وأما الثاني : فلأن المستهجن هو ان يكون مفهوم الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك بهذا المفهوم كما تقدمت الإشارة إليه.

أما ان يكون مفهوم الحديث نفي الحكم الضرري الّذي يتفق في النتيجة والأثر مع نفي الضرر غير المتدارك ، لإثباته التدارك في بعض الموارد ، فهذا مما لا

ص: 451


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /220- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

استهجان فيه أصلا. والّذي يستتبعه الالتزام بعموم الحديث للأحكام العدمية هو ذلك ، لا كون معنى الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك ، فلا استهجان فيه.

وأما الثالث : فلأن ما جعله مثالا واضحا لتأسيس الفقه الجديد وهو مثال الزوجة ، مما يلتزم فيه - أخيرا - بثبوت الحق للحاكم في الطلاق عملا ببعض النصوص (1).

وقد صرح قدس سره : بالتزام السيد صاحب العروة رحمه اللّه به (2) محتجا عليه بقاعدة نفي الحرج ونفي الضرر ، فكيف يكون الالتزام بثبوت حق الطلاق للحاكم الشرعي من تأسيس فقه جديد؟.

فما أفاده في الاستدلال على عدم شمول الحديث للأحكام العدمية لا نراه تاما سديدا.

والتحقيق : هو صحة ما أفاده من أصل الدعوى ، فنحن لا نلتزم بشمول الحديث للأحكام العدمية. وتقريب ذلك : ان استناد الضرر انما يتحقق بالتسبيب إليه وإيجاد ما يستلزمه. وأما عدم إيجاد المانع عن الضرر ، فهو لا يحقق اسناد الضرر ، فمثلا إذا فعل شخص ما يستلزم ورود الضرر على آخر استند إضراره إليه ، وأما إذا رأى ضررا متوجها إلى الآخر وكان قادرا على دفعه فلم يدفعه ، لم يستند الضرر إليه أصلا. وعليه فبما ان الضرر المنفي هو الضرر المستند إلى الشارع ، فيختص النفي بما إذا كان مترتبا على الحكم الوجوديّ ، فانه يصحح اسناد الضرر إلى الشارع. أما المترتب على عدم الحكم ، بحيث كان الشارع متمكنا من جعل الحكم الوجوديّ المانع منه ، فلا يستند إليه ، فلا يتكفل الحديث رفعه. ولا يهمنا بعد ذلك ان يكون عدم الحكم مستندا إلى الشارع أو ليس

ص: 452


1- وسائل الشيعة 15 / 389 ، باب 23.
2- اليزدي الفقيه السيد محمد كاظم. ملحقات العروة الوثقى1/ 70 - الطبعة الأولى.

بمستند.

ولا معنى لقياس المورد بمورد استصحاب عدم الحكم ، لاختلاف الملاك في الاستصحاب ونفي الضرر.

ويمكن ان يقرب أيضا : بان مفاد حديث نفي الضرر ليس إلاّ نفى الأحكام المجعولة المستلزمة للضرر ، لا انه يجعل ما ينفي الضرر.

وبعبارة أخرى : كأن الشارع يقول : « انا لم أجعل الحكم المستلزم للضرر ». ولا يقول : « انا جعلت ما ينفي الضرر » وفرق واضح بين المفادين.

ولا يخفى ان الحكم العدمي وان استند إلى الشارع بقاء ، لكن استناده من باب عدم جعل الوجود لا من باب جعل العدم. إذن فالعدم ليس من المجعولات الشرعية.

كما انه يمكن ان يقال : ان مفاد : « لا ضرر » هو نفي الحكم خاصة ، فلا تتكفل إثبات الحكم ، فلسانها لسان نفي صرف لا لسان إثبات ، والعمدة في هذه التقريبات هو ما ذكرناه أولا. فتدبره.

وأما مسألة الزوجة تحت الضيق مع غياب الزوج أو امتناعه عن الطلاق ، فالحكم المستلزم للضرر فيها وجودي لا سلبي عدمي. فان الموجب لوقوع الزوجة في الضيق - بعد المفروغية عن عدم زوال العلقة الزوجية بغير الطلاق - هو حصر حق الطلاق بالزوج ، وهو أمر ثبوتي منتزع من جعل حق الطلاق للزوج وعدم جعله لغيره ، وقد بيّنه الشارع بمثل : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (1) ، ومثله وإن لم يكن حكما مجعولا ، إلا انه لما كان منتزعا من الحكمين المجعولين أمكن نفيه شرعا بحديث لا ضرر.

فلو قيل : إنه يلزم منه تأسيس فقه جديد ، لم يكن إيرادا على شمول

ص: 453


1- عوالي اللئالي 1 / 234 ، حديث : 137.

الحديث للأحكام العدمية ، لأن المنفي أمر وجودي. فتدبر.

ثم انه قد يوجّه عدم شمول الحديث لمورد الحكم العدمي : بأنه قد تقدم ان الحديث لا نظر له إلى الأحكام الواردة مورد الضرر ، كالضمان والحدود والدّيات. وبما ان الحكم العدمي في مورده ضرري ، كعدم الضمان فانه ضرري على الحر المفوّت عمله. ولم يثبت بإطلاق دليل كي تكون له حالتان ، بل ثبت بالإمضاء الثابت في كل مورد بخصوصه ، فهو ثابت في مورد الضرر رأسا. وفيه :

أولا : انه ليس مطردا في جميع أمثلة الحكم العدمي. فمثل نفي حق الطلاق لغير الزوج ثابت مطلقا بمثل : « الطلاق بيد من أخذ بالساق ». أعم من مورد الضرر وعدمه ، فيمكن أن يكون مشمولا لحديث نفي الضرر ، بناء على ان المنفي أمر عدمي لا ثبوتي.

وثانيا : ان الحكم الّذي لا يكون لحديث نفي الضرر نظر إليه هو الحكم الثابت بعنوان الضرر ، كقتل النّفس وإعطاء الزكاة ونحوها.

أما الحكم الّذي يثبت في مورد الضرر لا بعنوان الضرر ، بل بعنوان آخر يلازم حصول الضرر ، فهو خارج عن عموم حديث نفي الضرر بالتخصيص لا بالتخصص.

وعليه ، ففي مورد توهم مثل ذلك الحكم يرجع إلى عموم حديث نفى الضرر ، كما هو الحال في كل مورد يشك فيه في التخصيص. والحكم العدمي المتوهم على تقدير ثبوته من قبيل الثاني ، إذ لم يثبت بعنوان الضرر ، بل بعنوان مستلزم للضرر. فتدبر.

التنبيه الرابع : في كون المراد بالضرر هل الضرر الشخصي أو النوعيّ؟.

والمراد بالضرر النوعيّ إما ما يترتب بالنسبة إلى غالب المكلفين ، أو ما يترتب على غالب أفراد الفعل. فتارة يراد به نوع المكلف. وأخرى يراد به نوع الفعل. وعلى كل فالمراد به ما يقابل الضرر الفعلي الوارد على كل شخص.

ص: 454

ولا يخفى عليك ان المتعين الالتزام بان المراد به هو الضرر الشخصي ، لأن الضرر كسائر الألفاظ موضوع للمفاهيم الواقعية ، وهو ظاهر في الفعلية دون الاقتضائية أو النوعية. فحين يتكفل الحديث نفي الضرر عن المكلف ، فظاهره نفي الضرر الفعلي الوارد عليه. ولا وجه لحمل الكلام على خلاف ظاهره. وهذا المطلب واضح جدا لا يحتاج إلى مزيد بحث.

وأما استدلال المحقق النائيني رحمه اللّه على كون المراد هو الضرر الشخصي بورود الحديث مورد الامتنان ، وبكونه حاكما على أدلة الأحكام الأولية (1). فلم أعرف وجهه ، إذ من الممكن أن يقال : إن الحديث وإن كان واردا مورد الامتنان ، لكن الملحوظ هو الامتنان بحسب النوع. كما انه حاكم على أدلة الأحكام إذا ترتب عليها الضرر نوعا.

وبالجملة : الالتزام بإرادة الضرر النوعيّ لا ينافي الالتزام بالحكومة والامتنان ، فتدبر جيدا.

التنبيه الخامس : في تعارض الضررين وما يتناسب معه من فروع.

ذكر المحقق النائيني قدس سره في التنبيه السادس : ان مقتضى ورود الحديث في مقام المنّة عدم وجوب تحمل الإنسان الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه ، ولا وجوب تدارك الضرر الوارد عليه ، بمعنى انه لا يجب رفعه عن الغير كما لا يجب دفعه. وهكذا لا يجوز توجيه الضرر الوارد إليه إلى الغير ، فلو توجه سيل إلى داره ، فان له دفعه ولا يجوز توجيهه إلى دار غيره ، لتعارض الضررين وعدم المرجح لأحدهما على الآخر.

ومقتضى ذلك انه لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بحيث يلزم من رفع أحدهما الحكم بثبوت الآخر ، هو اختيار أقلهما ضررا ، ولا يختلف الحال بالنسبة

ص: 455


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /222- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

إلى شخص واحد أو شخصين ، فان المفروض ان نفي الضرر من باب المنة على العباد ولا ميزة لأحد على أحد في هذه الجهة ، فان الكل عبيد اللّه سبحانه.

فكما يختار الشخص الواحد أخف الضررين لو تعارضا بالنسبة إليه ، كذلك الأمر إذا تعارض الضرران في حق شخصين ، فانه مع عدم المرجح يحكم بالتخيير ، إذ المورد من موارد تزاحم الحقّين لا من موارد التعارض ، كي يحكم بالتساقط والرجوع إلى سائر القواعد.

إلا ان يدعى الفرق بين توجه الضررين إلى شخص واحد ، وبين توجههما إلى شخصين ، بأنه ..

إذا توجها إلى شخص واحد يختار أخفهما لو كان وإلا فالتخيير.

وأما إذا توجها إلى شخصين ، كالتولي من قبل الجائر الّذي يكون تركه ضررا على المتولي ، والإقدام عليه ضررا على الغير ، فلا وجه للترجيح أو التخيير ، إذ هو من موارد تحمل الضرر المتوجه إلى الغير ، وقد عرفت عدم وجوبه إذ الضرر متوجه أولا وبالذات إلى الغير فلا يجب على المكره دفعه عنه وتحمله.

نعم ، لو أكرهه الجائر على دفع مقدار من المال لم يجز له ان ينهب من أموال الناس ويدفع الضرر عن نفسه بذلك ، فانه من موارد توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير ، وقد عرفت عدم جوازه. ومسألة الولاية من قبل الجائر من قبيل الأول.

وعلى هذا ، فما أفاده الشيخ رحمه اللّه في المكاسب في مسألة التولي من قبل الجائر من الفرق بين الفرضين هو الصواب (1). لا ما ذكره في رسالته المعمولة لهذه المسألة من لزوم ملاحظة أخف الضررين بالنسبة إلى الشخصين ، كالضررين المتوجهين إلى شخص واحد (2).

ص: 456


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب /58- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة لا ضرر /374- المطبوعة ضمن المكاسب.

نعم ، لو أريد من عبارة الرسالة صورة ورود ضرر من السماء يدور أمره بين شخصين ، كما إذا أدخلت الدّابّة رأسها في القدر من دون تفريط أحد المالكين ، ودار الأمر بين كسر القدر أو قتل الدّابّة كان حسنا. إذ يمكن الالتزام هاهنا باختيار أقل الضررين.

هذا ما أفاده قدس سره في هذا التنبيه مع بعض تلخيص (1).

وكلامه قدس سره يبدو مجملا ولا يخلو من ارتباك. ويتضح ذلك بالتعرض لكل فرض من الفروض المزبورة والتكلم فيه على حدة.

الفرض الأول : تحمل الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه.

ولا يخفى أنه لا مجال لتحكيم قاعدة : « لا ضرر » في هذا الفرض ، لإثبات وجوب تحمل الضرر ، لا من جهة ما أفاده قدس سره من ورود الحديث مورد المنة فلا يجري في مورد يستلزم منه الضرر ، بل من جهة عدم الموضوع لجريانها ، وذلك لأن القاعدة ناظرة - كما عرفت - إلى الأحكام الضررية فتتكفل رفعها.

ومن الواضح انه ليس لدينا في هذا الفرض ومع قطع النّظر عن قاعدة : « لا ضرر » حكم ضرري كي يقال ان رفعه خلاف المنة ، إذ الثابت هاهنا انه لا يجب على الإنسان دفع الضرر عن الغير أو رفعه ولو لم ينشأ منه ضرر عليه ، فلو رأى ضررا متوجها إلى غيره كسيل متوجه إلى داره يستلزم خرابها ، فلا يجب عليه أن يدفع السيل حتى لو لم يستلزم ضررا عليه.

وبعبارة أخرى : ان الثابت فيما نحن فيه ليس إلاّ عدم لزوم دفع الضرر ، وهو أمر عدمي ، وقد عرفت ان الحديث لا نظر له إلى الأمور العدمية الشرعية. إذن فلا مورد للقاعدة هاهنا أصلا.

وبالجملة : لم نعرف وجها لإثبات وجوب تحمل الضرر عن الغير بقاعدة :

ص: 457


1- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /222- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

« لا ضرر » كي يتأتى فيها الكلام الّذي ذكره المحقق النائيني ، فالتفت ولا تغفل.

الفرض الثاني : توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير ، كما لو كان السيل بطبعه متوجها إلى داره ، فيجعل له سدا يدفعه به إلى دار الغير ، أو يدفعه بيده أو بآلة عن داره إلى دار الغير.

وقد عرفت ان المحقق النائيني قدس سره ذهب إلى عدم جوازه لتعارض الضررين.

والّذي نراه : ان المورد ليس من موارد التعارض ، فان مورد التعارض هو ما إذا كان لدينا حكمان متنافيان يترتب على كل منهما الضرر ، بحيث لا يمكن تطبيق القاعدة بالنسبة إليهما ، كمورد إدخال الدّابّة رأسها في القدر الّذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى عن قريب.

ولا يخفى أنه ليس لدينا فيما نحن فيه حكمان كذلك ، بل ليس هنا إلا حكم واحد وهو حرمة توجيه السيل إلى دار الغير من جهة انه إتلاف لماله وإضرار به.

والّذي نلتزم به في هذا المورد بمقتضى الصناعة هو جواز توجيه السيل إلى دار الغير مع ثبوت الضمان عليه. بيان ذلك : ان حرمة الإتلاف أو إضرار الغير ضررية على الشخص ، فترتفع بالقاعدة ، فيثبت هاهنا جواز توجيه السيل.نعم (1) قد يقال : ان حرمة الإتلاف وان كانت ضررية ، إلا ان رفع الحرمة يستلزم الضرر على الغير بإتلاف ماله.

ومن المعلوم ان حديث : « لا ضرر » لا يتكفل نفي الحكم في مورد يستلزم النفي الضرر على الغير ، إما لأجل الامتنان أو لغير ذلك مما هو ملاك نفى

ص: 458


1- هذا ما أفاده الأستاذ ( دام ظله ) في مجلس الدرس ، لكنه عدل عنه إلى ما ذكرناه أخيرا في قولنا : ( لكن نقول ).

الضرر.

وبعبارة أخرى : انه من الواضح ان نفي الضرر انما هو بملاك واقعي في إعدام الضرر وعدم تحققه ، فلا يشمل موردا يستلزم من شموله ترتب الضرر. نعم مع كون الضرر الواقع على الشخص أكثر من ضرر الغير لم يمنع ضرر الغير من تطبيق القاعدة بلحاظ ضرر الشخص ، فيثبت الجواز في خصوص هذه الصورة.

ولكن نقول : إن المفروض أن ضرر الغير المترتب على رفع الحرمة متدارك بالضمان ، والتدارك يرفع صدق الضرر - كما تقدم - ، ولو لم يرفع صدقه ، فمثل هذا الضرر المتدارك لا يمنع من شمول الحديث مع استلزامه له ، إذ لا ينافي ملاك رفع الضرر من امتنان أو غيره.

ثم لا يخفى عليك انه لا مجال لرفع الضمان الثابت بالإتلاف بحديث : « لا ضرر » لما أشرنا إليه غير مرة من ان الحديث لا يشمل الحكم الوارد في مورد الضرر كالضمان. إذن فالضمان ثابت على كل حال.

وقد يقال : إن الحكم بالضمان وان ورد مورد الضرر ، لكن يمكن تحكيم القاعدة فيه ، لا بلحاظ ضرر نفس الضمان ، بل بلحاظ ضرر آخر غير مترتب عليه دائما.

توضيح ذلك : ان الملحوظ - نوعا - في تشريع الحكم بالضمان وجعله هو ردع المكلفين عن إتلاف مال الغير ، إذ بعد التفات العاقل إلى ورود الخسارة عليه عند إتلاف مال غيره لا يقدم على إتلافه ، ونظير هذا الحكم تشريع الحدود والقصاص ، فان الداعي فيه نوعا منع المكلفين من إيجاد موضوعاتها.

ومثل هذا أثر من آثار الحكم ، نظير الارتداع المترتب على المنع التكليفي ، فلو ترتب على الارتداع ضرر ، صح اسناد ذلك الضرر إلى الحكم لأنه من آثاره بلحاظ كون الارتداع من آثار مثل هذا التشريع.

ص: 459

وعليه ، فنقول : ان الحكم بالضمان ضرري هاهنا ، بلحاظ انه يترتب عليه الارتداع عن إتلاف مال الغير ، ويترتب على الارتداع حصول الضرر للشخص من السيل المتوجه إليه. فيمكن تحكيم القاعدة في الضمان بلحاظ هذا الضرر ، وبالنتيجة يرتفع الضمان لو أقدم على إتلاف مال الغير.

ولكن يمنع هذا القول : بان رفع الضمان هاهنا يستلزم ورود الضرر على الغير ، وهو النقص في ماله. وقد عرفت ان حديث نفي الضرر لا يشمل موردا إذا كان يستلزم من شموله ورود الضرر ، لأنه خلاف ملاك نفي الضرر.

وعليه ، فلا يكون الضمان موردا للقاعدة. فيبقى ثابتا بمقتضى دليله. فانتبه.

الفرض الثالث : التولي من قبل الجائر.

وهو ذو صورتين :

الأولى : ان يكون المكره عليه هو الإضرار بالغير ، بحيث يكون الضرر أولا وبالذات متوجها من قبل المكره على الغير ، كما لو أمره الوالي بضرب شخص أو هدم داره وتوعده على تركه بإضراره.

الثانية : ان يكون المكره عليه أمرا ضرريا بالنسبة إلى المكره ، لكن كان يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير.

كما لو أمره بدفع عشرة دنانير وتوعده على ترك العطاء بالضرب ، وكان يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بأخذ عشرة دنانير من الغير ودفعها إليه.

أما الصورة الأولى : فهي على نحوين :

فتارة : ينحصر ظلم الغير بالمكره بحيث لو تركه لا يقوم به أحد غيره.

وأخرى : لا ينحصر به ، بل يتحقق على يده غيره.

أما الأول ، فلا إشكال في ارتفاع الحكم التكليفي فيه ، وهو حرمة إتلاف مال الغير أو التصرف فيه بدون رضاه وغير ذلك بحسب اختلاف الموارد ، لعموم

ص: 460

أدلة رفع الإكراه ودليل نفي الضرر. وأما الحكم الوضعي ، وهو ضمان التالف الثابت بمقتضى دليل : « من أتلف مال غيره فهو له ضامن ».

فقد يقال : بارتفاعه عن المكره ، لأن تشريع مثل هذا الحكم يستلزم ارتداع المكلف عن الإتلاف ، والارتداع هاهنا ضرري ، لأنه مخالفة للجائر المتوعد - وقد تقدم توضيح ارتفاع الضمان بلحاظ مثل هذا الضرر في الفرض الثاني -. ولكن يدفعه : ان رفع الضمان أيضا يستلزم الضرر على الغير ، وهو من أتلفت داره ، وفي مثله لا تجري قاعدة نفي الضرر كما أشرنا إليه في الفرض المتقدم. إذن فيتعين الالتزام بالضمان هاهنا أخذا بعموم دليله.

وأما الثاني ، فلا إشكال أيضا في ارتفاع الحكم التكليفي فيه لدليل نفى الإكراه على نحو ما تقدم ، وأما الضمان فهو مرتفع ، لأن جعله ضرري على المكره لترتب الارتداع عليه المستلزم لا ضرار الجائر به ، ولا يعارضه الضرر الواقع على الغير ، إذ هو واقع على كل حال منه أو من غيره ممن لا يكون بصدد التعويض كنفس الوالي ، فلا يكون تركه مستلزما لدفع الضرر عن الغير كما هو الحال في النحو الأول ، لعدم انحصار الأمر به ، فقد يقوم بالهدم من لا دين له ولا يهتم بدليل الضمان ، وفي مثله لا يكون جعل الضمان مستلزما لعدم الضرر ، ومثل هذا الضرر لا يعارض الضرر المتوجه إلى المكره لو ترك العمل المكره عليه. فالتفت.

وأما الصورة الثانية : فلا وجه للالتزام بجواز نهب مال الغير لدفع الضرر عن نفسه ، لأن دفع الضرر عن نفسه معارض بإضرار الغير. وهو واضح.

الفرض الرابع : ما إذا أدخلت الدّابّة رأسها في القدر بحيث دار الأمر بين كسر القدر وتخليص الدّابّة ، أو قتل الدّابّة وتخليص القدر.

وهاهنا صور ثلاث : الأولى : ان لا يكون ذلك عن فعل شخص ، بل يتحقق بدون اختيار. الثانية : ان يكون بفعل أجنبي. الثالثة : ان يكون بفعل أحد المالكين.

ص: 461

أما الصورة الأولى : فتارة : يكون القدر والثور متساويين في الثمن ، ولنفرض ان قيمة كل منهما عشرة دنانير. وأخرى : يكونان مختلفين فيه ، كما لو كان ثمن القدر عشرة وثمن الثور مائة.

أما إذا كانا متساويين ، فنقول : ان لدينا حكمين أحدهما حرمة إتلاف صاحب القدر ثور الغير لتخليص قدره. والآخر حرمة إتلاف صاحب الثور قدر الغير لتخليص ثوره.

وبما أن كلا من الحكمين ضرري بالنسبة إلى المكلف ، فهما مرتفعان ، وترتب الضرر على الغير بواسطة رفع كل منهما ، يندفع بثبوت الضمان على المتلف المخلّص لماله ، فلا يعارض الضرر الناشئ عن تحريم التصرف ، فيرتفع بلا ضرر ، ولا تعارض بين إجراء : « لا ضرر » في أحدهما وإجرائه في الآخر ، كما ان الضمان لا يمكن الالتزام برفعه بالبيان المتقدم في الفرض الثاني ، لأن في رفعه إضرارا بصاحب المال التالف. إذن فلكل منهما التصرف في مال الغير لأجل تخليص ماله مع ضمان مال الغير.

هذا ، ولكن لا يخفى أنه مع الحكم بالضمان لا يقدم أحدهما على تخليص ماله - بحسب الموازين العقلائية - ، لأنه يفكر أنه سيخسر ما يساوي قيمة ماله الّذي يريد تخليصه ، فأي داع عقلائي يدفعه إلى تخليص ماله؟ فيبقى كل منهما مكتوف اليد.

وفي مثل ذلك يقطع بان الشارع جعل طريقة لتخليص أحد المالين. وعدم بقائهما محجوزين عن الانتفاع. ولا طريقة إلا بأن يلتزم بتوزع الضرر عليهما بالسوية لقاعدة العدل والإنصاف المستفادة والمتصيدة من بعض النصوص ، فإذا خلص أحدهما ماله يدفع إلى الآخر نصف قيمة ماله وهو خمسة دنانير في الفرض. وأما من يقوم بذلك ، فذلك قد يرجع في تعيينه إلى القرعة أو الحاكم الشرعي وقد يتولى الحاكم ذلك بنفسه حسبة.

ص: 462

وأما إذا كانا مختلفين في الثمن ، فلا معنى لأن يحمّل صاحب القدر نصف قيمة الثور لو فرض قتله ، إذ نصف قيمته يزيد على قيمة قدره بأضعاف. بل يقال : إن الضرر الوارد على كل حال وعلى التقديرين بمجرد وضع الثور رأسه في القدر هو ما يكون قيمة القدر وهو عشرة ، وأزيد منه لم يرد فعلا ، فيوزع ذلك بينهما بالسوية.

وطبيعة هذا الأمر تقتضي إتلاف القدر وتخليص الثور ، ودفع خمسة دنانير لصاحب القدر ، إذ في إتلاف الثور إضرار بصاحبه بلا تعويض ، فلا وجه له.

وأما الصورة الثانية : فالأجنبي لا بد ان يخسر قيمة إحدى العينين وهو عشرة - مع التساوي - وليس الوجه فيه : أنه أضر بكل منهما ، إذ لم يتحقق بعمله إتلاف مال كل منهما ، كما انه لم يتحقق منه إتلاف الواحد المردد بينهما ، إذ لا مالية للمردد.

وإنما الوجه فيه : انه بملاحظة مقتضى قاعدة العدل والإنصاف من توزيع الخسارة الواردة على كلا الشخصين بحيث يلزم ان يخسر كل منهما نصف قيمة ماله إذا خلّص ماله وأتلف مال الغير ، تهبط قيمة كل منهما قبل الإتلاف إلى النصف ، بمعنى أن كلا من العينين لا يبذل بإزائه سوى خمسة بملاحظة تعيبه بعمل الأجنبي ، فوجه خسارة الأجنبي هو انه أورد في كل من العينين عيبا أوجب نقص قيمته ، فيؤخذ منه مقدار التفاوت. وعليه فتوزع العشرة المأخوذة من الأجنبي على كلا المالكين فيأخذ كل منهما خمسة.

ثم انه بعد إتلاف أحدهما وتخليص الآخر يدفع من خلص ماله نصف قيمة ماله إلى من أتلف ماله كما تقدم في الصورة الأولى ، فيحصّل أحدهما على ماله ويحصل الآخر علي قيمة ماله وهي عشرة.

وأما الصورة الثالثة : فقد يقال : إن أحد المالكين وهو المسبب قد أورد على صاحبه عيبا في عينه بحيث استلزم نقص قيمتها إلى النصف ، فيلزمه أن يخسر

ص: 463

قيمة هذا الوصف وهو خمسة. ثم بعد تخليص عينه مثلا وإتلاف مال غيره يلزمه ان يدفع خمسة أخرى بمقتضى ما تقدم من توزيع الخسارة الواردة من التلف على كليهما بالسوية. ونتيجة ذلك : ان الخسارة كلها تصير عليه.

ومن هنا قد يشكل : ان المالك المسبب إنما دفع الخمسة أولا بملاحظة النقص الوارد على مال الآخر من جهة توزع الخسارة بمقتضى قاعدة العدل والإنصاف ، فدفع خمسة أخرى بعد الإتلاف يتنافى مع العدل والإنصاف ، إذ مقتضاه ثبوت الخسارة كلها على المالك المسبب لا التوزيع.

وبعبارة أخرى : ان المالك المسبب قد عوّض عن الخسارة التي يستحق صاحبه التعويض عنها وهي النصف ، فأي وجه لأخذ خمسة أخرى منه؟.

وهذا الحكم - أعني تضمين المالك المسبب جميع الخسارة - وإن كان موافقا للذوق والسليقة الفقهية ، لكن تخريجه على القواعد الصناعية مشكل.

ومن هنا ينقدح الإشكال في الصورة الثانية ، فان الأجنبي بعد ما دفع الخسارة الواردة على كل من المالكين بملاحظة قاعدة العدل والإنصاف ، يكون أخذ نصف القيمة الآخر من أحد المالكين ودفعه إلى صاحبه بلا وجه ، إذ الخسارة التي يستحق عوضها هي النصف وقد حصل عوضه ، وأما النصف الآخر فهو مما لا يعوض بمقتضى توزيع الخسارة على المالكين بمقتضى قاعدة العدل والإنصاف.

نعم ، الحكم الّذي تقدم قريب بحسب الذوق الفقهي وإن كان إثباته بحسب القواعد مشكلا.

نعم ، قد يقال : ان الأجنبي لما أورد الضرر بمقدار عشرة دنانير ، فيأخذ الحاكم الشرعي منه المال ، ثم هو يختار في إتلاف إحدى العينين وتخليص الأخرى ثم يدفع العشرة إلى صاحب العين التالفة.

وهذا القول فقهيا وجيه ، لكن لا يمكن تحقيقه على طبق القواعد في باب

ص: 464

الإتلاف والضمان. فتدبر.

وبالجملة : ان الحكم باستحقاق من أتلفت عينه تمام العشرة مسلم لكن الإشكال في وجهه.

هذا تحقيق الكلام في هذه الفروض.

وقد أفاد السيد الخوئي في الصورة الثالثة من الفرض الرابع : ان اللازم إتلاف مال المسبب ، معللا ذلك بلزوم رد المال إلى صاحبه (1).

وفيه : ان مفروض الكلام هو مورد لا يكون مال الغير تحت اليد بحيث يكون مضمونا على ذي اليد ، إذ الكلام في ما يترتب على فعله من هذه الجهة خاصة دون سائر الجهات ، فيفرض الكلام في مورد يكون مسببا في إدخال الثور رأسه في القدر من دون ان يجعل يده على القدر كي يكون ضامنا.

كما انه أفاد : ان الضرر المردد الوارد في الفرض الرابع ليس ضررا من جهة الحكم الشرعي بل هو ثابت مع قطع النّظر عن الحكم الشرعي.

وفيه : انك عرفت ان الضرر فيما نحن فيه ينشأ من الحكم الشرعي بحرمة تصرف كل منهما في مال الآخر وإتلافه ، فلاحظ تعرف.

هذا تمام الكلام في ما يتعلق بما أشار إليه المحقق النائيني من الفروض في التنبيه السادس.

وبقيت صورة واحدة من صور تعارض الضررين ، عقد لها المحقق النائيني التنبيه السابع. وهي : صورة تعارض ضرر المالك مع ضرر غيره كجاره ، كما لو كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره ، وترك تصرفه موجبا لتضرره نفسه (2).

ص: 465


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 563 - الطبعة الأولى.
2- الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر /222- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

وقد أفاد الشيخ رحمه اللّه في هذا المقام : ان المرجع عموم : « الناس مسلّطون على أموالهم » ، ولو عدّ مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا لم يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه ، فيرجع إلى عموم التسلط. ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج ، لأن منع المالك لدفع ضرر الغير حرج وضيق عليه ، إما لحكومته ابتداء على نفي الضرر وإما لتعارضهما ، والرجوع إلى الأصول. هذا ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في المقام (1).

وقد ناقشه المحقق النائيني رحمه اللّه في بعض نقاطه.

وقبل التعرض لذلك ذكر صور تصرف المالك في ملكه المستلزم للضرر على جاره وهي أربعة :

الأولى : ان يكون التصرف في ملكه لدفع ضرر يتوجه عليه بترك التصرف.

الثانية : ان يكون التصرف في ملكه لجلب نفع من دون أن يكون هناك ضرر بتركه.

الثالثة : ان يكون التصرف في ملكه عبثا ولغوا لا لدفع ضرر ولا لجلب نفع مع قصد الإضرار بالجار.

الرابعة : ان يكون التصرف عبثا من دون قصد الإضرار.

ونوقع الكلام في كل صورة على حدة :

أما الصورة الأولى : فقد ذكر المحقق النائيني : ان ظاهر كلمات الأصحاب رعاية ضرر المالك ، فيجوز تصرفه ولو كان ضرر الجار أعظم بل يجعلونه من مصاديق عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير.

وقد عرفت كلام الشيخ رحمه اللّه فيها.

ص: 466


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /317- الطبعة الأولى.

والّذي ذهب إليه المحقق النائيني هاهنا هو : انه لا معنى لتعارض ضرر المالك وضرر الجار ، لأنه لا يمكن ان يصدر حكمان متضادان من الشرع. فالحكم المجعول منه إما جواز تصرف المالك في ملكه ، وإما عدم جوازه.

فإذا كان الحكم هو جواز التصرف ، كما هو مفاد عموم : « الناس مسلطون على أموالهم » ، فلو كان ضرريا على الغير ، كان مرفوعا بقاعدة : « لا ضرر » ، ولو كان ذلك مستلزما لورود الضرر على المالك ، إذ الضرر الناشئ من قبل حكومة : « لا ضرر » على قاعدة السلطنة لا يمكن ان يكون مشمولا لقاعدة : « لا ضرر ».

وإن كان الحكم هو حرمة تصرف المالك ، فهو بما انه ضرري على المالك مرتفع عنه بقاعدة : « لا ضرر » ولو استلزم رفعه الضرر على الجار ، لعدم شمول عموم : « لا ضرر » للضرر الناشئ من قبل تحكيمها.

والسر في ذلك : ان قاعدة : « لا ضرر » حاكمة على الأحكام الثابتة في الشريعة ، فهي ناظرة إلى أدلتها وموجبة لقصرها على غير موارد الضرر. ومن الواضح انه يقتضي فرض الحكم في مرحلة سابقة على القاعدة لتقدم المحكوم رتبة على الحاكم. وعليه فلا يمكن ان يكون دليل : « لا ضرر » شاملا للضرر الناشئ من قبل تحكيمه ، لأنه يقتضي ان يكون ناظرا إليه ومتأخرا عنه ، والمفروض ان هذا الضرر متأخر عن دليل لا ضرر ، فكيف يكون محكوما لدليل : « لا ضرر » ، فانه يلزم منه الخلف.

وهذا الإشكال ثابت ، ولو قيل بشمول مثل قوله : « كل خبري صادق » أو : « كل خبري كاذب » لنفس هذه القضية بتنقيح المناط أو بوجه آخر ، كما في شمول مثل : « صدق العادل » للخبر المتولد من تحكيمه على ما مر في مبحث خبر الواحد.

هذا ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه والّذي قرّبه بحسب الصناعة حكومة : « لا ضرر » على قاعدة السلطنة ، ومقتضاها عدم جواز تصرف المالك ،

ص: 467

لكن في آخر كلامه ذكر وجها لتقديم قاعدة السلطنة ، وهو ان ورود القاعدة مورد الامتنان يقتضي ان لا يكون رفع الضرر موجبا للوضع ، فسلطنة المالك لا ترتفع بضرر الجار إذا كان ترك التصرف موجبا لوقوعه في الضرر.

وعليه ، فالمورد لا يدخل في عموم القاعدة ، فتبقى قاعدة السلطنة بلا مخصص.

وقد ناقش الشيخ رحمه اللّه في بعض نقاط كلامه المتقدم :

منها : ما ذكره قدس سره من شمول دليل نفي الحرج لعدم السلطنة ، باعتبار ان منع المالك عن التصرف في ملكه حرج وضيق عليه.

فقد ناقشه : بان الحرج المنفي في دليل نفي الحرج هو الحرج الطارئ على الجوارح لا على الجوانح ، فالمرفوع ليس هو الحرج النفسيّ والمشقة الروحية ، بل الحرج الخارجي البدني.

ومنها : ما ذكره من احتمال حكومة دليل نفي الحرج على قاعدة نفى الضرر.

فقد ناقشه بوجهين :

أحدهما : ان دليل نفي الحرج كدليل نفي الضرر لا نظر له إلا إلى الأحكام الوجودية دون الأحكام العدمية ، فهو لا يتكفل سوى الرفع دون الوضع. وعليه فإذا تكفل دليل نفي الضرر رفع السلطنة ، فدليل نفي الحرج لا يعارضه ، لأنه لا نظر له إلى عدم السلطنة لأنها حكم عدمي.

والآخر : ان الحكومة تتقوم بنظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى دليل نفي الحرج ، فانه في عرض دليل نفى الضرر ، فلا معنى لفرض نظر دليل نفي الحرج إلى دليل نفي الضرر ، بحيث يؤخذ دليل نفي الضرر متقدما على دليل نفي الحرج ، بل هما دليلان في عرض واحد ناظران إلى الأحكام الثابتة في الشريعة ، فكل منهما يعارض الآخر ، وليس

ص: 468

هنا حاكم ومحكوم. أو فقل : إن كلا منهما في نفسه ناظر إلى الدليل الآخر ، فيتحقق التحاكم المستلزم للتعارض.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره في هذا المقام. وهو بجميع جهاته قابل للمنع.

ولنبدأ بمناقشته للشيخ رحمه اللّه ، فنقول :

أما ما ذكره من ان الحرج المنفي في دليله لا يشمل الحرج الطارئ على الجوانح ، فهو دعوى لا نعرف لها دليلا واضحا ، ومقتضى إطلاق لفظ الحرج في دليل نفيه إرادة الأعم من الحرج الطارئ على الجوارح والحرج الطارئ على الجوانح ، فكل ما يطلق عليه لفظ الحرج كان منفيا. ولا وجه لدعوى عدم صدق مفهوم الحرج على الحرج الجوانحي. فلاحظ.

وأما ما ذكره في مناقشة دعوى الحكومة من الوجهين :

فالوجه الأول ، يندفع : بان مفروض كلام الشيخ رحمه اللّه كون المورد من موارد تعارض الضررين ، بحيث فرض المورد من موارد جريان : « لا ضرر » في حكمين فيتحقق التعارض ، وجعل : « لا حرج » جارية بمكان : « لا ضرر ». وهذا يعني فرض كلا الحكمين وجوديين.

وحل المشكلة ، ان مجرى لا حرج ليس هو عدم السلطنة ، بل منع المالك من التصرف في ملكه. وبعبارة أخرى : حرمة التصرف المؤدى إلى ضرر الجار ، وهو حكم وجودي لا عدمي.

وأما الوجه الثاني : فلأن كلا من دليل نفي الضرر ودليل نفي الحرج وان كان دليلا موضوعه العنوان الثانوي ومقتضى ذلك كونهما في عرض واحد ، لكن نقول : إن دلالة أحدهما على عموم موضوعه لمورد الآخر إذا كانت أقوى من دلالة الآخر على العموم كان عموم الأقوى هو المقدم. ويلتزم بعدم عموم الآخر ، وتكون النتيجة هي حكومة القوي دلالة.

ص: 469

وذلك نظير ما إذا كان الدليل المحكوم في بعض الافراد نصا في دلالته ، فانه يقدم على الدليل الحاكم وان كان ناظرا إلى الدليل المحكوم. فان النصوصية بنظر العرف تقدم على جهة النّظر ، فمثلا لو كان : « أكرم كل عالم » نصا في زيد الفاسق العالم لأنه مورده - مثلا - ثم ورد ان العالم الفاسق ليس بعالم ، فانه لا يشمل زيدا ، وإن كان ناظرا إلى دليل : « أكرم كل عالم » ، والنّظر إليه يوجب تقديمه عليه بحسب العرف ، لكن لكونه نصا في ذلك الفرد ، فالنصوصية تكون مقدمة على كون الحاكم ناظرا.

ونظير ذلك - وليس منه - ما نحن فيه ، فان عموم دليل نفي الضرر لجميع الأحكام ليس بالتصريح ، وانما هو من باب ان حذف المتعلق يفيد العموم ، أو من باب عدم البيان في مورد البيان.

وأما عموم دليل نفي الحرج لجميع الأحكام فهو بالنص والتصريح. لقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، والدين اسم لمجموع الأحكام والقواعد المجعولة. فيكون نظره إلى موارد الضرر بالنصوصية.

وأما نظر دليل نفي الضرر إلى موارد الحرج فهو بالإطلاق ونحوه. ولا يخفى ان عموم دليل الحرج أقوى فيكون مقدما ، ويلتزم بعدم شمول دليل الضرر لموارد الحرج. ونتيجة ذلك حكومة قاعدة : « لا حرج » على قاعدة : « لا ضرر ».

فما أفاده الشيخ رحمه اللّه من احتمال الحكومة ليس بعيدا عن الصواب.

وأما ما ذكره النائيني قدس سره : من ان مورد تعارض ضرر المالك مع ضرر الجار ليس من موارد تعارض الحكمين الضرريين ، بل ليس هنا إلا حكم واحد ضرري ورفعه وان استلزم الضرر لكن الضرر الناشئ من قبل تطبيق قاعدة نفي الضرر لا يمكن ان يكون مشمولا لدليل نفي الضرر للزوم الخلف.

فهو بظاهره وإن كان محل منع واضح ، إذ يمكن حل الإشكال المزبور

ص: 470

بالالتزام بانحلال نفي الضرر إلى افراد متعددة بعدد افراد الأحكام الضررية ، فيكون النفي المتعلق بالحكم الناشئ من قاعدة : « لا ضرر » غير النفي الّذي نشأ منه الحكم الضرري فلا خلف. نظير حل الإشكال في شمول دليل حجية الخبر لخبر الواسطة.

ولكن يمكن أن يكون مراده وجها آخر غير ما هو ظاهر العبارة ، وهو :ان دليل نفي الضرر إذا تكفل نفي السلطنة وجواز تصرف المالك لكونه ضرريا على الجار ، ثبت بذلك حرمة التصرف في الملك. فإذا أريد تطبيق : « لا ضرر » بالنسبة إلى هذه الحرمة باعتبار انها ضررية على المالك ، كان معنى ذلك نفى : « لا ضرر » ، لأن الحرمة ثابتة بالقاعدة ، فإذا فرض نفيها كان معناه عدم جريان القاعدة وعدم تماميتها ، وهو معنى نفي قاعدة : « لا ضرر ». وهذا يقتضي ان يلزم من وجود القاعدة عدمها.

وبما ان منشأ ذلك هو إطلاق : « لا ضرر » بحيث يشمل الضرر الناشئ من تطبيقها ، كشف ترتب هذا المحذور عن عدم وجود الإطلاق ، بحيث يشمل الضرر الناشئ من قبل نفس القاعدة ، ويترتب على ذلك ان الحرمة الناشئة من قبل تطبيق : « لا ضرر » في قاعدة السلطنة لا تكون مشمولة للقاعدة وإن كانت ضررية ، إذ الإطلاق يلزم منه أن يكون تطبيق : « لا ضرر » في قاعدة السلطنة - بما انه يهيئ موضوعا آخر للقاعدة - مستلزما لعدمه وهو محال ، فيرتفع الإطلاق لأنه منشأ المحذور العقلي.

وهذا المحذور يشابه المحذور من شمول مثل : « كل خبري كاذب » للقضية نفسها ونحوه مما يتكفل حكما سلبيا. ولا يتأتى مثل هذا في مثل : « كل خبري صادق » في شموله لنفسه ، أو مثل : « صدق العادل » في شموله لخبر الواسطة ، بل المحذور فيه ليس إلاّ محذور الطولية والتأخر والتقدم الرتبي الّذي يندفع في محله بالالتزام بالانحلال أو بتنقيح المناط ونحو ذلك.

ص: 471

ولكن لا يخفى عليك انه يمكن منع ما ذكره بهذا التقريب الّذي ذكرناه : بأنه انما يلزم إذا كان موضوع نفي الضرر هو الحكم الضرري المحقق ، نظير قوله : « كل خبري كاذب » في كون موضوعه الخبر المتحقق خارجا.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ يمتنع ان يكون المنفي بلا ضرر هو الحكم الثابت المحقق ، إذ نفيه خلف تحققه ، لأن المراد بنفي الضرر نفي حدوثه لا نفى بقائه ، كي لا يتنافى مع فرض ثبوته.

وانما المنفي بقاعدة : « لا ضرر » هو الحكم الضرري المقدر ، بمعنى ان كل حكم إذا فرض وجوده كان ضرريا ، فهو مرتفع وغير ثابت. وإذا كان الحال كذلك لم يمتنع ان يشمل أحد افراد نفي الضرر حكما ضرريا ناشئا من فرد آخر ، ولا يلزم منه المحذور المتقدم.

وذلك لأن شموله لذلك الحكم ليس متفرعا على تحققه كي يكون نفيه مستلزما لانتفاء نفس ذلك الفرد ، فيكون الفرد محققا لموضوع ما ينفيه ، بل يكون شموله متفرعا على فرض وجوده وتقديره ، فيقال : الحرمة إذا ثبتت هاهنا تكون ضررية فتنفى ب- : « لا ضرر ». فنفيه بهذا الفرد يكون منافيا لإثباته بالفرد الأول فيتحقق التعارض بينهما ، فان الفرد الأول لعموم : « لا ضرر » يستلزم ثبوت هذا الحكم ، والفرد الآخر يستلزم نفيه ، ولا يكون الفرد الثاني من آثار الفرد الأول كي يقال ان الفرد الأول يستلزم ما ينفيه فيلزم من وجوده عدمه.

وأما ما ذكره من الوجه الفقهي لعدم شمول قاعدة نفي الضرر لعموم السلطنة ، فسيعلم ما فيه من مطاوي ما نذكره في تحقيق المختار في المسألة.

وتحقيق الحال في هذا الفرع ، هو : ان قاعدة السلطنة وجواز تصرف المالك في ملكه لا يكون مشمولا لقاعدة نفي الضرر لوجهين :

أحدهما : ان الجواز والإباحة ليس من الأحكام المستتبعة للضرر ، فلا يلزم من جعلها الضرر ، كما لا يلزم من رفعها رفع الضرر ، فعدم جعل الإباحة لا يعني

ص: 472

التحريم ، بل يعني ان المولى لا دخل له في الفعل نفيا وإثباتا. نعم عدم اللزوم يمكن ان يقال ان في رفعه رفعا للضرر ، لكنه أمر عدمي لا يشمله عموم نفى الضرر.

الثاني : ان عموم السلطنة لا يشمل مورد ترتب الإضرار على الغير من التسلط. فهل يدعى أحد أن عموم السلطنة يقتضي جواز تصرف المالك في سكينة بذبح شاة الغير؟ فهو لا يتكفل سوى جعل السلطنة في الجملة. إذن فدليل السلطنة يقصر عن شمول ما نحن فيه كي يكون مشمولا لنفي الضرر.

وعليه ، فالحكم الّذي يكون موردا للقاعدة ليس إلا حرمة الإضرار بالغير أو إتلاف ماله ، وبما ان حرمة الإتلاف ضرري على المالك فترتفع ب- : « لا ضرر » ، فيثبت جواز التصرف له ، فليس المورد من موارد تعارض الحكمين الضررين.

ودعوى : ان رفع الحرمة يستلزم الضرر على الجار فكيف يرفع التحريم ب- : « لا ضرر »؟.

تندفع بما أشرنا إليه غير مرة من أن ضرر الغير متدارك بالضمان ، فلا يزاحم ضرر المالك. وكون جعل الضمان ضرريا بلحاظ اثره قد عرفت انه لا يصحح جريان : « لا ضرر » فيه ، فراجع الفرض الثاني.

وعليه ، فالذي نلتزم به : انه يجوز للمالك التصرف في ملكه مع ضمانه التلف الوارد على مال الغير.

هذا إذا كان الضرر الوارد على الغير مضمونا كالضرر المالي.

أما لو لم يكن مضمونا ، كالضرر العرضي أو الأذى النفسيّ. فنلتزم بارتفاع حرمة الإيذاء لأنها ضررية على المالك.

ودعوى : كون ذلك خلاف ملاك دفع الضرر ، لاستلزامه الضرر على الغير.

تندفع : بأن الشيء الثابت كون الملحوظ في نفي الضرر هو الضرر المالي

ص: 473

وما يشابهه ، لا مثل الإيذاء الروحي. فترتب الأذى النفسيّ على تحكيم : « لا ضرر » ليس منافيا لملاك نفي الضرر. نعم (1) إذا ترتب الضرر في العرض أمكن الالتزام بعدم ارتفاع التحريم.

وأما الصورة الثانية : فالحكم فيها هو الحكم في سابقتها ، لو قلنا بان عدم النّفع ضرر مشمول لحديث نفي الضرر. وهو مشكل على إطلاقه وقد تقدم الكلام فيه في أوائل البحث في بيان معنى الضرر.

وأما الصورة الثالثة : فلا وجه لارتفاع حرمة إتلاف مال الغير أو إضراره فيها ، لعدم كونها ضررية على المالك. ومنه يظهر الحكم في الصورة الرابعة ، فلاحظ وتدبر.

هذا تمام الكلام في حديث نفي الضرر وشئونه. ويقع الكلام بمناسبة الضرر في حرمة الإضرار بالنفس. والكلام في مقامين :

الأول : في ثبوت حرمة الإضرار بالنفس كإضراره ببدنه أو بماله.

الثاني : في نسبة دليل حرمة الإضرار بالنفس - لو تم - مع أدلة الأحكام الثابتة الشاملة بعمومها مورد الضرر مع التعارض.

أما الكلام في المقام الأول ، فقد أهمله السيد الأستاذ ( دام ظله ) ، باعتبار ان عمدة ما يمكن ان يستدل به على حرمة الإضرار بالنفس هو حديث نفي الضرر ، بناء على استفادة جعل تحريم الضرر منه ، فيشمل بعمومه ضرر النّفس.

ولكن الظاهر من حديث نفي الضرر إرادة ضرر الغير لا النّفس ، فلا يكون دليلا على حرمة ضرر النّفس.

فلا بد في استفادة حرمة الضرر من مراجعة الأدلة في الأبواب المختلفة ،

ص: 474


1- لعل وجهه أن مورد رواية سمرة الضرر العرضي.

فلعله يمكن ان يستنبط منها تحريم إضرار النّفس.

وهذا مما لا يسعه المجال فعلا. ومن هنا نقل الكلام رأسا إلى ..

المقام الثاني : وتحقيق الحال فيه : ان الكلام تارة في الأحكام الترخيصية. وأخرى في الأحكام الإلزامية.

أما الحكم الترخيصي ، فالإباحة ثبوتا تتصور على أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون ملاك الإباحة هو كون الفعل لا اقتضاء فيه بنفسه للإلزام بأحد طرفيه ، بل كان وجوده وعدمه على حد سواء.

الثاني : ان تكون الإباحة لأجل وجود مصلحة اقتضائية في عدم الإلزام بأحد الطرفين وإباحة الفعل له. ولكن كان موضوع ذلك هو الفعل الّذي لا اقتضاء فيه للإلزام ، بمعنى : ان المصلحة الملزمة في جعل الإباحة انما تكون في خصوص هذا المورد.

الثالث : ان تكون الإباحة لأجل وجود مصلحة ملزمة في جعلها ، بلا ان يتقيد موضوعها بما لا اقتضاء فيه للإلزام ، بل كانت المصلحة الملزمة في جعل الإباحة في مطلق موارد الفعل.

فان كان دليل الإباحة يدل على الإباحة بالنحو الأول ، فلا يعارض دليل حرمة الإضرار بالنفس ، بل دليل الحرمة هو المحكم ، إذ ما يدل على عدم اقتضاء الفعل بنفسه للإلزام بأحد طرفيه لا يتنافى مع الدليل الّذي يدل على اقتضاء الترك فيه لأجل الضرر. ولذا قيل ان ما لا اقتضاء فيه لا يتنافى مع ما فيه الاقتضاء.

وإن كان الدليل يدل على الإباحة بالنحو الثاني ، فالأمر كذلك ، لأن دليل حرمة الإضرار بالنفس يثبت وجود المقتضي للإلزام بالترك في مورد الضرر ، فيخرج المورد عن موارد مصلحة جعل الإباحة.

وإن كان الدليل يدل على الإباحة بالنحو الثالث ، كان معارضا لدليل

ص: 475

حرمة الضرر كما لا يخفى.

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأما بحسب مقام الإثبات ، فالظاهر عرفا من دليل الإباحة كونه من النحو الأول ، ولذا لا يرى هناك تعارض عرفا بين دليل السلطنة على النّفس أو المال وبين دليل تحريم إضرار الغير أو النّفس ، بل قد عرفت ان العرف لا يرى ان دليل السلطنة يشمل موارد الإضرار بالغير ، فلاحظ.

ومن هنا يظهر الحكم في تعارض دليل الاستحباب مع دليل حرمة الضرر بالنفس.

وأما الحكم الإلزامي ، كالوجوب ، فهو على نحوين ، لأن عموم الدليل تارة يكون بدليا ، ويكون الضرر في أحد افراده ، كالصلاة بالكيفية المخصوصة. وأخرى يكون شموليا أو بدليا ، ويكون الضرر في أصل الطبيعة ، كالوضوء الضرري أو الصوم الضرري الواجب كصوم شهر رمضان أو الصوم المنذور.

ففي الأول : لا تعارض بين دليل التحريم الشامل لهذا الفرد وبين دليل الواجب ، لأن دليل الوجوب يتعلق بالطبيعة ، ويترتب على ذلك الترخيص في تطبيق الواجب على كل فرد من أفراده ، فالتعارض في الحقيقة بين دليل الترخيص في تطبيق الطبيعة على هذا الفرد الضرري ، وبين دليل تحريم الضرر ، وقد عرفت حكم تعارض دليل الترخيص مع دليل حرمة الضرر.

وبعبارة واضحة : ان الترخيص في تطبيق الطبيعة على كل فرد انما هو بلحاظ تساويها في تحصيل الواجب بلا مانع. ومع وجود ملاك التحريم في أحدها - لأجل الضرر - لا يكون دليل الترخيص شاملا له لوجود مفسدة ملزمة في هذا الفرد ، فلا معنى للترخيص عقلا أو شرعا فيه فلاحظ.

وفي الثاني : يتحقق التعارض بين الدليلين ، إذ مقتضى إطلاق الوجوب ثبوت الحكم حتى في مورد الضرر ، ولو بلحاظ ذات الواجب. ومقتضى إطلاق

ص: 476

الحرمة ثبوت الحرمة في مورد الوجوب ، فيتعارضان للتنافي بين الوجوب الثابت للشيء ولو بلحاظ ذاته وبين الحرمة الثابتة له بلحاظ عنوان ثانوي طارئ.

وليس كذلك الحال في دليل الإباحة لأنه وان شمل بإطلاقه مورد الضرر ، إلاّ انه يدل على إباحة الشيء بلحاظ نفسه. ومن الواضح انه لا تنافي بين إباحة الشيء بعنوانه الأولي وبين حرمته بعنوان ثانوي. فتدبر.

لكن يهون الخطب ان المثال المذكور للمعارضة خارج عن ذلك ، لأن وجوب الوضوء يرتفع رأسا بمجرد خوف الضرر لا من جهة عدم التمكن عرفا من استعمال الماء مع ترتب الضرر عليه ، أو فقل : إن دليل تحريم الضرر رافع لموضوع وجوب الوضوء لأخذ القدرة العرفية فيه والممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، فلا تصل النوبة إلى المعارضة ، وهكذا الحال في الصوم الواجب الرمضاني أو النذري إذ أخذ في موضوع وجوب الصوم القدرة ، كما انها مأخوذة في موضوع وجوب الوفاء بالنذر كما حقق في محله. فلاحظ. وتدبر.

واللّه سبحانه ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل. انتهى مبحث نفى الضرر - الأربعاء 13 - 2 - 1392 ه-.

ص: 477

ص: 478

الفهرس

الشبهة الموضوعية

الجهة الأولى : في الدليل على البراءة شرعا... 7

رواية : عبد اللّه بن سنان... 7

رواية : كل شئ لك حلال... 8

رواية : مسعدة بن صدقة... 9

الجهة الثانية : تقريب قاعدة قبح العقاب بلا بيان... 10

الجهة الثالثة : في ضابط ما تجري فيه البراءة... 14

فصل : في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة... 21

ما إذا كان الوجوب والحرمة توصليين والأقوال فيه... 22

كلام الكفاية في جريان البراءة شرعا... 23

كلام المحققين النائيني قدس سره والأصفهاني قدس سره في نفي الجريان وما يتوجه عليه 23

القول بلزوم الالتزام والاخذ بأحدهما وما يرد عليه... 27

القول بجريان أصالة الإباحة وما يرد عليه... 30

ما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة في وقائع متعددة... 32

ص: 479

ما إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديا... 35

تخصيص الوجوه المذكورة بالتوصليين... 36

دعوى الكفاية في استقلال العقل بالتخيير فيما إذا لا يحتمل الترجيح في أحدهما وعدم تماميتها 38

هل ان دوران الأمر بين شئ من كونه شرطا أو جزا وكونه مانعا من دوران الأمر بين المحذورين أم لا؟ 40

مبحث الاشتغال

فصل : في الشك في المكلف به... 45

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين... 46

توجيه كلام الكفاية وبيان عدم وجود التهافت في كلماته في المقام... 46

بيان حقيقة العلم الاجمالي وتعيين متعلقه... 49

تصدير تعلق العلم بالفرد المردد... 49

ايراد المحقق النائيني قدس سره من على تعلق العلم بالفرد المردد والمناقشة فيه... 52

تصوير تعلق العلم بالجامع وبيان المختار فيه... 54

شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الاجمالي... 61

كلام الشيخ في بيان عدم شمول الأدلة... 62

تحقيق الكلام في المقام... 63

تفصيل بين الأصول التنزيلية وغيرها... 67

توضيح كلام الشيخ في التزامه جريان الاستصحاب في بعض موارد العلم الاجمالي وعدمه في بعض آخر 67

منجزية العلم الاجمالي... 69

استلزام العلم الاجمالي حرمة المخالفة القطعية... 70

ص: 480

حكم العقل بالمنجزية تنجيزي أم تعليقي... 70

منجزية العلم ثابتة بلحاظ حكم الشارع لا العقل... 73

استلزام العلم الاجمالي وجوب الموافقة القطعية... 73

ثمرة القول بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة والقول باقتضائه له... 74

تحقيق القول في تنجيز العلم الاجمالي بلحاظ الموافقة القطعية... 78

هل اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية هو تساقط الأصول أم التخيير... 82

انكار المحقق النائيني قدس سره للتخيير والمناقشة فيه... 87

انحلال العلم الاجمالي... 90

الوجه الأول : في تقريب انحلال العلم الاجمالي... 91

الوجه الثاني : في تقريب الانحلال ( كلام المحقق النائيني قدس سره )... 93

الوجه الثالث : في تقريب الانحلال... 95

الوجه الرابع : في تقريب الانحلال ( كلام المحقق الأصفهاني قدس سره )... 96

الوجه الخامس : في تقريب الانحلال ( كلام المحقق العراقي )... 99

المختار : في تقريب الانحلال... 100

تنبيهات

التنبيه الأول : فيما إذا اضطر إلى بعض أطراف العلم الاجمالي... 103

ما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين بعد التكليف وقبل العلم به وكلام المحقق النائيني قدس سره في المقام 104

ما إذا كان الاضطرار إلى طرف معين بعد العلم بالتكليف وتحقيق القول فيه... 105

ما إذا كان الاضطرار إلى طرف غير معين قبل العلم بالتكليف وتحقيق الكلام فيه... 113

ما إذا كان الاضطرار إلى طرف غير معين بعد العلم بالتكليف... 122

ص: 481

التنبيه الثاني : فيما إذا كان أحد أطراف العلم الاجمالي خارجة عن حمل الابتداء... 125

اعتبار القدرة العادية في التكليف... 127

مناقشة انكار المحقق الأصفهاني قدس سره صلاحية الاستهجان العرفي لمنع ثبوت التكليف 129

فيما لو شك في مورد في كونه خارجا عن محل الابتداء أم لا من جهة الشبهة المفهومية 132

فيما لو شك في مورد كونه خارجا عن محل الابتلاء أم لا من جهة الشبهة المصداقية 139

التنبيه الثالث : في الشبهة غير المحصورة تحديدها وحكمها... 139

تحديد المحقق النائيني قدس سره للشبهة غير المحصورة وما أورد عليه... 140

تحقيق الكلام في حكم الشبهة غير المحصورة... 143

تذنيب : في شبهة الكثير في الكثير... 147

التنبيه الرابع : حكم ملاقي أحد أطراف العلم الاجمالي بالنجاسة... 147

وجوه أربعة في تصوير كيفية تنجيس ملاقي النجس... 148

توضيح لكلام الشيخ في المقام... 156

كلام المحقق النائيني قدس سره في اقتضاء العلم الاجمالي... 158

هل يجب الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف العلم الاجمالي... 163

تصدي الاعلام لانحلال العلم الاجمالي الجديد والمناقشة فيه... 164

الوجه المختار في الانحلال... 167

تفصيل الكفاية بين صور الملاقاة من حيث الحكم بلزوم الاجتناب وعدمه... 168

تفنيد المحقق النائيني قدس سره للتفصيل المذكور والمناقشة فيه... 169

مانعية فقدان الملاقي عن معارضه الأصل الجاري فيه... 170

مانعية التأخر الرتبي عن معارضة الأصل الجاري في المتأخر... 174

مقتضى الأصل العملي عند الشك في تصوير كيفية نجاسة الملاقي... 177

التنبيه الخامس : في تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات... 179

ص: 482

عدم منجزية العلم الاجمالي فيما إذا كان الزمان وخيلا في فعلية الخطاب والملاك... 182

دعوى منجزية العلم الاجمالي فيما إذا لم يكن الزمان وخيلا في فعلية الخطاب وبطلانها 183

التنبيه السادس : عدم تعارض مجموع الأصول الطولية في طرف مع الأصل في الطرف الآخر 188

مناقشة ودعوى المحقق النائيني قدس سره في المقام... 188

التنبيه السابع : استصحاب الاشتغال... 190

تحقيق القول في المقام... 191

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر... 197

الصورة الأولى : في الشك في الجزئية... 197

دعوى لزوم الاحتياط للعلم الاجمالي... 197

تمامية دعوى الشيخ في الانحلال في حكم العقل... 198

تقريب المحقق النائيني قدس سره لحملة كلام الشيخ على إرادة الانحلال في حكم الشرع 202

دعوى المحقق الأصفهاني قدس سره في الانحلال في حكم الشرع والمناقشة فيها... 203

دعوى المحقق العراقي في الانحلال في حكم الشرع والمناقشة فيها... 204

دعوى المحقق النائيني قدس سره في الرجوع إلى البراءة الشرعية والمناقشة فيها... 206

دعوى صاحب الكفاية في الرجوع إلى البراءة الشرعية والمناقشة فيها... 209

دعوى لزوم الاحتياط في المسألة لتحصيل الغرض الملزم... 214

ايراد الكفاية على ما افاده الشيخ في المقام... 215

التحقيق في حل شبهة الغرض... 217

التمسك بالاستصحاب لاثبات عدم لزوم الأكثر... 218

تحقيق القول فيما افاده المحقق النائيني قدس سره في استصحاب عدم الأكثر... 222

الصورة الثانية : في الشك في الشرطية... 235

ص: 483

جريان البراءة مبني على الالتزام بالانحلال في حكم العقل... 236

التقيد بالشرط قابل للاتصاف بالأمر النفسي أم لا؟... 237

موارد يبحث عن جريان البراءة فيها الأول : دوران الأمر بين العام والخاص... 240

الثاني : دوران الأمر بين التعيين والتخيير... 242

الثالث : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحصل... 248

الرابع : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المحرمات... 251

الخامس : ما إذا كان منشأ الشك في الشرطية هو الشك في حكم تكليفي نفسي... 252

السادس : دوران الأمر بين الأقل والأكثر من جهة الشبهة الموضوعية... 254

تنبيهات المسألة

التنبيه الأول : في الشك في ركنية جزء من العلم بأصل الجزئية... 258

طريقان لتصحيح عمل الناسي قدس سره للجزء... 258

الطريق الأول : اثبات تعلق الأمر بالعلم الفاقد ودعوى الشيخ في استحالته... 259

دعوى الكفاية في امكان تعلق التكليف بالناسي... 260

دعوى المحقق النائيني قدس سره في المكان تعلق التكليف بالناسي والمناقشة فيها... 261

التمسك بحديث الرفع لنفي جزئية المنسي واثبات الأمر بالباقي... 263

تفصيل في الدليل الدال على الجزئية... 265

الطريق الثاني : اثبات مسقطية المأتي به للأمر... 268

بطلان العمل بزيادة الجزء عمدا... 269

تصوير الشيخ للزيادة في العمل ومناقشة الكفاية... 273

التنبيه الثاني : فيما إذا شك في إطلاق جزئية شئ للمركب ومقتضى الأصل العملي 278

وجوه للتمسك بالاستصحاب لاثبات وجوب الباقي... 280

ص: 484

مقتضى الدليل الاجتهادي ( قاعدة الميسور )... 286

توضيح دلالة النبوي الشريف على القاعدة... 287

توضيح دلالة العلوي الشريف على القاعدة... 291

توضيح دلالة العلوي الآخر على القاعدة... 297

عموم القاعدة لتعذر الشرط والركن... 301

تنافي دليل الجزئية مع القاعدة... 303

فصل : في دوران الأمر بين المحذورين... 309

خاتمة : في شرائط الأصول... 317

توضيح كلام المحقق النائيني قدس سره في الاحتياط ورد ما أورد عليه... 318

منع جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية... 329

تفصيل في لزوم الفحص قبل اجراء البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية... 335

الوجوه الدالة على لزوم الفحص قبل اجراء البراءة في الشبهات الحكمية... 339

مقدار فحص اللازم... 340

تحقيق موضوع العقاب المترتب على ترك الفحص... 351

توضيح كلام الكفاية في الربط بين مبحثين المقدمة المفوتة وترك التعلم... 356

هل العقاب ترتب على مخالفة الواقع مطلقا أم لا؟... 359

حكم العمل بالبراءة قبل الفحص من حيث الصحة والفساد... 362

حكم الاتمام في موضع القصر... 363

وجوه ذكرها الشيخ للجمع بين صحة العمل وثبوت العقاب... 364

وجوه لعدم تطبيق كبرى الترتب على المقام... 366

بيان صاحب الكفاية في الجمع بين صحة المأتي به وتعلق الأمر بالواقع... 369

وجهان أورد على البيان المزبور والمناقشة فيهما... 370

كلام الفاضل التوني في اشتراط العمل بالبراءة... 376

ص: 485

قاعدة نفي الضرر

الأخبار المتكفلة لنفي الضرر... 381

جهات البحث في الأخبار من ناحية المتن... 384

الجهة الأولى : امكان البناء على ورود قيد : « في الإسلام »... 384

الجهة الثانية : امكان البناء على ثبوت قيد : « على المؤمن »... 387

الجهة الثالثة : عدم ورود جملة : « لا ضرر ولا ضرار » مستقلا... 388

الجهة الرابعة : تطبيق قاعدة « لا ضرر ولا ضرار » في مورد الشفعة وفضل الماء... 389

الجهة الخامسة : في معنى مفردات : « لا ضرر ولا ضرار »... 394

الجهة السادسة : في ما هو المراد من الهيئة التركيبية والمحتملات المذكورة فيها... 398

المختار في معنى « لا ضرر ولا ضرار »... 411

جهتان تمنعان عن عمومية القاعدة... 415

طريقة الجمع بين القاعدة والأدلة الشاملة بعمومها واطلاقها مورد الضرر... 427

هل الضرر المنفي هو الضرر المعلوم أم الضرر الواقعي؟... 438

عدم شمول الحديث للأحكام العدمية... 450

المراد بالضرر هو الضرر الشخصي أو النوعي... 452

تعارض الضررين... 455

الفرض الأول : تحمل الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه... 457

الفرض الثاني : توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير... 458

الفرض الثالث : التولي من قبل الجائر... 460

الفرض الرابع : لو دار الأمر بين كسر القدر وتخليص الدابة أو قتل الدابة وتخليص القدر 461

تعارض ضرر المالك مع ضرر غيره... 465

ص: 486

حرمة الأضرار بالنفس... 474

الفهرس... 497

ص: 487

المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1414 ه-.ق

الصفحات: 450

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء السادس

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 6

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

( الاستصحاب )

اشارة

ص: 5

ص: 6

الاستصحاب

اشارة

وقبل الدخول في بيان أدلته يحسن تقديم أمور.

الأمر الأول : ما أشار إليه المحقق النائيني : من ان البحث عن حجية امر يكون بنحوين :

الأول : ان يكون المبحوث عن حجيته : امرا محققا موجودا. والبحث عن انه حجة أو ليس بحجّة كالبحث عن حجية خبر الواحد. فان البحث عن ثبوت الحجية له وعدمه.

الثاني : ان يكون موضوع الحجية أمرا مفروغا عن حجيته على تقدير وجوده ، فالبحث في الحقيقة يرجع إلى البحث عن ثبوته ، كالبحث عن حجية المفاهيم ، فان المفهوم لو ثبت كان حجة بلا إشكال لكونه من مصاديق الظهور ، فجهة البحث هي ثبوت المفهوم وعدم ثبوته.

إذا اتضح ذلك ، فهل البحث عن حجية الأصل العملي - كالاستصحاب - من قبيل النحو الأول أو الثاني ، أو لا هذا ولا ذاك؟. أفاد قدس سره : انه ليس من القسم الأول كما هو واضح ، إذ الأصل العملي ليس إلا عبارة عن تعبد الشارع بأحد طرفي الشك تعيينا أو تخييرا ، وهو ليس مفروض الوجود كي يبحث عن حجيته ، بل يبحث عن وجوده. كما انه ليس من القسم الثاني وان

ص: 7

كان اقرب إليه ، لأن موضوع الحجية فيه يغاير نفس الحجية مصداقا وان لم ينفك عنها خارجا ، مع إمكان التفكيك بينهما عقلا فالمفهوم غير الحجية. وهذا بخلاف البحث عن حجية الأصول العملية ، فان الحجية عين التعبد الشرعي ولا يمكن التفكيك بينهما عقلا (1).

أقول : لا يخفى ان البحث في هذه الجهة أشبه بالبحث اللفظي. ولا يهمنا تحقيق كيفية إطلاق الحجة على الأصل العملي ، وانه من قبيل أي القسمين هو ، فانا نبحث عن امر واقعي وهو ثبوت التعبد الشرعي في مورد الشك في البقاء ، ولا أهمية لتحقيق ان إطلاق الحجة عليه بأي نحو ، والظاهر اختلاف ذلك باختلاف المباني فيما هو المجعول في باب الاستصحاب وما هو المقرر منجزيته من كونه نفس الحكم بالبقاء ، أو نفس اليقين السابق ، أو الشك اللاحق كما احتمله بعض فلاحظ.

الأمر الثاني : في تعريف الاستصحاب.

وهو لغة - كما قيل - أخذ الشيء مصاحبا.

واما اصطلاحا : فقد عرف بتعاريف متعددة :

التعريف الأول : ذكر الشيخ ( رحمة اللّه ) : ان أخصر التعاريف وأسدها :

« إبقاء ما كان » (2) ، ويراد بالإبقاء هو الحكم بالبقاء لا الإبقاء التكويني ، فانه لا محصل له. وعليه فلا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني فراجع (3).

التعريف الثاني : ما جعله الشيخ أزيف التعاريف وهو تعريفه بأنه : « كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » (4).

ص: 8


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 342 - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /318- الطبعة الأولى.
3- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 343 - الطبعة الأولى.
4- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /318- الطبعة الأولى.

ووجه زيفه : ان هذا التعريف تعريف للاستصحاب بمورده ومحله لا به نفسه ، ثم انه وجهه بما يخرجه عن البطلان الواضح ، وأورد عليه ، وسنعود إليه إن شاء اللّه تعالى.

التعريف الثالث : ما عرفه به صاحب الكفاية بأنه : « الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه » (1).

وهذا التعريف تفصيل وتوضيح لتعريف الشيخ رحمه اللّه . وقد أشار قدس سره إلى تعريفه : ببناء العقلاء على البقاء ، وتعريفه : بالظن الناشئ من العلم بثبوته ونفاهما بأنه على هذين التعريفين لا تتقابل فيه الأقوال ، ولا يتوارد فيه النفي والإثبات على مورد واحد بل موردين ، ثم هون قدس سره الأمر بان المقصود من هذه التعاريف شرح الاسم لا الحد والرسم ، فلا مورد للإشكال عليها بعدم الطرد أو لعكس.

التعريف الرابع : ما عرفه به المحقق النائيني قدس سره : « بأنه الحكم الشرعي ببقاء الإحراز السابق من حيث الجري العملي » (2) ، وقد بنى هذا التعريف على استفادة الاستصحاب من الاخبار.

التعريف الخامس : ما قد عرف الاستصحاب به أيضا : « بأنه عبارة عن الإبقاء العملي ».

هذه جملة من تعاريف الاستصحاب. وتحقيق الكلام ان يقال : ان التعريف المبحوث عنه هو التعريف الاصطلاحي الّذي وقع في تعبيرات الأصوليين والفقهاء.

ولا يخفى ان هنا جهات ثلاث ترتبط بهذا المصطلح :

إحداها : إطلاق الدليل والحجة عليه ، فيقال : يدل عليه الاستصحاب ، أو

ص: 9


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /384- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 343 - الطبعة الأولى.

يحتج بأمور منها الاستصحاب ، ونحو ذلك من التعبيرات الواقعة كثيرا في بحوث الفقهاء في مختلف المسائل الفقهية.

وثانيها : اختلاف مدركه من تعبد الشارع أو بناء العقلاء أو حكم العقل الظني.

وثالثها : تفرع الاشتقاقات منه كالمستصحب والمستصحب واستصحب ويستصحب ، وغيرها.

ومن الواضح انه لا بد في تشخيص ما هو الأنسب في تعريفه من ملاحظة هذه الجهات الثلاث وثبوتها مع الالتزام به.

والّذي نراه ان جميع ما ذكر في تعريفه مما تقدم لا يخلو عن خدشة بملاحظة هذه الجهات.

اما الخامس وهو تعريفه : بالإبقاء العملي ، فهو وان صحح الاشتقاق منه المسند إلى المكلف ، لكن إطلاق الحجة عليه غير سديد بملاحظته ، إذ لا معنى لكون الإبقاء العملي حجة ودليلا ، بل هو يحتاج إلى حجة كما لا يخفى.

كما انه لا ينسجم مع اعتباره من باب حكم العقل ، إذ المراد بالحكم العقلي هو الإدراك الظني ، ولا معنى لإدراكه البقاء العملي.

واما الأول وهو تعريفه : بالإبقاء بمعنى الحكم بالبقاء : فهو مما لا معنى له لأن بقاء الحكم هو عين الحكم الشرعي في مرحلة البقاء ، ومقتضى هذا التعريف ان الاستصحاب هو الحكم بالحكم وهو مما لا محصل له.

نعم ، إطلاق الحجة عليه سديد كما سنشير إليه في التعريف المختار.

كما انه لا ينسجم مع اعتبار الاستصحاب من باب العقل أو بناء العقلاء ، إذ ليس شأن العقل هو الحكم بالبقاء وانما شأنه إدراك نفس البقاء ظنا.

وبعبارة أخرى : ان الحكم بالبقاء ليس متعلق الإدراك العقلي بل نفس البقاء هو متعلقه. كما ان العقلاء ليس شأنهم الحكم ، بل شأنهم البناء العملي على

ص: 10

الشيء. واما صحة الاشتقاق مع اسناده إلى المكلف فسيأتي توجيهه في التعريف المختار.

واما الرابع وهو تعريفه : بأنه الحكم الشرعي ببقاء الإحراز السابق من حيث الجري العملي : فهو مضافا إلى اختصاصه بما إذا اعتبر من باب الاخبار باعترافه قدس سره ، تعريف له بما سيأتي المناقشة فيه وما هو محل النقض والإبرام.

واما الثاني وهو تعريفه : بأنه كون الشيء متيقن الحدوث مشكوك البقاء ، الّذي حكم الشيخ بزيفه ، فقد ارتضاه المحقق النائيني بناء على كون الاستصحاب من الأمارات الظنية ووجهه بما أشار إليه الشيخ : من ان ما يوجب الظن بالبقاء ويكشف عنه بالكشف الظني هو ذلك (1).

ولكن فيه : ان ما يوجب الظن بالبقاء ليس هو اليقين السابق والشك اللاحق ، بل هو غلبة بقاء الحادث ، فانه بملاحظة ان ما يحدث يبقى مستمرا بحسب الغالب يحصل الظن في المورد المشكوك بإلحاقه بالغالب.

ولا يخفى عليك انه لا دخل لليقين بالحدوث في ذلك أصلا ، بل الملازمة الغالبة بين نفس الحدوث والبقاء.

إذن فليس اليقين من موجبات الظن كي يعرف الاستصحاب به. نعم أثر اليقين بالحدوث كأثر اليقين بسائر الأمور ذوات الأثر في كونه كاشفا عن موضوع الأثر ، فهو طريق ومحرز لمصداق من مصاديق الظن الناشئ من قبل الغلبة. فتدبر ولا تغفل.

والّذي نراه في تعريف الاستصحاب ان يقال : انه نفس بقاء المتيقن السابق عند الشك ، ويراد به ثبوت الحكم في مرحلة البقاء ، ولعله إليه يرجع تعريفه بالإبقاء المفسر بالحكم بالبقاء ، ويكون التعبير بالحكم بالبقاء نظير

ص: 11


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 343 - الطبعة الأولى.

التعبير بالحكم بالحرمة أو الوجوب ، مع ان الحرمة نفس الحكم.

وكيف كان ، فتعريفه بما ذكرنا ينسجم مع جميع مدارك الاستصحاب فالشارع يحكم بثبوت المتيقن عند الشك في بقائه وهو معنى بقاء المتيقن.

كما ان بناء العقلاء العملي على بقاء المتيقن السابق ، وما يدركه العقل ظنا ، هو البقاء.

واما الاشتقاق المسند إلى المكلف ، كقولك : « استصحبت الحكم الفلاني » ، فهو على هذا التعريف لا يخلو عن مسامحة ، إذ المستصحب هو الحاكم لا المكلف.

لكن هذه المسامحة لا بد منها على جميع التعاريف غير تعريفه بالإبقاء العملي.

فإذا فرض عدم صحة الالتزام بتعريفه بالإبقاء العملي كما تقدم ، فلا محيص عن الالتزام بهذه المسامحة ، فيقال : ان المراد من : « استصحبت » هو التمسك بالاستصحاب والاستناد إليه ونحو ذلك.

واما إطلاق الحجة عليه ، فهو صحيح بناء على ما تقدم في أوائل مباحث الظن ، من ان الحكم الظاهري حكم طريقي - ويصطلح عليه بالحكم الأصولي - يلحظ فيه تنجيز الواقع وإيصال الواقع. فانه على هذا يترتب عليه التنجيز والتعذير عقلا وهذا هو معنى الحجية.

ومن الواضح ان الحكم الاستصحابي حكم ظاهري طريقي ، ولذا ينطبق الاستصحاب في موارد الأحكام غير الإلزامية كالإباحة والاستحباب ، فيكون النهي عن النقض كناية عن بقاء الحكم السابق كما كان ، لا انه نهي حقيقي وتحريم للنقض العملي حقيقة ، وإلاّ لما انطبق على موارد الترخيص إذ لا يجب الفعل أو الترك فيها ، ولا يقصد من حرمة النقض فيها سوى إيصال الحكم الواقعي والتنجيز أو التعذير. فلاحظ.

ص: 12

ثم انه لا بد من تقييد تعريف الاستصحاب ببعض الخصوصيات من اليقين السابق والشك اللاحق وغير ذلك مما يظهر تقومه به.

هذا تمام الكلام في تعريف الاستصحاب ، وقد طال الكلام فيه مع انه لا يستحق الإطالة لعدم الأثر العملي المترتب عليه كما لا يخفى.

الأمر الثالث : في كون مسألة الاستصحاب أصولية أو لا؟.

الّذي يظهر من الشيخ رحمه اللّه التوقف في كونها أصولية على تقدير استفادتها من الاخبار (1).

والتحقيق : انك عرفت في مبحث ضابط المسألة الأصولية : ان المسألة الأصولية هي المسألة التي تتكفل رفع التردد في مقام العمل ، وبذلك افترقت عن المسألة الفقهية ، وهي ما كان نظرها إلى نفس المحتمل بوضوح.

وعليه ، فيكون الاستصحاب من مباحث الأصول كما مر بيانه فراجع (2).

وقد عرفت هناك انه لا يختلف الحال بين ما يجري في الشبهات الحكمية أو يجري في الشبهات الموضوعية ، وان تخصيص المسألة الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية بلا موجب.

ولو فرض عدم كون الأصل الجاري في الشبهات الموضوعية من علم الأصول ، فهو لا ينافي كون الجاري في الشبهات الحكمية منه ، فيكون الاستصحاب بلحاظ جريانه في الشبهات الحكمية مسألة أصولية لاندراجه في ضابطها. وبلحاظ جريانه في الشبهات الموضوعية مسألة فقهية. ولا مانع من كون مسألة واحدة ذات جهتين بلحاظ تعدد موردها بعد عموم دليلها ، نظير مسألة حجية خبر الواحد بناء على شموله للاخبار بالموضوعات وعدم اختصاصه بالاحكام.

ص: 13


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /319- الطبعة الأولى.
2- راجع 1 / 28 من هذا الكتاب.

هذا تحقيق الكلام في هذه الجهة باختصار ولا تحتاج إلى إطالة.

واما ما تمسك به صاحب الكفاية في إثبات عدم كون مسألة الاستصحاب فقهية : بان مجراها قد يكون حكما أصوليا كالحجية (1).

فهو لا يخلو عن غرابة ، إذ الشيخ رحمه اللّه قد تعرض إلى ذلك وبيّن انه قد يكون مجرى المسألة الفقهية مسألة أصولية ، كقاعدة نفي الحرج التي تجري في نفي الفحص عن المعارض للعموم إلى حد القطع بالعدم ، كما انها تجري في نفي الاحتياط في مقدمات دليل الانسداد (2) فتدبر.

الأمر الرابع : في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع. فانها جميعا تشترك في ثبوت اليقين والشك فقد يتخيل ان الدليل المتكفل لعدم نقض اليقين والشك يتكفل اعتبار هذه القواعد الثلاث ، فلا بد من بيان خصوصيات الفرق بينها موضوعا.

ثم يبحث عن شمول دليل الاستصحاب لها أو أنه يختص بالاستصحاب.

فنقول : اما الاستصحاب فموضوعه : ان يتعلق اليقين بشيء ويتعلق الشك في بقائه من دون اعتبار تقدم اليقين زمانا وعدمه.

واما قاعدة اليقين فموضوعها : ان يتعلق اليقين بشيء في زمان معين ثم يشك بعد ذلك في نفس ذلك الشيء بلحاظ ذلك الزمان ، كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة ثم زال ذلك اليقين وشك في يوم الاثنين انه عادل يوم الجمعة أو لا ، ويعبر عنه بالشك الساري. فمتعلق اليقين والشك أمر واحد بجميع خصوصياته ، وانما الاختلاف في زمان نفس اليقين والشك. على خلاف الاستصحاب ، فان متعلق اليقين والشك يختلفان زمانا وان اتحدا ذاتا.

ص: 14


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /385- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /320- الطبعة الأولى.

واما قاعدة المقتضي والمانع فموضوعها : ان يتعلق اليقين بوجود المقتضي للأثر ويشك في وجود المانع عنه ، فمتعلق اليقين والشك في هذه القاعدة مختلفان ذاتا ، كما لو فهم من لسان الأدلة ان ملاقاة الماء للنجس مقتضي للانفعال ، وان الكرية مانعة ، فلاقى ماء مشكوك الكرية شيئا نجسا ، فانه بناء على اعتبار قاعدة المقتضي والمانع - كما بنى عليها بعض المحققين - يلتزم في المثال بنجاسة الماء.

وسيأتي إن شاء اللّه تعالى بعد ذكر أدلة الاستصحاب البحث عن إمكان استفادة هاتين القاعدتين منها كما انه يبحث عن وجود دليل مستقل عليهما. فانتظر.

الأمر الخامس : في تقسيمات الاستصحاب.

وقد نوع الشيخ رحمه اللّه تقسيمات الاستصحاب بلحاظ نفس المستصحب من كونه وجوديا أو عدميا - وفي خصوص استصحاب عدم التكليف من العدميات كلام برأسه تقدمت الإشارة إليه في مسألة البراءة وسيجيء البحث عنه في البحث عن استصحاب الحكم الكلي إن شاء اللّه تعالى - ، أو كونه حكما شرعيا كليا أو جزئيا ، وكونه موضوعا خارجيا وغير ذلك. وبلحاظ الدليل الدال على المستصحب في زمان اليقين من كونه إجماعا أو غيره ، أو كونه دليلا عقليا أو شرعيا ، ونحو ذلك. وبلحاظ الشك في البقاء من كون منشئه الشك في المقتضي أو الشك في الرافع ونحو ذلك (1).

ولا يهمنا التعرض إلى هذه التقسيمات لوضوح بطلان بعضها بعد ملاحظة الأدلة ، انما المهم منها ثلاثة وقعت مورد النقض والإبرام من قبل المحققين.

ص: 15


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /322- الطبعة الأولى.

التقسيم الأول : التفصيل بين الحكم الشرعي المستفاد من العقل وغيره ، فلا يجري في الأول. وقد قربه الشيخ رحمه اللّه (1).

التقسيم الثاني : التفصيل بين الأحكام الكلية الشرعية وبين الموضوعات الخارجية والأحكام الجزئية ، فلا يجري في الأول وقد بنى عليه من المتأخرين السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) (2).

التقسيم الثالث : التفصيل بين ما كان الشك ناشئا من الشك في المقتضي وبين ما كان ناشئا من الشك في الرافع ، فلا يجري في الأول. وقد بنى عليه الشيخ (3) وتابعة عليه غيره (4). وقد وقع الكلام في المراد بالمقتضي.

فلا بد من تحقيق الكلام في هذه الأقوال ولنتعرض الآن إلى.

التفصيل الأول

وقد يقرب بوجوه :

الوجه الأول : ان الحكم العقلي مبين مفصل محدد الموضوع ، باعتبار ان الحاكم لا يمكن ان يتردد في حدود حكمه ومقدار سعته. وعلى هذا يكون الحكم الشرعي المستند إليه معلوم الموضوع بحدوده ، وفي مثل ذلك يمتنع الاستصحاب.

اما لأجل انّ الشك في البقاء لا بد وان يكون ناشئا من الشك في بقاء الموضوع ، إذ لو كان الموضوع باقيا بخصوصياته لما حصل الشك ، ومع الشك في بقاء الموضوع لا يصح إجراء الاستصحاب ، لما سيأتي من اعتبار بقاء الموضوع فيه.

ص: 16


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /325- الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 36 - الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /328- الطبعة الأولى.
4- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 378 - الطبعة الأولى.

واما لأجل امتناع الشك في البقاء ، لأن الموضوع ان كان موجودا كان الحكم موجودا لا محالة ، وان لم يكن موجودا ارتفع الحكم لا محالة ، لارتفاع الحكم بعدم موضوعه ، فلو فرض ثبوت حكم شرعي والحال هذه فهو حكم جديد حادث لموضوع جديد ، لا بقاء لذلك الحكم.

وهذا التقريب يمكن رده :

اما دعوى ان الشك في بقاء الحكم لا بد وان يكون ناشئا من الشك في بقاء الموضوع بسبب احتمال تغير بعض ما له دخل في الحكم. فتندفع : بان الموضوع الّذي يعتبر بقاؤه في جريان الاستصحاب هو الموضوع العرفي وما يراه العرف معروضا للحكم بحسب مناسباته الذهنية دون الموضوع الدقي العقلي وهو كل ما له دخل في الحكم.

ومن الواضح ان الموضوع بنظر العرف قد يكون باقيا حتى مع الجزم بزوال بعض الخصوصيات الملحوظة في حدوث الحكم ، فضلا عن صورة احتمال زوالها ، لأنها بنظره جهة تعليلية لا تقييدية.

واما دعوى امتناع الشك في البقاء بالبيان المتقدم. فتندفع بما أفاده في الكفاية وتبعه غيره من ان زوال حكم العقل بزوال بعض الخصوصيات المقومة للحكم بنظره لا يستلزم زوال حكم الشرع في تلك الحال ، لاحتمال انّ الخصوصية الزائلة غير دخيلة في ملاك الحكم واقعا ، وقد اطلع الشارع على ذلك لإحاطته بالأمور فيكون حكمه باقيا لبقاء ملاكه ، ولم يطلع العقل عليه لقصور إدراكه فلم يحكم عند زوالها. ولا ينافي ذلك الالتزام بالملازمة بين الحكمين ، إذ المقصود بها الملازمة بينهما في مقام الإثبات لا مقام الثبوت ، فلا يمتنع ان يحكم الشارع بشيء من دون ان يحكم به العقل ، فتدبر (1).

ص: 17


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /386- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الوجه الثاني : ان الخصوصيات المأخوذة في الحكم العقلي كلها خصوصيات تقييدية مأخوذة في الموضوع قيدا ولم تلحظ علة لثبوت الحكم لمعروضه ، فموضوع الحكم العقلي بقبح الصدق في حال الإضرار ، هو الصدق بقيد كونه مضرا ، لا ان موضوعه هو الصدق وعلته الإضرار.

وعليه ، فالشك في بقاء الخصوصية يستلزم الشك في الموضوع قهرا.

وهذا الوجه وان لم يذكر في الكلمات في المقام ، لكن يمكن ان يستفاد من بعض كلمات المحقق الأصفهاني في مبحث مقدمة الواجب (1) ، حيث التزم هناك بان عنوان المقدمية جهة تقييدية لا جهة تعليلية كما يراه صاحب الكفاية (2).

وعلى كل فيمكن التنظر فيه من جهتين :

الأولى : ان الأساس الّذي يبتني عليه ليس من المسلمات ، فان هناك من لا يرى ان جميع الخصوصيات ملحوظة جهات تقييدية في موارد الأحكام العقلية.

الثانية : انه لو سلم ذلك ، فهذا لا ينفع بعد ما عرفت من ان المدار في الموضوع على نظر العرف لا نظر العقل ، فكون الخصوصية تقييدية بنظر العقل لا يجدي إذا لم تكن كذلك بنظر العرف ، بل كانت من طوارئ الموضوع وحالاته بنظره.

نعم ، لو قلنا بان المدار على الموضوع المأخوذ في دليل الحكم لأجدى ما ذكر ، إذ دليل الحكم على الفرض هو العقل ، والمفروض ان الخصوصية بحسبه مقومة.

الوجه الثالث : دعوى ان الخصوصية المتبدلة أو المشكوكة مقومة بنظر العرف ، فلا مجال للاستصحاب حينئذ. وذلك بأحد بيانين :

البيان الأول : ان الكلام فيما نحن فيه في الأحكام العقلية المستتبعة لحكم

ص: 18


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 347 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشرع - بناء على الملازمة - ، وهي تختص بأحكامه في باب التحسين والتقبيح.

وعليه فنقول : ان كل خصوصية تكون دخيلة في حكم العقل بالحسن أو القبح ، فهي تكون قيدا لفعل المكلف المحكوم بالحسن أو القبح لا قيدا في الموضوع. وبعبارة أخرى : ان الخصوصيات المأخوذة في حكم العقل العارض على فعل المكلف مأخوذة قيدا لمتعلق الحكم لا لموضوعه ، فلا محالة يتقيد متعلق الحكم الشرعي المستكشف عن الحكم العقلي بتلك الخصوصيات تبعا للحكم العقلي.

فإذا حكم العقل بقبح الصدق الضار ، كان متعلق الحكم الشرعي بالحرمة هو الصدق المضر.

وقد تقرر ان كل خصوصية تؤخذ في المتعلق تكون مقومة بنظر العرف ، وليس الحال فيه كالحال في الموضوع. فمع الشك في تلك الخصوصية يمتنع الاستصحاب ، وسيأتي بيان هذه الجهة في محله.

البيان الثاني : ان الحكم العقلي بالقبح لم يتعلق بالصدق - مثلا - حال إضراره كي يقع الكلام في ان جهة الضرر مقومة عرفا أو ليست مقومة ، بل ليس لدينا إلاّ الحكم العقلي بحسن الإحسان وقبح الظلم. والحكم بقبح الصدق المهلك أو حسن الكذب النافع ، من باب ان الأول مصداق الظلم القبيح عقلا والثاني مصداق الإحسان الحسن عقلا ، لا ان الحكم العقلي بالقبح تعلق بالصدق مباشرة بملاحظة إضراره.

اذن فمتعلق الحكم العقلي هو نفس الخصوصية ، وهذه الأفعال مصاديق للخصوصية ويتبعه في ذلك الحكم الشرعي ، فالحرام هو الظلم والمحبوب هو الإحسان.

وعليه ، فمع الشك في بقاء الخصوصية يشك في ثبوت متعلق الحكم مباشرة فلا معنى للاستصحاب. فهو نظير استصحاب حرمة ما ثبت حرمته بالدليل

ص: 19

الشرعي عند الشك في انطباق موضوع الحرمة عليه ، كما لو كان كلام كذبا ، ثم شك في أنه كذب أو ليس بكذب ، فانه لا معنى لاستصحاب حرمته مع الشك المزبور.

وهكذا الحال في الشبهة الحكمية كما لو فرض زوال عنوان الظلم عن الصدق ، ومع هذا احتمل ان يبقى على حرمته ، فانه لا معنى لاستصحاب حرمته ، إذ متعلق الحرمة السابقة زال قطعا ، والصدق فعلا ليس من افراده جزما ، فيمتنع صدق البقاء. فتدبر.

وهذا الوجه ببيانيه متين لا دافع له ، وهو مما يمكن استفادته من عبارة الشيخ رحمه اللّه خصوصا بالبيان الأول - لقوله : « لأن الجهات المقتضية للحكم العقلي للحسن والقبح كلها راجعة إلى قيود فعل المكلف » - وان كانت لا تخلو عن نوع إجمال (1).

ومنه تعرف بعد ما أفاده صاحب الكفاية وغيره عنه وعدم ارتباطه به.

وبالجملة : التأمل في كلام الشيخ يقتضي ان يستظهر ان مراده ما ذكرناه ، لا ما فهمه الأعلام ( قدس اللّه سرهم ) واللّه سبحانه العاصم العالم.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية المصداقية.

إلا انه قد يتخيل في موارد الشبهة المصداقية التمسك بالاستصحاب الموضوعي فيحرز به بقاء الخصوصية للفعل ، فيقال : كان الصدق مضرا فالآن كذلك ، وبذلك يثبت له الحكم.

ولكنه تخيل فاسد ، إذ هذا الاستصحاب من الاستصحاب التعليقي ، لأن الخصوصية انما تعرض على الفعل عند وجوده ، فالصدق انما يكون مضرا إذا وجد ، فالذي يقال في مقام الاستصحاب : كان الصدق مضرا لو وجد فالآن

ص: 20


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /325- الطبعة الأولى.

كذلك.

والاستصحاب التعليقي وان كان مثار خلاف ، لكن ذلك في الاستصحاب الحكمي ، اما الموضوعات فلا يلتزم بصحة الاستصحاب التعليقي فيها بالاتفاق ، فمن يقول بالاستصحاب التعليقي في الأحكام لا يقول به في الموضوعات.

وقد أطال المحقق العراقي قدس سره في بيان كلام الشيخ ومناقشته (1). وأنت إذا لاحظت ما ذكرناه تعرف ان ما أفاده قدس سره أجنبي عن كلام الشيخ فراجع تعرف.

الوجه الرابع : ان المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ذهب إلى منع جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستفاد من حكم العقل ، لكن ببيان آخر غير ما أفاده الشيخ رحمه اللّه بالتوجيه الّذي عرفته.

فقد أفاد قدس سره : انه مع الشك في الخصوصية يقطع بزوال الموضوع ، وهو مستلزم للقطع بزوال الحكم ، بيان ذلك : ان الحكم العقلي بالقبح ليس متعلقه هو الفعل مع الخصوصية بوجودها الواقعي ، بل بوجودها العلمي ، فالصدق المضر المعلوم إضراره قبيح ، لا ذات الصدق المضر وان لم يعلم إضراره ، والوجه فيه : ان القبح لا يتعلق إلاّ بالفعل الاختياري الصادر عن التفات وعمد وقصد ، فلا يثبت الا في مورد العلم.

وعليه ، فمع الشك في بقاء خصوصية الإضرار يقطع بعدم موضوع القبح ، وهو العلم بالضرر ، فيعلم بعدم القبح العقلي ويتبعه عدم الحكم شرعا لانتفاء مناطه (2).

ويتوجه عليه قدس سره أمور :

الأمر الأول : ظاهر كلامه اختصاص الكلام في الشبهة الموضوعية ، وقصر

ص: 21


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 19 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية.3/ 9 - 10 - الطبعة الأولى.

الكلام على الشبهة الموضوعية دون الحكمية بلا وجه. والوجه الّذي ذكره لا يتأتى في الشبهة الحكمية ، بل يختص بالشبهة الموضوعية ، إذ ليس منشأ الشك في الشبهة الحكمية هو الشك في بقاء الخصوصية كي يقال ان العلم بالخصوصية دخيل وهو مفقود مع الشك ، بل يعلم بزوال الخصوصية ، وانما يشك في بقاء الحكم لاحتمال ان الخصوصية تأثر بحدوثها في بقاء الحكم ، فلا بد في نفي الاستصحاب في الشبهة الحكمية من الالتزام بأن الخصوصية علة حدوثا لا بقاء.

وبالجملة : الملاك الّذي ذكره في الاستصحاب في الشبهة الموضوعية لا يتأتى في الشبهة الحكمية. كما لا يخفى ، فلاحظ.

الأمر الثاني : ان ما أفاده من زوال الموضوع جزما عند الشك في الخصوصية غير تام ، إذ إناطة القبح بالفعل الاختياري مسلم لكن الاختيار والقصد لا يتوقف على العلم ، بل يتوقف على مجرد الالتفات المتحقق عند الشك ، فمثلا لو رأى شخص شبحا وتردد انه إنسان أو جدار فوجه إليه بندقته ورماه برصاصة فتبين انه إنسان وقتل بتلك الرمية ، فانه يترتب على فعله آثار الفعل الاختياري العقلية والشرعية مع عدم علمه بأنه قتل وظلم.

وعليه ، فمع الشك في ان الصدق مضر أو لا ، لا يقطع بزوال الموضوع لتحقق الالتفات والقصد معه. فتدبر.

الأمر الثالث : سلمنا أخذ العلم في الموضوع وزواله عند الشك ، لكن لا بد من تحقيق ان هذه الخصوصية الزائلة هل هي مقومة بنظر العرف أو ليست مقومة ، ومجرد دخلها في موضوع الحكم العقلي لا أثر له من هذه الناحية ، ولا يستلزم منع الاستصحاب مع الشك في بقاء الحكم والحالة هذه. فالتفت.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه ذكر : ان لا فرق في عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستندة إلى الأحكام العقلية بين ان تكون وجودية أو عدمية ، مع استناد العدم إلى القضية العقلية ، كعدم وجوب الصلاة على ناسي

ص: 22

السورة ، فانه لا يجوز استصحابه عند زوال النسيان ، ولا وجه للتمسك به في إثبات الاجزاء (1) كما صدر عن بعض.

نعم لو لم يكن العدم مستندا إلى القضية العقلية ، وان كان في موردها ، فلا بأس باستصحابه كاستصحاب البراءة والنفي.

كما ان المحقق الأصفهاني ( قده ) بعد ان ذكر ما تقدم منه ، واختار التفصيل بين أحكام العقل النظريّ فيجري الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إليه ، وأحكام العقل العملي فلا يجري الاستصحاب للبيان المتقدم ، قال :

« ثم انه لا فرق فيما ذكرنا منعا وجوازا بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم إذا كانا مستندين إلى القضية العقلية التي مفادها حكم العقل العملي ، كاستصحاب الوجوب والحرمة المستندين إلى حسن الفعل وقبحه. واستصحاب عدم الوجوب والحرمة إذا استند إلى قبح تكليف غير المميز إيجابا وتحريما ... » (2).

أقول : يرد على الشيخ رحمه اللّه ان استصحاب عدم الوجوب المترتب سابقا على النسيان يختلف عما أفاده سابقا ، فانه وان كان مورد النسيان يشترك مع ما تقدم في ثبوت الحكم بالقبح ، إلاّ ان القبح هناك متعلق بفعل المكلف ، وقد عرفت ان الخصوصية الدخيلة في القبح اما من قيود الفعل المتعلق واما هي نفس المتعلق. والقبح هنا متعلق بفعل المولى الشارع ، ولا يخفى ان المكلف بالإضافة إلى التكليف من قبيل الموضوع لا من قبيل المتعلق. اذن فالنسيان مأخوذ في موضوع عدم التكليف لا في متعلقه.

وعليه ، فلا يتأتى الوجهان السابقان في منع الاستصحاب هاهنا ، لأنهما يتفرعان عن كون الخصوصية المقومة للقبح العقلي ، اما نفس المتعلق أو دخيلة فيه. وليس النسيان كذلك.

ص: 23


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /325- الطبعة الأولى.
2- الأصفهانيّ المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 11 - الطبعة الأولى.

ومن هنا يظهر انه لا يظهر عدم جريان الاستصحاب في مورد النسيان مما ذكره سابقا ، بل لا بد من تحقيق ان النسيان مقوم للموضوع عرفا أو لا؟.

ومن هنا يتبين الإشكال فيما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، فان الحكم بقبح تكليف الناسي وان كان من حكم العقل العملي ، لكن ما تقدم يرتبط بما إذا كان حكم العقل العملي يرتبط بعمل المكلف نفسه. وقد عرفت ان متعلق القبح هاهنا هو فعل المولى ، ولا يتأتى فيه ما تقدم ، إذ أي معنى لأن يقال هاهنا انه مع الشك في الخصوصية يعلم بزوال الموضوع لتقومه بالعلم ومع الشك لا علم؟ ، فانه لا يتصور الشك بالنسبة إلى اللّه سبحانه.

نعم ، نحن نشك فيما هو فعل اللّه سبحانه من التكليف وعدمه عند الشك في الخصوصية.

وما أفاده قدس سره أجنبي عن عدم جريان الاستصحاب في ذلك ، فتدبر ولا تغفل.

ثم انه يمكن الالتزام بجريان استصحاب عدم التكليف في مورد النسيان ولو مع فرض خصوصية النسيان خصوصية مقومة للموضوع أو للمتعلق ، مع قطع النّظر عما تقدم في البراءة من المناقشة في استصحاب عدم التكليف بقول مطلق ولو لم يستند إلى القضية العقلية.

وذلك بوجهين :

الأول : استصحاب عدم الجعل بلحاظ حال ما قبل الشرع بتقريب : انه قبل الشرع لم يكن هناك جعل بالنسبة إلى هذا الموضوع الخاصّ وهو الشخص بعد زوال نسيانه ، وبعد الشرع يشك في ثبوت الجعل بالنسبة إليه فيستصحب عدمه.

وقد تقدمت الإشارة إليه في مبحث الأقل والأكثر (1) وسيجيء تحقيقه في

ص: 24


1- راجع 5 / 230 من هذا الكتاب.

مبحث جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، حيث ادعى : معارضتها باستصحاب عدم الجعل.

الثاني : استصحاب عدم المجعول بالنسبة إلى الموضوع الخاصّ بمفاد ليس التامة بتقريب : ان هذا الموضوع الخاصّ وهو المكلف بعد زوال نسيانه لم يكن الحكم الفعلي في حقه ثابتا قبل تحققه ، فالحكم الفعلي للمتعلق له منتف لانتفاء موضوعه ، وبعد وجوده وتحققه يشك في ثبوت حكم فعلي له ، فلا يمكن ان يقال : هذا الشخص لم يكن التكليف في حقه ثابتا فالآن كذلك - بمفاد ليس الناقصة المعبر عنه بالعدم النعتيّ - ، إذ لا حالة سابقه له ولكن يمكن ان يقال : الوجوب المتعلق بهذا الشخص لم يكن ثابتا فالآن كذلك - بمفاد ليس التامة المعبر عنه بالعدم المحمولي - نظير إجراء الاستصحاب في الاعدام الأزلية المتقدم بيانه في مبحث العموم والخصوص (1) ، وان لم يكن منه اصطلاحا. ويترتب على هذا الأصل عدم لزوم الامتثال عقلا. فتدبر.

والمتحصل : ان استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح لا نلتزم بجريانه تبعا للشيخ ، لكن في غير ما كان من قبيل حكم العقل بقبح تكليف الناسي ، بل في غير الحكم العدمي مطلقا ، لإمكان إجراء الاستصحاب في العدمي بالتقريبين المتقدّمين ، ولا إشكال فيه من ناحية استناده إلى الحكم العقلي.

وورود الإشكال فيه من ناحية أخرى لو ثبت ، كلام آخر أجنبي عما نحن فيه.

هذا تمام الكلام في هذا التفصيل.

واما باقي التفصيلات فسيأتي البحث فيها بعد أدلة الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 25


1- راجع 3 / 365 من هذا الكتاب.

الأمر السادس : لا يخفى ان المعتبر في الاستصحاب هو الشك في البقاء. وقد تعرض الشيخ رحمه اللّه إلى بيان ان المراد : هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات ، فلو لم يكن ملتفتا لم يجر الاستصحاب وان فرض حصول الشك له على تقدير الالتفات.

وفرع على ذلك فرعين :

الفرع الأول : ان المتيقن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق وشك في بقاء الحدث وعدمه جرى الاستصحاب في حقه ، فلو غفل عن ذلك وصلى بطلت صلاته لسبق الأمر بالطهارة ، ولا تجري في حقه قاعدة الفراغ المصححة للعمل ، لكون مجراها الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل.

الفرع الثاني : ان المتيقن للحدث لو غفل عن حاله وصلى ثم التفت بعد الصلاة وشك في انه تطهر قبل الصلاة أو لا؟ ، تجري في حقه قاعدة الفراغ ، لأن الشك حادث بعد العمل لا قبله ، كي يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول في الصلاة بدونها.

نعم ، هذا الشك المتأخر يوجب الإعادة بحكم الاستصحاب ، لكنه محكوم لقاعدة الفراغ (1).

وهذا المطلب بعينه ذكره في الكفاية في التنبيه الأول ، ولكنه في الفرض الأول حكم ببطلان الصلاة لكونه محدثا بحكم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي (2).

ولم يتعرض لقاعدة الفراغ فيه بقليل ولا بكثير ، فكان عدم جريانها فيه مفروغ عنه لديه.

أقول : لا بد من التنبيه على أمور ثلاثة يتضح بها ان ما أفاده الشيخ في غير محله.

ص: 26


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /321- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /404- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر الأول : ان اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب وعدم الاكتفاء بالتقدير له طريقان :

أحدهما : عرفي ، وهو دعوى ان ظاهر دليل الاستصحاب اعتبار الشك في موضوعه ، وظاهر كل امر مأخوذ في الموضوع إرادة الفرد الفعلي منه ، فإذا قال : « أكرم العالم » ، كان ظاهره عرفا إكرام المتصف بالعلم فعلا لا فرضا وتقديرا. ولذا قيل أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه.

وعليه فالظاهر من دليل الاستصحاب عرفا إرادة الشك الفعلي.

ثانيهما : عقلي ، وهو دعوى ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل حكم ظاهري أصولي يقصد به رفع الحيرة في مقام العمل ، وما كان كذلك ، لا يثبت إلاّ مع الالتفات ، إذ بدون الالتفات لا حيرة في التكليف ولا معنى لتنجيز الواقع عليه أو التعذير عنه.

وعليه ، نقول ان كان نظر الشيخ ، وصاحب الكفاية في اعتبار فعلية الشك إلى الوجه الثاني العقلي. فيرد عليهما : ان الاستصحاب لا يجري مع زوال الالتفات ، بل لا بد في استمرار جريانه من استمرار الالتفات. وعليه فلا فرق بين الفرضين في عدم كون المكلف مجريا لاستصحاب الحدث حال الصلاة ، لأنه غافل عن الحدث حالها. فالتفرقة بينهما في غير محلها.

وان كان نظرهما إلى الوجه الأول العرف - كما هو الظاهر لالتزامهما بجريان الاستصحاب مع الشك ثم الغفلة عنه وقد عرفت ان هذا لا يتم على الوجه الثاني مع ان الجهة الثانية راجعة إلى الشرائط العامة للتكليف ، فان من الشرائط العامة عدم الغفلة ، وهو أجنبي عن خصوص الاستصحاب ، فلا يناسب تخصيص الكلام به - ، فالفرق بين الفرضين وان كان موجودا ببيان انه في الفرض الأول وان عرضت الغفلة بعد الشك ، لكن ذلك لا ينافي استمرار الشك بوجود ارتكازي ، كسائر الصفات النفسيّة من الإرادة والعلم التي يكون لها وجود ارتكازي يجامع الغفلة بعد حدوثها عن التفات ، فيكون الشك موجودا

ص: 27

ارتكازا ، فيكون مجرى الاستصحاب حال الصلاة.

لكن يرد عليهما - على هذا التقدير : - ان هذه الدعوى تتم بناء على الالتزام بموضوعية اليقين والشك بما هما وصفان في باب الاستصحاب ، بحيث يتعلق الجعل بوصف اليقين.

اما بناء على الالتزام بان المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل ، أو الملازمة بين الحدوث والبقاء - كما يظهر من صاحب الكفاية - (1) المعبر عنها في كلام البعض بان الحادث يدوم ، بحيث لا يكون لليقين والشك موضوعية ، بل هما طريقان للمتيقن والمشكوك. فلا يتم هذا الكلام ، لأن اليقين والشك لا موضوعية لهما ، بل يكون الاستصحاب حكما ظاهريا ثابتا في الواقع للحادث عند حدوثه ، مع قطع النّظر عن اليقين والشك. نعم ، اليقين طريق إليه كسائر الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها.

وبالجملة : لا موضوعية للشك حتى يبحث في ان المراد به الشك الفعلي أو التقديري.

الأمر الثاني : انه قد وقع الكلام في انه هل تجري قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة عن المشكوك حال العمل ، أو يختص جريانها بصورة الشك في عروض الغفلة له؟.

فنقول : انه بناء على الثاني وعدم جريانها في صورة العلم بالغفلة لا مجال لقاعدة الفراغ في كلا الفرضين ، إذ المفروض فيهما معا غفلة المكلف حال العمل ، ومعه ، لا تجري قاعدة الفراغ جرى الاستصحاب في حقه أو لم يجر فلا يكون التفريع المزبور متجها على هذا المبنى الّذي لا يخلو من قوة.

الأمر الثالث : انه من المسلم لدى الكل ان قاعدة الفراغ انما تجري في مورد الشك الحادث بعد العمل ، اما إذا حدث قبل العمل فلا تجري فيه قاعدة

ص: 28


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الفراغ لقصور دليلها كما يبين في محله.

وعليه ، نقول : ان قاعدة الفراغ في الفرض الأول لا تجري لأجل حدوث الشك قبل العمل بلا ارتباط بجريان الاستصحاب وعدمه ، فالحكم ببطلان الصلاة استنادا إلى الاستصحاب السابق على العمل وعدم جريان قاعدة الفراغ بسببه غير سديد ، بل الصلاة باطلة بمجرد عدم جريان القاعدة سواء جرى الاستصحاب قبلها أم لا؟. إما لأجل قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب اللاحق.

هذا ولكن التحقيق يقتضي ان الشك الحادث بعد في الفرض الأول شك بعد العمل لا قبله ، وذلك لأن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة الناشئ من الشك في اختلال بعض ما يعتبر في العمل من الاجزاء والشرائط.

ولأجل هذه الجهة منع البعض من كون قاعدة الفراغ قاعدة برأسها في قبال قاعدة التجاوز ، فانه ما من مورد يشك في صحة العمل فيه الا وكان السبب فيه الشك في إتيان الجزء والشرط في محله ، وهو مجرى قاعدة التجاوز ، فلا تصل النوبة إلى قاعدة الفراغ ، لأن الشك فيها مسبب عما هو موضوع لقاعدة التجاوز (1).

وقد حاول آخرون تصحيح تعدد القاعدة (2) والبحث موكول إلى محله.

والمهم بيان : ان موضوع قاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل ، لا الشك في وجود الجزء أو الشرط.

وعليه ، نقول : انه إذا التفت إلى انه محدث أو متطهر - قبل العمل - وأجرى الاستصحاب ، ثم غفل عن ذلك ودخل في العمل ، فهو في أثناء العمل ليس شاكا في صحة العمل ، لغفلته ، وشكه الارتكازي حال الغفلة انما هو في

ص: 29


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 467 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 279 الطبعة الأولى.

حدثه وطهارته ، وهو غير الشك في صحة العمل ومطابقته للمأمور به ، فإذا التفت بعد الفراغ ، فشكه في صحة العمل شك حادث بعد العمل لا في أثنائه ، فيكون مقتضى القواعد مجرى لقاعدة الفراغ ، ولا فرق بين الفرضين على هذا البيان.

فتعليل عدم جريان قاعدة الفراغ بكون الشك حادثا أثناء العمل - كما أفاده الشيخ (1) - في غير محله. فالوجه الصحيح في نفي جريان قاعدة الفراغ والحكم ببطلان العمل في الفرض المزبور هو ان يقال : ان الشك الّذي يكون مجرى لقاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل ، بمعنى الشك في مطابقة ما أتي به للمأمور به واما مع العلم بعدم مطابقته لما هو الوظيفة الفعلية عليه ولما هو متعلق الأمر ، فلا مجال لقاعدة الفراغ للعلم ببطلان العمل بحسب الوظيفة الفعلية. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه بعد ما التفت وأجرى استصحاب الحدث كان مأمورا بالطهارة ، وكان محكوما ببطلان صلاته لو جاء بها بحالته التي هو فيها بلا وضوء. وعليه فإذا التفت بعد العمل إلى ذلك فلا شك لديه في صحة العمل ، بل يعلم بمخالفة عمله لما هو مقتضى الوظيفة الفعلية عليه ، ومثله يكون باطلا.

ولعل هذا هو مراد صاحب الكفاية ، من التزامه ببطلان العمل للحدث الاستصحابي (2).

وأما دعوى : ان الحكم الظاهري مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير ، وذلك غير معقول مع الغفلة. إذن فلا يمكن أن يجري الاستصحاب في حال غفلته عن الحدث (3).

فهي قابلة للدفع ، ببيان : ان المستصحب لو كان من الأحكام التكليفية امتنع أن يجري الاستصحاب حال الغفلة ، لعدم قابليته للدعوة والتحريك

ص: 30


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /321- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /404- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 351 - الطبعة الأولى.

والتنجيز. وليس الحال كذلك في الأحكام الوضعيّة ، فانها يمكن ان تحصل في حال الغفلة. والحدث حكم وضعي ، فكما ان الحدث الواقعي يثبت في حق الغافل عنه ولا يزول بغفلته ، كذلك الحدث الظاهري لا مانع من ثبوته في حق الغافل ، إذ لا تنجيز بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه في حال الغفلة ، ويترتب عليه عملا ثبوت المانع للصلاة المأتي بها بحيث لا تكون مطابقة ، للأمر الواقعي ، أعني ما هو متعلق الإرادة ومورد الغرض وان لم يكن أمر فعلي في حق الناسي الغافل ، كما هو الحال لو كان محدثا واقعا ، ولكنه كان غافلا ، فانه يحكم ببطلان عمله ، لعدم مطابقته للمأمور به ، ولا يراد به الأمر الفعلي لعدم ثبوته في حق الغافل ، بل يراد به الأمر الواقعي الاقتضائي ، أو نفس الإرادة الواقعية.

وهذا المعنى الّذي ذكرناه يكفي مصححا لجريان الاستصحاب ولو كان غافلا عن الحدث ، فانه أثر عملي معتد به. فتدبر جيدا ولا تغفل ، واللّه سبحانه العالم العاصم.

ص: 31

ص: 32

( أدلة الاستصحاب )

اشارة

ويقع الكلام بعد ذلك في أدلة الاستصحاب.

الدليل الأول : دعوى استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ، وبضميمة عدم الردع عنه شرعا ، يثبت إمضاء الشارع له بل ادعي قيام سيرة ذوي الشعور من أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة.

وناقشه صاحب الكفاية بوجهين :

الوجه الأول : ان المطلوب إثبات بناء العقلاء على ذلك تعبدا ، وهو غير ثابت ، بل يمكن ان يكون بناؤهم رجاء واحتياطا في مورد موافقة العمل للاحتياط ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا نوعيا ، أو غفلة عن احتمال الزوال كما هو الحال في الحيوانات وفي الإنسان في بعض الأحيان. اما بناؤهم على ذلك في غير مورد الاطمئنان والظن ومخالفة العمل للاحتياط فلم يثبت.

الوجه الثاني : انه لو سلم ثبوت بناء العقلاء التعبدي على العمل بالحالة السابقة ، فهو ليس بحجة ما لم يثبت الإمضاء شرعا ، وهو غير ثابت ، لكفاية ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم في الردع عن مثل ذلك (1).

ص: 33


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /387- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أقول : تقدم منه في مبحث حجية خبر الواحد الاستدلال بالسيرة على حجية الخبر. ومناقشة دعوى ثبوت الردع عنها بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم : بان رادعية الآيات للسيرة يستلزم الدور ، لأن الأخذ بعموم الآيات يتوقف على عدم تخصيصه بالسيرة ، وعدم تخصيصه بها يتوقف على ثبوت الردع عنها.

وذكر هناك : ان الالتزام بتخصيص العموم بالسيرة أيضا دوري ، لأنه يتوقف على عدم الردع عنها ، وهو يتوقف على تخصيص السيرة للعموم. لكنه ذكر : بان الدور وان تحقق من كلا الطرفين ، لكنه يكفي في الإمضاء عدم ثبوت الردع ولا يعتبر ثبوت عدمه (1).

وقد نسب إليه وجه آخر ذكره في الحاشية على قوله : « فتأمل » هناك. ملخصه : انه يمكن الرجوع في إثبات الإمضاء وعدم الردع إلى الاستصحاب ، إذ العمل بخير الواحد قبل نزول الآيات كان موردا للإمضاء ، فكان حجة ، فمع الشك في رادعية الآيات يستصحب حجيته (2).

والخلاصة : ان له هناك وجهين لنفي رادعية الآيات وإثبات حجية السيرة :

أحدهما : عدم ثبوت الردع عنها بعد ثبوت الدور في تخصيص السيرة للعموم ، وفي عموم الآيات للسيرة لتوقف كل منهما على عدم الآخر.

والآخر : الرجوع إلى استصحاب الحجية الثانية قبل نزول الآيات الكريمة.

ولا يخفى ان التزامه بحجية السيرة القائمة على العمل بالخبر استنادا إلى الوجه الثاني لا ينافي عدم التزامه بحجية السيرة في باب الاستصحاب ، إذ لا يمكن الاستناد إلى الاستصحاب مع الشك في رادعية الآيات عن السيرة

ص: 34


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /-303- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- هامش كفاية الأصول 2 / 101.

القائمة عليه ، لأنه هو موضوع الشك في الإمضاء ومحل الكلام فعلا. وهو واضح جدا.

نعم ، قد يرد عليه : انه كما لا يمكن التمسك بالاستصحاب هنا لا يمكن التمسك به هناك ، إذ مستند الاستصحاب لديه ليس إلا الأخبار وهي لا تخرج عن كونها اخبار آحاد ، فيرجع إلى الاستدلال على حجية الخبر بما لم يثبت إلا بخبر الواحد.

واما الوجه الأول : فهو مما يمكن تطبيقه هنا ، إذ إشكال الدور يتأتى بعينه هنا ، ونتيجته عدم ثبوت الردع ، وهو مما يكتفي به في الإمضاء.

هذا ، ولكنك عرفت فيما تقدم تقريب رادعية الآيات عن السيرة وعدم صلاحية السيرة للتخصيص ، وان المخصص ليس هو السيرة بعنوانها ، بل هو القطع بالإمضاء المنتفي مع احتمال الردع بالآيات ، فليس هناك ما يعارض عموم الآيات وما يتوقف الردع بها على عدمه كي يلزم الدور ، لأن المخصص معلوم العدم.

وتقدم نفي جميع ما قيل في نفي صلاحية الآيات للردع من دعوى الانصراف والحكومة فراجع تعرف (1).

وعليه : فبناء العقلاء على العمل بالاستصحاب لو تم صغرويا ، فهو غير حجة. للردع عنه بالآيات الناهية عن العمل بغير علم. فتدبر.

الدليل الثاني : ان الثبوت في السابق يوجب الظن بالثبوت في الزمان اللاحق ، فيجب العمل به.

وقد ناقشه صاحب الكفاية بوجهين :

الوجه الأول : منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء ، سواء أريد الظن

ص: 35


1- 4/ 299 من هذا الكتاب.

الشخصي أو النوعيّ. فانه لا وجه لهذه الدعوى سوى دعوى غلبة البقاء فيما يثبت ، وهي غير معلومة.

الوجه الثاني : انه لو سلم اقتضاء الثبوت للظن بالبقاء فلا دليل على اعتباره بالخصوص ، فلا يكون حجة ، بل الدليل على عدم اعتباره لعموم ما دل على النهي عن العمل واتباع الظن (1).

أقول : الّذي يبدو للنظر ان دعوى حصول الظن بالبقاء بواسطة الغلبة لا ترجع إلى محصل فضلا عن عدم ثبوتها.

وذلك لأن الشك في البقاء اما ان ينشأ من الشك في مقدار اقتضاء المقتضي وقابليته. واما ان ينشأ من الشك في وجود الرافع مع إحراز المقتضي واستعداد ذات الثابت أولا للبقاء.

اما في الأول : فلان غاية ما يمكن ان يقال : ان الثابت في ماله مقتضي البقاء هو بقاؤه بمقدار استعداد مقتضية واقتضائه مع اجتماع سائر اجزاء علته. وأي ربط لهذا في إثبات الظن في بقاء ما لا يعلم كيفية اقتضاء مقتضية وأنه بأي نحو؟. مثلا : إذا ثبت ان المقتضي للدار المبنية بالإسمنت يقتضي بقاءها خمسين سنة ، والمقتضي للدار المبنية بالطين يقتضي بقاءها خمس سنوات ، ولم يعلم مقدار اقتضاء مقتضي الدار المبنية بالجص ، وأنه هل يقتضي بقاءها عشرين سنة أو عشر سنين؟.

فإذا علم ببناء دار من الجص وبعد عشر سنوات شك في بقائها للشك في مقدار استعدادها للبقاء ، فهل هناك محصل لأن يقال : ان ما ثبت يدوم بملاحظة غلبة استمرار ثبوت ما له اقتضاء الاستمرار؟ ، وأي ربط لذلك بعد ملاحظة اختلاف الأمور والموجودات في مقدار استعدادها للبقاء طولا وقصرا؟.

ص: 36


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /388- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأما في الثاني : فلان دعوى الظن بالبقاء ترجع إلى دعوى الظن بعدم الرافع ، وهي تبتني على دعوى غلبة عدم الرافع في موارد تحقق الموجودات ، وهذه الدعوى لا وجه لها ولا مستند تستند عليه ، فهي دعوى جزافية ، مع انها لا تتأتى في ما إذا كان الشك في رافعية الموجود ، الّذي هو من أقسام الشك في الرافع.

الدليل الثالث : الإجماع فقد حكي عن المبادي انه قال : « الاستصحاب حجة لإجماع الفقهاء على انه متى حصل حكم ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا ، وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بان الاستصحاب حجة لكان ترجيحا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح » (1) ، كما نقل عن غيره.

والإشكال في هذا الوجه واضح كما في الكفاية (2).

إذ الإجماع - ويراد به اصطلاحا الاتفاق المستكشف منه قول المعصوم علیه السلام ، لا مجرد الاتفاق الحاصل بين الفقهاء - اما محصل أو منقول ، وكلاهما لا أساس له هاهنا.

أما المحصل : فتحققه ممنوع في مثل هذه المسألة مما اختلفت فيها المباني والوجوه ، فانه لا يكون تعبديا كاشفا عن قول المعصوم علیه السلام ، مع تحقق الخلاف من كثير ، حيث ذهبوا إلى منع حجيته.

وأما المنقول : فهو مضافا إلى عدم حجيته في نفسه ، غير تام للعلم بثبوت الخلاف كما عرفت.

والمتحصل : ان جميع هذه الوجوه لا تنهض لإثبات حجية الاستصحاب.

والعمدة في الاستدلال عليه هو النصوص المتعددة :

منها : صحيحة زرارة قال : « قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟. فقال علیه السلام : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب

ص: 37


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /388- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /388- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء. قلت : فان حرك على جنبه شيء ولم يعلم به؟. قال علیه السلام : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فانه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وانما - لكن ( التهذيب ) - ينقضه بيقين آخر » (1).

وقد اتفق الأعلام على عدم كون الإضمار مخلا بالاستدلال ، للعلم بان المراد من الضمير هو الإمام علیه السلام ، لأن الراوي هو زرارة ، وهو من الجلالة والقدر بمكان بحيث يعلم انه لا يسأل من غير الإمام علیه السلام .

ولا يخفى ان سؤاله الأول عن إيجاب الخفقة والخفقتين للوضوء سؤال عن شبهة حكمية ، إما لاشتباه مفهوم النوم لديه وتردده بين الأقل والأقل والأكثر وشموله للخفقة والخفقتين. واما للشك في كون الخفقة أو الخفقتين ناقضا مستقلا.

وعلى أي حال ، فليست هذه الفقرة محل الاستدلال بالرواية ، وانما محل الاستدلال بها هو قوله : « وإلاّ فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ... » الواقع في مقام الجواب عن السؤال عن حكم ما إذا حرك في جنبه شيء ولم يعلم به ، الظاهر في كونه سؤالا عن شبهة موضوعية للشك في تحقق النوم الناقض ، وهو نوم الاذن والقلب.

ولتحقيق الحال في مفاد هذه الفقرة ودلالتها على الاستصحاب لا بد من التعرض لمحتملات مفادها وتشخيص ما هو الأصح منها ، فنقول : المحتملات التي أشار إليها الشيخ رحمه اللّه . وتبعه صاحب الكفاية ثلاثة :

الاحتمال الأول : ما قربه قدس سره من ان الجزاء لقوله : « وإلاّ » محذوف ، وقوله : « فانه على يقين ... » علة للجزاء قامت مقامه لدلالته عليه ، فالتقدير : « وإلاّ فلا يجب عليه الوضوء ، لأنه على يقين من وضوئه ولا ينقض

ص: 38


1- وسائل الشيعة 1 / 174 ، حديث : 1.

اليقين أبدا بالشك ».

وذكر قدس سره : ان قيام العلة مقام الجزاء لا يحصى كثرة في القرآن وغيره مثل قوله تعالى : ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ) (1) وقوله : ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ) (2) وغيرهما.

الاحتمال الثاني : ان يكون قوله : « فانه على يقين من وضوئه » هو الجزاء بان يكون جملة خبرية أريد بها الإنشاء جدا ، ككثير من الجمل الخبرية الواقعة في مقام الإنشاء.

الاحتمال الثالث : ان يكون الجزاء هو قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » ويكون قوله : « فانه على يقين من وضوئه » توطئة وتمهيدا لذكر الجزاء ، فيكون المراد : « وان لم يستيقن أنه نام ، فحيث أنه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك » (3).

وهنا احتمال رابع قربه المحقق الأصفهاني ، وهو ان يكن قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جزاء مع التحفظ على ظهوره في مقام الاخبار جدا ، فيكون خبرا محضا مع كونه جزاء بنفسه (4).

إذا عرفت هذه المحتملات في الرواية فلا بد من معرفة ما هو الصحيح والمتعين منها ، ثم معرفة مقدار ارتباطه بالاستصحاب. فنقول :

اما الأول : فقد عرفت تقريب الشيخ له وبنى عليه صاحب الكفاية رحمه اللّه . وهو في حد نفسه معقول وليس ببعيد عن مقتضى التركيب الكلامي ، إلاّ انه انما يتعين الأخذ به إذا لم يكن في المحتملات الأخرى ما هو أرجح منه

ص: 39


1- سورة طه ، الآية : 7.
2- سورة الزمر ، الآية : 7.
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /329- الطبعة الأولى. الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 389 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
4- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 18 - الطبعة الأولى.

بلحاظ الموازين في باب الاستعمال. وسيتضح ذلك إن شاء اللّه تعالى بعد قليل.

واما الثاني : فقد حكم الشيخ رحمه اللّه بأنه يحتاج إلى تكلف. وأفاد صاحب الكفاية رحمه اللّه انه إلى الغاية بعيد.

ولعل السر فيه : ما أشار إليه في الكفاية من انه لا يصح إلاّ بأن يراد منه لزوم العمل على طبق يقينه بوضوئه. وهو تكلف واضح وبعيد عن ظهور الكلام.

ولكن المحقق الأصفهاني رحمه اللّه لم يستبعد ذلك ، ونفي التكلف فيه ، بأنه كسائر الموارد التي تستعمل فيها الجملة الخبرية في مقام الإنشاء ، كقوله : « يعيد » أو : « يغتسل » أو نحو ذلك في مقام بيان وجوب الإعادة أو الغسل ، كما يبين ذلك في مباحث الأصول اللفظية (1).

والّذي نراه عدم صحة ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، إذا الثابت في محله جواز استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء إذا كانت فعلية ، وهو المعهود خارجا ، دون ما إذا كانت اسمية ، فلا يصح ان يقول في مقام إيجاب الإعادة : « هو معيد » ، ولم يعهد ذلك في الاستعمالات العرفية أصلا.

ولعل السر فيه : ان الجملة الفعلية تحكي عن النسبة الصدورية ، فيمكن ان يقال بان إبراز النسبة الصدورية وكأنها متحققة في مقام الإنشاء ، يصح ان يجعل كناية عن إرادة الصدور ، ويستعمل في مقام البعث نحو تحقيق الفعل وإيجاده.

وليس كذلك الجملة الاسمية ، فانها تتكفل الحكاية عن اتصاف الذات بالوصف ، وذلك لا يصلح ان يكون كناية عن إرادة الصدور والإيجاد ، ويستعمل في مقام البعث نحو إيجاد الفعل فلاحظ.

وبما ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جملة اسمية ، فلا تصلح ان

ص: 40


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية /3/ 17 - الطبعة الأولى.

تستعمل في مقام البعث نحو العمل على طبق اليقين وإيجابه.

إذن فهذا الاحتمال بهذا البيان غير سديد.

ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر ، بان يقال : ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء ، لكن لا يراد بها إنشاء البعث كي يتأتى ما ذكر ، بل يقصد بها التعبد باليقين بقاء وجعل اليقين تعبدا ، فيكون المعنى : « ان لم يستيقن بالنوم فهو متيقن تعبدا بالوضوء ». وهذا المعنى لا محذور فيه ، بل يكون مفاد هذا الكلام مفاد قوله : « لا ينقض اليقين بالشك » في كونه تعبدا باليقين.

وعليه ، فان أمكن البناء على قابلية اليقين بعنوانه للتعبد ولو بلحاظ الجري العملي كما عليه المحقق النائيني (1) فهو ، وإلاّ التزام بان المراد التعبد بالمتيقن ، كما يذكر ذلك في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ».

وبالجملة : يكون قوله : « فانه ... » ، هو الجزاء ، ويكون المقصود به هو إنشاء التعبد باليقين فيكون مفاده مفاد : « لا تنقض اليقين بالشك » ، وهو معنى معقول ، وليس فيه مخالفة الموازين المصححة للكلام.

ومن الغريب غفلة الأعلام عن ذلك وصرف نظرهم إلى إرادة إنشاء البعث.

واما الاحتمال الثالث : فهو مما لا يصح الالتزام به ، إذ لو كان قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » هو الجزاء ، لما صح تصديره بالواو ، بل اما ان يكون مصدّرا بالفاء أو مجردا عنهما ، كما لا يخفى على من لاحظ نظائره ، مثل ان يقول : « ان جاء زيد من السفر فحيث انه تعبان هيئ له وسائل الراحة أو فهي له ذلك ».

واما الاحتمال الرابع : فهو غير صحيح أيضا. ومحصل الإشكال فيه : ان

ص: 41


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 260 - الطبعة الأولى.

المراد من قوله : « فانه على يقين من وضوئه » اما اليقين بالوضوء حدوثا أو بقاء.

فان أريد اليقين حدوثا ، فهو غير مترتب على عدم اليقين بالنوم ، وظاهر الجملة الشرطية هو ترتب الجزاء على الشرط. وان أريد اليقين بقاء ، فهو مخالف للوجدان ، كيف؟ والمفروض انه شاك في بقاء الوضوء.

وقد أنكر المحقق الأصفهاني دعوى اقتضاء الشرطية ترتب الجزاء على الشرط واستناده إليه ، بل ربما يعكس الأمر ، كقولهم : « ان كان النهار موجودا فالشمس طالعة ».

ثم قرب هذا الوجه بما يبتني على تجريد متعلق اليقين والشك من خصوصية الزمان (1). ولا يهمنا ذكره فعلا بعد ان عرفت الإشكال في أصل الاحتمال ، ولعلنا نعود إلى بيانه بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

واما إنكاره اقتضاء الشرطية سببية الشرط للجزاء ، فقد تقدم البحث في ذلك في مبحث مفهوم الشرط (2).

والتزمنا هناك بان ظهور الجملة الشرطية في ذلك مما لا ينكر.

وما ذكر في المثال تقدم الجواب عنه : بان الجزاء فيه أيضا مترتب على الشرط لكن بوجوده العلمي لا الخارجي ، والملحوظ في الشرطية ذلك. وبعبارة أخرى : الشرطية هاهنا بلحاظ مقام الإثبات ، والترتب فيه ثابت. فراجع.

والّذي يتحصل : ان الصحيح من هذه المحتملات هو الأول والثاني بالمعنى الّذي بيناه.

ولا يخفى ان الرواية على الاحتمال الثاني تكون دالة على حجية الاستصحاب في مطلق الموارد من دون اختصاص بباب الوضوء. فان الجزاء وان

ص: 42


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 18 - الطبعة الأولى.
2- راجع 3 / 214 من هذا الكتاب.

كان يتكفل التعبد باليقين بالوضوء ، إلاّ ان قوله بعد ذلك : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ظاهر في بيان قاعدة كلية يتكفل التعبد باليقين في كل موارد اليقين والشك ، فيكون التعبد باليقين في باب الوضوء من باب أنه صغرى من صغريات هذه الكلية ومصداق من مصاديقها ، فهي جملة مستأنفة تفيد أن الحكم لا يختص بباب الوضوء ، بل يجري في كل يقين وشك ، نظير أن يقول : « ان جاءك زيد فأكرمه وأكرم كل من يجيئك ».

وبالجملة : لا يراد من قوله : « لا ينقض ... » خصوص اليقين بالوضوء ، وإلاّ كان تكرارا لقوله : « فانه على يقين من وضوئه » وهو خلاف الظاهر.

واما على الاحتمال الأول ، فهي بحسب الموازين ظاهرة في اختصاص الاستصحاب بباب الوضوء ، لأن قوله علیه السلام : « فانه على يقين ... » فرض انه تعليل للحكم المقدر وهو عدم وجوب الوضوء.

والظاهر ان العلة مركبة من صغرى وهي قوله : « انه على يقين من وضوئه » ، وكبرى وهي : « لا ينقض اليقين بالشك ». ومن الواضح لزوم اتحاد الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى بحسب القيود والخصوصيات ، فإذا تقيد الأوسط بقيد في الصغرى لا بد ان يتقيد به في الكبرى ، ولا معنى لتجرده في الكبرى عن القيد ، إذ المقصود في القياس هو إثبات الأكبر ، للأصغر بواسطة حمل الأوسط على الأصغر ، وحمل الأكبر على الأوسط ، فالأوسط في الكبرى يلحظ طريقا لإثبات الأكبر للأصغر ، فإذا فرض ان الأكبر ثابت له بنفسه بلا خصوصية للقيد فلا معنى ان يكون المحمول على الأصغر هو المقيد ، إذ لا أثر للقيد ولا خصوصية له في إثبات نتيجة القياس.

وعليه ، فتقيد الأوسط في الصغرى يكشف عن تقيده في الكبرى ، وإلاّ كان التقيد لغوا ، وهو خلف. فلا يصح ان يقال : « هذا عالم بالفقه - على أن يكون الفقه قيدا - وكل عالم يجب إكرامه » إذا فرض ان وجوب الإكرام ثابت للعالم

ص: 43

بدون خصوصية الفقاهة.

وعليه ، ففيما نحن فيه إذا فرض ان الأوسط في الصغرى هو اليقين بالوضوء ، كان هو المأخوذ في موضوع الكبرى.

وعليه ، فلا تفيد الكبرى سوى عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك ، فيختص الاستصحاب على هذا التقدير بباب الوضوء.

ولا يخفى ان هذا الوجه لا يتأتى على الاحتمال الثاني ، وذلك لأن المقيد هو متعلق التعبد ، وهو مما لا يتنافى مع ثبوت الحكم في مطلق موارد اليقين ، وذلك لأن المتعبد به ليس هو ذات اليقين أو اليقين بشيء على إجماله ، بل المتعبد به هو اليقين بالشيء بعنوانه الخاصّ من وضوء أو صلاة أو وجوب أو نحو ذلك ، سواء استفدنا عموم عدم نقض اليقين بالشك لمطلق الموارد أو في خصوص مورد الوضوء ، اذن فأخذ خصوصية « من وضوئه » لا تنافي عموم الاستصحاب لغير باب الوضوء ، بل هو لازم أعم.

والسر في ذلك : ان التعبد باليقين ليس هو الوسط المتكرر في القياس ، بل هو المحمول في الكبرى المستفاد من النهي عن نقض اليقين بالشك ، وانما الموضوع هو نفس اليقين والشك فيقال : هذا متيقن وشاك ، وكل متيقن وشاك يحكم عليه بأنه متيقن بما تيقن به ، فهذا متيقن بما يتيقن به.

وعليه : فأخذ الوضوء في المتعبدية ليس كاشفا عن تقيد الموضوع بخصوصية الوضوء ولا ظهور له في ذلك.

وعليه ، فيمكن التمسك بإطلاق لفظ اليقين في قوله : « ولا ينقض » لإثبات عموم الحكم المطلق الموارد ، ولا قرينة على التخصيص الا ما يتوهم من كون مورده خصوص اليقين بالوضوء ، وهو فساد لما تقرر في محله من ان المورد لا يقيد الوارد. فتدبر جيدا.

وكيف كان ، فيقع الكلام في ترجيح أي الاحتمالين إثباتا.

ص: 44

وقد يستفاد استناد الشيخ رحمه اللّه - في ترجيح كون قوله : « فانه على يقين ... » علة لا جزاء - على ما ورد من الجمل المشابهة لها التي قامت العلة مقام الجزاء فيها (1).

ولكن هذا قابل للدفع : باعتبار انه انما يلتزم في الأمثلة التي ذكرها الشيخ ونحوها بقيام العلة مقام الجزاء ، لا من جهة ظهور الكلام فيه ، ولو بواسطة كثرة الاستعمال فيه ، بل لعدم صلاحية مدخول الفاء لكونه جزاء.

وإلاّ كان هو الجزاء - وكثرة الاستعمال في العلية معارضة بكثرة استعمال مثل هذا التركيب في الجزاء أيضا - كما في قوله تعالى : ( فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ) (2). وقوله تعالى : ( فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ) (3) وغيرهما.

فإذا كان مدخول الفاء فيما نحن فيه صالحا لكونه جزاء كما بيناه تعين حمله على ذلك ، لأن الالتزام بتقدير الجزاء وقيام العلة مقامه ، التزام بخلاف الظاهر ، فان التقدير على خلاف الأصل في الاستعمالات ، مع ان الفاء ظاهرة في كون مدخولها هو الجزاء ، فيتعين الالتزام بالاحتمال الثاني. وقد عرفت ان مقتضاه دلالة الرواية على الاستصحاب في غير باب الوضوء.

كما انك عرفت ان مقتضى الاحتمال الأول اختصاص الاستصحاب بباب الوضوء ، إلاّ ان الشيخ رحمه اللّه تصدى لإثبات العموم ببيان : ان اللام في قوله : « ولا ينقض اليقين ... » للجنس لا للعهد ، فتفيد قاعدة عامة لمطلق افراد اليقين والشك بلا اختصاص باليقين بالوضوء (4).

ولكن يورد عليه بما أفيد من : انه لا أثر لدعوى كون اللام للجنس لا

ص: 45


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /329- الطبعة الأولى.
2- سورة المائدة ، الآية : 22.
3- سورة يونس ، الآية : 106.
4- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /330- الطبعة الأولى.

للعهد ، وذلك لأن اليقين في الصغرى اما ان تلحظ في خصوصية الوضوء بنحو التقييد أولا.

فان لوحظت فيه بنحو التقييد لم ينفع كون اللام للجنس في إثبات عموم الكبرى ، لما عرفت من لزوم اتحاد الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى في الخصوصيات ، فيكون ذلك قرينة على تقييد اليقين المأخوذ في الكبرى.

وان لم تلحظ فيه بنحو التقييد ، بل لوحظ اليقين بما هو يقين لا أكثر ، كانت الكبرى عامة لكل باب وان كانت اللام للعهد ، إذ المعهود هو ذات اليقين لا اليقين الخاصّ.

ومع التردد في أخذ الخصوصية بنحو التقييد أو بنحو الموردية ، كان الكلام مجملا لاحتفافه بما يصلح للقرينية.

فظهر انه لا فائدة في تحقيق ان اللام للجنس لإثبات العموم ، بل المدار على إلغاء خصوصية تعلق اليقين بالوضوء.

ولأجل ذلك لا بد من تحقيق ان خصوصية تعلق اليقين بالوضوء ، هل هي ملحوظة في الحكم أو لا؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية رحمه اللّه وجوها ثلاثة لإثبات إلغاء الخصوصية.

الوجه الأول : ما أفاده من ظهور التعليل في كونه بأمر ارتكازي لا تعبدي ، وهو يقتضي ان يكون موضوع النقض مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء ، لأنه لو قيد اليقين بالوضوء كان التعليل تعبديا وهو خلاف الظاهر.

الوجه الثاني : ان احتمال اختصاص قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » بباب الوضوء ليس إلاّ من جهة احتمال كون اللام للعهد ، مع ان الظاهر كونها للجنس كما هو الأصل فتفيد العموم.

الوجه الثالث : ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » لا ظهور له في تقيد

ص: 46

اليقين بالوضوء ، بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء ، لقوة احتمال ان يكون قوله : « من وضوئه » متعلقا بالظرف المقدر لا بلفظ اليقين ، فكأنه قال : « فانه من طرف وضوئه على يقين » ، فيكون الأوسط هو ذات اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء (1).

اما الوجه الأول ، فقد يورد عليه : بان الحكم المذكور في العلة لا يلزم ان يكون معلوما لدى المخاطب وفي ذهنه في مرحلة سابقة على الخطاب ، بل قد يفهم حكم العلة بنفس التعليل ، كما لو قال : « أكرم زيدا لأنه عالم » ولم يكن في ذهنه وجوب إكرام العالم ، بل يستفاد وجوب إكرام العالم من نفس هذا الدليل.

وهذا الإيراد قابل للدفع ، ويتضح ذلك ببيان مرادة قدس سره ، فنقول : ان العلة « تارة » : تكون حكما ارتكازيا عقلائيا أو شرعيا ، كما لو قال : « لا تضرب اليتيم لأنه ظلم » ، فان حرمة الظلم عقلا وشرعا ثابتة في الأذهان. « وأخرى » : تكون حكما تعبديا غير مرتكز ذهنا ، كما لو قال : « أكرم زيدا لأنه عالم ».

والتعليل في كلا الموردين ظاهر في ملاحظة العلة ، وهي الحكم العام في مرحلة سابقة على الحكم الخاصّ في هذه القضية ، فيدل التعليل على ثبوت الحكم العام في حد نفسه ، وانه ثابت للمورد الخاصّ من باب التطبيق وكونه أحد أفراده.

ثم انه قد يتعقب التعليل جملة تتكفل ببيان حكم الموضوع العام ، مثل ان يقول : « أكرم زيدا لأنه عالم والعالم يجب إكرامه » و: « لا تضرب اليتيم لأنه ظلم والظلم حرام أو قبيح » ، فهل مثل هذه الجملة توضيح لما تقدم - لأن حكم العام قد فهم من نفس التعليل كما عرفت. ولذا لو اقتصر عليه ولم يتعقب بهذه الجملة فهم منه حرمة مطلق الظلم ووجوب إكرام مطلق العالم - أو أنه لبيان شيء آخر

ص: 47


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /389- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

متمم للتعليل كما هو مقتضى التركيب اللفظي لأن ظاهر الكلام انه جزء متمم للتعليل؟.

والّذي نستظهره هو الثاني ، فانها ليست بيانا لمجرد ثبوت الحكم للموضوع العام ، كما هو مقتضى الجمود على حاق اللفظ ، كي تكون توضيحا لما تقدم ، بل هي لبيان مناسبة ثبوت الحكم للموضوع العام ، وان الموضوع العام يناسب ان يثبت له هذا الحكم ، فكأنه قال : « والعالم يناسب أو ينبغي ان يثبت له وجوب الإكرام » ، فيكون ذلك تعليلا بأمر ارتكازي ، وهذا هو معنى ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي ، فيحمل الكلام على ذلك ، لأنه أخذ في التعليل ، لا على بيان مجرد ثبوت الحكم للموضوع العام ، فانه ليس أمرا ارتكازيا دائما ، إذ قد يكون مجهولا غير معلوم.

وعليه ، ففيما نحن فيه علل نفي وجوب الوضوء في مورد السؤال في الرواية بأنه على يقين من وضوئه ، ثم عقبه بقوله : « ولا ينقص اليقين بالشك » ، وظاهر هذه الجملة الأخيرة بمقتضى ما ذكرناه أنها في مقام بيان المناسبة لعدم نقض اليقين بالشك ، والتناسب بين اليقين وعدم نقضه بالشك هي جهة الاستحكام والإبرام فيه ، وجهة التزلزل في الشك فلا يناسب ان ينقض به اليقين.

ولا يخفى انه لا خصوصية لمتعلق اليقين في ذلك بل المدار على نفس اليقين والشك.

وعليه ، فيكون الحكم ثابتا في مطلق موارد اليقين بمقتضى كون التعليل بأمر ارتكازي.

هذا غاية ما يمكن توجيه ما أفاده في الكفاية.

ولكن يمكن ان يناقش فيه : بأنه انما يتم لو كان قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » تمام التعليل.

ص: 48

ولكنه ليس كذلك ، بل هو جزء التعليل ، فان التعليل بحسب ظاهر الكلام مركب من جزءين : أحدهما : كونه على يقين من وضوئه ، والآخر : عدم مناسبة نقض اليقين بالشك فلو فرض ظهور الجزء الأول في دخل خصوصية الوضوء فلا معنى لإلغائها ، نظير ما لو صرح بان الملاك في ثبوت الحكم هو كونه على يقين من الوضوء بما هو كذلك ومناسبة عدم نقض اليقين بالشك ، فانه لا منافاة في ذلك لشيء. فلا ملازمة بين أخذ المناسبة في العلة وبين إلغاء خصوصية الوضوء فلاحظ.

واما الوجه الثاني : فقد عرفت المناقشة فيه حين التعرض لكلام الشيخ ، وبيان ان الملاك في العموم إلغاء خصوصية الوضوء ، سواء كانت اللام للجنس أو للعهد.

واما الوجه الثالث : فهو متين ، فانه إذا فرض عدم أخذ الوضوء في المتعلق ، بل أخذ الأوسط هو اليقين مجردا عن خصوصية تعلقه بالوضوء ، كان الدخيل في العلة هو مطلق اليقين لا اليقين الخاصّ. فيكون كما لو قال : « فانه من وضوئه على يقين » ، فانه لا يتوهم تقيد اليقين بالوضوء ، ولا أثر لتأخير قوله : « من وضوئه » أو تقديمه في ذلك.

يبقى بيان سرّ عدم كون قوله : « من وضوئه » متعلقا لليقين ، بل بالظرف المقدر ، وهو ان اليقين انما يتعدى إلى متعلقه ب- : « الباء » لا ب- : « من » فيقال : تيقن بكذا وأنا على يقين بكذا ، ونحو ذلك وهو واضح.

ويضاف إلى هذا الوجه وجه آخر ، وهو ما أشير إليه في بعض الكلمات من ان اليقين لما كان من الصفات التعلقية التي تتقوم بالمتعلق مضافا إلى الموضوع ، كان ذكر المتعلق غير كاشف عن خصوصية فيه ، بل انما هو من باب لا بدية المتعلق فيه (1).

ص: 49


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 18 - الطبعة الأولى.

هذا تمام الكلام في معنى الرواية. وقد عرفت ان الأقرب ما ذكرناه.

ثم انك عرفت فيما تقدم وجود القول بالتفصيل في اعتبار الاستصحاب بين مورد الشك في البقاء لأجل الشك في المقتضي فلا يعتبر فيه الاستصحاب.

ومورد الشك في البقاء لأجل الشك في الرافع فيعتبر فيه الاستصحاب وممن بنى على هذا القول الشيخ رحمه اللّه مستظهرا لاختصاص من نصوص الاستصحاب (1). وخالفه في ذلك صاحب الكفاية فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا ، وفي كلا الموردين لعموم النصوص (2).

وقد تعرض الشيخ إلى بيان جهة الاختصاص بعد ذكره لجميع النصوص ، ولكن صاحب الكفاية تعرض إليه هاهنا.

ونحن نتعرض فعلا إلى ذلك وبيان ما هو الحق لدينا ، لأن ترتيب أبحاثنا يتبع نهج الكفاية.

فنقول : ان منشأ ما ذهب إليه الشيخ من اختصاص الاستصحاب بمورد كون الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع ، هو لفظ : « النقض » الوارد في النص ، وعليه يدور محور الحديث.

فقد أفاد الشيخ رحمه اللّه : ان حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل ونقض الغزل ، والمفروض انه لم يستعمل في النص في هذا المعنى ، فيدور أمره بين ان يراد به رفع الأمر الثابت الّذي له اقتضاء الاستمرار ، وان يراد به مطلق رفع اليد عن الشيء بعد الأخذ به ولو كان رفع اليد لأجل عدم المقتضي ، والمتعين هو الأول لأنه اقرب إلى المعنى الحقيقي من الثاني.

وقد ذكر : ان ذلك يكون منشئا لتخصيص المتعلق باليقين المتعلق بما من

ص: 50


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 328 و336- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /390- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

شأنه الاستمرار وان كان في نفسه عاما لكل يقين ، إذ الفعل الخاصّ يكن مخصصا لعموم متعلقه ، نظير قول القائل : « لا تضرب أحدا » المحمول على خصوص الأحياء ، لظهور الضرب في المؤلم ، ولا يكون عموم : « أحد » لغير الأحياء قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه ولو لم يكن مؤلما.

ثم تعرض لتوهم : ان ما اختاره يستلزم التصرف في لفظ اليقين بحمله على إرادة المتيقن منه ، إذ التفصيل المزبور بلحاظ المتيقن. فدفعه : بان التصرف لازم على كل حال ، ولو التزم بالتعميم ، لأن النقض الاختياري المتعلق للنهي لا يتعلق باليقين ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه كالطهارة ، أو المراد أحكام اليقين لا بمعنى أحكام نفس وصف اليقين ، لأنها ترتفع بمجرد الشك ، بل أحكام المتيقن الثابتة له بسبب اليقين ، هذا خلاصة ما أفاده الشيخ رحمه اللّه (1).

واما صاحب الكفاية ، فقد أوقع البحث تارة : في مادة النقض. وأخرى : في هيئة : « لا تنقض » وذكر : ان شيئا منهما لا يستلزم التخصيص بما ذهب إليه الشيخ.

اما من حيث المادة ، فقد أفاد : ان النقض ضد الإبرام ، فيحسن ان يسند إلى نفس اليقين ولو كان متعلقا بما لا اقتضاء فيه للبقاء ، لما يتخيل فيه من الاستحكام فجهة الاستحكام في اليقين هي المصححة لإسناد النقض إليه ولا عبرة بما فيه اقتضاء البقاء إذ ليس المصحح لإسناد النقض وجود المقتضي للبقاء وإلاّ لصح ان يقال : « نقضت الحجر من مكانه » مع انه ركيك. ولما صح ان يقال : « انتقض اليقين باشتعال السراج » فيما إذا شك في بقائه لأجل الشك في مقدار استعداده ، مع انه حسن وصحيح. فيكشف ذلك عن ان مناط صحة اسناد النقض هو جهة الاستحكام ، وهي ثابتة في اليقين في كلا الموردين ، فيسند

ص: 51


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /336- الطبعة الأولى.

النقض حقيقة إلى اليقين بملاحظته لا بملاحظة متعلقه ، فلا تصل النوبة إلى التجوز كي يتوخى أقرب المجازات.

وأورد على نفسه : بان اليقين - في باب الاستصحاب - لا ينقض حقيقة. إذ اليقين بالحدوث ثابت ، فلا بد من فرض المتيقن مما له اقتضاء البقاء ، كي يكون اليقين بالحدوث حقيقة يقينا بالبقاء مسامحة ، فيصح اسناد النقض إلى اليقين مسامحة بهذه الملاحظة. بخلاف ما إذا لم يكن للمتعلق اقتضاء البقاء ، فانه لا يقين بلحاظ البقاء ولو مسامحة ، فلا معنى لإسناد النقض إلى اليقين.

وأجاب عن ذلك : بان هنا وجها آخر هو الظاهر لتصحيح اسناد النقض إلى اليقين بلا حاجة إلى هذا الوجه ، وهو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا ، وإلغاء جهة اختلافهما زمانا ، وهذا يصحح اسناد النقض إليه ، ولا فرق في ذلك بين تعلقه بماله اقتضاء البقاء وما ليس له اقتضاء البقاء.

واما من حيث الهيئة ، فقد أفاد : بان المراد هو النهي عن النقض بحسب البناء والعمل لا حقيقة ، لأن النقض الحقيقي خارج عن الاختيار سواء تعلق باليقين أم بالمتيقن أم بآثار اليقين.

وعليه ، فلا يجوز التصرف بحمل اليقين على إرادة المتيقن لأجل إبقاء الصيغة على حقيقتها ، بل يؤخذ بما هو الظاهر من النهي عن نقض اليقين.

ثم أورد على نفسه : بأنه لا محيص عن التصرف في لفظ اليقين وحمله على إرادة المتيقن ، إذ المنهي عنه وان كان هو النقض العملي ، لكنه غير مراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره ، لمنافاته لمورد النصوص ، بل المراد هو النهي عن نقض المتيقن بحسب العمل.

وأجاب عنه : بان النهي متعلق بنقض اليقين ، لكن اليقين ليس ملحوظا باللحاظ الاستقلالي ، بل ملحوظا مرآة للمتيقن وبالنظر الآلي ، فيكون كناية عن لزوم البناء والعمل بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما أو لحكمه إذا

ص: 52

كان موضوعا. هذه خلاصة ما أفاده صاحب الكفاية (1).

والّذي يبدو ان نقطة الخلاف بين الشيخ وبينه هو : ان نظر الشيخ إلى ان النقض مسند في الواقع إلى المتيقن ، فيعتبر فيه كونه مما فيه اقتضاء البقاء. ونظره قدس سره إلى ان النقض مسند إلى اليقين بنفسه ، وهو ذو جهة تصحح اسناد النقض إليه ، أعم من ان يكون متعلقة ذا اقتضاء للبقاء أو لا يكون ، وهي جهة الاستحكام فيه فلا وجه لحمله على خلاف ظاهره والالتزام بتخصيص الاستصحاب بخصوص مورد الشك في الرافع.

وتحقيق الكلام في المقام على نحو يرتفع به بعض الإبهام : ان لفظ النقض يسند إلى الدار ، فيقال : « نقض الدار » ويفسر في كتب اللغة بهدم الدار ، ويسند إلى الحبل ويفسر بحلّه ، ويسند إلى العظام ، فيقال : « نقض العظم » ويفسر بالكسر ، ويسند إلى الحكم ، فيقال : « نقض الحكم » في قبال إبرامه ، ونصّ في اللغة على أنه مجاز (2). كما يقال : قولان متناقضان ، وغير ذلك ، كما انه قد يفسر الإنقاض بمعنى التصويت كما في مثل قوله تعالى : ( الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) (3) فانه فسر بالتصويت (4).

والّذي يمكن الجزم به ان الكسر والهدم والحل والرفع كل ذلك ليس معنى للنقض ، وانما هو تفسير له باللازم أو المحقق لمفهومه ، والمعنى الجامع بين هذه الموارد جميعا هو ما يساوق التشتيت والنكث وفصل الأجزاء بعضها عن الآخر ، فنقض الشيء يرجع إلى رفع الهيئة الاتصالية وتشتيت الاجتماع الحاصل للأجزاء. وبذلك يكون نقض الدار بمعنى هدمها لأنه بالهدم تنعدم الهيئة

ص: 53


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /391- 392 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- اقرب الموارد مادة نقض.
3- سورة الشرح ، الآية : 3.
4- الفضل بن الحسن العلاّمة الطبرسي. مجمع البيان5/ 508 - الطبعة الأولى.

الاجتماعية لأجزاء الدار من غرفة وسطح وصحن وغير ذلك.

كما ان نقض العظم يكون بكسره ، لأنه يفصل اجزاء العظم بعضها عن الآخر.

ومعنى نقض الحبل نكثه وحله. ومثله نقض الغزل وهكذا.

وبالجملة : النقض هو إعدام الهيئة التركيبية ورفع الاتصال بين الاجزاء ولعله مراد الشيخ رحمه اللّه من انه رفع الهيئة الاتصالية.

وعليه ، فإسناد النقض إلى ما لا أجزاء له كالحكم والبيعة والعهد واليقين ، اسناد مجازي ، والمصحح له أحد وجهين :

الوجه الأول : ان يلحظ استمرار وجود الشيء ، فتكون له وحدة تركيبية بلحاظ الاجزاء التدريجية المتصلة ، فان الموجود التدريجي المتصل وجود واحد ذو اجزاء بلحاظ تعدد آنات الزمان ، ويكون المراد من نقضه قطع الاستمرار وعدم إلحاق الاجزاء المفروضة المقدرة بالاجزاء المتقدمة ، فيصدق النقض بنحو المجاز بهذه الملاحظة ، ولا يكون صدقة حقيقيا ، لعدم تحقق الأجزاء اللاحقة ، بل ليس المجرد الفرض والتقدير.

والوجه الثاني : ان يكون بلحاظ عدم ترتب الأثر على المنقوض ، فيشابه المنقوض حقيقة من هذه الجهة.

ولكن المتعين هو الأول من الوجهين ، إذ الثاني غير مطرد ، إذ نفي الأثر مع عدم إلغاء الهيئة التركيبية للشيء المركب حقيقة لا يطلق بلحاظه النقض ولو بنحو المجاز ، فالمصحح يتعين ان يكون هو الأول.

ثم لا يخفى عليك انه لا يعتبر ان يكون متعلق النقض مما فيه إبرام فعلا ، لصدق النقض بدونه ، كما لو كان صف من اشخاص واقفين بلا استحكام وإبرام فيه ، فتفرقة افراد الصف نقض للصف مع عدم الإبرام. ولعله مما يشهد لما ذكرنا :

ان أهل اللغة يفسرون نقض الحكم برفعه في مقابل إبرامه ، فيجعلون الإبرام في

ص: 54

عرض النقض لا في مرحلة سابقة عليه ، كما لا يعتبر فيه الاستحكام أو الاستمساك ، فان جميع ذلك لزوم ما لا يلزم ، لصدق النقض بدونه جزما كمثال الصف المتقدم.

وبالجملة : لا يعتبر في متعلق النقض شيء مما ذكر من الإبرام أو الاستحكام أو التماسك ، بل المعتبر كونه ذا اجزاء ، فانفصام وحدته التركيبية وانفصال اجزائه بعضها عن بعض وتشتتها يعد نقضا.

وقد عرفت ان صدق النقض فيما لا اجزاء له كالحكم والعهد انما يكون بنحو المجاز بلحاظ الوحدة الاستمرارية.

وبذلك يظهر ان صدق النقض في مورد اليقين يكون مجازيا ، لأنه لا اجزاء له ، فلا بد من ملاحظة وحدته الاستمرارية ، فرفع اليد عن استمراره يكون نقضا له.

ولا يخفى ان رفع اليد عن استمراره وانقطاع الاتصال في عمود الزمان ينشأ.

تارة : من انتهاء أمد الشيء لتحديد ثبوته بأمد خاص ، كالزوجية المنقطعة بعد انتهاء الزمن.

وأخرى : من وجود ما يرفعه بحيث لولاه لاستمر وجوده لعدم تحديده بأمد معين.

ونقض الشيء بلحاظ عدم استمراره انما يصدق في المورد الثاني لا المورد الأول ، فلا يكون ارتفاع الطهارة الموقتة بوقت خاص بعد حصول الوقت نقضا لها ، واما ارتفاعها بالحدث القاطع لاستمرارها فيعد نقضا لها. كما ان انتهاء الصلاة بالسلام والخروج عن الصلاة به لا يكون نقضا للصلاة ، لكن الخروج عن الصلاة بالحدث يكون نقضا لها. والزوجية لا تنتقض بانتهاء المدة ، لكنها تنتقض بالفسخ أو الطلاق ، كما ان ملكية البطون للوقف لا تنتقض بانعدام

ص: 55

البطن ، ولكن الملكية تنتقض بالفسخ والكفر في بعض الموارد. وهذا واضح لا غبار عليه.

وعلى هذا نقول : ان صدق نقض اليقين بلحاظ وحدته الاستمرارية - كما عرفت - وبما ان اليقين يتبع المتيقن ، فاستمراره باستمرار وجود اليقين وارتفاعه بارتفاع المتيقن.

وعليه ، فارتفاع اليقين تارة : يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة انتهاء أمده وتمامية استعداده للبقاء. وأخرى : لارتفاع المتيقن من جهة تحقق ما يرفعه مع استعداده للبقاء لو لا الرافع. وانتقاض اليقين انما يصدق في الصورة الثانية دون الأولى ، لما عرفت من ان ارتفاع الشيء لعدم مقتضية وانتهاء أمده لا يعد نقضا. وبما ان الظاهر من قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » كون مورد الاستصحاب هو الشك في البقاء أو الانتقاض ودوران الأمر بينهما ، بحيث يكون أحد طرفي الاحتمال هو البقاء والطرف الآخر هو الانتقاض ، كان مقتضى ذلك اختصاص النص بمورد الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع المستلزم للشك في الانتقاض ، إذ مع الشك في البقاء من جهة الشك في قصور المقتضي وانتهاء أمده لا انتقاض قطعا ، بمعنى انه يعلم بعدم الانتقاض ، إما للارتفاع بانتهاء الأمد واما لعدم الارتفاع ، وكلاهما لا يعد انتقاضا ، فلا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.

وبهذا البيان يتضح اختصاص النص بمورد الشك في الرافع كما ذهب إليه الشيخ رحمه اللّه . وتبعه عليه المحقق النائيني (1) بعد بيان مراد الشيخ بما يقرب مما انتهينا إليه بواسطة هذا البيان ، وسيتضح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ومن ذلك يشكل جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في الموضوع

ص: 56


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 380 - الطبعة الأولى.

وستعرف هذه الخصوصيات تدريجا إن شاء اللّه تعالى.

ومما بيناه يتضح ان ما أفاده صاحب الكفاية - من صدق النقض مطلقا بملاحظة ما اليقين من الاستحكام ، ولذا يقال : « انتقض اليقين باشتعال السراج » إذا انطفأ لانتهاء نفطه - مثلا - ، ولا يلحظ في صدق النقض قابلية الشيء للاستمرار ، ولذا لا يصدق : « نقضت الحجر من مكانه » -. في غير محله ، فانه مضافا إلى التشكيك في تصور الاستحكام بالنسبة إلى اليقين على رفع الحجر المثبت في الأرض بنحو مستحكم جدا ، فلا يقال لرفعه انه نقض ، بل النقض - كما عرفت انما يصدق بلحاظ فتّ الأجزاء المتصلة للمركب اما حقيقة أو مسامحة.

واما دعوى صدق النقض في مثال السراج فقد عرفت ما فيها ، ولم يثبت ركاكة صدق النقض في مثال الحجر إذا كان الملحوظ انتقاض. استمرار كونه في المكان الخاصّ ، لا انتقاض نفس الحجر من مكانه كما هو ظاهر العبارة في المثال.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه عبر عن النقض بأنه رفع اليد ، وخصه برفع اليد عن الأمر الثابت (1).

فأورد عليه : بأنه لا وجه لتقييده برفع اليد عن الأمر الثابت ، بل مقتضى الإطلاق التعميم لغير الأمر الثابت (2).

ويمكن دفع هذا الإيراد عنه ، بأنه ليس المقصود كون حقيقة النقض ومفهومه هو رفع اليد ، بل المقصود ان النقض حيث انه لا يصدق حقيقة لأنه ليس من افعال المكلف الاختيارية ، فلا بد ان يراد به النقض بحسب العمل الراجع إلى عدم ترتيب الآثار ورفع اليد عن المتيقن ، فإذا فرض كون مفهوم

ص: 57


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /336- الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 78 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

النقض يساوق فصم الوحدة التركيبية ، كان المقصود به هاهنا رفع اليد عن خصوص الأمر الثابت لانسجامه مع مفهوم النقض. فالتفت ولا تغفل.

والمتحصل : ان مقتضى النهي عن النقض اختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع سواء تعلق النقض باليقين أم بالمتيقن.

هذا وينبغي التكلم في جهات :

الجهة الأولى : ان النقض في باب الاستصحاب هل يعقل ان يتعلق باليقين أو لا؟. والكلام في ذلك بعد الفراغ عن قابلية اليقين في حد نفسه لتعلق النقض به ، كما عرفت ذلك بملاحظة وحدته الاستمرارية.

وتحقيق الكلام ، هو : ان النقض في باب الاستصحاب لا معنى لأن يتعلق باليقين أصلا. وذلك لأن نقض اليقين - على ما عرفت - يرجع إلى عدم وحدته الاستمرارية وتخلل العدم بينها. وعليه نقول : ان لدينا يقينين : أحدهما : اليقين بالوجود الفعلي للشيء ، وهذا لا شبهة في انتقاضه بالشك بقاء أو اليقين بالخلاف ، لأن اليقين بوجود الشيء له وحدة استمرارية ، فإذا زالت بقاء بالشك أو باليقين بخلافه فقد اختلت الوحدة ، ويتحقق الانتقاض ، ولذا لا يجتمع اليقين بالوجود الفعلي مع الشك فيه أو اليقين بعدمه ، لأن أحدهما ناقض للآخر. والآخر : اليقين الفعلي بالوجود السابق وهذا لا ينتقض بالشك في الوجود الفعلي بقاء أو اليقين بعدمه بقاء بل قد يجتمعان في آن واحد كما لا يخفى. بل لا يكون اليقين بوجوده فعلا استمرار لليقين بالوجود السابق ، إذ قد يحصلان في آن واحد ، فلا معنى لأن يكون أحدهما استمرارا للآخر.

وسرّ ذلك : ان وحدة اليقين بلحاظ وحدة متعلقه ، فإذا اختلف المتعلق اختلف اليقين. فاليقين يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة واليقين بعدالته يوم السبت فردان لليقين لاختلاف متعلقهما ، ولأجل ذلك لا يكون اليقين بعدم

ص: 58

العدالة يوم السبت ناقضا لليقين يوم السبت بعدالته يوم الجمعة ، لعدم إخلاله بوحدته الاستمرارية ، كيف؟ وقد يجتمعان معا في آن واحد.

وإذا اتضح ذلك فنقول : ان كان المأخوذ في باب الاستصحاب هو اليقين السابق بالوجود الفعلي ، كان الشك بقاء ناقضا له لإخلاله باستمراره ، فصح ان يسند النقض إلى اليقين.

ولكن الأمر ليس كذلك ، فان المأخوذ هو اليقين الفعلي بالوجود السابق ، سواء كان يقين سابق بالوجود الفعلي أم لم يكن ، ولذا قد يحصل الشك في البقاء قبل اليقين بالحدوث. ومثل هذا اليقين لا يكون الشك ناقضا له - كما عرفت - ، فلا معنى للنهي عن نقضه به. فلا محيص عن ان يكون المسند إليه النقض هو المتيقن نفسه بلحاظ انقطاع استمراره بوجود الرافع المشكوك. ويكون التعبير باليقين طريقيا على ما يأتي بيانه في الجهة الثالثة.

واما ما أفاده الشيخ رحمه اللّه - في ذيل كلامه السابق - من عدم اسناد النقض إلى اليقين بل إلى المتيقن فان أراد به عدم قابلية اليقين في حد نفسه لإسناد النقض إليه - كما هو ظاهر عبارته - ، فقد عرفت انه قابل لذلك بلحاظ الاستمرار فيه. وان أراد به ما ذكرناه من ان اليقين في باب الاستصحاب لا معنى لإسناد النقض إليه ، فهو تام كما عرفت.

واما ما أفاده صاحب الكفاية في كلامه عن مادة النقض من الإيراد على نفسه والجواب عنه. فهو مما لا ينبغي ان يصدر من مثل صاحب الكفاية. وذلك : فان ما ذكره تحت عنوان : « ان قلت » - من ان النقض الحقيقي لا يتعلق باليقين ، إذ اليقين بالحدوث لا ينتقض ، وانما يبتني صدق النقض على فرض تعلق اليقين بالبقاء مسامحة كي ينتقض بالشك بقاء ، وذلك انما يكون فيما إذا كان متعلق اليقين ذا اقتضاء للبقاء ، بحيث يكون اليقين بحدوثه يقينا ببقائه مسامحة -. يظهر منه انه صحيح في نفسه ، لكن تخلص عنه بان هنا وجها آخر لصدق النقض ،

ص: 59

وهو تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصية الزمان وملاحظتهما أمرا واحدا بإلغاء اختلافهما زمانا.

والّذي نراه عدم سداد كل من الإيراد وجوابه.

اما الإيراد ، فلما عرفت من ان النقض لا يعقل ان يتعلق باليقين بنحو من الأنحاء ، إذ موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالوجود السابق ، وهو لا ينتقض حقيقة ولا مجازا بالشك ، وليس الموضوع هو اليقين بالوجود الفعلي حتى يتصور اليقين المسامحي بالبقاء عند تعلق اليقين بالحدوث ، فيسند إليه النقض بلحاظ منافاته مع الشك.

هذا ، مع ان هذا اليقين المسامحي لا يزول بالشك ، لأنه مبني على المسامحة والفرض ، وهو لا يتناقض مع وجود الشك حقيقة بالوجود الفعلي. فتدبر.

واما الجواب عنه ، فلم يعرف له معنى محصل ، إذ مع فرض تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصية الحدوث والبقاء وإلغاء جهة اختلافهما زمانا ، كيف يعقل اجتماع اليقين والشك كي ينهى عن النقض بالشك؟. والمفروض ظهور الدليل في موضوعية كل من اليقين والشك بوجودهما الفعلي بحيث يظهر منه فرض اجتماعهما في آن واحد. هذا إذا فرض تعلق الشك بما تعلق به اليقين.

وان أريد تعلق كل منهما بالطبيعة بنحو الموجبة الجزئية ، فاجتماعهما في آن واحد ممكن ، إذ يمكن ان يكون متعلق الشك الطبيعة بلحاظ حصة ، ومتعلق اليقين نفس الطبيعة بلحاظ حصة أخرى ولكنه راجع إلى اختلاف المتعلقين ، وتعلق الشك بغير ما تعلق به اليقين ، وفي مثله لا يصدق النقض والبقاء كما لا يخفى.

وجملة القول : ان ما أفاده صاحب الكفاية هاهنا غير وجيه. فالمتعين ما ذكرناه من المنع عن تعلق النقض باليقين - في باب الاستصحاب - ، ولا بدية رجوعه إلى المتيقن.

ص: 60

ولا يخفى انه لا يختلف الحال فيما ذكرناه بين الالتزام باختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع أو عمومه لمورد الشك في المقتضي ، فلاحظ.

الجهة الثانية : لو سلم إمكان تعلق النقض باليقين ، فهل هو كذلك إثباتا أو لا؟.

ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى : ان المنهي عنه هو نقض اليقين بما هو ، فالمجعول في الاستصحاب هو اليقين لكن بلحاظ الجري العملي لا بلحاظ المنجزية والمعذرية ، فالفرق بين الأمارات والاستصحاب هو ان المجعول في الأمارات الطريقية والوسطية في الإثبات بلحاظ المنجزية والمعذرية. والمجعول في الاستصحاب هو الطريقية بلحاظ الجري العملي وعلى هذا الأساس بني تقديم الأمارة على الاستصحاب وتقديم الاستصحاب على سائر الأصول ، وجعل الاستصحاب برزخا بين الأمارة والأصول العملية ، وعبر عنه بالأصل المحرز (1).

ولكن ما أفاده قدس سره لا يخلو عن بحث أشرنا إليه غير مرة ، ونوضحه فعلا فنقول : ان الالتزام بجعل اليقين بأدلة الاستصحاب مع قطع النّظر عن خصوصية الجري العملي يبتني على مقدمات ثلاث :

المقدمة الأولى : معقولية اسناد النقض إلى اليقين هاهنا وقد عرفت عدم تمامية هذه المقدمة.

المقدمة الثانية : البناء على قابلية اليقين للاعتبار ، مع أنه من الأمور التكوينية ، بمعنى الالتزام بان الأثر الفعلي العملي - وهو التنجيز والتعذير - يترتب على الوجود الاعتباري لليقين ، كما هو مترتب على الوجود الحقيقي. فيكون اليقين من الأمور القابلة للجعل ، كبعض الأمور التكوينية التي يترتب

ص: 61


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 416 و 494 - الطبعة الأولى.

على وجودها الاعتباري بعض الآثار العملية ، كالملكية والطلب ونحو ذلك ، وسيأتي البحث عنه عند التعرض للأحكام الوضعيّة وما هو المجعول منها ، وهذه المقدمة مما يلتزم بها.

المقدمة الثالثة : البناء على ان لفظ اليقين الوارد في النص باق على ظاهره الأولي من موضوعية اليقين ، فيحمل عليه بمقتضى أصالة الظهور. ويمكن المنع عن ذلك ، بدعوى انه ثبت لهذا اللفظ ظهور ثانوي في عدم موضوعية اليقين بما هو ، بل الموضوع هو المتيقن ، ولوحظ اليقين عبرة ومرآة له ، وذلك بملاحظة استعمال ما يشابهه من لفظ الرؤية والتبين والعلم ، مع العلم بان وصف الرؤية وأمثاله لا دخل له في الحكم بما هو ، بل الدخيل هو المتعلق والواقع على واقعه.

وعلى كل ، فإذا تمت جميع هذه المقدمات والتزم بما هو ظاهر الدليل من تعلق الجعل بنفس اليقين ، فيقع الكلام فيما أفاده من تعلقه باليقين بلحاظ الجري العملي ، وهو محل مناقشة ، إذ الجري العملي هو فعل المكلف نفسه ، فالجعل تارة :

يتعلق به نفسه ، فيتعبد بان المكلف قد أتى بالعمل ، فهذا أجنبي عن باب الاستصحاب ، إذ الاستصحاب يستتبع العمل. وأخرى : يتعلق باليقين بلحاظ كونه منشئا للجري العملي واندفاع المكلف ، فالمجعول هو منشئيته للعمل.

ففيه : ان استتباع اليقين للجري العملي بلحاظ ما يترتب عليه من التنجيز ، وإلاّ فلا يندفع المكلف نحو العمل بدونه ، فالجري العملي في طول التنجيز ، فلا يمكن جعل اليقين بلحاظ الجري العملي بلا ملاحظة ترتب التنجيز عليه ، وإذا فرض ملاحظة المنجزية كان المجعول في الاستصحاب هو المجعول في الأمارات.

هذا ، مع انه لو فرض عدم ملاحظة التنجيز في جعل اليقين وأمكن فصل ملاحظة الجري العملي عنه ، لم يترتب التنجيز على الاستصحاب ، فلا تكون مخالفة الحكم الاستصحابي مستلزمة للعقاب. وهذا مما لا يظن الالتزام به من قبله

ص: 62

( قدس سره ).

هذا كله ، مضافا إلى ان جعل اليقين بلحاظ الجري العملي لا يصحح اسناد مؤدى الاستصحاب إلى اللّه والفتوى به ، والالتزام به على انه حكم اللّه تعالى ، لأنه مجهول ولا دليل على إثباته.

وقد أسهبنا الكلام في ذلك في أوائل مبحث الأمارات في بيان ما هو المجعول فيها فلاحظ وتدبر.

ثم انه بعد ظهور عدم تعلق النهي بنقض اليقين حقيقة ، إذ هو خارج عن اختيار المكلف كيف؟ والمفروض انتقاضه بالشك ، فلا بد ان يراد من النقض النقض العملي ، فمرجع النهي إلى النهي عن معاملة اليقين معاملة المنتقض ، بل المطلوب العمل كما لو كان اليقين باقيا ، فيراد الإبقاء العملي.

وهذا النهي اما يكون إرشادا إلى جعل صفة اليقين والطريقية في مرحلة البقاء ، أو جعل المنجزية لليقين بالوجود السابق على الحكم المشكوك بقاء ، أو جعل نفس التيقن بقاء فان الجامع بين جميع هذه الوجوه هو ترتب العمل بقاء ، كما لو كان نفس اليقين باقيا ، فيمكن ان يكون النهي عن النقض العملي إرشادا إلى أحدها ، إلاّ ان المتعين إثباتا هو الثالث ، وذلك بملاحظة مورد الرواية ، فانه علیه السلام نفي وجوب الوضوء عند عدم الاستيقان بالنوم بقاء معللا ذلك بعدم نقض اليقين بالشك ، وظاهر ذلك هو نفي الوجوب شرعا لا عقلا. وهذا لا يتلاءم الا مع جعل المتيقن نفسه بقاء ، لا جعل اليقين أو المنجزية كما لا يخفى.

والّذي يتحصل : انه يتعين الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو المتيقن لا اليقين ، سواء التزام بعدم إمكان تعلق النقض باليقين في هذا الباب أو التزم بإمكانه ، فمقام الثبوت ومقام الإثبات يشتركان في أن المجعول هو المتيقن.

فتدبر.

الجهة الثالثة : انك عرفت ان النقض في باب الاستصحاب لا يتعلق

ص: 63

باليقين ، وانما هو متعلق بالمتيقن ، فيقع البحث في كيفية ملاحظة المتيقن في النصوص ، مع ان النقض فيها - استعمالا - متعلق باليقين. فهل هو من استعمال لفظ اليقين في المتيقن مجازا؟. أو من جعل لفظ اليقين عنوانا للمتيقن ومرآة له - كما ذهب إليه صاحب الكفاية -. بتقريب : ان المرآتية تسري من المصداق إلى المفهوم ، فبعد ان كان مصداق اليقين مرآة لمتعلقه كان مفهوم اليقين كذلك مرآة للمتيقن (1)؟. أو من باب الكناية والتلازم بين نقض اليقين ونقض المتيقن؟. أو من باب التلازم بين نفس اليقين والمتيقن ، فالنقض وان كان مسندا إلى لفظ اليقين في الكلام ، لكن يراد به نقض المتيقن الّذي حضرت صورته في الذهن بواسطة اليقين ، فيجعل لفظ اليقين قنطرة وكناية عن المتيقن؟. وجوه :

اما الأول : فهو مردود ، بأنه استعمال غير صحيح ولا يعهد مثله في الاستعمالات.

واما الثاني : فهو مردود أيضا بان مرآتية مفهوم اليقين تتوقف على كون اليقين من عناوين المتيقن ، وليس الأمر كذلك ، ولذا لا يصح حمل اليقين على المتيقن.

واما الثالث : فيمنع بأنه انما يتم لو فرض صحة تعلق النقض باليقين هاهنا ، وقد عرفت انه لا محصل له ، فلا يمكن ان يراد ذلك.

فيتعين الرابع. وعلى أي حال لا إشكال في وقوع استعمال ما يشابه لفظ اليقين من ألفاظ الطرق في مورد يكون الأثر مترتبا على نفس الواقع ، ويلحظ اللفظ الموضوع للطريق عبرة لذي الطريق ، كلفظ التبين والعلم والرؤية ، ولا إشكال في صحة مثل هذا الاستعمال عرفا ، فيلتزم به هاهنا وفي لفظ اليقين فيما نحن فيه وان لم يتحقق وجهه ، مع انك عرفت توجيهه.

ص: 64


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /391- 392 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الجهة الرابعة : في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية.

فقد نبه عليه صاحب الكفاية رحمه اللّه في هذا المقام في ذيل كلامه ، وبنى على عموم الدليل لكلتا الشبهتين الموضوعية والحكمية (1).

وقبل الشروع في تحقيق أصل المطلب يحسن التنبيه على محل الكلام في الاستصحاب في الشبهة الموضوعية وأثره العملي. فنقول : ان موضوع الحكم الشرعي ...

تارة : يكون من المجعولات الشرعية ، كالطهارة والنجاسة والملكية وغيرها.

وأخرى : يكون من الأمور الخارجية التكوينية ، كالعدالة والفسق والعلم وغيرها. وهو ..

تارة : يعد عرفا من مقومات الموضوع ، كالعلم في وجوب تقليد زيد العالم ، والفقر في وجوب التصدق على زيد الفقير ، ونحو ذلك.

وأخرى : يعد من حالات الموضوع المتبادلة ، كعدالة زيد بالنسبة إلى وجوب التصدق عليه. وما يكون كذلك.

تارة يكون : الأثر الشرعي مترتبا عليه حدوثا.

وأخرى : لا يكون مترتبا عليه حدوثا.

اما ما كان من الموضوعات مجعولا شرعا ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه مع الشك في بقائه ، إذ ما يوهم المنع في الشبهات الموضوعية لا يتأتى فيه كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

واما ما كان من الأمور التكوينية الخارجية ، فان كان مقوما للموضوع ، امتنع جريان الاستصحاب في الحكم السابق مع الشك فيه ، ففي هذا الفرض

ص: 65


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /391- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يظهر لجريان الاستصحاب في نفس الموضوع أثر عملي. وان لم يكن مقوما للموضوع وكان الحكم ثابتا حدوثا ، أمكن استصحاب الحكم ولو لم يجر استصحاب الموضوع ، لأن الشك فيه غير مضر في استصحاب الحكم. واما إذا لم يكن الحكم ثابتا في مرحلة الحدوث ، وانما هو يثبت في مرحلة بقاء الموضوع لو كان باقيا ، فلا مجال لإثبات الحكم باستصحابه ، إذ هو غير متيقن الثبوت في السابق ، وانما يثبت الحكم باستصحاب الموضوع ، فيظهر له أثر في هذا الفرض.

فقد تبين ان محل الكلام في الاستصحاب في الشبهات الموضوعية هو استصحاب الأمور الخارجية لا مطلق الشبهات الموضوعية كما تبين ان أثر الالتزام بالاستصحاب في الشبهات الموضوعية يظهر في صورتين :

إحداهما : ما يكون الموضوع المشكوك من مقومات الموضوع عرفا.

والأخرى : ما لا يكون الحكم الشرعي ثابتا في مرحلة حدوث الموضوع ، إذ لا مجال لاستصحاب الحكم في كلتا هاتين الصورتين ، فيحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب الموضوعي.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه قد يستشكل في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، سواء قيل ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل اليقين أو قيل انه يتكفل جعل المتيقن.

اما على الأول : فلأن اليقين وان أمكن تعلق الاعتبار به كبعض الأمور التكوينية إلاّ انه انما يصح اعتباره بلحاظ ما يترتب عليه من أثر عملي شرعي أو عقلي.

وجعل اليقين بالموضوع مما لا أثر له ، إذ اليقين الّذي يكون موضوعا للأثر هو اليقين بالحكم الفعلي باعتبار ترتب المنجزية والمعذرية عليه. واليقين بالحكم الكلي المجعول بنحو القضية الحقيقية وان لم يكن فعليا كوجوب الحج على المستطيع ، فان اليقين به يترتب عليه جواز الإسناد والاستناد.

ص: 66

اما اليقين بالموضوع بما هو يقين بالموضوع فلا أثر له أصلا ، وانما الأثر لليقين بحكمه.

فإذا كان هذا حال اليقين الوجداني ، لم يكن اعتبار اليقين بالموضوع ذا أثر ، فان الأثر المترتب عليه هو الأثر المترتب على اليقين الوجداني. والمفروض انه ليس بذي أثر.

واما على الثاني : فلأنه يعتبر في المجعول ان يكون قابلا للجعل. والأمر الخارجي كالعدالة ليس قابلا للجعل ، فلا معنى لأن يتعلق به الجعل من الشارع بما هو شارع. فيلزم من عموم الدليل للموضوع اما التقدير بان يراد جعل أثر الموضوع وحكمه واما التجوز في الإسناد ، فيكون الإسناد إلى غير ما هو له وكلاهما خلاف الظاهر.

وقد يدفع هذا الإشكال بما تقدم بيانه في حديث الرفع من : ان الرفع يمكن ان يتعلق بالموضوع حقيقة ، وذلك بلحاظ عالم التشريع ، فان الموضوع له ثبوت في عالم التشريع بجعل الحكم له ، فيمكن ان يتعلق به الرفع بلحاظ هذا العالم ويكون الرفع حقيقيا لا مسامحة فيه ، لأنه بيد الشارع. فنقول هاهنا : انه يمكن ان يجعل الموضوع ويتعبد بثبوته بلحاظ عالم التشريع ، فيكون وضعا للموضوع حقيقة بلا مسامحة وتجوز وتقدير.

لكن هذا المطلب لو سلم إمكان تطبيقه فيما نحن فيه ، فهو انما يتأتى في مورد يكون للموضوع أثر شرعي في مرحلة الحدوث ، لأن دليل الاستصحاب لا يتكفل مجرد التعبد بالموضوع ، بل يتكفل ببقائه. ومن الواضح انه لا يصدق بقاء الموضوع في عالم التشريع وعدم نقضه إلاّ إذا كان ثابتا في السابق فيه. وإلاّ لم يكن جعله فعلا في عالم التشريع إبقاء له وعدم نقض. وهذا أخص من المدعى كما هو واضح.

هذا أساس الإشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية.

ص: 67

وقد تصدى المحقق الأصفهاني رحمه اللّه إلى تحقيق المطلب إشكالا وجوابا بنحو دقيق مفصل. وخلاصة ما إفادة ( قدس سره ) : - بعد ان التزم ان النهي عن نقض اليقين غير مراد جدا ، بل قضية « لا تنقض » قضية كنائية. وبعد ان ردد بين ان يكون المراد بها النهي عن النقض العملي أو النهي عن النقض حقيقة عنوانا ، مفرعا ذلك على ان اليقين بالحكم مستلزم للفعل تكوينا بلحاظ تنجيزه ، فيكون الأمر بإبقائه ملازما للأمر بنفس الفعل ، فيكون النهي عن نقض اليقين كناية عن الأمر بالفعل كصلاة الجمعة.

وبالجملة : عدم الفعل ملازم لنقض اليقين حقيقة ولنقضه عملا.

وإذا أمكن ان يحمل النهي على أحد المعنيين تعين حمله على النهي عن النقض حقيقة إبقاء له على ظاهره ، ولا محذور فيه بعد ان لم يكن مرادا جدا ، بل كناية عن الأمر بالعمل ، - بعد كل هذا الّذي لخصناه جدا أفاده قدس سره - :

ان أساس المحذور اسناد إلى ما هو له ، لأن الفعل يكون إبقاء عملا لليقين ان نقض اليقين بالحكم اسناد إلى ما هو له ، لأن الفعل يكون إبقاء عملا لليقين بالحكم لباعثيته عقلا نحوه ، واما اسناد نقض اليقين إلى الموضوع ، فهو اسناد إلى غير ما هو له ، إذ الفعل لا يكون إبقاء عملا لليقين بالموضوع ، إذ لا باعثية له بنفسه ، بل بلحاظ منشئيته لليقين بالحكم ، فالنقض لم يسند حقيقة إلى يقين الموضوع.

وبما ان الجمع بين الإسناد في كلام واحد خلاف الظاهر - وان ك- ان ممكنا في نفسه - إذ ظاهر الإسناد الكلامي هو الإسناد إلى ما هو له ، كانت اخبار الاستصحاب قاصرة عن شمول الشبهة الموضوعية.

ودفعه قدس سره : بأنه يبتني على كون مفاد قضية : « لا تنقض » النهي عن النقض عملا ، فان بقاء اليقين بالموضوع عملا غير مستلزم بما هو للعمل ، إذ لا باعثية له كما عرفت.

ص: 68

واما لو كان مفادها النهي عن نقض اليقين حقيقة عنوانا - كما اختاره - لم يتأت هذا المحذور ، فان عدم الفعل لازم لعدم اليقين بالموضوع أو بالحكم ، فيمكن ان يراد من اللفظ النهي عن نقض اليقين مطلقا ، تعلق بالحكم أم بالموضوع ، ويكون كناية عن جعل لازمه من الحكم المماثل له لو كان المتيقن حكما ، أو لحكمه لو كان موضوعا. وبعبارة أخرى : بعد ان كان عدم الفعل لازما لعدم اليقين بالحكم أو بالموضوع ، كان النهي عن نقض اليقين والأمر بإبقائه ملازما للأمر بالفعل في كلا الموردين ، فيعم الشبهة الموضوعية بلا محذور.

هذا خلاصة ما أفاده قدس سره (1).

ولكنه مردود من وجوه :

الوجه الأول : ما بنى عليه أصل كلامه من ان التلازم بين بقاء اليقين بالحكم ، وبين العمل كصلاة الجمعة ، يستلزم التلازم بين الأمر بإبقاء اليقين والأمر بالفعل ، فتكون القضية كناية عن جعل الحكم المماثل.

فانه ممنوع ، بأنه لو سلم التلازم عقلا أو عرفا بين بقاء اليقين بالحكم وبين الفعل ، ولم يناقش بإمكان الانفكاك بينهما ، فهو لا يستلزم التلازم بين الأمر بأحدهما والأمر بالآخر ، فانه ممنوع أشد المنع إذ لم يقل به أحد ، وانما أشير إليه في مبحث الضد من باب انه توهم قد يخطر في البال ، وانما المسلم عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، لا ان الأمر بأحدهما ملازم للأمر بالآخر. فراجع تعرف.

الوجه الثاني : ان ما أفاده لو تم ، فهو انما يتأتى في خصوص مورد اليقين بالحكم الإلزامي ، فان اليقين به يستتبع العمل ، دون اليقين بالحكم غير الإلزامي كالإباحة ، فان اليقين بها لا يستتبع الفعل كي يكون الأمر بإبقائه أمرا بالفعل.

ص: 69


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 25 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وأي معنى لهذا في مورد الإباحة ، إذ لا يلزم الإتيان بالفعل باستصحابها. ومن الواضح ان الاستصحاب لا يختص بالاحكام الإلزامية ، بل يعمها ويعم غير الإلزامية.

الوجه الثالث : انك عرفت انه قدس سره بنى الملازمة بين بقاء اليقين والفعل على منشئية اليقين للفعل ، ثم فرع عليه ان النقض عملي أو حقيقي عنواني ، فبناء كلا الرأيين على الملازمة بين بقاء اليقين والفعل ، فالتزامه - في مورد النقض العملي - بان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل لعدم منشئية اليقين للفعل ، والتزامه - في مورد النقض الحقيقي - بالملازمة. تفكيك لا وجه له بعد ان كان مبنى التلازم على كلا الرأيين واحدا.

وهو حين نفي الملازمة على القول بالنقض العملي ، بنى نفيه على عدم الملازمة بين اليقين بالموضوع والفعل ، فنفي الملازمة بين الوجودين. وحين أثبتها على القول بالنقض الحقيقي بنى إثباته على الملازمة بين عدم الفعل وعدم اليقين ، فجعل الملازمة بين العدمين.

ومثل هذا الاختلاف في الأسلوب على خلاف الصناعة لعدم توارد النفي والإثبات على مورد واحد.

الوجه الرابع : ان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل أصلا حتى بنحو المسامحة ، فان المراد به اليقين بذات الموضوع ، وهو لا يلازم العلم بحكمه ، بل قد يتخلف عنه.

فما أفاده قدس سره : من كون اسناد النقض إلى يقين الموضوع إسنادا مجازيا بلحاظ استتباعه ليقين الحكم. فيه منع ، لعدم صحة الإسناد بالمرة.

وخلاصة القول : ان ما أفاده قدس سره في المقام مع كمال دقته مما لا يمكن قبوله.

فالتحقيق في دفع الإشكال ان يقال : ان دليل الاستصحاب ان كان

ص: 70

متكفلا للتعبد بالبقاء رأسا - بمعنى ان قضية : « لا تنقض اليقين بالشك » كانت متكفلة للتعبد ببقاء المتيقن ، كما هو ظاهر تعريف الاستصحاب بأنه إبقاء ما كان - كان إشكال شمول الدليل للشبهة الموضوعية المتقدم ذكره محكّما ، لعدم قابلية الموضوع في حد نفسه للتعبد ، فشمول الدليل لشبهة الموضوع يتوقف على التقدير أو التجوز كما مر. وهكذا الحال إذا كان التعبد والجعل متعلقا بصفة اليقين لا بالمتيقن ، لعدم ترتب الأثر العملي على اليقين بالموضوع ، فيكون التعبد به لغوا كما مر.

ولكن الظاهر ان دليل الاستصحاب بدوا لا يتكفل التعبد بالمتيقن. بيان ذلك : انك عرفت ان النقض حقيقة لا يتعلق باليقين ، لعدم تصوره في باب الاستصحاب ، بل هو متعلق بالمتيقن.

ومن الواضح : ان النهي عن نقض المتيقن بالشك مما لا معنى له ، إذ الشك لا يصلح ناقضا للمشكوك ، لأنه عبارة عن التردد بين الوجود والعدم ، فلا معنى لأن يكون مقتضيا للعدم ، بل حاله حال الطريق ، فانه لا يتصرف في ذي الطريق. فلا بد ان يراد النهي عن النقض العملي ، بمعنى لزوم معاملة المتيقن معاملة الثابت حال الشك وعدم جواز رفع اليد عنه لأجل الشك فيه. فالنهي عن نقض المتيقن لا يراد به التعبد بالمتيقن ، بل يراد به لزوم معاملة المتيقن معاملة البقاء ، فان هذا هو فعل المكلف الّذي يصح تعلق النهي به.

وهذا النهي إرشادي إلى ثبوت ما يقتضي استمرار معاملة المتيقن معاملة البقاء ، فهو يدل بالملازمة العرفية أو بدلالة الاقتضاء على التعبد بالمتيقن بقاء إذا كان حكما شرعيا.

ومن الواضح ان هذا المدلول الأولي للكلام - أعني النهي عن نقض المتيقن عملا - يمكن ان يعم الموضوع والحكم بلا أي تجوز ومسامحة ، ومقتضى عمومه هو دلالته - اقتضاء أو عرفا - على جعل الحكم المماثل للمتيقن إذا كان

ص: 71

حكما ، وعلى جعل الحكم المماثل لحكم المتيقن إذا كان موضوعا ، إذ لزوم المعاملة مع الموضوع معاملة البقاء لا يكون إلا إذا فرض جعل مماثل حكمه بقاء. كما ان لزوم المعاملة مع الحكم معاملة البقاء لا يكون إلاّ إذا فرض جعل مماثله بقاء.

وبهذا البيان يتضح صحة الالتزام بعموم دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية كما أشار إليه في الكفاية (1).

ولا يختلف الحال فيه بين ان يكون متعلق النقض هو المتيقن كما اخترناه أو يكون هو اليقين كما هو واضح ، إذ أساسه على استفادة كون النقض المنهي عنه هو النقض العملي لا الحقيقي.

وقد عرفت ان ظهوره العرفي في ذلك ، لأن ما يكون فعل المكلف القابل لتعلق النهي به هو نقض المتيقن أو اليقين عملا لا النقض حقيقة. فتدبر.

هذا تمام الكلام في عموم دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية.

ويقع الكلام في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية. فقد توقف فيه جمع ، منهم المحقق النراقي ، وتبعه عليه في الجملة السيد الخوئي (2).

ومنشأ الإشكال الّذي ذكره النراقي ليس قصور الأدلة في أنفسها عن شمول مورد الأحكام الكلية ، وانما هي جهة أخرى ستتضح إن شاء اللّه تعالى.

وتحقيق الكلام : هو ان الشك في بقاء الحكم الشرعي ..

تارة : يرتبط بمقام الجعل والتشريع ، ولو لم يكن المجعول فعليا لعدم موضوعه ، كما لو ثبت جعل وجوب الحج على المستطيع في الشريعة ثم شك في بقاء هذا التشريع والجعل ولو لم يكن مستطيع فعلا. ولا إشكال في جريان استصحاب الجعل ، ويعبر عنه باستصحاب عدم النسخ. ولا كلام في ذلك.

ص: 72


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /392- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 36 - الطبعة الأولى.

وأخرى : يرتبط بمقام المجعول ، كما لو ثبت الحكم الفعلي في زمان فشك في بقائه ، كالشك في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الغسل.

ومنشأ الشك في بقاء الحكم الفعلي.

تارة : يكون الشك في الأمور الخارجية مع العلم بحدود الحكم المجعول. من قبل الشارع سعة وضيقا ، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية ، كما لو علم بعدم حرمة الوطء بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ، ولكن شك في تحقق انقطاع الدم. وجريان الاستصحاب في الحكم أو في الموضوع في مثل ذلك خارج عن محل الكلام.

وأخرى : يكون المنشأ هو الشك في حدود المجعول الشرعي سعة وضيقا ، فيشك في ان المجعول شرعا هل هو حرمة الوطء حين وجود الدم أو إلى حين الغسل؟ ويعبر عنه بالشبهة الحكمية. وهي على صورتين :

الصورة الأولى : ان يكون الزمان مفرّدا للموضوع بنحو يكون كل آن من الزمان موضوعا للحكم على حدة ، فينحل الحكم بتعدد أفراد الزمان الطولية ، وذلك كحرمة وطء الحائض ، فانها تنحل إلى أحكام متعددة بتعدد افراد الوطء الطولية بحسب الزمان.

الصورة الثانية : ان يكون الحكم واحدا مستمرا باستمرار الزمان ولا يتعدد ويتفرد بتعدد آنات الزمان ، كنجاسة الماء المتغير ، فانها حكم واحد مستمر من حدوثها إلى زوالها وموضوعها واحد عرفا وهو الماء ، فانه وجود واحد مستمر بنظر العرف. وليست النجاسة في كل آن حكما غير النجاسة في الآن الآخر.

اما الصورة الأولى : فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها مع الشك ، لتعدد افراد الحرمة بتعدد افراد الوطء بلحاظ عمود الزمان ، فالفرد المشكوك حرمته من الوطء لم يكن حكمه متيقنا في السابق ، بل هو مشكوك الحدوث رأسا ، لأنه فرد حادث لا سابق.

ص: 73

واما الصورة الثانية : فهي محل الكلام في هذا البحث ، فيقع الكلام في جريان استصحاب الحكم المشكوك بقاؤه ، كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه.

وقد عرفت ان الفاضل النراقي منع جريانه. والوجه في المنع هو : ابتلاء استصحاب بقاء الحكم بالمعارض ، وهو استصحاب عدم الجعل.

بيان ذلك : انه إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه ، فلدينا يقينان سابقان وشكان لاحقان ، يقين بثبوت المجعول وهو النجاسة في السابق ، وشك في بقائها بعد زوال التغير ، ومقتضى ذلك استصحاب النجاسة المجعولة. ويقين بعدم جعل وتشريع النجاسة لهذا الموضوع - أعني الماء بعد زوال تغيره - في صدر الإسلام ، وشك في بقاء هذا العدم وزواله بجعل النجاسة له - كما جعلت لغيره كالماء قبل زوال التغير ، فان جعل النجاسة لم يكن ثابتا له أيضا - ، ومقتضى ذلك استصحاب عدم الجعل. فيكون مورد الشك مجرى الاستصحابين : استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل ، وهما متعارضان.

فلا يمكن البناء على استصحاب الحكم الشرعي ، لأجل معارضته باستصحاب عدم الجعل.

وبهذا التقريب لكلام النراقي ، لا يتضح إيراد الشيخ (1) عليه ، فانه قدس سره أورد على النراقي بعد ذكر كلامه : بان الزمان ان لوحظ مفرّدا للموضوع بنحو تكون كل حصة منه فردا منفصلا عن الحصة الأخرى ، فلا مجال لاستصحاب الوجود لعدم اتحاد الموضوع وان لوحظ ظرفا للموضوع تعين إجراء استصحاب الوجود ، ولا يجري استصحاب العدم لانقطاعه بالوجود. فلا يجري الاستصحابان معا حتى يتحقق التعارض.

ص: 74


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /377- الطبعة الأولى.

ولا يخفى عليك ان الشيخ رحمه اللّه كأنه فهم من كلام النراقي : ان مجرى الاستصحابين هو المجعول. فأورد عليه بما عرفت ولكن عرفت في تقريب كلامه ان مركز استصحاب العدم هو الجعل ، ومركز استصحاب الوجود هو المجعول. وعليه فيمكن تصور جريان الاستصحابين معا في أنفسهما مع ملاحظة الزمان ظرفا لا مفردا ، ويتحقق التعارض حينئذ.

ومن هنا يظهر لك عدم ورود ما أفاده في الكفاية من : انه نظر تارة إلى تحكيم نظر العرف المسامحي في الموضوع ، فأجري استصحاب الوجود. وأخرى إلى تحكيم نظر العقل الدقي ، فأجري استصحاب العدم. والثابت هو اتباع النّظر العرفي ، فلا مجال لاستصحاب العدم (1).

ووجه عدم وروده : انه يتم لو كان المنظور في كلام النراقي كون مجرى استصحاب العدم واستصحاب الوجود شيئا واحدا وهو المجعول ، فلا يمكن ان يجري فيه الاستصحابان إلاّ بلحاظ اختلاف النظرين.

وقد عرفت ان منظور النراقي ليس ذلك ، بل مركز استصحاب العدم غير مركز استصحاب الوجود ، وهذا لا يتوقف على اختلاف النظرين ، بل يمكن ان يجريا مع كون المحكم هو نظر العرف المسامحي.

وبالجملة : إيراد الشيخ وإيراد الكفاية يبتنيان على أمر واحد قد عرفت عدم صحته ، وأن نظر كلام النراقي إلى غير ما فهما منه فلاحظ.

والتحقيق : ان ما أفاده النراقي وتبعه عليه السيد الخوئي بالتقريب المتقدم يبتني على أمور :

أحدها : ان استصحاب عدم الجعل مما يترتب عليه أثر عملي مباشر ، وإلاّ كان لغوا أو مثبتا.

ص: 75


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /410- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثاني : ان عدم الجعل مما يمكن ان يكون موردا للتعبد الشرعي وإلاّ لم يصح ان يجري فيه الاستصحاب ، لأنه ليس بمجعول شرعي وليس بموضوع شرعي لأثر شرعي.

الثالث : ان الجعل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول سعة وضيقا وإلاّ فلو فرض انه بنحو واحد كان المجعول متسعا أو ضيقا لم يجر استصحاب عدم الجعل فيما نحن فيه كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

وجميع هذه الأمور محل بحث وكلام ، ولأجل ذلك لا بد من إيقاع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في أن استصحاب عدم الجعل هل يمكن ان يجري في نفسه لترتب أثر عملي عليه أو لا؟.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى الثاني ، بيان : ان الآثار العملية العقلية من لزوم الإطاعة والتنجيز ونحوها انما يترتب على الحكم المجعول الفعلي بفعلية موضوعه ، واما الجعل بنفسه فلا يترتب عليه أي أثر عملي.

وعليه ، فيكون التعبد بعدم الجعل لغوا ، لعدم أثر عملي مترتب عليه ، فلا يصح جريان الاستصحاب فيه لوضوح ان التعبد الاستصحابي انما هو بلحاظ الأثر العملي.

نعم ، يترتب على الجعل أثر بواسطة ثبوت المجعول به ، لكن ترتب ذلك بالملازمة ، فيكون الاستصحاب بلحاظه مثبتا. اذن فلا يجري استصحاب عدم الجعل ، لأنه إما لغو ، بملاحظة الأثر المترتب عليه مباشرة ، إذ لا أثر له واما مثبت بملاحظة أثر المجعول لترتب المجعول على الجعل بالملازمة العقلية (1).

وقد رد المحقق العراقي هذا البيان بوجهين :

ص: 76


1- المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 406 - الطبعة الأولى.

الوجه الأول : ان الأثر العقلي انما لا يترتب على المستصحب الا على القول بالأصل المثبت لو كان من آثار الوجود الواقعي للمستصحب ، اما إذا كان من آثار ثبوت المستصحب للأعم من الواقعي والظاهري ، فلا مانع من التعبد بالمستصحب بلحاظه لترتبه عليه عقلا ، ولا يكون ذلك من الأصل المثبت ، وذلك نظير وجوب الإطاعة ، فانه يترتب عقلا على وجود الحكم أعم من الواقعي والظاهري ، فيصح التعبد بالحكم ، ويكون أثره العملي الإطاعة. وما نحن فيه كذلك ، فان المجعول يترتب على الجعل بوجوده الواقعي والظاهري ، فالجعل الظاهري يستتبع المجعول ظاهرا. وعليه ، فنفي الجعل ظاهرا يستتبع نفى المجعول ، لأنه من آثار عدم الجعل الواقعي والظاهري. اذن فلا يكون استصحاب عدم الجعل من الأصول المثبتة ، بل يترتب الأثر العملي عليه بلا محذور.

وذكر في إثبات ذلك : بأنه لو لا ذلك لما صح استصحاب عدم النسخ ، لأن مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل ، مع ان جريانه وترتب الأثر عليه من المسلمات لدى الكل ولا يتوقف فيه أحد ، وليس ذلك إلاّ لأن المجعول لازم للجعل أعم من الوجود الواقعي والظاهري.

الوجه الثاني : ان الجعل والمجعول متحدان وجودا كالإيجاد والوجود ، وانما هما يختلفان اعتبارا وبالإضافة ، فهما كالتصور والمتصور ، فانه لا وجود حقيقة للتصور في غير وجود المتصور.

وعليه ، فاستصحاب الجعل بنفسه إثبات للمجعول بلا ملازمة وترتب ، كما ان استصحاب عدم الجعل بنفسه إثبات لعدم المجعول بلا ملازمة (1).

وقد بنى السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) على هذا الوجه ، جريا على ما التزم

ص: 77


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 161 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

به في الواجب المشروط من تعلق الاعتبار بالوجوب على تقدير ، بمعنى ان يكون الوجوب ثابتا في ظرف الاعتبار والإنشاء ، لكن الثابت هو الوجوب الخاصّ وهو على تقدير ونتيجة ذلك : ان تكون الآثار العقلية مترتبة عند حصول ذلك التقدير ، لا ان الوجوب ثابت في ظرف التقدير بحيث ينفك الاعتبار عن المعتبر زمانا.

وبالجملة : يلتزم بان وجود الحكم بنفس الاعتبار ، وانما الأثر يتأخر ويترتب عند حصول التقدير. وضم إليه مقدمة أخرى ، وهي : ان الأثر العملي يترتب على امرين فقط : الجعل ووجود الموضوع ، وفعلية الحكم ليست امرا وراء ذلك. اذن فنفي الجعل يستلزم نفي الأثر العملي ، لأنه جزء موضوع الأثر.

والمحصل : ان استصحاب عدم الجعل يستلزم نفي الأثر العملي بلا لزوم محذور الأصل المثبت (1).

والحق ان كلا الوجهين مردودان :

اما الأول ، ففيه : ان الجعل في مرحلة الظاهر وان كان يلازم تحقق المجعول باعتبار ان الجعل يرجع إلى إنشاء الحكم والإنشاء لا ينفك عن المنشأ ، فالجعل الظاهري يستتبع مجعولا وحكما ظاهريا لا محالة لتقومه به عقلا. وعليه ، فبثبوت الجعل ظاهرا تترتب آثار المجعول لتحققه به إلاّ ان عدم الجعل في مرحلة الظاهر لا يستتبع سوى عدم المجعول ظاهرا ، كاستتباع عدم الجعل واقعا لعدم المجعول واقعا ، وهذا لا يجدي في نفي آثار الواقع المحتمل ، ولا يستلزم تأمينا وتعذيرا عنه ، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع يترتب على نفس الواقع لا على الظاهر ، فلا بد من إثبات عدم المجعول واقعا بالتعبد الظاهري بعدم الجعل واقعا.

ص: 78


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 46 - الطبعة الأولى.

ومن الواضح ان إثباته انما يكون بالملازمة العقلية للتلازم واقعا بين عدم الجعل وعدم المجعول. فيكون الأصل من الأصول المثبتة.

ومن هنا ظهر عدم صحة النقض باستصحاب عدم النسخ ، لأن مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل ، وقد عرفت تقوم الجعل الظاهري بالمجعول الظاهري وثبوت الحكم الظاهري يكفي في صحة ترتيب الآثار. وهذا بخلاف استصحاب عدم الجعل ، فانه وان ترتب عليه عدم المجعول ظاهرا ، لكنه لا ينفع في ترتب الأثر العملي. وما يترتب عليه الأثر العملي وهو عدم المجعول واقعا لا يثبت إلاّ بالملازمة ، فيكون الأصل مثبتا.

وبالجملة : فرق بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.

واما الوجه الثاني ، فهو كما عرفت يبتني على مقدمتين :

المقدمة الأولى : وحدة الجعل والمجعول. وهذه المقدمة ترتبط بما يقرر في حقيقة الإنشاء ، فهل هو عبارة عن التسبيب قولا أو فعلا ، لتحقق الاعتبار العقلائي ، أو من بيده الاعتبار من دون ان يكون للمنشئ أي اعتبار ، بل غاية فعله هو نفس إيجاد الموضوع للاعتبار العقلائي ، وهو الإنشاء؟. أو أنه عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، بدعوى ان للمنشئ اعتبارا شخصيا للمنشإ من وجوب أو ملكية أو غيرهما ، ولا يترتب الأثر عليه الا بعد إبرازه بمبرز قولي أو فعلي؟.

فالمقدمة المزبورة تبتني على الوجه الثاني ، إذ ليس للجعل حقيقة سوى الاعتبار الشخصي ، وهو عين المعتبر وجودا وان اختلف معه اعتبارا. واما على الوجه الأول ، فليس الجعل سوى الإنشاء الّذي يكون سببا للاعتبار العقلائي في ظرفه ، والمجعول هو ما يعتبره العقلاء في ظرف الموضوع. ومن الواضح تغايره مع الجعل وجودا وذاتا.

وقد تقدم في محله بطلان الوجه الثاني واختيار الوجه الأول. وعليه فهذه المقدمة غير تامة.

ص: 79

ومع غض النّظر عن ذلك ، يقع الكلام في ..

المقدمة الثانية : وهي ان الأثر العملي يترتب على الجعل بضميمة وجود الموضوع ، فيكون نفي الجعل بالأصل مستلزما لعدم ترتب الأثر. فنقول : لو سلمنا وحدة الجعل والمجعول بالبيان المتقدم ، فلا نسلم ان الأثر العملي مترتب على وجود الجعل وان تحقق المجعول في ظرف الجعل ، بل الأثر العملي انما يترتب على تقدير وجود الموضوع ، بحيث يضاف المجعول إلى فرد المكلف الخاصّ ، فيقال : انه ممن وجب عليه الفعل ، : فان مجرد الجعل قبل تحقق الموضوع لا يضاف به الوجوب إلى المكلف الخاصّ ، فلا يقال للمكلف قبل الزوال انه ممن وجبت الصلاة عليه ، وانما الإضافة تتحقق بعد الموضوع ، كتحقق الزوال بالنسبة إلى الصلاة ، ولعله هو المراد من قوله علیه السلام : « فإذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة » (1).

وبالجملة : مجرد جعل الحكم الكلي لا يترتب عليه الأثر ، وانما الأثر لمرحلة الانطباق وإضافة الوجوب إلى فرد المكلف.

وعليه ، فاستصحاب عدم الجعل مما لا يترتب عليه نفي الأثر العملي إلاّ بتوسط نفي إضافة المجعول إلى المكلف ، وهذا من اللوازم العقلية ، فيكون من الأصول المثبتة ، فهو نظير استصحاب عدم الكر في الحوض في نفي كرية ماء الحوض التي هي مورد الأثر العملي.

والخلاصة : ان الإشكال في استصحاب عدم الجعل بأنه من الأصول المثبتة لا دافع له. فهذا أحد الإيرادات على كلام النراقي المتقدم.

الجهة الثانية : في إمكان تعلق التعبد بعدم الجعل.

والتحقيق : ان الجعل وعدمه ليس مما يمكن تعلق التعبد به والاعتبار.

ص: 80


1- وسائل الشيعة 1 / 261 ، حديث : 1.

فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في عدم صحة التعبد بالجعل. فنقول : ان التعبد والاعتبار انما يطرأ على الأمور الاعتبارية التي يكون وجودها بالجعل والاعتبار ولا يتعلق بالأمور التكوينية الخارجية ، فانها لا تقبل الجعل. ومن الواضح ان الجعل والاعتبار الصادر من المولى انما هو فعل تكويني للمولى ومن أفعاله الاختيارية النفسيّة التي لها وجود واقعي وليس من الأمور الاعتبارية. نعم ما يتعلق به الاعتبار من الأحكام الشرعية يكون اعتباريا ، وإذا كان الاعتبار كذلك امتنع ان يكون موردا للتعبد والاعتبار. وعليه فإذا فرض ان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد بوجود المتيقن بقاء ، لم يشمل الجعل ، ولا معنى لجريان الاستصحاب فيه.

وبالجملة : استصحاب الجعل بهذا المعنى مما لا محصل له.

واما استصحاب بقاء الجعل في مورد الشك في النسخ ، فهو اما ان يرجع إلى التمسك بإطلاق الدليل الدال على الحكم بالنسبة إلى الزمان الممتد ، وتكون تسميته بالاستصحاب مسامحة. واما ان يرجع إلى استصحاب المجعول التعليقي لا الفعلي ، الّذي سيأتي البحث عنه في محله.

نعم ، بناء على ما قربنا به شمول دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية - من : ان الدليل لا يتكفل التعبد بالمتيقن ابتداء وانما يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن معاملة الباقي الثابت ، ويكون ذلك إرشادا إلى ثبوت التعبد في كل مورد بحسبه - أمكن دعوى شمول الدليل للجعل ، ويكون لازمه ثبوت التعبد بالمجعول ، لا التعبد بالجعل ، فتكون نسبة المجعول إلى الجعل نسبة الحكم إلى الموضوع المستصحب ، فكما ان مقتضى شمول عموم : « لا تنقض » للموضوع المتيقن التعبد بحكمه - كما عرفت - ، لأنه هو القابل للتعبد دون الموضوع ، كذلك مقتضى شموله للجعل المتيقن هو التعبد بالمجعول ، فانه لازم للزوم معاملة

ص: 81

الجعل معاملة البقاء بعد عدم إمكان التعبد بالجعل نفسه. فتدبر.

المقام الثاني : في عدم صحة التعبد بعدم الجعل. فنقول : بناء على ما عرفت من عدم قابلية الجعل للتعبد والاعتبار لكونه فعلا تكوينيا للمولى ، وان دليل الاستصحاب تكفل التعبد رأسا بالمتيقن السابق. يكون امتناع التعبد بعدمه من الواضحات ، إذ ما لا يقبل الوضع الشرعي لا يقبل الرفع.

واما بناء على تقريب شمول الدليل للجعل على المسلك الّذي سلكناه في تعميم الاستصحاب للشبهة الموضوعية ، فالدليل أيضا لا يشمل عدم الجعل.

وذلك لأن غاية ما يمكن ان يقال في شمول الدليل له : ان المدلول المطابقي لعموم : « لا تنقض » هو حرمة النقض العملي ولزوم معاملة المتيقن السابق معاملة الباقي ، وهذا لا مانع من شموله لعدم الجعل ، ويكون إرشادا إلى ثبوت التعبد في مورده بما يناسبه ، ولا يمكن ان يكون المتعبد به هو عدم الجعل ، لما عرفت انه غير قابل للتعبد ، فلا بد ان يكون التعبد متعلقا بعدم المجعول ، فاستصحاب عدم الجعل يفيد التعبد بعدم المجعول - يعني : عدم التكليف -.

ولكن التحقيق ان التعبد بعدم التكليف غير صحيح.

وهذا مطلب برأسه يبحث عنه مع قطع النّظر عن استصحاب عدم الجعل ، بل يسري إلى استصحاب عدم المجعول أيضا الّذي يذكر في باب البراءة ، كما تقدم بيانه والمناقشة فيه.

فيقع الكلام في ان عدم التكليف هل يمكن التعبد به وتعلق الجعل به أو لا؟.

وبتحقيق هذه الجهة يظهر الحال فيما نحن فيه : نقول : ان ظاهر الشيخ ( رحمة اللّه ) في مبحث البراءة عدم صحة تعلق التعبد بعدم التكليف لأنه غير اختياري (1).

ص: 82


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /197- الطبعة الأولى.

ورد : بأنه بعد ان كان التكليف بيد الشارع كان عدمه كذلك لأن نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم على حد سواء. وعليه فعدم التكليف بيد الشارع ، ولا يعتبر في المستصحب إلاّ ان يكون أمرا بيد الشارع (1).

ولكن التحقيق : ان ما يمنع من التعبد بعدم التكليف أمر وراء ذلك ، وما ذكرناه من الإشكال فيه وجوابه لا يرتبطان بحقيقة المانع. بيان ذلك : ان اعتبار عدم التكليف والتعبد تارة يكون واقعيا. وأخرى يكون ظاهريا.

فان كان واقعيا ، بان اعتبر الشارع عدم التكليف في الواقع ، وجعل عدمه واقعا. فلا يخلو الحال اما ان يكون التكليف ثابتا في الواقع. أو لا يكون ثابتا في الواقع. فعلى الثاني : يلغو جعل العدم ، إذ مجرد جعل التكليف في الواقع يكفي في تحقق عدم التكليف وترتب الأثر عليه ، بلا حاجة إلى اعتبار العدم فانه مئونة زائدة.

وعلى الأول : يكون من الجمع بين الضدين نظير ما يقال في جعل الوجوب والحرمة واقعا لموضوع واحد في آن واحد ، فان جعل عدم التكليف وجعل التكليف يكونان متضادين (2) بلحاظ الآثار المترتبة عليهما وبلحاظ المبدأ لكل منهما.

وان كان ظاهريا ..

فتارة : يراد به جعل العدم ظاهرا ، فهو مضافا إلى عدم ترتب الأثر عليه من التعذير والتأمين عن العقاب ، إذا المدار في ذلك على عدم التكليف واقعا ، فانه لا يحتاج إليه فانه يكفي عنه مجرد عدم جعل التكليف في الظاهر.

وأخرى : يراد به جعل عدم التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر - يعني

ص: 83


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 258 - الطبعة الأولى.
2- لا متناقضين ، لأن جعل العدم وجعل الوجود أمران وجوديان ، نعم التكليف وعدمه متناقضان ، فالتفت.

يجعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي ، كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع - ، وهو غير صحيح أيضا ، لأن التكليف الواقعي ان لم يكن له ثبوت كفى عدمه في ترتب الآثار بلا حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر. وان كان له ثبوت فاما ان لا يترتب عليه أثر عقلي وجودي في مقام الشك ، بحيث يحكم العقل بالمعذورية والأمان من العقاب ، فلا أثر لجعل العدم ، إذ غاية ما يراد به هو إثبات المعذورية ، والمفروض انها ثابتة عقلا مع قطع النّظر عن جعل العدم. واما ان يترتب عليه أثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته ولزوم الإتيان بمتعلقه في ظرف الشك ، امتنع جعل العدم لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط - نظير موارد العلم الإجمالي -.

نعم لو كان الحكم العقلي بالاحتياط تعليقيا لا تنجيزيا بحيث يرتفع باعتبار الشارع عدم التكليف ، كان جعل العدم ذا أثر عملي ، لكن الأمر ليس كذلك ، فان حكم العقل بالاحتياط في موارده يكون تنجيزيا لا تعليقيا ، فيتحقق التنافي بين جعل التكليف الواقعي وجعل عدمه ظاهرا من حيث الأثر العملي العقلي ، فلا يصح الجمع بينهما.

وبهذا البيان تعرف ان ما أجيب به عن إشكال الشيخ من اختيارية العدم وكونه تحت القدرة لا يحل المشكلة في جعل العدم - وان فرض انه بيد الشارع ، - وهي اما اللغوية أو لزوم الجمع بين الضدين.

وكيف كان ، فقد ظهر انه لا معنى محصل للتعبد بعدم الجعل وشمول دليل الاستصحاب له ، وبذلك يتحقق إيراد ثان على الفاضل النراقي ومن تبعه في مدعاه. فتدبر.

الجهة الثالثة : في ان الجعل هل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول سعة وضيقا أو لا ، يختلف الحال فيه ، بل يكون بنحو واحد سواء كان المجعول واسعا أم ضيقا؟. توضيح ذلك : ان الحكم المجعول لا إشكال في اتساع دائرته

ص: 84

وضيقها باتساع دائرة متعلقه وضيقها ، فالوجوب المجعول للجلوس من الزوال إلى الغروب أضيق دائرة من الوجوب المجعول للجلوس من الزوال إلى نصف الليل ، فيقال : ان الجعل هل يتسع بسعة المجعول ويضيق بضيقه ، نظير بعض الاعراض الخارجية العارضة على الجسم كالبياض ، فانها تزيد بسعة الجسم وتضيق بضيقه ، ونظير التصور بالنسبة إلى المتصور ، فانه يزيد بسعة المتصور ويضيق بضيقه؟ أو ان الجعل لا يختلف سعة وضيقا بسعة المجعول وضيقه ، بل يكون على كلا التقديرين بحد واحد. وأثر ذلك فيما نحن فيه واضح ، فانه إذا كان كنفس المجعول مما تتسع دائرته وتضيق ، فمع الشك - فيما نحن فيه - في سعة المجعول وامتداده في الزمان المشكوك ، يشك في زيادة الجعل ، فيمكن ان يستصحب عدمه - مع قطع النّظر عما تقدم من الإيرادات -. اما إذا لم يكن مما يختلف سعة وضيقا ، فلا شك فيما نحن فيه في زيادة الجعل ، كما ان وجوده معلوم ، وانما الشك في كيفيته وانه بما ذا تعلق ، وهذا مما لا يمكن ان يجري فيه الأصل ، إذ لا حالة سابقة له ، فلا يبقى مجال لجريان أصالة عدم الجعل.

اذن فجريان أصالة عدم الجعل يبتني على الالتزام بسعة الجعل وضيقه لسعة المجعول وضيقه ، كي تكون زيادة الجعل مشكوكة الحدوث بسبب الشك في سعة المجعول واستمراره ، فتكون مجرى لأصالة العدم.

وتحقيق الحال في ذلك يبتني على ما يلتزم به في معنى الإنشاء ، وعمدة المسالك فيه ثلاثة :

الأول : انه عبارة عن مجرد التسبيب لتحقق الاعتبار العقلائي في ظرفه. وبعبارة أخرى : انه عبارة عن استعمال اللفظ في المعنى بداعي تحقق اعتباره من قبل العقلاء في ظرفه المناسب له ، فلا يصدر من المنشئ سوى الاستعمال بالقصد المزبور. وهذا هو المشهور في معنى الإنشاء.

الثاني : انه عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار

ص: 85

العقلائي أو الشرعي في ظرفه ، فما يصدر من المنشئ هو الاستعمال بقصد تحقق وجود إنشائي للمعنى يترتب عليه الاعتبار العقلائي عند وجود موضوعه وهذا مختار صاحب الكفاية (1).

وقد قربناه بما لا مزيد عليه ، فراجع مبحث الإنشاء - من مباحث القطع والأوامر -.

الثالث : انه عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ الشخصي ، بدعوى ان للمنشئ اعتبارا شخصيا يكون موردا للآثار العقلائية إذا أبرز بمبرز من لفظ أو غيره. وهذا ما ذهب إليه بعض المتأخرين (2).

وقد نفينا صحته في محله فراجع.

ولا يخفى انه بناء على المسلك الأخير ، يكون الجعل مما يختلف سعة وضيقا بسعة المجعول وضيقه. وذلك لأن مرجع الجعل إلى الاعتبار الشخصي الصادر من المعتبر. ومن الواضح ان الاعتبار في السعة والضيق يتبع الأمر المعتبر ، فان نسبته إليه نسبة التصور إلى المتصور والموجود ، فمع سعة الأمر الاعتباري يتسع الاعتبار ومع ضيقه يضيق.

وهكذا الحال بناء على المسلك الثاني ، فان مرجع الجعل إلى إيجاد الحكم بوجود إنشائي ، ومن الواضح اتساع دائرة الوجود وضيقها باتساع دائرة الموجود وضيقه.

واما على المسلك الأول المشهور ، فلا يكون الجعل مما يقبل السعة والضيق بسعة المجعول وضيقه ، لأن الجعل هو الاستعمال بقصد تحقق الاعتبار في ظرفه من قبل من بيده الاعتبار. ومن الواضح ان المستعمل فيه لو كان مفهوما

ص: 86


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /66- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- التوحيدي محمد على. مصباح الفقاهة2/ 51 - الطبعة الأولي.

اسميا يقبل السعة والضيق بان ينشئ الوجوب بمفهومه الاسمي ، أمكن ان يتأتى فيه البيان المزبور ، فيقال : ان الاستعمال يرجع إلى جعل اللفظ مرآتا وحاكيا عن المعنى ، والحكاية تتسع وتضيق بسعة المحكي وضيقه ، فمع الشك في زيادة الحكاية للشك في سعة المحكي تكون مجرى لأصالة العدم.

ولكنه غالبا يكون الإنشاء بالصيغة ، وهي لا تتكفل إنشاء الوجوب بمفهومه الاسمي القابل للسعة والضيق ، بل بالمفهوم الحرفي الّذي ليس له إلاّ نحو واحد ، وهو المعبر عنه بالوجود الرابط الّذي لا يقبل السعة والضيق ، فلا يتصف الإنشاء بهذا المعنى بالسعة والضيق ، بل له وجود واحد مردد بين نحوين متباينين ، فلا مجال حينئذ لأصالة العدم فيه بعد كون الشك في كيفية ، وانه تعلق بهذا أو بذلك لا في أصل وجوده.

وليس الإنشاء نفس القصد القلبي المزبور ، كي يقال انه مما يقبل السعة والضيق بملاحظة متعلقه ، بل القصد مأخوذ في الإنشاء قيدا ، بمعنى ان الإنشاء هو الاستعمال الخاصّ ، وهو المقترن بالقصد ، لا انه هو نفس القصد.

وإذا عرفت ذلك ، تعرف ان كلام النراقي لا يتم بناء على المسلك المشهور في معنى بالإنشاء ، فهذا إيراد ثالث عليه لكنه مبنائي ، بل هو وارد على النراقي نفسه ، إذ لم يكن للمسلكين الآخرين عين ولا أثر في زمانه. فتدبر.

ثم انه مما ذكرناه في هذه الجهة يمكن تصحيح إيراد الشيخ ( رحمة اللّه ) على النراقي الّذي تقدم نقله - في صدر البحث - وتقدم الإيراد عليه بأنه غفلة عن محط نظر النراقي في دعوى المعارضة. وذلك بدعوى : ان كلام الشيخ رحمه اللّه يبتني على عدم سعة الجعل بسعة المجعول ، وقد أخذ ذلك في كلامه بنحو المقدمة المطوية.

نعم ، هنا شيء ، وهو : ان الأحكام الواردة على الموضوعات المتعددة المتباينة تستلزم تعدد الجعل ولو كان إنشاؤها واحدا بالصورة ، فحين يقول : « أكرم

ص: 87

كل عالم » ينحل إنشاؤه إلى إنشاءات متعددة بتعدد الموضوعات خارجا ، فيتعدد الجعل حقيقة وان كان واحدا صورة.

وعليه ، فيتلخص إيراد الشيخ : في انه ان لوحظ الزمان قيدا ، كان الفعل في كل حصة زمانية موضوعات مستقلا فلا مجال لجريان استصحاب الوجود لتعدد الموضوع ، بل يتعين استصحاب عدم الجعل للشك في حدوثه بالإضافة إلى هذه الحصة المشكوكة. وان لوحظ ظرفا ، كان الحكم الثابت على تقرير استمراره واحدا ، فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل لعدم الشك فيه ، ولا في زيادته لعدم قابليته للسعة والضيق ، بل الشك في كيفيته ، وهي لا تكون مجرى لأصالة العدم كما عرفت ، بل يتعين استصحاب وجود المجعول.

فليس نظر الشيخ إلى وحدة مجرى الاستصحابين كي يورد عليه - كما تقدم - بان مجراهما مختلف ، بل نظره إلى ان استصحاب عدم الجعل لا مجال له إلاّ إذا لوحظ الزمان قيدا ، ومعه لا مجال لاستصحاب المجعول ، فهو متنبه إلى اختلاف مجرى الاستصحابين.

فالإيراد السابق على الشيخ يمكن ان نقول : أنه ناش عن عدم التأمل في كلامه قدس سره فتدبر جيدا. ومنه يمكن تصحيح إيراد الكفاية ، فإنه مأخوذ من كلام الشيخ فراجع.

والّذي تلخص مما تقدم : ان جريان أصالة عدم الجعل وجعلها طرفا لمعارضة أصالة بقاء المجعول امر لا يمكن الالتزام به ، فانه مبتن على مقدمات كثيرة أكثرها محل منع.

وعليه ، فلا مانع من التمسك في الشبهات الحكمية بأصالة بقاء المجعول - إذا تمت شرائط الاستصحاب في أنفسها - ولا مجال لدعوى معارضته.

ثم انه بناء على الالتزام بجريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب المجعول. فهل يختص ذلك بما كان المجعول المشكوك من الأحكام

ص: 88

الإلزامية ، أو يعم ما إذا كان من الأحكام الترخيصية كالإباحة؟.

التزام السيد الخوئي بالاختصاص (1). خلافا لظاهر النراقي حيث التزم بعموم هذا البيان لمطلق موارد الشك في الحكم الشرعي الكلي.

وتحقيق الكلام في المقام ..

انه اما ان يلتزم بان الإباحة ليست من الأحكام المجعولة شرعا ، بل هي منتزعة عن عدم طلب الفعل والترك. وذلك إذ لا أثر عقليا لجعل ما يسمى بإطلاق العنان وتعلق الاعتبار به ، إذ اللاحرجية في الفعل والترك تترتب على مجرد عدم الإلزام بأحدهما بلا ملزم لاعتبار ذلك.

وبالجملة : الأثر العملي العقلي المقصود ترتبه على الإباحة يترتب على مجرد عدم الإلزام بأحد الطرفين وان لم تكن الإباحة مجعولة ، فيكون جعلها لغوا.

واما ان يلتزم بتعلق الجعل بها كالوجوب والحرمة ، كما هو المشهور المتداول على الألسنة من كون الأحكام التكليفية خمسة.

فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب عدم جعل الإباحة في الحصة الزمانية المشكوك إباحة الفعل فيها ، إذ الفرض انها غير مجعولة بالمرة. فلا شك في تعلق الجعل بها وعدمه ، بل على هذا لا مجال - في الفرض - لاستصحاب المجعول وهو الإباحة ، لعدم تعلق الجعل بها كي تستصحب ويتعبد ببقائها ، فيخرج المورد عن محل البحث في استصحاب الأحكام الكلية بل اما ان يرجع في الفرض إلى أصالة عدم الحكم الإلزامي المشكوك ان جرت أصالة العدم - كما هو المفروض ، إذ المفروض صحة استصحاب عدم الجعل - ، وإلاّ فالمرجع أصالة البراءة ولا مجال للاستصحاب مع الشك في الحلية بتاتا.

واما على الثاني : فلا مانع من جريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب بقاء الإباحة ، إذ بعد فرض كون الإباحة مجعولة فجعلها حادث لا

ص: 89


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 47 - الطبعة الأولى.

محالة ، سواء كان حدوثه في هذه الشريعة أو من السابق : فإذا شك في تحقق جعل الإباحة - في ظرفه أي زمان كان - بالنسبة - إلى الزمان الخاصّ ، فتجري أصالة عدم الجعل وتعارض استصحاب الإباحة ، كما هو الحال في مورد الأحكام الإلزامية بلا فرق أصلا.

وكما يتأتى هذا الحديث في الأحكام الترخيصية التكليفية ، يتأتى نظيره في الأحكام الوضعيّة اللااقتضائية ، كالطهارة في قبال النجاسة ، فانه ان التزم بعدم جعل الطهارة ، وان حقيقة الطهارة ليست إلاّ عدم النجاسة والقذارة ، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الطهارة في الزمان الخاصّ المشكوك ، بل لا مجال لاستصحاب الطهارة نفسها. وان التزم بجعل الطهارة ، كان استصحاب عدم جعلها معارضا لاستصحاب بقائها بالبيان المتقدم.

بل يأتي هذا الحديث في النجاسة إذا احتمل ان لا تكون مجعولة ، وانها عبارة عن عدم الطهارة. فتدبر جيدا.

وبهذا البيان تعرف ما في تقريرات بحث السيد الخوئي من الإشكال والنّظر ، فلاحظ تعرف ولا حاجة إلى الإطالة. هذا تمام الكلام في هذا البحث.

ويقع الكلام بعد ذلك في سائر نصوص الباب.

فمنها : صحيحة أخرى لزرارة - مضمرة أيضا - قال : « قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى ان أصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ، ثم اني ذكرت بعد ذلك قال علیه السلام : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته ولم أقدر عليه ، فلما صليت وجدته؟ قال علیه السلام : تغسله وتعيد قلت : فإن ظننت انه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، فصليت فرأيت فيه. قال علیه السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟. قال علیه السلام : لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك ان

ص: 90

تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت : فاني قد علمت انه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟. قال علیه السلام : تغسله من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت : فهل عليّ ان شككت في أنه اصابه شيء أن انظر فيه؟. قال علیه السلام : لا ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الّذي وقع في نفسك. قلت : ان رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟. قال علیه السلام : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته. وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك » (1).

ومحل الاستشهاد بهذه الرواية فقرتان :

الأولى : قوله علیه السلام - بعد سؤال زرارة ب- : « لم ذلك » - : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا ».

والثانية : قوله علیه السلام - في آخر النص - : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ».

وتحقيق الكلام في الفقرة الأولى : ان السائل سأل الإمام علیه السلام عن حكم ما إذا ظن بالنجاسة ولم يتيقن بوجودها فنظر فلم ير شيئا ، ثم بعد الصلاة رأى نجاسة. فأجابه علیه السلام بعدم لزوم إعادة الصلاة ، وعلله - بعد مطالبة السائل بالعلة - بقوله : « لأنك كنت ... ».

ولا يخفى ان قول السائل : « فرأيت فيه » يحتمل فيه وجهان :

أحدهما : أنه رأى النجاسة التي ظنها فيها قبل الصلاة بحيث علم بوقوع صلاته مع النجاسة.

والآخر : انه رأى نجاسة لا يعلم انها حادثة بعد العمل أو هي التي ظنها.

ص: 91


1- وسائل الشيعة 2 / 1061 ، حديث : 1 و 2 / 1063 ، حديث : 1.

وقد استظهر جلّ الاعلام الوجه الأول ، فحينئذ يكون المراد باليقين والشك في قوله : « كنت على يقين فشككت » ، هما اليقين قبل ظن الإصابة ، والشك الموجود أثناء العمل الّذي يدل عليه قوله : « فان ظننت انه أصابه ولم أتيقن ذلك. ».

وعلى هذا الوجه يشكل تطبيق الاستصحاب في المورد.

وقد تعرض الأعلام ( قدس اللّه سرهم ) لبيان الإشكال بما لا يخلو عن قصور ، وقد وقع الخلط في كلمات بعضهم كما ستعرف ، وتوضيح الإشكال. وتقريبه هو : ان الإمام علیه السلام حكم بعدم وجوب الإعادة وعلله بحرمة نقض اليقين بالشك بنحو يظهر منه ثبوت الحرمة الفعلية للنقض.

وعليه يقال : اما ان يكون الملحوظ في قوله : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا » هو حرمة النقض فعلا ، بحيث يراد بيان ثبوت الاستصحاب في حال ما بعد الصلاة ولو كان الموضوع هو اليقين والشك السابقين ، كما هو الظاهر من الرواية. واما ان يكون الملحوظ هو ثبوت الاستصحاب وحرمة النقض في حال الصلاة.

فعلى الأول : يكون ظاهر التعليل ان الإعادة من مصاديق نقض اليقين بالشك ، فتثبت لها الحرمة ، فيكون من التعليل بالكبرى وانطباق العنوان العام الّذي يكون متعلقا للحكم على مورد التعليل ، كما إذا قال : « لا تشرب هذا المائع لحرمة شرب المسكر » ، فانه ظاهر في كون هذا المائع من مصاديق المسكر.

ومن الواضح ان هذا مما لا يمكن الالتزام به ، لأن الإعادة ليست نقضا لليقين بالشك حال الصلاة كي تثبت لها الحرمة ، بل هي نقض لليقين باليقين بوقوع الصلاة مع النجاسة.

وبالجملة : الإعادة لو ثبتت ، فهي من آثار العلم اللاحق بالنجاسة وعمل به ، لا من آثار الشك السابق وعمل به كي يصدق نقض اليقين بالشك.

فعلى هذا التقدير لا يتبين وجه تطبيق كبرى حرمة نقض اليقين بالشك

ص: 92

على المورد.

واما على الثاني : وهو ان يراد إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة - نظير إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس - ، فلا يكون التعليل بالكبرى ، إذ حرمة النقض الثابتة أثناء العمل لا يعقل ان تتعلق بالإعادة بعد العمل ، إذ لا معنى لتعلق الحرمة السابقة بفعل متأخر بحيث لا تكون هناك حرمة في ظرف العمل. فعدم وجوب الإعادة لا يمكن ان يكون من مصاديق كبرى حرمة النقض بقول مطلق ، فلا يكون التعليل من التعليل بالكبرى ، بل الّذي يظهر من التعليل ان الإعادة منافية لحرمة النقض لا انها نقض فتتعلق بها الحرمة.

ومن هنا قد يبدو الربط بين العلة والمعلول مشكلا. وفي مثله قد يكون التعليل مستهجنا بحسب الموازين العرفية.

وتوضيح ذلك : ان التعليل بغير الكبرى يصح في موردين.

أحدهما : التعليل بالصغرى بنحو يكون المحمول في الصغرى منطبقا على موضوع الحكم المعلل ، نظير ان يقال : « لا تشرب الخمر لأنه مسكر فإنه يصح التعليل ولو لم يكن هناك سبق ذهني لثبوت حرمة مطلق المسكر ، بل قد يستفاد الحكم لمطلق المسكر من نفس التعليل. ووقوع ذلك في الاستعمالات كثير.

والآخر : ان تكون هناك مناسبة واضحة بين التعليل والمعلل يعرفها كل أحد ، فانه يصح التعليل ، كما لو قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن فيه أسدا » ، فان العلة لا تنطبق على المعلل ، لكن المناسبة بينهما واضحة ، وهي جهة التحرز عن خطورة الأسد.

ويلحق به ما إذا لم تكن المناسبة واضحة عرفا ، لكنها كانت معلومة لدى المخاطب خاصة ، كما لو قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن فيه زيدا » ، مع سبق معرفة المخاطب بان زيدا يحاول إيذاءه.

ص: 93

اما لو لم يكن التعليل بالصغرى ولم تكن هناك مناسبة عرفية واضحة ولا مرتكزة في ذهن المخاطب خاصة بين العلة والمعلول ، فالتعليل مستهجن بحسب موازين المحاورات ، كما إذا قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن زيدا مسافر ».

وقد يبدو ما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ ليس هو من التعليل بالصغرى ، ولا من موارد ثبوت المناسبة الواضحة بين العلة والمعلول ، إذ أي مناسبة بين نفى الإعادة والاستصحاب ، ولا ظهور في النص في وجود مناسبة مرتكزة في ذهن السائل خاصة. وإذا كان الأمر كذلك كان التعليل مستهجنا.

ودعوى : ان السائل قد فهم وجود مناسبة ما على الإجمال وان لم يفهم خصوصيتها ، بعد فرض صدور الكلام من متكلم حكيم.

مندفعة : بأنها تتم لو ان الإمام علیه السلام تصدى للتعليل تعبدا ، لا ما إذا كان السائل بصدد التعرف على علة الحكم كما هو ظاهر سؤاله : « لم ذلك » المشوب بالتعجب ، فانه لا يصح في مثله ان يعلل بأمر لا يفهم منه شيئا.

وملخص الإشكال : ان التعليل ان كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض بعد الصلاة ، كان ممتنعا لعدم انطباقه على الإعادة. وان كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض حال الصلاة ، كان مستهجنا لعدم وضوح ربطه بالحكم المعلل.

ولا يتأتى على هذا التقدير حديث كون الإعادة نقضا باليقين لا بالشك ، لما عرفت من امتناع تعلق الحرمة السابقة بالإعادة ، فلا موضوع لهذا الحديث فلاحظ.

وبهذا البيان للإشكال ، يظهر لك قصور كلام الشيخ (1) في تحرير الإشكال ، فانه نظر قدس سره - في مقام تحرير الإشكال - إلى التقدير الأول خاصة عملا بظاهر الرواية ، ولأجل ذلك استشكل في الرواية بان الإعادة ليست

ص: 94


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- الطبعة الأولى.

نقضا لليقين بالشك ، بل باليقين. نعم يمكن ان يجري الاستصحاب فيما قبل الصلاة ليصح تعليلا لجواز الدخول في الصلاة.

وعلى هذا الأساس نفى قدس سره تصحيح التعليل بان الرواية ناظرة إلى إجزاء الأمر الظاهري. فان ذلك انما يتأتى فيما كان الملحوظ إجراء الاستصحاب بلحاظ حال العمل كي تكون الإعادة منافية لحرمة النقض ، لا ان تكون هي نقضا.

اما إذا كان الملحوظ هو إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل وانكشاف الخلاف فلا مجال لهذا الكلام ، إذ ظاهر التعليل حينئذ كون الإعادة - بنفسها نقضا بالشك - كما قربناه - ، والمفروض انها ليست كذلك ، والالتزام بإجزاء الأمر الظاهري لا يجعل الإعادة نقضا ، كي تنحل المشكلة نعم الإعادة منافية لثبوت الحكم الظاهري بناء على الإجزاء ، وهذا غير كونها منفية بالحكم الظاهري ومتعلقة له كما هو ظاهر النص والتعليل ، فتدبر جيدا.

كما يظهر لك ما في الكفاية من خلط إحدى جهتي الإشكال بالأخرى. وذلك في موضعين :

الأول : في صدر الكلام ، فانه قدس سره بعد ما نقل الإشكال المزبور بالنحو المذكور في الرسائل - وهو : « ان الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة ليست نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها ، بل باليقين بارتفاعها ، فكيف يصح ان يعلل عدم الإعادة بأنها نقض لليقين بالشك؟ » ، قال : « ولا يكاد يمكن التفصي عن هذا الإشكال إلاّ بان يقال : إن الشرط في الصلاة فعلا حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها ، فيكون قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها ، كما ان إعادتها بعد الكشف تكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب

ص: 95

حالها كما لا يخفى » (1).

ولا يخفى انه ان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب فعلا وبلحاظ ما بعد الصلاة ، فأي أثر لكون الشرط هو الإحراز - إذ لا إحراز حال العمل بعد فرض كون الاستصحاب بلحاظ حال الفراغ - ، وأي ربط له بحل إشكال كون الإعادة نقضا باليقين لا بالشك؟. وان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة - كما هو ظاهر كلامه بل صريحه - ، فما ذكره ليس تفصيا عن الإشكال الّذي ذكره من عدم كون الإعادة نقضا بالشك بل باليقين ، إذ لا موقع لهذا الإشكال على هذا التقدير ولا موضوع له كما عرفت ، وانما الإشكال هو الاستهجان العرفي بعد عدم وضوح الربط بين التعليل والمعلل.

وبالجملة فما أفاده في الجواب أجنبي عن الإشكال الّذي ذكره.

الموضع الثاني : في ذيل الكلام ، فانه قدس سره بعد ما انتهى من تحقيق المطلب قال : « ثم انه لا يكاد يصح التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء كما قيل - ، ضرورة ان العلة عليه انما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للاجزاء وعدم إعادتها لا لزوم النقض من الإعادة ... » (2).

وأنت خبير - بحسب ما تقدم - ان التفصي بالالتزام بالإجزاء انما هو في مقام رد الإشكال الوارد على تقدير ملاحظة جريان الاستصحاب في حال العمل ، وقد عرفت انه على هذا التقدير لا يراد من التعليل كون الإعادة بنفسها نقضا ، بل منافية لحرمة النقض.

وعليه ، فلا معنى للإيراد عليه بأنه مناف لظهور العلة في كون الإعادة بنفسها نقضا ، المبني على إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل.

ص: 96


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /393- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /395- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وجملة القول : ان تحرير الإشكال وجوابه لم يؤد في الكفاية بما يليق وشأنها ووزنها العلمي.

ومن ذلك تعرف ما وقع في كلمات غيره من الخلط بين الجهتين وعدم تمييز إحداهما عن الأخرى ، فراجع.

وكيف كان ، فالمهم هو معرفة ما إذا كان للإشكال الّذي ذكرناه دافع. فنقول : قد عرفت انه ان لوحظ إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل ، فالإشكال من ناحية امتناع تطبيق العلة على المعلول. وان لوحظ إجراؤه بلحاظ حال العمل ، فالإشكال من ناحية استهجان التعليل به عرفا بعد عدم وضوح الربط بين العلة والمعلول.

والإشكال من الجهة الأولى لا دافع له.

واما الإشكال من الجهة الثانية ، فقد يدفع بوجوه ترجع إلى بيان الربط بين العلة والمعلول :

الوجه الأول : ما أشار إليه الشيخ وصاحب الكفاية من التعليل بثبوت الاستصحاب في حال العمل بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء الثابت في حد نفسه ، فالتعليل يرجع إلى بيان صغرى الإجزاء (1).

وقد تمسك البعض بهذا النص لإثبات قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية بقول مطلق.

وهذا الوجه انما يتم لو كانت الملازمة بين الأمر الظاهري والاجزاء واضحة عرفا ، بحيث ينتقل إلى الحكم بمجرد بيان الصغرى ، وليس الأمر كذلك ، فان اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ليس من الأمور الواضحة ، بل هو من

ص: 97


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- الطبعة الأولى. الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 395 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

الأمور الخفية ، وقد وقع الكلام فيها بين الاعلام.

ومجرد إمكان كون جهة الربط ذلك لا يجدي في رفع الاستهجان العرفي ما لم يكن من الأمور الواضحة كما عرفت.

ولم يظهر من الرواية معلومية ذلك لدى السائل خاصة ، واحتمال معلوميته لديه لا ينفع بعد فرض كون المقام مقام تفهيم وتفهم ، ولم يشر إلى ذلك في النص بقليل ولا كثير ، مع لزوم الإشارة إليه لو فرض كونه هو المصحح للتعليل ، لعدم تمامية التفهيم بدونه. فتدبر.

الوجه الثاني : ما اختاره صاحب الكفاية من : ان الشرط واقعا هو إحراز الطهارة لا نفسها ، فتكون الصلاة مع إحراز الطهارة واجدة للشرط واقعا ، فتكون صحيحة ولا تجب معها الإعادة ، فيكون تعليل عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب لأجل انه مع الاستصحاب يتحقق الشرط الواقعي للصلاة ، ويكون وجوب الإعادة منافيا الحكم الشارع بالاستصحاب (1).

ويمكن إرجاع ما ذكره هاهنا إلى ما أفاده في مبحث الإجزاء من كون الشرط الواقعي أعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ،. ببيان : ان أصالة الطهارة واستصحابها يكونان حاكمين على دليل الشرطية ، فيوسعان دائرة الشرط (2) وقد قربناه في محله بما لا مزيد عليه.

ويقع الكلام في هذا الوجه من ناحيتين :

الأولى : في صحة هذا الالتزام بنفسه.

والثانية : في معالجته للإشكال المتقدم.

اما الناحية الأولى : أعني صحة الالتزام به في نفسه ، فقد يقال : ان الشرط

ص: 98


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /394- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /86- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواقعي إذا كان هو إحراز الطهارة لا نفس الطهارة ، لم تكن الطهارة ذات أثر شرعي. وعليه فلا يصح إجراء الاستصحاب فيها ، لأن مجرى الاستصحاب لا بد ان يكون ذا أثر شرعي فكيف تصحح الصلاة باستصحاب الطهارة؟.

ويندفع هذا القول : بان المستصحب انما يعتبر فيه ان يكون ذا أثر شرعي إذا كان من الأمور الخارجية التكوينية كالعدالة ، لعدم قابليته للتعبد إلاّ بلحاظ أثره. واما إذا كان من الأمور الشرعية ، فلا يعتبر فيه ذلك ، لأنه يقبل التعبد بنفسه كالوجوب والحرمة. نعم يعتبر ان يترتب عليه أثر عملي ولو كان عقليا ، كترتب لزوم الإطاعة على استصحاب الوجوب.

ولا يخفى ان الطهارة من الأمور الشرعية ، فهي بنفسها قابلة للتعبد ولو لم تكن بذات أثر شرعي.

نعم ، يلزم ان يترتب على التعبد بها أثر عملي لكي لا يكون لغوا ، ويكفى فيه هاهنا ترتب الاجزاء وواجديّة العمل للشرط الواقعي.

وبالجملة : فهذا الإيراد غير تام لما عرفت.

واما ما أفاده صاحب الكفاية في مقام دفعه فهو غير سديد بكلا وجهيه :

اما الأول : فهو ان الطهارة وان لم تكن شرطا فعلا لكنها شرط واقعي اقتضاء ، فهي ليست منعزلة عن الشرطية بالمرة ، فالشرط الفعلي هو إحراز الطهارة ، واما الطهارة فهي شرط اقتضائي.

وفيه : انه على تقدير الالتزام بالحكم الاقتضائي وتصوره ، فهو لا ينفع في إجراء الاستصحاب ، لأن الحكم الاقتضائي ليس مجعولا شرعيا ، فانه عبارة عن وجود مقتضى الحكم ثبوتا ، وذلك لا يرتبط بالشارع بما هو شارع.

واما الثاني : فهو ان الطهارة وان لم تكن شرطا ، لكنها من قيود الشرط ، إذ الشرط هو استصحاب الطهارة لا استصحاب أي شيء كان. ومن الواضح انه يكفي في الاستصحاب كون المستصحب قيدا لموضوع الأثر الشرعي ،

ص: 99

كاستصحاب عدالة زيد في ترتيب الأثر المترتب على العالم العادل (1).

وفيه : انه انما يصح ان يجري الاستصحاب في قيد الموضوع إذا كان قيدا لموضوع واقعي يترتب عليه الأثر مع قطع النّظر عن التعبد ، كالعدالة في المثال المزبور ، فيكون التعبد بلحاظ جعل ذلك الأثر.

وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، إذ موضوع الأثر هو نفس التعبد بالطهارة ، فالطهارة قيد لموضوع الأثر المترتب على نفس التعبد لا في نفسه ، ومع قطع النّظر عن التعبد.

وفي مثله لا يصح التعبد ، إذ لا يصح التعبد بالطهارة بلحاظ جعل الأثر المترتب على نفس التعبد وبعد تحققه في نفسه ، فان مثل هذا الأثر يستحيل ان يكون مصححا كما لا يخفى ، فلاحظ جيدا.

فالعمدة في دفع الإيراد ما ذكرناه.

واما الكلام في الناحية الثانية - أعني معالجة ما أفاده قدس سره للإشكال المتقدم في الرواية - فتحقيقه : ان هذا البيان وان كان موجبا لكون الاستصحاب السابق علة لعدم وجوب الإعادة ، لكنه لا يصحح تعليل عدم الوجوب بالاستصحاب الوارد في الرواية ، لكونه ليس من الأمور الواضحة عرفا التي ينتقل إليها السائل رأسا ، واحتمال معلوميته لدى السائل خاصة مندفع بعدم ظهوره من النص.

فهذا الوجه كسابقه لا يصلح لرفع إشكال الاستهجان العرفي.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان التزم بأن الشرط هو الإحراز لا نفس الطهارة أورد على نفسه بما نصه : « لا يقال : سلمنا ذلك ، لكن قضيته ان يكون علة عدم الإعادة حينئذ بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة هو إحراز

ص: 100


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /394- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الطهارة حالها باستصحابها لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب ، مع ان قضية التعليل ان تكون العلة له هي نفسها لا إحرازها ، ضرورة ان نتيجة قوله : لأنك كنت على يقين ... إلخ انه على الطهارة لا انه مستصحبها » (1).

وهذا الإيراد لا نعرف له محصلا ، وذلك لأنه انما يتم إذا كان قوله علیه السلام : « لأنك كنت .. » في مقام التعبد بالطهارة فعلا ، فان مرجع التعبد إلى جعل الطهارة ، فيكون ظاهر التعليل ثبوت الطهارة لا استصحابها ، إذ الاستصحاب ملحوظ بنحو المعنى الحرفي.

ولكن الأمر ليس كذلك ، بل الجملة المزبورة في مقام الاخبار عن ثبوت الاستصحاب ، إذ الفرض كون الاستصحاب بلحاظ حال العمل لا الحال الفعلي.

ومن الواضح ان ظاهر التعليل بثبوت الاستصحاب سابقا ملاحظته مستقلا فيكون هو العلة لا المستصحب.

والّذي يبدو من صاحب الكفاية قبوله لدعوى ظهور الرواية في كون التعليل بنفس الطهارة وان أجاب عن الإيراد بنحو آخر.

وجملة القول : ان ما أفاده صاحب الكفاية في مقام تحقيق هذه الرواية لا يخلو عن ضعف في كثير من مواقعة كما نبّهنا عليه ، واللّه سبحانه العاصم.

الوجه الثالث : ما التزم به المحقق النائيني من ان المأخوذ في الصلاة هو مانعية العلم بالنجاسة.

وعليه ، فيتحقق الربط بين عدم وجوب الإعادة والاستصحاب حال العمل ، لنفي النجاسة تعبدا بواسطة استصحاب الطهارة ، فتكون الصلاة واجدة للشرط الواقعي (2).

ص: 101


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /394- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 348 - طبعة مؤسسة نشر الإسلامي.

وهذا الوجه لو تم في نفسه ، فهو لا يدفع إشكال الاستهجان العرفي ، لأنه ليس من الأمور الواضحة عرفا التي تصحح التعليل عرفا ، بل هو من الأمور الخفية التي لا تخلو عن دقة ، ويكون الوصول إليها بعد فحص وبحث. فلاحظ.

ثم انه قد يثار حول التزام المحقق النائيني سؤال ، وهو : انه إذا فرض ان المانع هو العلم بالنجاسة ، فمع الشك يحرز عدم المانع ، لعدم العلم مع الشك ، فأي حاجة حينئذ للاستصحاب أو غيره في إحراز الطهارة؟.

وقد دار - في القديم - حول هذا السؤال كلام مع بعض تلامذة المحقق النائيني فلم نجد عندهم ما يرفع الشبهة.

والّذي ينبغي ان يقال في جوابه : ان المحقق النائيني بملاحظة بعض الأدلة الخاصة والجمع بينها وبين أدلة شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة - الظاهرة بدوا في النجاسة الواقعية - التزم بان المانع هو العلم بالنجاسة ، لكن ليس المأخوذ هو العلم بما هو صفة قائمة في النّفس ، ولا بما هو طريق إلى الواقع ، بل بما هو منجز للواقع ومعذر عنه ، وقد ذكر ان هذا القسم من أخذ العلم موضوعا فاتنا التنبيه عليه في مبحث القطع. وهو بهذه الملاحظة مما يصلح ان تقوم مقامه جميع الطرق والأصول المحرزة وغير المحرزة ، لأنها جميعها تتكفل جهة التنجيز والتعذير. فأصالة الاحتياط في مواردها تقوم مقام العلم بهذه الملاحظة وان لم تكن أصلا محرزا.

وبالجملة : ان المانع في الصلاة هو النجاسة المعلومة بما هو منجز بتعبير ، والنجاسة المنجزة بتعبير آخر.

وعليه نقول : ان النجاسة المشكوكة غير المعلومة لا يمكن ان تنفي مانعيتها الا بواسطة قيام دليل أو أصل معذر ولو عقلا بحيث ينفي التنجيز.

ص: 102

وذلك لأنه بدون قيام المؤمّن يكون مجرد الاحتمال منجزا للواقع ، فيقوم مقام العلم في كونه مانعا. وانما ينفي تنجزه بواسطة الأصول العقلية أو الشرعية المؤمنة.

ومن الواضح انه مع وجود استصحاب الطهارة لا مجال لأصالة الطهارة أو قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظ أثر النجاسة التكليفي.

وعليه ، فمجرد عدم العلم بالنجاسة لا يكفي في إحراز عدم المانع ، بل لا بد من إجراء الأصول المؤمنة ، ولا مجال في مورد الرواية لغير الاستصحاب لحكومته على غيره ، فلأجل ذلك علل عدم وجوب الإعادة بجريان الاستصحاب. فالتفت.

ثم انه في هذا المقام التزم بما عرفت ، لكنه في البحث الّذي يتعقبه استقرب خلافه (1). وان صحة الصلاة مع إحراز الطهارة من باب [ القناعة عن الواقع بما وقع امتثالا له وليس في شيء منها ما يكون مأمورا به في عرض الواقع ] وهذا لا يخلو عن منافاة لما ذكره هاهنا ، إذ مقتضى ما ذكره هنا كون العمل متعلقا للأمر الواقعي ، لأنه واجد للشرط الواقعي وفاقد لمانعه. فالتفت.

والّذي تحصل من مجموع ما تقدم : ان الوجوه المذكورة لدفع الإشكال الّذي بيناه غير وافية.

وقد يقال : ان المورد من موارد التعليل بالصغرى وكون المحمول في العلة منطبقا على موضوع الحكم المعلل ، وقد عرفت ان مثل ذلك لا استهجان فيه ، بل يستفاد حكم الكبرى من نفس ورودها مورد التعليل. بيان ذلك : ان المستفاد من مجموع الحديث : انه لا تجب إعادة الصلاة ، لأن الصلاة ذات استصحاب الطهارة ، فيستفاد منها ان كل صلاة ذات استصحاب الطهارة لا تجب إعادتها. ولا يلزم في مثل ذلك سبق مناسبة بين العلة والمعلل ، بل عرفت انه يستفاد من

ص: 103


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 355 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

التعليل ثبوت الحكم لمطلق موارد العلة. وبهذا البيان ينحل الإشكال المتقدم ولكن التحقيق : انه لا يمكن ان تكون الرواية ناظرة إلى بيان جريان الاستصحاب حال العمل - الّذي يبتني عليه جميع ما تقدم من الكلام -. وذلك لما تقرر في محله ان الحكم الظاهري بما انه حكم لوحظ فيه الطريقية إلى الواقع والتنجيز أو التعذير عنه ورفع حيرة المكلف في مقام أداء وظيفته الشرعية - ولذا لا يكون كل حكم موضوعه الشك حكما ظاهريا ، بل يكون بعض افراده حكما واقعيا كأحكام شكوك الصلاة - ، فهو يتقوم بالوصول وليس له ثبوت واقعي مع قطع النّظر عن العلم والجهل ، إذ لا معنى للتنجيز والتعذير إذا لم يصل الحكم المنجز إلى المكلف.

وعليه ، فمع تمامية العمل وانتهاء ظرف التنجيز والتعذير بلحاظ العمل نفسه - والمفروض عدم علم السائل بالاستصحاب في آن سابق وانما دخل في الصلاة بأصالة الطهارة مثلا ، إذ الفرض ان الاستصحاب استفيد من نفس هذا الحديث - ، لا معنى لبيان ثبوت الاستصحاب في حال العمل ، إذ لا أثر لجعله في ذلك الحال مع عدم علم المكلف به ويكون لغوا.

وعلى هذا الأساس يكون محصل الإيراد على التعليل بالاستصحاب : انه ان لوحظ جريان الاستصحاب بعد العمل ، فلا يصح ان يكون تعليلا لعدم وجوب الإعادة ، لأنها ليست نقضا لليقين بالشك بل باليقين وان لوحظ جريان الاستصحاب حال العمل ، فهو ممتنع لكونه لغوا بعد عدم التفات المكلف إليه في ظرفه. فلا يمكن ان تتكفل الرواية بيان الاستصحاب على كلا التقديرين ، ومثل ذلك يمنع من الاستدلال بالرواية على الاستصحاب.

وهذا ليس من قبيل الجهل بمناسبة تعليل الحكم بالاستصحاب كي يقال انه لا يضر بالاستدلال ، لأن ذلك فرع إمكان إجراء الاستصحاب بلحاظ حال العمل في نفسه وليس الأمر كذلك على ما بيناه ، إذ عرفت ان الاستصحاب

ص: 104

بلحاظ حال العمل ممتنع ولعل هذا هو السر في إغفال الشيخ رحمه اللّه للاستصحاب بلحاظ حال العمل ، وقصر نظره على الاستصحاب بلحاظ حال ما بعد العمل.

وعلى أي حال ، فلا يمكن التخلص عن هذا الإشكال إلاّ بالالتزام بان المراد من قوله « فرأيت فيه » هو الاحتمال الثاني أعني أنه رأى نجاسة لا يعلم انها هي المظنونة أو حادثة ، لا أنه رأى تلك النجاسة المظنونة بحيث يتبدل شكه السابق إلى يقين وعليه فيكون المراد هو إجراء الاستصحاب فعلا بلحاظ الشك الفعلي في النجاسة حال الصلاة ، ويكون عدم وجوب الإعادة لكون الإعادة نقضا لليقين بالشك ولا يلزم أي محذور في ذلك.

وهذا الاحتمال وان كان خلاف الظاهر ، لكن لا بد من الالتزام به بعد ان كان الالتزام بالظاهر يستلزم ورود المحذور المتقدم.

هذا مع انه ليس مخالفا للظاهر ، بل لعله هو الظاهر لما قيل من ظهور قوله : « فرأيت فيه » من دون ضمير في كون المرئي نجاسة ما لا يعلم أنها سابقة أو لا حقة ، فتكون كالفرض الأخير في الرواية لقوله علیه السلام : « لعله شيء أوقع عليك » ، إذ لو كان مراده انه رأي تلك النجاسة المظنونة لقال : « فرأيته فيه » كما قال في السؤال السابق : « وجدته » ، فنفس اختلاف التعبير في السؤالين يكشف عن اختلاف المضمون.

هذا ولكنه على هذا التوجيه لا يخلو عن إشكال ، وذلك لأنه إذا فرض ان النجاسة المرئية لا يعلم انها كانت حال الصلاة أو لا؟ فمعنى ذلك انه يشك في طهارة ثوبه حال الصلاة ، ومقتضى أصالة الطهارة مع قطع النّظر عن الاستصحاب هو وقوع الصلاة مع الطهارة. ومن الواضح جدا انه لم يكن يتوهم أحد ويحتمل عدم اجزاء صلاته مع الطهارة الظاهرية قبل انكشاف الخلاف ، كيف؟ وهو خلاف السيرة القطعية ، إذ كثيرا ما تؤدى الصلاة مع إحراز الطهارة

ص: 105

بالتعبد الشرعي من دون إحراز لها واقعا.

وعليه ، فلا مجال للسؤال عن سبب حكمه علیه السلام بعدم الإعادة ب- : « لم ذلك » المشوب بالتعجب والاستغراب ، إذ هو أمر لا يتردد فيه أحد ، فلا محالة لا مصحح لسؤاله إلاّ ان تكون النجاسة المرئية هي النجاسة المظنونة حال العمل ، فيكون من موارد انكشاف الخلاف فلاحظ.

ويمكن ان يدفع هذا الإشكال بان السؤال لم يظهر انه عن سبب عدم الإعادة من ناحية الشك في النجاسة كي يتأتى ما ذكر ، بل يمكن ان يكون السؤال عن تعيين ما يكون طريقا لإحراز الطهارة بعد الفراغ عن الاكتفاء بالعمل المأتي به بملاحظة أصالة الطهارة - مثلا - ، وانه هل هو أصالة الطهارة التي هي في ذهنه أو غيرها. وهذا السؤال ليس بعيدا عن مثل زرارة الّذي يحاول ان يتفهم القواعد الشرعية بحدودها. فأجابه علیه السلام : ان السبب هو الاستصحاب ، وليس الجواب عنه من الواضحات لدى زرارة سابقا ، بل القواعد الشرعية تتضح لمثل زرارة بمثل هذه الأسئلة ، وأجوبتها.

وبالجملة : ليس السؤال عن أصل الحكم بالإعادة بحيث كان يجيء في ذهن زرارة احتمال لزوم الإعادة احتمالا معتدا به ، بل السؤال عما هو السبب في الحكم بالإعادة بعد مركوزية هذا الحكم في ذهنه ، وليس في ذهنه احتمال انه ينبغي ان يعيد الصلاة ، فهو يسأل عن ان السبب هل هو إحراز الطهارة بأصالتها أو بغيرها؟ فالتفت ولا تغفل.

وبهذا البيان يتضح ان هذه الفقرة مما يمكن ان يتمسك بها لا ثبات الاستصحاب.

ثم انه لا مجال لدعوى تكفل هذه الفقرة لقاعدة اليقين بتقريب : ان المراد باليقين هو اليقين بالطهارة بعد الفحص والنّظر بعد ظن الإصابة ، لا اليقين قبل ظن الإصابة. فيكون الشك الحادث بعد الصلاة عند رؤية النجاسة من

ص: 106

الشك الساري ، لا من الشك في البقاء.

فان هذه الدعوى فاسدة لعدم ظهور في الكلام في انه قد حصل له اليقين بالطهارة بعد الفحص ، وليس له في اللفظ عين ولا أثر ، كما انه لا ملازمة عادية بين الفحص وعدم الوجدان وبين اليقين بالعدم كما لا يخفى ، كيف! وقد فرض في سؤاله السابق عدم وجدان النجاسة بعد الفحص مع علمه الإجمالي بوجود النجاسة ولم يتبدل علمه إلى يقين بالعدم جزما ، وإلاّ لم تجب عليه الإعادة قطعا ، مع أنه علیه السلام حكم عليه بالإعادة. مما يكشف عن بقاء علمه ، ولكنه صلّى اما غفلة ونسيانا أو بتخيل الاكتفاء بالفحص أو غير ذلك.

هذا كله مع ان قوله علیه السلام : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك » ظاهر في اليقين الفعلي ولا يقين بالفعل في مورد قاعدة اليقين كما لا يخفى. هذا كله في الفقرة الأولى.

واما الفقرة الثانية : فدلالتها على الاستصحاب لا تكاد تنكر ، فانها ظاهرة في مقام بيان حكم عام يكون المورد من مصاديقه ، كسائر موارد ذكر المطلق بعد السؤال عن حكم بعض افراده أو بيان بعضها ، ولا مجال لدعوى كون المراد خصوص اليقين بالطهارة ، فان المورد لا يخصص الوارد.

ومن هنا ظهر ما في تشكيك الشيخ في دلالتها على العموم والجنس ، فلاحظ (1).

وليس في هذه الفقرة شيء من الشبهات التي أثيرت في سابقتها ، فلو توقفنا في الفقرة الأولى كان لنا في هذه الفقرة غنى وكفاية واللّه سبحانه العالم.

ومنها : رواية ثالثة لزرارة عن أحدهما علیهماالسلام قال : « قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟. قال : يركع بركعتين وأربع

ص: 107


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- الطبعة الأولى.

سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » (1).

ومحل الاستشهاد فيها قوله علیه السلام : « ولا ينقض اليقين بالشك » ، فانه قد يدعى ظهوره في إرادة الاستصحاب كما هو الحال في الروايتين المتقدمتين ، ويكون تطبيقه على المورد بلحاظ اليقين بعدم الركعة الرابعة حدوثا والشك في الإتيان بها بقاء.

ولكن تأمل الشيخ رحمه اللّه في دلالتها. وتوضيح ما أفاده قدس سره : ان الرواية تكفلت بيان حكم المورد أولا بقوله : « قام فأضاف إليها أخرى » ، ثم أعقبته ببيان كبرى كلية وهي : « ولا ينقض اليقين بالشك ».

وعليه : فان كان المراد بقوله علیه السلام : « قام فأضاف إليها أخرى » لزوم الإتيان بركعة متصلة بلا تخلل التشهد والتسليم ، كان ذلك مخالفا لمذهب الخاصة ومنافيا لصدر الرواية الظاهر في إرادة ركعتين منفصلتين بملاحظة الإلزام بفاتحة الكتاب.

وعليه ، فيتعين ان يراد بقوله المزبور إضافة ركعة منفصلة على الكيفية المقررة في صلاة الاحتياط بحسب مذهب الخاصة ، فيكون حكما موافقا للمذهب ، وعلى هذا لا يمكن ان تطبق عليها الكبرى الكلية إذا كان المراد بها الاستصحاب ، إذ الاستصحاب لا يتفق مع إتيان الركعة منفصلة بل مقتضاه إتيان الركعة متصلة.

ص: 108


1- وسائل الشيعة 5 / 341 ، حديث : 3.

وبعبارة أخرى : الحكم بإتيان الركعة منفصلة لا يمكن ان يكون من باب الاستصحاب ، فلا معنى لأن يراد من قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » كبرى الاستصحاب ، بل لا بد ان يراد به لزوم تحصيل اليقين بالبراءة بالكيفية المعهودة ، كما تدل عليه بعض النصوص الأخرى. هذا ملخص ما أفاده الشيخ رحمه اللّه (1). وسيتضح بأزيد من ذلك فيما بعد.

وقد تصدى الأعلام رحمهم اللّه إلى دفع هذا الإيراد وتصحيح تطبيق الاستصحاب هاهنا وعمدة ما قيل في هذا المقام وجوه أربعة :

الوجه الأول : ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه من : ان لزوم الإتيان بركعة منفصلة لا يتنافى مع تطبيق الاستصحاب في المقام ، وانما يتنافى مع إطلاق دليله ، فان لزوم الوصل انما هو مقتضى إطلاق النقض ، فلا مانع من الالتزام بجريان الاستصحاب وتقييد إطلاق دليله بما دل على لزوم فصل الركعة ، وتقييد الأدلة ليس بعزيز (2).

الوجه الثاني : ما أشار إليه الشيخ (3) ، وقربه المحقق النائيني (4) ، والعراقي رحمهم اللّه (5). من : انه يمكن البناء على كون المقصود بقوله علیه السلام : « ولا ينقض اليقين بالشك » كبرى الاستصحاب ويكون تطبيقها على المورد من باب التقية ، فانه لا ينافي أصالة الجد في أصل الكبرى ، فالتقية في التطبيق لا أكثر ، وقد وقع نظيره في الأدلة ، كما في الرواية الواردة في سؤال الخليفة العباسي الإمام علیه السلام عن العيد ، فأجابه علیه السلام بقوله : « ذلك إلى امام

ص: 109


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /331- 332 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /396- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /322- الطبعة الأولى.
4- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 361 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
5- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 57 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المسلمين إن صام صمنا وان أفطر أفطرنا » (1) ثم أفطر علیه السلام وعلله بالخوف من القتل. فان قوله علیه السلام : « ذاك إلى امام المسلمين » يستفاد منه حكم كلي واقعي وهو إناطة الحكم بالهلال بإمام المسلمين ، إلا انه علیه السلام طبقه تقية على الخليفة العباسي. ومثله لا يمنع من استفادة الحكم الكلي الواقعي من الكبرى.

ولا يخفى عليك ان هذين الوجهين بعيدان كل البعد عن محط نظر الشيخ رحمه اللّه في الإيراد بالنحو الّذي أوضحناه.

وذلك ، فان موضوع الإيراد ليس هو تطبيق كبرى الاستصحاب على مورد الشك في الركعات ، بحيث يحاول ان يستفاد منه حكم الشك في الركعات ، فيورد ان مقتضاه يتنافى مع المذهب ، فلا يكون الحكم واقعيا. كي يدفع الإيراد تارة بتقييد إطلاق النقض ، وأخرى بان التقية في التطبيق ، ولا وجه لحمل الكبرى على التقية بعد إمكان إجراء أصالة الجد فيها.

بل الملحوظ هو قوله علیه السلام : « قام فأضاف إليها أخرى » ، فانه هو الّذي بيّن الإمام علیه السلام به حكم المورد ، لا بقوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » ، وبما انه لا يمكن حمله على ما يخالف المذهب من إرادة الركعة المتصلة فلا بد ان يحمل على إرادة الركعة المنفصلة ومن الواضح ان ذلك لا يمكن ان يكون صغرى من صغريات الاستصحاب ، فلا يمكن حمل قوله : « ولا ينقض » على إرادة الاستصحاب ، بل لا بد من حمله على إرادة معنى آخر.

وإذا كان هذا هو محط نظر الشيخ في الإيراد ، فأي مجال حينئذ لدعوى تقييد إطلاق النقض ، أو ان التقية في التطبيق لا في بيان أصل الكبرى؟!

ص: 110


1- [1] وسائل الشيعة7/ 95 ، حديث 5. ولفظ الحديث هكذا دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال يا أبا عبد اللّه ما تقول في الصيام اليوم فقال ذاك إلى الإمام ان صمت صمنا وان أفطرت أفطرنا.

ومن هنا يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين رواية الإفطار ، إذ من المعلوم صدور العمل منه علیه السلام - وهو الإفطار - تقية ، ولا يمكن حمله على انه موافق للواقع لتصريح علیه السلام بخوفه من القتل ، فيكون التطبيق تقية ، ولا موجب للتصرف في الكبرى بعد إمكان إبقائها على ظهورها في مقام بيان الحكم الواقعي. وليس كذلك فيما نحن فيه ، إذ من الممكن حمل قوله علیه السلام : « قام فأضاف ... » على الركعة المنفصلة ، فلا تقية في البين.

وبالجملة : محط نظر الشيخ رحمه اللّه في إيراده جملة : « قام فأضاف .. » وتشخيص المراد منها وتعيينه بنحو لا يقبل تطبيق الاستصحاب عليه. وليس محط نظره عدم تطبيق الاستصحاب على المورد بنحو يستفاد منه حكم المورد ، كي يتأتى الوجهان المتقدمان. فتدبر جيدا.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق العراقي ( رحمة اللّه ) من : ان مقتضى الاستصحاب ليس إلاّ لزوم الإتيان بركعة أخرى ، اما كونها موصولة أو غير موصولة فهو أجنبي عن مفاد الاستصحاب حتى من جهة إطلاقه ، بل المتبع في ذلك الدليل الدليل على الحكم الواقعي ، وهو بدوا يقتضي الوصل ، لكن قام الإجماع والنصوص في خصوص المورد على لزوم الفصل بالتشهد والتسليم ، ومرجعه في الحقيقة إلى تقييد دليل الحكم الواقعي المجعول لا إلى تقييد إطلاق دليل الاستصحاب.

وعليه ، فليس في تطبيق الاستصحاب على المورد محذور الحمل على التقية ، لأنه لا يقتضي سوى صرف الإتيان بالركعة بلا خصوصية الوصل أو الفصل.

نعم ، مقتضى الدليل الأولي هو لزوم الوصل ومانعية الفصل بالتشهد والتسليم ، لكن الدليل الخاصّ في خصوص مورد الشك في الركعات مقيد الدليل الأولي ورافع لمانعية الفصل المزبور.

ص: 111

ثم أورد على نفسه : بان اليقين السابق كان متعلقا بعدم إتيان الركعة الرابعة لنحو الاتصال ، ومقتضى ذلك تعلق الشك بما تعلق به اليقين ، ولازم تطبيق عدم نقض اليقين بالشك هو الإتيان بالركعة متصلة بنحو تعلق اليقين والشك بها ، فإتيان الركعة مفصولة يرجع إلى تقييد دليل الاستصحاب.

وأجاب عنه : بان هذا صحيح لو فرض بقاء كبرى لزوم الاتصال المنتزع عن مانعية التسليم والتكبير على حالها في حال الشك ، واما مع قيام الدليل على عدم المانعية في هذا الحال ، فلا يلزم ما ذكر ، لأن تطبيق كبرى الاستصحاب لا يقتضي إلاّ الإتيان بذات الركعة العارية عن خصوصية الاتصال أو الانفصال. هذا ما أفاده العراقي رحمه اللّه (1).

ويمكن ان يجعل ما أفاده ناظرا إلى ما أفاده المحقق الأصفهاني هاهنا. فقد أفاد قدس سره : في مقام بيان عدم إمكان تطبيق الاستصحاب هاهنا بلحاظ الركعة المفصولة : ان صلاة الاحتياط اما ان تكون صلاة مستقلة لها امر مستقل ، تكون جابرة لنقص الصلاة على تقديره من حيث المصلحة ، وعلى تقدير التمام تكون نافلة. واما ان تكون جزء من الصلاة المشكوكة العدد.

فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب عدم الإتيان بالرابعة ، لأن مرجعه إلى التعبد بالأمر بها بعين الأمر بالصلاة. والمفروض ان الأمر بصلاة الاحتياط امر مستقل ، وليس هو بقاء للأمر الأول لا واقعا ولا ظاهرا.

وعلى الثاني : لا مجال للاستصحاب أيضا ، إذ كونها جزء يرجع إلى كون الصلاة المأمور بها ذات تسليمتين وتكبيرتين. ومن الواضح انه يعلم بعدم كون الصلاة الواقعية كذلك ، فلا يمكن التعبد الظاهري بها بواسطة الاستصحاب. فليس الإشكال من حيث مانعية زيادة التسليمة والتكبيرة حتى يقال بتقييد

ص: 112


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 59 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

إطلاق أدلة المانعية وبقاء الأمر بذوات الاجزاء على حالها ، بل الإشكال من حيث وجوب هذه الزيادات بنحو الجزئية التي لا مجال لدخولها في الواجب الا بتبدل الأمر بما عداها إلى الأمر بما يشتمل عليها.

وبعبارة أخرى : ان الأمر المتيقن في السابق غير الثابت فعلا ، فلا يكون هذا الأمر بقاء للسابق كي يصح إجراء الاستصحاب بلحاظه.

هذا خلاصة ما أفاده في مقام بيان عدم إمكان عمل « ولا ينقض ... » على الاستصحاب (1).

والّذي ينظر إليه قدس سره هو : ان مقتضى جزئية صلاة الاحتياط تبدل الأمر الصلاتي السابق إلى أمر بمركب آخر يشتمل على تسليم وتشهد زائدين. وهذا مما لا يحتمل ان يثبت في الواقع كي يتعبد به في مرحلة الظاهر.

والسر فيه هو : ان مثل هذا الحكم على تقديره ثابت لموضوع خاص ، وهو خصوص من كانت صلاته في الواقع ناقصة ، إذ صلاة الاحتياط على تقدير التمام تكون لغوا. ومن الواضح ان العلم بهذا الموضوع مستلزم لارتفاع الحكم لزوال الشك ، ومع الجهل به لا يكون الحكم فعليا لأن فعليته بالعلم بموضوعه. اذن فلا يكون هذا الحكم فعليا في حال من الأحوال ، فهو نظير عنوان الناسي الّذي لا يمكن ان يؤخذ موضوعا للحكم الشرعي ، لأن العلم به ملازم لزواله فالمحذور في ثبوت مثل هذا الحكم واقعا هو المحذور في ثبوت الحكم لعنوان الناسي. ولكن هذا المحذور يتأتى فيما إذا فرض جزئية التشهد والتسليم. اما لو فرض ان مقتضى دليل صلاة الاحتياط هو عدم مانعية التشهد والتسليم. الزائد ، فلا محذور ، وذلك لإمكان تقيد المانعية واقعا في مرحلة البقاء بغير صورة الشك في عدد الركعات ، فلا يكون التشهد والسلام الزائدان مانعين واقعا على تقدير نقصان

ص: 113


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 39 - الطبعة الأولى.

الصلاة.

وإلى هذه الجهة ينظر المحقق العراقي رحمه اللّه في كلامه السابق. فقد ركز كلامه على تقيد أدلة المانعية بغير صورة الشك. ومن هنا يظهر ارتباط كلامه بكلام المحقق الأصفهاني.

وعليه فيقع الكلام مع المحقق العراقي في ناحيتين :

الناحية الأولى : في ان مقتضى دليل صلاة الاحتياط هل هو رفع مانعية السلام في غير محله ، أو هو يتكفل إثبات جزئية هذا السلام؟. وهذه هي نقطة اختلاف المحقق العراقي مع المحقق الأصفهاني. ويمكن ان يرجح منظور المحقق العراقي بأنه لا دليل على ثبوت الأمر الشرعي بالسلام من باب الجزئية ، وذلك لأن المصلي عند الشك يتردد امره بين مانعية التسليم - لو كانت صلاته ناقصة - وجزئيته - لو كانت تامة - فإذا رفع الشارع مانعية التسليم لو كان زائدا ، كان مقتضى الاحتياط اللازم لزوم الإتيان بالسلام لحكم العقل به ، لأنه مقتضى قاعدة الاشتغال لاحتمال انه في الركعة الأخيرة ، فيؤتى به برجاء المطلوبية ، ومعه لا حاجة إلى الأمر الشرعي ، بل يكون الإتيان بصلاة الاحتياط بهذا النحو مما يحكم به العقل بعد رفع مانعية التسليم لو كان زائدا. لكن هذا ان تم فهو بالنسبة إلى التسليم دون التكبير الزائد ، فان الأمر به ظاهر في كونه لأجل الجزئية ، إذ لا يحكم به العقل وان لم يكن مانعا.

الناحية الثانية : في تمامية ما أفاده من صحّة تطبيق الاستصحاب على تقدير رفع الشارع مانعية السلام.

والّذي يبدو لنا انه غير تام وذلك : لأن مقتضى ما أفاده انه لا يمكن تطبيق الاستصحاب إلاّ بملاحظة تقييد دليل المانعية ، وإلاّ فمع المانعية كيف يصح تطبيق الاستصحاب على الركعة المنفصلة بالتسليم؟ ، إذ يكون مقتضاه ان تكون الركعة موصولة. وعليه فيعتبر ان يقوم - في مرحلة سابقة على

ص: 114

الاستصحاب ، - دليل على عدم مانعية التسليم ، ثم يأتي تطبيق دليل الاستصحاب بعد ذلك. وليس الأمر كذلك ، لأن دليل عدم مانعية التسليم هو نفس دليل الإتيان بركعة منفصلة بعنوان عدم نقض اليقين بالشك ، وليس دليل رفع المانعية في مرحلة سابقة عليه ، بل بنفس هذا الدليل ، فيمتنع حمله على الاستصحاب.

والّذي يتلخّص ان الإشكال على المحقق العراقي من ناحيتين. فلاحظ.

الوجه الرابع : ما ذكره المحقق العراقي أيضا من : ان مجرى الاستصحاب في المقام ليس هو عدم الإتيان بالركعة الرابعة كي يتأتى الحديث السابق ، بل هو الاشتغال بالصلاة المتيقن سابقا المشكوك لا حقا ، فالمراد عدم نقض اليقين بالاشتغال ، بالشك فيه.

وعليه ، فيلزمه البناء على اشتغال ذمته بالصلاة ، ومقتضاه لزوم الامتثال يقينا ، وهو يكون - بمقتضى الأدلة الخاصة وهذا بالخصوص - بالإتيان بصلاة الاحتياط (1).

ويمكن الخدش فيه : بان المراد بالاشتغال المستصحب ان كان هو الاشتغال العقلي ، فهو مما لا مجال لاستصحابه لأنه حكم عقلي. وان كان المراد به وجوب الصلاة شرعا ، فمن الواضح ان وجوب الصلاة ليس إلاّ وجوب الأجزاء بالأسر ، لأن الصلاة هي عين الأجزاء بالأسر ، وليست هي امرا مسببا عن الاجزاء وخارجا عنها.

وعليه ، فمع الإتيان بسائر الركعات لا يشك في بقاء الأمر المتعلّق بها ، وانما الشك في بقاء وجوب الركعة المشكوكة خاصة ، فيرجع إلى استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة الّذي عرفت الكلام فيه.

والّذي يتخلص : انه لا يمكن ان يراد بقوله علیه السلام : « ولا ينقض

ص: 115


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 62 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

اليقين بالشك » الاستصحاب ، فلا بد من حمله .. على أحد امرين.

الأول : ما ذكره الشيخ قدس سره من : إرادة النهي عن صرف النّظر عن تحصيل اليقين بالبراءة ولزوم تحصيله بالنحو المعروف من صلاة الاحتياط (1).

والمناقشة فيه : بان التعبير بعدم نقض اليقين في مقام الأمر بتحصيله خلاف الظاهر جدا.

مندفعة : بان المراد من النقض إذا كان عبارة عن رفع اليد - كما عبّر عنه الأعلام - ، فليس التعبير خلاف الظاهر ، إذ كثيرا ما يسند رفع اليد عن الأمر المستقبل الّذي كان بصدد تحصيله ، ولا يختص بالأمر المتلبس به حالا. فيقال : رفع اليد عن العمل الفلاني إذا كان مصمما على الإتيان به ولم يصدر منه. وهكذا الحال لو كان المراد من النقض هو رفع الهيئة الاتصالية ، بان يكون المسند إليه النقض هو البناء على تحصيل اليقين لا نفس اليقين. فلاحظ.

الأمر الثاني : حمله على ما ذكره المحقق الأصفهاني من : ان المراد باليقين هو اليقين بالثلاث المذكور في صدر الصحيحة. بتقريب : ان اليقين المحقق هو اليقين بالثلاث لا بشرط في قبال الثلاث بشرط لا - الّذي هو أحد طرفي الشك - والثلاث بشرط شيء - الّذي هو الطرف الآخر - ، والأخذ بكل من طرفي الشك فيه محذور النقض بلا جابر أو الزيادة بلا تدارك ، بخلاف رعاية اليقين بالثلاث لا بشرط ، فانها لا يمكن إلاّ بالوجه الّذي قرره الإمام علیه السلام من الإتمام على ما أحرز وإضافة ركعة منفصلة ، فانها جابرة من حيث الأثر على تقدير النقص وزيادة خارجة غير مضرة على تقدير التمامية. واما إضافة ركعة متصلة فانها من مقتضيات اليقين بشرط لا ، والمفروض انه لا بشرط ، كما ان الاقتصار على الثلاث المحرزة فقط من مقتضيات اليقين بالثلاث بشرط شيء ،

ص: 116


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /332- الطبعة الأولى.

فان المفروض ان الفريضة رباعية ، مع ان الإحراز متعلق بالثلاث لا بشرط ، فرعاية مثل هذا اليقين وعدم رفع اليد عنه لا تكون إلاّ بما قرره الإمام علیه السلام . هذا ما أفاده نقلناه بنصه (1).

ونحن لا يهمنا تحقيق صحة هذا الوجه أو غيره مما قيل في توجيه الرواية بعد ان كان ذلك أجنبيا عن الجهة الأصولية في هذه الرواية. فتدبر واللّه سبحانه العالم.

ومنها : رواية محمد بن مسلم المروية في الخصال عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قال أمير المؤمنين علیه السلام من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فان الشك لا ينقض اليقين » (2). وفي رواية أخرى عنه علیه السلام : « من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه فان اليقين لا يدفع بالشك » (3).

والكلام في هذه الرواية من ناحيتين :

الأولى : ناحية الدلالة. والأخرى : ناحية السند.

اما الدلالة : فقد استشكل الشيخ ( رحمة اللّه ) فيها - بعد بيان امتناع اجتماع وصفي اليقين والشك في شيء واحد في آن واحد وان تعلق الشك واليقين بشيء واحد لا يصح إلاّ باختلاف زمان الوصفين مع وحدة زمان المتعلق. أو باختلاف زمان المتعلق مع وحدة زمانهما - : بان صريح الروايتين اختلاف زمان وصفي اليقين والشك وظاهرهما وحدة المتعلق ، فتنطبق على قاعدة اليقين ولا تفيد الاستصحاب فتكون أجنبية عما نحن فيه. ثم استشكل ( رحمة اللّه ) في ذلك بقوله : « اللّهم إلاّ ان يقال بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين

ص: 117


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 41 - الطبعة الأولى.
2- الخصال / 619 ( حديث الأربعمائة ).
3- مستدرك وسائل الشيعة 1 / 31 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء حديث 4 - الطبعة الأولى.

ان الظاهر تجريد متعلق اليقين عند التقييد بالزمان ، فان ظاهر قول القائل كنت متيقنا أمس بعدالة زيد ظاهر في إرادة أصل العدالة لا المقيدة بالزمان الماضي ، وان كان ظرفه في الواقع ظرف اليقين لكن لم يلاحظه على وجه التقييد ، فيكون الشك فيما بعد هذا الزمان بنفس ذلك المتيقن مجردا عن ذلك التقييد ظاهرا في تحقق أصل العدالة في زمان الشك ، فينطبق على الاستصحاب فافهم » (1).

ولكن يظهر منه عدم البناء على ذلك لأمره بالفهم ، ولعله ينظر إلى ان ما أفاده لا يلازم كون الشك متعلقا بالعدالة - مثلا - بعد الفراغ عن حدوثه ، بل هو لازم أعم ، فيمكن ان يفرض تعلق الشك بالحدوث.

وعليه ، فلا يصلح ذلك لرفع اليد عن الظهور الأولي للكلام في اختلاف زمان الوصفين ووحدة متعلقهما.

لكنه ذكر في ذيل كلامه ان الرواية ظاهرة في الاستصحاب بملاحظة قوله في الذيل : « فان الشك لا ينقض اليقين » ، فانه ظاهر في نفسه في ثبوت اليقين فعلا ، وان النقض يتعلق باليقين الفعلي كما هو ظاهر كل موضوع للحكم.

وهذا لا يتلاءم الا مع مورد الاستصحاب ، إذ لا يقين فعلا في مورد قاعدة اليقين. مع ورود هذا التعبير فيما تقدم من روايات الاستصحاب ، فيكون قرينة على كون المراد به بيان الاستصحاب. ومع ظهور الذيل فيما عرفت يرفع اليد عن ظهور الصدر في موضوعية اختلاف زمان الوصفين ويحمل على الغالب ، فلا يكون له ظهور في قاعدة اليقين. هذا ما أفاده الشيخ رحمه اللّه بتلخيص وتوضيح.

وما أفاده أخيرا متين جدا ، وبمقتضى ذلك تكون هذه الرواية دالة على الاستصحاب.

ص: 118


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /333- الطبعة الأولى.

ولا بأس بالتنبيه على امرين :

الأمر الأول : ان المحقق النائيني رحمه اللّه فهم من كلام الشيخ رحمه اللّه انه يلتزم بأخذ الزمان في متعلق اليقين - في قاعدة اليقين - بنحو القيدية.

واستشكل فيه : بأنه لا يعتبر في قاعدة اليقين أزيد من وحدة زمان متعلق اليقين والشك ، سواء كان الزمان مأخوذا قيدا أو ظرفا (1).

وأنت خبير بأنه لا ظهور لكلام الشيخ رحمه اللّه فيما فهمه منه المحقق النائيني ، فان الشيخ رحمه اللّه أفاد بان ظاهر النص - بما انه لم يقيد متعلق اليقين بالزمان الخاصّ - هو تجريد متعلق اليقين بما هو متعلق له عن خصوصية الزمان ، وانما المتعلق هو ذات العدالة - مثلا -. وعليه فيكون الظاهر ان الشك تعلق بالعدالة بعد المفروغية عن أصل الحدوث.

وهذا لا يرتبط بعدم أخذ الزمان قيدا ، وانما أخذ ظرفا في متعلق اليقين فانتبه.

الأمر الثاني : ان المحققين النائيني (2) والعراقي ( رحمهما اللّه ) (3) في مقام تقريب دلالة الرواية على الاستصحاب ذكرا ان قوله. « فليمض على يقينه » ظاهرا في لزوم المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل وهو لا ينطبق إلاّ على الاستصحاب.

وهذا البيان لا يخلو عن خدشة ، لأنه من الظاهر ان المراد من اليقين في قوله علیه السلام المزبور هو اليقين السابق الّذي كان عليه ، فإذا فرض ظهور الموضوع في نفسه في تبدل اليقين إلى الشك - كما هو مقتضى قاعدة اليقين - كان المراد من : « يقينه » يقينه السابق الزائل ، ولا ظهور له في اليقين الفعلي. وهذا

ص: 119


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 365 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 365 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 64 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واضح لا ريب فيه. فالمتعين التمسك لذلك بقوله : « فان الشك لا ينقض اليقين » الوارد بعنوان الكبرى ، فان ظهوره في إرادة اليقين الفعلي الثابت مما لا ينكر ، فيكون ظاهرا في الاستصحاب ، ويكون ظهوره موجبا للتصرف في ظهور الصدر ، لأنه بمنزلة التعليل. فلاحظ.

وبالجملة : فالرواية من ناحية الدلالة تامة.

واما ناحية السند فقد ضعفه الشيخ رحمه اللّه (1) لأجل اشتماله على القاسم بن يحيى ، وهو ممن ضعفه العلامة رحمه اللّه في الخلاصة (2).

وقد ردّ بعضهم تضعيف العلامة رحمه اللّه : بأنه مستند إلى تضعيف ابن الغضائري وهو غير قادح.

ولكن يمكن الخدشة فيه : بأنه لم يثبت استناد العلامة في تضعيفه إلى تضعيف ابن الغضائري. ومجرد عدم تضعيف غير ابن الغضائري ممن سبق العلامة ، لا يلازم استناد العلامة إليه ، بل لعل مستنده أمر خفي علينا. هذا مع ان عدم قدح تضعيف ابن الغضائري محل كلام فتدبر.

ومنها : مكاتبة علي بن محمد القاساني قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الّذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟. فكتب علیه السلام : اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (3).

وقد جعلها الشيخ أظهر روايات الباب في الدلالة على حجية الاستصحاب. ببيان : ان تفريع تحديد وجوب الصوم والإفطار على رؤية الهلال

ص: 120


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.
2- رجال العلامة الحلّي / 248 - الطبعة الثانية.
3- وسائل الشيعة 7 / 184 ، حديث : 13.

لا يستقيم إلاّ بان يراد عدم جعل اليقين السابق مزاحما بالشك ، وهو عين الاستصحاب (1).

وقد يناقش في دلالتها بوجوه :

الأول : ان المراد باليقين ليس هو اليقين بعدم دخول شهر رمضان ، بل يراد به اليقين بدخول رمضان ، فيكون المراد ان اليقين بدخول رمضان الّذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك ، بمعنى لا يدخل في حكمه الشك ، ولا يترتب عليه أثر اليقين ، فلا يجوز صوم الشك من رمضان ، والقرينة على ذلك هو تواتر الاخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم ، فيكون موجبا لظهور الرواية في ذلك ، وبذلك تكون أجنبية بالمرة عن الاستصحاب. وهذا الوجه يستفاد من الكفاية (2).

ولكن يرد عليه : ان مجرد ثبوت الحكم المزبور - أعني اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم - في الروايات المتواترة لا يصلح قرينة على صرف هذه الرواية عن ظهورها في الاستصحاب ، إذ لا منافاة بين الحكمين. وهي في حد نفسها ظاهرة في ثبوت اليقين والشك فعلا ، وهذا يتناسب مع الاستصحاب ولا يتناسب مع البيان المزبور ، لعدم اليقين الفعلي بحسب الفرض.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق العراقي من : عدم إمكان تطبيق الاستصحاب فيما نحن فيه ، لأن وجوب الصوم مترتب على ثبوت كون النهار المشكوك من رمضان بنحو مفاد كان الناقصة ، ومن الواضح ان استصحاب بقاء شعبان أو بقاء رمضان لا يثبت ان هذا النهار من شعبان أو من رمضان إلاّ بالملازمة.

ص: 121


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /397- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فلا يمكن حمل الرواية على الاستصحاب ، لأنه لا يجدي في ترتب الأثر الشرعي (1).

وهذا الوجه تبتني تماميته وعدمها على ما يستفاد من الأدلة الفقهية ، ولا يحضرنا فعلا من الأدلة ما يظهر منه أخذ عنوان نهار رمضان بنحو مفاد كان الناقصة ، بل الشيء المرتكز هو أخذه بنحو الظرفية ومفاد كان التامة ، فإذا ثبت رمضان بالاستصحاب ثبت وجوب الصوم وتحقيق ذلك في محله.

الوجه الثالث : وهو العمدة : انه بناء على أخذ اليقين بدخول رمضان في وجوب الصوم وأخذ اليقين بشوال في وجوب الإفطار لا مجال للاستصحاب أصلا ، إذ مع الشك في دخول رمضان يعلم بعدم الموضوع للحكم الشرعي ، فيعلم بعدم الحكم ، فلا معنى للاستصحاب حينئذ ، لأنه بلحاظ الحكم الشرعي والمفروض العلم بعدمه.

ولا أدري لم غفل الأعلام عن هذا الوجه الواضح مع بنائهم على موضوعية اليقين في وجوب الصوم والإفطار؟. فلاحظ.

هذا مع ان الرواية ضعيفة السند.

هذا تمام الكلام في الروايات العامة التي استدل بها على الاستصحاب.

وقد عرفت ان العمدة فيها هو الصحيحتان الأولتان ، واما غيرهما فاما ليس بتام الدلالة أو ليس بتام السند أو ليس بتامهما.

وقد قال الشيخ ( رحمة اللّه ) بعد ما أنهي الكلام عن مكاتبة القاساني : « هذه جملة ما وقفت عليه من الاخبار المستدل بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها ، فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد » (2).

ص: 122


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 65 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.

وفيه : منع واضح ، إذ لا معنى لجبر الرواية الضعيفة السند بالرواية التامة السند الضعيفة الدلالة. نعم لو كانت الدلالة تامة في الكل أمكن تحقق الاستفاضة لعدم اعتبار تمامية السند في الاستفاضة.

ثم انه قد استدل على الاستصحاب ببعض الروايات الواردة في موارد خاصة بضميمة عدم القول بالفصل.

كرواية عبد اللّه بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذمي ، وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، قال : « فهل عليّ ان أغسله؟. فقال علیه السلام : لا لأنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه » (1). ودلالتها واضحة على استصحاب الطهارة ، لأن الحكم بعدم لزوم الغسل وان كان أعم من كونه لأجل قاعدة الطهارة أو لأجل استصحابها ، لكن التعليل المذكور لا يتلاءم الا مع الاستصحاب كما لا يخفى.

ورواية ابن بكير قال علیه السلام : « إذا استيقنت أنك توضأت فإياك ان تحدث وضوء! حتى تستيقن انك أحدثت » (2) ودلالتها على استصحاب الطهارة الحدثية مما لا يخفى.

هذا ولكن لا يمكن استفادة الحكم العام من هذين الروايتين وانما يستفاد منها جريان الاستصحاب في خصوص الطهارة الحدثية والخبثية ، والتمسك في تسرية الحكم إلى غيرها من الموارد بعدم القول بالفصل كما ترى ، إذ بعد هذا الخلاف الكبير في باب الاستصحاب حتى زادت الأقوال فيه على العشرة كيف يستفاد عدم القول بالفصل! هذا مع ان مثل هذا الإجماع المركب لو تم غير حجة بعد احتمال استناد المجمعين إلى الأدلة الظاهرة. فلا يكون إجماعا تعبديا. فالإشكال

ص: 123


1- وسائل الشيعة 2 / 1095 باب 74 من أبواب النجاسات ، حديث 1.
2- وسائل الشيعة 1 / 176 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، حديث 7.

في عدم القول بالفصل صغروي وكبروي فانتبه.

ومن الروايات الخاصة التي استدل بها على الاستصحاب ..

رواية عمار عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث : « كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك » (1).

وقد وقع الكلام - أخيرا - فيما هو مفاد هذه الرواية. والوجوه المذكورة في مفادها ستة :

الأول : انها تفيد قاعدة الطهارة وقاعدة الاستصحاب. وهذا هو المنسوب إلى صاحب الفصول رحمه اللّه .

الثاني : انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء والاستصحاب. وهو ما قربه صاحب الكفاية في كفايته (2).

الثالث : انها تتكفل أمورا ثلاثة : الطهارة الواقعية للأشياء. والطهارة الظاهرية للمشكوك. والاستصحاب. وهو ما قربه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (3).

الرابع : انها تتكفل جعل الطهارة الواقعية للأشياء مقيدة بعدم العلم بالنجاسة. وهو المنسوب إلى صاحب الحدائق (4).

الخامس : انها تتكفل جعل الاستصحاب خاصة.

السادس : انها تتكفل جعل الطهارة الظاهرية للأشياء خاصة ، وهو المعبر عنه بقاعدة الطهارة. وهذا هو المشهور في مفادها.

ص: 124


1- وسائل 2 / 1054 ، حديث 4.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /398- 399 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /185- 186 - الطبعة الأولى.
4- البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناضرة1/ 136 - الطبعة الأولى.

اما الوجه الأول : فقد حكاه الشيخ رحمه اللّه في رسائله عن صاحب الفصول ، فذكر انه قال : « ان الرواية تدل على أصلين :

أحدهما : ان الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب.

الأصل الثاني : ان هذا الحكم مستمرا إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته ».

وأورد عليه الشيخ رحمه اللّه : بان المشار إليه في قوله : « هذا الحكم ».

ان كان هو الحكم الظاهري المستفاد من الرواية. ففيه :

أولا : ان استمرار هذا الحكم ، وهو الحكم بالطهارة عند عدم العلم بالنجاسة. ليس مغيا بالعلم بالنجاسة بل مغيا بنسخ الحكم في الشريعة.

وفيه ثانيا : ان الغاية المذكورة في الرواية يمتنع ان تكون غاية لكلا الحكمين ، لأن الحكم بالاستمرار متأخر عن الحكم بالطهارة لتفرعه عليه ، لأن الحكم بأصل الطهارة موضوع للحكم بالاستمرار ، فإذا جعلت الغاية غاية للحكم بأصل الطهارة امتنع ان تجعل غاية للحكم بالاستمرار ، فانه يستلزم استعمال اللفظ في معنيين طوليين ، وهو واضح الامتناع.

وان كان المشار إليه هو الحكم الواقعي ، كان مفاد الرواية ان الطهارة إذا ثبتت واقعا في زمان ، فهو مستمر ظاهرا إلى زمان العلم بالنجاسة ، فينحصر مفاد الرواية في الاستصحاب ، ولا تفيد حينئذ قاعدة الطهارة كما ذهب إليه. هذا محصل إيراد الشيخ عليه ببعض توضيح (1).

أقول : ان ما ذهب إليه صاحب الفصول انما هو بعد الفراغ عن أمرين :

أحدهما : عدم الجامع بين قاعدتي الطهارة والاستصحاب ، لما ذكر الشيخ

ص: 125


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /335- الطبعة الأولى.

رحمه اللّه في صدر كلامه من كون المقصود في قاعدة الطهارة مجرد ثبوت الطهارة ظاهرا للأشياء ، والمقصود في الاستصحاب هو بيان استمرار الحكم لا أصل الثبوت ، بل يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ، والجامع بين هاتين الجهتين مفقود كما لا يخفى.

الأمر الثاني : امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فانه من الأمور المسلمة لديهم.

اذن فدعواه استفادة القاعدتين من الرواية لا يمكن ان يكون مبينا على استعمالها في الجامع لفرض عدمه ، أو على استعمالها في كل منهما لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

بل لا بد ان يكون مبتنيا على تعدد الدال والمدلول ، ولو بدعوى ان مفاد الرواية : « كل شيء طاهر وتستمر هذه الطهارة حتى تعلم .. ».

وعلى هذا فلا مانع من فرض الغاية غاية لكلا الحكمين ، إذ لا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى بعد فرض تعدد الدال والمدلول واستفادة الحكمين من دالين فلاحظ.

واما ما ذكره قدس سره في الشق الثاني من الترديد ، وهو ما إذا كان مراد الفصول بالمشار إليه الحكم الواقعي. ففيه :

أولا : انه لا وجه لاحتماله بعد صراحة عبارته المنقولة عنه في إرادة الحكم الظاهري.

وثانيا : انه لا إشكال فيه إذا كانت دعوى الفصول على استفادة استصحاب الطهارة الواقعية بدال آخر غير ما يدل على الطهارة الظاهرية ، ولو كان قرينة حالية فلا يلزم ان لا يكون مجال لاستفادة قاعدة الطهارة الظاهرية ثبوتا.

فالعمدة في الإيراد على صاحب الفصول هو : ما ذكره قدس سره أو لا

ص: 126

مبنيا على ما هو ظاهر كلامه من إرادة استصحاب الطهارة الظاهرية.

وتوضيحه : ان الطهارة الظاهرية مشروطة بالجهل بالنجاسة ، واستمرارها إلى زمان العلم بها انما هو لبقاء موضوعها ، وهو الجهل بالنجاسة. وهذا ليس من الاستصحاب في شيء ، بل هو كسائر الأحكام الواقعية والظاهرية المستمرة باستمرار موضوعها ، وهو الحكم بالطهارة المقيدة بالجهل ، فاستمراره ليس مغيا بالجهل بالنجاسة ، بل هو ثابت حتى مع العلم بالنجاسة ، وانما هو مغيا بالنسخ.

فلا شك حينئذ في بقاء الحكم بالطهارة مع الجهل بالنجاسة ، الا من حيث نسخ هذا الحكم ورفعه وهو الا يرتبط بالمدعى بشيء. فلاحظ.

ثم لا يخفى عليك ان ما دار حول كلام صاحب الفصول مما نقلناه انما يرتبط بمقام الثبوت ، ومع الغض عن مقام الإثبات. وإلاّ فمقام الإثبات قاصر أيضا عن إفادة مدعاه كما لا يخفى.

واما الوجه الثاني : فقد التزم به صاحب الكفاية في كفايته بدعوى : انه يستفاد من قوله علیه السلام : « كل شيء نظيف » الحكم بالطهارة للأشياء بعناوينها الأولية ، كما يستفاد من الغاية الاستمرار الظاهري للطهارة الواقعية ما لم يعلم نجاسته ، لا تحديد الموضوع كي يكون ظاهر النص بيان قاعدة الطهارة.

وقد يورد عليه : بان الرواية مشتملة على غاية ومغيا ، ولا موهم لاستفادة الاستصحاب من المغيا كما هو واضح.

واما الغاية ، فلا يصح استفادة الحكم بالاستمرار الظاهري منها لوجهين :

الأول : ان الغاية من توابع المغيا وملحوظة بلحاظه بنحو المعنى الحرفي ، فلا يعقل استقلالها بالإنشاء في قبال إنشاء المغيىّ

الثاني : ان الاستصحاب عبارة عن إبقاء الطهارة الواقعية عنوانا ، والمجعول في المغيا هو الطهارة الواقعية حقيقة لا عنوانا ، فما هو قابل للامتداد إلى هذه الغاية - وهو الطهارة الواقعية عنوانا - غير مقصود من المغيا وما هو

ص: 127

المقصود من المغيا - وهو الطهارة الواقعية حقيقة - غير قابل لمثل هذه الغاية. ومثل ذلك ينافي تبعية الغاية للمغيّا.

وهذا الإيراد مندفع : بأنه يمكن ان يستفاد الحكم بالاستمرار من المدلول الالتزامي للكلام بمجموعه صدرا وذيلا وهو الاستمرار ، فان الكلام الدال على حدوث شيء في زمان وارتفاعه في زمان متأخر يدل بالملازمة على استمراره إلى الزمان المتأخر ، كما لو قال : « جاء زيد إلى المدرسة صباحا وخرج منها ظهرا » ، فيكون إنشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.

واما ما أفيد من وجهي المنع عن استفادة الاستصحاب من الغاية فكلاهما مردود :

اما الأول : فلأن كون الغاية ملحوظة بنحو المعنى الحرفي لا يمنع من استقلالها بالإنشاء. كيف؟! وسائر الإنشاءات انما هو بالهيئات وهي من الحروف كهيئة الأمر.

واما الثاني : فلأن الاستصحاب يتكفل ثبوت نفس المتيقن حقيقة ، لكن بعنوان البقاء ، فالبقاء عنواني لا نفس الباقي. فالباقي عنوانا هو الواقع حقيقة لا الواقع عنوانا فتدبر.

والمتحصل : انه لا نرى هناك مانعا ثبوتيا يمنع من مختار الكفاية.

نعم هو مما لا يساعد عليه مقام الإثبات ، لأن ظاهر الغاية كونها غاية للطهارة المجعولة في الصدر لا غاية لاستمرارها ، كيف! والاستمرار انما يستفاد بعد ذكر الغاية ، فهو متأخر إثباتا عن نفس الغاية ، فلا يمكن ان تكون الغاية غاية له.

وإذا كانت الغاية غاية للطهارة المذكورة في الصدر لم يساعد مقام الإثبات استفادة كلا الحكمين كما قربه قدس سره .

نعم ، لو قيل : « كل شيء طاهر وتستمر طهارته حتى تعلم انه قذر » اتجه

ص: 128

ما ذكره.

واما الوجه الثالث الّذي ذكره في الحاشية : فهو مجمع الإيرادات على صاحب الفصول والكفاية لأنه يجمع كلا القولين.

ونزيد على ما تقدم ان الجمع : - في الصدر - بين الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية لا يمكن إلاّ بالإطلاق - بان يراد من الشيء أعم منه بعنوانه الأولي ، ومنه بعنوان انه مشكوك الطهارة كما قربه به - وهو ممتنع ، لأنه يستلزم ملاحظة الشيء بعنوانه الأولي وهو لا بشرط من الشك بنجاسته ، وملاحظته بشرط الشك في نجاسته ، والجمع في أمر واحد بين لحاظه بشرط شيء ولا بشرط ممتنع كما لا يخفى.

واما الوجه الرابع : المنسوب إلى صاحب الحدائق فقد عرفت انه دعوى تكفل الرواية لجعل الطهارة الواقعية وتقيدها بعدم العلم بالنجاسة ، بحيث يكون الشيء المجهول النجاسة طاهر واقعا.

ولا يخفى ان الالتزام به لا يستلزم محذورا فقهيا ، بل آثار النجاسة بلحاظ الجهل تتلاءم مع الطهارة الواقعية ، إلاّ انه لا يمكن الالتزام به لأمرين :

الأول : نفس الغاية في الرواية ، فانها ظاهرة في وجود نجاسة واقعية يتعلق بها الجهل تارة ، والعلم أخرى ، إذ المراد بالقذرة هاهنا هو النجاسة كما لا يخفى.

الأمر الثاني : ما ورد في بعض الروايات المتقدمة من استصحاب الطهارة ، وهو لا يتلاءم مع الطهارة الواقعية في ظرف الجهل من ناحيتين :

الأولى : فرض الشك واليقين بالطهارة.

الثانية : نفس التعبد بالطهارة وإجراء الاستصحاب ، إذ لو كان عدم العلم موضوع الطهارة الواقعية لما كان هناك حاجة إلى إجراء الاستصحاب ، بل امتنع إجراؤه ، لأن مجرد الشك يستلزم العلم بالطهارة فلا مجال للاستصحاب ، فتدبر.

واما الوجه الخامس : فهو يبتني على ان يكون الملحوظ هو الحكم

ص: 129

باستمرار الطهارة بعد الفراغ عن أصل ثبوتها للشيء ، بان يكون مفاد الرواية : « كل شيء طهارته إلى زمان العلم » أو : « كل شيء طاهر طاهر حتى تعلم انه قذر ». ولكن هذا خلاف الظاهر ، فان ظاهر النص هو الحكم فعلا بثبوت الطهارة المقيدة بعدم العلم للشيء لا الحكم باستمرار الطهارة المفروضة الثبوت.

فيتعين ان يكون مفاد الرواية هو الوجه السادس كما فهمه المشهور. وعلى ذلك تكون أجنبية عن الاستصحاب.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه في مقام تقريب دلالة الرواية على الاستصحاب قال : « بناء على انه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شيء إلى ان يعلم حدوث قذارته لا ثبوتها له ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت إلى ان يعلم عدمها ، فالغاية وهي العلم بالقذارة على الأول غاية للطهارة ورافعة لاستمرارها ، فكل شيء محكوم ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول العلم بالقذارة ، فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة. وعلى الثاني غاية الحكم بثبوتها والغاية وهي العلم بعدم القذارة رافعة للحكم ، فكل شيء يستمر الحكم بطهارته إلى كذا ، فإذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته لا نفسها. والأصل في ذلك ان القضية المغياة سواء كانت اخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول كما في قولنا : « الثوب طاهر إلى ان يلاقي نجسا » ، أم كانت ظاهرية مغياة بالعلم بعدم المحمول كما فيما نحن فيه ، قد يقصد المتكلم مجرد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلم به مجرد الاستمرار لا أصل الثبوت ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه » (1).

والّذي يظهر من هذه العبارة : ان الغاية بناء على استفادة قاعدة الطهارة من الرواية تكون غاية للحكم بالطهارة لا نفس الطهارة. واما بناء على استفادة

ص: 130


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /334- الطبعة الأولى.

الاستصحاب منها ، فالغاية غاية الطهارة نفسها ، وغاية الحكم غير مقصودة ولا مذكورة. كما يظهر منه انه بنى ذلك على كون مفاد الرواية على الأول مجرد ثبوت المحمول للموضوع. وعلى الثاني الحكم بالاستمرار ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه.

وهذا المطلب قد خفي على البعض تحقيقه وتوضيحه ، ولم تعط العبارة حقها من الشرح في عبارات المحشين.

وتوضيح مراده قدس سره : ان لدينا أمرين واضحين :

أحدهما : ان الحكم بالطهارة والتعبد بها غير نفس الطهارة ، فان الحكم بها عبارة عن الجعل ونفس الطهارة عبارة عن المجعول.

والآخر : ان ظاهر الكلام المتقدم في حد نفسه رجوع القيد - وهو الغاية - إلى النسبة الحكمية التي مفادها التعبد بالمحمول وجعله. نعم قد يرفع اليد عن هذا الظاهر لقرينة.

وعليه ، نقول : ان الرواية إذا كانت في مقام الحكم بثبوت الطهارة الظاهرية ، كان ظاهر الكلام رجوع الغاية إلى الحكم والتعبد به ، لا إلى المتعبد به وهو الطهارة ، وان ارتفع المجعول بارتفاع الجعل. واما إذا كانت في مقام الحكم بالاستمرار مع المفروغية عن أصل ثبوت الحكم ، فيما انه لا نظر إلى جعل الحكم وثبوته ، وانما المنظور بيان استمرار الحكم الثابت بحيث يكون مفاد « كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر » : « كل شيء طهارته إلى زمان العلم » ، فتدل بالالتزام على الاستمرار ويقصد إنشاء الاستصحاب بالمدلول الالتزامي.

وعليه ، فالغاية في الكلام ليست غاية الحكم بثبوت الطهارة ، إذ ليس هذا محط النّظر ، بل هو أمر لوحظ مفروغا عنه ، فيتعين ان تكون غاية لنفس الطهارة المذكورة في الكلام ، والمفروغ عن تحقق الحكم بها حدوثا ، وبذلك ظهر معنى قوله : « فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصود ».

ص: 131

وبالجملة : كلمة « طاهر » - على القول بالاستصحاب - ليست إنشاء للطهارة لا حدوثا وهو واضح ، ولا استمرارا - كي يقال ان الغاية غاية الحكم - ، إذ إنشاء الاستمرار بالمدلول الالتزامي لمجموع الكلام ، وانما الملحوظ بها الإشارة إلى الطهارة الثابتة للشيء ، فتكون الغاية غاية للمجعول لا للجعل فتدبر جيدا.

وهذا التوجيه لكلامه قدس سره لم نعهد من سبقنا إليه واللّه سبحانه ولي العصمة.

هذا تمام الكلام في اخبار الاستصحاب العامة والخاصة.

ويبقى أمر مختصر لا بد من التنبيه عليه ، وهو : أنك عرفت فيما تقدم بيان اختصاص الروايات المشتملة على لفظ النقض بمورد الشك في الرافع وعدم عمومها لمورد الشك في المقتضي ، وذلك : بملاحظة لفظ النقض.

ولكن قد يدعى إمكان استفادة عموم دليل الاستصحاب لمورد الشك في المقتضي من الروايات الأخرى ، كقوله علیه السلام في رواية زرارة الثالثة :

« ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » ، فانه ظاهر في النهي عن الأخذ بالشك مع اليقين السابق من دون اعتبار صدق النقض.

وكرواية الخصال المتقدمة ، إذ ورد فيها التعبير بالمضي على اليقين ، وهو يعم صورة الشك في المقتضي. وأوضح من الكل مكاتبة القاساني ، لأن موردها وهو الشك في بقاء شهر رمضان وشوال من الشك في المقتضي جزما كما لا يخفى.

والتحقيق ان شيئا من ذلك لا يعتمد عليه ، اما رواية زرارة الثالثة ، فقد عرفت انها لا ترتبط بمسألة الاستصحاب ، وليس المراد باليقين والشك فيها هو اليقين السابق والشك اللاحق. واما رواية الخصال ، فقد عرفت الكلام فيها سندا ودلالة ، لاحتمال نظرها إلى قاعدة اليقين. واما رواية القاساني ، فهي على ما عرفت محل تشكيك من ناحية السند والدلالة.

ص: 132

وجملة القول : ان عمدة نصوص الاستصحاب صحيحتا زرارة الأولتان وقد عرفت اختصاص دلالتهما على الاستصحاب في مورد الشك في الرافع ، بسبب لفظ النقض. فلاحظ وتدبر.

الأحكام الوضعيّة

وبعد جميع هذا يقع الكلام في الأحكام الوضعيّة وانها مجعولة أو غير مجعولة شرعا ، وسيتضح مقدار ربط ذلك بمسألة الاستصحاب.

وقد أشار صاحب الكفاية إلى بعض الجهات التي يبحث عنها في الأحكام الوضعيّة ، وأهمل تحقيقها بصورة مفصلة لعدم الأثر المهم ، فان الجهة المهمة هي جهة البحث عن ان الأحكام الوضعيّة هل هي مجعولة شرعا كالاحكام التكليفية أو ليست مجعولة شرعا؟.

والّذي أفاده قدس سره في هذا المقام : الوضعيّة على أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : ما لا يمكن ان يكون مجعولا شرعا أصلا لا بالجعل الاستقلالي ولا بالجعل التبعي ، بل يكون مجعولا تكوينا عرضا بجعل موضوعه تكوينا.

النحو الثاني : ما لا يمكن ان يكون مجعولا شرعا بالاستقلال ، وانما يكون مجعولا بتبع التكليف.

النحو الثالث : ما يمكن ان يكون مجعولا شرعا بالاستقلال وبتبع التكليف ، وان كان الصحيح كونه مجعولا بالاستقلال وكون التكليف من آثاره وأحكامه.

ولا بد من التكلم في كل نحو على حدة.

اما النحو الأول : فقد جعل من مصاديقه السببية والشرطية والمانعية

ص: 133

والرافعية لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ، كسببية الدلوك لوجوب الصلاة ، فانها غير مجعولة للدلوك لا استقلالا ولا تبعا. واستدل على ذلك بوجهين :

الأول : انه لا يعقل ان تكون السببية ونحوها منتزعة عن التكليف لتأخره عنها ، فإذا كانت منتزعة عنه لزم تأخرها عنه وهو خلف.

وهذا الوجه - كما لا يخفى - يتكفل نفي الجعل التبعي.

الوجه الثاني : ان سببية الشيء - كالدلوك - للتكليف لا بد ان تكون ناشئة عن خصوصية في ذات السبب تستدعي ترتب التكليف عليه ضرورة اعتبار ان يكون في العلة باجزائها ربط خاص تكون بسببه مؤثرة في المعلول دون غيره لا يكون غيرها مؤثرا فيه ، ولو لا ذلك لزم ان يؤثر كل شيء في كل شيء ، وهو ضروري البطلان.

ومن الواضح ان تلك الخصوصية المستلزمة لتأثير ذيها في التكليف خصوصية تكوينية لا تناط بجعل السببية ، فانها ان كانت موجودة لم يحتج إلى الإنشاء ولا أثر له ، وان لم تكن موجودة لم توجد بسبب إنشاء السببية ، فالجعل وجودا وعدما لا تأثير له في وجود الخصوصية وعدمها ، وعلى هذا تكون السببية منتزعة عن أمر تكويني لا دخل للجعل فيه أصلا.

وهذا الوجه ينفي الجعل الاستقلالي كما ينفي الجعل التبعي كما لا يخفى (1).

أقول : لا إشكال في ان السببية للتكليف ونحوها لا يتعلق بها الجعل الاستقلالي مع غض النّظر عما أفاده قدس سره - وان كان تاما على ما يأتي تحقيقه - ، وذلك للغوية جعل السببية ، وذلك لأنه حين يجعل السببية للدلوك لا

ص: 134


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /400- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يخرج الوجوب عن كونه اختياريا للجاعل ، بمعنى ان جعله بيده.

وعليه ، نقول : اما ان يجعل الشارع الوجوب عند الدلوك أو لا ، فان جعله عند الدلوك لا حاجة إلى جعل السببية لانتزاعها من التكليف. وان لم يجعله لم ينفع جعل السببية في ترتبه. اذن فيكون جعلها لغوا.

وانما البحث يدور بين الاعلام في انها منتزعة عن التكليف أو انها امر واقعي غير مجعول.

وقد عرفت ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه في هذا المقام.

وقد استشكل في كلا وجهيه.

اما الإشكال في الأول : فبان ما يكون التكليف متأخرا عنه هو ذات السبب لا عنوان السببية ، فلا يلزم من انتزاع عنوان السببية من ترتب التكليف على ذات السبب الخلف ، إذ ما هو المتأخر عن التكليف غير ما هو المتأخر عنه التكليف ، نظير العلية في الأمور التكوينية ، فان المعلول متأخر عن ذات العلة ، ولكن العلية والمعلولية تنتزعان من ترتب المعلول على علته.

واما الإشكال في الثاني : فبان للتكليف مقامين : مقام المصلحة والغرض ، ومقام الجعل والاعتبار.

ومن الواضح ان دخالة السبب في المصلحة تكوينية لا جعلية ، إذ المصلحة من الأمور التكوينية ، الخارجة عن دائرة الجعل.

واما مقام الجعل والاعتبار ، فصيرورة الشيء سببا للتكليف انما هو بيد الشارع ، : فان أخذه في موضوع الحكم انتزع عنه عنوان السببية ، وإلاّ لم يكن سببا للتكليف وان كان سببا للمصلحة.

ومن الواضح ان محل الكلام هو سببية الشيء للتكليف لا للمصلحة ، وهي لا محالة منتزعة عن كيفية الجعل ومقام التشريع.

ومرجع كلتا المناقشتين : ان استدلال المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه في كلا

ص: 135

وجهيه مبني على الخلط. ففي الوجه الأول خلط بين عنوان السببية وذات السبب. وفي الثاني خلط بين مقام المصلحة ومقام الجعل والتشريع (1).

والتحقيق : ان كلتا المناقشتين غير واردتين :

اما مناقشة الوجه الأول ، فيدفعها : ان السببية على نحوين :

أحدهما : السببية الشأنية ، وهي عبارة عن كون الشيء مؤثرا في وجود المسبب لو انضمت إليه الشرائط ، فهي عبارة عن قضية شرطية.

والآخر : السببية الفعلية ، وهي عبارة عن تأثير السبب في وجود المسبب فعلا.

وعليه ، فحين يقال : ان النار سبب للإحراق ، تارة : يراد به بيان قابلية النار للتأثير وانها ذات خصوصية واقعية مستلزمة للحرقة عند اجتماع سائر الشرائط من المماسة ويبوسة المحل ، وهذا العنوان يصح إطلاقه على النار ولو لم يكن للنار ولا للحرقة وجود. وأخرى : يراد به بيان ترتب الإحراق فعلا على النار ، وهذا هو معنى السببية الفعلية.

وقد اتضح بهذا البيان : ان السببية المنتزعة عن وجود المسبب خارجا هي السببية الفعلية. اما السببية الشأنية ، فهي في مرحلة سابقة على وجود المسبب ، وهي تنتزع عن الخصوصية الواقعية الموجودة في السبب التي بها يؤثر في المسبب عند حصول شرائط التأثير ، فانه لو لا تلك الخصوصية لا يقال عنه انه سبب لعدم قابليته للتأثير.

وهذا البيان بنفسه يتأتى في سبب التكليف ، فان السببية المقصودة تارة يراد بها السببية الشأنية. وأخرى السببية الفعلية. وما ينتزع عن التكليف الفعلي هو السببية الفعلية دون السببية الشأنية ، فانها في مرحلة سابقة على التكليف ،

ص: 136


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 395 - 397 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فيطلق على الدلوك انه سبب للوجوب ولو لم يوجد بعد ، ويمتنع ان تكون منتزعة عن نفس التكليف ، كيف؟ وهي ثابتة قبل وجود التكليف كما عرفت.

وإذا عرفت ما ذكرناه ، فنقول : ان محل الكلام فيما نحن فيه ، هو السببية الشأنية دون السببية الفعلية ، وذلك لأن المبحوث عنه هو ما يطلق عليه السبب والشرط مع قطع النّظر عن وجوده في الخارج ، كما يقال : « الدلوك سبب لوجوب الصلاة » و: « الاستطاعة شرط لوجوب الحج » ، فان السببية والشرطية هي الشأنية لا الفعلية كما لا يخفى.

وهي كما عرفت لا يصح ان تنتزع عن التكليف لتأخره عنها ، فلو انتزعت عنه لزم الخلف. بل هي منتزعة اما عن خصوصية واقعية في ذات السبب ، واما عن كيفية الجعل والإنشاء - على ما سيأتي تحقيقه -.

فلا خلط في كلامه قدس سره بين ذات السبب والسببية ، بل نظره قدس سره إلى السببية الشأنية السابقة على التكليف ، لا الفعلية كي يحصل الخلط. اذن فهذا الإيراد غير وجيه.

نعم ، يمكن ان يورد على صاحب الكفاية : بان من يدعي كون السببية الشأنية منتزعة عن التكليف لا يريد انها منتزعة عن نفس التكليف الفعلي ، كي يتأتى إيراده المتقدم ، بل يريد انها منتزعة عن مقام الجعل وكيفية الجعل ، فان جعل المولى التكليف مقيدا بشيء انتزع عنه ان ذلك الشيء شرط - مثلا - ، وان جعله مطلقا من ناحية ذلك الشيء لم ينتزع عنه شرطية ذلك الشيء.

ولا يخفى ان مقام الجعل ليس متأخرا عن السببية الشأنية. اذن فالإيراد من هذه الناحية - أعني : تأخر التكليف عن السببية ولزوم الخلف لو كانت منتزعة عنه - غير تام.

وانما المهم هو تحقيق ان السببية الشأنية هل هي منتزعة عن كيفية الجعل - كما قيل - ، أو انها منتزعة عن خصوصية واقعية بلا دخل لكيفية الجعل ، كما

ص: 137

ذهب إليه صاحب الكفاية في الوجه الثاني؟.

وهذه الجهة ستتضح في مناقشة الإيراد الثاني على صاحب الكفاية.

وتحقيق ذلك يتم ببيان امرين :

الأول : ان مرجع كون الشيء سببا للتكليف أو شرطا له هو كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، بحيث يكون الفعل به ذا مصلحة وبدونه ليس بذي مصلحة ، فنسبته إلى الفعل نسبة المرض إلى استعمال الدواء ، فإن شرب الدواء بدون المرض لا مصلحة فيه ، بل قد يكون مضرا ، وانما يصير ذا مصلحة عند تحقق المرض.

وبعبارة مختصرة : ان موضوع التكليف ما كان دخيلا في تحقق الاحتياج إلى الفعل ، والأمثلة العرفية كثيرة.

الأمر الثاني : ان الحكم التكليفي الفعلي قد اختلف في حقيقته وواقعه ، والوجوه المعروفة فيه أربعة :

الأول : انه عبارة عن نفس الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.

الثاني : انه عبارة عن الاعتبار العقلائي للحكم المترتب على الإنشاء الصادر من المولى.

الثالث : انه عبارة عن نفس اعتبار المولى في ظرفه الخاصّ ، بحيث يكون الاعتبار منوطا بتحقق الموضوع.

الرابع : انه عبارة عن اعتبار المولى في ظرف الإنشاء ، لكن يكون الاعتبار على تقدير ، بمعنى ان الاعتبار من الآن على تقدير تحقق الموضوع ، فتحقق الموضوع دخيل في ترتب الأثر العقلائي على الاعتبار ، وهو المعبر عنه بفاعلية الاعتبار ، وليس دخيلا في تحقيق نفس الاعتبار كما هو الحال في الوجه الثالث.

وعليه ، نقول : بعد فرض كون المولى حكيما يتتبع الحكمة في أفعاله ولا

ص: 138

يجازف ، فيتعين عليه ملاحظة موارد المصلحة في تشريعاته ، فلا يشرع حكما على خلاف المصلحة وإلاّ كان منافيا للحكمة ، فإذا فرض ان كون الفعل ذا مصلحة منوط بأمر خاص ، كالدلوك بالنسبة إلى الصلاة ، امتنع تحقق التكليف وجعله من قبل المولى بلا ربط له بالدلوك ، وإلاّ كان خلاف الحكمة. ومن هذه الجهة تنتزع شرطية الدلوك للوجوب ، لأن معنى الشرطية هو امتناع تحقق المشروط بدون الشرط ، وهذا ثابت في الدلوك بعد فرض كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وبعد فرض حكمة المولى وعدم مجازفته.

ومن الواضح ان هذا المعنى ليس جعليا ، بل هو تابع للخصوصية الواقعية الموجودة في الدلوك ، ولا تناط بجعل المولى التكليف منوطا به ، بحيث لولاه لما كان شرطا - بالمعنى الّذي عرفته -. بيان ذلك :

اما بناء على كون التكليف الفعلي هو الإرادة التشريعية ، فلأن تبعية إرادة الحكيم لحصول الشرط الدخيل في المصلحة تكوينية ، لأن الإرادة تابعة للشوق ، وهو لا يحصل إلاّ لما فيه المصلحة ، فبدون الشرط لا يحصل الشوق فلا تحصل الإرادة. فتأثير الشرط في الإرادة تكويني قهري لا تناله يد الجعل بالمرة ولا يكون تابعا لكيفية الجعل أصلا.

وبعبارة أخرى : ان المولى لو كان يتمكن من ان يريد الفعل بدون هذا الشرط ، لكان لدعوى تبعية شرطيته لتعليق الإرادة عليه من قبل الشارع مجال ، ولكنه لا يتمكن ان يريد الفعل بدون هذا الشرط ، لأنه يستحيل تحقق الإرادة من دون شوق ، وهو لا يحصل بالنسبة إلى الفعل الخالي عن المصلحة ، وشرطية الشرط للإرادة تكوينية ليست منوطة بالشارع.

واما بناء على كون التكليف الفعلي هو الاعتبار العقلائي المترتب على الإنشاء الصادر من المولى ، فلا يخفى ان العقلاء إذا أدركوا ان كون الفعل بدون هذا الشرط خال عن المصلحة لم يعتبروا التكليف بدونه وكان اعتبارهم منوطا

ص: 139

بوجوده سواء ربط المولى حكمه به أو كان إنشائه مطلقا.

وان كان فرض حكمته انه لا بد ان ينشئه مقيدا به ، فترتب الحكم الفعلي على الشرط ليس منوطا بكيفية الجعل ، بل هو تابع لدخالته في المصلحة وهي جهة تكوينية واقعية لا جعلية.

ومنه يتضح الحال على الوجهين الآخرين في حقيقة الحكم التكليفي ، فان المراد بالشرط - كما أشرنا إليه - هو ما يمتنع وجود التكليف بدونه بحيث يلزم من عدمه العدم.

وهذه الجهة تتحقق في الشرط بملاحظة كونه دخيلا في الاحتياج إلى الفعل وكونه ذا مصلحة ، إذ يمتنع حينئذ تحقق التكليف من المولى الحكيم بدونه ويلزم من عدمه عدم التكليف ، وإلاّ كان منافيا للحكمة. اذن فانتزاع الشرطية منوط بأمر واقعي ولا ربط لكيفية الجعل به أصلا ، بل كيفية الجعل من المولى الحكيم تابعة للشرطية الواقعية.

والّذي يتحصل : ان شرطية التكليف الصادر من الحكيم - بناء على تبعية الأحكام للمصالح والأغراض العقلائية ، كما هو الحق الّذي لا يقبل الإنكار ، وإلاّ لما كان وجه للتقييد بشيء دون آخر - منتزعة عن خصوصية واقعية - كما ذهب إليه صاحب الكفاية - ، لا عن مقام الجعل والتشريع. وليس في كلامه خلط بين مقام المصلحة ومقام التشريع ، بل نظره إلى الشرطية في مقام التشريع والحكم كما عرفت.

كما ظهر مما ذكرنا ان ما أورده المحقق النائيني رحمه اللّه على صاحب الكفاية - من : انه خلط بين مقام الجعل والمجعول ، فان شرائط الجعل تكوينية لا تناط بالجعل ، واما شرائط المجعول فشرطيتها منتزعة عن كيفية الجعل ، ولو لا جعل المولى التكليف مقيدا بالشرط لم يعنون بعنوان الشرطية - وقد تبعه عليه

ص: 140

غيره (1) في هذا الإيراد غير تام ، لما عرفت من كون نظر صاحب الكفاية إلى نفس المجعول وشرائطه. وان شرطية شرط المجعول غير مجعولة ، بل هي تابعة لخصوصية واقعية ان كانت موجودة ، كان الشيء شرطا وان لم يتقيد به المجعول في مقام الجعل ، وان لم تكن موجودة لم يكن شرطا وان تقيد به في مقام الجعل ، لعدم امتناع تحقق التكليف الفعلي بأي معنى من معانيه بدونه حينئذ.

ويزيدك وضوحا ملاحظة شرطية القدرة للتكليف ، فانها شرط عقلي يمتنع التكليف بدونه للغويته.

ولم يخطر في ذهن أحد أن شرطية القدرة تابعة للجعل وكيفيته ، إذ هي شرط مع كون الجعل مطلقا من ناحيتها. فكما تكون شرطية القدرة منتزعة عن جهة واقعية ، فكذلك نقول في سائر الشرائط المذكورة في

لسان الشارع ، فإنها شرط واقعي للتكليف بملاحظة تقيد الشارع بمقتضى الحكمة والمصلحة وعدم خروجه عنهما. فتدبر جيدا.

واما النحو الثاني - وهو ما امتنع جعله مستقلا وجعل تبعا - : فقد جعل من مصاديقه الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه ، كجزئية السورة للصلاة وشرطية الطهارة لها ، ومانعية النجاسة وقاطعة الاستدبار ، فانها مجعولة بالتبع. وبعبارة أخرى : انها منتزعة عن التكليف المتعلق بالعمل.

وقد أوضح ذلك : ان الجزئية ذات مراتب ثلاث :

الأولى : الجزئية بلحاظ الوفاء بالغرض ، وذلك بان يكون غرض واحد مترتبا على مجموع أمور ، فيكون كل واحد منها جزء ما يفي بالغرض ، وتكون جهة الوحدة الجامعة بين الأمور المتباينة هي الوفاء بالغرض.

ص: 141


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 81 - الطبعة الأولى.

الثانية : الجزئية بلحاظ تعلق اللحاظ ، بان يتعلق لحاظ واحد بمجموع أمور ، فان كل واحد منها جزء الملحوظ ومجموعها هو الكل.

الثالثة : الجزئية بلحاظ مقام الأمر والتكليف ، وذلك بان يتعلق امر واحد بعدة أمور ، فيكون كل منها بعض المأمور به وجزئه.

ولا يخفى ان الجزئية لا تنتزع مع قطع النّظر عن الأمر ، إذ هذه الأمور متباينة لا ربط بينها ولا جهة وحدة. اما بعد تعلق الأمر بها فهو جهة وحدة تصحح انتزاع الجزئية لكل واحد منها ، فليست الجزئية للمأمور به امرا واقعيا ثابتا مع قطع النّظر عن الأمر ، بل هي متفرعة عن تعلق الأمر بالأمور المتكثرة بحيث تربط بينها وتوحدها جهة تعلق الأمر بها (1).

وهذا الالتزام من صاحب الكفاية وقع موقع القبول من الاعلام ، إلاّ ان المحقق العراقي خالفه في الشرطية ، فذهب إلى : ان الشرطية تنتزع في مرحلة سابقة عن تعلق الأمر ، وذلك لأن الشرطية الثابتة للشرط انما هي فرع إضافته إلى المشروط وتقيده به ، فيكون شرطا لحصول المقيد به ، ومن الواضح ان جهة التقيد والإضافة سابقة عن تعلق الأمر ، ولا تتوقف على الأمر ، بل هي معروضة للأمر ، إذ الأمر بالمقيد فرع أخذ التقيد في متعلق الأمر ، وهذا يقتضي سبق التقيد على الأمر.

نعم ، كون الشيء شرطا للمأمور به يتوقف على الأمر ، لا ان أصل شرطيته متوقفة على الأمر ، نظير مقدمة الواجب ، فان أصل المقدمية لا يتوقف على التكليف ، ولكن عنوان : « المقدمية للواجب » لا يكون إلاّ بعد ثبوت الوجوب.

ولكن هذا غير ما نحن بصدده ، فان البحث عن توقف أصل الجزئية

ص: 142


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /401- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والشرطية على الأمر. وهذا وان تم في الجزئية ، لأنها تنتزع عن جهة الوحدة ، وهي في المأمور به ليس إلاّ الأمر وكونه متعلقا له ، فبعد تعلقه بذوات الاجزاء ينتزع عنه عنوان الجزئية لها. ولكنه لا يتم في الشرطية ، لأنها تنتزع عن جهة تقيد العمل بالشرط وإضافته له ، وهذا غير منوط بالأمر ، بل عرفت انه سابق على الأمر لأنه مأخوذ في موضوعه. فمثلا الصلاة المشروطة بالطهارة يتعلق بها الأمر ، ولا يخفى ان كون الطهارة شرطا انتزع عن تقيد الصلاة بها ، وهو سابق على الأمر. نعم كونها شرطا للواجب ينتزع عن الأمر كما عرفت لا أصل الشرطية. مثل : « إكرام العالم الواجب الاحترام » ، فان كونه إكراما للعالم لا يرتبط بالأمر ووجوب احترام العالم ، بل هو امر ثابت في حد نفسه ، لكن كونه إكراما لمن يجب احترامه ينتزع عن الأمر باحترام العالم. فتدبر (1).

هذا ما أفاده العراقي قدس سره - ببعض توضيح منا وتلخيص - وهو كلام متين يزداد لدينا وضوحا كلما ازددنا فيه تأملا وتفكرا.

هذا ، ولكن لا يخفى انّه - على متانته - لا أثر له فيما هو المهم فيما نحن فيه. وتوضيح ذلك : ان الكلام فيكون الأحكام الوضعيّة كالجزئية مجعولة وعدم كونها مجعولة ، انما هو بلحاظ صحة جريان الأصل فيها وعدم صحته.

وقد أشير في الكفاية إلى صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما يكون مجعولا بالتبع ، ببيان : انه لا يعتبر في مجرى الأصل سوى كون امره بيد الشارع يتمكن من وضعه ورفعه ولو بتبع امر آخر ، والجزئية للمأمور به كذلك ، فانها مجعولة يتبع جعل الأمر ، فيصح ان تكون مجرى الأصل ، ولا يمنع منه عدم تسمية الجزئية حكما شرعيا ، إذ لا يعتبر ذلك في مجرى الأصل ، بل المعتبر ما عرفت من كونه بيد الشارع وهو كذلك.

ص: 143


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 91 - 92 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واما ما كان دخيلا في التكليف ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لعدم كونه بيد الشارع ولو بالتبع كما عرفت ، ولا يترتب عليه شرعا حكم شرعي ، إذ التكليف وان كان مترتبا عليه إلاّ انه ليس بترتب شرعي. هذا ما أفيد في الكفاية (1).

ولكن الحق انه لا مجال لجريان الاستصحاب في مثل الجزئية مما كان منتزعا عن التكليف ومجعولا بالتبع ، لأن وصول النوبة إلى إجراء الأصل في الجزئية وجودا أو عدما انما هو فيما إذا لم يكن منشأ انتزاعهما - وهو الأمر النفسيّ المتعلق بالكل - مجرى للأصل ، لقصور في المقتضي أو لوجود المانع ، كما في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر وعدم انحلال العلم الإجمالي فيه ، كما هو مبنى صاحب الكفاية ، إذ أصالة عدم الأمر بالأكثر معارضة بأصالة عدم الأمر بالأقل. واما مع إمكان جريان الأصل فيه ، فلا مجال للأصل في الجزئية.

وعليه ، فنقول : ان الأمر الانتزاعي حيث انه لا وجود له الا في ضمن منشأ انتزاعه ولا مطابق له خارجا سواه ، وإلاّ فهو أشبه بالفرض ، فلا يقبل الجعل وجودا وعدما إلاّ بلحاظ تعلق الجعل وعدمه بمنشإ انتزاعه ، والمفروض انه - أي منشأ الانتزاع - لا يصح ان يكون مجرى للأصل وللتعبد.

وإلاّ استغني بالتعبد به عن التعبد بما ينتزع عنه.

هذا إذا كان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن.

واما إذا كان مفاده هو معاملته البقاء من دون تقيّد للتعبد به ، بل هو إرشاد اما إلى التعبد به كما لو كان حكما ، أو إلى التعبد بأثره كما لو كان موضوعا ، فقد يقال انه يشمل الجزئية ويكون مقتضاه وقوع التعبد بما يلازمها ، وهو منشأ انتزاعها.

ص: 144


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /403- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لكن نقول : ان الأصول العملية لا يصح ان تجري الا فيما ترتب على جريانها أثر عملي بحيث تنفع المكلف في مقام عمله.

ولا يخفى انه لا ثمرة عملية تترتب على جعل الجزئية - بما هي - وجودا وعدما. وانما الأثر العملي العقلي يترتب على الأمر النفسيّ المتعلق بالمجموع ، وهو منشأ انتزاع الجزئية ، فانه يختلف حكم العمل باختلاف سعة دائرة شموله وضيقها.

اما الجزئية - بعنوانها - ، فلا أثر يترتب عليها أصلا ، فلا مجال لجريان الأصل فيها وان فرض كونها مستقلة في الوجود عن منشأ انتزاعها. وبعبارة أخرى : ان الأثر العملي لا يرتبط بها بأي ارتباط كي يكون ترتبه إبقاء لها عملا فلا يشملها الأمر بالإبقاء عملا ، وليس الأمر في الموضوع الشرعي كذلك ، فان ما يترتب على الحكم من أثر يعد إبقاء له عملا كما هو واضح.

وإذا عرفت ذلك ، يظهر انه لا قيمة - بلحاظ ما هو المهم فيما نحن فيه - في إثبات كون الشرطية انتزاعية كالجزئية ومجعولة بالتبع مثلها ، أو واقعية غير مجعولة ، لأنها على كلا التقديرين لا تكون مجرى للأصل.

واما ما هو الدخيل في التكليف كالسببية ، فهو مما لا مجال لجريان الأصل فيه أيضا ، سواء كان مجعولا أو غير مجعول ، وذلك لأن الشك فيه اما حدوثا بان يشك بان هذا سبب يتوقف على حدوثه حدوث التكليف ، بحيث إذا نفينا سببيته ثبت التكليف قبل تحققه لعدم ارتباطه به ، كما لو شك بان وجوب الظهر منوط بالزوال أو لا. واما بقاء بان يشك في إناطة التكليف به بقاء ، بحيث إذا نفينا سببية بقاء يبقى التكليف كما لو شك بعد زوال العلم عن العالم في ان عنوان العالم موضوع للتكليف حدوثا أو حدوثا وبقاء.

اما الأول : فلا مجال لجريان حديث الرفع لمنافاته للامتنان.

واما الاستصحاب ، فهو وان لم يكن فيه محذور من هذه الجهة ، لكنه لا

ص: 145

أثر له عملي ، فالمرجع هو استصحاب عدم التكليف قبل حدوث السبب المشكوك ، أو أصالة البراءة منه.

واما الثاني : فاستصحاب السببية لا أثر له عملا كما عرفت ، إذ الأثر العملي يترتب على نفس التكليف المنوط بالسبب. فالمتعين إجراء الأصل في منشأ انتزاعه لو كان جاريا في حد نفسه.

والّذي يتلخص : انّ البحث عن مجعولية السببية وعدمها ، وهكذا الجزئية مما لا قيمة له من الناحية العملية التي نتوخاها في باب الاستصحاب. نعم هو بحث علمي يترتب عليه فائدة علمية.

واما النحو الثالث - وهو ما جعل استقلالا وان أمكن جعله تبعا - : فقد جعل من مصاديقه الحجية والقضاوة والحرية والملكية والزوجية ، وقد التزم بأنها مجعولة بالاستقلال كالتكليف ، وليست منتزعة عنه - كما يراه. الشيخ (1) رحمه اللّه -.

وقد استدل على ذلك بوجوه عديدة :

الأول : انه من الضروري صحة انتزاع الملكية بمجرد تحقق العقد ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة ترتب التكاليف والآثار ، بل مع الغفلة عن ذلك ، مثل هذا لا يصح لو كانت أمورا انتزاعية عن التكليف.

الوجه الثاني : انه يلزم من كونها انتزاعية ان لا يقع ما قصد ويقع ما لم يقصد ، وهو مناف لتبعية العقود للقصود. بيان ذلك : ان المنشئ للبيع - مثلا - يقصد بإنشائه وقوع التمليك لا أمرا آخر ، فإذا لم تترتب الملكية اعتبارا على قصده ، بل ترتب التكليف الّذي ينتزع عنه الملكية ، كان هذا مستلزما لوقوع ما لم يقصد وقصد ما لم يقع.

ص: 146


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /351- الطبعة الأولى.

الوجه الثالث : انه لا يصح دعوى ان الملكية منتزعة عن جواز التصرف بالمال الثبوت الجواز مع عدم الملكية قطعا ، كما في الولي على المال أو المأذون بالتصرف.

وهذه الوجوه ذكرها في الكفاية (1).

الوجه الرابع : انه ليس في الأحكام الوضعيّة ما يختص بحكم تكليفي لا يشاركه فيه غيره ، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى : ان الحكم الوضعي ينتزع عن جملة من الأحكام التكليفية التي بجملتها تختص به. كما ترى ، مع ان هذا أيضا لا يمكن في بعض المقامات ، فان الحجية والطريقية من الأحكام الوضعيّة التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجية منه. وهذا الوجه ذكره المحقق النائيني (2).

الوجه الخامس : ما ذكره المحقق العراقي من ان ظواهر الأدلة لا تساعد على دعوى الانتزاع ، لأنه قد أخذت فيها هذه الأمور الوضعيّة موضوعا للأحكام التكليفية ، مثل ما دل على حرمة التصرف بمال الغير بغير طيب نفسه (3) ، وما دل على سلطنة الناس على أموالهم (4). وهذا يقتضى كون الإضافة في مرتبة سابقة على الحكم فكيف يكون الحكم منشأ لانتزاعها (5).

أقول : البحث في مجعوليّة هذه الأمور ..

تارة : ينظر فيه مقام الإثبات ، بحيث تكون معقولية تعلق الجعل الاستقلالي بها مفروغا عنها ولا كلام فيها وانما الكلام في الدليل عليه.

ص: 147


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /402- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 387 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- وسائل الشيعة 3 / 424 باب 3 من أبواب مكان المصلي حديث 1.
4- عوالي اللئالي 1 / 222 ح 99.
5- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 103 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وهذا ما نهجه الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) ، فان الّذي يظهر منهم المفروغية عن الإمكان الثبوتي ، وركزوا البحث على مقام الإثبات.

وقد عرفت مجموع الوجوه التي ذكرت بهذا الصدد ، وهي بمجموعها توجب حصول الاطمئنان بتعلق الجعل الاستقلالي بهذه الأمور ، وان أمكن البحث في كل وجه وجه إذا بنينا على التدقيق.

وأخرى : ينظر فيه مقام الثبوت ، وانه هل يعقل تعلق الجعل الاستقلالي بهذه الأمور أو لا؟.

وهذا ما لم يتعرض إليه الأعلام ولم يشيروا إليه بقليل ولا كثير ، بل فرضوا الإمكان مفروغا عنه - كما عرفت -.

لكن يجول في الذهن من القديم إشكال ثبوتي ومحصله : ان تعلق الاعتبار العقلائي أو الشرعي بأمر انما هو لأجل ترتيب الآثار العقلائية أو الشرعية ، وإلاّ فهو بنفسه بلا ملاحظة أثر عملي لغو لا يصدر من العاقل الحكيم.

وعليه ، نقول : انه حين اعتبار الملكية عند تحقق سببها كعقد البيع ، اما ان يتعلق اعتبار آخر بآثارها التكليفية كجواز التصرف بالمال وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه وغير ذلك ، أو لا يتعلق اعتبار آخر بآثارها.

فعلى الأول : يكون اعتبار الملكية مما لا حاجة إليه ، إذ يمكن تعلق الاعتبار رأسا بالاحكام التكليفية عند حصول العقد بلا حاجة إلى توسيط اعتبار الملكية.

وعلى الثاني : يلزم ان لا يترتب أي أثر تكليفي على اعتبار الملكية ، إذ الأحكام التكليفية لا تترتب قهرا من دون اعتبار.

فيكون جعل الملكية لغوا على كلا التقديرين ، والإشكال هاهنا نظير ما تقدم من الإشكال في تعلق الجعل الاستقلالي بالسببية.

ومحصله : ان اعتبار الأمر الوضعي لا يغني بنفسه عن اعتبار الحكم

ص: 148

التكليفي المفروض ترتبه عليه ، ومع اعتبار الحكم التكليفي لا حاجة إلى جعل الحكم الوضعي.

ويمكن الجواب عن هذا الإشكال : بان الملكية والزوجية ونحوهما ليست من المجعولات الشرعية التأسيسية ، بل هي من المجعولات الإمضائية ، بمعنى انها مجعولة لدى العقلاء والشارع أمضى اعتبارهم.

ومن الواضح انه ليس لدى العقلاء أحكام تكليفية من وجوب وتحريم ، بل ليس لديهم الا الحكم بالحسن والقبح ، وهما يتفرعان على الظلم وعدمه ، والظلم لديهم هو التعدي عن الحقوق الثابتة لديهم. وعليه فقبح التصرف بالمال لديهم وحسنة يتفرعان على ان يكون التصرف تعديا عن الحق وعدم كونه كذلك ، هذا يتوقف على اعتبار ملكية المتصرف وعدمها.

وكيف كان ، فليس لديهم اعتباران ومجعولان ، بل لديهم اعتبار واحد يتعلق بالملكية ويترتب عليه حكمهم بالحسن والقبح. واعتبارهم للملكية لأجل تحقيق موضوع التحسين والتقبيح ، هذا شأن العقلاء.

واما الشارع ، فهو قد أقر العقلاء على اعتبارهم الملكية وليس لديه جعل جديد ، ورتب على ذلك أحكاما تكليفية من وجوب وحرمة وغيرهما نسبتها إلى الملكية نسبة الحسن والقبح اللذين يحكم بهما العقلاء ، فالملكية العقلائية التي أقرها الشارع هي موضوع أحكامه التكليفية ودخيلة في تحققها بعد وفي مثل ذلك لا محذور من لغوية أو غيرها.

اذن ، فلا مانع من الالتزام بمجعولية مثل الملكية بعد ان كان مقام الإثبات يساعد عليه.

ثم انه وقع الكلام في بعض الأمور الوضعيّة ، وانها مجعولة أو ليست بمجعولة كالصحة والفساد ، والطهارة والنجاسة ، ولا بأس بالتكلم عنها بنحو مختصر ، فنقول :

ص: 149

اما الصحة والفساد فقد تقدم البحث عن تعلق الجعل بهما في مبحث اقتضاء النهي الفساد بنحو مفصل فلا نعيد.

واما الطهارة والنجاسة ، فقد ذهب بعض إلى انهما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع.

ولكن الصحيح خلافه ، وذلك لأن مرجع هذه الدعوى إلى كون الطهارة والنجاسة هي الاستقذار العرفي وعدمه ، لا انهما موجودان بوجود واقعي مع قطع النّظر عن النّظر العرفي إذ الاستقذار امر عرفي ، ولذا قد تختلف فيه الطبائع.

وعليه ، نقول : ان من النجاسات شرعا ما يقطع بعدم جهة واقعية فيه بحيث يختلف واقعا بلحاظ حالتي طهارته ونجاسته ، كالكافر ، فانه من المقطوع ان إظهار الشهادتين ليس له دخل واقعي في جسم الكافر بحيث يصير طاهرا به بعد ان كان نجسا وأوضح من هذا مثالا ابن الكافر الّذي ينجس ويطهر بتبعية أبيه ، مع انه من المعلوم عدم تأثير إسلام أبيه وكفره في بدنه. كما ان من الأجسام الطاهرة ما هو قذر جزما كلعاب الفم وماء الأنف وغير ذلك. اذن فبين ما هو قذر عرفا وليس بقذر ، وما هو قذر شرعا وليس بقذر ، عموم من وجه ، فلا يمكن ان يقال ان الطهارة والنجاسة أمران واقعيان كشف عنهما الشارع ، بل هما اعتباريان يتعلق بهما الجعل ويترتب عليهما أحكام شرعية.

ص: 150

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول : في جريان الاستصحاب في مؤدى الأمارات.

وهذا التنبيه انفرد به صاحب الكفاية عمن قبله ، ومنشأ الإشكال في إجراء الاستصحاب فيما قامت الأمارة على حدوثه هو : ان ظاهر دليل الاستصحاب هو اعتبار اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، والحكم الواقعي الّذي قامت عليه الأمارة لا يقين به ، فمع الشك في بقائه لا يمكن استصحابه لاختلال أحد ركني الاستصحاب. مثلا لو قامت الأمارة على وجوب احترام زيد وشك في ان وجوب احترامه مستمر إلى ثلاثة أيام أو هو ثابت في يومين. فقط ، ففي اليوم الثالث يشك في بقاء الوجوب ، والأمارة لا تصلح لا ثباته لأنها مجملة من هذه الناحية ، فليس هنا إلاّ الاستصحاب وقد عرفت الإشكال فيه.

ولا يخفى عليك ان مبنى الإشكال على عدم قيام الأمارة - بدليل اعتبارها - مقام القطع الموضوعي. وإلاّ فلا إشكال ، إذ الأثر الشرعي الثابت لليقين بالحدوث ، وهو حرمة النقض ، ثابت للأمارة بحسب الفرض ، فقيام الأمارة على الحدوث يجدي في الاستصحاب لأنها بمنزلة اليقين.

واما بناء الإشكال على عدم تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى وإنشاء أحكام ظاهرية شرعية ، بل تكفله التنجيز والتعذير لا غير - كما يظهر من الكفاية - ، فليس بسديد ، وذلك لأن الحكم الظاهري الثابت يقينا بالأمارة ارتفع يقينا بارتفاع سببه ، وهو الأمارة ، فانه منوط بقيامها ، وهي لم تقم على أكثر من زمان اليقين ، والحكم الواقعي مشكوك الحدوث بحسب الفرض. وسيأتي توضيح الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 151

وبالجملة : مبنى الإشكال ما عرفت من عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي.

وقد أجيب عنه بوجوه :

الوجه الأول : ما أفاده في الكفاية من : ان دليل الاستصحاب يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث ، فنظره إلى بيان بقاء الحادث ، وان الحادث يدوم بلا خصوصية لليقين به ، بل لوحظ طريقا إلى متعلقه. وبعبارة أخرى : ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء ، وان كل ما هو حادث باق تعبدا ، فالحدوث أخذ موضوعا للتعبد بالبقاء ، واليقين لوحظ طريقا لإحراز الموضوع ، كاليقين بسائر موضوعات الأحكام ، فالمجعول هو البقاء على تقدير الحدوث واقعا.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على الحدوث كانت حجة على البقاء كما هي حجة على الحدوث ، نظير سائر الأمارات القائمة على الموضوعات ، فانها تكون حجة على الحكم المترتب عليها ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنه بعد ان كان المجعول هو البقاء ظاهرا على تقدير الحدوث واقعا ، كان الحدوث الواقعي موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء ، فإذا قامت الحجة على الحدوث كانت حجة على حكمه واثره وهو البقاء الظاهري ، فتكون الأمارة مثبتة لموضوع الحكم الاستصحابي. هذا ما أفاده في الكفاية بتوضيح منا (1).

وقد أورد عليه إيرادات عديدة :

الإيراد الأول : انه لا تصل النوبة إلى هذا الكلام ، لأن دليل اعتبار الأمارة يتكفل جعل الطريقية والوصول والمحرزية ، فهو يعتبر الأمارة علما.

وعليها فيترتب عليها جميع آثار العلم العقلية والشرعية ، ومنها التعبد بالبقاء ،

ص: 152


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /405- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فيندفع الإشكال بحذافيره.

وفيه : أولا : ان هذا الإيراد مبنائي لا يمكن ان يلزم به مثل صاحب الكفاية ممن لا يرى جعل الطريقية.

وقد عرفت ان أصل الإشكال في استصحاب مؤدى الأمارة مبني على عدم الالتزام بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، فتدبر.

وفيه ثانيا : انه لو التزم بجعل الطريقية والوسطية في الإثبات فلا ينفع ، وذلك لأن غاية ما يجدي هذا الالتزام هو إمكان قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي ، وترتب جميع الآثار المترتبة على العلم - عقلية أو شرعية - عليها ، واندفاع المحذور الثبوتي في الالتزام بقيامها مقام القطع الموضوعي والطريقي بناء على جعل المؤدى الّذي تقدم البحث فيه في مباحث القطع.

ولكن مجرد إمكان ذلك ثبوتا لا ينفع ما لم يساعد عليه مقام الإثبات. وهو قاصر عن إفادة تنزيل الأمارة منزلة القطع في جميع آثاره أو اعتبار الأمارة علما بلحاظ مطلق آثار العلم ، إذ ليس لدينا - في باب خبر الواحد مثلا - دليل لفظي بلسان : « ان خبر الواحد علم » ونحوه من التعبيرات حتى يؤخذ بإطلاقه ، ويلتزم بترتب جميع آثار العلم عليه ، بل عمدة الأدلة هو السيرة العملية القائمة على حجية الخبر ، والقدر الثابت منه هو ترتيب آثار العلم العقلية من تنجيز وتعذير على خبر الواحد ، وليس في الأحكام العقلائية ما هو مرتب على اليقين بعنوانه كي يرى ان السيرة قائمة على معاملة خبر الواحد معاملة اليقين بالنسبة إليه أو ليست قائمة على ذلك ، ومثل ذلك النصوص التي استدل بها على حجية الخبر - بناء على دلالتها - ، فان قوله علیه السلام - في العمري وابنه - : « ما أديا عني فعني يؤديان » (1) ظاهر في إثبات التنجيز والتعذير لخبرهما كما لا يخفى. اذن فمن

ص: 153


1- وسائل الشيعة 18 / 99 باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث 4.

ان نجزم بان الشارع قد اعتبر الأمارة علما بلحاظ جميع آثار العلم كي نلتزم بقيامها مقام القطع الموضوعي؟!.

وبالجملة : ما أفيد في هذا الوجه مضافا إلى كونه مبنائيا لا ينفع القائل بالمبنى المزبور ، فلاحظ.

الإيراد الثاني : ان الملازمة كالسببية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي ، فلا يتجه الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو الملازمة بين الحدوث والبقاء.

وفيه : ان المقصود - كما أوضحناه - ليس جعل الملازمة بعنوانها ، بل هو جعل واقع الملازمة ، أعني البقاء في فرض الحدوث بحيث يكون الحدوث ملحوظا موضوعا للتعبد بالبقاء ، فالمتعبد به هو البقاء على تقدير الحدوث ، وينتزع عن ذلك جعل الملازمة ، نظير جعل كل حكم مرتب على موضوعه فانه ينتزع عنه الملازمة بين الموضوع والحكم. فتدبر.

الإيراد الثالث : ان الملازمة المجعولة واقعية ، إذ لو كانت ظاهرية كانت مترتبة على الشك ، وكان الشك مأخوذا في موضوعها ، وهو غير موجود ، لأنه مع الشك في الحدوث يمتنع الشك في البقاء بل هو متفرع على إحراز الحدوث. نعم مع الشك في الحدوث يكون الشك في البقاء تقديريا ومعلقا على الحدوث ، بمعنى انه يشك في البقاء على تقدير الحدوث ، وإذا لم تكن الملازمة ظاهرية ، بل كانت واقعية كان مقتضى ذلك ان يكون الاستصحاب ، من الأمارات كسائر الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية.

وفيه : ان الشك له وجود فعلي ، وانما التعليق في متعلقه ، فالشك فعلا ثابت ومتعلق بالبقاء على تقدير الحدوث ، فيكون التعبد بالبقاء تعبدا ظاهريا لا واقعيا.

وقد أشار المحقق الأصفهاني إلى وضوح هذا الأمر بنحو لم ير صاحب

ص: 154

الكفاية داعيا إلى بيانه (1).

وهذه الإيرادات الثلاثة على الكفاية ذكرها المحقق النائيني رحمه اللّه (2).

الإيراد الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من : ان دليل الاستصحاب إذا كان يتكفل التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث واقعا ، ففيما لو تيقن بالحدوث وشك بالبقاء وأجرى الاستصحاب ، ثم انكشف لديه ان يقينه كان جهلا مركبا ، لزم ان لا يكون هناك تعبد استصحابي حقيقة بل تخيلا ، وهذا مما لا يلتزم به. بخلاف ما لو كان الموضوع هو اليقين بالحدوث ، فانه حاصل في ظرفه وان تبدل بعد ذلك إلى غيره (3).

أقول : ليس في الالتزام بعدم ثبوت الاستصحاب ، الا تخيلا في الصورة المزبورة أي محذور ، ولم يظهر ان الالتزام بالاستصحاب ، فيها من المسلمات التي لا تقبل الإنكار ، فليس هذا من اللوازم الباطلة التي تقتضي بطلان ملزومها ، فتدبر.

ثم انه قدس سره خص الإشكال بصورة ثبوت المستصحب واقعا في مرحلة البقاء. ولم نعلم وجه دخله في الإشكال ، فسواء كان المستصحب موجودا واقعا أو غير موجود يرد الإشكال المذكور من كون التعبد الاستصحابي تخيلا على مبنى صاحب الكفاية ، فلاحظ.

الإيراد الخامس : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه أيضا من : ان الاستصحاب بما انه حكم طريقي مجعول بلحاظ تنجيز الواقع ، فهو يتقوم بالوصول ، إذ قوام التنجيز بالوصول ولا يعقل تحققه بدون الوصول. وعليه فمع

ص: 155


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 67 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 407 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 66 - الطبعة الأولى.

الجهل بموضوع الحكم بالبقاء وهو الحكم الاستصحابي لا يكون له ثبوت واقعي كي يقبل ان يقوم عليه المنجز بواسطة قيامه على الموضوع ، فالالتزام بان الأمارة القائمة على الحدوث تتكفل تنجيز الحكم الظاهري بالبقاء كما تتكفل تنجيز الحكم حدوثا ليس بسديد ، فان الحكم الّذي حقيقته التنجيز لا يقبل التنجيز بمنجز آخر (1).

وفيه : ان الملتزم في الأحكام الظاهرية ليس كون حقيقتها هو المنجزية بحيث تكون المنجزية متعلقة للجعل ابتداء ، بل هي أحكام وإنشاءات لوحظ فيها تنجيز الواقع والتحفظ على مصلحة الواقع من دون ان تكون هناك مصلحة في المؤدى ، فالتنجيز ملحوظ غاية لا انه مجعول ابتداء.

وعليه ، فعدم وصول الحكم الظاهري الطريقي وان امتنع معه تحقق التنجيز ، لكن لا يتنافى مع وجوده واقعا ، فان له واقعا محفوظا يكون موردا للعلم والجهل. وعليه فلا مانع من تنجيزه بالأمارة القائمة على موضوعه. فتدبر.

والمتحصل : ان ما وجّه من الإيرادات على صاحب الكفاية قابل للدفع بأجمعه ، وان ما ذكره صاحب الكفاية لا محذور فيه.

نعم ، يبقى سؤال واحد وهو : ان ما أفاده لا يساعده مقام الإثبات وان كان خاليا عن الإشكال في مقام الثبوت ، لأن ظاهر دليل الاستصحاب كون موضوع التعبد هو اليقين ، فكيف يلغى عن الموضوعية ويدعى ان نفس الحدوث هو الموضوع؟.

والجواب عن ذلك واضح على ما التزم به صاحب الكفاية ووافقناه عليه من ان اليقين هاهنا لوحظ مرآة لمتعلقه وان المراد به هو المتيقن ، نظير : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » في عدم كون الرؤية بما هي موضوعا. وقد أوضحناه فيما

ص: 156


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 67 - الطبعة الأولى.

تقدم عند الكلام في صحيحة زرارة الأولى فراجع.

وعليه ، فالوجوه الأول في حل إشكال جريان الاستصحاب في مؤدى الأمارات ، وهو ما أفاده في الكفاية لا إشكال فيه ثبوتا ولا إثباتا.

الوجه الثاني : ان موضوع التعبد بالبقاء ليس هو الحدوث كما هو مبنى الوجه الأول الراجع إلى إلغاء اليقين عن الموضوعية بالمرة ، بل هو اليقين لكن لا بوصف كونه يقينا ، بل بما انه منجز للواقع وحجة عليه ، فيكون موضوع التعبد هو الحجة على الواقع ، وهي حجة جامعة بين اليقين وغيره من الحجج العقلائية والشرعية ، فإذا قامت الأمارة على الحدوث فقد تحقق موضوع التعبد بالبقاء تكوينا وهو الحجة على الواقع ، فلا مجال للإشكال.

وهذا الوجه ان تم فهو أقرب - إثباتا - من الوجه الأول ، لأن فيه تحفظا على موضوعية اليقين في الجملة - كما عرفت - وتماميته تتوقف على إقامة القرينة على إرادة اليقين بما هو حجة لا بما هو ، وهذا امر ليس ببعيد بناء على إرادة مطلق الحجة من اليقين الناقض كما قربناه في محله ، وسيأتي الكلام فيه في مبحث حكومة الأمارة على الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

الوجه الثالث : انه بناء على تكفل دليل الاعتبار جعل المؤدى ، فبقيام الأمارة يثبت حكم ظاهري ، وبما انه يحتمل كونه مطابقا للواقع. فمع انتهاء حد قيام الأمارة يحتمل بقاء الحكم فيستصحب.

وهذا الوجه غير صحيح ، وذلك لأنه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، إذ الحكم بوجوب الاحترام - مثلا - كان متيقنا في ضمن الفرد الظاهري وهو مؤدى الأمارة وهو قد زال قطعا بزوال الأمارة ، ويحتمل بقاء الكلي لاحتمال وجود الحكم الواقعي مقارنا للحكم الظاهري ، وفي مثل ذلك لا يجري استصحاب كلي الحكم كما قرر في محله.

إلاّ ان يقال : ان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين

ص: 157

الحكم الواقعي وليس فردا في قباله. نعم على تقدير مخالفته له يكون حكما مستقلا.

وعليه ، فمع احتمال المصادفة يتردد امر الحكم المتحقق بين الفرد المقطوع الارتفاع وهو الظاهري وبين الفرد المحتمل البقاء وهو الحكم الواقعي ، فيكون من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي ، والمحقق جريانه.

ويندفع ذلك بأنه يبتني على مقدمتين :

إحداهما : الالتزام بعدم جعل حكم ظاهري غير الحكم الواقعي على تقدير المصادفة ، بحيث يتكفل دليل الحجية إنشاء الحكم جدا على تقدير دون آخر.

والأخرى : وجود أثر عملي على الجامع بين الحكم الواقعي والظاهري ، كي يصح بلحاظه استصحاب الكلي.

وكلتا المقدمتين ممنوعتان :

اما الأولى ، فلأنه لا محصل لدعوى ان دليل الحجية يتكفل الإنشاء الجدي على تقدير والإنشاء غير الجدي على تقدير آخر.

واما الثانية : فلأنه لا أثر للحكم الظاهري بما هو من لزوم الامتثال وغير ذلك.

وعليه ، فلا يتصور أثر مترتب على الجامع بين الحكمين.

وإلى بعض ما ذكرناه أشار المحقق العراقي قدس سره (1).

والّذي يتحصل : ان المتعين في دفع الإشكال المتقدم أحد الوجهين. الأول والثاني ، واما غيرهما فليس بتام واللّه سبحانه العالم.

ص: 158


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 108 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
التنبيه الثاني : في استصحاب الكلي.
اشارة

لا يخفى انه لا يختلف الحال - بملاحظة دليل الاستصحاب بين كون المستصحب أمرا شخصيا جزئيا وكونه أمرا كليا ، لإطلاق دليله وعدم الموجب للتقييد. وهذا مما لا إشكال فيه كبرويا ، وانما الإشكال والكلام في بعض مصاديق استصحاب الكلي ولأجله عقد هذا التنبيه في مباحث الاستصحاب.

وقد ذكر للاستصحاب الكلي أقسام ثلاثة :

القسم الأول : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يشك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد الّذي تحقق في ضمنه.

القسم الثاني : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل العمر وقصيره ثم يشك في بقاء الكلي بعد مضي مقدار عمر القصير للشك في ان الحادث هو الطويل المقطوع البقاء أو القصير المقطوع الارتفاع.

الثالث : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزوال ذلك الفرد ، ولكنه يشك في بقاء الكلي للشك في حدوث فرد آخر مقارن لزوال الفرد الأول.

وقد زاد البعض قسما وقع محلا للكلام أيضا في مباحث المتأخرين وجعل في بعض الكتب قسما رابعا وهو : ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد ثم يعلم بزواله وبعد ذلك يرى فردا معنونا بعنوان يحتمل انطباقه على الفرد الّذي علمنا ارتفاعه ويحتمل انطباقه على فرد آخر ، فيلزم من ذلك الشك في وجود الكلي ، ومثّل له : بما إذا علمنا بالجنابة ليلية الخميس - مثلا - وارتفعت تلك الجنابة بالغسل ، ثم رأينا المني يوم الجمعة في الثوب ، فيحصل العلم بأننا جنب حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل ان يكون من الجنابة التي اغتسلنا منها ونحتمل ان يكون جنابة جديدة غيرها (1) ..

ص: 159


1- الواعظ الحسيني السيد محمد سرور. مصباح الأصول3/ 104 - الطبعة الأولى.

وقد وقع الكلام في كل قسم على حدة.

استصحاب الفرد المردد

ولكن قبل الدخول في ذلك يحسن بنا التعرض للبحث عن استصحاب الفرد المردد فيما كان الحادث مرددا بين الفرد الطويل والقصير ، فقد تعرض له البعض في هذا المقام وله آثار عملية فقهية لا تخفي على من راجع كتب الفقه.

فنقول وعلى اللّه سبحانه الاتكال : ان الجهة الفارقة بين استصحاب الفرد المردد واستصحاب الكلي في مورده - بعد الاشتراك في عدم تميز المستصحب وتعينه في ضمن أحد الفردين المعين - ، ان المقصود في استصحاب الكلي ترتيب الأثر المترتب على العنوان الجامع بين الفردين ، كالأثر المرتب على عنوان الحدث الجامع بين الأصغر والأكبر ، مثل حرمة مس كتابة المصحف ، والمقصود في استصحاب الفرد المردد ترتيب الأثر المترتب على كل من الفردين بخصوصيته ، سواء لم يكن للكلي الجامع أثر أو كان ولكن لم يلحظ في الاستصحاب ولم يقصد ترتيبه.

وكيف كان فقد منع جريان الاستصحاب في الفرد المردد ، كالحدث المردد بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء بوجوه - وليعلم ان محل الكلام ما كان يعلم بارتفاعه على تقدير انه الفرد القصير بحيث يكون فعلا مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كمثال الحدث المردد بعد الوضوء. فانه مرتفع قطعا على تقدير كونه الأصغر ، وباق قطعا على تقدير كونه الأكبر - :

الوجه الأول : ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من عدم تحقق اليقين بالحدوث المعتبر في الاستصحاب ، وذلك لأن العلم الإجمالي انما يتعلق بالجامع بين الفردين بلا سراية له إلى الخارج ، فهو علم بالجامع ، وشك في كل فرد ، فلا يمكن

ص: 160

إجراء الاستصحاب لفقدانه ركنه (1).

وهذا الوجه يبتني على ما التزم به من ان العلم الإجمالي يتعلق بالجامع ولا يسري إلى الخارج. ولكن عرفت فيما تقدم ان العلم الإجمالي وان تعلق بالجامع لكنه يرتبط بالخارج ويسري إليه ، بحيث لو انفتح له باب العلم التفصيليّ لأمكنه انه يقول هذا هو معلومي بالإجمال. وبعبارة أخرى : انه يعلم بالتفصيل بوجود ما هو منطبق العنوان الجامع في الخارج ، وانما يجهل خصوصيته وما يميزه عن الفرد الآخر ، فقد يسمع كلاما من متكلم يتردد امره بين زيد وعمرو ، فهو قد تعلق علمه بشخص جزئي وهو المتكلم - إذ التكلم لا يصدر إلاّ من فرد جزئي - ، لكنه يتردد بين شخصين لدى العالم نفسه لجهله بما يميز زيد عن عمرو أو لجهله بأنه واجد لمميزات زيد أو مميزات عمرو.

وبالجملة : المعلوم بالإجمال له وجود واقعي معين ، وانما التردد لدى العالم نفسه في كونه هذا أو ذاك فلدينا علم تفصيلي بالوجود الشخصي ، لكن بنحو مجمل وهذا ما يجعله علما إجماليا. اذن فالفرد الواقعي على واقعه المردد بين فردين خاصين ، يكون متعلقا للعلم بهذا المقدار لا أكثر ، فيكون مجرى للاستصحاب بهذا المقدار.

وقد عرفت ان هذا العلم بهذا الحد علم تفصيلي لكن المعلوم محدود ، فلا أثر لدعوى ان المراد باليقين في باب الاستصحاب هو خصوص اليقين التفصيليّ فلا يشمل اليقين الإجمالي.

مع ان هذه الدعوى ممنوعة أشد المنع بعد فرض شمول مفهوم اليقين لكلا فرديه التفصيليّ والإجمالي ، وفرض منجزية العلم الإجمالي كالتفصيلي.

والخلاصة : ان ما أفاده قدس سره لا يمكن قبوله ، وقد مر في بيان

ص: 161


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 71 - الطبعة الأولى.

حقيقة العلم الإجمالي ما له نفع في المقام.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق النائيني من عدم تحقق الشك في البقاء ، فان الفرد المردد على واقعه غير مشكوك البقاء ، لأنه على أحد تقديريه متيقن الزوال فكيف يقال انه مشكوك البقاء على واقعه وكلا تقديريه (1)؟.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الوجه بما توضيحه : ان اليقين بالفرد المردد من الحدث مرجعه إلى اليقين بموجود جزئي ، اما يكون منطبقا للحدث الأصغر - مثلا - أو منطبقا للحدث الأكبر ، ولديه علم بالتلازم بين بقائه وكونه حدثا أكبر ، وحيث يحتمل ان يكون حدثا أكبر ، فهو يحتمل البقاء جزما بعد الوضوء ، فكيف ينفي الشك في البقاء (2)؟.

والصحيح هو ما أفاده النائيني قدس سره ، وتوضيح ذلك : انه لا إشكال في ان الشخص بعد الوضوء يتحقق لديه شك في بقاء حدثه ، وهذا أمر بديهي لا يقبل الإنكار ، إلاّ ان هذا الشك لا يجدي في جريان الأصل وذلك لأنه يلزم ان يكون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين.

وليس الأمر هاهنا كذلك ، وذلك لأن اليقين قد تعلق بالموجود الشخصي الّذي يشار إليه على واقعه سواء كان حدثا أصغر أم حدثا أكبر ، ولا شك - بعد الوضوء بذلك الموجود الشخصي المبهم بحيث يمكن الإشارة إليه ويقال انه مشكوك ، لأنه على أحد تقديريه قد زال قطعا ، فلا شك فيه على واقعه وعلى ما هو عليه.

وبالجملة : ما كان متعلقا لليقين وهو الموجود المبهم على ما هو عليه ليس متعلقا للشك وليس هو مشكوك بهذه الصفة ، فلا أستطيع ان أشير إليه وأقول أنه مشكوك.

ص: 162


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 126 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 71 - الطبعة الأولى.

واما الشك الفعلي الّذي اعترفنا ببداهة وجوده ، فهو متعلق - بعد التحليل - بوجود الفرد الطويل في هذا الآن الثاني لاحتمال حدوثه في الآن الأول ، فان الملازمة بين الحدوث والبقاء فيه توجب التلازم بين احتمال حدوثه واحتمال بقائه فعلا وعلى تقدير الحدوث ، لأنه على تقدير الحدوث متيقن البقاء.

ولكن هذا الشك لا ينفع في جريان الاستصحاب ، لأنه فاقد لليقين بالحدوث ، فما يتعلق اليقين بحدوثه لا شك في بقائه. وما يشك في بقائه لا يقين بحدوثه. فتدبر.

ثم لا يخفى عليك ان ما ذكرناه في تقريب نفي الشك في البقاء انما يتأتى مع العلم بارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث ، كمثال الحدث المردد بعد الوضوء.

واما مع الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير كونه هو الحادث ، كما لو شك في صدور الوضوء منه في مثال الحدث المردد ، فلا يتأتى البيان المزبور إذ الشك يتعلق ببقاء الفرد المردد على واقعه ، فيصح ان يقال انه يشك في بقاء ذلك الحدث المردد على أي تقدير ، فلا بد من التفصيل بين الصورتين من هذه الجهة.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من عدم تعلق اليقين والشك بموضوع ذي أثر شرعي لأنه يعتبر في صحة التعبد بشيء تعلق اليقين والشك به بالعنوان الّذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي ، ولا يكفى تعلق الشك بغيره من العناوين غير ذات الأثر الشرعي ، وبما ان الأثر الشرعي في أمثال المقام انما هو للمصداق بما له من العنوان التفصيليّ ، كصلاة الجمعة وصلاة الظهر ، وهو مما لا يمكن إجراء الأصل فيه لعدم اليقين بالحدوث ، واما العنوان العرضي الإجمالي كعنوان الفرد المردد ، فهي ليست بذات أثر شرعي لترتب الآثار الشرعية في أدلتها على العناوين التفصيلية.

ورتب قدس سره على ذلك أمرين :

ص: 163

أحدهما : عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد لو كان الشك في البقاء ناشئا عن الشك في ارتفاع الفرد القصير لو كان هو الحادث ، ولا يختص المنع بصورة العلم بارتفاع القصير لو كان هو الحادث ، لاشتراكهما فيهما ذكره في ملاك المنع ، وهو عدم الأثر الشرعي للعنوان الإجمالي.

ثانيهما ، : ان ما ذكره في وجه المنع لا يختص بالاستصحاب بل يعم سائر الأصول.

وعليه ، ففي مثل ما لو صلى عند اشتباه القبلة إلى أربع جهات ، وعلم بعد الفراغ منها بفساد صلاة معينة منها ، فلا يجوز الاكتفاء بالصلوات الباقية في إفراغ الذّمّة ، بل تجب إعادة تلك الصلاة ، للشك في فساد الصلاة الواقعية منها ، ولا يمكن إجراء قاعدة الفراغ في العنوان المردد منها.

واما لو علم بفساد واحدة مرددة منها ، فانه يمكن إجراء قاعدة الشك بعد الفراغ في كل واحدة منها بعينها للشك - في صحتها على تقدير كونها إلى القبلة - فتجري القاعدة فيها مقيدة بهذا التقدير. ولا ضير في العلم بمخالفة أحد هذه الأصول للواقع ، لاحتمال كون الفاسدة هي المأتي بها إلى غير القبلة فلا علم بالمخالفة العملية (1).

وهذا الوجه قابل للرد والمنع ، فان ما ذكره من لزوم تعلق اليقين والشك بالشيء بالعنوان الّذي يكون به موضوعا للأثر الشرعي. مجرد دعوى لا نعرف لها وجها أصلا وهو لم يذكره إلاّ بنحو الدعوى. وذلك لأن مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب وغيره من الأصول هو شموله لمطلق موارد عدم العلم ، إلاّ انه حيث انه يتكفل التعبد بالمشكوك ، والتعبد الشرعي لا يمكن ان يتعلق إلاّ بحكم شرعي أو موضوع ذي حكم قيد بواسطة هذه القرينة الخارجية العقلية بلزوم

ص: 164


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 114 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كون المشكوك حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي. ولا دليل على التقيد بما ذكره.

وعليه ، ففي مورد تعلق اليقين والشك بالفرد المردد إذا كان المورد مما يصح التعبد به من قبل الشارع بحسب واقعه على ما هو عليه من الترديد لدى المكلف ، لم يكن مانع من شمول دليل الاستصحاب لذلك المورد ولا مقيد له من الخارج ، ويثبت له التعبد بتوسط العنوان الإجمالي المشير إليه. كما لو فرض اليقين بالحكم المردد بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة والشك في بقائه ، فانه لا محذور في التعبد بذلك الحكم المردد على واقعه ، ويترتب عليه أثره العقلي من لزوم تفريغ الذّمّة كما في صورة اليقين الإجمالي به.

وعليه ، ففي مثال الصلاة الّذي ذكره لا مانع من جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الواقعية إلى القبلة للشك في انها فاسدة من ناحية ترك الركوع أو لا ، ولا يمنع ترددها من إجراء قاعدة الفراغ.

هذا مضافا إلى ان المطلوب في باب متعلقات الأحكام هو وجود الطبيعي بما هو بلا ملاحظة خصوصيات الافراد بالمرة ، وليس الحال فيه كالحال في موضوعات الأحكام الملحوظة بنحو الانحلال وترتب الحكم على كل فرد بما هو فرد ، فالأثر في متعلقات الأحكام لا يترتب إلا على وجود الطبيعي المأخوذ في متعلق الحكم ، وهو فيما نحن فيه متعلق اليقين والشك وان لم يعلم بالخصوصية الفردية ، فلا مانع من جريان الأصل فيه مع الشك في صحته ، فلو فرض - تنزلا - تمامية ما أفاده كبرويا فانطباقه على مثال الصلاة ونحوه غير واضح.

والمحصل : ان العمدة في المنع عن استصحاب الفرد المردد هو عدم ثبوت الشك في بقائه. وقد عرفت ان مقتضاه التفصيل بين صورتي الشك في ارتفاع الفرد القصير على تقدير حدوثه ، واليقين بارتفاعه على تقدير حدوثه ، فلا يجري الأصل في الصورة الثانية ، ويجري في الصورة الأولى ، ويترتب عليه أثره العقلي

ص: 165

والشرعي.

هذا تمام الكلام في استصحاب الفرد المردد.

ويقع الكلام بعد ذلك في استصحاب الكلي وقد عرفت انه على أقسام أربعة :

اما القسم الأول : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم شك في بقاء الكلي للشك في بقاء ذلك الفرد ، مثل ما إذا علم بوجود الإنسان في الدار لعلمه بوجود زيد فيها ، ثم شك في بقاء زيد في الدار ، فيلزم منه الشك في بقاء الإنسان الكلي.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الكلي لو كان موردا للأثر العملي ، كما لا إشكال في جريان الاستصحاب في الفرد لترتيب أثر الفرد.

نعم ، هنا بحث أشار إليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (1) وحققه المحقق الأصفهاني (2).

وهو : انه هل يغني استصحاب الفرد في إثبات أثر الكلي ، أو استصحاب الكلي في إثبات أثر الفرد؟. وهذا البحث لا أثر له عملي فيما نحن فيه لإمكان إجراء الاستصحاب في كل من الفرد والكلي فيترتب عليه الأثر المرغوب. نعم لهذا البحث أثر فيما يأتي في القسم الثاني الّذي لا يمكن إجراء استصحاب الفرد فيه ، فيقال : ان استصحاب الكلي يغني في ترتيب أثر الفرد. ولأجل ذلك لا نوقع البحث فيه فعلا ونوكله إلى محله.

واما القسم الثاني : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين طويل البقاء وقصير البقاء ، فيشك في بقاء الكلي بعد مضي زمان الفرد القصير على تقدير حدوثه للشك في ما هو الحادث ، كما لو علم بخروج سائل مردد بين

ص: 166


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /202- الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 69 - الطبعة الأولى.

البول والمني ، فقد علم بحصول كلي الحدث لحصول فرده المردد بين الأصغر والأكبر ، فإذا توضأ يتحقق لديه الشك في بقاء كلي الحدث ، لاحتمال كون الحادث هو الأكبر الّذي لا يزول بالوضوء.

وقد التزم جمع من الاعلام - كالشيخ (1) والخراسانيّ (2) وغيرهما (3) - بجريان الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث ، والشك في البقاء ، فيكون مشمولا لإطلاق دليل الاستصحاب ، ويترتب على جريان الأصل في الكلي الآثار المترتبة على وجوده ، كحرمة مسّ المصحف الشريف في مثال الحدث لترتبها على عنوان المحدث.

وقد يورد على إجراء الاستصحاب في الكلي في مثل ذلك بإيرادات :

الإيراد الأول : ما ذكره في الكفاية من ان الكلي موجود في ضمن فرده المردد ، وهو على أحد تقديريه مقطوع الارتفاع بالوجدان ، وعلى التقدير الآخر مقطوع العدم بالتعبد فلا شك. بيان ذلك انه لو كان الفرد المتحقق في ضمنه الكلي هو الفرد القصير فقد ارتفع قطعا ، ولو كان هو الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث والأصل عدم حدوثه فيثبت عدمه بالتعبد. اذن فالشك منتف بضميمة الوجدان إلى الأصل والتعبد.

وهذا الإيراد - بهذا البيان - واضح الدفع - كما في الكفاية - وذلك بداهة ان الشك في بقاء الكلي موجود بلا ريب ، ومنشؤه احتمال كون الحادث هو الفرد الطويل ، ونفي حدوثه تعبدا لا يرفع الشك وجدانا في بقاء الكلي بل ولا تعبدا -

ص: 167


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /371- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /406- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الواعظ الحسيني محمّد سرور : مصباح الأصول 3 / 105 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمّد علي. فوائد الأصول 4 / 413 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. البروجردي الشيخ محمّد تقي. نهاية الأفكار 4 / 122 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

كما يتضح في رد الإيراد الثاني - فلا اختلال في ركني الاستصحاب (1).

الإيراد الثاني : ما ذكره الشيخ (2) رحمه اللّه وصاحب الكفاية من : ان استصحاب الكلي وان كان في حد نفسه جاريا ، لكنّه مبتلى بالحاكم عليه ، وذلك لأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، فأصالة عدم حدوث الفرد الطويل حاكمة على أصالة بقاء الكلي لحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي.

وقد دفعه في الكفاية بوجوه :

الأول : ان الشك في بقاء الكلي وارتفاعه ليس مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدم حدوثه ، بل هو مسبب عن الشك في كون الحادث هو الفرد الطويل ليترتب عليه البقاء أو الفرد القصير ليترتب عليه الارتفاع ، فان الارتفاع في الكلّي من آثار ارتفاع الفرد القصير لا من آثار عدم حدوث الفرد الطّويل. ومن الواضح انه لا أصل يعين كيفية الحادث لعدم الحالة السابقة ، وأصالة عدم حدوثه الفرد الطويل لا تعين ان الحادث هو القصير إلاّ بالملازمة.

الوجه الثاني : ان بقاء الكلي بعين بقاء الفرد الطويل لا من لوازمه ، لأن وجود الكلي بعين وجود افراده وليس له وجود منحاز عن وجود افراده.

الوجه الثالث : انه لو سلم كون بقاء الكلي مسببا عن حدوث الفرد الطويل ، فلا ينفع في الحكومة المدعاة ، إذ الحكومة تتوقف على ان يكون اللزوم والسببية شرعية ناشئة من جعل الشارع أحد الأمرين أثرا للآخر وحكما له. ومن الواضح ان الملازمة بين بقاء الكلي وحدوث الفرد لو سلمت فهي عقلية لا شرعية ، فلا تصحح دعوى الحكومة (3).

ص: 168


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /406- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /406- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /371- الطبعة الأولى.

وقد زاد المحقق النائيني وجها رابعا وهو : ان الأصل السببي المفروض في المقام مبتلى بالمعارض. وذلك لمعارضة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث الفرد القصير ، ومع التعارض يكون الأصل المسببي جاريا لعدم نهوض ما يصلح للحكومة عليه (1).

أقول : اما الوجه الأول الّذي أفاده في الكفاية ، ويظهر أيضا من عبارة الشيخ رحمه اللّه فقد يورد عليه : بأنه يبتني على ملاحظة البقاء والارتفاع طرفي شك واحد ، فالشك في البقاء أو الارتفاع - فان الشك ذو طرفين - ، فيقال انه ناش من الشك في كون الحادث هو الفرد الطويل أو القصير ، ولكن هذا بلا ملزم ، إذ المأخوذ في الاستصحاب هو الشك في البقاء وعدمه ، فيكون الطرف الآخر هو عدم البقاء لا الارتفاع. ومن الواضح ان البقاء وعدمه يترتبان على حدوث الفرد الطويل وعدمه ، فأصالة عدم الفرد الطويل تثبت أحد طرفي. الشك وهو عدم البقاء فيلغى تعبدا.

وبالجملة : لدينا شكان تعلق أحدهما بالبقاء وعدمه ، الآخر بالارتفاع وعدمه ، وموضوع الأصل في الكلي هو الأول ، وهو محكوم لأصالة عدم حدوث الفرد الطويل.

وهذا الإيراد لا بأس به ، لكن للمنع عنه مجال وذلك ، لأن دليل الاستصحاب لم يتكفل التعبد بالبقاء بعنوانه ، وانما التعبير بذلك ورد في كلمات الأصحاب وامّا دليل الاستصحاب فهو يتكفل التعبد بالبقاء بعنوان عدم النقض ، وهو عدم رفع اليد. ومن الواضح ظهور ذلك في أخذ الشك في الارتفاع في موضوع التعبد ، لظهور الدليل في تكفله إلغاء أحد طرفي الشك وإثبات الطرف الآخر ، فموضوع الاستصحاب أخذ فيه الشك في الارتفاع لا مجرد عدم

ص: 169


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 418 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

البقاء فلاحظ وتدبر.

واما الوجه الثاني المذكور في الكفاية ، فقد أورد عليه : بأنه من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب ، فان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل لو كانت مانعة عن استصحاب الكلي بناء على السببية ، فهي مانعة بطريق أولى على القول بالعينية ، فالإشكال على هذا القول آكد منه على القول بالسببية.

ولكن الّذي يبدو لنا عدم ورود هذا الإيراد عليه ، وانه ناش عن الغفلة عن خصوصية في كلامه ، وذلك لأنه قدس سره لم يدع وحدة بقاء الكلي مع حدوث الفرد الطويل والعينية بينهما ، بل ذهب إلى وحدة بقاء الكلي وبقاء فرده. ومن الواضح ان بقاء الفرد ليس من آثار الحدوث ومسبباته ، بل كل منهما تؤثر فيه علته ، وليس الحدوث علة للبقاء بلا ريب ، فأصالة عدم الحدوث لا تكون بالنسبة إلى أصالة بقاء الكلي من قبيل الأصل السببي.

واما الوجه الثالث : فهو مما لا شبهة فيه ولم يتردد فيه أحد ، وسيأتي في مباحث الأصل المثبت وحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ما له نفع في المقام.

واما الوجه الرابع الّذي أفاده المحقق النائيني قدس سره ، فقد أورد عليه : بان العلم الإجمالي بتحقق الفرد المردد بين القصير والطويل تارة يتحقق وكلا الفردين داخلان في محل الابتلاء. وأخرى يتحقق وأحدهما وهو الفرد القصير خارج عن محل الابتلاء.

ففي الأول يتعارض الأصلان لمنافاتهما للعلم الإجمالي ، إلاّ انه في مثل ذلك لا حاجة لاستصحاب الكلي لتنجّز الآثار الشرعية بواسطة العلم الإجمالي بلا حاجة إلى الاستصحاب.

وفي الثاني لا أثر للعلم الإجمالي لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء ، ويجري الأصل في الفرد الطويل بلا معارض لخروج الطرف الآخر عن محل

ص: 170

الابتلاء ، فيعود حديث السببية والحكومة.

فخلاصة الإشكال : انه في المورد الّذي يحتاج فيه إلى استصحاب الكلي لا معارضة بين الأصول الموضوعية. وفي المورد التي تتحقق فيه المعارضة لا يحتاج فيه إلى استصحاب الكلي ، فتدبر.

والمتحصل : ان الإيراد الثاني على استصحاب الكلي غير تام.

الإيراد الثالث : ان وجود الكلي في ضمن افراده ليس وجودا واحدا ، بل وجودات متعددة بتعدد الافراد ، فكل فرد توجد في ضمنه حصة من الكلي غير الحصة الموجودة بالفرد الآخر.

وعلى هذا الأساس أنكر استصحاب الكلي القسم الثالث على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى ، وملخصه : ان المتيقن من وجود الكلي لا مفهومه وعنوانه ، إذ لا أثر بالنسبة إليه. ومن الواضح ان المتيقن من وجود الكلي مردد بين الطويل والقصير ، فيتأتى ما تقدم من الإشكال في استصحاب الفرد المردد ، من عدم الشك في بقاء ما هو المتيقن ، إذ المتيقن المردد غير متعلق للشك على كل تقدير ، إذ هو على أحد تقديريه مقطوع الارتفاع ، فلا يمكن ان يشار إلى الكلي الموجود سابقا ويقال انه مشكوك فعلا ، على ما تقدم بيانه ، بل الإشكال من ناحية عدم اليقين بالحدوث - لو سلم متأت هاهنا أيضا ، لأن وجود الكلي معلوم إجمالا ، فالعلم يتعلق بالجامع بين الوجودين فلاحظ.

نعم ، لو كان الإشكال في استصحاب الفرد المردد ما أفاده العراقي رحمه اللّه ، فلا مانع عن إجراء الاستصحاب هاهنا لتعلق اليقين والشك بما هو موضوع الأثر وهو الكلي ، فراجع تعرف (1).

ص: 171


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 124 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبالجملة : الإشكال المختار في الفرد المردد متأت هاهنا حرفا بحرف.

ويتفرع على هذا إشكال آخر وهو : ان التمسك بعموم دليل الاستصحاب في استصحاب الكلي يكون من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لنفسه ، وذلك لأنه مع احتمال كون الكلي موجودا في ضمن الفرد القصير المتيقن الارتفاع ، لم يحرز ان نقض اليقين السابق انما هو بالشك ، بل يحتمل انه باليقين.

وقد رده المحقق العراقي : بان اليقين بارتفاع الفرد القصير انما يقتضي اليقين بانعدام الطبيعي المحفوظ في ضمنه لا الطبيعي المحفوظ في الفردين وهو الجهة المشتركة بينهما ، الّذي كان متعلقا لليقين ، فلا يحتمل انتقاض اليقين المتعلق بالجهة المشتركة باليقين بانعدام أحد الفردين (1).

وهذا الرد لا مجال له بعد ان عرفت تقريب الإشكال وان مبناه على تعلق اليقين بوجود الطبيعي المردد بين الوجودين وقد علم انتقاض أحدهما ، فهو لا يعلم ان رفع اليد عن اليقين السابق المتعلق بأحد الوجودين وإحدى الحصتين نقض له بالشك ، لاحتماله كونه الحصة هي الموجودة في ضمن الفرد القصير المتيقن ارتفاعه. وليس المستصحب مفهوم الكلي وعنوانه الجامع كي يقال انه لا يختل بزوال أحد فرديه ، فتدبر.

والّذي يتحصل : انه لا مجال للالتزام باستصحاب الكلي في هذا القسم ، ولو التزمنا بجريانه لكان اللاّزم القول بجريان استصحاب الفرد المردد ، فان الإشكال فيهما واحد فلاحظ.

ص: 172


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 125 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
استصحاب الكلي في الأحكام

ثم انه لو التزم بجريان استصحاب الكلي ، فقد يقال : بلزوم التفصيل بين الأحكام والموضوعات ، فيجري في الموضوعات دون الأحكام ، وذلك لأن الاستصحاب في الأحكام الشرعية يقتضي تعلق الجعل بها بأنفسها. ومن الواضح ان الكلي لا يمكن ان يتحقق من دون ان يكون متخصصا بالفصل الخاصّ ، فلا يمكن جعل الكلي بما هو كلي ، فيمتنع تعلق الجعل بكلي الحكم بما هو كلي. وجعل الكلي متخصصا بخصوصية خاصة لا يتكفله دليل الاستصحاب.

وعليه ، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب عند دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب.

واما في الموضوعات ، فبما انها لا تقبل الجعل الشرعي ، بل المجعول هو الأثر المترتب عليها ، فلا محذور في إجراء الاستصحاب في الموضوع الكلي إذا كان موردا للأثر الشرعي الخاصّ ، ويكون التعبد في الحقيقة بأثره لا بنفسه ، فلا يرد الإشكال الوارد في استصحاب كلي الحكم.

ولا يخفى ان هذا البيان لا يختص بهذا القسم من استصحاب الكلي.

ثم انه يصلح إيراد على صاحب الكفاية ، لأن عنوان كلامه هو استصحاب الكلي في الأحكام ، وعطف عليه في آخر كلامه استصحابه في الموضوعات. وقد أجيب عنه في كلمات بعض المحققين (1) ، وملخصه : ان المنشأ في الوجوب والاستحباب واحد وهو الطلب والبعث بداعي جعل الداعي ، وليست خصوصية الندب أو الوجوب مقومة للمنشإ والمجعول ، وانما هي تنتزع عن مبدإ الحكم المجعول ، فإذا كانت المصلحة لزومية ثبت الوجوب وإذا كانت المصلحة

ص: 173


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 79 - الطبعة الأولى.

غير لزومية ثبت الندب ، فالفرق بينهما في المبدأ.

ولا يخفى ان هذه الجهة المميزة انما هي بالنسبة إلى الأحكام الواقعية لأنها هي التي تنشأ عن المصالح في المتعلقات ، واما بالنسبة إلى الحكم الظاهري فهو لا ينشأ عن مصلحة واقعية بل عن مصلحة في نفسه.

وعليه ، فلا مانع من إنشاء الطلب ظاهرا بلا ان يثبت له عنوان الوجوب والاستحباب ، فالجامع بين الوجوب والاستحباب قابل للجعل ظاهرا ، لما عرفت من ان خصوصية الوجوب والاستحباب لا ترتبط بالمنشإ بل في مرحلة المبدأ ، والمنشأ فيهما واحد. فتدبر.

هذا تمام الكلام في هذا القسم من استصحاب الكلي.

الشبهة العبائية

ويبقى هنا بحث قد آثاره المرحوم المحقق السيد إسماعيل الصدر رحمه اللّه عرف على الألسنة وفي العبارات ب- : « الشبهة العبائية ».

وملخص هذه الشبهة - بعد الالتزام بعدم انفعال ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة للنجاسة - : انه لو فرض انه قد تنجس جانب من عباءة لا يعرف بعينه بل كان مرددا بين الأعلى والأسفل ، ثم طهر الأعلى - مثلا - فلاقى جسم الإنسان الجانب الآخر وهو الأسفل ، فانه لا يحكم بنجاسة الجسم لعدم العلم بنجاسة الجانب الأسفل ، والمفروض ان ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة لا تستلزم الانفعال. واما لو لاقى الجسم تمام العباءة بجانبيها ، فان مقتضى استصحاب بقاء النجاسة في العباءة هو الحكم بنجاسة الجسم ، ومثل هذا الحكم غريب ، إذ بعد عدم الحكم بالنجاسة عند ملاقاته للجانب غير المطهر ، فكيف يحكم بنجاسته إذا انضم إليها ملاقاة الجانب المطهر؟ لوضوح عدم تأثير ملاقاة الطاهر في الانفعال ضرورة. وبعبارة أخرى : يلزم الحكم بنجاسة ملاقي

ص: 174

مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة.

والمحصل : ان استصحاب الكلي هاهنا يستلزم حكما غريبا لا يمكن البناء عليه.

وقد تصدى الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) إلى دفع هذه الشبهة.

وقد ورد في كلمات المحقق النائيني وجهان :

الوجه الأول : ما جاء في أجود التقريرات من عدم جريان استصحاب النجاسة في المثال لإثبات نجاسة الملاقي ، لعدم ترتب أثر شرعي عليها ، وذلك لأن نجاسة الملاقي تترتب على امرين :

أحدهما : إحراز الملاقاة. والآخر : إحراز نجاسة الملاقي - بالفتح - ومن المعلوم ان استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الّذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي (1).

الوجه الثاني : ما جاء في تقريرات الكاظمي من ان محل الكلام في استصحاب الكلي ما إذا كان المتيقن السابق بحقيقته وهويته مرددا بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، واما إذا كان الإجمال في محل المتيقن وموضوعه فلا يكون استصحابه من استصحاب الكلي ، بل يكون كاستصحاب الفرد المردد ، كما لو علم بوجود الحيوان الخاصّ في الدار وتردد بين ان يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ، ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان بانهدامه لاحتمال ان يكون في الجانب المنهدم ، وكما لو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل ان يكون الضائع هو درهم زيد ، فانه لا يجري الاستصحاب في المثالين ، لأن المتيقن أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وانما الترديد في محله وموضوعه ، فهو أشبه

ص: 175


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 395 - الطبعة الأولى.

باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد. وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى ، فان التردد في النجاسة بلحاظ محلها لا حقيقتها ، فتدبر (1).

أقول : تحقيق الكلام في حال هذه الشبهة - لو سلمت انها شبهة مستلزمة لمحذور فقهي ، فان للتأمل في ذلك مجالا واسعا - ان اسناد النجاسة إلى العباءة اسناد مسامحي ، فان تمام العباءة ليس متنجسا وانما أحد طرفيها ، فالفرد المتنجس مردد بين فردين.

وعليه ، فيرد على جريان الاستصحاب في النجاسة في المثال وجهان :

الأول : انه من استصحاب الفرد المردد ، وذلك لأن الأثر الشرعي في باب الانفعال المأخوذ في موضوعه النجس مترتب على النجس بنحو العموم الاستغراقي ، فالموضوع هو كل فرد من افراد النجس ، وليس هو مترتبا على كلي النجس ، فالمستصحب في المثال هو الفرد الواقعي للمتنجس المردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، ولا معنى لاستصحاب كلي المتنجس لإثبات الانفعال. وقد عرفت ان استصحاب الفرد المردد لا مجال له.

ولعل ما ذكرناه هو مراد المحقق النائيني رحمه اللّه في وجهه الثاني وان لم يكن صريحا فيه فتدبر.

واما ما ذكره من مثال الدرهم الضائع ، فلم يتضح لنا وجهه ، إذ أي أثر لجريان الاستصحاب في مورد الضياع حتى يبحث فيه ، إذ هو لا يخرج عن الملكية بالضياع كما لا تجوز المطالبة به لعدم القدرة على تسليمه بعد اشتباهه بغيره واحتمال ضياعه. نعم لو مثل له بالتلف كان استصحاب بقائه وعدم تلفه مؤثرا في بقاء الملكية لزوال الملكية بالتلف. فتدبر والأمر سهل.

الوجه الثاني : انه لو سلم جريان الأصل في الفرد المردد في نفسه أو

ص: 176


1- الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 4 / 422 - طبعة - مؤسسة النشر الإسلامي.

جريانه في كلي النجس الموجود ، فلا ينفع في ترتب الانفعال ، إذ الانفعال مترتب على ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة ، فموضوع التنجيس هو كون الملاقى نجس ، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس - بنحو الكلي أو الفرد المردد - إلا بالملازمة ، فهو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض لا ثبات كرية الماء الموجود فيه ، فاستصحاب بقاء النجس لا يثبت نجاسة الموجود الملاقى إلا على القول بالأصل المثبت.

وما ذكره المحقق النائيني في الوجه الأول يمكن ان يكون المقصود به ذلك ، ويمكن ان يكون المقصود به ان موضوع الانفعال هو ملاقاة النجس بحيث تتحقق إضافة الملاقاة إلى النجس ، وهذا المعنى لا يثبت باستصحاب بقاء النجس ، وهو الإشكال الوارد في جميع موارد الموضوعات المأخوذة في متعلق فعل المكلف المحكوم بالحكم الشرعي ، كالخمر في حرمة شرب الخمر ، فان استصحاب خمرية شيء لا يثبت ان شربه شرب خمر إلاّ بالأصل المثبت وهكذا. وقد أجيب عنه بجواب جامع محصله دعوى أخذ خصوصية الموضوع بنحو التركيب لا التقييد ، فلا يكون الأصل مثبتا لترتب الأثر على الاستصحاب بضميمته إلى الوجدان.

فما أفاده قدس سره يتجه لو كان المراد به ما ذكرناه من ان الاستصحاب لا ينفع في إثبات موضوع الانفعال ، لا انه لا ينفع في تحقق الإضافة إلى النجس المأخوذة في الانفعال.

كما انه يمكن ان يراد بما جاء في تقريرات العراقي (1) في مقام دفع الشبهة ما ذكرناه ، ولذا صح التفصيل بين استصحاب وجود النجاسة لأجل عدم جواز الدخول في الصلاة فيجري ، وبين استصحابه لأجل نجاسة الملاقي فلا

ص: 177


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 131 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

يجري ، لأن عدم جواز الدخول في الصلاة مترتب على وجود النجس بمفاد كان التامة.

ولو كان مراده ما يظهر من صدر عبارته - من ان النجاسة من العوارض الطارئة على الموجودات الخارجية لا على الطبائع الصرفة. فهي لا تقبل العروض إلا على الموجود الخارجي المعين دون القدر الجامع فاستصحاب نجاسة القطعة الشخصية المرددة ، من استصحاب الفرد المردد - لأشكل الأمر في استصحاب وجود النجاسة لأجل المنع عن الدخول في الصلاة ، وذلك لأن المستصحب ان كان هو النجاسة العارضة على الطبيعي فهو مما يمنع منه. وان كان هو النجاسة العارضة على الفرد ، فالمفروض انه فرد مردد ، فيكون استصحابها من استصحاب الفرد المردد فلاحظ.

فالعمدة هو ما بيناه من كون الاستصحاب مثبتا.

هذا ولكن يمكن تقريب الاستصحاب بنحو لا يكون مثبتا ، بان يقال :

إنا نعلم بملاقاة البدن لجميع اجزاء العباءة ، فنحن نعلم بأنه لاقى ذلك الطرف الّذي كان نجسا ، لكن نشك انه نجس حين الملاقاة أو لا ، فنستصحب بقاء نجاسته ، فتثبت - بالاستصحاب - ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة ويترتب الانفعال حينئذ.

نعم يبقى الإشكال كونه من استصحاب الفرد المردد ، لتردد المتصف بالنجاسة بين تقديرين يقطع على أحدهما بزوال المستصحب وهو النجاسة ، فلا شك بما هو المتيقن على كل تقدير.

فالمتحصل : ان اندفاع الشبهة العبائية ينحصر بكون استصحاب النجاسة من استصحاب الفرد المردد. وهو لا يجري على ما تقدم بيانه. اذن فما أفاده السيد الصدر رحمه اللّه لا يصلح إشكالا في جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي. فتدبر.

ص: 178

واما القسم الثالث : فهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ثم علم بزوال ذلك الفرد وشك في بقاء الكلي لاحتمال حدوث فرد آخر مقارن لزوال ذلك الفرد نظير ما لو علم بوجود الإنسان في الدار لوجود زيد فيها ، ثم علم بخروج زيد من الدار واحتمل دخول عمرو فيها مقارنا لخروج زيد.

وهذا لا يمكن ان يكون مجرى الاستصحاب ، لأن الوجود المتيقن للكلي قد علم بارتفاعه والمشكوك هو وجود آخر غير الوجود الأول لأن وجود الكلي يتعدد بتعدد افراده فالشك في الحقيقة ليس شكا في بقاء ما هو المتيقن ، بل في الحدوث ، ومثله غير مجري للاستصحاب. وهذا مما لا إشكال فيه.

نعم استثنى من ذلك ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه يعد من مراتب الفرد المعلوم الزوال ، كما إذا كان الكلي من المقولات التشكيكية كالألوان القابلة للشدة والضعف ، فمثلا لو علم بثبوت كلي السواد في ثوب. لاتصافه بمرتبة شديدة منه ، ثم علم بزوال تلك المرتبة الشديدة وشك في تبدلها إلى مرتبة ضعيفة منه ، أو زوالها بالمرة وحدوث لون آخر ، أمكن إجراء الاستصحاب في كلي السواد.

والسر في ذلك : ان المرتبة الضعيفة التي يتبدل إليها الفرد المتيقن ليست فردا مغايرا للأول بنظر العرف - بل بالدقة على ما قيل - ، فيكون ثبوتها بقاء للكلي ، فالشك فيها شك في البقاء والارتفاع فيكون من موارد الاستصحاب وهذا الاستثناء مما نبه عليه الشيخ رحمه اللّه (1).

ويظهر من الكفاية موافقته عليه كبرويا ، وان أوقع الكلام فيه صغرويا ، فقد تحدث عن ان الوجوب والاستصحاب كذلك أو لا؟ وذهب إلى الثاني ببيان : ان الاستحباب وان كان مرتبة ضعيفة من الطلب واختلافه مع الوجوب من جهة شدة الطلب وضعفه ، إلا أنه عرفا يعد فردا للحكم مغايرا للوجوب بنظر العرف ،

ص: 179


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول372- الطبعة الأولى.

فمع العلم بزوال الوجوب والشك في تبدله إلى الاستحباب لا يمكن إجراء الاستصحاب في كلي الطلب ، لأن المدار في باب الاستصحاب على النّظر العرفي لا الدّقي (1).

وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بما ملخصه : ان التغاير بين الوجوب والاستحباب ليس بالشدة والضعف كما قيل ، فان الوجوب والاستحباب من الأمور الاعتبارية التي توجد بإنشاء مفاهيمها وتتحقق بالاعتبار. ومن الواضح ان الاعتبار لا يقبل الشدة والضعف.

نعم ، يتفاوت الوجوب والاستحباب في الشدة والضعف بلحاظ مبدئهما وهو الإرادة ، فانها قابلة للشدة والضعف ، لكن مجرى الاستصحاب ليس هو الإرادة بل هو الحكم الشرعي وهو كلي الطلب ، وقد عرفت انه لا يقبل الشدة والضعف لأنه من الأمور الاعتبارية ، فالوجوب والاستحباب كما هما متغايران عرفا كذلك هما متغايران دقة وعقلا ، فلا مجال لاستصحاب كلي الطلب مع العلم بزوال الوجوب والشك في حدوث الاستحباب أو غيره من الأحكام. فتدبر جيدا (2).

واما القسم الرابع : فهو ما إذا علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على واحد ، فزال أحدهما قهرا وشك في بقاء الكلي للشك في ان العنوان الآخر نفس العنوان الزائل وجودا أو لا. كما إذا علم بوجود القرشي في الدار وعلم أيضا بوجود العالم ، وشك في ان العالم عين القرشي أو غيره ، ثم علم بزوال العالم ، فانه يشك في بقاء القرشي في الدار لاحتمال انه نفس العالم فيكون قد خرج أو غيره فهو باق بعد.

ويمثل له بما إذا كان متطهرا ثم توضأ وأحدث وشك في أن وضوءه بعد

ص: 180


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /407- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 78 - الطبعة الأولى.

الحدث أو قبله - من باب الوضوء التجديدي - ، فهو فعلا يشك في بقاء الطهارة الموجودة حال الوضوء الآخر.

كما ان من أمثلته ما إذا كان جنبا فاغتسل ثم رأى منيا في ثوبه وشك في انه من الجنابة التي اغتسل منها أو هي جنابة جديدة ، فهو يعلم بالجنابة حال خروج المني ، ويشك في بقائها فعلا.

ففي جميع هذه الأمثلة يشك في بقاء الكلي. وقد وقع الكلام في استصحابه.

فذهب البعض إلى جريان الاستصحاب فيه لتمامية أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء فيستصحب بقاء القرشي في الدار لليقين بحدوثه والشك في بقائه. كما يستصحب بقاء الطهارة الموجود حال الوضوء الآخر لليقين بها والشك في بقائها. وهكذا يستصحب بقاء الجنابة المتيقنة عند خروج المني المرئي في الثوب (1).

وقد ذهب الفقيه الهمداني رحمه اللّه - في كتاب الطهارة - إلى التفصيل بين العلم بوجود فردين وشك في تعاقبهما كمثال الحدث ، وبين ما إذا لم يعلم الا بوجود فرد واحد وشك في فرد آخر الاحتمال انطباق العنوانين على فرد واحد ، كمثال الجنابة وأمثال العالم والقرشي. فالتزم بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني (2).

وردّ : بأنه لا فرق بين الصورتين في جريان الاستصحاب لتمامية أركانه في كلتا الصورتين لليقين السابق بوجود الكلي والشك في بقائه في كلتيهما. وما ذكر في الفرق فليس بفارق. هذا ما جاء في كلمات بعض الاعلام (3) نقلناه باختصار.

ص: 181


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 118 - الطبعة الأولى.
2- الفقيه الهمداني. مصباح الفقيه كتاب الطهارة /205- الطبعة الأولى.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 120 - الطبعة الأولى.
التنبيه الثالث : في استصحاب الأمور التدريجية.

لا يخفى ان الموجودات على نحوين : الموجودات القارة ، وهي التي تتحقق بجميع اجزائها في آن واحد مثل زيد وعمرو ، والموجودات التدريجية ، وهي التي لا يكون لأجزائها تحقق دفعي وفي آن واحد ، بل يكون وجودها تدريجيا بحيث يوجد كل جزء في ظرف انعدام ما قبله كالمشي والكلام ونحوهما.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأمور القارة لتحقق أركانه. وانما وقع البحث في جريانه في الأمور التدريجية ، لأجل الإشكال في تحقق أركانه ، وذلك لأنه بعد ان كان وجود الأمر التدريجي بنحو التدرج بحيث يوجد كل جزء منه ويتصرم ثم يوجد جزء آخر منه وهكذا لم يتحقق الشك في البقاء بالنسبة إليه ، لأن ما تعلق به اليقين وهو الجزء السابق مما انعدم وتصرم قطعا ، والجزء اللاحق مشكوك الحدوث ، لأن الجزء في كل آن وظرف غير الجزء في ظرف آخر ، ومثل ذلك لا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.

وقد تصدى الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) لدفع هذا الإشكال وإثبات صحة جريان الاستصحاب في التدريجيات ، ولا بد من إيقاع البحث في مقامين :

المقام الأول : في جريان الاستصحاب في الزمان كالليل والنهار والشهر ونحوها.

والمقام الثاني : في جريان في سائر الأمور التدريجية الواقعة في الزمان كالمشي والتكلم ونحوهما.

اما استصحاب الزمان : فالإشكال فيه من أربعة جهات :

الأولى : ما تقدم من الإشكال في الأمور التدريجية بقول مطلق ، فان الزمان منها ، فيتأتى فيه الإشكال.

وقد أجيب عنه بما محصله : ان المدار في باب الاستصحاب على صدق

ص: 182

النقض بالشك عرفا ، وهذا يثبت مع الوحدة العرفية للموجود في مرحلة حدوثه وبقائه ، والأمر التدريجي - كالزمان - وان كانت أجزاؤه متدرجة في الوجود بحيث تنصرم وتنعدم ، إلا ان تخلل هذا العدم بين الاجزاء لا يوجب الإخلال بالوحدة عرفا - بل قيل دقة - ، فالزمان واحد مستمر لا أنه وجودات متعددة ، فالنهار موجود واحد مستمر يتحقق بحصول أول أجزائه وينتهي بانتهائها ويصدق على الآنات الحاصلة بين المبدأ والمنتهى ، فمع الشك في الاستمرار يجري الاستصحاب ، لأن رفع اليد عنه في ظرف الشك يعد نقضا لليقين بالشك.

الجهة الثانية : ان موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء ، كما ان الاستصحاب هو التعبد ببقاء ما كان ، والبقاء عبارة عن الوجود في الآن الثاني ، وهذا المعنى لا يتصور في نفس الزمان ، فلا يتصور البقاء في الزمان لأنه لا يوجد في زمان آخر.

ويندفع هذا الإشكال :

أولا : بان الوجود في الآن الثاني لم يؤخذ في مفهوم البقاء وانما هو لازم له في ما يقبل الوجود في الزمان كالزمانيات ، اما مثل الزمان مما لا يوجد في الزمان ، فلا يكون بقاؤه ملازما لذلك ، كيف! ويصدق البقاء على المجردات كالذات المقدسة ، فليس مفهوم البقاء الا مساوقا للاستمرار والدوام في الوجود.

وثانيا : انه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب التعبد بالبقاء ، بل هو وارد في كلمات الفقهاء والأصوليين ، وانما الوارد في الأدلة هو عدم نقض اليقين بالشك ، وليس موضوعه الا الشك في وجوده المتأخر بعد اليقين بوجوده السابق ، وهو موجود. فلاحظ.

الجهة الثالثة : ان الشك في الأمر التدريجي ..

تارة ينشأ من الشك في حصول ما يمنع من استمراره مع إحراز قابليته للاستمرار في نفسه.

ص: 183

وأخرى : ينشأ من الشك في حصول غايته ومنتهاه ، كما لو علم ان الشخص يتكلم ساعتين وشك في بقاء تكلمه للشك في انتهاء الساعتين.

والشك في الزمان من قبيل الثاني ، إذ لا احتمال لوجود ما يقطع النهار قبل حصول غايته ، وانما الشك في بقائه ينشأ من الشك في حصول غايته وانتهاء أمده وعدمه.

وعليه ، فينشأ من هذا إشكال في جريان الاستصحاب في الزمان. وتقريبه : ان متعلق الشك بعد اليقين ان كان هو بقاء النهار - مثلا - ، بمعنى وجوده في الآن اللاحق ، فهذا ما عرفت انه غير متصور بالنسبة إلى الزمان وان كان هو الوجود اللاحق للنهار ، بحيث يؤخذ وصف اللحوق قيدا لمتعلق الشك ، فليس الوجود اللاحق مسبوقا بالحالة السابقة بل هو مشكوك الحدوث. واما ذات وجود النهار فهذا مما لا شك فيه.

وببيان آخر نقول : ان متعلق الشك ليس بقاء النهار والآن الواقع بين الحدين ، بل متعلق الشك هو كون هذا الآن نهارا أو ليس بنهار ، وذلك لأنه بعد فرض وحدة النهار بجميع آناته وملاحظته موجودا واحدا فيستحيل تعلق اليقين والشك فيه ، الا بتغاير الزمانين ، والمفروض انه غير متصور في الزمان ، فالشك الموجود فعلا ليس إلا في كون هذا الآن نهارا أو لا ، وان أطلق الشك في بقاء النهار لكنه مسامحي بعد ملاحظة ان النهار اسم لمجموع الآنات الخاصة وليس له وجود غيرها ، والمشكوك هو نهارية الآن الّذي نحن فيه وعدمه ، وهذا مما لا حالة سابقة له.

وهذا الإشكال لا يتأتى في سائر الأمور التدريجية القابلة للوقوع في الزمان ، لتصور الشك في وجودها الواحد في الزمان اللاحق ، فيقال : كان التكلم موجودا والآن يشك فيه فيستصحب. فهذا الإشكال يختص بالزمان. وهو مما لا دافع له ولم يتعرض له الأعلام. ومع الغض عنه يقع الكلام في الإشكال.

ص: 184

الجهة الرابعة : وهو ما أشار إليه الاعلام ( قدس اللّه سرهم ) وتصدوا لدفعه.

ومحصله : ان استصحاب النهار - مثلا - لا يتكفل أكثر من إثبات وجود النهار ، كما لو كان متعلق الحكم أخذ فيه الوقوع في النهار مثل الإمساك في باب الصوم ، فانه يعتبر ان يكون في النهار ، فمع الشك في بقاء النهار لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار.

نعم ، لو كان وجود النهار موضوعا للحكم من دون ان يتقيد به متعلقه كان استصحاب النهار مجديا في إثبات الحكم.

وبالجملة : لا ينفع استصحاب الزمان الخاصّ في الموارد التي يؤخذ فيها قيدا لمتعلق الحكم ، كالصوم والصلاة ونحوهما ، فتقل الفائدة فيه لأن أغلب الموارد التي يراد استصحاب الزمان فيها من هذا القبيل.

أقول : بهذا البيان ونحوه بيّن الإشكال ، إلا انه لم يبين جهة الاستشكال وما هو المحذور المترتب على ذلك ، وما هو اللازم الباطل المترتب على عدم إحراز وقوع الإمساك - مثلا - في النهار ، إذ لقائل ان يقول : انه بعد استصحاب وجود النهار يثبت الحكم بوجوب الصوم ، فيأتي الإنسان بالإمساك رجاء ولو لم يحرز ان الزمان نهار ، فان كان الزمان نهارا فقد امتثل وإلاّ فلا يضره شيء ، فلا يكون الاستصحاب عديم الفائدة ، كيف؟ ولولاه لم يثبت الحكم الّذي ترتب عليه العمل ولو احتياطا ، كما انه ليس بلا أثر عملي كما جاء في أجود التقريرات (1) في تقريب الإشكال - إذ يكفي في لزوم الإتيان بالعمل بعنوان الاحتياط وهو أثر عملي واضح. فما جاء في كلمات الاعلام لا يخلو عن قصور.

والحق ان يقال : انه ان التزمنا بان الملحوظ في دليل الاستصحاب هو تنجيز الواقع المجهول فلا إشكال أصلا ، إذ مرجع التنجيز إلى بيان ترتب

ص: 185


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 400 - الطبعة الأولى.

المؤاخذة على تقدير ثبوت الواقع ، ومثله لا يعتبر فيه إحراز ثبوت الواقع ، بل احتماله يكفي في الاندفاع للعمل.

وعليه ، فيكفي استصحاب وجود النهار بلا حاجة إلى إحراز كون الإمساك في النهار ، لأن مرجع الاستصحاب المزبور إلى تنجيز الحكم بوجوب الإمساك على تقدير ثبوته في الواقع ، ولا يتكفل إثبات الحكم.

وعليه ، فلا بد من الإتيان بالإمساك فرارا عن العقاب المحتمل ، لاحتمال ثبوت الحكم لاحتمال بقاء النهار.

واما إذا التزمنا بان المجعول هو المتيقن كجعل المؤدى في باب الأمارات ، فيتكفل دليل الاستصحاب جعل حكم ظاهري مماثل للحكم الواقعي ولو التزمنا بذلك أشكل الأمر ، وذلك لأن الحكم الواقعي هو وجوب الإمساك المقيد بكونه في النهار - مثلا - ، وهذا مما لا يمكن ان يثبت في مرحلة الظاهر باستصحاب بقاء النهار ، إذ بعد عدم إحراز ان الزمان الّذي نحن فيه نهار أو ليل لا يحرز ان الإمساك في النهار - فعلا - مقدور لاحتمال ان هذا الزمان ليل ، واستصحاب بقاء النهار لا يثبت ان هذا الآن نهار - كما هو المفروض - ، فيكون ثبوت وجوب الإمساك في النهار محالا ، لأنه تكليف بأمر لا يعلم انه مقدور أو ليس بمقدور ، فالإشكال على هذا المبني في الاستصحاب دون غيره.

وقد تصدى الأعلام - كما أشرنا إليه - لدفع الإشكال ، والمذكور في الكلمات وجوه :

الأول : ان الزمان لم يؤخذ في متعلق الحكم أصلا وانما هو شرط لأصل ثبوت الحكم ، والحكم متعلق بالطبيعة بلا تقيد وقوعها في الزمان الخاصّ.

وعليه ، فيثبت الحكم باستصحاب موضوعه ولا قيمة لعدم ثبوت أن هذا الآن نهار أو ليس بنهار. وهذا الوجه أشار إليه المحقق العراقي رحمه اللّه (1).

ص: 186


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 150 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولكن للمناقشة فيه مجال واسع ، فانه مخالف لظواهر الأدلة ، كأدلة اشتراط الوقت في الصلاة (1) ، ودليل الصوم الظاهر في لزوم كون الصوم في رمضان ، كقوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (2).

الوجه الثاني : ما أفاده العراقي رحمه اللّه أيضا واختص به من : انه كما يمكن استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفية بين الأجزاء المتدرجة في الوجود ، كذلك يمكن استصحاب نهارية الموجود ، فان وصف النهارية من الأوصاف التدريجية كذات الموصوف ويكون حادثا بحدوث الآنات وباقيا ببقائها ، فإذا اتصف بعض هذه الآنات بالنهارية وشك في اتصاف الزمان الحاضر بها يجري استصحاب بقاء النهارية الثابتة للزمان السابق لغرض وحدة الموصوف ، فيكون الشك شكا بالبقاء (3).

وما أفاده قدس سره لا يمكن البناء عليه لأمرين :

الأول : ان وصف النهارية ونحوها ليس أمرا آخر وراء ذوات الآنات الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، فلفظ النهار لا يعبر إلا عن تلك الذات لا عن عرض قائم بالذات غيرها ، فهو اسم للذات لا وصف لها ، فهو نظير لفظ زيد بالنسبة إلى ذاته ، ولفظ حجر إلى ذات الحجر ، لا نظير عالم بالنسبة إلى زيد.

وعليه ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب في وصف النهارية منضما إلى استصحاب نفس الذات النهارية ، فانه من قبيل استصحاب وجود زيد واستصحاب زيديته لا من قبيل استصحابه واستصحاب عالميته.

هذا مضافا إلى انه لو فرض كون وصف النهار من قبيل العنوان لا من قبيل الاسم ، فمن الواضح ان النهارية تتقوم بكون الزمان بين المبدأ والمنتهى

ص: 187


1- وسائل الشيعة 3 / 78 - أبواب المواقيت.
2- سورة البقرة الآية. 185.
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 149 - القسم الأول طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الخاصّ بحيث يكون ذلك مسببا لتعدد حقيقة أنواع الزمان عرفا من ليل ونهار ، وإلاّ فذات الزمان موجود واحد مستمر إلى الأبد.

وعليه ، فمع الشك في كون الآن بين المبدأ والمنتهى لا يمكن استصحاب وصف نهاريته لتقومها به عرفا ، وليس هو من الحالات.

وهذا الإشكال يسري في كل مورد يشك في تبدل الموجود السابق إلى حقيقة أخرى عرفا ، فانه لا يجري استصحاب الوصف السابق للشك في بقاء الموضوع العرفي للمستصحب ، كما لو شك في تبدل الخمر إلى الخل وغير ذلك. فتدبر.

الأمر الثاني : ان المشكوك كونه نهارا هو هذا الآن لا مجموع الآنات الملحوظة شيئا واحدا. ومن الواضح ان هذا الآن لا حالة سابقة له والشك بالنسبة إليه شك في الحدوث. ولا معنى لغرض وحدته مع ما تقدم ، إذ فرض الوحدة هو فرض لحاظ الكل شيئا واحدا بحيث لا ينظر إلى كل جزء بخصوصه ، وليس الأمر كذلك فيما نحو فيه ، لأن المفروض النّظر إلى هذا الجزء بخصوصه وملاحظته بمفرده لأنه هو المشكوك دون غيره فانتبه.

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من : إن المأخوذ في متعلق الحكم إذا كان هو الإمساك في النهار لا الإمساك النهاري ، بان يكون النهار بوجوده المحمولي قيدا دخيلا في المصلحة لا بوجوده الناعتي ، كان جريان الاستصحاب في النهار مجديا ولو لم يحرز أن هذا الآن نهار ، لأن ثبوت القيد تعبدي والتقيّد وجداني ، فيثبت ان هذا إمساك وجداني في النهار التعبدي (1).

وما أفاده قدس سره يتوجه عليه :

أولا : ان استصحاب بقاء النهار لا يثبت إضافة الإمساك إلى النهار وتقيده به إلاّ بالملازمة ، فهو نظير استصحاب كون هذا المائع خمرا ، فانه لا يثبت كون

ص: 188


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 81 - الطبعة الأولى.

شربه شرب خمر إلا بالملازمة ، والمفروض ان المطلوب إثبات كون الإمساك في النهار.

وثانيا : لو سلمنا ان استصحاب الموضوع يثبت به الحكم المتعلق بما يتقيد به ويضاف إليه ، فيقال ان الخمر أثره حرمة شربه ، فإذا ثبتت خمرية شيء ظاهرا ترتب عليه حرمة شربه ، فهو انما ينفع فيما كان الاستصحاب يتكفل إثبات الموضوع بمفاد كان الناقصة ، إذ التقيد والإضافة وجداني تكويني ، وانما الشك في وصف المضاف إليه وهذا يثبته الأصل. واما إذا كان مجرى الاستصحاب هو الموضوع بمفاد كان التامة ، فالتقيد والإضافة لا تتحقق أصلا ، إذ وجود الموضوع تعبدا ليس إلاّ وجودا اعتباريا فرضيا ولا معنى لوقوع الفعل فيه. فهل يجدي استصحاب بقاء الكر في الحوض في إثبات الغسل بالكر؟.

فاستصحاب بقاء النهار بمفاد كان التامة لا يصحح إضافة الإمساك إلى النهار ووقوعه فيه ، فلاحظ والتفت.

الوجه الرابع : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه من إجراء استصحاب الحكم (1).

وقد أورد عليه المحقق النائيني في دورة من دورات بحثه : بأنه لا يجدي في إحراز وقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، ولو كان مجديا لكفى استصحاب الموضوع لترتب الحكم عليه (2).

ولكنه في دورة أخرى ردّ هذا الإشكال : بان استصحاب الحكم يكفي في إحراز وقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، كاستصحاب وجوب الصوم ، فانه يترتب عليه كون الإمساك في النهار بخلاف استصحاب نفس الزمان ، لأن استصحاب الزمان لا يترتب عليه إلا أثره الشرعي وهو أصل وجوب الصوم ، واما كون الصوم في النهار فهو أثر عقلي لبقائه لا شرعي. واما استصحاب الوجوب

ص: 189


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /375- الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول4/ 438 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فمرجعه إلى التعبد بالحكم بجميع خصوصياته التي كان عليها ، والمفروض ان الحكم كان متعلقا بما لو أتى به كان واقعا في النهار ، فيستصحب ذلك على نحو ما كان (1).

ولكن ما ذكره توجيها لكلام الشيخ رحمه اللّه غير سديد ، لأنه لو سلم ان التعبد بالوجوب يقتضي التعبد بجميع خصوصياته فانما ذلك في الخصوصيات الشرعية لا التكوينية. ومن الواضح ان كون الفعل واقعا في الزمان الخاصّ أمر تكويني فلا معنى للتعبد به لأنه لا يقبل الجعل والتعبد شرعا.

الوجه الخامس : ما أفاده في الكفاية من : إجراء الاستصحاب في المقيد بما هو مقيد ، فيقال : ان الإمساك كان في النهار فالآن كذلك (2).

وفيه : ان المشار إليه من الإمساك اما ان يكون الجزء الموجود منه أو الجزء الّذي بعد لم يوجد. فان كان هو الجزء الموجود ، فهو لا أثر له لأن الحكم لا يتعلق بما هو الموجود. وان كان هو الجزء الآتي ، فهو مما لا حالة سابقة له ، بل هو مشكوك الحدوث فلا يجري فيه الاستصحاب إلاّ بنحو الاستصحاب التعليقي ، وهو لا يجري في الموضوعات.

الوجه السادس : ما أفاده العراقي وغيره من : أن الزمان لم يؤخذ في المتعلق قيدا للفعل بحيث كان المتعلق هو الفعل الخاصّ بنحو التقييد ، بل أخذ في المتعلق بنحو المعية في الوجود والمقارنة. وبعبارة أخرى : اعتبر هو والفعل بنحو التركيب وبنحو الاجتماع في الوجود. وهذا مما يثبت بالاستصحاب ، فانه يثبت أحد الجزءين وهو الزمان الخاصّ ، والجزء الآخر يثبت بالوجدان وهو الفعل (3).

وهذا الوجه كسوابقه قابل للمناقشة ، فان أخذ الزمان بنحو التركيب بلا

ص: 190


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات3/ 401 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /409- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 150 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ملاحظة تقيّد الفعل به وإضافته إليه ممكن بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق ، إذ المتعلق مما يكون التكليف محركا نحوه وباعثا إليه ، ولا يعقل البحث نحو الزمان لأنه غير اختياري ، فأخذه في المتعلق لا بد وان يرجع إلى ملاحظة تقيّد الفعل به وإيقاعه فيه ، فان هذا المعنى قابل للتحريك والبعث.

وعليه ، فيعود الإشكال ، لأنه لا يحرز باستصحاب الزمان وقوع الفعل فيه. فتدبر.

وجملة القول : ان استصحاب الزمان بملاحظة ورود هذه الإشكالات مما لا يمكن الركون إليه والجزم به.

واما سائر الأمور التدريجية غير الزمان كالتكلم والمشي والسيلان ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيها الا من الوجه الأول من وجوه الإشكال في استصحاب الزمان ، وقد عرفت دفعه وعدم تماميته. وعليه فلا مانع من الالتزام فيه فيها.

ثم انه وقع الكلام في جريان الاستصحاب في موارد تعلق الحكم بالفعل المقيد بالزمان. وهو على صورتين :

الأولي : ان يكون الشك في بقاء حكمه للشك في بقاء قيده وهو الزمان. وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا.

الثانية : ان يكون الشك في بقاء حكمه مع القطع بانتهاء قيده من جهة أخرى ، كما إذا احتمل أخذ الزمان بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، فيشك في بقاء الحكم بعد انتهاء الزمان.

وقد أفاده في الكفاية : بان الزمان إذا كان مأخوذا ظرفا لثبوته كان استصحاب الحكم جاريا. وان كان قيدا مقوما لمتعلقه فلا يجري استصحاب الحكم ، بل يجري استصحاب عدمه. ثم أشار إلى دفع ما أفاده النراقي من

ص: 191

جريان كلا الاستصحابين - أعني : استصحاب الوجود والعدم - وتعارضهما (1).

وقد تقدم الكلام في كلام النراقي وتوجيهه ورده بنحو التفصيل في البحث عن جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فراجع.

وأما ما أفاده من التفصيل في جريان الاستصحاب بين أخذ الزمان ظرفا وأخذه قيدا ، فالظاهر ان مراده هو : التفصيل بين كونه حالة بنظر العرف وبين كونه قيدا مقوما ، وإلاّ فهو قيد على كلا التقديرين.

وعليه ، فلا يرد عليه : ان أخذه ظرفا لا معنى له في قبال أخذه قيدا ، إذ لا معنى لظرفية الزمان الا تقيد الفعل به.

وكيف كان ، فلا بد من تحقيق ان الزمان في متعلق الحكم هل هو من الحالات الطارئة على معروض الحكم بنظر العرف ، أو انه بنظره من مقوماته التي ينتفي بانتفائه؟.

واما مجرى الترديد الكبروي - كما اقتصر عليه في الكفاية - فلا فائدة كبيرة فيه.

وتحقيق ذلك : ان ما يؤخذ قيدا للموضوع قد يعد عرفا من مقوماته بحيث ينتفي معروض الحكم بانتفائه. وقد يعد من حالاته وعوارضه فلا ينتفي عرفا بانتفائه. وهذا يختلف بحسب اختلاف ارتباط الحكم بالقيد.

فالأوّل نظير وجوب تقليد العالم ، فان جهة العلم من مقومات وجوب التقليد عرفا ، لأن التقليد انما هو لجهة علمه.

والثاني نظير وجوب الصلاة خلف العالم ، فان العلم لا يعد عرفا من مقومات الموضوع ، بل يعد من حالاته.

وبعبارة أخرى : تعد جهة العلم عرفا من الجهات التعليلية للحكم بوجوب الصلاة خلفه ولكنها تعد من الجهات التقيدية بالنسبة إلى الحكم بوجوب

ص: 192


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /409- 410 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تقليده.

ولكن هذا إنما يأتي في موضوعات الأحكام لاختلاف نسبة الحكم وكيفية ارتباطه بالقيد.

واما بالنسبة إلى متعلق الحكم ، فكل قيد فيه يكون مقوما بنظر العرف ، إذ متعلق الحكم ما أخذ الحكم داعيا إليه ومحركا نحوه ، فإذا كان المدعو إليه هو الفعل الخاصّ كانت الخصوصية مقومة عرفا ، فمع انتفائها يمتنع جريان الاستصحاب.

وبعبارة أخرى ، المراد بالموضوع هو معروض المستصحب ، ومعروض الحكم المستصحب بنظر العرف هو الفعل بخصوصياته لا ذات الفعل.

وعليه ، فالزمان إذا كان قيدا للمتعلق فهو قيد مقوم دائما ، فمع تخلفه وانتفائه يمتنع جريان استصحاب الحكم.

وقد نبهنا على ذلك في مبحث تعذر بعض اجزاء الواجب أو شرائطه من مباحث الأقل والأكثر. فراجع.

ثم أن صاحب الكفاية رحمه اللّه تعرض لما حكي عن النراقي من التمسك عند الشك في ناقضية المذي للطهارة باستصحاب جعل الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، ومعارضة لاستصحاب الطهارة قبل المذي.

فأورد عليه : بان الطهارة الحديثة والخبثية وما يقابلهما تكون مما إذا وجدت بأسبابها لا ترتفع إلاّ برافع ، بحيث يكون منشأ الشك فيها هو الشك في الرافع ولا يشك فيها من جهة الشك في مقدار تأثير السبب ، فانه لا شك فيه لأن تأثيره في الطهارة المستمرة ، وعدمها يكون لأجل الرافع لا لقصور السبب.

وعليه ، فلا مجال لأصالة عدم سببية الوضوء للطهارة بعد المذي (1).

أقول : لا ظهور لكلام النراقي في كون مجرى الاستصحاب هو نفس

ص: 193


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /410- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

السببية ، بل من الممكن ان يكون نظره إلى منشأ انتزاعها وهو ثبوت الطهارة على تقدير الوضوء.

وعليه ، فيكون مقصوده إيقاع المعارضة بين استصحاب الطهارة الثابتة قبل المذي ، واستصحاب عدم جعلها بعد المذي ، الّذي تقدم بيانها في مبحث استصحاب الحكم الكلي عند بيان مرامه ، فمجرى الاستصحاب نفيا وإثباتا هو المسبب لا سببية السبب حتى يورد عليه بأنه لا شك في السببية.

وبهذا الحمل لكلامه رحمه اللّه ظهر انه لا وجه لإطالة الكلام بتحقيق ان الوضوء مقتض للطهارة ، والحدث هل يكون من قبيل الرافع أو يكون عدمه متمما للمقتضي؟. كما تصدى إلى ذلك المحقق الأصفهاني في بيان مسهب مفصل فراجع (1).

التنبيه الرابع : في استصحاب الأمور التعليقية.

لا يخفى ان الأمر المشكوك البقاء ...

تارة : يكون له وجود فعلي تنجيزي في السابق يشك في زواله وبقائه ، كنجاسة الماء المتغير إذا شك فيها بعد زوال تغيره من قبل نفسه.

وأخرى : يكون له وجود تقديري تعليقي لا فعلي كحرمة العنب على تقدير غليانه إذا شك فيها بعد تبدله إلى زبيب.

والاستصحاب في الفرض الأول لا شبهة فيه.

وانما الكلام في الاستصحاب في الفرض الثاني ، وهو ما يعبر عنه بالاستصحاب التعليقي ، والإطلاق مسامحي ، ويراد به استصحاب الأمر التعليقي.

والأمر التعليقي الّذي يتكلم في استصحابه تارة : يكون من الأحكام ،

ص: 194


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 84 - 89 - الطبعة الأولى.

كالمثال المتقدم. وأخرى : من الموضوعات.

والكلام فعلا في استصحاب الأحكام التعليقية : ولا يخفى ان البحث فيه ذو أثر عملي كبير في باب الفقه للتمسك به في موارد كثيرة من الأحكام التكليفية والوضعيّة.

وكيف كان فقد نفي جريانه فريق والتزم به فريق آخر.

وممن التزم به صاحب الكفاية ، وذكر في تقريبه : ان قوام الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء متحقق في الأمور التعليقية ، لأن غاية ما يقال في نفيه : ان الحكم التعليقي لا وجود له قبل وجود ما علق عليه فلا يقين بحدوثه. وهذا قول فاسد ، لأنه لا وجود له فعلا قبل الشرط ، لا أنه لا وجود له أصلا ولو بنحو التعليق ، فان وجوده التعليقي نحو وجود يكون متعلقا لليقين والشك ، ولذا كان موردا للخطابات الشرعية من إيجاب وتحريم. هذه خلاصة ما أفاده في الكفاية (1).

وخالفه المحقق النائيني رحمه اللّه فذهب إلى نفي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، ومحصل ما أفاده : ان الحكم له مقامان : مقام الجعل ، وهو جعل الحكم الكلي على الموضوع الكلي. ومقام المجعول وهو الحكم الفعلي الحاصل بحصول موضوعه بأجزائه وقيوده.

والشك في بقاء الحكم بلحاظ مقام الجعل لا ينشأ إلاّ من قبل الشك في النسخ وعدمه ، وهو أجنبي عما نحن فيه ، ومع عدم الشك في النسخ يعلم ببقاء الجعل والإنشاء ولا رافع له ، إذ هو ثابت حتى مع عدم تحقق الموضوع بالمرة.

اما بلحاظ مقام المجعول والفعلية فبالنسبة إلى الحكم التعليقي غير متصور ، لأن المفروض عدم الفعلية للحكم لعدم تحقق كلا جزئي الموضوع ، فلا يقين بالحدوث. وليس للحكم التعليقي مقام آخر يتصور جريان الاستصحاب

ص: 195


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /411- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بلحاظه.

وبالجملة : ما له ثبوت فعلي وهو الجعل لا شك فيه ، وما هو مورد الشك وهو المجعول لا يقين بحدوثه هذه خلاصة ما أفاده قدس سره (1).

والتحقيق ان يقال : ان المسالك المعروفة في حقيقة الحكم التكليفي وكيفية جعله ثلاثة :

المسلك الأول : ما هو مسلك المشهور من : أنها عبارة عن أمور اعتبارية يتسبب لها بالإنشاء وتكون فعلية الأحكام منوطة بوجود الموضوع بخصوصياته ، فبدونه لا ثبوت الا للإنشاء بلا أن يتحقق اعتبار الحكم فعلا. وإلى هذا يرجع ما أفاده المحقق النائيني من انفكاك مقام الجعل عن مقام المجعول ، وأنه قد يتأخر المجعول عن الجعل.

المسلك الثاني : ان المجعول لا ينفك زمانا عن الجعل ، ففي ظرف الجعل يتحقق الحكم فعلا ، إلاّ انه يتعلق بأمر على التقدير ، فيكون التقدير دخيلا في ترتب الأثر العقلي على الحكم الثابت سابقا لا دخيلا في أصل تحقق الحكم وفعليته - كما عليه المشهور - ، فالتقدير - على ما قيل - دخيل في فاعلية الحكم لا في فعليته ، بل الحكم فعلي قبل تحقق التقدير.

المسلك الثالث : ان حقيقة الحكم التكليفي هي الإرادة والكراهة المبرزة والمظهرة ، فليس هو أمرا مجعولا كالاحكام الوضعيّة ، بل هو امر واقعي تكويني يترتب عليه الأثر العقلي والعقلائي عند إبرازه. وهذا مما قربه المحقق العراقي رحمه اللّه (2).

ولا يخفى ان المطلوب في المقام هو تحقيق انه في مورد الحكم التعليقي هل هناك امر شرعي قبل وجود المعلق عليه يمكن استصحابه أو لا؟

ص: 196


1- الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد. الأصول4/ 466 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 163 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ولا بد من تحقيق الكلام بلحاظ كل مسلك من هذه المسالك الثلاثة ، فنقول :

اما على الأول - وهو مسلك المشهور المنصور - : فالمتجه القول بعدم جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي لأن الثابت لدينا على هذا المسلك أمران :

أحدهما : ما يرتبط بمقام الإنشاء والجعل ، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلي ، وهو لا يرتبط بوجود الموضوع في الخارج ، لأنه متحقق ولو مع عدم الموضوع. ومن الواضح ان هذا مما لا شك في بقائه ، لأنه معلوم الثبوت والبقاء سواء وجد العنب - مثلا - أو انعدم ، وسواء تحقق الغليان أو لم يتحقق ، لأنه لا يرتبط الا بالموضوع الكلي لا بالخارج.

نعم يمكن ان يحصل الشك في بقائه من جهة الشك في النسخ ، وهذا مما لا يرتبط بما نحن فيه.

وثانيهما : ما يرتبط بمقام الفعلية والمجعول ، وهو الحكم الفعلي الثابت عند وجود موضوعه بشرائطه. ومن الواضح ان هذا الحكم لا يقين بحدوثه قبل تحقق المعلق عليه ، فلا معنى لاستصحابه.

وليس لدينا أمر شرعي آخر غير هذين ، ففي أي شيء يجري الاستصحاب؟.

ومن هنا يظهر ان استدلال صاحب الكفاية على جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي بان له نحو وجود ، ولذا كان موردا للخطابات الشرعية. غير وجيه ، لأن ما هو مورد للخطابات الشرعية هو الحكم الإنشائي الّذي عرفت الحال فيه.

نعم ، إذا ثبت ان الحكم الفعلي يكون له نحو وجود بتحقق أحد جزئي موضوعه ويكمل بحصول الجزء الآخر. وبعبارة أخرى : نقول - مثلا - ان الحرمة

ص: 197

المرتبة على العنب المغلي ، تكون فعلية من جهة عند تحقق العنب قبل الغليان ، فتثبت للعنب حرمة فعلية قبل غليانه ، أمكن على هذا استصحاب هذه الحرمة الفعلية من جهة لو شك في بقائها عند تبدل العنب إلى زبيب.

لكن هذا المعنى لا يعدو الفرض والخيال ، إذ لا ثبوت للحكم أصلا وبوجه من الوجوه قبل ثبوت موضوعه بكامل أجزائه كما هو مقتضى مفاد الإنشاء والجعل.

ودعوى : ان العنب قبل الغليان - مثلا - يتصف بالحرمة على تقدير غليانه ، وهذا لا ثبوت له في غير العنب كالبرتقال. ومن الواضح ان هذه الحرمة التي يتصف بها ليست بالحرمة الفعلية المتأخرة عن الغليان ولا الإنشائية ، لأنها واردة على الموضوع الكلي فيكشف ذلك عن وجود أمر وسط بين الحرمة الإنشائية والحرمة الفعلية التامة.

مندفعة : بان هذه الحرمة التقديرية التي يتصف بها العنب قبل غليانه لا حقيقة لها سوى الحرمة الفعلية الثابتة على تقدير الغليان التي يتعلق بها إدراك العقل من الآن ، فالعقل فعلا يدرك تلك الحرمة ، فيعبر عنها بالحرمة على تقدير الغليان ، لا أنها ثابتة بثبوت فعلي من جهة كما يحاول ان يدعي ، وقس ما ذكرناه في الأمور التكوينية فانه لو فرض ان العنب على تقدير غليانه يكون مسكرا فقبل غليانه يوصف بأنه مسكر على تقدير الغليان.

وهل يتوهم أحد ان الإسكار ثابت من جهة تحقق أحد جزئي موضوعه؟ ، بل هذا التعبير لا يعبر الا عن إدراك العقل لمرحلة فعلية الإسكار عند الغليان ، فهو إشارة إلى ذلك الوصف الفعلي الثابت عند تحقق كلا جزئي موضوعه ، بل لا مقتضي لأن نقول بأنه معنى انتزاعي عقلي ثابت بالفعل ، فليست الحرمة الفرضية والتقديرية أمرا وراء الحرمة الفعلية الثابتة في ظرفها ، بل هي تعبير عنها وإشارة إليها ، كما هو الحال في الأمور التكوينية التعليقية.

ص: 198

ومن هنا يظهر ان ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من إجراء الاستصحاب في الملازمة ليس بسديد ، إذ ليست الملازمة المفروضة الا تعبيرا آخر عن تحقق الحرمة عند تحقق كلا الجزءين وهو أمر واقعي متعلق لإدراك العقل ، فتدبر.

وجملة القول : ان إجراء استصحاب الحكم التعليقي على هذا المسلك مما لا أساس له.

فان قلت : هذا يتم بناء على مسلك المشهور في الإنشاء من كونه استعمال اللفظ بقصد التسبيب إلى الاعتبار العقلائي في وعائه المناسب ، إذ ليس لدينا سواء الإنشاء الّذي لا شك في بقائه ، والاعتبار العقلائي وهو الّذي لا يقين بحدوثه.

وأما بناء على مسلك صاحب الكفاية الّذي قربناه وقررناه من : انه التسبيب إلى وجود المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي في وعائه ، - فلا يتم منع استصحاب الحكم التعليقي ، وذلك لأن الحكم موجود بالفعل - قبل تحقق شرطه - بوجود إنشائي وان توقفت فعليته على تحقق شرطه. وهذا الحكم ثابت للفرد الخارجي من الموضوع ، لأن المنشأ - مثلا - هو حرمة شرب ماء العنب إذا غلى. ومن الواضح ان الشرب يرتبط بالعنب الخارجي ، فحرمة الشرب ثابتة للموضوع الخارجي. فالعنب عند وجوده تثبت له حرمه إنشائية ، فإذا شك في بقائها وزوالها بعد تبدل وصف العنبية إلى الزبيبية جرى استصحابها وترتب عليه الأثر.

نعم ، هذا يتم لو أخذ معروض الحرمة ذات العنب وكان الغليان ملحوظا شرطا. واما لو كان الغليان قيدا للموضوع بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي امتنع الاستصحاب لعدم ثبوت الحرمة الإنشائية لذات العنب بل العنب المغلي ، والمفروض عدم تحققه. فتدبر.

قلت : الحكم الإنشائي الّذي التزمنا به لا يعرض على كل فرد من افراد

ص: 199

الموضوع المأخوذ في العنوان ، بل معروضه هو نفس الكلي ، لكن بلحاظ وجوده في الخارج.

اما كون معروضه وموضوعه هو الكلي دون الافراد الخارجية ، فلأنه يوجد مع قطع النّظر عن تحقق فرد الموضوع خارجا ، بل هو ثابت حتى مع فرض عدم وجود أي فرد بالفعل لموضوعه ، بل قد يكون الداعي في جعل الحكم هو إعدام الموضوع كالاحكام الثابتة في باب الحدود.

واما لحاظ الوجود في الكلي المأخوذ في موضوعه ، فلأن الفعل المضاف إلى الموضوع - كالشرب بالنسبة إلى العنب - لا يضاف إليه بما هو كلي ، بل بما هو موجود في الخارج.

وإذا ظهر ان الحكم الإنشائي طار على الموضوع الكلي فقد عرفت انه لا يشك في بقائه الا من جهة النسخ ، نعم يشك في شموله للزبيب - مثلا - ، ومثله لا معنى لاستصحابه ، لأنه شك في الحدوث.

نعم ، إذا وجد فرد من الموضوع في الخارج تتحقق هناك إضافة بينه وبين الحكم من باب انه مصداق للموضوع الكلي. والشك في البقاء يطرأ على هذه الإضافة بعد تبدل وصف الفرد الخارجي ، كتبدل العنب إلى الزبيب.

ولكن من المعلوم ان هذه الإضافة ليست شرعية كي يتكفل الاستصحاب بقائها ، فلا يجري فيها الاستصحاب.

وبهذا البيان تعرف : ان ما أفاده المحقق الأصفهاني رحمه اللّه - من التفصيل في إجراء الاستصحاب في الحكم الإنشائي بين ما إذا كان الشرط كالغليان قيدا للموضوع ، بحيث كان الموضوع هو العنب المغلي فلم يلحظ في الموضوع إلا تقدير واحد ، وهو تقدير العنب المغلي وبين ما إذا كان شرطا للحكم لا قيدا للموضوع ، بحيث كان الموضوع هو العنب. فهنا تقديران : أحدهما تقدير العنب والثانية في تقدير الغليان. ففي الأول لا يجري الاستصحاب لعدم ثبوت

ص: 200

الحكم لذات العنب قبل الغليان ، لأنه مضاف إلى العنب المغلي ، والعنب ليس محكوما بالحرمة لا الإنشائية ولا الفعلية. وفي التقدير الثاني يجري ، لأن الحكم ثابت لذات العنب ومضاف إليه وان أخذ الغليان شرطا له ، لكنه مضاف إلى ذات العنب لا العنب المغلي ، فيقال : يحرم العنب إذا وجد وإذا غلا ، فقد أضيفت الحرمة إلى ذاته ، فمع وجوده تثبت له الحرمة فتستصحب عند تبدل الوصف إلى الزبيبية (1) ما أفاده قدس سره غير متجه ، لأنه مبني على كون الحكم الإنشائي ثابتا للافراد الخارجية رأسا ، وهو ما عرفت نفيه ، وان الحكم لا يثبت للفرد الخارجي ، بل يضاف إليه من باب انه مصداق للموضوع الكلي ، وهذه الإضافة ليست من الأمور الشرعية كي تستصحب.

والّذي يتحصل : ان الاستصحاب في الحكم التعليقي لا مجال له على هذا المسلك في جعل الأحكام.

وأما على المسلك الثاني : وهو الالتزام بفعلية المجعول من زمان الجعل وعدم إمكان انفكاكهما ، فقد يفصل بين صورة أخذ التقدير المعلق عليه الحكم غير الحاصل بالفعل قيدا لمعروض الحكم ، وصورة أخذه قيدا لنفس الحكم.

توضيح ذلك : ان الغليان المأخوذ في حرمة العنب ..

تارة : يلتزم بأنه دخيل في معروض الحكم بحيث يكون المعتبر بالفعل هو الحرمة المطلقة للعنب المغلي.

وأخرى : يلتزم بأنه دخيل في نفس الحكم ، بمعنى ان المعتبر بالفعل هو الحرمة المقيدة بالغليان والموضوع ذات العنب ، فالمعتبر حصة خاصة من الحرمة هي الحرمة على تقدير الغليان وهي ثابتة بالفعل ومعروضها هو العنب.

ففي الصورة الأولى : لا يجري استصحاب الحرمة. لأنها وان كانت ثابتة بالفعل : ان موضوعها هو العنب المغلي ، فالعنب قبل غليانه لا تثبت له تلك

ص: 201


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 89 - الطبعة الأولى.

الحرمة ، فمع تبدله إلى الزبيب لا يمكن استصحاب الحرمة لعدم ثبوتها له سابقا بل هي ثابتة للعنب الخاصّ.

وفي الصورة الثانية : يجري الاستصحاب ، لأن العنب كان معروضا للحرمة الخاصة ، فتستصحب عند تبدله إلى الزبيب ، ويترتب عليها الأثر عند حصول الغليان.

ولكن يشكل هذا التفصيل ، لأجل الإشكال في مبناه ، وهو اعتبار الحرمة على تقدير متأخر ، فانه قد مر الإشكال فيه ، وانه يستحيل ان تعبر بالفعل الحرمة على تقدير متأخر بحيث يكون لها وجود فعلي قبل حصول التقدير ، فراجع مباحث الواجب المشروط. ولا حاجة إلى إطالة الكلام فيه فعلا.

واما على المسلك الثالث - الّذي قرّبه المحقق العراقي - : وهو الالتزام بان حقيقة الحكم التكليفي ليست إلاّ الإرادة والكراهة المبرزتان بالإنشاء ، وليست هي حقيقة جعلية كحقيقة الحكم الوضعي بل هي حقيقة واقعية.

فقد قرب المحقق العراقي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي ، ببيان : ان الإرادة بما انها من الأوصاف الوجدانية التي تعرض على الصور الذهنية لا من الأمور الخارجية ، لم يكن وجودها منوطا بحصول الشرط في الخارج ، بل الشرط هو الوجود الفرضي اللحاظي ، وهو حاصل بالفعل ، فالإرادة متحققة فعلا بلا ان يعلق وجودها على وجود الشرط خارجا ، وانما يكون وجود الشرط دخيلا في فاعلية هذه الإرادة ومحركيتها. وإذا كان الحكم فعليا دائما كان مجرى الاستصحاب عند تبدل حالة الموضوع ، ولم يكن فيه إشكال.

ولكن ما أفاده قدس سره مردود من وجهين :

الأول من جهة أصل المبنى ، وهو الالتزام بان الحكم حقيقته الإرادة وليس هو من الأمور الجعلية فانه غير صحيح ، فان المرجع في تشخيص ذلك هو الأحكام العرفية المنشأة من قبل الموالي. ومن الواضح ان المحسوس ان المولى

ص: 202

يقوم بجعل الحكم لا مجرد إبراز الإرادة ، كيف؟ ولازمه عدم صحة الحكم في مورد تكون المصلحة فيه نفسه لا في متعلقه ، إذ في مثل ذلك لا تكون هناك إرادة متعلقة بالفعل لأنها تتبع المصلحة فيه ، مع ان ثبوت الأحكام في مثل هذا المورد لا يقبل الإنكار.

هذا مع انه يستلزم عدم قابلية الحكم للجعل الظاهري والتعبد به ظاهرا ، لأنه امر واقعي لا يقبل الجعل ، كما انه يستلزم عدم قابليته لرفعه منّة ، إذ ارتفاع الإرادة الارتفاع المصلحة لا منّة فيه. فما أفاده إنكار لما هو المسلم المعروف ولا يمكننا الأخذ به.

الوجه الثاني : من جهة البناء ، فانه لو سلم بان الحكم حقيقته الإرادة ، فالالتزام بفعلية الإرادة قبل تحقق الشرط لا نسلمه ، بيان ذلك : ان القيود الدخيلة في المصلحة على قسمين :

أحدهما : ما كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وكونه ذا مصلحة ، نظير المرض بالنسبة إلى الدواء ، فان الدواء لا مصلحة فيه إذا لم يحصل المرض.

والآخر : ما كان دخيلا في فعليه المصلحة وترتبها على الفعل ، كجعل الدواء مدة معينة على النار الدخيل في تأثيره في رفع المرض وترتب المصلحة.

ولا يخفى ان القسم الأول من القيود يعبّر عنه بقيود الموضوع ، لأخذها في موضوع الحكم ، بحيث يترتب الحكم على وجودها. بخلاف القسم الثاني ، فانهما قيود المتعلق ، ولذا تؤخذ في المتعلق ويكون للحكم تحريك ودعوة نحوها.

ومن الواضح ان القسم الأول دخيل في تحقق الإرادة بحيث انه لا تتحقق الإرادة قبل وجوده خارجا ، فلا شوق لاستعمال الدواء قبل حصول المرض ، ولا شوق للأكل قبل حصول الجوع وهكذا ، وهذا آمر لا يكاد ينكره الوجدان. وكون متعلق الإرادة هو الوجود الذهني لا ينافي ما قلناه ، لأن هذه القيود ليست مأخوذة في المتعلق ، بل هي دخيلة في تحقق أصل الإرادة لا انها

ص: 203

معروضة للإرادة. اذن فكون الحكم التكليفي هو الإرادة لا يلازم تحققه بالفعل ، وقبل تحقق موضوعه بشرائطه.

ما أفاده لا يبعد ان يكون خلطا بين قيود المتعلق المعروض للإرادة بوجوده الذهني وقيود الموضوع الدخيل في نشوء الإرادة وعروضها على متعلقها.

ودعوى : ان الإرادة موجودة فعلا ، وانما هي متعلقة بالفعل على تقدير الموضوع.

منافية للوجدان الّذي لا يحس بالشوق قبل حصول الموضوع ، بل قد يحس بالفعل بعكس الشوق ، فلاحظ.

وبالجملة : ما أفاده قدس سره ممنوع مبنى وبناء. فتدبر.

والّذي يتضح لدينا من جميع ما ذكرناه : انه لا مجال لجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي.

ثم انه لو سلمنا تمامية المقتضي لجريان الاستصحاب فيه. فقد يشكل : بأنه محفوف بالمانع دائما ، وهو المعارض ، وذلك لأن المحكوم بالحرمة التعليقية - مثلا - محكوم بالحلية التنجيزية قبل حصول المعلق عليه بالحرمة ، فبعد حصوله يستصحب الحكم التنجيزي ، فيتحقق التعارض بين الاستصحابين دائما ، ففي مثال الزبيب إذا حكم بحرمته على تقدير الغليان بواسطة الاستصحاب ، يعارض ذلك باستصحاب حليته المنجزة الفعلية المتيقنة قبل الغليان ، فيكون مقتضاه الحلية بعد الغليان ، ومقتضى استصحاب الحرمة التعليقية هو الحرمة بعد الغليان ، فيتعارضان.

وقد تصدى الاعلام (قدس سرهم) لدفع هذا الإشكال. وعمدة ما قيل في دفعه وجهان :

الوجه الأول : ما أفاده في الكفاية من : أن الحلية الثابتة للعنب ليست حلية مطلقة ، بل هي حلية مغياة بالغليان ، فالغليان كما هو شرط للحرمة كذلك

ص: 204

هو غاية للحلية. وعليه فمع تبدل حالة العنب إلى الزبيب ، فكما يستصحب الحرمة التعليقية الثابتة أولا كذلك يستصحب الحلية المغياة ولا تعارض بين هذين الاستصحابين لعدم التنافي بين الحكمين ، كما كانا ثابتين في حالة القطع ، ومقتضى الاستصحاب انتفاء الحلية عند حصول الغليان لحصول الغاية.

وجملة القول : ان الحلية الثابتة للزبيب قبل الغليان حلية خاصة لا تتنافى مع الحرمة المعلقة بوجه من الوجوه وهي الحلية المغياة (1).

وتحقيق الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية : أن الغاية الثابتة للحلية اما ان تكون عقلية ، واما ان تكون شرعية.

وعلى الثاني : اما ان يكون مفاد دليل الغاية نفي الحكم بعدها لا أكثر ، فيرجع الدليل الدال على الحكم المغيا إلى بيان امرين : أحدهما : ثبوت الحكم مستمرا إلى الغاية. والآخر : نفيه بعد حصولها.

واما ان يكون مفاد دليل الغاية بيان خصوصية وجودية لازمها الانتفاء فيما بعد الغاية ، ونظير هذا الترديد ما يقال في أداة الاستثناء. وان انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى منه عن المستثنى هل هو بالمنطوق أو بالمفهوم؟ فراجع.

وعليه ، نقول : انه لا شك في ان استصحاب الحلية المغياة لا يجري بلحاظ ما بعد الغاية للقطع بارتفاع تلك الحلية عند حصول الغاية. وانما الملحوظ في جريان الاستصحاب هو زمان ما قبل حصول الغاية. ومن الواضح ان أصل الحلية قبل حصول الغاية لا يشك فيها للقطع بثبوتها ، وانما المشكوك هو خصوصية كونها مغياة وعدمه بعد ان كانت ثابتة ، فالاستصحاب انما يجري في بقاء هذه الخصوصية للحلية فالمستصحب هو ثبوت كون الحلية مغياة.

وحينئذ يقال :

ان الغاية ان كانت عقلية فلا مجال لاستصحابها ، لأن الاستصحاب

ص: 205


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 412 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يجري في الأمور الشرعية.

وان كانت شرعية ، فان كان مرجعها إلى عدم ثبوت الحكم فيما بعدها لا أكثر بلا ان تكون هناك خصوصية وجودية ، فمرجع الشك فيها إلى الشك في بقاء الحلية بعد حصول الغاية وعدم بقائها ، والمفروض ثبوت الحلية قبل الغاية فلا مجال الا لاستصحاب الحلية بعد الغاية لا عدمها. نعم ان كان مرجعها إلى ثبوت خصوصية وجودية تلازم عدم الحكم فيما بعدها ، فالشك فيها شك في بقاء تلك الخصوصية فتستصحب ، ولازمها انتفاء الحكم عند حصولها.

اذن فاستصحاب المغياة بالنحو الّذي أفاده انما يأتي على التقدير الأخير ، وهو غير ثابت ، وذلك لأن ثبوت أخذ الغليان - مثلا - غاية للحلية شرعا انما هو بدليل العقل ، باعتبار ان الحرمة الثابتة بعد تحققه لا يمكن ان تجتمع مع الحلية للتضاد ، فالدليل الدال على الحرمة بعد الغليان يقتضي بحكم العقل انتفاء الحلية بعده. ومن الواضح ان مفاد هذا ليس إلاّ ارتفاع الحلية عند الغليان ، فيكون مرجع الغاية هاهنا إلى نفس عدم الحلية بعد الغليان لا إلى خصوصية وجودية تلازم ارتفاع الحلية ، فالمشكوك رأسا هو ارتفاع الحلية وعدمه لا بقاء الخصوصية وعدمه.

وبالجملة : دليل الغاية ليس دليلا شرعيا لفظيا كي يستفاد منه خصوصية وجودية تلازم الانتفاء فيما بعد الغاية - لو سلم ذلك في نفسه - ، بل هو دليل عقلي ومرجعه إلى ما عرفت من الحكم بالانتفاء فيما بعد الغاية رأسا. فتدبر.

فالمتحصل : ان ما أفاده قدس سره لا يمكن الموافقة عليه.

ثم انه لو فرض جريان هذا الاستصحاب بالنحو الّذي قربناه من كون مرجع الغاية إلى تقيد الحكم بخصوصية وجودية ، فيستصحب ذلك التقيد ولازمه انتفاء الحكم فيما بعد تحقق الغاية. فلا مجال لما أورد عليه من معارضته باستصحاب الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان بنحو استصحاب الكلي ، للعلم

ص: 206

بثبوت كلي الحلية الفعلية الثابتة قبل الغليان ، ويشك في ارتفاعه بعد الغليان للشك في خصوصية الفرد الحادث فتستصحب الحلية ، ويكون من مصاديق القسم الثاني من استصحاب الكلي.

والوجه في عدم ورود هذا الإيراد : ان استصحاب الحلية المغياة بالنحو الّذي ذكرناه لا يبقي مجالا لاستصحاب كلي الحلية ..

اما على الالتزام بان العلم التفصيليّ بثبوت فرد معين مع احتمال انطباق الكلي المعلوم بالإجمال عليه يستلزم انحلال العلم الإجمالي تكوينا. فهو واضح لو قلنا بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين الواقع لا فرد آخر مماثل له. وذلك لأنه باستصحاب الحلية المغياة نعلم بثبوت الحلية المغياة فعلا ، ونحتمل ان تكون هي الحلية الواقعية المتعلقة للعلم الإجمالي ، ونحتمل ان لا تكون هي لاحتمال كون الحلية الواقعية مطلقة.

وعليه ، فينحل العلم الإجمالي تكوينا ، فلا يقين لدينا الا بفرد معين دون الجامع ، فلا مجال للاستصحاب ، لعدم اليقين بحدوث الكلي المردد بين فردين بعد فرض الانحلال حقيقة.

وأما لو لم نقل بالانحلال الحقيقي باحتمال الانطباق على الفرد المعلوم بالتفصيل ، أو لم نقل بان الحكم الظاهري على تقدير مصادفته للواقع هو عين الواقع ، بل فرد مماثل له غيره ، فلا ينحل العلم بكلي الحلية المردد بين انطباقه على الحلية المغياة والحلية المطلقة حقيقة ، لكنه ينحل حكما باستصحاب الحلية المغياة ، ويترتب على الانحلال الحكمي نظر المورد نفسه عدم جريان الاستصحاب فيه كمورد الانحلال الحقيقي. نعم لو لم نقل بتأثير الانحلال الحكمي إلا في رفع منجزية العلم الإجمالي ، فلا تأثير له في استصحاب الكلي بقاء ، لكنه خلاف ما يلتزم به المورد نفسه. فهذا الإيراد لا يصلح صدوره من مثله.

فالتحقيق في الإيراد على صاحب الكفاية ما ذكرناه.

ص: 207

الوجه الثاني : ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من : ان استصحاب الحرمة المعلقة حاكم على استصحاب الحلية المطلقة ، وعلل ذلك : بان الشك في الحلية مسبب عن الشك في الحرمة المعلقة ، فيكون الاستصحاب في الحرمة سببيا والاستصحاب في الحلية مسببا ، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي (1).

وقد ذكر هذا الوجه المحقق النائيني رحمه اللّه وقد أورد عليه في بعض الكلمات : بأنه لا سببية ومسببية بين الحرمة المعلقة والحلية المطلقة ، بل هما حكمان متضادان يعلم إجمالا بثبوت أحدهما ، فهما في مرتبة واحدة. هذا مع انه لو سلمت السببية والترتب بينهما فهو ليس بشرعي بل عقلي ، فان ثبوت الحرمة المعلقة لازمها عقلا عدم الحلية على تقدير الغليان ، لا بحكم الشارع (2).

والتحقيق : ان استصحاب الحرمة المعلقة وان لم يكن سببيا بلحاظ استصحاب الحلية لما ذكر ، إلاّ انه مقدم عليه بنفس ملاك تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي.

وتوضيح ذلك : ان ملاك تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي هو ما أشير إليه في الكفاية (3) وأوضحناه في محله من : ان العمل بالأصل السببي لا يلزم منه محذور ، إلاّ ان الأخذ بالأصل المسببي ورفع اليد عن السببي اما ان يكون بلا وجه أو بوجه دائر ، لأن الأخذ به مبني على عدم جريان الأصل السببي الرافع لموضوعه ، وهو متوقف على تخصيص دليله بواسطة العلم بالأصل المسببي فيلزم الدور.

وهذا الملاك يجري فيما نحن فيه ، فان استصحاب الحرمة التعليقية الجاري قبل الغليان يلزمه ترتب الحرمة عند الغليان ، وهذه الملازمة وان كانت

ص: 208


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 380 الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 473 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /431- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عقلية ، لكن اللاّزم لازم أعم للحرمة المعلقة الواقعية والظاهرية ، فان المجعول يثبت بثبوت الجعل ظاهرا.

وعليه ، فالاستصحاب المزبور يبين حكم الشك في الحرمة والحلية بعد الغليان ويتكفل إثباته ، فهو ينظر إلى مؤدى استصحاب الحلية الجاري بعد الغليان.

وأما استصحاب الحلية ، فهو لا يتكفل بيان حكم الشك في الحرمة المعلقة ولا يترتب عليه نفيها ، فالأخذ به وطرح استصحاب الحرمة المعلقة اما ان يكون بلا وجه أو بوجه دوري ، يعني يكون متوقفا على الأخذ باستصحاب الحلية المتوقف على سقوط استصحاب الحرمة ، إذ لا يمكن الأخذ بهما معا ، وليس الأمر كذلك لو أخذ باستصحاب الحرمة المعلقة ، فان طرح استصحاب الحلية يكون بواسطة تكفل استصحاب الحرمة المعلقة لحكم الشك فيها ، لأنه كما عرفت يتكفل بيان حكم فردين من الشك ، فلا يكون بلا وجه أو بوجوه دائر. فتدبر جيدا.

وبعبارة أخرى : ان لدينا شكين : أحدهما : الشك في الحرمة المعلقة وثانيهما الشك في الحلية الفعلية بعد الغليان. واستصحاب الحرمة المعلقة يتكفل بيان حكم كلا الشكين ، واما استصحاب الحلية الفعلية ، فهو لا ينظر إلى الشك في الحرمة المعلقة ولا يتكفل بيان حكمها.

وعليه ، فالأخذ به يستلزم طرح استصحاب الحرمة المعلقة بلا وجه. بخلاف الأخذ باستصحاب الحرمة ، فان عدم العمل باستصحاب الحلية يكون بسب تصدي استصحاب الحرمة لبيان حكم الشك ، فلا يكون رفع اليد عن مقتضى استصحاب الحلية بلا وجه.

والمتحصل : ان إشكال المعارضة مندفع. نعم العمدة في الإشكال في استصحاب الحكم التعليقي هو دعوى قصور المقتضي كما مر بيانه وتقريبه.

ص: 209

هذا كله في جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام.

ولا بأس بإلحاقه بالتكلم في جريان الاستصحاب التعليقي في الموضوعات - على تقدير الالتزام بجريانه في الأحكام - وهو لا يخلو عن فائدة عملية ، كما لو شك في كون اللباس من مأكول اللحم أو لا ، فانه يقال ، كانت الصلاة قبل لبس هذا الثوب المشكوك لو وجدت ليست في ما لا يؤكل لحمه ، والآن هي كذلك ونحو هذا المثال كثير.

وقد مرّ في الكلام في التدريجيات إجراء استصحاب كون الإمساك نهاريا ، والتنبيه على انه من الاستصحاب التعليقي - بلحاظ بعض تقاديره -.

والتحقيق : انه لا مجال لجريان الاستصحاب فيها أصلا ، إذ ليس هنا امر شرعي يكون مجرى الاستصحاب أو يكون إجراء الاستصحاب بلحاظه. وذلك لأن الحكم الشرعي متعلق بالطبيعة الخاصة بلحاظ وجودها.

اما الفرد الخارجي الموجود ، فهو مسقط للتكليف وليس متعلقا له ، فما يترتب على الفرد الخارجي هو سقوط التكليف ، وهو من آثار الوجود الفعلي للطبيعة وما هو متعلق الأمر هو نفس الطبيعة على تقدير وجودها.

ولا يخفى ان ما شك في واجديته للشرط الّذي يراد استصحابه أجنبي عن متعلق الأمر ، إذ لا شك في مقام تعلق الأمر ، وانما الشك في مرحلة انطباق الطبيعي وتحققه في الخارج وهذا لا يرتبط بالشارع ولا أثر له شرعا ، لأن الحكم الشرعي مرتب على الطبيعة لا الفرد الخارجي. كما انه أجنبي عن مرحلة سقوط الأمر لأن سقوط الأمر يتحقق بالفرد الموجود فعلا لا تقديرا. اذن فمجرى الاستصحاب لا يرتبط لا بمقام تعلق الأمر ولا بمقام سقوطه ، فأي أثر شرعي يترتب على جريان الاستصحاب فيه. نعم لازم الاستصحاب انّ الفرد المتحقق في الخارج يكون من مصاديق المأمور به ، وهذا ليس بلازم شرعي كما لا يخفى.

وبالجملة : الاستصحاب التعليقي في الأمور الخارجية من متعلقات

ص: 210

الأحكام أو موضوعاتها لا أساس له ولا يمكن الالتزام به فلاحظ.

التنبيه الخامس : في استصحاب عدم النسخ

التنبيه الخامس : في استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة وبالنسبة إلى أحكام هذه الشريعة الثابتة في صدر الإسلام (1).

وقد ذكر لهذا المبحث ثمرات أشار إليها الشيخ رحمه اللّه .

التنبيه السادس : في الأصل المثبت.

وتحقيق الكلام : ان مجرى الاستصحاب تارة يكون حكما شرعيا. وأخرى يكون موضوعا شرعيا لحكم شرعي. وثالثة لا يكون حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي ، وانما هو ملازم لما هو موضوع للحكم الشرعي بالملازمة غير الشرعية.

ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم ، فيبحث في ان الاستصحاب هل يجري لإثبات الآثار الشرعية غير المترتبة شرعا على المستصحب وانما تترتب على ما يلازمه أو لا يجري؟.

وبتعبير آخر : الكلام في ثبوت الآثار غير الملازمة شرعا للمستصحب.

والمتجه ان يقال : ان دليل الاستصحاب على اختلاف المباني في المجعول فيه من كونه المتيقن أو الموصول والطريقية أو اليقين بلحاظ الجري العلمي أو لزوم الالتزام ، لا يتكفل سوى التعبد في حدود اليقين السابق ، فما كان على يقين منه هو مجرى الاستصحاب وهو موضوع التعبد ، فلا يتصدى إلى أكثر من ذلك. وعليه فلا يتعبد باللازم العقلي أو العادي للمستصحب ، لأنه ليس مورد اليقين السابق - لفرض كونه ملازما بقاء وإلاّ كان هو مجرى الاستصحاب نفسه - ، كما

ص: 211


1- وبما ان السيد الأستاذ - دام ظله - لم يزد على ما جاء في الكفاية من النقض والإبرام لعدم الضرورة في الإطالة ، أهملنا كتابة ما أفاده اتّكالا على الكفاية نفسها ، فان فيها غنى وكفاية. واللّه سبحانه الموفق العاصم وهو حسبنا ونعم الوكيل.

لا يتعبد بأثره ، لأنه ليس من أحكام المستصحب ، بل من أحكام لازمه الّذي لم يتحقق التعبد به.

وبعبارة أخرى : ان دليل الاستصحاب يتكفل النهي عن نقض اليقين بالشك ، فمفاده ليس إلاّ التعبد في حدود المتيقن والمشكوك لا أزيد من ذلك ، فما ليس متعلقا لليقين والشك لا نظر لدليل الاستصحاب إليه.

وقد يقرب شمول التعبد للآثار المترتبة على لوازم المستصحب بوجهين :

الأول ان دليل الاستصحاب يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن السابق معاملة البقاء بحيث يفرض الشاك نفسه متيقنا بالمشكوك ، ولازم ذلك العمل بكل ما ينشأ من يقينه به أعمّ من ان يكون ترتبه بواسطة عقلية أو عادية أو غير واسطة.

ولعل هذا الوجه هو ما يشير إليه في الكفاية من : انّ التعبد بالشيء تعبد بلوازمه ، لاتحاد جوابه عنه مع جواب الشيخ قدس سره (1).

فقد أجاب عنه الشيخ رحمه اللّه : بان دليل الاستصحاب وان كان يتكفل ذلك ، لكنه يتكفل لزوم العمل بكل عمل ينشأ من تيقنه بالمشكوك خاصة دون العمل الناشئ من اليقين بملازمته. ومن الواضح ان آثار الواسطة تترتب بلحاظ اليقين بالواسطة لا اليقين بذي الواسطة ، والمفروض ان التعبد انما كان باليقين بذي الواسطة خاصة لأنه هو مورد اليقين السابق ولا ينفع في ترتب آثار الواسطة (2).

الوجه الثاني : ان أثر الواسطة أثر لذي الواسطة ، فإذا كان التعبد بالمستصحب بلحاظ اثره - كما هو المفروض - ترتبت الآثار المترتبة بواسطة لأنها من آثاره عرفا.

وهذا الوجه باطل ، وذلك لأنه لم يرد في دليل التعبد لفظ الأثر وعنوانه

ص: 212


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /383- الطبعة الأولى.

كي يقال ان أثر الأثر أثر ، بل التعبد بالموضوع انما هو بلحاظ التعبد بحكمه العارض عليه صونا للتعبد عن اللغوية ، لأن الموضوع لا يقبل التعبد. ومن الواضح ان الحكم الثابت للواسطة لا معنى لأن يقال انه ثابت لذي الواسطة ولا محصل له ، فان نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة العارض إلى معروضه لا نسبة المعلول إلى علته والأثر إلى مؤثره. ومن الواضح ان العارض على اللازم لا يكون عارضا على الملزوم ولو قيل بان أثر الأثر أثر.

وبالجملة : الوجه المزبور مبنى على الخلط بين الأثر بمعنى المسبب والمعلول ، والأثر بمعنى الحكم العارض على المستصحب. وما يكون التعبد بلحاظه هو الثاني ، ولم يؤخذ عنوان التعبد بالأثر في دليل الاستصحاب وانما لوحظ واقع التعبد به وهو راجع إلى التعبد بحكم المستصحب القابل للتعبد ، وحكم الواسطة ليس حكما لذيها.

هذا مع اختصاص هذا الوجه بما كانت الواسطة مترتبة على المستصحب ولازمة له ، فلا يشمل ما إذا كانت ملزومة له أو كانا لازمين لملزوم واحد ، إذ لا تكون الواسطة في هذين الموردين أثر للمستصحب كي يكون أثرها أثر له.

وجملة القول : ان عمدة إنكار الأصل المثبت هو ما ذكرناه. ونبه عليه الشيخ وتبعه غيره من : ان الّذي يتكفله الاستصحاب هو التعبد في حدود ما كان على يقين منه ، ولا يتعداه لغرض كون المنهي عنه نقض اليقين بالشك ، فالمنظور هو اليقين السابق ، فلا يتكفل التعبد بما ليس متعلقا لليقين السابق من اللوازم ولا بآثارها ، لعدم ثبوت موضوعهما ، والمفروض انها ليست أحكاما للمستصحب.

ولا يخفى ان ما ذكرناه لا يختلف الحال فيه باختلاف المجعول في باب الاستصحاب ، بل يتأتى على جميع المباني ، لأن مرجعه إلى ضيق موضوع التعبد بمقتضى دليله أي شيء كان المتعبد به من اليقين أو المتيقن أو غير ذلك. ومنه

ص: 213

يظهر التسامح الواقع في كتابي الرسائل والكفاية من ظهور بناء مسألة الأصل المثبت على جعل الحكم المماثل لذكر ذلك تمهيدا للبحث الظاهر في ارتباطه به ، إذ لو لا ارتباطه به لما اتجه ذكره كما لم يذكره في سائر التنبيهات.

ثم انه يؤاخذ صاحب الكفاية بأمرين آخرين :

أحدهما : ما ذكره في مقام بيان حجية الأصل المثبت من : ان التعبد بالمستصحب تعبد به بلوازمه العقلية والعادية ، كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات (1).

فان هذا هو عين الدعوى ، وكان ينبغي ان يذكر وجه ذلك ، واما الاكتفاء بمجرد الدعوى فهو بعيد عن الأسلوب العلمي.

هذا مع انه سيأتي منه إنكار ذلك حتى في الأمارات ، وإرجاع التعبد بلوازم المؤدى فيها إلى جهة أخرى.

ثانيهما : ما ذكره من انّ أثر الأثر أثر ، ونفاه بقصور مقام الإثبات لعدم إطلاق دليل الاستصحاب ، والمتيقن منه التعبد بالمستصحب بلحاظ آثار نفسه لا آثار لازمه (2).

فانك عرفت انّه لا وقع لهذا الكلام - أعني أثر الأثر أثر في هذا المقام - ، وانه أجنبي عنه بالمرة فلا وجه لتسليمه هاهنا وردّه بقصور الدليل. فانتبه.

وقد تصدى المحقق النائيني رحمه اللّه إلى تحقيق أصل المطلب ، فذهب إلى عدم حجية الاستصحاب المثبت لقصور مقام الثبوت دون مقام الإثبات.

وذكر في وجه ذلك : ان دليل الاستصحاب يتكفل التعبد باليقين بلحاظ الجري العملي بلا نظر إلى الواقع ، فلا يثبت به سوى الجري العملي بالمقدار الثابت من التعبد ، وهو مقصور على مورد اليقين والشك لأخذه في موضوعه ، فلا يلزم سوى ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على نفس المتيقن لعدم اليقين والشك

ص: 214


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- 415 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- 415 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بلوازمه وملزوماته.

ثم تعرض لوجه تعميم التعبد إلى آثار الواسطة ببيان : ان أثر الأثر أثر.

ورده : بان الأثر المترتب على الأثر إذا كان من سنخه ، كما إذا كانا تكوينيين وتشريعيين ، فلا ريب ان أثر الأخير أثر لما يترتب عليه الأثر الأول ، اما في التكوينيات فظاهر لأن معلول المعلول معلول للعلة الأولى. واما في التشريعيات ، كما لو ترتب على ملاقاة - النجس - نجاسة اليد ، وترتب على ملاقاتها نجاسة الثوب وهكذا ، فانّ الآثار الطولية مترتبة بأجمعها على الملاقاة الأولى ومن أحكامها ، فإذا جرى الاستصحاب وثبت به نجاسة شيء ترتب عليه نجاسة ملاقيه ولو بألف واسطة.

واما إذا لم يكونا من سنخ واحد ، كما إذا ترتب حكم شرعي على معلول تكويني لشيء ، فلا يصح القول بان أثر الأثر أثر ، لأن الأحكام الشرعية لا تترتب على موضوعاتها ترتب المعلول على العلة ، فلا يكون الحكم الثابت للمعلول حكما ثابتا للعلة. هذا خلاصة ما أفاده في المقام (1).

أقول : اما ما أفاده في إنكار الأصل المثبت الراجع إلى بيان قصور التعبد ثبوتا ، فهو مستقى مما أفاده الشيخ رحمه اللّه الّذي تقدم ذكره.

واما ما أفاده في رد القول بان أثر الأثر أثر ، فيرد عليه ان الملحوظ ان كان عنوان الأثر المساوق للمعلول ، فهذه القاعدة تامة سواء كانت الآثار الطولية من سنخ واحد أو من سنخين ، فان المعلول الشرعي للمعلول التكويني معلول للعلة الأولى لا محالة وان كان الملحوظ هو الحكم العارض على موضوعه ، فهو غير مسلم حتى مع كون الآثار من سنخ واحد ، كما في مسألة الملاقاة ، لما عرفت ان حكم اللازم لا يكون حكما للملزوم.

نعم جميع هذه الأحكام الطولية تترتب لكن بواسطة التعبد بموضوعاتها

ص: 215


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 488 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لا بواسطة التعبد بالملاقاة الأولى فقط ، فتسليمه القاعدة مع وحدة النسخ دون اختلافه مبني على الخلط بين الأثر بمعنى المعلول والأثر بمعنى الحكم.

وقد تقدم منا الكلام في تطبيق هذه القاعدة في المقام وانه لا محصل له أصلا.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه استثنى من عدم حجية الأصل المثبت ما لو كانت الواسطة خفية بنظر العرف ، بحيث يعد العرف الأثر المترتب على الواسطة مترتبا على المستصحب مباشرة ومن أحكامه ، فيكون عدم ترتيبه نقضا لليقين بالشك. ومثّل له باستصحاب الرطوبة في الملاقي - بالفتح - لإثبات نجاسة ملاقيه ، مع ان النجاسة من آثار السراية عرفا لا مجرد رطوبة الملاقي ، والسراية والتأثر برطوبة الملاقي من لوازم رطوبته ، لكنها من اللوازم الخفية (1).

وقد تابعة على ذلك صاحب الكفاية وأضاف عليه صورة جلاء الواسطة ووضوحها بنحو يمتنع التفكيك عرفا بين المستصحب والواسطة تنزيلا ، كما لا تفكيك بينهما واقعا ، ويكون التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، ومثل له بمثالين :

الأول : العلة التامة والمعلول ، فان التعبد بالعلة مستلزم للتعبد بالمعلول.

والثاني : المتضايفان كالأبوة والبنوة ، فان التعبد بالأبوة تعبد بآثار البنوة أيضا ، لوضوح الملازمة بينهما (2).

واستشكل المحقق النائيني قدس سره في ذلك ببيان : ان العرف انما يكون متبعا في تعيين مفاد الدليل ، فقد يفهم العرف من دليل الحكم ثبوته للأعم أو الأخص ، كما يكون متبعا في تشخيص ما هو مقوم للموضوع وما هو من حالاته ومن الجهات التعليلية بحسب مرتكزاته ، وما يراه من مناسبات الحكم والموضوع ، ليتحقق بقاء الموضوع عند زوال تلك الخصوصية على الثاني دون الأول ، ويكون الرجوع إلى العرف في ذلك باعتبار انه الرجوع إليه في تعين مفاد لفظ النقض الوارد في أدلة الاستصحاب.

ص: 216


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /386- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /415- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

واما في غير هذين الموردين فلا يكون نظر العرف متبعا ، لأن العرف لا يرجع في مقام التطبيق والتشخيص.

وعليه ، فان كان المراد من خفاء الواسطة ان الحكم - بنظر العرف بحسب فهمه من الدليل أو بحسب مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة لديه - ثابت وعارض على ذي الواسطة ، وتكون الواسطة من علل ثبوت الحكم ، فهو راجع إلى إنكار الواسطة لكون معروض الحكم هو ذو الواسطة رأسا. وان كان المراد به ان الحكم ثابت للواسطة ، لكن لخفائها يرون ان انه أحكام ذيها من باب التسامح في التطبيق ، فهو لا عبرة به كما عرفت (1).

واما أفاده قدس سره متين بل نقول : ان ما أفيد من ان العرف عند خفاء الواسطة يرى ان الأثر الثابت للواسطة أثر لذيها ليس بسديد ، وذلك لما عرفت ان المراد بالأثر هو الحكم العارض على موضوعه. ومن الواضح ان حكم الواسطة لا يعد حكما لذيها بنظر العرف مهما كانت الواسطة خفية ، فان العارض على اللازم لا يكون عارضا على الملزوم.

اذن فما أفاده الشيخ قدس سره من استثناء صورة خفاء الواسطة من عدم حجيته الأصل المثبت ممنوع كبرويا.

واما ما ذكره مثالا له من مورد استصحاب الرطوبة لإثبات الانفعال الّذي هو من آثار السراية والتأثر فتحقيق الكلام فيه :

أن أدلة الانفعال بملاقاة النجس أو المتنجس لا تقتضي الانفعال بمجرد الملاقاة ، ولو مع عدم الرطوبة المسرية في كلام المتلاقيين ، وذلك ان الشارع قد اعتمد في كيفية الانفعال على تشخيص العرف بملاحظة كيفية الانفعال بالقذارات الخارجية الحقيقية وبما ان التعذر في تلك الموارد دائما يحصل مع رطوبة الحد المتلاقيين بحيث تكون الملاقاة ملاقاة للرطب المساوق لتأثره وسراية بعض

ص: 217


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 494 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الاجزاء القذرة إليه ، ثبت ذلك في مورد القذارات الشرعية الاعتبارية ، فان السراية حقيقة وان كانت غير متصورة فيها بعد فرض كون النجاسة الشرعية اعتبارية لا واقعية ، إلاّ ان كيفية انفعال الملاقى فيها مثل كيفية انفعاله في القذارات الخارجية. وقد عرفت انه قد يتوقف على رطوبة أحد المتلاقيين بحيث يتحقق التأثر. فالمراد بالسراية الملحوظة هاهنا ليس السراية الحقيقية كي يقال بأنها غير مقصودة فيما نحن فيه ، بل يراد ان موضوع الحكم بالانفعال هو ملاقاة الرطب النجس بحيث تستند الملاقاة إلى الرطب بما هو رطب وهذه جهة مقومة بنظر العرف نظير تقوم التقليد بالعلم والزكاة بالفقر ، فان الحكم بالقذارة عرفا لا يكون إلاّ بملاحظة هذه الجهة وبدونها لا تقذر ولا قذارة. وعليه فموضوع الأثر هو ملاقاة الرطب ، فكما ان الملاقاة والرطوبة دخيلتان في ترتب الأثر كذلك إضافة الملاقاة إلى الرطب وتقيدها ذلك ، بحيث تكون الملاقاة ملاقاة الرطب.

وعليه ، فباستصحاب الرطوبة لا يمكن إثبات الانفعال لعدم إحراز كون الملاقاة ملاقاة الرطب.

وبعبارة أخرى : لا يجوز إضافة الملاقاة إلى الرطوبة المفروض انه لخصوصية مقومة للموضوع ، ولا معنى لا ثبات الأثر بمجرد استصحاب الرطوبة ببيان : ان أثر الواسطة الخفية أثر لذيها ، إذ المفروض ان الرطوبة دخيلة في الأثر في حد نفسها ومع قطع النّظر عن الواسطة ، وانما يشك في ترتب الأثر للشك في تحقق جزء الموضوع ، وهذا مما لا يثبت بالاستصحاب. وعليه يتضح ان المثال أجنبي عن مبحث الواسطة الجلية والخفية ، لأن مورده ما إذا لم يكن ذو الواسطة جزء الموضوع ، بحيث يثبت له الأثر من طريق الواسطة فيتأتى حديث الواسطة الخفية والجلية ، دون ما إذا كان ذو الواسطة بنفسه جزء الموضوع ودخيلا في ترتب الأثر كما فيما نحن فيه فالتفت ولا تغفل.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من استثناء صورة وضوح الملازمة ، بنحو يكون التعبد بأحدهما ملازما للتعبد بالآخر ، كما في العلة التامة والمعلول. وكما في

ص: 218

المتضايفين.

فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني قدس سره (1) وتبعه عليه غيره (2) : بان هذا وان سلم كبر ويا لكنه صغرويا لا مورد له واما مورد العلة والمعلول فهو خارج عن محل الكلام ، لأن اليقين بحدوث العلة التامة يستلزم اليقين بالمعلول ، فكما تكون العلة التامة مجرى الاستصحاب كذلك يكون المعلول بنفسه لاجتماع أركانه بالنسبة إليه. وهكذا الحال بالنسبة إلى المتضايفين ، لأنهما متكافئان بالقوة والفعلية خارجا وعلما ، فاليقين بالأبوة مستلزم اليقين بالبنوة ، فمع فرض تحقق اليقين بأحدهما لا بد ان يفرض اليقين بالآخر فيكون كلاهما مجرى الاستصحاب.

أقول : يمكن فرض مورد يتحقق اليقين بالعلة التامة ولا يمكن إجراء الأصل في المعلول ، كما لو فرض ان فعلا واحدا تدريجيا يكون علة لحصول موجودات متكثرة ومتعددة بحسب استمرار وجوده ، كما لو فرض ان حركة اليد علة للقتل ما دامت مستمرة ، ففي كل آن يحصل فرد للقتل ، فمع الشك في بقاء العلة التامة وهي الحركة يمكن استصحابها ، ولا يمكن إجراء الأصل في المعلول لتكثره وتعدد افراده ، فهو في هذا الآن مشكوك الحدوث ، وما تعلق به اليقين قد تصرم وانتهى ولا شك في بقائه.

واما في المتضايفين ، فما أفيد من التلازم بين الوجود الفعلي لهما تام بالنسبة إلى مثل الأبوة والبنوة ، واما مثل التقدم والتأخر والسبق واللحوق ، فوجود السابق متقدم زمانا على وجود اللاحق كما هو واضح جدا ، وكون التقدم والتأخر من المتضايفان مما لا يقبل الشك والتردد.

وعليه ، فمع اليقين بتحقق الوجود السابق على وجود آخر ، فإذا شك في

ص: 219


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 99 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 160 - الطبعة الأولى.

زمان في بقاء ذلك الوجود بوصف كونه سابقا يستصحب كونه سابقا على الوجود الآخر ، ولازمه تأخر الوجود الآخر عنه بلحاظ ذلك الزمان. فيمكن ان يدعى ان التعبد بسابقية أحد الوجودين لا ينفك عن التعبد بتأخر الوجود الآخر ، ولذا قد يعبر عن اشتراط البعدية باشتراط القبلية ، كما ورد بالنسبة إلى صلاة الظهر والعصر التعبير بان : « هذه قبل هذه » ، مع ان الشرط هو كون صلاة العصر بعد الظهر لا كون صلاة الظهر قبلها.

وبالجملة : مناقشة المحقق الأصفهاني رحمه اللّه الصغروية غير وجيهة.

وتحقيق الحال في المتضايفين ان يقال : ان العناوين المتضايفة كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية ونحو ذلك عناوين انتزاعية عن خصوصية واقعية ونسبة خاصة متحققة في ذاتي المتضايفين. فمن ملاحظة الوجودين بنحو خاص ينتزع عنوان الفوق والتحت.

ولا يخفى ان الخصوصية الواقعية التي ينتزع عنها الفوقية والتحتية واحدة ، وانما التعدد في طرفي النسبة والربط وفي العنوان المنتزع ، لا ان خصوصية الفوقية غير خصوصية التحتية ، نظير الملكية التي هي ربط خاص وعلاقة واحدة ذات طرفين ومنشأ لانتزاع العناوين المتعددة.

وعليه ، نقول : ان موضوع الأثر الشرعي الّذي يكون مجرى التعبد ..

ان كان هو منشأ انتزاع العناوين المتضايفة وهي تلك الخصوصية الواقعية والربط الخاصّ - كما هو الصحيح حيث ان الدخيل هو منشأ الانتزاع لا نفس العنوان - ، كان التعبد بأحد المتضايفين غير التعبد بالآخر بلا ان تكون ملازمة في البين ، لأن مرجع التعبد بالأبوة إلى التعبد بتلك الإضافة الخاصة التي تكون منشأ لانتزاعها - والتعبد بها ، كما يقتضي ترتيب آثار الأبوة يقتضي ترتيب آثار البنوة ، لأن الموضوع واحد وقد تحقق التعبد به.

واما ان كان موضوع الأثر هو نفس العنوان الانتزاعي وهو مجرى التعبد الشرعي ، فلا ملازمة بين التعبد بأحد المتضايفين والتعبد بالآخر ، إذ لا وجه

ص: 220

لدعوى التلازم بين التعبدين بعد فرض تعدد العنوانين وتباينهما ، فاستصحاب الأبوة لا يقتضي التعبد بالبنوة. فتدبر.

ثم انه قد ذكرت بعض الفروع التي قيل ان الأعلام تمسكوا فيها بالأصل المثبت لا بأس بالتعرض إلى بعضها والتكلم فيها :

فمنها : ما لو شك في دخول الشهر ، فانه يتمسك باستصحاب بقاء الشهر السابق في يوم الشك ويرتب بواسطته آثار أول الشهر على اليوم التالي كآثار يوم العيد في شوال.

ومن الواضح ان الاستصحاب لا يثبت الأولية إلاّ بالملازمة العقلية ، بل يرتب بواسطته آثار غير الأول من أيام الشهر كيوم التاسع والعاشر بالنسبة إلى شهر ذي الحجة بلحاظ أحكام الحج.

ولا يخرج الاستصحاب عن المثبتية إلاّ بدعوى : ان عنوان الأول ليس إلاّ منتزعا عن نفس كون هذا اليوم من هذا الشهر وكون سابقه من الشهر السابق ، فهو مركب من هذين الأمرين ، فيثبت بإحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان.

لكن هذا لا يلتزم به ، فان عنوان الأولية منتزع عن خصوصية وجودية بسيطة ونسبة خاصة في المتصف بها ، وهذه الخصوصية لا تثبت بالأصل إلاّ بالملازمة ، فيكون من الأصول المثبتة. وعليه فيشكل الأمر في الموارد المزبورة.

وقد تفصى المحقق النائيني رحمه اللّه : بأنه لا حاجة إلى الاستصحاب في إثبات الأولية كي يشكل بأنه من الأصول المثبتة ، فانه يكفي في إثبات ذلك ما ورد من النصوص الدالة على كون المدار في الصيام والإفطار هو رؤية الهلال أو مضي ثلاثين يوما من الشهر السابق (1) ، فمع الشك في وجود الهلال يبني على كون يوم الشك من الشهر السابق - بحكم هذه النصوص - ، ومقتضاها ان أول

ص: 221


1- وسائل الشيعة 7 / 182 باب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان.

الشهر اللاحق هو اليوم الآتي (1).

ولكن أورد عليه : بان هذه النصوص تختص بشهري رمضان وشوال ، ولا تعم سائر الشهور كشهر ذي الحجة ، وقد عرفت ترتيب بعض الآثار على العنوان العددي لبعض أيام فيها (2).

ولكن المورد - وهو السيد الخوئي - تفصى عن الإشكال بالالتزام بجريان الاستصحاب في نفس أول الشهر ونظائره من الثاني والثالث. وذلك ببيان : انه عند دخول اليوم الّذي يتلو يوم الشك يحصل اليقين بحصول اليوم الأول للشهر ، اما باليوم السابق ، أو بهذا اليوم ، ويشك في بقائه للتردد المزبور فيستصحب وجوده ، فيثبت بقاء اليوم الأول من الشهر ، وان لم يحرز ان هذا اليوم الّذي هو فيه أول أو ليس بأول لأن الأثر لا يترتب على اتصاف هذا اليوم بالأولية. بمفاد كان الناقصة ، بل يترتب على وجود اليوم الأول بمفاد كان التامة ، كما مر نظيره في استصحاب بقاء النهار والشهر ونحو ذلك مما تقدم في استصحاب الزمان.

وهذا البيان مردود لوجوه :

الأول : ان اليوم الأول لا واقع له خارجي إلا ذات النهار مع خصوصية فيه ، وليس له وجود وراء النهار مع تقيده بالخصوصية التي يتصف بها.

ومن الواضح ان ذات النهار لا يشك فيها ، وانما يشك في اتصافه بالخصوصية التي ينتزع عنه عنوان الأولية ، فلا شك لديه الا في كون هذا النهار هل هو أول أو ليس بأول؟ ، واما الشك في بقاء اليوم الأول فهذا مما لا أساس له ، إذ عرفت ان اليوم الأول لا واقع له الا النهار المتصف بالخصوصية ، فلا وجود له وراء ذلك ، فلا معنى لأن يكون وجود اليوم الأول مشكوك وراء الشك في تحقق

ص: 222


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 499 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 165 - الطبعة الأولى.

الخصوصية واتصاف النهار المعلوم وجوده بها ، إذ لا وجود للمجموع غير واقع اجزائه كي يكون متعلقا لليقين والشك بنفسه.

وبالجملة : موضوع الأثر ليس هو عنوان اليوم الأول ، بل هو واقعه ، وقد عرفت انه لا يعدو الذات مع تقيدها بالخصوصية ، فالشك واليقين اللذان يتعلقان باليوم الأول ، انما يتعلقان بالذات مع التقيد ، فإذا فرض ان الذات كانت معلومة فالمشكوك ليس إلاّ تقيدها بالخصوصية. فلا محصل لدعوى تعلق اليقين بوجود اليوم الأول والشك في بقائه كي يستصحب.

نعم ، اليقين والشك يتعلقان بعنوان : « اليوم الأول » وانطباقه ، لكن العنوان بما هو لا أثر له ولا حكم يترتب عليه ، وانما المدار على المعنون ، وقد عرفت انه ليس إلا الذات مع تقيدها بالوصف وليس هناك وراء ذلك موجود ولو اعتبارا ، فتدبر تعرف.

الوجه الثاني : ان هذا الاستصحاب من باب استصحاب الكلي المردد بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، وقد تقدم منا الإشكال في جريانه بنفس الإشكال في استصحاب الفرد المردد.

الوجه الثالث : انه لو سلم جريان الاستصحاب في الكلي مع تردده بين فردين أحدهما مقطوع البقاء والآخر مقطوع الارتفاع ، فلا مسرح له هاهنا ، بل الاستصحاب هاهنا من استصحاب الفرد المردد ، وذلك لأن المستصحب مردد حدوثا وفي مرحلة اليقين بين ما هو منتف وما هو باق ، ولا جامع بين هذين كي يقال انه متعلق اليقين بحيث يمكن الإشارة إليه على إجماله ، كما هو الحال في استصحاب القسم الثاني من الكلي ، إذ لا جامع بين النسبة المتحققة والنسبة الفعلية كي يكون متعلق العلم ، بل المتيقن مردد حدوثا بين فردين ، فيكون من استصحاب الفرد المردد وقد عرفت الإشكال فيه.

والمتحصّل ان إجراء الاستصحاب في اليوم الأول مما لا محصل له.

والتحقيق : انه ان استطعنا ان نستفيد من النصوص الواردة التعبد

ص: 223

الشرعي بالأولية مع انقضاء ثلاثين يوما عند الشك بالنسبة إلى كل شهر بلا اختصاص بشهري رمضان وشوال فهو ، وإلاّ فإن أمكن الجزم بقيام السيرة على ذلك فلا إشكال أيضا. واما مع التوقف في إلغاء الخصوصية في النصوص ، وعدم حصول الجزم بقيام السيرة لعدم ثبوت حصول الشك لدى الشيعة بالنسبة إلى الأهلة ، بل كان يحصل العلم اما نفيا أو إثباتا للتصدي للاستهلال وسهولة الرؤية في الأراضي المنكشفة مما يستلزم العلم بالهلال وجودا وعدما ، أشكل الأمر في موارد الشك لعدم الفائدة للاستصحاب كما عرفت فلاحظ.

ومنها : ما إذا اختلف مالك العين مع من كانت العين في يده وتلفت ، فادعى المالك ان يده يد ضمان ، وادعى ذو اليد انها ليست يد ضمان كما ادعى انها كانت عارية.

فقد نسب إلى المشهور الحكم بأنها يد ضمان ، وإن القول قول المالك.

وهذا الحكم منهم إذا كانت مستندا إلى استصحاب عدم رضا المالك إذنه فقد يقال انه من الأصول المثبتة ، لأن أصالة عدم تحقق الرضا من المالك لا يثبت كون اليد عارية والاستيلاء بغير رضا المالك إلاّ بالملازمة.

وذهب المحقق النائيني قدس سره إلى : ان الاستصحاب هاهنا ليس بمثبت ، وذلك لأن الموضوع للضمان هو الاستيلاء على الشيء مع عدم رضا المالك بالمجانية بنحو التركيب ، واحد الجزءين محرز بالوجدان وهو اليد ، والآخر محرز بالأصل وهو عدم رضا المالك ، فيتم الموضوع ويثبت الحكم (1).

وهذا الالتزام منه ليس بسديد ، وذلك لأنه يرى ان العام المخصص بمخصص منفصل يكون معنونا بغير الخاصّ بنحو العدم النعتيّ لا المحمولي.

وعليه ، بنى عدم صحة جريان استصحاب العدم الأزلي عند الشك في المخصص مصداقا.

ص: 224


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 502 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن عموم : « على اليد » بما إذا رضى المالك بالمجانية. ومقتضاه تقيد موضوع الضمان بعدم رضا المالك بنحو التوصيف والعدم النعتيّ لا التركيب والعدم المحمولي ، فالموضوع للضمان هو الاستيلاء غير المرضي به ، ولا يخفى ان أصالة عدم تحقق رضا المالك لا يثبت اتصاف اليد بعدم الرضا إلاّ بالملازمة. اذن فما أفاده غير تام على مبناه.

نعم ، على المبنى الآخر القائل بان العام يتقيد بعنوان عدمي بنحو التركيب الّذي يبتني عليه جريان استصحاب العدم الأزلي يصح جريان الاستصحاب المزبور هاهنا وينفع في ترتب الحكم بالضمان.

وقد يدعى ان المحقق النائيني قدس سره انما يذهب إلى تقيد العام بالعدم النعتيّ إذا كان عنوان الخاصّ بالنسبة إلى العام من قبيل العرض ومحله ، كالعالم العادل ، لا ما إذا كانا عرضين لمعروضين. وما نحن فيه كذلك ، لأن الاستيلاء عرض قائم بالمستولي ، والرضا عرض قائم بالمالك وليس قائما بالاستيلاء ، فلا يلحظان إلاّ بنحو التركيب ، وقد صرح قدس سره بذلك في مبحث العام والخاصّ فراجع (1).

وفيه : ان الرضا وان كان قائما بالمالك الراضي ، إلاّ أنه ذو محل ، وهو متعلقه لأنه من الصفات التعليقية كالعلم.

وعليه ، فالاستيلاء والتصرف معروض للرضا وعدمه ، ولا يعتبر في القيام ان يكون قيام الفعل بفاعله بل أعم من ذلك ، كما في الضرب القائم بالضارب والمضروب باعتبارين. اذن فيمكن أخذ اليد بوصف عدم الرضا لا مقارنة لعدم الرضا ، فتدبر.

وجملة القول : ان استصحاب عدم الرضا على هذا المبنى من الأصول المثبتة ، فلا وجه لفتوى المشهور. إلاّ ان يكون مستندا إلى التمسك بالعامّ في

ص: 225


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 530 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الشبهة المصداقية وقد حقق عدم تماميته. أو مستندا إلى قاعدة المقتضي والمانع وهي غير تامة أيضا.

وهذه بعض الفروع المرتبطة بالأصل المثبت أشرنا إليها إتماما للفائدة.

وكيف كان ، فقد عرفت انه لا مجال لدعوى ترتيب الآثار غير الشرعية للمستصحب ولا الآثار الشرعية المترتبة عليها.

والنكتة في ذلك ما عرفت من كلام الشيخ رحمه اللّه من : ان دليل الاستصحاب على أي مسلك في المجعول فيه لا يتصدى إلاّ إلى التعبد بمقدار ما تعلق به اليقين السابق وحدوده ولا يزيد عليه ، فلا تترتب الآثار المترتبة على لوازمه العقلية لعدم كونها أحكاما للمتيقن السابق ، كما ان موضوعها لم يقع موردا للتعبد.

هذا وقد يقال : انه قد تقدم في الكلام في جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية : ان دليل الاستصحاب لا يتكفل التعبد ببقاء المتيقن رأسا ، وإلاّ لاختص الاستصحاب بالاحكام الشرعية دون الموضوعات الخارجية ، وانما يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن معاملة البقاء وعدم نقض المتيقن عملا ، وان هذا الإلزام يكون إرشادا - بمقتضى دلالة الاقتضاء أو الملازمة العرفية - إلى جعل الحكم المماثل للمستصحب لو كان حكما ، وجعل الحكم المماثل لحكمه إذا كان المستصحب موضوعا.

وعلى هذا تكون نسبة دليل الاستصحاب إلى الأحكام المجعولة والموضوعات الخارجية على حد سواء ، فيكون شاملا لهما معا.

وبناء على هذا الاستظهار يمكن دعوى صحة الأصل المثبت ، بان يقال : ان دليل الاستصحاب يتكفل لزوم التعامل مع المتيقن معاملة البقاء ، وهو يشمل موارد الموضوعات التي لا يكون لها أثر شرعي ، بل يكون الأثر مترتبا على لازمها. ومقتضى النهي عن نقض اليقين به عملا والإلزام بمعاملته معاملة البقاء ترتيب تلك الآثار الشرعية الثابتة بواسطة صونا للكلام عن اللغوية.

ص: 226

ولكن هذا القول فاسد ، وذلك لأن مفاد دليل الاستصحاب - كما أشير إليه هو معاملة المتيقن معاملة البقاء ، وهذا يقتضي اختصاصه بما يكون الأثر العملي الثابت بواسطة الاستصحاب أثرا للمستصحب نفسه ، بحيث بعد ترتبه إبقاء عمليا للمستصحب ، وفرضا للمستصحب انه باق.

وبعبارة أخرى : يلزم ان يكون الأثر المترتب من آثار بقاء المستصحب وليس الأمر كذلك في موارد الأصول المثبتة ، إذ الأثر الّذي يراد ترتيبه من آثار ملازم المستصحب ، فلا يعد من آثار بقاء المستصحب ، بل من آثار ما يلازم بقائه.

وعليه ، فترتيبه لا يكون إبقاء عمليات للمتيقن السابق ، ولا يكون معاملة له معاملة الباقي ، لعدم ارتباط الأثر العملي به ، بل بما يلازمه ، والمفروض ان ما يلازمه غير متيقن. اذن فهذا المورد لا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب ولا يقاس بمورد الموضوع ذي الأثر الشرعي ، كعدالة زيد المستصحبة ، فان الاقتداء بزيد من آثار عدالته فيكون ترتيبه إبقاء عمليا للعدالة ، فيكون مشمولا لدليل الاستصحاب. فلاحظ وتدبر.

وجملة القول : انه لا مجال للالتزام بالأصل المثبت.

واما الأمارات ، فالمعروف ان المثبت منها حجة ، فيترتب على قيام الأمارة آثار المؤدى الشرعية كما تترتب عليه آثار لوازمه العقلية ، فإذا أخبرت البينة عما يلازم موت زيد يترتب على هذا الاخبار موت زيد وآثار الشرعية.

وقد تصدى الاعلام قدس سره لبيان الوجه في ذلك والكشف عن نقطة الفرق بين الأصول والأمارات.

ونذكر مما قيل وجهين :

الأول : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من : ان دليل الاعتبار في باب الأمارات يتكفل بجعل الطريقية والمحرزية ، وبما ان العلم بالشيء وجدانا يستلزم العلم بلوازمه وملزوماته مع الالتفات إليها ، وكذلك العلم التعبدي بالشيء ، فانه يستتبع ثبوت العلم تعبدا بلوازمه وملزوماته ، لعدم الفرق بينهما الا

ص: 227

بالوجدانية والتعبدية.

وعليه ، فالتعبد بقيام العلم بالنسبة إلى مؤدى الأمارة يستتبع التعبد بالعلم بلوازمه (1).

وهذا الوجه مردود - مع قطع النّظر عن الإشكال في المبنى وهو جعل الطريقية - ، فان الملازمة بين العلم الوجداني بالشيء والعلم بلوازمه لا يقتضي التلازم بينهما في مقام التعبد ، بل التعبد يدور مدار دليله ، فإذا ثبت التعبد بالعلم بشيء بلحاظ آثاره فلا يلازم التعبد بالعلم بلوازمه مع قصور الدليل عن إثباته ، وبما ان دليل الأمارة يتكفل حجية الأمارة بلحاظ مؤداها ، فهو لا يتكفل سوى اعتبار العلم بالنسبة إلى المؤدى دون لوازمه ، وقد عرفت إمكان التفكيك بينهما ، فتدبر.

الوجه الثاني : ما أفاده صاحب الكفاية من : ان الأمارة كما تقوم على المؤدى تقوم على لوازمه ، فالخبر كما يحكي عن مؤداه كذلك يحكي عن لوازم المؤدى ، فلدينا خبران أحدهما : خبر عن المؤدى. والآخر : خبر عن لوازمه. فيكون كل منهما داخلا تحت دليل الحجية ومشمولا له ، فالاختلاف بين الأمارة والأصل ليس في كيفية التعبد ، بل في الموضوع (2).

وأورد عليه المحقق النائيني قدس سره بان الحكاية عن الأمور القصدية ، فيختص موردها بما إذا كان الحاكي ملتفتا إلى لوازم الملزومات ، كما في موارد اللزوم البين بالمعنى الأخص ، فلا وجه لحجية المثبت منها مطلقا (3).

ويمكن الجواب عنه بما أفاده المحقق العراقي قدس سره : من انه لا يعتبر في الاخبار الّذي يكون حجة القصد التفصيليّ للمخبر به المتوقف على الالتفات إليه ، بل يكفي القصد الإجمالي الارتكازي (4).

ص: 228


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول 487/4 طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /416- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول3. 487 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4. 242 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وهذا حاصل في باب الاخبار ، فان من يخبر عن شيء ويحكي عنه يخبر عن لوازمه بنحو الإجمال ولو لم يلتفت إلى خصوصياتها ، بل لم يلتفت إلى الملازمة ، فيتحقق منه القصد الارتكازي ، وهو كاف في صدق الخبر عنه ومما يشهد لذلك موارد الإقرار بشيء حيث يعد إقرارا بلوازمه ويترتب عليه أثر الإقرار على نفسه ، وان لم يكن ملتفتا إلى الملازمة ، بل ربما يستغفل عن الملازمة لأجل إلزامه بالإقرار. والسيرة العقلائية والفتاوى شاهدة على ما قلناه فراجع.

اذن فما أفاده صاحب الكفاية لا مانع من الالتزام به. واللّه سبحانه العالم.

التنبيه السابع :

التنبيه السابع : تعرض صاحب الكفاية في التنبيه الثامن الّذي ذكره عقيب البحث في الأصل المثبت إلى جهات ثلاث :

الأولي : انه لا فرق بين ترتب الأثر على المستصحب رأسا وبلا واسطة ، وبين ترتبه بواسطة عنوان كلي ينطبق عليه ويحمل عليه بالحمل الشائع ، سواء كان منتزعا عن مرتبة ذاته كالإنسان وفرده ، أو منتزعا عن بعض عوارضه مما يكون من الخارج المحمول كالأمر الانتزاعي بالنسبة إلى منشأ انتزاعه ، كالفوق والسقف والأب وزيد. دون ما كان منتزعا عن بعض عوارضه المتأصلة « المحمول بالضميمة » كالأسود والأبيض بالنسبة إلى معنونه.

وعلل ذلك : بان الأثر في الصورتين الأوليين يكون للمستصحب حقيقة لعدم ما يكون بحذاء الكلي في الخارج سواه. وعليه فالاستصحاب في الصورتين لا يكون مثبتا.

الثانية : انه لا فرق في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه أو بمنشإ انتزاعه ، كالجزئية والشرطية ، فانها بيد الشارع رفعا ووضعا ولو بلحاظ ووضع منشأ انتزاعها ورفعه. وعليه فاستصحاب الشرط لترتيب الشرطية لا يكون من الأصل المثبت كما توهم.

الثالثة : ان الأثر الشرعي المستصحب أو المترتب على المستصحب لا

ص: 229

يختلف الحال فيه بين أن يكون وجود الحكم أو عدمه ، لأن عدم التكليف بيد الشارع كثبوته ، ولا يعتبر في الاستصحاب أكثر من أن يكون المجعول بيد الشارع رفعا ووضعا ، سواء كان حكما أو لم يكن.

وعليه ، فلا مانع من استصحاب عدم التكليف في إثبات البراءة.

ولا وجه لاستشكال الشيخ رحمه اللّه فيه : بان عدم استحقاق العقاب في الآخرة الّذي يراد ترتيبه عليه ليس من اللوازم المجعولة (1).

والسر في عدم صحة هذا الإشكال : ان عدم استحقاق العقوبة وان لم يكن بمجعول ، إلا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول بعد ان كان المستصحب بنفسه مما أمره بيد الشارع ، فيجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه عدم الاستحقاق ، لأنه من لوازم عدم المنع أعم من الواقعي والظاهري. هذا ما أفاده في الكفاية (2).

ولا يخفى عليك انه كان ينبغي إلحاق هذا المبحث بمبحث الأصل المثبت ، لأنه من شئونه ومتفرعاته ، لا جعله مبحثا مستقلا برأسه.

وكيف كان فلا بد من التعرض إلى كل جهة من كلامه على حدّه ، فنقول :

اما الجهة الأولى : فهي على ما يبدو لا تخلو عن غموض في المراد ، بحيث يكون له صورة وجيهة. وذلك لأن الصور المتصورة في دخالة العنوان الانتزاعي في ترتب الحكم متعددة ، لأن موضوع الأثر إما وجود العنوان بما هو ، كوجود عنوان الفوق والتحت والأب والابن وغير ذلك. وأما وجود الذات مع الخصوصية التي ينتزع عنها العنوان الخاصّ.

واما الذات التي ينطبق عليها العنوان الخاصّ.

ص: 230


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /204- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /417- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فعلى الأول ، يمكن إجراء الاستصحاب في نفس العنوان إذا كانت له حالة سابقة ، فيستصحب وجود عنوان الأب والابن.

وعلى الثاني ، يمكن إجراء الاستصحاب مع الشك في وجود الذات المتصفة بالخصوصية مع الحالة السابقة ، فيستصحب وجودها إذا كان مشكوكا ، أو اتصافها بالخصوصية إذا كان أصل وجودها معلوما والخصوصية مجهولة.

وعلى الثالث ، فإن كان الشك في أصل وجود الذات ، أشكل الاستصحاب لأن استصحاب وجود العنوان أو وجود الذات مع الخصوصية لا يوجد بثبوت الانطباق إلا بالملازمة. نعم مع العلم بوجود الذات والشك في بقاء الانطباق يستصحب كونها منطبقة للعنوان. ولا يخفى وضوح الحكم في هذه الصور ، ولا موهم لأمر آخر فيها.

وعليه ، مراد صاحب الكفاية ان كان هو استصحاب نفس العنوان وترتيب آثاره ، فهو مما لا إشكال فيه ولا موهم بكونه من الأصول المثبتة ، كي يحتاج إلى تنبيه وإلفات نظر. وان كان هو استصحاب الفرد لترتيب آثار العنوان اللازم لبقائه لا لحدوثه ، كاستصحاب وجود زيد لترتيب آثار وجود الأب ، أو استصحاب بقاء الجسم على ما كان لترتيب أثر كونه فوقا ، فهذا من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، وهل يتوهم أحد صحة جريان الأصل المزبور؟. فما أفاده قدس سره غير واضح المراد.

نعم ، بالنسبة إلى الكلي الطبيعي وفرده يصح استصحاب الفرد لترتيب أثر الكلي ، لأجل ان وجود الفرد وجود للكلي ، فاستصحابه استصحاب الكلي الموجود في ضمنه. وليس الأمر كذلك في العنوان الانتزاعي ومعنونه.

ولا ندري ما فهم المحقق الأصفهاني قدس سره (1) من كلام الكفاية

ص: 231


1- الأصفهان ، المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 102 - الطبعة الأولى.

الّذي ردد في مراده بين ان يراد بالعنوان الاشتقاقي بلحاظ قيام مبدئه بالذات ، فذهب إلى أنه فرق بين ما كان مبدؤه قائما بقيام انتزاعي أو بقيام انضمامي. مما يظهر منه انه صحح كلام الكفاية في نفسه ، لكنه أورد عليه بعدم صحة تخصيصه بالعنوان القائم مبدؤه بقيام انتزاعي؟.

فهل فهم أنه يريد جريان الاستصحاب في العنوان نفسه؟ الّذي عرفت أنه لا موهم لكونه من الأصول المثبتة حتى يتعرض صاحب الكفاية لدفعه. أم فهم انه يريد جريان الاستصحاب في المعنون لترتيب آثار العنوان - كما قد يظهر ذلك من قوله : « فتلخص مما ذكرنا ... » وان لم يظهر من صدر كلامه - الّذي عرفت انه من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، إذ وجود الذات يلازم وجود العنوان ، فكيف يثبت باستصحابها أثره؟. فتسليمه قدس سره ذلك لا نعرف له وجها.

وبالجملة : لم يتضح لنا مراد صاحب الكفاية ، كما لم يتضح لنا ما أفاده المحقق الأصفهاني وتبعه غيره (1). واللّه سبحانه هو العاصم.

اما الجهة الثانية : فقد تقدم في مبحث الأحكام الوضعيّة بيان عدم صحة جريان الأصل في الجزئية والشرطية ، لعدم قابليتهما للجعل ولا أثر عملي يترتب عليهما أصلا ، ولازمه عدم صحة جريان الأصل في ذات الجزء والشرط لترتيب الجزئية والشرطية ولا نعيد. فراجع.

وامّا الجهة الثالثة : فقد تقدم غير مرة - في مبحث البراءة ، وتأسيس الأصل في باب الحجية ، وفي مبحث استصحاب الأحكام الكلية - التعرض تفصيلا وإشارة إلى عدم جريان استصحاب عدم التكليف وبيان ما أثير حوله من إشكالات.

وعمدة ما يمكن ان يقال في منعه هو : ان دليل الاستصحاب اما ان يكون

ص: 232


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 171 - الطبعة الأولى.

متكفلا للتعبد ببقاء المشكوك رأسا. أو يكون متكفلا للأمر بمعاملة المتيقن معاملة البقاء ، ويكون هذا إرشادا للتعبد ببقاء المتيقن إن كان حكما ، أو حكمه ان كان موضوعا. وليس الأمر بعدم النقض امرا مولويا إلزاميا ، كيف والاستصحاب يجري في غير الأحكام الإلزامية من إباحة واستحباب وكراهة ، ولا معنى للإلزام بعدم النقض عملا في مواردها.

فإن كان مفاد دليل الاستصحاب هو الأول ، فمن الواضح ان التعبد بعدم شيء لا معنى له إذا كان معدوما حقيقة ، بل اعتبار العدم يعرض على الشيء بلحاظ فرض وجوده ، فيعتبر الموجود معدوما. وهكذا اعتبار الوجود انما يعرض على المعدوم ، وإلاّ فالموجود لا معنى لاعتباره موجودا.

وعليه ، نقول : ان التعبد بعدم الحكم المشكوك في حق الشاك لا يرجع إلى نفي التكليف الواقعي حقيقة وإلغائه رأسا ، فإنه خلاف المفروض في الأحكام الواقعية ، وانما يرجع إلى التعبد بعدمه ظاهرا يعني في حق الشاك بما هو شاك.

ومن الواضح أن الشاك بما هو شاك لم يثبت في حقه حكم كي يصح التعبد بعدمه. إذن فلا معنى للتعبد بعدم الحكم في حق الشاك للعلم بعدم ثبوت الحكم في حقه ، إذ الفرض انه لم يثبت إلزام شرعي ظاهري في مرحلة الشك.

وإن كان مفاد دليل الاستصحاب هو الثاني - كما قربناه فيما تقدم - ، فلا يشمل عدم التكليف ، وذلك لأن استفادة التعبد من الأمر بمعاملة المتيقن معاملة البقاء إنما كان بالملازمة العقلية أو العرفية ، بلحاظ كونه في مقام التشريع والجعل.

وهذا انما يتم لو فرض انه ليس هناك ما يقتضي المعاملة معاملة البقاء ، اما مع وجود ما يقتضي ذلك فلا تتم الملازمة ، وبدونها يكون المدلول المطابقي قاصر الشمول. وما نحن فيه كذلك ، إذ بعد فرض عدم تحقق الإلزام الشرعي الظاهري يكون مقتضى حكم العقل هو البراءة وعدم الكلفة بالنسبة إلى التكليف المشكوك ، ومرجع ذلك إلى معاملة عدم التكليف معاملة البقاء ، فلا مجال

ص: 233

حينئذ لشمول دليل الاستصحاب لعدم تحقق الملازمة المصححة لشمول الدليل لمورده.

وبذلك ظهر : ان دعوى جريان الاستصحاب في عدم التكليف لا ترجع إلى محصل ، وليس الوجه فيه ما قيل من انه تحصيل الحاصل ، أو من أردأ أنحائه. فقد عرفت التفصي عن ذلك ، بل العمدة ما ذكرناه هنا ، فتأمل فيه وتدبر.

ثم ان ارتباط هذا المبحث بمبحث الأصل المثبت من جهة ملاكه وهو كون مفاد الاستصحاب التعبد بالأمور المجعولة دون غيرها ، حيث يقع الكلام في ان عدم التكليف قابل للجعل أو لا ، والأمر سهل.

التنبيه الثامن :

التنبيه الثامن : أشار صاحب الكفاية رحمه اللّه : إلى أن ما ذكر من عدم ترتب الآثار غير المجعولة على المستصحب ، وأو الآثار المجعولة المترتبة على اللازم غير المجعول المستصحب ، انما هو فيما كانت الملازمة للوجود الواقعي للمستصحب. اما إذا فرض ان اللازم العقلي لازم للأعم من الوجود الواقعي للمستصحب والوجود الظاهري ، كان مترتبا على المستصحب لا محالة ، لتحقق موضوعه واقعا وحقيقة ، وذلك مثل وجوب الإطاعة المترتب عقلا على ثبوت الحكم الشرعي الواقعي والظاهري ، فإذا ثبت الوجوب الشرعي بالاستصحاب ترتب عليه الحكم بوجوب الإطاعة قهرا (1).

وهذا الأمر واضح ، وكان ينبغي ان يجعل من توابع الأصل المثبت ، لا ان يفرد له تنبيه على حدّه. والأمر سهل.

التنبيه التاسع :

التنبيه التاسع : قد يتوهم ان المستصحب لا بد ان يكون حكما أو موضوعا ذا حكم في مرحلة الحدوث.

ولعل الوجه فيه هو ان الاستصحاب عبارة عن الإبقاء الشرعي بضميمة

ص: 234


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /417- 418 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان مرجعه إلى جعل الحكم المماثل ، وهذا لا يصح إلا إذا كان المتيقن حكما شرعيا ، وإلا لم يكن الحكم المجعول في مقام الشك إبقاء شرعيا للمتيقن.

ولكنه توهم فاسد ، إذ لم يؤخذ في دليل الاستصحاب هذا العنوان - أعني : عنوان الإبقاء - ، بل المأخوذ فيه هو عدم النقض عملا ومعاملة المتيقن السابق معاملة الباقي لاحقا ، وهذا لا يستلزم أكثر من كون المتيقن بقاء حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي بقاء ، ويكون المجعول حكما مماثلا للمشكوك على تقدير وجوده واقعا. ولا يعتبر ان يكون كذلك حدوثا ، لعدم تكفل الدليل للإبقاء ، بل للأمر بالعمل في مقام الشك عمل الباقي واقعا ، فانتبه.

ولعل إلى ما ذكرناه من وجه التوهم ودفعه ينظر صاحب الكفاية في تعليله بقوله : « وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه والعمل ، كما إذا قطع بارتفاعه يقينا » (1). فلاحظ واللّه سبحانه هو العاصم الموفق الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل (2).

التنبيه العاشر :
اشارة

التنبيه العاشر : (3) الشك تارة يكون في حدوث الحادث وعدمه. وأخرى يكون في تقدمه وتأخره مع العلم بحصوله في زمان خاص.

ص: 235


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /418- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- إلى هنا نقف عن الاستمرار في كتابة الدروس لأنا قد كتبنا التنبيهات الآتية إلى أواخر مباحث التعادل والتراجيح عند حضورنا دروس الدورة السابقة ، وقد رأيت الاكتفاء بالتنبيه على مواضع الاختلاف والزيادات في هذه الدورة على هامش الكتابات السابقة. والحمد لله تعالى شأنه أولا وآخرا ونسأله أن يوفقنا للعلم والعمل الصالح إنه سميع مجيب. وقع الفراغ منه الاثنين المصادف18/ ع 2 / 1393 ه . وأنا الأقل عبد الصاحب الحكيم.
3- ذكر قدس سره عند ما حضر درس المقرر له - دام ظله - في تاريخ 1 / 12 / 81 كان هذا التنبيه الحادي عشر ولكن بحسب ترتيب هذه الدورة فهو العاشر.

فالأوّل : لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه ، وهو محط الكلام سابقا.

والثاني : - وهو مورد الكلام في هذا التنبيه - : يدور الكلام فيه في محورين :

المحور الأول : ما كان الملحوظ فيه التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، كالشك في حصول موت زيد يوم الجمعة مع العلم به في يوم السبت ، والعلم بعدمه يوم الخميس.

المحور الثاني : ما كان الملحوظ فيه التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر ، كالشكّ في تقدّم موت المورث على إسلام الوارث أو تأخّره عنه ، مع العلم بتحققهما في يوم السبت وعدم تحققهما في يوم الخميس.

اما المحور الأول - وهو الشك بلحاظ اجزاء الزمان - ، فقد ذكر الشيخ (1) والمحقق الخراسانيّ (2) (قدس سرهما) : انه يجري استصحاب العدم فيه ، فيستصحب في المثال عدم الموت إلى يوم الجمعة ، اما بالنسبة للآثار الشرعية فهي ثلاثة.

الأول : الآثار المترتبة على عدم الموت يوم الجمعة ولا إشكال في ترتبها على الاستصحاب المذكور.

الثاني : الآثار المترتبة على الحدوث في يوم السبت ، والحال فيها يختلف لأن الحدوث اما أن يكون بسيطا أو مركبا فان كان الحدوث أمرا بسيطا ينتزع عن وجود الشيء في زمان وعدمه في زمان آخر فلا تثبت آثاره باستصحاب العدم إلى يوم الجمعة ، لأنه إنما يثبت العدم في يوم الجمعة لا أكثر ، فيكون من الأصول المثبتة بالنسبة إلى الحدوث. نعم مع القول بخفاء الواسطة عرفا في المورد ، وترتيب الآثار مع خفائها ، تترتب الآثار المذكورة على الاستصحاب. وإن كان الحدوث

ص: 236


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /387- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أمرا مركبا من وجود الشيء في زمان وعدمه في الزمان الّذي قبله ، ترتبت آثار الحدوث على الاستصحاب لثبوت الحدوث بإحراز أحد جزئية بالوجدان ، وهو الوجود في يوم السبت ، والآخر بالأصل ، وهو العدم في يوم الجمعة ، فيتم الموضوع ويتحقق فتترتب عليه آثاره.

الثالث : الآثار المترتبة على عنوان التأخر عن يوم الجمعة ، وهي لا تثبت لكون التأخر أمرا وجوديا بسيطا منتزعا ، فالاستصحاب مثبت بالنسبة إليه ، فلا تترتب عليه آثاره لعدم ثبوته بالاستصحاب إلا على القول بخفاء الواسطة عرفا وترتيب الآثار معه.

وامّا المحور الثاني - وهو الشك بلحاظ حادث زماني آخر - فتارة يجهل بتاريخ كلا الحادثين.

وأخرى يعلم بتاريخ أحدهما دون الآخر فالكلام في موردين :

المورد الأول : الجهل بتاريخ كلا الحادثين ، وقد ذكر له صاحب الكفاية رحمه اللّه أقساما أربعة :

القسم الأول : ان يكون الأثر مترتبا على الوجود بنحو خاص من التقدم والتأخر والتقارن بمفاد كان التامة ، فقد ذكر رحمه اللّه ان الأثر ان كان مترتبا على الوجود الخاصّ لأحدهما فقد جرى استصحاب عدمه بلا إشكال. وان كان مترتبا على الوجود بكل أنحائه تعارض الاستصحاب ، لأن استصحاب العدم بأحد الأنحاء يعارض استصحاب العدم بالنحوين الآخرين. وكذا لو كان الأثر مترتبا على الوجود الخاصّ لكل من الحادثين ، فان استصحاب العدم في أحدهما يعارض باستصحابه في الآخر (1).

ولا بد من التعرض في هذا المورد إلى امرين :

ص: 237


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأمر الأول : في بيان مراد صاحب الكفاية من ترتب الأثر على الوجود بنحو خاص من التقدم والتأخر والتقارن بشكل نتحفظ فيه على جهتين :

إحداهما : كون الوجود المترتب عليه الأثر بمفاد كان التامة. والثانية : ملاحظة الخصوصية مع الوجود. وقد فسرت بوجوه ثلاثة :

الأول : ان الأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة والخصوصية مأخوذة ظرفا للوجود ، فيكون المعنى : ان الأثر مترتب على الوجود في زمان متأخر أو متقدم أو مقارن. فالأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة ولكن ظرفه هو الزمان المتأخر أو المتقدم أو المقارن. فالجهتان محافظ عليهما في هذا التفسير كما لا يخفى.

ولكن هذا التفسير غير مراد صاحب الكفاية قطعا ، لأنه قد حكم بجريان استصحاب العدم فيما إذا كان الأثر مترتبا على الوجود بنحو التأخر ، وانه يعارض استصحاب العدم فيما لو كان للوجود بنحويه الآخرين أثرا أيضا.

مع ان لازم هذا التفسير عدم جريان استصحاب العدم فيما لو ترتب الأثر على الوجود بنحو التأخر ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه ، لأنه في الزمان المتأخر يصدق ان أحد الحادثين موجود في زمان متأخر عن الحادث الآخر.

الوجه الثاني : ان الأثر مترتب على التقدم والتأخر والتقارن بمفاد كان التامة.

وهذا التفسير وان لم يرد عليه ما ورد على التفسير الأول لأن التأخر غير محرز ، ولكنه بعيد عن ظاهر عبارة الكفاية ، لأن ظاهرها كون الأثر مترتبا على الوجود بمفاد كان التامة بالنحو الخاصّ ، لا كونه مترتبا على النحو الخاصّ كما يتضمنه التفسير.

الوجه الثالث - وهو المختار - وبيانه : ان الأمور الانتزاعية تنتزع عن الذات باعتبار تخصصها بخصوصية غير زائدة في الوجود عن أصل الذات ،

ص: 238

فالفوقية تنتزع عن السقف باعتبار تخصصه بخصوصية ، وهذه الخصوصية غير زائدة عن ذاته.

والتقدم وأخواه من الأمور الانتزاعية التي تنتزع عن الوجود باعتبار خصوصية فيه غير زائدة عن ذاته.

فمراد صاحب الكفاية يكون : ان الأثر مترتب على حصة خاصة من الوجود إذا لوحظت انتزع عنها وصف التأخر أو التقدم أو التقارن ، وبهذا التفسير نكون قد حافظنا على كلتا الجهتين ، فالأثر مترتب على الوجود بمفاد كان التامة ، والخصوصية من التقدم والتقارن والتأخر ملحوظة.

ولا يرد عليه ما ورد على التفسير الأول ، لعدم العلم بانتقاض الحالة السابقة بالنسبة إلى الحصة الخاصة المنتزع عنها وصف التأخر لإمكان ان يكون الوجود بنحو خاص ينتزع عنه عنوان التقدم في حدوثه ، فيمكن إجراء استصحاب العدم في صورة ترتب الأثر على الوجود بنحو التأخر (1).

الأمر الثاني : حول ما ذكره من المعارضة بين الأصول في صورة ترتب الأثر على الوجود بكل من أنحائه ، أو على وجود كل من الحادثين بنحو خاص.

فنقول : المعارضة في صورة ترتب الأثر على الوجود بكل من أنحائه مسلمة.

واما في صورة ترتيبه على وجود كل من الحادثين بنحو خاص فلا.

فان استصحاب عدم وجود الموت الخاصّ من التقدم مثلا لا يعارض استصحاب عدم وجود الإسلام الخاصّ ، لإمكان ان يكون وجودهما متقارنا.

القسم الثاني : ان يكون الأثر مترتبا على الوجود المتصف بالتقدم أو

ص: 239


1- في جريان هذا الاستصحاب إشكال يظهر مما تقدم في الإشكال في جريان استصحاب أول الشهر في بعض فروع الأصل المثبت. فراجع لكنه يبتني على ان لا تكون الخصوصية الانتزاعية من كيفيات وجود الذات بحيث ليس غير وجود الذات شيء آخر والصحيح هو ذلك.

التقارن أو التأخر بمفاد كان الناقصة. وقد حكم قدس سره بعدم جريان الاستصحاب في هذا المورد لعدم اليقين السابق.

ولكن في إطلاقه تأمل يتضح بتقديم مقدمتين :

الأولى : انه إذا أخذ أمران في موضوع حكم ، فتارة يؤخذان موضوعا للحكم بلا لحاظ أمر زائد عليهما ، بل الملحوظ في تحقق الأثر كونهما معا. وأخرى يؤخذان مع لحاظ امر زائد عليهما وهو تقيد أحدهما بزمان الآخر واتصافه به ، فيكون الموضوع هو الأمر المقيد بشيء وجودي أو عدمي.

ويصطلح على الشكل الأول بالتركيب ، وعلى الثاني بالتقيد.

المقدمة الثانية : قد ذكرنا سابقا ان الصفات المقيد بها موضوعات الأحكام ..

تارة : تكون لاحقة للحادث بمعنى انها عارضة عليه بعد حدوثه ، كالعدالة والعلم والشجاعة وغيرها. وجريان الاستصحاب في مثل هذه الصفات واضح لوجود حالة سابقة للحادث وهو عدمها ، فمع الشك فيها يستصحب عدمها.

وأخرى : تكون مقارنة لحدوثه ، بمعنى انه حين وجوده اما ان يكون متصفا بالصفة أو بغيرها ، بحيث لا تكون هذه الصفة مسبوقة بالعدم بعد حدوث الحادث ثم تعرض عليه ، كالقرشية وغيرها ، والعربية وغيرها.

والشك في هذه الصفات هو مورد استصحاب العدم الأزلي الّذي وقع الكلام فيه فيما إذا ورد عام ثم ورد خاص موضوعه مقيد بإحدى هذه الصفات ، وشك في فرد انه من افراد الخاصّ كي يشمله حكمه أو لا ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم الأمويين » وشك في فرد عالم انه أموي أو لا ، ولما كان العام لا يجوز التمسك به في الشبهة المصداقية ، فهل هناك أصل موضوعي يعين الوظيفة العملية؟. وقع الكلام في ذلك.

وينشأ الخلاف في جريان الاستصحاب العدم الأزلي في المورد ، من

ص: 240

الاختلاف في ان عنوان الخاصّ بعد وروده هل يستوجب تقيد الباقي بشيء أو لا يستوجب سوى أخذ عدم العنوان في موضوع حكم العام بنحو التركيب - المصطلح عليه بالعدم المحمولي في قبال العدم النعتيّ المأخوذ قيدا -؟.

فعلى الأول : لا يجدي استصحاب عدم الوصف في إثبات عدم تقيد الفرد ، واستصحاب عدم تقيد الفرد غير ممكن لعدم اليقين السابق بعدم تقيد هذا الفرد.

وعلى الثاني : يكون استصحاب عدم تحقق الوصف مجديا إذ لا نحتاج في إثبات حكم العام إلا إلى إحراز الجزءين ، فالاستصحاب يثبت أحدهما وهو عدم الأموي ، والجزء الثاني وهو العالم محرز بالوجدان فيتم الموضوع ويثبت الحكم.

وعليه ، فاستصحاب العدم الأزلي المصطلح انما يصح على القول بالثاني.

وقد اختار المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه الثاني كما هو صريح عبارته في مباحث العام والخاصّ (1). ولذلك أجرى استصحاب عدم القرشية في إدخال المرأة المشكوكة تحت حكم العام.

إذا عرفت هذا فتحقيق الحال في القسم الثاني بنحو يتضح به الإشكال على المحقق الخراسانيّ : ان الحكم فيه ..

ان لم يكن له تعلق بذات الموضوع ، بل لا علاقة للموضوع به الا كونه موضوعا له - كما لو قال : « إذا وجد زيد الهاشمي وجب عليك التصدق » - ، فاستصحاب العدم جار سواء قلنا باستصحاب العدم الأزلي أو لا : كما يستصحب عدم وجود زيد الهاشمي في نفي وجوب التصدق مع الشك ، وان لم يحرز ان هذا الفرد غير هاشمي (2).

وان كان له تعلق بذات الموضوع - مثل ما لو قال : « إذا وجد زيد

ص: 241


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /223- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- في جريان مثل هذا الاستصحاب إشكال يظهر مما ذكره - دام ظله - في البحث الأصل المثبت عند التعرض لجريان استصحاب أول الشهر فراجع. ( منه عني عنه ).

الهاشمي فأكرمه » - ، فان كان بنحو التخصيص لحكم عام آخر ، فاستصحاب العدم جار عند القائل باستصحاب العدم الأزلي كصاحب الكفاية. وان لم يكن بنحو التخصيص لم يجر الاستصحاب لعدم إحراز عدم اتصاف هذا الوجود بهذا الوصف مع الحاجة إليه في إثبات الحكم الآخر له ، لأخذ العدم فيه بنحو التقييد لا التركيب. فقد ظهر لك ما في إطلاق صاحب الكفاية لعدم جريان الاستصحاب ، فان عدم جريانه يتم في الصورة الأخيرة فقط دون جميع الصور.

القسم الثالث : ان يكون الأثر مترتبا على أحد الحادثين متصفا بالعدم في زمان حدوث الآخر بمفاد ليس الناقصة. وقد حكم صاحب الكفاية رحمه اللّه بعدم جريان الاستصحاب فيه لعدم اليقين السابق بحدوثه كذلك في زمان (1).

والكلام فيه عين الكلام الّذي عرفته في القسم الثاني (2).

القسم الرابع : ان يكون الأثر مترتبا على عدم أحدهما أو كل منهما في زمان الآخر بمفاد ليس التامة. وقد صار هذا القسم مجالا للكلام ومحطا للنقض والإبرام

وقد ذكر للمنع في جريان الاستصحاب فيه وجوه :

الوجه الأول : ما اختاره صاحب الكفاية رحمه اللّه من عدم جريان استصحاب العدم ، لعدم إمكان التمسك بعموم دليل التعبد بالاستصحاب في المورد ، لكون الشبهة مصداقية ، وذلك لاعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين في جريان الاستصحاب (3).

ص: 242


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /419- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- لكن لا يجري فيه الإشكال المبني على استصحاب العدم الأزلي لأن الكلام في استصحاب العدم الأزلي فيما إذا كان عنوان الخاصّ وجوديا كي يتقدم العام بعدمه لا ما إذا كان عدميا : كما إذا ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم من ليس بعادل » فانه لا يأتي فيه حديث التقيد بعنوان عدمي كما هو واضح. وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /420- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والمراد من زماني الشك واليقين هنا المعتبر اتصالهما هو المشكوك زمانا والمتيقن ، لا نفس صفة الشك واليقين. وهذا عند من يقول بكون كل من الشك واليقين في الروايات مأخوذا بنحو المرآتية عن المتيقن والمشكوك - كما عليه الشيخ رحمه اللّه (1) - فواضح. واما عند من يقول بان المراد منهما في الروايات صفتا اليقين والشك دون المتيقن والمشكوك ، فلأنه لا إشكال في عدم اعتبار تقدم زمان نفس اليقين على الشك ، فقد يتقدم الشك على اليقين ، وانما يصحح نسبة النقض إلى اليقين بلحاظ انتقاض المتيقن.

والوجه في اعتبار اتصال المشكوك بالمتيقن زمانا ، هو دخله في تحقق صدق النقض ، إذ بدون الاتصال لا يصدق النقض المنهي عنه. بيان ذلك : ان النقض انما يصدق في صورة ما إذا كان متعلق الشك ومتعلق اليقين أمرا واحدا مع إلغاء خصوصية الزمان الموجبة لتعلق الشك في البقاء واليقين بالحدوث ، بمعنى انه إذا غض النّظر عن اختلاف المتعلقين زمانا كانا أمرا واحدا ، وعند ذلك يصدق النقض عند عدم العمل بالمتيقن. ومع انفصال زمان المشكوك عن زمان المتيقن لا يتحقق النقض لعدم كون المتيقن والمشكوك أمرا واحدا حتى مع إلغاء خصوصية الزمان ، فمثلا لو علمنا بعدالة زيد عند الصباح ثم علمنا بفسقه حين الزوال ، ثم شككنا بعدالته بعد الزوال ، فالحكم بعدم عدالته بعد الزوال لا يعد نقضا لليقين بعدالته حين الصباح ولو مسامحة كي يشمله دليل : « لا تنقض » ، لأن المشكوك غير المتيقن. فالنقض لا يصدق بعد انفصال زمان الشك عن زمان اليقين ، بل انما يصدق في صورة اتصالهما.

وعليه ، فلا بد من اعتبار الاتصال كي يصدق النقض في مورده ، فيكون مشمولا للنهي العام. ولأجل ذلك لم تجر أدلة الاستصحاب مع الشك في الاتصال

ص: 243


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /336- الطبعة الأولى.

وعدمه ، للشك في صدق النقض حينئذ كي يشمله النهي ، وعدمه كي لا يشمله ، فتكون الشبهة مصداقية ويمتنع التمسك بالعموم فيها.

وقد حمل السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) كلام الآخوند على إرادة اتصال صفتي اليقين والشك لا المتيقن والمشكوك. ووجّهه : باستظهار ذلك من بعض روايات الاستصحاب الظاهرة في كون الشك متصلا باليقين ، كقوله علیه السلام : « إذا كنت على يقين ... فشككت » فان ظاهر الفاء كون الشك متصلا باليقين ومتأخرا عنه زمانا.

وأورد عليه : بان التعبير المذكور مبني على ما هو المتعارف والغالب في موارد الاستصحاب من تحقق الشك بعد اليقين ، فلا يصح التمسك به في إثبات اعتبار اتصال (1) اليقين والشك.

ولكن لا وجه لما ذكره ( حفظه اللّه ) بعد ما عرفت إرادته المتيقن والمشكوك لا صفتي اليقين والشك ، كي يستشهد له بالرواية ويورد عليه ، كيف؟ وقد جعل ظهور الرواية البدوي قرينة على إرادة قاعدة اليقين منها مما يكشف بوضوح ان خصوصية سبق اليقين غير معتبرة في الاستصحاب بتاتا ، فلا يحتمل في حق صاحب الكفاية انه يرى لزوم سبق اليقين واتصاله بالشك.

إذا عرفت هذا ، فذهاب المحقق الخراسانيّ قدس سره إلى عدم جريان استصحاب العدم المذكور انما كان لأجل عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فلا يحرز صدق النقض ، فلا يمكن التعبد بالاستصحاب لمصداقية الشبهة.

وتوضيحه : ان لدينا آنات ثلاث : الأول ، يحرز فيه عدم كل من الحادثين. والثاني : يحرز فيه حدوث أحدهما. والثالث : يحرز فيه حدوث الآخر. فكل منهما يحتمل حدوثه في الآن الثاني وفي الآن الثالث ، وزمان الشك في أحدهما هو زمان

ص: 244


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 183 - الطبعة الأولى.

وجود الآخر ، وهو مردد بين الآن الثاني والآن الثالث. فان كان الآن الثاني كان زمان الشك متصلا بزمان اليقين. وان كان الآن الثالث كان زمان الشك منفصلا عن زمان اليقين ، فينشأ التردد في حصول الاتصال وعدمه ، ومنه ينشأ التردد في صدق النقض ، ومعه لا يصح إجراء الاستصحاب كما لا يخفى.

وقد أورد عليه المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات - : بأنه لا مجال للتردد في حصول الاتصال وعدمه ، لأن الشك واليقين من الصفات الوجدانية التي لا تقبل التردد ، فلا معنى لحصول الشبهة المصداقية بالنسبة إلى الشك واليقين ، والشك هاهنا حاصل فيحرز الاتصال ويجري الاستصحاب (1).

وهذا الإشكال مبني على إرادة صفتي اليقين والشك من اليقين والشك في موضوع الاتصال ، لا المتيقن والمشكوك ، وتفسير اليقين والشك في المورد بذلك ، فان اليقين والشك من الأمور الوجدانية التي لا تقبل التردد. امّا بناء على تفسيرهما بالمتيقن والمشكوك - كما عرفت - فلا يرد هذا الإشكال ، لكونهما حينئذ من الصفات الواقعية التي تقبل الشك - كما اعترف به المحقق المذكور - فمنشأ الاختلاف هو الاختلاف في مراد صاحب الكفاية باليقين والشك في المقام ، فالمحقق النائيني تخيل بان المراد صفة اليقين وصفة الشك - عطفا على اليقين والشك المأخوذ في الروايات - فأورد عليه بما عرفت. ولكنك عرفت عدم إرادة نفس الصفة ، بل المتيقن والمشكوك ، للجزم بعدم اعتبار صاحب الكفاية تقدم زمان اليقين على زمان الشك. فالتفت.

هذا ، مضافا إلى انه لو فرض انه قدس سره يلحظ نفس وصفي اليقين والشك ، فلا يرد عليه ما ذكر ، وذلك لأن مدعاه الشك في اتصال زماني اليقين والشك لا الشك في نفس اليقين والشك ، فهو قد فرض حصول اليقين في زمان

ص: 245


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 429 - الطبعة الأولى.

وحصول الشك في زمان آخر ، وانما يشك في اتصال الزمانين. واتصال الزمانين ليس من الأمور الوجدانية التي لا تقبل الشك. فانتبه ولاحظ.

وهذا الّذي ذكرناه في بيان عبارة الكفاية هو أحد التفسيرات لعبارته المغلقة حيث فسرت بتفسيرات أخرى تعرفها فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وقد أورد على نفسه إيرادا تحت عنوان : « لا يقال ... » وحاصل الإيراد : ان اتصال زمان الشك بزمان اليقين محرز في المقام ، لأن زمان الشك هو مجموع الزمانين حيث يشك في حدوث كل من الحادثين في أحد الزمانين ، وهو متصل بزمان اليقين - أعني الآن الأول - ، وإذا استصحب العدم في مجموع الزمانين فقد ثبت العدم في زمان الحادث الآخر لعدم خروجه عنهما.

وقد دفع الإيراد المذكور بعبارة لا تخلو عن إغلاق (1).

وقد فسرت : بان مجموع الزمانين انما يكون زمانا للشك إذا لوحظ العدم مضافا إلى عمود الزمان ، اما إذا لوحظ مضافا إلى حادث آخر - كما هو المفروض - فلا يكون مجموعهما زمان الشك ، لأن زمان الحادث الآخر أحد الآنين لا كليهما ، وهو غير محرز فلا يحرز الاتصال.

وأورد عليه : بان كون الملحوظ إضافته إلى حادث آخر لا يضر في اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، لأنه على تقدير كون زمان الحادث الآخر واقعا هو الآن الثالث فالآن الثاني أيضا زمان الشك في العدم ، لأن اختلاف اللحاظ لا يوجب عدم كونه زمان الشك ، وعدم كون التعبد في الآن الثاني موضوعا للأثر ، لا يضر لعدم اعتبار ترتب الأثر على الشك حدوثا بل بقاء وفي حال الاستصحاب.

ص: 246


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /420- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهذا الإيراد انما يرد بناء على ما هو ظاهر العبارة من إمكان لحاظ العدم ، مضافا إلى أجزاء الزمان ، ومضافا إلى حادث آخر. غاية الأمر ان الإضافة إلى أجزاء الزمان غير ملحوظة ، والتفسير المذكور ناشئ من ذلك.

ولكنه خلاف المراد ، لأنّ مجموع الزمانين لا يكون زمان الشك في كل من الحادثين إذا لوحظ مضافا إلى اجزاء الزمان ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في الآن الثالث.

وعليه ، فلا يمكن لحاظ العدم مضافا إلى اجزاء الزمان ، لأن المفروض ان الأثر انما يترتب فيما إذا أمكن سراية التعبد إلى الزمان الثالث حتى يثبت العدم في زمان الحادث الآخر ، وهو لا يمكن في المورد للعلم بانتقاض الحالة السابقة. فلا بد من تقييد الزمان بخصوصية زائدة حتى يحصل الشك فيه ويسري إلى مجموع الزمانين ، وذلك يكون لفرض لحاظه بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر.

لسراية التعبد إلى الآن الثالث ، لاحتمال كون الحادث الآخر في ذلك الآن وفي الآن الثاني. وإذا فرض ملاحظة العدم بالإضافة إلى الحادث الآخر جاء النفي المدعى ، وهو عدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، لتردد زمان الآخر بين الآنين الثاني والثالث ، فلا يكون الآن الثاني زمانا للشك على تقدير كون زمان الحادث الآخر هو الآن الثالث. فيتحقق انفصال زمان الشك عن زمان اليقين ، وحيث يتردد زمان الحادث الآخر بين الآنين لا يتحقق إحراز الاتصال ، فلا يصح إجراء استصحاب العدم إلى زمان الإسلام ، لعدم إحراز زمان الإسلام ، فلا يكون زمانا للشك رابطا بين الآن الأول والآن الثاني.

ومن هنا تعرف ان مراد الكفاية هو ان مجموع الزمانين مسلم الاتصال لو لوحظ العدم بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، ولكنه حيث لم يلحظ كذلك لعدم

ص: 247

إمكانه ولوحظ بالإضافة إلى حادث آخر لم يحرز الاتصال لتردد زمان الحادث الآخر بين الآنين.

ولعل الاشتباه في التفسير نشأ عما يتضمنه الإيراد من كون مجموع الزمانين زمان الشك في حدوث كل من الحادثين الظاهر في كون المجموع زمان الشك ، فقول المحقق الخراسانيّ : « نعم » يظهر في تسليمه ، والغفلة عن انه زمان الشك في الحدوث ، وهو مسلم إلاّ انّه هو غير محل الكلام ، لأن محله هو الشك في الحادثين لا في حدوثهما. فالإيراد لا يخلو عن المغالطة. فالتفت.

والموجود في تقريرات المرحوم الكاظمي قدس سره تفسير آخر لعبارة الآخوند رحمه اللّه ، بيانه : ان موضوع الأثر إذا كان مركبا من جزءين ، فالتعبد بأحد الجزءين انما يكون في صورة إحراز الجزء الآخر اما بالوجدان أو بالأصل ، إذ مع عدم الجزء الآخر لا يترتب الأثر على ذلك الجزء ، فيكون التعبد به لغوا لعدم الأثر فيه.

وفيما نحن فيه الموضوع للأثر مركب من جزءين : أحدهما : عدم الموت والآخر : زمان الإسلام. فمع عدم إحراز الإسلام لا معنى للتعبد بعدم الموت لعدم ترتب أثر عليه ، والإسلام محرز في الآن الثالث. فالتعبد بعدم الموت في زمان الإسلام على تقديره انما يصح في الآن الثالث ، لأنه زمان الشك حيث أحرز فيه الجزء الآخر وهو الإسلام المضاف إليه عدم الموت ، فيكون فيه شك بعدم الموت في زمان الإسلام. ولا يصح التعبد في الآن الثاني لعدم إحراز الإسلام فيه ، فلا يكون زمان الشك بعدم الموت بهذه الإضافة والاستصحاب غير جار في الآن الثالث لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، لاحتمال كون الحادث في الآن الثاني هو الموت.

وأورد عليه : بان موضوع الأثر ان كان عدم الموت وزمان الإسلام بنحو التقييد ، فالاستصحاب غير جار ، ولكنه لا لأجل عدم اتصال زمان الشك بزمان

ص: 248

اليقين ، بل لأجل عدم اليقين السابق بالعدم المقيد بزمان الإسلام كي يستصحب. وان أخذ في الموضوع الأثر بنحو التركيب بان كان زمان الإسلام ظرفا لعدم الموت ، فزمان الشك متصل بزمان اليقين ، لأن الآن الثاني يشك فيه بعدم الموت أيضا ، فيكون كل من الآنين الثاني والثالث زمانا للشك. غاية الأمران الآن الثالث يفترق عن الثاني بإضافة الإسلام إليه ، وهو ليس فرقا أساسيا يوجب الاختلاف من ناحية التعبد بعدم الموت (1).

والكلام المذكور لا يخلو عن نظر في تفسيره وإيراده.

اما تفسيره ، فلان لازمه إحراز عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين الناشئ من جعل زمان الشك هو الآن الثالث. وعليه فلا تكون الشبهة مصداقية ، بل يكون المورد معلوم الخروج عن عموم دليل الاستصحاب ، مع ان صريح عبارة الكفاية كون المحذور عدم إحراز الاتصال والانفصال وكون الشبهة مصداقية.

امّا الإيراد ، فلا إشكال في عدم إرادة الشق الأول لكونه خلاف المفروض ، لأن المفروض كون الأثر يترتب على العدم في ظرف الإسلام بنحو التركيب ، فلا وجه لفرضه. والشق الثاني راجع إلى ما ذكر في الكفاية من الإيراد تحت عنوان : « لا يقال » من دعوى كون مجموع الزمانين زمانا للشك ، فلا معنى للإيراد به ، لأنه أجاب عنه بما عرفت ، فإذا كان الإيراد مسلما عنده فليكن الإشكال على الجواب لا إيراد نفس الإيراد.

وقد فسر المحقق الأصفهاني قدس سره عبارة الكفاية بعين ما ذكرناه من التفسير.

وأورد عليه : بان الاتصال المعتبر في إجراء الاستصحاب محرز ، وغير

ص: 249


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 517 - 521 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المحرز غير معتبر. بيان ذلك : ان المعتبر انما هو اتصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بزمان المتيقن بما هو متيقن ، وليس المعتبر اتصال زمان ذات المشكوك بزمان ذات المتيقن ، لأن تحقق ركني الاستصحاب لا يتوقف على ثبوت المتيقن والمشكوك واقعا ، بل انما يتوقف على حصول اليقين والشك ، وكون المتيقن حاصلا في أفق اليقين والمشكوك حاصلا في أفق الشك ، ولو لم يكن لهما ثبوت واقعي أصلا. وإذا ثبت ان الأثر انما يترتب على المتيقن والمشكوك بما هو متيقن مشكوك ، كان المعتبر هو اتصال زمان المشكوك بما هو مشكوك بالمتيقن بما هو متيقن ، وهو محرز لأن المشكوك هو عدم الموت في زمان الإسلام ، وهذا الشك حاصل في الآن الثاني ، إذ لو التفت الإنسان في الآن الثاني إلى عدم الموت في زمان الإسلام ، فأما ان يحصل له اليقين به أو بخلافه أو يشك فيه. والفرضان الأولان منتفيان فيثبت الثالث وهو الشك ، فالآن الثاني زمان الشك أيضا ، فلا ينفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، واليقين بزمان الحادث الآخر لم يؤخذ جزء لموضوع الأثر وإلاّ لكان الموضوع معلوم الارتفاع لا مشكوكه - كي تكون الشبهة مصداقية - ، لعدم اليقين بزمان الحادث الآخر ، ومعه لا يتحقق أحد جزئي الموضوع ، فيعلم ارتفاعه (1).

ويورد عليه (2) : ان عدم الموت في زمان الإسلام اما ان يؤخذ بنحو العام

ص: 250


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 109 - الطبعة الأولى.
2- المناقشة فيما أفاده ( قده ) يتم ببيان أمرين : الأول : إنّ ما يكون دخيلا في موضوع الحكم تارة يكون دخيلا فيه بنحو تقييد بأن يكون الموضوع هو الحصة الخاصة المقيّدة به. وأخرى يكون دخيلا فيه بنحو الجزئية بأن يكون الموضوع مركّبا منه ومن الجزء الآخر. ويترتّب على الأول : أنّه لا يعتبر في ترتّب الحكم سوى إحراز الحصّة الخاصّة فلا يلزم إحراز القيد نفسه. نعم يكون إحرازه قهريّا فيما كان إحراز الحصّة الخاصّة بالوجدان. وأما إذا كان بالتعبّد ، فهو لا يلازم إحراز نفس القيد ، ولا يلزم إحرازه لأنّ الأثر يترتّب على نفس. ثبوت الحصّة الخاصّة تعبّدا. ويترتّب على الثاني : أنّه لا يعتبر في ترتّب الحكم إحراز كلا جزئي الموضور. ولذا يتعدّد التعبّد مع عدم إحرازهما بالوجدان ، وأما في صورة التقييد فلا يتعدّد التعبّد بل يكون هناك تعبّد واحد بالمقيّد. وجملة القول : قيد الموضوع لا يعتبر إحرازه في ترتّب الحكم ، وإنما يلزم إحراز التقيّد به. وأما جزء الموضوع فهو ممّا يعتبر إحرازه في ترتّب الأثر. الثاني : أن الأثر : تارة : يكون مترتّبا على الوجود الخاصّ للشيء بحيث تكون الخصوصيّة قيدا للوجود ، فاستصحاب عدمه يكون المقصود منه نفي الأثر المترتّب على الوجود. وأخرى : يكون مترتّبا على العدم الخاصّ بحيث تكون الخصوصية قيدا للعدم ، فيكون المقصود في استصحاب العام ترتيب الأثر. فالفرق : أنّ استصحاب العدم في القسم الأول لنفي الموضوع. وفي الثاني لإثباته وموارد ترتّب الأثر على العدم الخاصّ كثيرة في العرفيّات والشرعيات. ولا يخفى أنّه في القسم الأول يمكن إجراء استصحاب العدم مع الشك في الخصوصية ، إذ الوجود الخاصّ مسبوق بالعدم فيستصحب عدمه. وأما في القسم الثاني مما كانت الخصوصية قيدا للنفي لا للمنفي ، فيشكل جريان استصحاب العدم في مورد الحادثين المجهولي التاريخ ، لأنّ العدم المقيّد بالخصوصية المجهول تاريخهما ليس له حالة سابقة ، إذ لم يكن متحقّقا مع الخصوصية في زمان كي يستصحب ، ولا الخصوصية مسبوقة بالعدم كما لا يخفى. إذا عرفت ذلك فيقع الكلام فيما نحن فيه مما كان الأثر الشرعي مترتّبا على عدم كل من الحادثين في زمان الآخر ، ومثاله الصحيح : هو ما ذا قسّمت تركة المورث وأسلم الوارث وشكّ في المتقدّم منهما. فإن عدم القسمة إلى زمان الإسلام يترتّب على إرث المسلم. وعدم الإسلام إلى زمان القسمة يترتّب عليه محروميّته من الإرث ، فالأثر يترتّب على عدم كلّ منهما في زمن الآخر. وقد عرفت أنّه ( قده ) فرض موضوع الأثر هو عدم الإسلام إلى زمان القسمة وبالعكس وأجرى استصحابه في الآن الثاني لأنّه مشكوك بعد اليقين به سابقا. وظاهر ذلك أنّه لاحظ الموضوع هو العدم المقيّد بزمان القسمة. ويرد عليه. أوّلا : إنّ الأثر لا يترتّب على العدم الخاصّ ، بلا دخل للخصوصية بل هو يترتّب على العدم مع الخصوصية فالموضوع مركّب من جزءين لا مقيّد ، إذ من الواضح أنّ عدم القسمة لا يترتّب عليه الإرث ما لم ينضم إليه الإسلام كما أنّ عدم الإسلام لا يترتّب عليه المحرومية من الإرث ما لم ينضم إليه تحقّق القسمة وعليه فمجرّد استصحاب عدم أحدهما في زمان الآخر في الآن الثاني لا ينفع في ترتّب الأثر ما لم ينضم إليه إحراز الجزء الآخر. وثانيا : لو فرض - جدلا - أنّ الموضوع هو عدم أحدهما في زمان الآخر بنحو التقييد ، فهو من موارد كون التقييد راجعا إلى العدم نفسه ، فإنّ موضوع الأثر هو العدم الخاصّ لا الوجود الخاصّ. ومن الواضح أنّه لا حالة سابقة له كما عرفت في الأمر الثاني فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه ، ولو كانت له حالة السابقة بأن فرض تحقّق العدم في زمان الآخر كان الأثر مترتبا عليه من السابق فلا حاجة إلى الاستصحاب. فما أفاده فيما نحن فيه من إجراء الاستصحاب في العدم الخاصّ مما لا ينبغي صدوره من مثله ممن هو علم في التحقيق والتدقيق.

ص: 251

المجموعي ، بمعنى ان الإسلام قيد لعدم الموت ، فالأثر يترتب على أمر عدمي متصف بوصف وجودي ، بحيث يكون هناك شك واحد وإحراز واحد. وامّا ان يؤخذ بنحو التركيب وكون كل منهما جزء الموضوع للأثر ، فيكون هناك شكان أحدهما متعلق بعدم الموت والآخر بالإسلام.

فعلى الأول : وان صح ما ذكره من تعلق الشك بعدم الموت في زمان الإسلام في الآن الثاني ، لكنه أو لا خلاف المفروض كما عرفته.

وثانيا : لا يصح استصحابه لكونه غير مسبوق باليقين لعدم يقين سابق بعدم الموت المتصف بكونه في زمان الإسلام.

وعلى الثاني : فعدم الموت في الآن الثاني وان كان مشكوكا ، ولكن أثره انما يترتب مع إحراز زمان الإسلام في الآن الثاني كي يستصحب كما عرفت ، وهو غير محرز فلا يجدي الشك في عدم الموت في صحة إجراء الاستصحاب.

وقد تبين من هذا كله عدم ورود أي إشكال على عبارة الكفاية بناء على ما ذكرناه من التفسير. ومعه يتم المحذور الأول في جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ حاصله : كون زمان الشك عنوانا إجماليا هو زمان الإسلام - وليس هو مطلق الزمان - ، ويمكن انطباقه على كلا الآنين فلا يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، فتكون الشبهة مصداقية.

الوجه الثاني : - من وجوه المنع من جريان الاستصحاب في القسم الرابع - :

ان زمان الشك بعدم الموت زمان خاص وهو زمان الإسلام ، وهو محتمل الحدوث

ص: 252

في الآن الثالث ، والموت معلوم الوجود في هذا الآن ، فإذا أردنا استصحاب عدم الموت إلى زمان الإسلام احتمل انطباق المتيقن على المشكوك ، لاحتمال كون زمان الإسلام هو الآن الثالث ، والموت معلوم الوجود فيه ، فيلزم التعبد بالعدم في زمان العلم بالوجود ، وهو غير معقول.

وقد ذكره بعضهم تفسيرا لكلام الكفاية (1). ولكنه أجنبي عنه كما لا يخفى.

وكيف كان ، فهذا المحذور صوري ، لأن المانع من احتمال كون التعبد في زمان اليقين لا يخلو امّا ان يكون لأجل ارتفاع موضوع التعبد وهو الشك. أو لأجل المناقضة بين التعبد المذكور واليقين التفصيليّ الموجود. أو لأجل شمول ذيل الرواية للمورد ، وهو : « ولكن تنقضه بيقين آخر ».

والأول ممنوع لوجود الشك ضرورة ، وذلك لأن الزمان الملحوظ في الاستصحاب هو زمان خاص وهو زمان الإسلام ، والعدم بلحاظه ليس متيقن الارتفاع. نعم بلحاظ أصل الزمان متيقن الارتفاع في الآن الثالث. ومجرد احتمال انطباق زمان الإسلام على الآن الثالث لا يمنع من تحقق الشك في العدم بالإضافة إلى زمان الإسلام.

والثاني انما يتم لو كان لليقين التفصيليّ أثر شرعي يتنافى مع الأثر المترتب على التعبد ، كما لو كان أثر اليقين بالموت وجوب الصدقة وأثر التعبد بعدمه حرمة الصدقة ، فمع التعبد بعدم الموت إلى زمان الإسلام مع احتمال كونه في زمان اليقين بالموت يحتمل اجتماع الضدين من وجوب الصدقة وحرمتها. وليس الأمر كذلك لأن اليقين بالموت في زمان الإسلام لو كان هو الآن الثالث لا أثر له شرعا. هذا مع انه لو فرض ترتب الأثر ، فهو بوجوده الواقعي لا يمنع من الحكم الظاهري على خلافه ، كما هو الحال في جميع موارد الأحكام الظاهرية ،

ص: 253


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 210 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

لأن الأثر الواقعي على تقديره غير فعلي ، فلاحظ.

والثالث سيأتي الكلام فيه في المحذور الآتي.

وبالجملة : ما نحن فيه نظير ما لو علم بعدم وجوب إكرام زيد الفاسق وكان هناك شخص مشكوك في أنه زيد الفاسق أو لا ، فان التعبد بأنه ليس بزيد الفاسق ويجب إكرامه لا يتنافى مع احتمال انطباقه على من يعلم عدم وجوب إكرامه.

الوجه الثالث : ما ذكر بعنوان التفسير لعبارة الكفاية ، وبيانه : ان أحد الحادثين - وهو الموت مثلا - لما كان ملحوظا بالإضافة إلى الحادث الآخر ، وكان هناك علم إجمالي بحصول الموت اما في الآن الثاني أو في الآن الثالث. وعلم إجمالي آخر بحصول الحادث الآخر في أحد الآنين ، احتمال ان يكون الحادث الآخر - وهو الإسلام مثلا - قد حصل في الآن الثالث ، فيكون الموت قد حصل في الآن الثاني ، وهو مورد العلم الإجمالي.

وعليه ، فيحتمل ان يكون نقض اليقين السابق بعدم الموت ، قد انفصل بزمان اليقين الإجمالي وهو الآن الثاني ، فزمان الشك وهو زمان الإسلام لا يحرز اتصاله بزمان اليقين وهو الآن الأول ، بل يحتمل ان يكون قد انفصل باليقين الإجمالي الناقض ، لاحتمال ان زمان الإسلام هو الآن الثالث ، فيكون الآن الثاني هو زمان اليقين الإجمالي بالارتفاع.

وبالجملة : المورد من موارد احتمال انطباق ذيل الرواية ، فلا يصح الرجوع إلى العموم لكون الشبهة مصداقية لا يصح معها التمسك بعموم دليل الاستصحاب (1).

وهذا الوجه يقطع بعدم إرادته من العبارة من جهتين :

ص: 254


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 210 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأولى : انه يبتني على القول بعدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي.

وصاحب الكفاية لا يقول بذلك ، بل يقول بشموله لأطرافه - كما ستعرف الجهة الثانية : انه يقتضي ان يكون المورد من مصاديق ذلك الحكم - أعني : عدم شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالي - ، فلا وجه لجعل المحذور في جريان الاستصحاب في المورد شيئا آخر برأسه - غير ذلك - ، وهو : « عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين » - كما هو صريح العبارة -.

ثم (1) ان المحقق العراقي رحمه اللّه بعد ما ذكر كلام الآخوند بهذا

ص: 255


1- تحقيق الكلام في هذا البيان وما أفاده المحقّق العراقي في ردّه أن يقال : أما أصل المحذور بالبيان المزبور فيدفعه أنّ قوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ليس تقييدا لدليل الاستصحاب أو تخصيصا لعمومه ، فهو ليس بمنزلة الاستثناء أو الوصف ، بل هو بيان لحكم آخر مستقل ذكر بعنوان الاستدراك لما يتوهّم من عدم قابلية اليقين الحادث للنقض بتاتا - كما هو ظاهر قوله « لكن » - ومحصّل هذا الحكم هو بيان أنّ ما من شأنه النقض هو اليقين الآخر المخالف لليقين بالحدوث فلا يلزم منه تغيير موضوع دليل الاستصحاب وتقييده بل موضوعه على ما هو عليه بلا تغيّر. فلو فرض عمومه - أي الدليل - لليقين الإجمالي فهو يصطدم مع دليل الاستصحاب ويتنافى معه في مورد إحراز انطباقه ، مع إحراز انطباق دليل الاستصحاب ، فإنّه يتحقّق التهافت بين الدليلين - على ما قيل - نظير الدليلين المتعارضين ، ومقتضى التصادم هو التساقط ، لا أنّه يخرج مورده عن عموم دليل الاستصحاب رأسا - كما هو شأن الدليل المخصّص -. ومن الواضح أنّ التصادم إنّما يحصل مع إحراز انطباقه إمّا مع الشك في انطباقه على مورد الاستصحاب فلا يصادم دليل الاستصحاب ، لأنّه لا يكون حجة مع الشك في الانطباق ، فيكون دليل الاستصحاب حجة بلا مزاحم ، إذن فمجرد الشك في انطباق اليقين الإجمالي لا يضر بجريان الاستصحاب ، إذ لا تكون الشبهة مصداقية بالنسبة إلى عموم دليل الاستصحاب ، بعد أن لم يكون دليله مقيّدا بمفاد الذيل ، فتنبّه. وأما ما أفاده المحقّق العراقي في ردّه : فقد عرفت ما توجّه عليه ، ولكن يمكن توجيه ما أفاده ( قده ) بأنّ نظره ليس إلى مجرد تعلق العلم الإجمالي بالصورة الذهنية وعدم سرايتها إلى الخارج كي يقال إنّ هذا الكلام متأتّ في العلم التفصيليّ بل الشك وغيره من الصفات النفسيّة التعلقية. بل نظره ( قده ) إلى أنّ تعلّق العلم بالصورة الذهنية يمنع من تحقّق النقض بالعلم الإجمالي. بيان ذلك : إنّ العلم والشك من الصفات المتضادة التي لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، فإذا كان متعلق الشك أو العلم هو الشيء بوجوده الخارجي فيما أنّه لا تعدّد فيه يمتنع أن يكون موردا للشك والعلم في آن واحد ، فإذا فرض تحقّق العلم الإجمالي ، وتعلّقه به لم يكن متعلّقا للشك. وبذلك يتحقّق انتقاض اليقين السابق. امّا إذا فرض تعلّق الشك أو العلم بالشيء بوجوده الذهني فيما أنّ الشيء يمكن أن يكون بلحاظ صورة الذهنية متعدّدا لتعدد العناوين المنطبقة عليه أمكن أن يكون متعلّقا للشك والعلم في آن واحد مع تعدد العنوان ، لاختلاف متعلّق الوصفين حقيقة - بعد أن كان هو العنوان والصورة الذهنية - فيكون متعلّقا للشك بعنوان ومتعلّقا للعلم بعنوان آخر. وعلى هذا الأساس يمكن أن يجتمع العلم الإجمالي مع الشك ولا ينتقض الشك به لأنّ متعلّق العلم هو الشيء بعنوانه الإجمالي ومتعلق الشك هو الشيء بعنوانه التفصيليّ. وإذا لم يكن العلم الإجمالي مناقضا للشك ورافعا له لم يكن ناقضا لليقين السابق لا محالة. ولذلك لم يكن العلم الإجمالي صالحا للنقض ، بخلاف العلم التفصيليّ فإنّه يتعلّق بما يتعلّق الشك فيه فيستلزم نقضه وارتفاعه فيكون ناقضا لليقين السابق. وبالجملة : مرجع ما أفاده ( قده ) إلى عدم صلاحية العلم الإجمالي لنقض اليقين السابق واختصاص اليقين الناقض باليقين التفصيليّ ، فإشكاله في المقام هو الإشكال في كبرى المسألة - بلا خصوصية للمقام - وهي عدم جريان الاستصحاب في موارد العلم الإجمالي أو جريانه. وسيأتي تحقيقه في محلّه ، فتدبّر.

التفسير وأسهب في توضيحه. أورد عليه : بأنه انما يتم بناء على سراية العلم الإجمالي إلى الخارج ، مع ان الأمر ليس كذلك ، فان العلم الإجمالي انما يتعلق بالصورة الذهنية للشيء - ويعبر عنها بالمعلوم بالذات -. أمّا الصورة الخارجية فهي معلومة بالعرض ولا يسري العلم إليها ، فهي في نفسها مشكوكة (1).

ولا يظهر لهذا الإيراد وجه وجيه أصلا ، فان الصورة الذهنية التي تعلق بها العلم تطابق الصورة الخارجية - ولأجل ذلك كانت الصورة الخارجية معلومة بالعرض - والمحذور المتأتي بناء على سراية العلم الإجمالي إلى الصورة الخارجية - وهو احتمال كون نقض اليقين باليقين لا بالشك - متأت من جهة المطابقة بين الصورتين ، فالمحذور تام على كلا الوجهين والبناءين.

ص: 256


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 211 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

نعم ، لو قلنا بعدم مطابقة الصورة الذهنية للصورة الخارجية ، وانه لا علاقة له بالصورة الخارجية لم يتأت المحذور. ولكنه لا قائل به ، لاستلزامه ارتفاع منجزية العلم الإجمالي بالمرّة وعدم أثر له خارجي أصلا.

وبعبارة أخرى : ان ما أفاده من عدم السراية متأت حتى بالنسبة إلى العلم التفصيليّ ، مع ان الالتزام بناقضيته ليست محل إشكال.

ويتحصل مما ذكرنا : ان ما ذكر في تفسير عبارة الكفاية غير تام لا في نفسه ولا بعنوان توجيه كلام الكفاية.

إذا عرفت هذا كله. فالحق في المقام عدم جريان الاستصحاب - كما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ قدس سره - لمحاذير ثلاثة :

المحذور الأول (1) : ما ذكره المحقق الخراسانيّ في الكفاية بالتوجيه الّذي ذكرناه.

ص: 257


1- قد يورد : على ما أفاده صاحب الكفاية بالتقريب الّذي بيّناه فإنّ الشك في اتّصال المشكوك بالمتيقّن لأجل تردّد زمان الحادث الآخر بين الآنين الثاني والثالث لا يضرّ بالاستصحاب ، لأنّه يمكن جرّ العدم من زمان اليقين إلى زمان الشك أيّ آن كان الثاني والثالث ، واحتمال ارتفاعه في الأثناء لا يضرّ في التعبّد بالبقاء لأن مرجعه إلى عدم تحقّق الانفصال نظير ما لو تيقّن بعدالة زيد صباحا ، وشك في تحقّقها ليلا لكونها مورد الأثر العملي ، واحتمل ارتفاعها ظهرا ، فإنّه من موارد احتمال الانفصال ، مع أنّه لا يضرّ بالاستصحاب جزما. ففي ما نحن فيه نقول : يمكن استصحاب عدم الإسلام - مثلا - إلى زمان تحقّق القسمة الواقعي واحتمال الانفصال لا يضرّ بعد ما كان مرجع التعبّد الاستصحابي هو التعبّد بالبقاء وعدم الانفصال. والجواب عن هذا الإيراد يتّضح بتقديم مقدمة وهي : أن مصادفة التعبد لما يخالف اليقين لا يضرّ في صحة التعبّد إذا لم يكن التعبّد بالحكم بالعنوان الّذي تعلّق به اليقين بالخلاف ، فمثلا لو علم بحرمة إكرام الفاسق ، وشك في زيد أنّه فاسق أو لا ، فإنّ التعبّد بجواز إكرامه بقول مطلق سواء كان في الواقع فاسقا أو ليس بفاسق لا ينافي العلم بحرمة إكرامه لو كان فاسقا ، وإن احتمل مصادفة مورد التعبّد لمورد العلم ، وذلك لأنّ الحرمة الثابتة المعلومة ثابتة لزيد بما هو فاسق ، والحلية الثابتة ثابتة له بما هو مشكوك مع قطع النّظر عن فسقه وعدم فسقه ، لأنّ مرجع الإطلاق إلى رفض القيود. فالحكم الظاهري لا يحتمل انطباقه على ما هو معلوم الخلاف فلم أنّ يبق سوى محذور اجتماع الحكمين المتضادين ، ولكنه. محذور سار في مطلق موارد الأحكام الظاهرية ، واتّضح اندفاعه في محله. نعم إذا كان التعبّد بالجواز على كلا تقديريه بنحو يكون كلاّ من تقديريه دخيلا في الحكم على تقدير تحقّقه ، بأن كان مباح الإكرام بما هو فاسق. أو بما هو ليس بفاسق كان ذلك ممتنعا لاحتمال كون الحكم الظاهري بالإباحة ثابتا لما يقطع بالحرمة بالنسبة إليه. وكما يمتنع جعل الحكم الظاهري مع العلم بالخلاف ، كذلك يمتنع جعله مع احتمال انطباقه مع مورد العلم بالخلاف ، لتقدير موضوعه بغير العلم ، فلا يمكن الجزم به والحال هذه ، لأنّه مستلزم لاحتمال اجتماع المتنافيين وهو محال كالقطع به. إذا عرفت ذلك نقول : إنّ الآن الثالث من الآنات الثلاثة يعلم فيه بتحقّق كلا الحادثين وارتفاع المتيقّن السابق. وعليه فإذا فرض التعبّد بالعدم إلى زمان الحادث الآخر على أيّ تقدير أي : سواء كان هو الآن الثاني أو الآن الثالث ، فمرجع ذلك إلى احتمال جرّ العدم أي الآن الثالث مضافا إلى الآن الثاني - لأنّ عموم الاستصحاب بلحاظ الزمانين شمولي لا بدلي فخصوصيّة الزمانين ملحوظة فيه لا ملغاة - كما في مثل التعبّد بجواز إكرام زيد سواء كان فاسقا أم عادلا - فمرجع الإطلاق هاهنا إلى ملاحظة كلا الزمانين لأنه شمولي. والمفروض أنّ العدم أنّ العدم في الآن الثالث معلوم الارتفاع ، فيلزم سراية التعبّد أي زمان يعلم فيه بعدم بقاء المتيقّن ، فيكون من التعبّد بالشيء مع العلم بخلافه ، وقد عرفت امتناع احتماله كامتناع الجزم به ، لأنّه جمع بين المتنافيين. فكيف يحتمل أن يسري التعبّد بالعدم إلى زمان العلم بارتفاعه الملازم للعلم بعدم التعبّد به؟. هذا إذا أريد جرّ العدم إلى زمان الحادث الآخر على كلا تقديريه بحيث أريد إبقاؤه إلى الآن الثالث. وأما إذا لوحظ العدم بالإضافة إلى زمان الآخر مع قطع النّظر عن كونه في هذا الآن أو ذاك ، بل لوحظ بحياله - كما هو ظاهر الكفاية - فمن الواضح أنّه زمان واحد مردّد بين آنين أحدهما متصل بزمان المتيقّن والآخر منفصل ، فيتأتى إشكال عدم إحراز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. والّذي يتحصّل : أنّه إن كان العدم ملحوظا بالنسبة إلى زمان الآخر بما هو أحد الزمانين الثاني أو الثالث بحيث أريد جرّه إليه أينما كان ، كان الإشكال فيه ما ذكرناه من احتمال مصادفته لمورد العلم بالخلاف - وهو الّذي تقدّم بيانه - وإن لوحظ بالنسبة إلى زمان الآخر الإجمالي مع قطع النّظر عن الزمانين الثاني والثالث ، جاء إشكال عدم إحراز تحقّق اتّصال زمان الشك بزمان اليقين الّذي هو ظاهر الكتاب. فالإشكال وارد على أيّ تقدير. هذا غاية ما يقرّب به كلام صاحب الكفاية ، فتأمّل فيه وفي أطرافه فإنّه لا يخلو عن دقة.

ص: 258

المحذور الثاني (1) : ان الأثر انما يترتب على عدم الحادث في زمان وجود

ص: 259


1- لا يخفى أنّ هذا الوجه مع الوجه الأول الّذي ذكره صاحب الكفاية بالبيان الّذي ذكرناه ليسا في عرض واحد ولا يردان على تقدير واحد ، بل كل منهما وارد على تقدير. وتوضيح ذلك : أنّ الموضوع للأثر المردّد بين أمرين تارة يكون له واقع خارجي مشخّص بأحد المشخّصات لكنه مردّد بين عنوانين يحتمل انطباق كل منهما عليه ، كما لو رأيت شيخا يتكلّم لكنّه كان مردّدا بين كونه ابن زيد أو ابن عمرو. وأخرى لا يكون له واقع مشخّص بل يكون واقعه مردّدا بين وجودين ، كما لو تردّد الجائي بين كونه زيدا أو عمرو. ففي الأول يكون موضوع الأثر وجودا معيّنا لكنّه مردّد بين عنوانين. وهو المرئي أو المسموع صوته ، فإنّ هذا العنوان يشير إلى واقع مشخّص. وفي الثاني يكون موضوع الأثر مردّدا بين وجودين ، كعنوان الجائي فإنّه لا يشير إلى واقع معيّن مشخّص بل يشير إلى واقع مردّد بين وجودين أحدهما زيد والآخر عمرو. والفرق بين الصورتين : أنّه في الصورة الأولى يمكن جعل هذا المردّد موضوع الأثر على كل تقدير وإن كان على أحد تقديريه لا يثبت له الحكم واقعا ، فيمكن الحكم في المثال المتقدّم بإكرام هذا المتكلّم سواء كان ابن زيد أو ابن عمرو. وإن كان حكم ابن زيد هو عدم وجوب الإكرام ، لتحقّق الشك في وجوب إكرام هذا الموجود فيتعبّد بوجوب إكرامه ، ولا يتنافى الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي المخالف له. وأما في الصورة الثانية ، فلا يمكن التعبّد بترتّب الأثر على كل تقدير إذا فرض أنّه غير ثابت له واقعا على أحد تقديريه. وذلك لأنّ المفروض أنّ العنوان يشير إلى وجود مردّد ، والوجود هو موضوع الأثر لا العنوان ، والمفروض أنّ الوجود على أحد تقديريه لا يشك في ثبوت الحكم له ، فلا يمكن التعبّد الظاهري بوجوب إكرام الداخل سواء كان زيدا أو عمرا ، لأنّه - مثلا - لو كان زيدا يعلم بعدم وجوب إكرامه فلا شك في الحكم بالنسبة إليه ، فكيف يتعبّد بوجوب إكرام الداخل - وهو عنوان مشير إلى أحد الوجودين - على كل تقدير بعد أن كان فردا مردّدا؟ والتعبّد فرع الشك. إذا اتّضح ذلك ، فنقول : إنّ موضوع الأثر فيما نحن فيه هو عدم التقسيم في زمان الإسلام - مثلا - ، وزمان الإسلام على الفرض مردّد مجهول الانطباق على أيّ الآنين - الثاني أم الثالث -. وعليه : فإن لوحظ زمان الإسلام مما له واقع مشخّص غاية الأمر أنّه يتردّد عنوانه ، نظير الشيخ المرئي المردّد بين كونه ابن زيد أو ابن عمرو. فالتعبّد بعدم القسمة في زمانه على كل تقدير لا محذور فيه كما عرفت ، لكن يجيء إشكال صاحب الكفاية من تردّد هذا الزمان بين زمانين أحدهما منفصل والآخر متّصل فلا يجوز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. وإن لوحظ زمان الإسلام عنوانا مشيرا إلى وجود مردّد بين فردين وهما الآن الثاني والآن الثالث. كما هو الظاهر حيث أنّه لا واقع له سوى أحد هذين الآنين وهو بالنسبة إليهما من قبيل العنوان المشير وليسا هما بالنسبة إليه من قبيل العنوان إلى المعنون - جاء ما ذكرناه من الإيراد - في المتن - وهو أنّ العدم لا يشك فيه على كل تقدير من تقديري زمان الإسلام ، لأنّه على تقدير كونه الآن الثالث فهو منتقض ومتبدّل إلى الوجود قطعا. نعم هو مشكوك في الآن الثاني الّذي يحتمل بكون زمان الإسلام أيضا. فالشك فيه على أحد تقديري زمان الإسلام لا على كلا تقديريه ، فلا يمكن التعبّد به على كلا التقديرين ، والمتعبّد على أحد التقديرين لا أثر له شرعا لعدم إحراز الجزء الآخر ، وهو الإسلام معه وفي ظرفه. فظهر أنّ هذين الإيرادين لا يردان على تقدير واحد. والّذي يتلخّص في مقام نفي الاستصحاب في مجهول التاريخ في نفسه : أنّه إن كان زمان الحادث الآخر ذا وجود مشخّص غاية الأمر أنّه مردّد بين عنوانين ، لم يجر الاستصحاب لعدم إحراز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. وإن كان مردّدا بين وجودين ، لم يجر الاستصحاب لعدم الشك على كل تقدير. وعلى هذا التقدير يتفرّع الإيراد الثالث الّذي ذكرناه مفصّلا في المتن. وخلاصة المحذور فيه : أنّ عنوان زمان الحادث الآخر لا يصدق إلاّ مع العلم بتحقّقه لأنّ معنى زمان الحادث هو زمان تحقّق الحادث ، ولا يمكن الحكم على زمان بأنّه زمان تحقّق الحادث إلاّ إذا كان معلوم التحقّق فيه ، والآن الثاني لا يعلم أنّه قد تحقّق فيه الإسلام ، فإجراء أصالة عدم القسمة فيه لا يتحقّق به التعبّد بالعدم في زمان الإسلام بل في زمان احتمال الإسلام ، وهو غير موضوع الأثر ، فلا مجال لإحراز أنّه زمان الإسلام إلاّ بنحو يستلزم الدور وكون الأصل مثبتا فتأمّل في ذلك تعرف.

الحادث الآخر ، فموضوع الأثر مركب من عدم الحادث وجود الحادث الآخر.

والتعبد بأحد الجزءين لا يصح إلا في ظرف إحراز الجزء الآخر ، لا بمعنى ان التعبد لا بد وان يكون في ظرف إحراز الآخر ، بل بمعنى ان المتعبد به هو الجزء في ظرف يحرز فيه الآخر. وبعبارة أخرى : ان ظرف المتعبد به لا بد ان يكون زمان إحراز الآخر ، وان كان التعبد قبل الإحراز فالأثر انما يترتب فيما إذا أحرز عدم الحادث في ظرف يحرز فيه الحادث الآخر.

ولما لم يكن الشك في بقاء عدم الحادث بهذه الإضافة - أعني : إلى زمان الآخر على كل تقدير وبقول مطلق - لأنه على تقدير انطباق زمان الحادث الآخر على الآن الثالث لا يشك في بقاء العدم على هذا التقدير للعلم بانتفائه

ص: 260

وانتقاضه. نعم الشك في بقاء عدم الحادث حاصل مع تقدير فرض انطباقه على الآن الثاني ، للشك في العدم في هذا الآن دون الآن الثالث. فالشك في بقاء عدم الموت إلى زمان الإسلام ليس على كل تقدير ، بل على خصوص تقدير كون زمان الإسلام هو الآن الثاني. - امتنع جريان الاستصحاب في المورد ، لأن التعبد بعدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر في الآن الثاني ، لا يجدي في ترتب الأثر لعدم إحراز الحادث الآخر في هذا الظرف - لتردده بين الآنين - ، والتعبد به في جميع الأزمنة التي يحتمل وجود الحادث الآخر فيها بحيث يحرز تصادف العدم مع الحادث الآخر غير ممكن ، لانطباق الاستصحاب على الآن الثالث ، وقد عرفت عدم الشك فيه.

والحاصل : ان التعبد بعدم الحادث في زمان الآخر على تقدير دون تقدير لا يجدي في ترتب الأثر ، لعدم إحراز كلا الجزءين في ظرف واحد وعلى جميع التقادير غير ممكن ، لعدم الشك على بعض التقادير.

المحذور الثالث : وقبل بيانه لا بد من بيان شيء وهو انه هناك فروضا ثلاثة تذكر في الاستصحاب لها علاقة بما نحن فيه :

الفرض الأول : ان يكون موضوع الأثر تحقق بقاء الحادث إلى زمان حادث آخر ، وعلم إجمالا بحصول الحادث الآخر في أحد زمانين ، واحتمل بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر - المعلوم بالإجمال - ، فلا إشكال في استصحاب بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر.

الفرض الثاني : ان يكون موضوع الأثر كذلك ، ولكن كان الحادث الآخر محتمل الحصول في زمان معين كالزوال لا معلوما. فقد يتوهم جريان الاستصحاب في هذه الصورة باعتبار وجود الشك في بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر. ولكنه توهم فاسد يبتني على المغالطة ، فان صدق زمان الحادث الآخر - كزمان مجيء زيد - متقوم بإحراز الحادث الآخر - وهو المجيء - وثبوته ،

ص: 261

وإلاّ فلا يصدق سوى زمان احتمال مجيء زيد. فلا شك في بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر لعدم صدق : « زمان الحادث الآخر » ، فلا يجري الاستصحاب في المورد.

الفرض الثالث - وهو وسط بين الفرضين - : ان يكون موضوع الأثر كذلك أيضا ، وكان الحادث الآخر محتمل الحصول في زمان معين أيضا ، ولكن كانت هناك ملازمة واقعية بين بقاء الحادث كجلوس عمرو وحصول الحادث الآخر في ذلك الزمان المعين ، بمعنى ان الحادث لو استمر إلى ذلك الزمان لكان الحادث الآخر قد حصل في ذلك الزمان.

فهو كالفرض الأول من جهة وجود الملازمة التي نتيجتها حصول العلم بالحادث الآخر لو علم باستمرار الحادث ، ولا يبقى مشكوكا.

وكالفرض الثاني : من جهة الشك بحصول الحادث الآخر في ذلك الزمان المعين. واما من جهة صحة جريان الاستصحاب في هذا الفرض وعدم صحته ، فهو كالفرض الثاني ، لأن جريان الاستصحاب فيه يستلزم محذورين ، الدور وكونه مثبتا.

لأن موضوع الاستصحاب هو الحادث إلى زمان الحادث الآخر. وصدق : « الشك في بقاء الحادث إلى زمان الحادث الآخر » يتوقف على إحراز الحادث الآخر ، لتقوم صدق : « زمان الحادث الآخر » بإحرازه - كما عرفت - ، فاستصحاب الحادث إلى زمان الحادث الآخر متوقف على إحراز الحادث الآخر ، مع ان الإحراز انما يكون به - أعني : بالاستصحاب - فيلزم الدور. كما انه يكون مثبتا بالنسبة إلى الحادث الآخر لأن ثبوته بالملازمة.

وبالجملة : فالاستصحاب غير جار لعدم إحراز الحادث الآخر من جهة تقوم صدق الشك بالحادث نفي زمان الحادث الآخر بإحرازه ، لا من جهة توقف ترتب الأثر عليه ، فالتفت.

ص: 262

إذا عرفت هذا ، فما نحن فيه من قبيل الفرض الثالث ، لما عرفت من ان الشك في بقاء عدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر ليس على كل تقدير ، لأنه في فرض انطباق زمان الحادث الآخر على الآن الثالث لا شك في العدم للعلم بانتفائه. نعم هو حاصل على تقدير انطباقه على الآن الثاني ، والحادث الآخر في هذا الآن محتمل الحصول لتردد حصوله بين الآنين.

وهناك ملازمة واقعية بين بقاء عدم الحادث وبين تحقق الحادث الآخر ، بمعنى ان العدم لو استمر إلى ما بعد الآن الثاني كان الحادث موجودا في الآن الثاني.

وعليه ، فلا يصح استصحاب عدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر - فيما نحن فيه - للزوم المحذورين. فالنكتة - فيما نحن فيه - في حصر زمان الشك الّذي يمكن التعبد فيه بزمان الحادث الآخر على تقدير انطباقه على الآن الثاني ، لا مطلقا ولو انطبق على الآن الثالث ، وإلاّ كان كالفرض الأول ، فيجري فيه الاستصحاب.

الوجه الرابع : ما ذكره المحقق العراقي قدس سره في تقريب منع جريان الاستصحاب بنفسه في مجهولي التاريخ - ذكره البروجردي في تقريراته (1) -.

يشترك مع المحذور الثاني في وحدة المدعى من عدم إمكان التعبد بعدم الحادث إلى زمان الحادث الآخر على جميع التقادير ، وما يمكن التعبد عليه من التقادير لا يجدي في ترتيب الأثر.

ويشترك مع المحذور الثالث بما ذكره - في تقريب المدعي - من ان التعبد بالمستصحب في زمان يحتمل انه زمان الحادث الآخر ، كما يدل عليه قوله : « وبعبارة

ص: 263


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 207 القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

أخرى : يكون الشك فيه من جهة الشك في كون الزمان الّذي حكم ببقاء المستصحب فيه هو زمان وجود غيره بلحاظ تردد زمانه بين الزمانين ».

ولكنه - في تقريب مدعاه - يختلف مع ما ذكرناه في أمرين :

الأول : ما ذكر من وجود شكين فيما نحن فيه : أحدهما : الشك بعدم الحادث بالإضافة إلى الزمان. والآخر : الشك في مقارنة البقاء التعبدي لزمان وجود الغير.

وظاهر كلامه كون هذين الشكين عرضيين ، بحيث يمكن حصول أحدهما دون الآخر. وعليه فيمكن حصول الشك في مقارنة البقاء لزمان الغير ولو أحرز البقاء بالإضافة إلى الزمان. مع انه قد عرفت - في بيان المحذور الثالث - انه لا يشك بالمقارنة على تقدير البقاء ، بل هناك علم بها للملازمة الواقعية بين بقاء الحادث إلى زمان وتحقق الحادث الآخر في ذلك الزمان.

الأمر الثاني : ما ذكره في بيان عدم إمكان جرّ المستصحب في جميع محتملات أزمنة وجود الغير التي منها الزمان الثالث من : ان الزمان الثالث زمان انتقاض اليقين بكل منهما بيقين آخر. مع ان اللازم هو التعليل بعدم كون الزمان الثالث زمان الشك - كما ذكرناه لانتفاء موضوع الاستصحاب - ، لا انه زمان اليقين بالخلاف ، لما عرفت في دفع أحد المحذورات من انه لا ضير في احتمال انطباق المستصحب على المتيقن.

إلى هنا ينتهي الكلام في مجهولي التاريخ. ويتضح لدينا عدم إمكان جريان الاستصحاب فيهما أو في أحدهما بنفسه للمحاذير الثلاثة التي عرفتها.

المورد الثاني : ما كان أحدهما معلوم التأريخ والآخر مجهوله. فاستصحاب عدم المجهول إلى زمان المعلوم لا إشكال فيه لعدم تأتي أحد المحذورات الثلاثة فيه أصلا كما لا يخفى.

وانما الإشكال في جريان استصحاب عدم المعلوم إلى زمان المجهول.

ص: 264

وقد حكم الشيخ قدس سره في رسائله بعدم جريانه. بتقريب : ان الوجود بنفسه غير مشكوك في زمان أصلا والوجود في زمان وجود الغير لا يقين بعدمه سابق كي يستصحب (1).

وتقريب مدعاه يبتني على مقدمتين :

الأولى : ان الشك بالمعلوم بذاته غير موجود في زمان ، بل لا بد في تحققه من ضمّ خصوصية للمعلوم.

الثانية : انه مع ضم الخصوصية يكون الشك واقعا متعلقا بها لعدم الشك في الحادث أصلا ، وإضافة الشك إلى الحادث مع الخصوصية من باب المسامحة.

وعليه ، فلما لم يكن للاتصاف بالخصوصية حالة سابقة من وجود وعدم لعدم المتصف ، لم يجر الاستصحاب. ومع عدم ضم المقدمة الثانية لا يتم كلام الشيخ رحمه اللّه ، لأن ضم الخصوصية يوجب كون موضوع الشك هو الخاصّ ، والخاصّ بما هو خاص أمر حادث مسبوق بالعدم ، فيمكن استصحابه. فضم الخصوصية إلى الحادث لا يجدي ما لم يكن الشك في الواقع متعلقا بالخصوصية لا بالمجموع ، وإلاّ فالمجموع بما هو مجموع مسبوق بالعدم فيستصحب بمفاد ليس التامة.

وقد خالف المحقق الخراسانيّ قدس سره في الكفاية الشيخ ، لأنه حكم بالتفصيل لا بعدم جريان الاستصحاب مطلقا كما عرفت من الشيخ فانه - بعد ما ذكر : ان الأثر في المعلوم والمجهول تارة لوجود أحدهما بنحو خاص بمفاد كان التامة. وأخرى لوجود أحدهما المتصف بذلك النحو بمفاد كان الناقصة. وان الحكم في الأول جريان الاستصحاب مع عدم المعارضة. وفي الثاني عدم جريانه لعدم اليقين السابق بنحو ما عرفته في مجهولي التاريخ.

ص: 265


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /388- الطبعة الأولى.

ذكر صورة ما إذا كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر بمفاد ليس التامة ، فأجري الاستصحاب في طرف المجهول لاتصال زمان شكه بزمان اليقين دون طرف المعلوم. ببيان : ان الشك في المعلوم بذاته غير موجود في زمان ، وانما يحصل الشك فيه بضم خصوصية إليه وهي إضافته إلى زمان الآخر. ومعه ..

تارة : تؤخذ هذه الخصوصية مع الحادث بمفاد كان التامة ، بان يلحظ الوجود الخاصّ المحمولي وهو تحقق أحدهما في زمان الآخر.

وأخرى : تؤخذ بنحو كان الناقصة ، بان يلحظ الوجود المتصف بكونه في زمان الآخر.

فعلى الأول يجري استصحاب العدم ويترتب عليه الأثر. وعلى الثاني لا يجري لعدم الحالة السابقة (1).

وهذا الّذي ذكرناه هو مراده من قوله : « وقد عرفت جريانه ... » ، حيث لا تخلو هذه العبارة من إجمال وغموض في المراد.

وكأنه يحاول ان يبين ان ملاحظة الحادث المعلوم بالإضافة إلى الحادث الآخر موجبة لرجوع هذه الصورة إلى إحدى الصورتين الأولتين اللتين عرفت حكمهما وهما خارجان عما نحن فيه. ومن غير الإضافة لا شك في عمود الزمان فلا يجري الأصل.

ومن هنا يتضح ان المحقق الخراسانيّ قدس سره قد وافق الشيخ قدس سره في تقريب نفي الاستصحاب بأخذ الخصوصية في الحادث ، وان خالفه في النتيجة حيث حكم بالتفصيل لا بالعدم مطلقا.

وللمحقق النائيني - كما في أجود التقريرات - وجه آخر في منع جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، وهو جعل المورد من موارد حكومة استصحاب

ص: 266


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /421- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الجزء على استصحاب عدم الكل.

وتوضيحه : انه لو حصل الشك في الكل باعتبار الشك في الجزء. وأمكن استصحاب الجزء ، فلا مورد لاستصحاب عدم الكل حينئذ ، لأنه أصل مسببي ، واستصحاب الجزء أصل سببي ، والأصل السببي حاكم على الأصل المسببي ، لأنه رافع للشك حكما. فلو شك في الصلاة مع الطهارة من جهة الشك في الطهارة ، وأمكن استصحاب الطهارة ، كان استصحابها حاكما على استصحاب عدم الصلاة مع الطهارة.

ولما كان ما نحن فيه من هذا النحو ، لأن الشك في وجود الحادث المعلوم في زمان الآخر ناشئ من الشك في تحقق الآخر المجهول في زمان الحادث المعلوم - وهو الزوال مثلا - ، فاستصحاب عدم تحقق الآخر المجهول عند الزوال حاكم على استصحاب عدم الحادث في زمان الآخر. ومن هنا يعلم ان الالتزام بجريان الاستصحاب في معلوم التاريخ يلزمه الالتزام بجريانه في سائر موارد الشك في الكل ، مع إمكان استصحاب الجزء ، لأنها من نحو واحد وبملاك واحد (1).

وقد عرفت عدم جريانه في جميع الموارد - لأنها مورد اخبار الاستصحاب - بملاك حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي. فإشكال المحقق النائيني قدس سره أشبه بالإشكال النقضي.

وقد يورد على الشيخ قدس سره في حصر الترديد بين شقين ومنع جريان الاستصحاب في كل منهما ، فلا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ أصلا - : بإمكان تصوير شق ثالث يجري فيه الاستصحاب ، وذلك بجعل الخصوصية المحصلة للشك في ظرف الزمان ، بان يضاف الحادث المعلوم إلى زمان خاص ، وهو زمان الحادث الآخر ، لأن هناك زمانا واقعيا قد تحقق فيه الحادث

ص: 267


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 426 - الطبعة الأولى.

الآخر فيلحظ الحادث المعلوم مضافا إلى ذلك الزمان الواقعي ، ويكون هذا الزمان جزءا للموضوع أو ظرفا لجزء الموضوع ، بان يكون الجزء الآخر هو الحادث الآخر ، فيكون الموضوع مركبا من ذاتي الحادثين أو من الحادث المعلوم والزمان الخاصّ ، ولا إشكال في تحقق الشك في الحادث إلى هذا الزمان بشهادة الوجدان ولما كان هذا الزمان مسبوقا بأزمنة متسلسلة قد تحقق فيها العدم يستصحب العدم إلى هذا الزمان للشك فيه في هذا الزمان.

فالخصوصية لم تلحظ في جانب الحادث ، وهو التقيد بزمان الآخر ، كي يقال بعدم الحالة السابقة. كما لم يلحظ الحادث مضافا إلى ذات الزمان ، كي يقال بعدم الشك فيه في زمان ؛ بل لوحظت في ظرف الزمان ، وحصل الشك وأمكن الاستصحاب.

فالمتحصل : ان حصر الترديد بين شقين لا وجه له ، لإمكان فرض شق ثالث يحصل فيه الشك ويكون موردا للاستصحاب.

ومن هنا تعرف الإشكال على المحقق الخراسانيّ قدس سره في تقريبه ، لأنه فيه قد وأفق الشيخ ، حيث حصر الترديد بين شقين أيضا وان خالفه في النتيجة - أعني : إجراء الاستصحاب - لما عرفت من تفصيله.

ومنه يظهر الإشكال (1) في نقض المحقق النائيني قدس سره المذكور ، فانه

ص: 268


1- تحقيق الحال فيما أفاده المحقّق النائيني : أنّ عدم جريان استصحاب عدم الكل في مورد استصحاب الجزء ليس لأجل الحكومة التي ذكرها وإلا أورد عليه بما ذكرناه في ذيل المبحث أنّ السببيّة والمسببيّة ليست شرعية بل عقليّة وهي لا تصحّح الحكومة كما لا يخفى. بل الوجه هو أنّ فرض الموضوع هو المركّب راجع إلى فرض الموضوع ذوات الاجزاء المجتمعة بلا أخذ خصوصية زائدة. وعليه فإن أريد من استصحاب عدم الموضوع بوصف الموضوعية فهو راجع إلى استصحاب عدم الحكم لأنّ موضوعية الموضوع عبارة أخرى عن ثبوت الحكم له ، وإن أريد استصحاب عدم ذات الموضوع ، فالمفروض أنّه عبارة عن الأجزاء بذواتها ، ولا شك فيها إلاّ في الجزء المفروض جريان الاستصحاب لإثباته لا لنفيه ، فليس هناك شك في الكل وراء الشك في الجزء كي يتأتّى حديث المعارضة أو الحكومة. نعم هنا شك في الأمر الانتزاعي وهو وصف مجموع الأجزاء لكنه ليس مورد الأثر نفيا أو إثباتا ، فلا مجال لجريان الأصل في نفيه. هذه خلاصة ما يقال في دفع الإشكال في موارد استصحاب جزء الموضوع لا ما أفاده من حديث الحكومة لما عرفت من عدم تماميّته. ثم أنّ ما نحن فيه ليس من هذا الباب ، وذلك لأنّ متعلق الشك فيما نحن فيه هو ثبوت عدم الحادث المعلوم في زمان الحادث الآخر الإجمالي ، ومن الواضح أنّ تعلّق الشك وتحقّقه لا يقبل الإنكار وليس من قبيل تعلّق الشك بوجود الكل الّذي يرجع في الحقيقة إلى الشك بوجود جزئه ، كما أنّ المشكوك هو مورد الأثر ، وبعبارة أخرى : أنّ المشكوك فيما نحن فيه ليس هو الكل بل هو ثبوت الجزء في زمان الجزء الآخر فالاستصحاب يجري في الجزء لا في الكل ، فلا يتأتّى فيه ما ذكرناه في ردّ استصحاب عدم الكل. ومن هنا يظهر أنّ الإشكال على المحقّق النائيني من ناحيتين : إحداهما : تقريب تقديم استصحاب الجزء على استصحاب عدم الكل ، والآخر : جعله ما نحن فيه من موارد الاستصحاب الجاري في الكل. وكيف كان : فموضوع الاستصحاب فيما نحن فيه هو عدم الحادث المعلوم - ونفرضه الإسلام - في زمان الحادث الآخر - ونفرضه التقسيم - ، وقد عرفت أنّ هذا المعنى متعلّق للشك ، وإن كان عدم الإسلام بلحاظ الأزمنة التفصيلية لا شك فيه أصلا. والّذي نراه أنّه لا مجال لإجراء الاستصحاب في المعلوم لأنّ المتيقّن أنّ فرض هو العدم السابق المتصل بزمان الحدوث كما لو كان زمان حدوث المعلوم أول الزوال فيفرض العدم في الآن السابق على الزوال المتّصل به ، فاستصحابه إلى زمان الحادث الآخر لا يحرز أنّه إبقاء له لاحتمال أن يكون زمان الحادث الآخر سابقا على زمان اليقين فإثبات العدم فيه لا يكون إبقاء للمتيقّن بل هو أشبه بالاستصحاب القهقرى. وإن فرض المتيقّن هو العدم السابق على زماني الحادثين كالعدم أول النهار فإنّه سابق على زمان الحادث الآخر جزما ، فبقصد جرّه إلى زمان الحادث الآخر. ففيه ما تقدّم من أنّ زمان الآخر مردّد بين زمانين ؛ أحدهما : متّصل بزمان اليقين ، والآخر : منفصل ، فلا يجوز اتّصال زمان الشك بزمان اليقين. وبالبيان الثاني : لا يكون الشك في البقاء على كل تقدير بل الأمر هاهنا أوضح لأنّه على كلا التقديرين لا شك لديه لفرض العلم بلحاظ الأزمنة التفصيلية كلها على خلاف مورد الجهل بالتاريخ ، فراجع تعرف.

بناء على هذا التصوير يمكن التفريق بين المورد وبين مورد الشك في الكل من جهة الشك في الجزء ، لتحقق الشك فيما نحن فيه بعد فرض زمان واقعي لوحظ الحادث مضافا إليه. بخلاف تلك الموارد ، لعدم فرض زمان واقعي للطهارة لعدم

ص: 269

العلم بتحققها ، فلا شك في الصلاة في زمان الطهارة لعدم إحراز الطهارة ، وفي زمان احتمال الطهارة لا شك فيها لليقين بها فيه فلا ملازمة بين إجراء الاستصحاب في معلوم التاريخ وبين إجرائه هناك لحصول الفرق على هذا التصوير ، فلا وجه للإشكال على جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالنقض.

وقد ينفي إجراء الاستصحاب في هذا الشق بوجهين :

الأول : انه كما تلحظ الخصوصية في طرف الوجود لتحصيل الشك ، كذلك لا بد أن تلحظ في طرف العدم لذلك ، لأنه لا شك في العدم بالنسبة إلى ذات الزمان ، فيكون موضوع الأثر هو العدم في الزمان الخاصّ ، والعدم في الزمان الخاصّ لا حالة سابقة له كي يستصحب.

الوجه الثاني : انه على تقدير وجود الحالة السابقة ، فاستصحاب العدم إلى الزمان الخاصّ لا يجدي في إثبات الخصوصية ، وترتب الأثر يتوقف على إحرازها لأنها جزء الموضوع.

ولكن ينفي الوجه الأول : بان الزمان الخاصّ لم يؤخذ مع العدم بنحو التقييد - كما هو المفروض - ، كي يشكل بأنه لا حالة له سابقة. بل أخذا بنحو التركيب ، فالمستصحب هو العدم بذاته ، وهو متيقن في الأزمنة السابقة على الزمان الواقعي ، فيستصحب إلى زمان الشك وهو زمان الحادث الآخر.

ولو أخذ بنحو التقييد ، فلا مجال للحكم بعدم الاستصحاب مطلقا ، لجريان التفصيل الّذي عرفته في الإشكال على إطلاق المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه في القسم الثاني من مجهولي التاريخ ، فراجع.

وينفي الوجه الثاني : بأن تحقق الجزء الآخر وهو الإسلام أو الزمان الخاصّ معلوم ومحرز ، وانما المشكوك هو ثبوت الجزء الآخر وهو عدم الموت في ظرفه ، فمع استصحابه يتم الموضوع بتحقق كلا جزئيه ، ويترتب الأثر. ولا حاجة

ص: 270

إلى إحراز الخصوصية بالاستصحاب لأنها محرزة بغيره.

فالإيراد على هذا الشق المفروض بهذين الوجهين غير تام.

نعم ، يمكن الإيراد عليه بأنحاء ثلاثة :

النحو الأول : انه لا شك في بقاء عدم الحادث المعلوم إلى زمان الحادث الآخر المجهول ، لأنّ الشك في هذا الفرض - أعني : عدم الحادث المعلوم التاريخ إلى زمان الحادث الآخر ، لا منشأ له إلاّ احتمال وجود الحادث الآخر قبل زمان الحادث ، - أعني الزوال -. وهذا الاحتمال على تقدير نشوء شك منه فلا ينشأ منه الا الشك في مقارنة عدم الحادث المعلوم لزمان الإسلام في مرحلة بقائه. اما الشك في بقاء عدم الحادث المعلوم إلى ذلك الزمان فلا وجود له ، لأنه على تقدير تحقق الحادث الآخر قبل زمان الحادث المعلوم ، فلا يقال بان عدم الحادث استمر إلى زمان الحادث الآخر ، بل يقال انه صادف زمان الحادث الآخر في مرحلة بقائه. فتصوير الشك في بقاء عدم المعلوم إلى زمان المجهول لا يخلو عن نوع مغالطة فالتفت.

النحو الثاني : انه قد بيّنا فيما تقدم ان أدلة الاستصحاب تفيد ان الاستصحاب هو جرّ المستصحب ومده في ظرف الشك. وليس في استصحاب عدم الحادث المعلوم إلى زمان المجهول مدّ له في زمان أصلا ، لأنه معلوم الحدّ والمقدار.

النحو الثالث : ان التعبد بالشيء انما يكون بعد انقضاء اليقين به. ولما كان من الممكن ان يكون زمان الحادث الآخر المجهول قبل زمان الحادث المعلوم. فعلى تقدير كونه كذلك يكون استصحاب عدم الحادث المعلوم إلى زمان آخر مقتضيا للتعبد به قبل انقضاء اليقين بالمتعبد ، فكيف يصح هذا الاستصحاب؟!.

ومنه يتبين عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ.

ص: 271

اما ما ذكره المحقق النائيني قدس سره في تعليل عدم الاستصحاب في الموردين من حكومة الأصل الجاري في الجزء - لأنه سببي على الأصل الجاري في عدم الكل - لأنه مسببي - ، فهو غير تام. لأن حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي انما تكون في السببية والمسببية الشرعيتين لا غيرهما ، ومسببية الشك في الكل عن الشك في الجزء ليست شرعية بل تكوينية كما لا يخفى.

فالوجه في عدم جريان الاستصحاب في الكل مع نشوء الشك فيه عن الجزء هو : ان المفروض أخذ الجزءين موضوعا للأثر بنحو التركيب ، ومعناه لحاظ ذاتي الجزءين بدون لحاظ أي شيء زائد على ذاتيهما أصلا في مقام ترتيب الأثر.

وعليه ، فمع العلم بأحد الجزءين والشك في أحدهما لا شك في الكل ، بل التعبير بالشك في الكل مسامحي ، والمشكوك انما هو الجزء فقط. نعم لو أخذ بنحو التقييد كان الشك في أحد الجزءين موجبا للشك في تحقق الموضوع المركب. لكن المفروض خلافه.

إلى هنا ينتهي الكلام في مجهولي التاريخ ومعلومه ومجهوله ويبقى الكلام في :

تعاقب الحادثين المتضادين

وموضوع البحث فيه : ما إذا علم إجمالا بحصول حادثين متضادين وشك في المتقدم والمتأخر منهما - كما لو علم بحصول الطهارة والحدث وشك في المتقدم منهما والمتأخر هل هو الطهارة أم الحدث؟ -. وذلك اما للجهل بتاريخهما أو بتاريخ أحدهما فالكلام في موضعين.

الموضع الأول : في مجهولي التاريخ.

والفرق بين هذه المسألة ومسألة مجهولي التاريخ المتقدمة : ان موضوع الأثر في هذه المسألة بسيط - وهو أحد الحادثين - لا مركب كما في تلك المسألة ،

ص: 272

لتضاد الحادثين ، فلا معنى لأخذ الموضوع مركبا منهما كما هو المفروض في تلك المسألة.

والّذي يظهر من كلام الشيخ رحمه اللّه جريان الاستصحاب في كل منهما وسقوطه بالمعارضة (1).

وقد ذهب المحقق الخراسانيّ قدس سره إلى عدم جريانه في كل منهما لذاته ، لعين المحذور السابق الّذي ذكره في جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ، وهو عدم إحراز اتصال زماني الشك واليقين - والمراد بهما المتيقن والمشكوك -.

إلا ان الفرق : ان عدم إحراز الاتصال المذكور هناك ناشئ من عدم إحراز زمان الشك لتردده بين الآنين مع إحراز زمان اليقين وهو الآن الأول. وهنا ناشئ من عدم إحراز زمان اليقين لتردده بين الآنين مع إحراز زمان الشك وهو الآن الثالث. ولأجل ذلك غيّر تعبيره بعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين إلى التعبير بعدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك (2).

ولم يذكر رحمه اللّه وجه عدم الإحراز. ولعل الوجه فيه : ان زمان الشك في البقاء انما هو الآن الثالث لا الآن الثاني ، لأنه ليس في الآن الثاني إلاّ احتمال الوجود فقط ، إذ لو كان الموجود في الآن الأول هو هذا الحادث فهو في الآن الثاني مرتفع لا محالة لحصول الحادث الآخر فيه. وان كان الموجود في الآن الأول هو الحادث الآخر فهو قد حدث في الآن الثاني. فعلى كلا التقديرين يكون الشك في الآن الثاني في الوجود لا في البقاء والشك في البقاء انما هو الآن الثالث.

وعليه ، فان كان الحادث قد حصل في الآن الثاني ، فقد اتصل زمان اليقين بزمان الشك. وان كان في الآن الأول فقد انفصل.

ص: 273


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /388- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /421- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وحيث لم يحرز حصوله في أحد الآنين المعين ، احتمل انفصال زماني اليقين والشك ولم يحرز اتصالهما ، فلا يصلح التمسك بعموم دليل الاستصحاب ، لعدم إحراز صدق النقض ، فتكون الشبهة مصداقية (1).

وقد حمل المحقق العراقي كلام الكفاية على احتمال تخلل اليقين الناقض - كما تقدم في مجهولي التاريخ -. وأورد عليه بما تقدم. ثم ذكر ما ذكرناه في تفسير كلام الكفاية على انه وجه مستقل ونسبه إليه في درسه (2).

وأنت خبير بان ما ذكرناه هو ظاهر كلام الكفاية ولا وجه لاحتمال غيره من العبارة.

وقد ناقش المحقق الأصفهاني قدس سره ما ذكره صاحب الكفاية : بان ثبوت الشيء واقعا ليس ملاك الحكم الاستصحابي ، بل ثبوته العنواني المتقوم باليقين هو ملاك جريانه ، والمفروض ثبوت اليقين بالطهارة سابقا والشك في بقائها فعلا لا في حدوثها. وهكذا الكلام في الحدث. انتهى ملخصا (3).

وفيه : ان ما أفاده لا يعلم له معنى محصل ، لأنه وان لم يكن الاستصحاب متقوما بالوجود الواقعي ، إلاّ ان الحكم الاستصحابي حكم بالإبقاء وعدم النقض ، ومع احتمال تخلل اليقين بالعدم لا يحرز أن الحكم بالطهارة في زمان الشك إبقاء للطهارة وعدم نقض لها ، ومجرد تحقق اليقين بالحدوث والشك في البقاء لا ينفع في إحراز ذلك ، فتدبر.

وقد فسر السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) عبارة الكفاية بفاصلية اليقين بالارتفاع. وأورد عليه : بعدم اعتبار اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، بل ليس المعتبر إلا فعلية كل منهما (4).

ص: 274


1- لم يتعرض السيد الأستاذ ( دام ظله ) لهذه الوجوه في الدورة الثانية. ( منه عفي عنه ).
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 214 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 113 - الطبعة الأولى.
4- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 206 - الطبعة الأولى.

وقد عرفت توجيهه بغير ذلك مما هو خال عن الإشكال. كما عرفت اعتبار الاتصال ، والإيراد بعدم اعتباره ينشأ من توهم إرادة اتصال زمان صفة اليقين بزمان صفة الشك. وقد عرفت إرادة اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك ، كما تقدم الإشكال فيه حتى بناء على إرادة صفتي اليقين والشك فراجع.

وللمحقق العراقي وجوه ثلاث في منع جريان الاستصحاب فيما نحن فيه :

الأول : انه لا شك في البقاء أصلا ، بل هنا يقين اما بالارتفاع أو بالبقاء ، لأن الحادث ان حدث في الآن الأول فهو مرتفع قطعا. وان كان قد حدث في الآن الثاني فهو باق قطعا. وعلى تقدير وجود الشك في البقاء ، فهو ناشئ من الشك في كيفية الحدوث ، ودليل الاستصحاب صرفا أو انصرافا لا يتكفل جواز التعبد بالشيء إذا كان الشك فيه ناشئا عن التردد في كيفية حدوثه.

الوجه الثاني : وهو عين الوجه الأول ، إلاّ انه يختلف عنه من جهة وهي : انه فرض في الوجه الأول وجود الشك في البقاء ، ولكنه ناشئ عن الشك في كيفية الحدوث. وفرض في الوجه الثاني عدم الشك أصلا الا في كيفية الحدوث وما يرى من الشك في البقاء فهو حقيقة راجع إلى الشك في كيفية الحدوث وزمانه.

الوجه الثالث : ان منصرف دليل الاستصحاب إلى كون الزمان الّذي يراد جر المستصحب فيه بنحو لو رجعنا إلى الأزمنة السابقة عليه بنحو القهقرى ، لعثرنا على زمان اليقين بوجود المستصحب. وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ لا نعثر مع الرجوع القهقرى على زمان اليقين تفصيلا بالحدوث ، بل ينتهي المقام بنا إلى زمان عدم كل منهما ، فلا يجري الاستصحاب حينئذ. نعم بالنسبة إلى الأزمنة الإجمالية يمكن الاستصحاب لإحراز الاتصال بهذا النحو ، ولكنه لا

ص: 275

يجدي فيما كان الأثر مترتبا على البقاء التفصيليّ ، كصحة الصلاة بالنسبة إلى الطهارة (1).

ولكن هذه الوجوه غير تامة :

اما الأول : فلان دعوى الانصراف تمنع بدعوى الإطلاق ، فان الدليل يدل بإطلاقه على التعبد بالبقاء كيف ما كان.

واما الصرف ، فيحتاج إلى دليل يدل عليه ، لأن بقاء الصرف قصور الدليل بنفسه عن شموله للمورد ، فلا بد من صرفه إليه من قيام دليل عليه ، ولا دليل على صرفه إلى ما ذكره المحقق المذكور.

اما الثاني : فلأن الوجدان قاض بوجود الشك في بقاء كل من الحادثين.

واما الثالث : فلأن المراد من اليقين في أدلة الاستصحاب أعم من التفصيليّ والإجمالي ، ولا يختص بالتفصيلي. مضافا إلى انه يلتزم بجريان الاستصحاب فيما لو علم إجمالا بحدوث المستصحب في أحد زمانين واحتمل ارتفاعه في الزمان الثاني من حدوثه ، مع ان ما ذكر من عدم العثور على زمان اليقين بالحدوث تفصيلا جار فيه كما لا يخفى.

هذا كله في صورة الجهل بتاريخ كلا الحادثين المتضادين.

الموضع الثاني : في صورة العلم بتاريخ أحدهما ، كما لو علم بحصول الحدث أول الزوال وشك في تقدم الطهارة عليه وتأخرها عنه. فلا إشكال في جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ لعدم اختلال أي شرط من شروط الاستصحاب فيه - كما لا يخفى -.

وانما الإشكال في جريانه في المجهول.

والتحقيق عدم جريانه مطلقا ، إلاّ ان ملاك عدم الجريان يختلف باختلاف

ص: 276


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 215 - 216 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الموارد ..

فتارة : يكون الشك لأجل انحلال العلم الإجمالي بحصول الحادث في أحد الزمانين إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فلا يقين بالحدوث ، وذلك كما لو علم بالطهارة - مثلا - عند الصباح وعلم استمرارها إلى الزوال ، ثم علم بحصول الحدث عند الزوال وعلم إجمالا بحصول الوضوء اما قبل الزوال أو بعده ، فيدور بين ان يكون تجديديا أو تأسيسيا.

وهذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيليّ بالطهارة عند الصباح ، لأنه علم تفصيلي بالطهارة قبل الصباح ، فلا يكون هناك الا شك بدوي بالطهارة بعد الزوال ، فالعلم الإجمالي المذكور لا يسبب يقينا بالطهارة كي تستصحب ، لأنه على تقدير لا يكون تأسيسيا بل تجديديا.

وأخرى : يكون لأجل عدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك ، وذلك كما لو علم بالحدث عند الزوال ، وعلم إجمالا بحصول الطهارة اما قبل الزوال أو بعده - ولم تكن هناك طهارة سابقة - ، فالزوال والآن الّذي بعده الّذي يحتمل وقوع الطهارة فيه ليس زمان الشك في البقاء ، بل اما زمان العلم بالعدم - وهو الزوال -. أو زمان احتمال الوجود - وهو الآن الّذي بعده -. ولما كان من المحتمل حصول الطهارة قبل الزوال يحتمل انفصال زمان اليقين عن زمان الشك لتخلل زمانين بينهما ليسا زماني الشك في البقاء.

وقد ظهر ان الأمر في المعلوم والمجهول في الموضوعات البسيطة على العكس فيهما في الموضوعات المركبة ، فان الأصل هناك انما يجري في المجهول دون المعلوم وهاهنا بالعكس.

تتمة في بيان شيء

ذكر المحقق النائيني قدس سره في مجهولي التاريخ عند بيان المراد من

ص: 277

اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وانه قد لا يتضح في بعض الموارد ، فروضا ثلاثة حكم بجريان الاستصحاب في أحدها وبعدمه في الآخرين وبنى على ذلك بعض المسائل الفقهية التي وقعت محل الخلاف.

وبيانه بإجمال : - انه لو كان هناك إناءان غربي وشرقي ، وعلم تفصيلا بنجاسة كل منهما ، وأصاب المطر أحدهما ، فهاهنا فروض ثلاثة :

الأول : ان يكون ما أصابه المطر مجملا مرددا بينهما على حد سواء ، فيعلم إجمالا بطهارة أحدهما غير المعين.

الثاني : ان يكون ما أصابه المطر معلوما بالتفصيل ، كالإناء الشرقي مثلا ، فيعلم بطهارة خصوص الإناء الشرقي ، وكان متميزا حين العلم ثم اشتبه بالإناء الغربي.

الثالث : عين الفرض الثاني ، إلا ان الإناء الشرقي لم يكن متميزا حين العلم أصلا ، بل كان مشتبها بالآخر ، فهو وسط بين الفرضين كما لا يخفى.

ولا إشكال في سبق اليقين بالنجاسة بكلا الإناءين والشك في بقائها - على جميع الفروض - ، لعدم معرفة الطاهر منهما ، فكل منهما يشك في بقاء نجاسته المعلومة ، إلاّ انه مع ذلك لا يجري استصحاب النجاسة في كلها ، بل انما يجري في خصوص الفرض الأول ، لاتصال زماني اليقين والشك ، لعدم تخلل أي يقين بالخلاف بينهما ، لأن نسبة العلم بالطهارة إلى كل منهما على حد سواء ، لعدم أخذ أي خصوصية في متعلقه ، فكل منهما كان متيقن النجاسة والآن مشكوكها فتستصحب - مع قطع النّظر عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي وعدمه.

امّا الفرض الثاني : فلا يجري فيه الاستصحاب بلا إشكال ، لانفصال زمان اليقين عن زمان الشك في أحدهما المعين ، لتخلل اليقين بالخلاف فيه ، فلا يمكن استصحاب النجاسة في كل منهما لاحتمال انفصال زمان شكه عن زمان يقينه من جهة احتمال ان يكون هو ذلك الإناء.

ص: 278

وامّا الفرض الثالث : فهو كالفرض الثاني في عدم جريان الاستصحاب لعين الملاك لتخلل اليقين بالخلاف في أحدهما المعين وهو الإناء الشرقي ، ولما كان كل منهما من المحتمل ان يكون هو الإناء الشرقي امتنع جريان الاستصحاب في كل منهما ، لاحتمال انفصال زمان شكه عن زمان يقينه.

وبالجملة : فالاستصحاب لا يجري إلاّ في الفرض الأول. خلافا للمرحوم الطباطبائي قدس سره صاحب العروة حيث حكم بجريانه في جميع الفروض كما هو ظاهر عبارته (1).

وبعد ان قرر المحقق النائيني رحمه اللّه ذلك فرع عليه عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المردد بين كونه مسفوحا وبين كونه من المتخلف ، بناء على نجاسته مطلقا ولو قبل خروجه من البطن لعدم إحراز اتصال الشك باليقين زمانا ، للعلم بطهارة أحدهما المعين وهو المتخلف عند الذبح ثم اشتبه في الخارج ومثله الدم المردد بين كونه من بدن الإنسان أو مما امتصّه البق ، للعلم بطهارة ما امتصّه البق واشتباهه خارجا. هذا محصل كلامه قدس سره (2).

ولكنه انما يتم بناء على اعتبار وجود يقين سابق وشك لا حق في جريان الاستصحاب ، حيث يقال عليه : ان اليقين السابق قد انتقض باليقين بالخلاف ، فلا اتصال بين زماني الشك واليقين.

أما بناء على ما حقق من عدم اعتبار ذلك ، بل اعتبار خصوص وجود يقين بالحدوث وشك بالبقاء فعليين ولو حصلا في آن واحد ، فلا يتم ما ذكره لتحقق اليقين والشك الفعليين في الفروض الثلاثة جميعا ، ولا معنى لدعوى الاتصال أو الانفصال ، لعدم التعدد الزماني بينهما.

ص: 279


1- العروة الوثقى 1 / 511 مسألة 493 ( فصل في طريق ثبوت التطهير ) طبعة مدينة العلم.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 515 طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ومن الغريب (1) ان المحقق المذكور لا يعتبر سوى فعلية اليقين والشك ، ثم يذهب إلى عدم جريان الاستصحاب في الفرضين المذكورين ، فالتفت ولا تغفل واللّه سبحانه المسدد.

ص: 280


1- ما ذكرناه في الإيراد عليه ( قده ) هو الّذي ذكره غيرنا أيضا ، ولكن حمل كلامه على ظاهره من اعتبار اليقين السابق وعدم انتقاضه بيقين متأخّر عنه لا يمكننا الالتزام به لقرينتين : إحداهما : أنّه قد صرّح مرارا من أول الاستصحاب إلى هذا المبحث بل صرّح في هذا المبحث بالخصوص بأنّه لا يعتبر في الاستصحاب سوى اليقين والشك الفعليين إلاّ أنّ أحدهما يتعلّق بالحدوث والآخر بالبقاء وجعل هذا هو المائز بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، ولا نحتمل في حقّه ( قده ) أنّه يعتبر اليقين السابق في الاستصحاب. والأخرى : ما ذكره من مثال الدم المحتمل كونه دم بق ، فإنّ الظاهر أنّه مثال لما هو المتعارف من وجدان الإنسان دما على ثوبه يحتمل أنّه من جرح بدنه أو أنّه من البق ، ومن الواضح أنّ الشخص في مثل ذلك لم يحصل له يقين بنجاسة فردي الدم ، ثم حصل له يقين بطهارة أحدهما وهو ما امتصّه البق ثم اشتبه الحال بين الفردين بل اليقين والشك فعليان ، حاصلان بالفعل من دون تقدّم زماني بينهما. فالمثال لا ينطبق على ما حمل عليه كلامه. ويمكن أن يوجّه ما أفاده وإن كان على خلاف ظاهر عبارة التقريرات ببيان مقدّمتين : إحداهما : أنّ اليقين الإجمالي الناقض لليقين السابق والرافع له هو اليقين بالنحوين الأخيرين دون الأول ، فلو علم تفصيلا بنجاسة كلا الإناءين ثم علم بطهارة أحدهما من دون مميّز أصلا لم يتحقّق انتقاض اليقين السابق بهذا اليقين ، فلا يمكن الإشارة إلى أحدهما واقعا والحكم عليه بأنّه متيقّن الطهارة. [ ظاهر كلام النائيني في التقريرات هو تحقّق العلم التفصيليّ - في الفرض الثاني - ثم عروض الاشتباه ، ولكن السيد الأستاذ دام ظله حمل كلتا الصورتين على الإجمالي والفرق في كثرة المميّزات وعدم الكثرة ، فانتبه ]. وهذا بخلاف ما إذا تعلّق اليقين الإجمالي بطهارة أحدهما مع مميّز له سواء كان تمييزه بالعناوين المتعدّدة التي يسهل تشخيصه تفصيلا ويكون مشابها للمعلوم بالتفصيل ، كما في الفرض الثاني أم بعنوان واحد كعنوان الإناء الشرقي - مثلا - كما في الفرض الثالث فإنّ مثل هذا اليقين يكون ناقضا لليقين بالنجاسة التفصيليّ ، إذ يمكن الإشارة إلى ذلك الإناء بعنوانه المميّز له والحكم عليه بأنّه قد ارتفع عنه اليقين بالنجاسة وتعلّق اليقين بطهارته. الثانية : أنّ دليل الاستصحاب يتكفّل اعتبار تعلّق اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وظاهره اعتبار فعلية كلا الوصفين ، فلا معنى لكون أحدهما ناقضا للآخر ، كما أنّه تكفّل الحكم بنقض اليقين باليقين الآخر ، وهذا غير متصوّر في باب الاستصحاب لاجتماع اليقينين في آن واحد. إذن فما معنى الحكم بالنقض وعدمه؟ الّذي يراد بالنقض كما عرفت هو النقض العملي ، وإطلاق النقض إنّما هو بملاحظة أنّ اليقين الآخر لو تعقّب اليقين الأول واتّحد متعلّقهما لكان ناقضا له ، فالمراد باليقين الناقض في باب الاستصحاب هو هذا الفرد من اليقين ، الّذي لو فرض تعلّقه بما تعلّق به اليقين الأول وكان متأخّرا عنه كان ناقضا له ورافعا لوجوده ، وإلا فلا نقض حقيقة في باب الاستصحاب ، وأما غير هذا الفرد من اليقين فلا يكون مشمولا لقوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر ». إذا عرفت هذا اتّضح مراده ( قده ) فإنّه اليقين الإجمالي في الفرض الأول حيث لا يصلح لنقض اليقين السابق التفصيليّ ، فلا يكون لوجوده أثر في المنع عن الاستصحاب لأنّه غير مشمول للذيل. بخلافه في الفرضين الآخرين لأنّه صالح لنقض اليقين السابق كما عرفت. فليس مراده اعتبار اليقين السابق كما توهّم ، بل مراده هو اليقين الفعلي المتعلّق بالحدوث ، وإنّ اليقين الإجمالي المقترن معه يصلح لنقضه في بعض الصور فيكون مشمولا للحكم بالنقض في الذيل. فيكون المورد من موارد الشبهة المصداقية للذيل ، فتدبّر جيّدا. هذا غاية ما يمكن أن يوجّه به كلامه لكنّه مبنيّ أوّلا : على كون المستفاد من قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » حكما شرعيا مستقلا موضوعه اليقين بالنحو الّذي عرفته ، فيعارض الحكم الاستصحابي أو يقيّده. وأما بناء على كون المستفاد منه تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه وهو الشك كما يستفاد من قوله : « لا حتى يستيقن » فهو بيان لحكم إرشادي عقلي ، فلا يتمّ ما أفاده لأنّه لا يزيد على اعتبار الشك في جريان الاستصحاب ويكون متمّما لذلك. ومن الواضح أنّ الشك فيما نحن فيه موجود بالنسبة إلى كل من الإناءين ، فلا مانع من جريان الاستصحاب وتحقيق ذلك فيما يأتي إن شاء اللّه. وثانيا : على الفرق بين الفرض الأول والفرضين الآخرين ببيان أنّ العلم في الأول لا يرتبط بالخارج بل هو متعلّق بالجامع كما تقدّم في مبحث العلم الإجمالي ، وقد تقدّم منّا بيان ارتباط مثل هذا المعلوم بالإجمال بالخارج وإمكان الإشارة إلى أحدهما واقعا بواسطة منشأ العلم ، كوقوع المطر ونحوه ، فراجع. وثالثا : على تحقيق المراد باليقين الناقض وأنّه هل يختصّ باليقين التفصيليّ أو يعمّ غيره ، وعلى تقدير عمومه لغيره فهل يختلف الحال بين الفروض أو لا؟ وتحقيقه في محلّه إن شاء اللّه. ثم ليعلم أنّ مثال اشتباه الدم بدم البق إنّما يتمّ لو علم بامتصاص البق لدمه واحتمل أن يكون الدم الّذي يراه هو ذلك الدم الممتصّ ، وأما لو لم يعلم ذلك أصلا وإنّما احتمله احتمالا فلا مجال لهذا الكلام لعدم تحقّق اليقين الناقض فلا مجال إلا لاستصحاب النجاسة. هذا تمام الكلام في استصحاب مجهولي التاريخ ، ولا بأس في التعرّض إلى فرع ذكر في هذا المبحث وجعل من فروع المسألة وهو ما إذا علم بكريّة الماء وملاقاته للنجاسة وشك في أنّ الملاقاة سابقة على كريّة الماء فيكون نجسا - بناء على عدم طهارة الماء النجس المتمّم كرّا - أو أنّ الكريّة سابقة على الملاقاة فيكون الماء طاهرا. فقد ذكر أنّ هذا الفرع من مصاديق المسألة وذكر له صور ثلاثة ؛ إحداها : أن يجهل بتاريخ كل من الملاقاة والكريّة. والثانية : أن يعلم بتاريخ الكريّة دون الملاقاة ، والثالثة : أن يعلم بتاريخ الملاقاة دون الكريّة. وإنّ حكم الصور الثلاث من حيث جريان الاستصحاب وعدمه هو ما تقدّم في مجهولي التاريخ ومختلفيهما. فمثلا تجري - في صورة الجهل بتاريخهما - أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة فيتعارضان ويتساقطان بناء على أنّ المانع من جريان الأصل في مجهولي التاريخ هو المعارضة ، كما أنّهما لا تجريان في أنفسهما بناء على أنّ المانع من جريان الأصل في المجهولين في نفسه كما ذهب إليه صاحب الكفاية. أقول : هذه الصورة وإن كانت من موارد المجهولي التاريخ صورة لكنّها ليست منها اصطلاحا ، فإنّ موضوع البحث في مجهولي التاريخ - على ما تقدّم أن يكون موضوع الأثر هو عدم أحدهما في زمان الآخر بنحو الموضوع المركّب ، والأمر ليس كذلك فيما نحن فيه ، فإنّ عدم الكريّة والملاقاة موضوع مركّب للحكم بالنجاسة ، فيصحّ إجراء أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لإثبات الموضوع المركّب للحكم بالنجاسة ولكن عدم الملاقاة والكريّة ليس موضوعا للحكم بالطهارة إذ مع الكريّة لا أثر للملاقاة وعدمها فلا معنى لاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة ، نعم عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة موضوع للحكم بالطهارة. وعليه نقول : بناء على ما حقّقناه من امتناع جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر في نفسه ، لا يصحّ جريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة الّذي يقصد به إثبات عدم الكريّة في زمن الملاقاة. وأما استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة فقد عرفت أنّه لا أثر له ولا معنى لجريانه لأنّ الأثر يترتّب على عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة ، لا على عدم الملاقاة في زمن الكريّة. نعم يصحّ إجراء أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة بالمعنى المساوق لإثبات عدم الملاقاة في زمن عدم الكريّة بأن لا يحاول جرّ المستصحب إلى زمان الكريّة بل جرّه وينتهي بزمن الكريّة ، فيكون المقصود من « إلى زمن الكرية » الانتهاء بزمن الكريّة لا السراية إلى زمانه وإثباته فيه ، إذ بذلك يخرج عن استصحاب المجهول الاصطلاحي ولا يتأتّى فيه المحذور المتأتّي في استصحاب مجهول التاريخ. ومنه يظهر الحال فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، فإنّه ، إن كانت الكريّة معلومة التاريخ دون الملاقاة جرى استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة ، ولا يجري استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ. وإن كانت الملاقاة معلومة دون الكريّة ، جرت أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة فيثبت بها الموضوع المركّب للنجاسة ، ولا يجري الأصل في عدم الملاقاة للعلم بالتاريخ. فخلاصة الحكم في صور هذا الفرع هو الحكم بنجاسة الماء في صورة العلم بتاريخ الملاقاة. والحكم بطهارته في صورتي العلم بتاريخ الكريّة والجهل بتاريخهما. هذا بناء على ما التزمنا به في مجهولي التاريخ ومختلفيهما ، فراجع. وقد ذهب المحقّق النائيني ( قده ) إلى الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور الثلاث : أما صورة الجهل بتاريخهما ؛ فلجريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ، فيثبت بها النجاسة لإحراز الملاقاة بالوجدان وعدم الكريّة بالأصل. ولا مجال لجريان استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكريّة لعدم ترتّب الأثر الشرعي عليه ، لأنّ الحكم بالطهارة مترتّب على كون الكريّة سابقة على الملاقاة ، والاستصحاب المزبور لا يثبت كون الكريّة سابقة على الملاقاة إلاّ بالملازمة. وأما صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكريّة ، فلعدم جريان أصالة عدم الملاقاة للعلم بالتاريخ ، مضافا إلى كونه مثبتا. وجريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ، فيثبت بها موضوع الحكم بالنجاسة. وأما صورة العلم بتاريخ الكريّة والجهل بتاريخ الملاقاة ، فلعدم جريان أصالة عدم الكريّة للعلم بالتاريخ ، ولا جريان أصالة عدم الملاقاة لكونه مثبتا ، فيرجع في المقام إلى عموم الانفعال بالملاقاة ، لا إلى أصالة الطهارة ، لما أسّسه ( قده ) من أنّه إذا ثبت حكم إلزامي للعام واستثنى منه عنوان وجودي ، كان المدار في الحكم بالتخصيص على إحراز ذلك العنوان ، فمع عدم إحرازه يكون المرجع هو العموم ، كما لو قال المولى لعبده لا تدخل عليّ أحدا إلاّ العالم ، فإنّه لا يجوز له إدخال مشكوك العالميّة عملا بأصالة البراءة. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لثبوت حكم عام بانفعال ملاقي النجس ، وقد خرج منه عنوان الكرّ ، فمع الشك في كريّة الملاقي يكون المرجع هو العموم على الانفعال بالملاقاة. هذه خلاصة ما أفاده ( قده ) في المقام. أقول : قد يتساءل بأنّ أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة - في صورة الجهل بتاريخهما - وإن لم تكن مثبتة لورود الملاقاة على الكريّة ، لكنّها تنفع في إثبات الطهارة وعدم النجاسة ، إذ لا شك في أنّ عدم الملاقاة في زمان القلّة ينفي موضوع النجاسة وهو ملاقاة القليل ، فيكون الاستصحاب مجديا من هذه الجهة وهي نفي موضوع النجاسة وهي كافية في جريانه. فلما ذا أهملها المحقّق النائيني وحكم بعدم جريان الأصل؟ ويمكن أن يوجّه كلامه بوجوه : التوجيه الأول : أن يقال : أنّ الحكم بطهارة الماء الأوليّة وبحسب ذاته يزول بعروض ملاقاة النجس عليه وحينئذ فإن كانت الملاقاة عارضة على الكرّ حكم بطهارة الماء وإلاّ حكم بنجاسة. فالطهارة الثابتة بعد عروض الملاقاة حكم جديد غير الطهارة الثابتة للماء في حدّ نفسه وقبل عروض مقتضي النجاسة. وعليه ففيما نحن فيه بما أنّه يعلم بالملاقاة ، فطهارة الماء الأولية مرتفعة قطعا ، وإنّما يشك في ثبوت الطهارة التي موضوعها ملاقاة الكرّ. ومن الواضح أنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة أو في زمان القلّة لا يثبت موضوع الطهارة فلا ينفع في إثبات الحكم بالطهارة. وهذا التوجيه لا يمكن الأخذ به وتشكل نسبته إلى المحقّق النائيني لوجوه : الأول : أنّه بناء عليه لا فرق بين القول باعتبار ورود الملاقاة على الكرّية وسبق الكريّة للملاقاة في تحقّق الاعتصام والحكم بالطهارة والقول بكفاية بينهما ، إذ استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة لا يجدي في إثبات ملاقاة الكرّ سواء ان اعتبر تأخّر الملاقاة عن الكريّة أو لم يعتبر. مع أنّ ظاهر كلامه بناء عدم جريان الأصل المزبور على ما التزم به من اعتبار ورود الملاقاة على الكريّة بحيث لو التزم بالقول الآخر كان الأصل مجديا ، فكيف يمكن نسبة هذا الوجه إليه ( قده ). الثاني : أنّه بعد أن كان موضوع النجاسة هو ملاقاة غير الكر ، كان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمن الكرّية مجديا في نفي النجاسة وإن لم يجد في إثبات الطهارة ، فيترتّب عليه نفي الآثار المترتّبة على مانعيّة النجاسة. ولازم ذلك معارضته لاستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة المثبت للنجاسة ، فإنّ الاستصحاب النافي والمثبت متعارضان. الثالث : عدم تمامية مبنى التوجيه ، فإنّ كون الطهارة المجعولة للكر الّذي لاقته النجاسة حكما آخر غير الطهارة الأصلية ، وإن كان ممكنا ثبوتا لكن مقام الإثبات لا يساعد عليه ، فإنّ ظاهر مثل قوله عليه السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » : إنّ الكرّ لا ينفعل بالنجاسة فهو باق على طهارته بلا عروض مزيل عليها فالطهارة السابقة على الملاقاة والمتأخّرة عنها واحدة لا متعدّدة. التوجيه الثاني : أن إذا أخذ في موضوع الطهارة خصوصيّة سبق الكريّة أو لحوق الملاقاة وورودها على الكرّ بحيث كان موضوع الطهارة هو الملاقاة اللاحقة للكريّة أو المسبوقة بالكريّة ، فلا محالة يتقيّد موضوع الحكم العام بالنجاسة بعدم ذلك العنوان ، فيكون موضوع النجاسة هو الملاقاة غير المسبوقة بالكريّة. ومن الواضح أنّ أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة لا تجدي في نفي موضوع النجاسة إلاّ بالملازمة. وهذا الوجه لا يتأتّى بناء على القول بكفاية مقارنة الكريّة للملاقاة في عدم الانفعال ، إذ عليه لا يعتبر في موضوع الطهارة أزيد من ذات الأمرين الملاقاة والكريّة. فلا يكون موضوع النجاسة سوى الملاقاة والقلّة ، فيكون استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة مجديا في نفي النجاسة. ولكنّه كسابقه مما لا يمكن نسبته إلى المحقّق النائيني ( قده ) ، وذلك لأنّ لازمه عدم صحّة جريان أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لعدم كون موضوع النجاسة مركّبا بل مقيّدا كما عرفت. والأصل المزبور لا يثبت موضوع النجاسة إلاّ بالملازمة كما لا يخفى. مع أنّه ( قده ) التزم بجريانه وترتّب النجاسة عليه ، مما يصحّ نسبته إليه ( قده ). التوجيه الثالث : أنّ موضوع الطهارة - بنظره ( قده ) - ليس هو الملاقاة المسبوقة بالكريّة ، بل هو ملاقاة ما كان كرّا في زمان سابق على الملاقاة ، فملاقاة الكرّ المتخصّص زمانه بهذه الخصوصيّة هي الموضوع للطهارة ولازمه أن يكون موضوع النجاسة هو ملاقاة ما ليس كرّا في زمان سابق على الملاقاة - أعمّ من كونه كرّا حال الملاقاة أو قليلا -. وعليه فاستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة لا يجدي في إثبات الطهارة ولا نفي النجاسة إلاّ بالملازمة كما هو واضح. ولا معنى لجريان الأصل في عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة في زمان سابق على الملاقاة ، فإنّه خلف ولا محصّل له كما لا يخفى. وأما استصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة لإثبات النجاسة فلا مانع منه لأنّ مرجعه إلى استصحاب عدم الكريّة في الزمان السابق على الملاقاة ، فيثبت موضوع النجاسة ، وهو الملاقاة الثابتة بالوجدان وعدم الكريّة في زمان سابق عليها الثابت بالأصل. وهذا التوجيه متين ولا يخلو عن دقّة. ولكنّه إنّما ينفع في الحكم بالنجاسة على مسلك المحقّق النائيني الّذي التزم بصحّة الاستصحاب في مجهولي التاريخ في نفسه. وأما على ما حقّقناه من عدم صحّته في نفسه - لا من جهة المعارضة - فلا أثر لهذا البيان ، لأنّ غايته عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة ، إلاّ أنّه كما لا يجري هذا الأصل لا يجري الأصل الآخر المثبت للنجاسة وهو عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة. وإذا لم يجر الاستصحاب في كلا الطرفين فالمرجع قاعدة الطهارة. هذا كلّه بالنسبة إلى ما أفاده في صورة الجهل بتاريخهما. وأما صورة الجهل بتاريخ الكريّة والعلم بتاريخ الملاقاة فقد عرفت منّا ومنه أن الحكم هو النجاسة ، فلا كلام. وأما صورة الجهل بتاريخ الملاقاة والعلم بتاريخ الكريّة ، فقد عرفت أنّه ( قده ) حكم بالنجاسة بعد عدم جريان كلا الأصلين ، لتمسّكه بالعامّ الدال على لزوم الاجتناب على كل ما لاقى نجسا الّذي خرج منه عنوان وجودي وهو الكرّ ، للقاعدة التي أسّسها وبنى عليها كثيرا من الفروع الفقهية ، وهي أنّه إذا ورد عام يتكفّل حكما إلزاميا وخصّص ذلك العام بعنوان وجودي ، فمع عدم إحراز العنوان الوجوديّ للخاص يكون المرجع هو العام. ولأجل ذلك بنى على حرمة النّظر إلى من يشك كونها من المحارم عملا بعموم وجوب الغضّ عن النساء. وذكر أنّ هذه القاعدة عليها بناء العرف والعقلاء. والّذي يمكن أن يقال : هو أنّه لو سلّم تماميّة القاعدة المزبورة فهي لا تنطبق على ما نحن فيه وذلك لأنّ موضوعها كما أشير إليه هو ورود عموم يتضمّن حكما إلزاميا ثم يخصّص بعنوان وجودي. ومن الواضح أنّ الحكم الإلزاميّ فيما نحن فيه هو لزوم الاجتناب عن الماء النجس في الشرب مثلا ، فإنّه يحرم شرب الماء النجس كما يجوز شرب الماء الطاهر. ولا يخفى أنّ نسبة ما دلّ على جواز شرب الطاهر إلى دليل الحرمة ليس نسبة الخاصّ إلى العام إذ ليس لدينا دليل عام دال على حرمة شرب الماء بقول مطلق وخرج منه الطاهر. بل دليل الحرمة موضوعه الماء النجس رأسا ، كما أنّ دليل الجواز موضوعه الماء الطاهر ، فمع الشك في موضوع الحليّة وهو الطهارة لا معنى للتمسّك بدليل الحرمة بعد فرض عمومه لكل فرد من أفراد الماء. وبعبارة أخرى : ليس المورد من موارد الشك في مصداق المخصّص بل الشك في مصداق كلا الدليلين. وليس الملحوظ هو الحكم الوضعي وهو الطهارة والنجاسة كي يقال بأنّ لدينا عام يدل على انفعال كل ماء يلاقي النجس وقد خرج عنه الكرّ ، فمع الشك في الكريّة يرجع إلى عموم الانفعال إذ ليس الحكم الوضعي حكما إلزاميا كما هو واضح ، وقد عرفت اختصاص القاعدة بمورد تكفّل العام الحكم الإلزاميّ. فتطبيق القاعدة على ما نحن فيه غير صحيح لما عرفت من أنّ دليل الحرمة ليس دليلا عامّا كي يرجع إليه عند الشك. هذا أوّلا. وثانيا : أنّه لو فرض أنّ دليل الحرمة دليل عام خرج عنه الماء الطاهر فإنّه يجوز شربه ، فقاعدة الطهارة تعيّن كون الفرد من أفراد المخصّص فلا مجال للرجوع إلى العام حينئذ. والخلاصة أنّه لا مانع من الرجوع في هذه الصورة إلى قاعدة الطهارة ، فتشترك مع الصورة الأولى في الحكم. وتنفرد الثانية عنهما. هذا تحقيق الكلام فيما أفاده ( قده ). وقد نوقش ( قده ) فيما أفاده في الصورة الأولى من عدم جواز الرجوع إلى أصالة عدم الملاقاة في زمان عدم الكريّة بأنّ عدم الانفعال أخصّ من الطهارة. فإنّ الأول فرع وجود المقتضي للانفعال ، بخلاف الطهارة فإنّها قد تتحقّق مع عدم المقتضي رأسا كصورة عدم الملاقاة أصلا. وعليه فالأصل المزبور وإن لم يثبت عدم الانفعال ، لعدم إثباته كون الملاقاة واردة على الكريّة ، إلاّ أنّه ينفع في إثبات الطهارة لأنّه يثبت عدم الملاقاة في زمان القلّة ، والماء القليل غير الملاقي للنجاسة طاهر. كما نوقش ما أفاده في الصورة الثالثة من الرجوع إلى القاعدة المزبورة بأنّ القاعدة لا أساس لها إذ لا يمكن أن يفرض كون الإحراز دخيلا في الحكم الواقعي ، ضرورة عدم دوران طهارة الماء مدار إحراز ورود الملاقاة على الكريّة. كما لا يصحّ أن يكون الدليل متكفّلا للحكم الظاهري إذ يشكل أن يكون الدليل الواحد متكفّلا لحكمين مع اختلاف الموضوع والرتبة والطولية بين الحكمين ، مضافا إلى عدم الدليل على ذلك إثباتا. وأما ثبوت الرجوع إلى العموم في مسألة الشك في المحارم فهو بواسطة الرجوع إلى أصالة العدم الأزلي التي يلتئم بها موضوع الحكم للعام وهو حرمة النّظر ، لا من جهة تقيّد العنوان الخاصّ بالإحراز. هذه خلاصة بعض ما نوقش ( قده ) به. ولكن جميع ما ذكر قابل للردّ. أما ما ذكره من جريان أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة لإثبات الطهارة ، فهو لا يخلو عن غرابة ، فإنّه بعد فرض كون موضوع الخاصّ هو الملاقاة الواردة على الكرّ - كما أفاده النائيني ( قده ) - فلا محالة يتقيّد موضوع العام بعدم ذلك ، فيكون موضوع النجاسة ، هو ملاقاة ما ليس بكرّ في زمان سابق ، من دون أن يؤخذ فيه عنوان وجودي كعنوان القليل أو نحو ذلك ، فملاقاة القليل بعنوانه ليس موضوعا للنجاسة. وعليه فمع العلم بالملاقاة كما فيما نحن فيه تكون أصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة بما لا أثر لها لا في إثبات الطهارة ولا في نفي النجاسة ، كما تقدّم توضيحه. ونفي الملاقاة بقول مطلق مما لا يصحّ للعلم بتحقّقها. وأما مناقشة القاعدة ؛ فيمكن ردّها بالالتزام بأنّ الحكم المعلّق على الإحراز ظاهري ولا يتكفّله نفس الدليل بل الدليل عليه هو أصالة الظهور وبناء العقلاء على حجيّة العام في مثل ذلك ، فيكون التزاما بحجيّة العام في الشبهة المصداقية في خصوص هذه الموارد وهو مما لا محذور فيه. وأما الدليل عليه إثباتا فهو السيرة العقلائية على ذلك ، فانّها لا تكاد تنكر في أنّه إذا علّق الترخيص على عنوان وجودي لم يجز الرجوع إلى أصالة الإباحة عند الشك في المصداق بل يرجع إلى دليل التحريم ، وملاحظة الشواهد العرفية خير دليل على ما نقول ، وإذا ثبتت السيرة كفى في ثبوت القاعدة ، ولو لم يحرز منشؤها ، فإنّه لا أهميّة له. وأما دعوى الرجوع في مثال الشك في المحارم إلى أصالة العدم الأزلي فيردها : أوّلا : أنّ أصالة العدم الأزلي ليست مما يلتفت إليها العرف ويقتنع بها كيف؟ وهي تصوّرا وتصديقا محل الكلام الدّقيق بين الأعلام ، فلا يمكن أن يكون العمل العرفي مستندا إليها ، وإن كانت جارية في نفسها. وثانيا : إنّ المورد ليس من موارد الأصل الأزلي ، فإنّ مورده ما إذا كان هناك عام يخصّص بعنوان وجودي فيكون موضوع الحكم في العام مركّبا من عنوان العام وعدم الخاصّ ، فإذا جرت أصالة عدم الخاصّ يلتئم الموضوع بثبوت جزئية أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل. وليس ما نحن فيه كذلك ، فإنّ آية وجوب الغضّ لا تتكفّل في نفسها حرمة النّظر إلى كل امرأة بحيث يكون خروج المحارم بالتخصيص. ولذا لم يتوقّف أحد من المسلمين عند نزول الآية عن النّظر إلى أمه وأخته حتى يرد المخصّص ، وليس ذلك إلاّ أنّ المنظور بدوا في الآية الكريمة إلى الأجانب رأسا ، فلدينا موضوعان : أحدهما ؛ موضوع حرمة النّظر ، والآخر ؛ موضوع الجواز. ونفي أحدهما بالأصل لا يستلزم إثبات الآخر إلاّ على القول بالأصل المثبت. فالأصل الأزلي لا يجدي في إثبات موضوع الحرمة ، فتدبّر. ثم أنّ هذا القائل وإن التزم هنا بجريان أصالة الملاقاة إلى زمان الكرّيّة أو في زمان القلّة ، لكنّه أنكره في مباحثه الفقهية حين تعرّض لمسألة اختلاف المتبايعين في تأخّر الفسخ عن زمان الخيار وعدم تأخّره ، فإنّ الشيخ (رحمه اللّه) ذكر أنّ في تقديم مدّعى التأخير لأصالة بقاء العقد وعدم حدوث الفسخ في أوّل الزمان ، أو مدّعى عدمه لأصالة الصحّة ، وجهين. وقد ذكر القائل : أنّ هذه المسألة سيّالة في كل مورد كان موضوع الحكم أو متعلّقه مركّبا من جزءين وعلمنا بتحقّق أحدهما ثم بتحقّق الآخر مع ارتفاع الجزء الأول ، ولكن لم يعلم المتقدّم منهما على الآخر. كما لو شك في أنّ الفسخ وقع قبل انقضاء زمن الخيار أو بعده. أو شك في أنّ ملاقاة النجاسة للماء المسبوق بالقلّة هل وقع قبل عروض الكريّة أو بعده ، أو شك المصلّي المسبوق بالطهارة وعلم بصدور حدث منه في أنّ صلاته وقعت قبل الحدث أو بعده. والّذي بني عليه في تحقيق هذه المسألة : أنّه تجري أصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ فيتمّ بها موضوع الحكم ، وهو الفسخ الثابت بالوجدان وبقاء الخيار المحرز بالاستصحاب. لأنّ الموضوع مركّب منهما ، واعتبر تقارنهما في الوجود لا أزيد. ولا يعارض هذا الأصل بأصالة عدم تحقّق الفسخ في زمان الخيار ، لأنّ الفسخ قد تحقّق خارجا في زمان حكم الشارع بكونه زمن الخيار ، فلا شكّ لنا في تحقّقه في ذلك الزمان ليحكم بعدمه ، فأصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ ترفع الشك في تحقّق موضوع الحكم فلا مجال لإجراء أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار. وإلاّ لجرى هذا الأصل في صورة الجهل بانقضاء زمن الخيار ، لا في تقدّمه وتأخّره عن الفسخ. فمثلا لو شك في بقاء الخيار وارتفاعه جرى استصحاب بقائه وبعد ذلك لو فسخ ذو الخيار ترتّب الانفساخ ، مع أنّه لو تمّ ما تقدّم من المعارضة لجرى في هذه الصورة استصحاب عدم تحقّق الفسخ في زمن الخيار ، وهو مما لا يلتزم به. والكلام بعينه يجري في سائر الموارد. ففي مورد الشك في تقدّم الكريّة على الملاقاة تجري أصالة عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة ويترتّب عليها الحكم بالنجاسة ، ولا تعارض بأصالة عدم الملاقاة في زمان القلّة ، وإلاّ جرت المعارضة مع الشك في أصل عروض الكريّة. كما أنّه في مورد الشك في تقدّم الحدث على الصلاة تجري أصالة الطهارة إلى زمن الصلاة ويترتّب عليها صحّة الصلاة ، ولا تعارض بأصالة عدم الصلاة في زمن الطهارة ، وإلاّ جرت المعارضة مع الشك في أصل عروض الحدث. هذا ما ذكره « حفظه اللّه تعالى » مما يرتبط بما نحن فيه. والّذي يظهر منه أنّه نفي الاستصحاب الجاري لنفي الموضوع ومعارضته للاستصحاب في إثباته لوجهين : أحدهما : حلّي ، وهو زوال الشك بجريان الأصل في إثبات جزء الموضوع مع إحراز الجزء الآخر بالوجدان. والآخر : نقضي وهو النقض بصورة الشك في أصل بقاء أحد جزئي الموضوع لا في تقدّمه وتأخّره كما هو مورد الكلام ، ولكن كلا الوجهين مردودان. أما الأول : فلأنّ زوال الشك المانع من جريان الاستصحاب إما أن يكون تكوينا ووجدانا وإما أن يكون تعبّدا ، ولا زوال للشك تكوينا ، إذ الشك في تحقّق الموضوع موجود بالوجدان حتى بعد جريان الاستصحاب كما لا زوال له تعبّدا ، إذ زوال الشك تعبّدا إنما يتحقّق فيما كان مجرى الاستصحاب موضوعا شرعيا للمشكوك ، فالاستصحاب نفيا أو إثباتا يتكفّل التعبّد بزوال الشك في الحكم ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، فإنّ الشك في تحقّق الجزء الآخر للموضوع وهو الفسخ في زمن الخيار مثلا ، ليس مسببا شرعا عن الشك في الجزء الآخر وهو الخيار في زمن الفسخ ، فلا يكون الاستصحاب في أحدهما رافعا للشك في الآخر تعبّدا. وإلاّ لأمكن أن نعكس الكلام فنقول إنّ أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار ترفع الشك في تحقّق الموضوع ، فلا تعارض بأصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ. وبالجملة : لا سببيّة ومسبّبية شرعيّة بين الشكّين ( بل لا سببيّة بينهما أصلا ) كما لا يخفى. وأما الثاني : فلأنّ الفرق بين موارد النقوض التي ذكرها وبين ما نحن فيه موجود ، وذلك لأنّه فيما نحن فيه يعلم بتحقّق كلا جزئي الموضوع بذاتهما كالفسخ والخيار ، لكن يشك في تقارنهما أو ارتفاع أحدهما قبل حصول الآخر. فكما يمكن إجراء أصالة بقاء الخيار في زمن الفسخ فيتمّ الموضوع ، كذلك يمكن أن يجري أصالة عدم الفسخ في زمن الخيار فينفي الموضوع بنفي أحد جزئية. وبعبارة أخرى : إنّ الشك في ارتفاع الخيار قبل حصول الفسخ يلازم الشك في تحقّق الفسخ في زمن الخيار فلدينا شكّان ولا مانع من جريان الاستصحاب فيهما ، فيتحقّق التعارض. وهذا بخلاف موارد النقض ، فإنّ المشكوك فيها أصل تحقّق الجزء الآخر مع إحراز أحدهما وتاريخه كالشك في الخيار مع إحراز الفسخ وتاريخه ، فمع استصحاب الخيار يثبت كلا الجزءين ويترتّب الأثر ، ولا معنى لاستصحاب عدم الفسخ في زمن الخيار ، لأنّ الفسخ يعلم تحقّقه في زمن الخيار التعبّدي وهو يكفى في ترتّب الأثر. والخيار الواقعي لا يعلم بثبوته كي يستصحب عدم الفسخ في زمانه. فمرجع الاستصحاب المزبور إلى استصحاب عدم المجموع ، وقد تقدم أنّه مع استصحاب الجزء لا مجال لاستصحاب عدم المجموع المركّب ، لأنّ المركّب الموضوع للأثر هو عين الاجزاء وليس شيئا وراءها ، والمفروض أنّه لا شك لدينا سوى الشك في الجزء الّذي يجري الاستصحاب فيه ، فلا مجال لاستصحاب عدم المركّب ، وهكذا الكلام في سائر موارد النقض. فخلاصة الفرق بين ما نحن فيه وبين موارد النقض ، أنّ الاستصحاب النافي فيما نحن فيه الّذي يفرض معاضدته للاستصحاب المثبت يجري في نفي الجزء في زمان الجزء الآخر ، وأما في موارد النقض فهو يجري في نفي المجموع المركّب ، وفرق واضح بينهما من ناحية المعارضة وعدمها ، إذ في ما نحن فيه لدينا شكّان وفي موارد نفي المجموع لدينا شك واحد هو مورد الأثر وهو الشك في وجود الجزء الّذي يجري فيه الأصل المثبت لا النافي ، فتدبّر ولا تغفل.

ص: 281

ص: 282

ص: 283

ص: 284

ص: 285

ص: 286

ص: 287

ص: 288

ص: 289

التنبيه الحادي عشر :

التنبيه الحادي عشر : حول الاستصحاب في الأمور الاعتقادية ، وانه هل يجري أو لا؟.

وقد أفاد المحقق الخراسانيّ قدس سره في الكفاية : ان الأمور الاعتقادية ..

تارة : يكون المطلوب والمهم فيها شرعا هو الانقياد ؛ وعقد القلب وأمثال ذلك من الأعمال القلبية الاختيارية.

وأخرى : يكون المطلوب فيها هو تحصيل اليقين والعلم بها.

امّا على الأول ، فلا مانع من جريان الاستصحاب مع تمامية أركانه حكما وموضوعا ، فإذا شك في بقاء وجوب الاعتقاد أمكن استصحابه ، وكذا لو شك في بقاء موضوعه أمكن استصحابه ، لصحة التنزيل وعموم دليل الاستصحاب ، لعدم اختصاصه بالاحكام الفرعية. ولا مانع منه الا ما يتصور من ان الاستصحاب من الأصول العملية. ولكن ذلك لا يصلح للمانعية ، لأن التعبير بالأصل العملي ليس له في دليل الاستصحاب أو غيره عين ولا أثر كي يدعى انصرافه إلى عمل الجوارح دون عمل الجوانح. وانما هو تعبير اصطلاحي عبّر به الأصوليون عما كان وظيفة للشاك تعبدا ، لجعل الفرق بينه وبين الأمارات الحاكية عن الواقع.

ص: 290

وعليه فيعم عمل الجوارح والجوانح معا.

وامّا في الثاني ، فالاستصحاب في الحكم جار - فلو شك في بقاء وجوب اليقين بشيء بعد اليقين بالوجوب يستصحب البقاء ، ولا مانع منه ، ويترتب عليه لزوم تحصيل اليقين بذلك الشيء والعلم به - دون الموضوع ، لأنّ المفروض كون المطلوب تحصيل اليقين به والاستصحاب لا يجدي في ذلك ، لعدم رفعه الشك إلاّ تعبدا ، كما لا يخفى. هذا ما أفاده المحقق الخراسانيّ قدس سره في المقام (1).

وهو ناظر إلى ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية بقول مطلق ، بتقريب : ان الاستصحاب ان اعتبر من باب الاخبار والتعبد ، فمع الشك يزول الاعتقاد ، فلا يصح التكليف به. وان اعتبر من باب الظن ، ففيه :

أو لا : ان الظن في أصول الدين غير معتبر.

وثانيا : ان الظن غير حاصل ، لأن الشك في العقائد الثابتة بالطريق العقلي أو النقلي القطعي انما ينشأ من تغير بعض ما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في المستصحب (2).

والّذي يقصده الشيخ من زوال الاعتقاد مع الشك بالشيء الّذي يتعلق به فلا يصح التكليف به حينئذ : ان الاعتقاد مع الشك يزول قهرا وتكوينا ، فلا يمكن تحصيله ، لا انه يزول فعلا فيمكن الأمر بتحصيله بواسطة الاستصحاب.

وما ذكره رحمه اللّه في عدم إفادة الاستصحاب الظن ناظر إلى الشبهة الحكمية دون الموضوعية - كما لا يخفى ذلك من كلامه - ، لأن حصول الظن انما يكون لأجل غلبة بقاء المتيقن السابق ، فانها توجب الظن ببقائه ، وهذا انما يتأتى

ص: 291


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /422- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /390- الطبعة الأولى.

في الموضوعات الثابتة تكوينا ، لكون الشك فيها في بعض الموارد شكا في الرافع مع العلم بقابلية المقتضي للبقاء فيظن ببقائه نوعا. امّا الأحكام الشرعية فلا غلبة فيها ، لأن الشك دائما في قابلية المقتضي للبقاء ، ومعه لا يظن ببقائه - كما لا يخفى - ، لأن الشك في ارتفاع الحكم انما ينشأ من تغير بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في الموضوعية وعدمه ، لأنّه مع بقاء موضوعه بخصوصياته لا يرتفع جزما للزوم الخلف.

ولا يخفى عليك الفرق بين ما أفاده قدس سره وبين ما أفاده المحقق الخراسانيّ قدس سره حيث انه أطلق الحكم بعدم جريان الاستصحاب حكما وموضوعا. مع ان المحقق الخراسانيّ فصلّ الكلام بما عرفته وحكم بعدم جريانه موضوعا في خصوص ما كان المهم فيه تحصيل اليقين والمعرفة.

إلاّ انه لا يخفى ان مركز الخلاف بينهما قدس سرهما هو متعلق الاعتقاد لا الأعم منه ومن الحكم - أعني : وجوب الاعتقاد -. وذلك لأن كلام الشيخ رحمه اللّه يدور حول جريان الاستصحاب في متعلق الاعتقاد وغرضه نفيه فيه لا غير ، ويشهد لذلك أمران :

الأول : ان جريان الاستصحاب في الحكم لا منشأ للإشكال فيه ولا يتوهم أحد في صحة جريانه ، فهو جار بلا إشكال.

الثاني : ان التنبيه المذكور عقده في الرسائل لنفي التمسك باستصحاب النبوة.

وعليه ، فمراده من قوله : « الشرعية الاعتقادية » متعلقات الأحكام الاعتقادية المعبر عنها بالأمور الاعتقادية لا نفس الأحكام الاعتقادية ، كما فسره بذلك المحقق الخراسانيّ في الحاشية (1).

ص: 292


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /221- طبعة الأولى.

ومن هنا يظهر الوجه في تعرض المحقق الخراسانيّ للاستصحاب في الأحكام الاعتقادية وإثباته ، مع ما عرفت من عدم المنشأ للإشكال في جريانه ، فالتفت.

ولعل الوجه (1) في حكم الشيخ بعدم جريان الاستصحاب في الأول -

ص: 293


1- تحقيق الكلام في المقام بنحو يتّضح فيه الحال في كلمات الاعلام : أنّ الشك في مورد الأمور الاعتقادية تارة يكون في بقاء الحكم كما لو علم بوجوب الاعتقاد بحالة من حالات البرزخ أو القيامة ثم شك في بقائه. وأخرى يكون في بقاء الموضوع المترتّب عليه وجوب الاعتقاد أو اليقين. ففي الأول : لا إشكال في جريان الاستصحاب لإطلاق أدلّته وعدم الموهم لعدم جريانه سوى التعبير عنه بالأصل العملي ، وقد عرفت دفعه بما أفاده في الكفاية ، لكن لا يخفى أنّ ذلك مجرد فرض لا واقع له إذ ليس لدينا من الأمور الاعتقادية ما يشك في بقاء وجوب الاعتقاد به ، ولعلّه إلى ذلك أشار في الكفاية بقوله : « وكذا موضوعا فيما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ». وأما الشك في بقاء الموضوع فلا فرض له بحسب الظاهر سوى الشك في حياة الإمام عليه السلام. وإلاّ فسائر الأمور الاعتقادية استقبالية لم تحدث كي يشك في بقائها بالشبهة الموضوعية. ولا يخفى أنّ الشك في حياة الإمام عليه السلام فيها بالنسبة إلينا مجرد فرض لا واقع له. ولكن لا بأس بإيقاع الكلام فيه على سبيل الفرض فنقول : إنّ الأثر الملحوظ في حياة الإمام تارة يكون هو وجوب الاعتقاد. وأخرى يكون وجوب اليقين به. ويقع الكلام في جريان الاستصحاب بلحاظ كلا الأثرين .. أما جريان الاستصحاب بلحاظ ترتيب وجوب الاعتقاد فتحقيقه : أنّ الاستصحاب تارة يجري في حياة زيد مثلا - خاصة ، وأخرى في إمامته ، وثالثة في حياته وإمامته بنحو المجموع المركّب. أما جريان الاستصحاب في إمامته : فهو ممنوع للشك في موضوعها وهو الحياة ، إذ الإمامة متقوّمة بحياة الإمام فمع الشك في الحياة كيف نستصحب الإمامة. وأما جريان الاستصحاب في المجموع المركّب من الحياة والإمامة : فمع قطع النّظر عن الإشكال في جريان الاستصحاب في المجموع المركّب بقول مطلق ، يمنع بأن المراد ترتيبه على ذلك هو وجوب الاعتقاد ، وهو لا يترتّب إذ الاعتقاد والإيمان بالشيء وإن كان من الأمور القلبية الاختيارية لكنها لا تحصل مع الشك ، بل هي تتوقف على اليقين ، فمع عدمه لا يمكن تحقّقه. ومن الواضح أنّ الاستصحاب لا يرفع الشك ، فلا يجب الاعتقاد لعدم اليقين الّذي يتقوم به. وذلك لأنّ اليقين إما أن يكون من قبيل شرائط الوجوب وإما أن يكون من قبيل شرائط وجود الاعتقاد الواجب. فعلى الأول : يكون عدم وجوب الاعتقاد مع الشك واضحا لعدم حصول موضوعه فلا ينفع الاستصحاب. وعلى الثاني : فقد يتخيّل أنّ وجوب الاعتقاد يترتّب على الاستصحاب وهو يدعو إلى تحصيل اليقين كسائر مقدمات الواجب. ولكن يندفع بأنّ الاستصحاب لأجل وجوب الاعتقاد يكون لغوا لأنّ ظرف داعوية الوجوب وتأثيره هو ظرف العمل الواجب ، ومن الواضح أنّه بعد تحصيل اليقين لا مجال للاستصحاب. وعليه فالوجوب الثابت بالاستصحاب في ظرف تأثيره وداعويته لا بقاء له وفي ظرف حدوثه لا داعوية له لعدم القدرة على متعلّقه. ومثل ذلك يكون لغوا محضا. وأما جريان الاستصحاب في الحياة خاصة ليترتّب عليها الإمامة وهي أمر شرعي ، فيترتّب وجوب الاعتقاد بها. ففيه : أولا : أنّه يتوقّف على كون الإمامة عبارة عن نفس السلطنة والولاية ويترتّب عليها نفوذ التصرّفات بحيث يمكن الحكم بفعليتها مع الشك الوجداني في الحياة ، وأما لو كانت الإمامة عبارة عن نفس الحكم بنفوذ التصرّفات فمن الواضح أنّ مثل ذلك يتوقّف على إحراز الحياة لكي يحرز صدور التصرّف أو قابليّته لصدور التصرّف منه. وأما مع الشك في حياته فلا معنى للحكم بنفوذ تصرفاته. فما نحن فيه نظير وجوب الإطعام الثابت لزيد ، فإنّه مع الشك في حياته لا ينفع استصحابها في ترتيب وجوب إطعامه لأنّ متعلّق الحكم لا يجوز إلاّ بإحراز الحياة. وليس نظير وجوب التصدّق على الفقراء على تقدير حياة زيد. وثانيا : لو فرض كون الإمامة عبارة عن أمر وضعي يترتّب عليه نفوذ التصرفات ، وغضّ النّظر عن الإشكال في جريان الاستصحاب بناء عليه أيضا فإنّ له مجالا آخر ، فلا يجري الاستصحاب أيضا ، للشك المانع من تحقّق الاعتقاد. نعم لو بنى على أنّ الاعتقاد بالواقع يحصل مع الشك به ، يمكن إجراء الاستصحاب ليترتّب وجوب الاعتقاد ، لكنّه لا مجال للالتزام به كما أشرنا إليه. وأما جريان الاستصحاب في الحياة بلحاظ وجوب المعرفة واليقين. فالملحوظ في الاستصحاب تارة حدوث هذا الأثر وأخرى سقوطه. يعني : تارة يراد باستصحاب حياة الإمام ترتيب وجوب معرفته فيلزم على المكلّف تحصيل اليقين به وأخرى يراد به سقوط هذا التكليف من باب قيام الاستصحاب مقام اليقين والاستصحاب لا يجري بكلا اللحاظين ، أما لو كان الملحوظ هو حدوث التكليف بالمعرفة فلأنّ موضوع وجوب معرفة الإمام بعينه يترتّب على أصل العلم بأصل ثبوت الإمام وجعله من قبله تعالى ولا يترتّب على حياة زيد بعنوانه أو عمرو. فإجراء الاستصحاب في حياة زيد ليس إجراء له في موضوع الحكم الشرعي. وببيان آخر نقول : أنّ وجوب معرفة الإمام ثابت مع الشك ومع قطع النّظر عن الاستصحاب ، فلا أثر للاستصحاب في ترتيبه وحدوثه. وأما لو كان الملحوظ هو سقوط التكليف فلأنّ اليقين بالإمام مأخوذ بما هو صفة لا بما هو طريق ولذا يعبّر عنه بالمعرفة ، ومثله لا يقوم الاستصحاب مقامه. والخلاصة ؛ إنّ الاستصحاب الموضوعي في باب الإمامة لا مجال له على جميع تقاديره وفروضه. وبعد ذلك يحسن بنا التنبيه على بعض الجهات الواردة في كلمات الاعلام وهي متعدّدة : الأولى : ما أفاده الشيخ في نفي الاستصحاب لأجل عدم الاعتقاد مع الشك ، وما أفاده قد يبدو غامضا لأنّ مجرد عدم الاعتقاد مع الشك لا يمنع من ترتّب وجوب الاعتقاد المستلزم لوجوب مقدماته ومن جملتها اليقين. ولكن يتّضح كلامه بما ذكرناه في نفي الاستصحاب لترتيب وجوب الاعتقاد سواء كان اليقين من مقدمات الوجوب أو الواجب. الثانية : ما أفاده صاحب الكفاية في نفي الاستصحاب الموضوعي في مورد يطلب فيه اليقين ، وعلّله بوجوب تحصيل اليقين. فهل هو ناظر - في جريان الاستصحاب نفيا أو إثباتا - إلى ترتيب وجوب تحصيل اليقين أو إلى إسقاطه؟ والصحيح أنّه ناظر إلى إسقاط التكليف لا حدوثه كما يدلّ عليه قوله : « بل يجب تحصيل اليقين بموته ... » فإنّه لا معنى له لو كان الملحوظ في جريان الاستصحاب حدوث التكليف بوجوب تحصيل اليقين لأنّه هو الأثر المقصود بالاستصحاب فلا معنى لنفي الأصل وتعليله بلزوم تحصيل اليقين كما لا يخفى. ويدلّ عليه أيضا ما ذكره بعد ذلك من الاكتفاء بالاستصحاب إذا كان المورد من الموارد التي يكتفي فيها بالظن وكان الاستصحاب من باب الظن. وعليه فلا وجه لما ارتكبه المحقّق الأصفهاني من حمل كلامه على نظره إلى ثبوت التكليف ، فتدبّر. نعم قوله : « فلا يستصحب لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه » ظاهر في كون النّظر إلى مرحلة الثبوت لكن بعد صراحة ما بعده فيما ذكرناه لا بدّ من الالتزام بأنّ مراده من هذه العبارة « لأجل ترتيب أثر لزوم المعرفة » فلا تنافي ما بعدها. الثالثة : قد عرفت الإشارة إلى أنّ الشك في الاعتقاديات من حيث الحكم مجرد فرض لا واقع له. ولكن ذكر المحقّق الأصفهاني أنّه يتمّ في طرف الوجود لا في طرف العدم. كما لو شك في حدوث تكليف اعتقادي بشأن من شئون المحشر ، فينفي بالاستصحاب لعدم ثبوته قبل الشريعة أو في أوائلها. وأنت خبير أنّ الاستصحاب الّذي يختلف الحال فيه وجودا وعدما هو استصحاب نفس التكليف لا عدمه ، إذ استصحاب العدم يتّفق مع أصالة البراءة فلو لم يجر الاستصحاب لا يختلف الحال من الناحية العملية لجريان البراءة. فما أفاده لو تمّ علميّا فلا أثر له عمليّا. هذا مع ما عرفت من منع الاستصحاب في عدم التكليف تبعا للشيخ (رحمه اللّه) ، فانتبه. الرابعة : ذكر المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) عند تعرّضه لما أفاده صاحب الكفاية في المورد الّذي يطلب فيه اليقين ، وأنّ الاستصحاب لا ينفع في ذلك ، ذكر أنّ استصحاب الأمور المجعولة شرعا كالإمامة يرجع إلى جعلها بجعل مماثل للواقع واعتبار آخر غير الواقع وليس مجرد الإلزام بترتيب الأثر ، وعليه فمع جريان الاستصحاب يحصل اليقين بالإمامة الظاهرية المجعولة ، فيكون الاستصحاب مجديا إذا فرض أنّ المعتبر لو تعلّق إليه بالإمامة أعمّ من وجودها والواقعي. وأما جريان الاستصحاب لأجل لزوم تحصيل اليقين فهو ممنوع لأنّ اليقين بالإمامة ( بالحياة ) رافع لموضوع الاستصحاب ، فيلزم أن يقتضي الاستصحاب ما يرفع موضوعه ويستلزم عدمه فيكون مما يلزم من وجوده عدمه وهو محال. وما أفاده ( قده ) صدرا وذيلا لا يرد على ناحية واحدة. فإنّ محطّ النّظر في الصدر إلى الجدوى في جريان الأصل من ناحية سقوط التكليف بوجوب تحصيل اليقين إذ مع حصول اليقين قهرا لا معنى للأمر بتحصيله. ومحطّ النّظر في الذيل إلى ناحية حدوث التكليف وبتحصيل اليقين مع أنّ ظاهر كلامه هو أنّ ما نفاه في الذيل عين ما أفاده في الصدر ، فيكون خلطا بين المقامين. ثم أنّ ما أفاده في نفي جريان الاستصحاب لأجل ترتيب لزوم تحصيل اليقين من استلزام وجود الاستصحاب لعدمه غير تام ، إذ يرد عليه أنّه لا إشكال في جواز أمر الشاك بشيء بتحصيل اليقين به ورفع شكّه فيقال : إذا شككت في وجود زيد وجب عليك تحصيل اليقين به. والسرّ فيه : أنّ المترتّب على الاستصحاب ليس هو اليقين بل الأمر به وهو لا ينفي الشك ، نعم امتثاله ينفي الشك ولكنه متأخّر عن الأمر ، وارتفاع الشك بقاء لا يمنع من جريان الاستصحاب حدوثا. نعم لو كان الاستصحاب يقتضي ارتفاع الشك حدوثا جاء المحذور ولكن الأمر ليس كذلك بل المرتفع هو الشك في مرحلة البقاء وهو خال عن المحذور كيف ، وكثير من موارد الاستصحاب كذلك ، كما لو استصحب عدم الإتيان بالواجب فجاء به أو استصحب الحدث فتطهّر ، فإنّ الشك يرتفع بعد امتثال الحكم الظاهري ، فانتبه. الخامسة : أنّ السيد الخوئي نفي الاستصحاب في الأمور الاعتقادية لأجل تقيّد الموضوع بالعلم فلا يلزم الاعتقاد والمعرفة إلاّ بالأمر المعلوم. ولا يخفى أنّ ما أفاده لو فرض تسليمه لا يرتبط بأيّ ارتباط بموضوع الكلام بين الاعلام في المقام نفيا أو إثباتا. نعم هو التزام مستقل يترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب. هذا مع أنّه كان ينبغي أن يتنبّه على عدم قيام الاستصحاب في المقام مقام العلم المأخوذ في الموضوع ، وإلاّ فمجرد كون العلم مأخوذا في الموضوع لا ينفي جريان الاستصحاب إذا كان يقوم مقام العلم ، فتدبّر. وكيف كان فقد عرفت منع جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها الاعتقاد أو المعرفة ، كالإمامة ومنه يظهر الحال في النبوة. وتحقيق ذلك : إنّ المقصود بالنبوة التي يراد استصحابها إما نفس المزيّة الخاصة النفسيّة الثابتة لشخص النبي ، وأما المقام المجعول للنبي وهو مقام تبليغ الأحكام والرسالة ، نظير مقام الإمامة ، وأما مجموع الأحكام التي جاء بها النبي. ولا يخفى أنّ النبوة بالمعنى الأول لا يشك في بقائها لعدم زوالها بعد اتّصاف النبي بها. وبالمعنى الثاني يعلم بارتفاعها بالموت ، إذ لا محصّل لجعل المنصب المزبور شرعا بعد الموت. نعم هي بالمعنى الثالث قابلة للاستصحاب لإمكان تعلّق الشك بها ، لكن نقول أنّ المتيقّن هو الأحكام المحدودة بمجيء نبيّنا صلى اللّه عليه وآله بحيث تكون خصوصية التحديد مأخوذة في متعلّق اليقين ، ومثله لا يشك في بقائه بل يعلم بارتفاعه ، فليس المتيقّن أحكام الشريعة السابقة على الإجمال بل الأحكام الخاصة وهي المحدودة بالحدّ الخاصّ فلا تثبت بعد الحدّ جزما ، فيمتنع التمسّك بالاستصحاب. ولعلّه إلى ذلك يرجع ما ذكره بعض أفاضل السادة في ردّ الكتابي الّذي تمسّك بالاستصحاب ، فهو لا يريد أن المتيقّن أحكام شريعة موسى وعيسى المحدودة. وتنكر الأحكام غير المحدودة ، فيرجع التحديد إلى الأحكام التي يراد استصحابها ، لا إلى نفس موسى وعيسى كي يقال إنّهما فردان جزئيان لا كليّان فلا يقبلان التقييد الموجب للتفرّد والتخصّص لأنّه شأن المفاهيم الكليّة لا الجزئية. وأما ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق فهو لا يرتبط بالاستصحاب لا سؤالا ولا جوابا ويمكن أن يكون منظوره « سلام اللّه وصلواته عليه » إلى ما قلناه من كون المتيقّن أمرا خاصّا ، فتدبّر. والأمر سهل كما لا يخفى ، واللّه سبحانه العالم.

ص: 294

ص: 295

ص: 296

أعني ما كان المهم فيه هو الاعتقاد الّذي هو محل الخلاف بينهما - هو : ان الاعتقاد بالشيء لا ينفك عن اليقين به ، فمع الشك فيه أو اليقين بعدمه لا يمكن تحقق الاعتقاد. وان انفك اليقين عن الاعتقاد ، فيمكن حصول اليقين ولا يحصل الاعتقاد ، كما تدل عليه الآية الكريمة : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (1).

فاليقين منفك عن والاعتقاد غير منفك عن اليقين.

وإذا كان الاعتقاد ملازما لليقين ، فلا يجدي استصحاب متعلقه في صحة الاعتقاد به لعدم رفعه الشك إلا تعبدا.

وقد ذكر المحقق الخراسانيّ في الحاشية وجها لإجراء الاستصحاب في المتعلق - على تقدير القول بعدم انفكاك الاعتقاد عن اليقين - تقريبه : انه يمكن

ص: 297


1- سورة النمل ، الآية : 14.

الاعتقاد بالشيء على تقدير ثبوته واقعا ، فيمكن استصحابه والاعتقاد به على هذا النحو (1).

وفيه ما لا يخفى ، فان التعليق ان كان في جانب المتعلق بان كان الاعتقاد فعليا والمتعلق تقديريا - فانا اعتقد فعلا بشيء على تقدير ثبوته - ، فهو ممنوع ، لأن الاعتقاد الفعلي مساوق لليقين بالمقدر ، والمفروض عدم اليقين به. وان كان في جانب الاعتقاد ، بان كان معلقا على ثبوت الشيء. ففيه : ان التعليق انما يكون في المفاهيم التي يعرض عليها الوجود ، ولا يكون في الوجودات ، لعدم قبولها التعليق ، لأن الوجود اما متحقق أو ليس متحقق. والاعتقاد من الوجودات فلا يقبل التعليق.

وقد وجّه المحقق العراقي قدس سره استصحاب المتعلق مع الشك فيه : بان الانقياد والتسليم هاهنا بالإمامة - مثلا - الظاهرية أو النبوة الظاهرية ، لأنه بعد التعبد بها تثبت ظاهرا فيسلم بها بهذا النحو ، لا على طريق الجزم واليقين ، كي يورد عليه بتنافيه مع الشك في أصل الإمامة أو النبوة (2).

إلاّ ان ما ذكره ممنوع على إطلاقه ، فانه انما يتم لو كانت الإمامة من المناصب المجعولة للشارع ، فيمكن التعبد بها بقاء لكونها من الأحكام الشرعية كالطهارة والملكية وغيرهما. اما لو كانت من الأمور التكوينية غير المجعولة فلا يتم ما ذكره ، لأنّ التعبد بالأمر التكويني لا معنى له إلاّ ثبوت حكمه ، فالتعبد بحياة زيد معناه ثبوت وجوب التصدق - مثلا - ، فالتعبد بالإمامة لا معنى له إلا ثبوت حكمها الشرعي ، وليس هو إلاّ وجوب الاعتقاد ، وهو غير ممكن لعدم اليقين بمتعلقه.

ص: 298


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم حاشية فرائد الأصول / 221 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 220 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واما ما ذكره المحقق الخراسانيّ قدس سره في الكفاية من عدم جريان الاستصحاب موضوعا لو كان المهم وجوب المعرفة (1) ، فهو يحتمل وجهين :

الأول : ان يكون وجوب المعرفة متوقفا على الاستصحاب ، لتوهم ترتب وجوب المعرفة على وجود الإمام الواقعي ، فالشك في وجوده يوجب الشك في وجوب المعرفة ، فالاستصحاب يجري ليترتب عليه وجوب المعرفة ، كما يجري استصحاب حياة زيد ليترتب عليه وجوب التصدق. وعليه فهل يجري الاستصحاب أم لا؟.

الوجه الثاني : ان يكون وجوب المعرفة ثابتا على كل تقدير ، ولكن الكلام في الاكتفاء عن المعرفة بالاستصحاب وعدمه ، فيقع الكلام في جريانه وعدمه.

ومراده الوجه الثاني ويشهد له أمران :

أحدهما : ان الكلام في نفسه لا بد أن يكون حول ذلك ، لعدم تعليق وجوب المعرفة على حياة الإمام ، بل هي واجبة فعلا علم بحياة الإمام أو لم يعلم.

والآخر : ظهور ذلك واضحا من قوله : « بل يجب تحصيل اليقين بموته وحياته ». ومما ذكره من كفاية الاستصحاب لو اعتبر من باب الظن في بعض الموارد ، فان الظاهر من هذين الموردين كون الكلام حول الاكتفاء بالاستصحاب وعدمه ، فتأمّل.

إذ قد يتوهم كفاية باعتبار ما قرّر في محله من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

وحيث ان المستفاد بمناسبة الحكم والموضوع كون القطع الموضوع هاهنا مأخوذا بنحو الصفتية - أعني : بما انه صفة - لا بنحو الطريقية والحجية لم يقم الاستصحاب مقامه بل لا بد من تحصيله.

ص: 299


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /422- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولكن الظاهر من العبارة وجه آخر غير هذين الوجهين ، وهو كون وجوب المعرفة مترتبا على اليقين بالحياة لا على الوجود الواقعي ، كما - هو مقتضى الوجه الأول. ولا مطلقا كما هو مقتضى الوجه الثاني وان الكلام في الاكتفاء باستصحاب الحياة عن اليقين بها. وظاهر المحقق الخراسانيّ أخذ اليقين بها بما أنه صفة ، ولذلك أوجب تحصيله وعدم كفاية الاستصحاب عنه إلا في مورد يكتفي فيه بالظن - كما لو أخذت المعرفة بمعنى أعم من القطع والظن - وكان الاستصحاب من باب الظن. فالتفت.

وقد فسر المحقق الأصفهاني قدس سره العبارة بالوجه الأول. وأورد على جريان الاستصحاب : بان استصحاب حياة الإمام إذا كان يترتب عليه لزوم المعرفة ، فمع تحصيلها يرتفع موضوع الاستصحاب ، فيلزم من وجود التعبد عدمه وهو محال (1).

وفيه : ان المعرفة توجب رفع موضوع الاستصحاب بقاء ولا محذور فيه ، وانما المحذور لو استلزمت رفعه ابتداء وحدوثا ، ولكنه غير حاصل.

وقد تبين مما ذكرنا حال الاستصحاب في الإمامة والنبوة.

فان الإمامة ، اما أن تكون من الصفات النفسانيّة التي وهي عبارة عن درجة خاصة من الكمال. واما أن تكون من المناصب المجعولة ، وهي إمارته على الناس ونفوذ حكمه فيهم وما شابه ذلك. والشك في الإمامة ينشأ عن الشك في الموت وعدمه.

والإمامة بالمعنى الأول لا تزول بالموت ولا بغيره ، فلا شك فيها أصلا ، بل يحرز بقائها. ولكنها بالمعنى الثاني تزول بالموت ، لأن أداء الأحكام والأمارة على الناس يتقوم بالحياة ، فمع الشك في بقاء الحياة يشك في بقاء في بقاء الإمامة بهذا

ص: 300


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 113 - الطبعة الأولى.

المعنى ، ولا بد في جريان الاستصحاب فيها من ترتب أثر عملي عليها. وهو اما تحصيل المعرفة واليقين. أو حصول الاعتقاد. فعلى الأول يمتنع الاستصحاب ، لأنه لا يقوم مقام اليقين المأخوذ في المقام على نحو الصفتية. وعلى الثاني يجري الاستصحاب بناء على إمكان تحقق الاعتقاد مع الشك وعدم ملازمته لليقين. كما انه يمكن جريانه فيها للالتزام بها ظاهرا - كما تقدم عن المحقق العراقي -.

وامّا النبوة ، فهي أيضا أما ان تكون من الصفات النفسانيّة أو المناصب المجعولة كأداء الرسالة وتبليغ الأحكام. ولا شك فيها بالمعنيين أصلا بعد الموت.

لأنها بالمعنى الأول يعلم ببقائها بعده. وبالمعنى الثاني يعلم بارتفاعها بالموت ، فلا شك فيها أصلا ، فلا مورد للاستصحاب. والشك في النبوة بالمعنى الثاني وان كان يحصل من جهة الشك في الموت ، ولكنه خارج عن محل الابتلاء.

ولو تنزلنا وقلنا يتحقق الشك فيها بنحو ما ، فأثرها العملي امّا بوجوب الاعتقاد أو استمرار شريعة النبي.

اما على الأول ، فجريان الاستصحاب يتوقف على القول بمجامعة الاعتقاد للشك.

وامّا على الثاني ، فلا ترتب لأن استمرار الشريعة غير مترتب على بقاء النبوة ببقائه ، إذ من يلتزم بان النبوة بالمعنى الثاني يقول باستمرار الشريعة بعد الموت ولا يقول بارتفاعها به ، فلا يجري الاستصحاب.

ومما ذكرنا تعرف انه لا مجال لتمسك الكتابي باستصحاب نبوة نبيه ، وقد ذكر في جوابه وجوه متعددة :

الوجه الأول : ان تمسكه بالاستصحاب لا يخلو اما ان يكون لأجل إقناع نفسه ، أو لأجل إلزام المسلمين ، أو لأجل دفع كلفة الاستدلال عن نفسه. وان الدليل لا بد أن يكون على مدعى الدين الجديد ، لأن الدّين إذا ثبت فهو مستمر بمقتضى الطبيعة والقاعدة حتى يثبت خلافه وهذا هو معنى الاستصحاب.

ص: 301

فان كان غرضه هو إقناع نفسه ، فجريان الاستصحاب انما يكون بعد الفحص ، فلا بد له من الفحص قبل تمسكه بالاستصحاب ومع الفحص يحصل له اليقين بنبوة محمّد صلی اللّه علیه و آله .

وان كان غرضه إلزام المسلمين ، فهو انما يتم لو التزم المسلمون بتحقق اليقين والشك لديهم ، لأنّ الإلزام انما يكون بالمسلمات لدى الخصم ، والمسلمون انما يعتبرون الاستصحاب مع تحقق اليقين والشك ، والشك ليس بحاصل لديهم بل يعلمون بالارتفاع ، لغرض كونهم مسلمين.

وان كان غرضه دفع كلفة الاستدلال عن نفسه وإلقاء كلفته على المسلمين ، فهو ممنوع ، لأن الدين كما يحتاج إلى دليل في مرحلة حدوثه كذلك يحتاج إليه في مرحلة بقائه ، فلا بد له من إقامة الدليل على بقاء دينه.

والتمسك بالاستصحاب لا يجديه على كل من الفروض الثلاثة.

الوجه الثاني : ان تمسكه بالاستصحاب انما يصح لو ثبت اعتباره في كلا الشريعتين ، إذ لو تعين ثبوته في خصوص شريعته فهو مشكوك البقاء كباقي الأحكام الشرعية الثابتة فيها. ولو اختص ثبوته في الشريعة اللاحقة ، فهي غير ثابتة الصحة والحقيقة كي يتمسك بأحكامها.

الوجه الثالث : ان ثبوت نبوة نبيّه انما علمناها من اخبار نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فلو استصحبنا النبوة السابقة يلزم نفي نبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله ، ومعه ينتفي اليقين بالنبوة. السابقة ، فيلزم من وجود الاستصحاب عدمه وهو محال.

وأيضا ، فمع معرفة النبوة السابقة من طريق نبينا صلی اللّه علیه و آله - بما انه نبي - يرتفع الشك في البقاء ، بل يعلم بالارتفاع ، كما لا يخفى.

الوجه الرابع : انه لا معنى لاستصحاب النبوة الا وجوب التدين بما جاء به النبي السابق - لأن النبوة صفة نفسانية غير قابلة للارتفاع - ، ومما جاء به النبي السابق التبشير بنبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله ، فنحن نعلم بثبوت أحكام الشريعة

ص: 302

السابقة مغياة بمجيء نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله .

الوجه الخامس : وهو يرجع - تقريبا - إلى الوجه الرابع ، وهو مضمون ما أجاب به الإمام الرضا علیه السلام الجاثليق (1) ، وحاصله : انا نؤمن بكل عيسى وموسى بشّر بنبوة محمد صلی اللّه علیه و آله ، ولا نؤمن بكل عيسى وموسى لم يخبر عن نبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله .

وبهذا الجواب أجاب السيد القزويني - كما يحكى - حين أشكل عليه الكتابي بالاستصحاب.

وأورد عليه الشيخ رحمه اللّه : بأنه لا وجه له ، لأن عيسى وموسى ليس كليا كي يعترف ببعض افراده وينكر الافراد الأخر ، بل هو جزئي حقيقي وشخص معلوم نعترف بنبوته.

ولكن يمكن توجيهه : بان الإيمان بعيسى وموسى الشخصيين كان بملاك تبشيرهما بنبينا صلی اللّه علیه و آله ، فلا طريق إلى الاعتراف الا هذه الخصوصية ، فالخصوصية مقومة للاعتراف. والترديد من ناحيتها.

وهذه الوجوه الخمسة ذكرها الشيخ قدس سره في رسائله مع اختلاف بسيط جزئي (2) فالتفت.

التنبيه الثاني عشر : في استصحاب حكم المخصص.

وموضوع الكلام فيه : ما إذا ورد عام مطلق من حيث الزمان ، بأن دل على استمرار الحكم في جميع الأزمنة إلى الأبد ، ثم خصص ببعض افراده في زمان معين ، وشك بعد انقضاء زمان الخاصّ في حكم الفرد الخاصّ في أنه محكوم بحكم الخاصّ أم لا؟ ، فهل يستصحب حكم الخاصّ أو يتمسك بالعموم؟.

وقد حكم الشيخ قدس سره بالتفصيل بين ما إذا لوحظ الزمان في العام أفرادا وحصصا متعددة ، بحيث يكون كل فرد من أفراد العام محكوما بأحكام

ص: 303


1- عيون اخبار الرضا علیه السلام 1 / 154 ح 1.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /393- 493 - الطبعة الأولى.

متعددة بتعدد آنات الزمان وقطعه. وبين ما إذا لوحظ الزمان قطعة واحدة لاستمرار الحكم ، ولا عموم إلا بلحاظ الافراد دون الأزمان. فقال بجريان الاستصحاب في نفسه في الثاني وعدم كونه موردا لأصالة العموم. بخلاف الأول ، فانه مورد لأصالة العموم دون الاستصحاب (1).

اما المحقق الخراسانيّ في الكفاية ، فقد وأفق الشيخ في تفصيله للعام وتقسيمه إلى قسمين. ولكنه خالفه في إطلاق الحكم بعدم كون القسم الثاني موردا لأصالة العموم ، والقسم الأول موردا للاستصحاب.

أما القسم الثاني ، فقد وافقه في عدم كونه موردا لأصالة العموم لو كان التخصيص في الأثناء. أما لو كان التخصيص من أول أزمنة العموم - كتخصيص عموم : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) بخيار المجلس - ، كان المورد من موارد أصالة العموم.

واما في القسم الأول ، فقد جعل الملاك في عدم جريان الاستصحاب في نفسه كون الخاصّ قد أخذ الزمان فيه قيدا ، سواء أخذ الزمان في العام مفرّدا أو ظرفا لاستمراره. ولو أخذ الزمان في الخاصّ ظرفا ، كان المورد من موارد الاستصحاب ، سواء كان الزمان في العام قد أخذ مفردا أو ظرفا أيضا. وليس الملاك في عدم كونه من موارد الاستصحاب أخذ الزمان في العام مفردا - كما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) (3) -.

والمهم في البحث هو ما إذا لوحظ الزمان في العام والخاصّ ظرفا ، لأن صورة ما إذا لوحظ في الخاصّ قيدا قد بين عدم جريان الاستصحاب فيها فيما سبق في الكلام عن جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات. وان أخذ ظرفا

ص: 304


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /395- الطبعة الأولى.
2- سورة المائدة ، الآية : 1.
3- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /424- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

له جرى الاستصحاب فيه ، فلا كلام في ذلك. وعليه فلا بد من بيان الوجه في عدم كون الصورة المذكورة من موارد أصالة العموم ، وبيان الوجه في مخالفة صاحب الكفاية للشيخ. فالكلام في محورين :

المحور الأول : في وجه عدم كون الصورة من موارد أصالة العموم.

وقد علل الشيخ ذلك : بان أصالة العموم انما تجري مع الشك في التخصيص واحتمال عدم إرادة العموم. اما في غير ذلك فلا تجري. ولما كان - المفروض أخذ الزمان ظرفا لاستمرار العام وأن لا عموم للعام الا من ناحية الافراد ، وأن كل فرد له حكم مستمر لا أحكام متعددة بتعدد الزمان ، وخصص العام بأحد الافراد في زمان معين - لم يكن عدم الحكم على الخاصّ بحكم العام فيما بعد ذلك الزمان تخصيصا كي يتمسك لنفيه بأصالة العموم -.

وقد علل المحقق الخراسانيّ ذلك بوجهين : ذكر أحدهما في الكفاية ، وذكر الآخر في حاشيته على الرسائل.

امّا الأول الّذي ذكره في الكفاية فهو : ان العام له دلالتان : الأولى : ثبوت الحكم للفرد. والثانية : استمرار هذا الحكم.

اما ثبوت الحكم للفرد ، فقد تحقق بنحو الموجبة الجزئية إلى ما قبل التخصيص. واما الاستمرار فقد دل على انتفائه التخصيص. فلا معنى لشمول العام لهذا الفرد بعد زمان التخصيص (1).

واما الوجه الثاني الّذي ذكره في الحاشية فهو : ان العام يدل على ثبوت حكم واحد مستمر ، فلو أردنا إثبات حكم العام للفرد بعد زمان التخصيص ، كان هذا الحكم غير الحكم الّذي كان قبل زمان التخصيص ، كما انه منفصل عنه بزمان التخصيص. وعليه فالعام لا يتكفل إثبات الحكم للفرد بعد زمان

ص: 305


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /424- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التخصيص ، لأن العام انما يدل على ثبوت حكم واحد مستمر لا حكمين منفصلين ، كما هو مقتضى ثبوت حكمه للفرد بعد ذلك الزمان (1).

وقد ذكر المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية هذا الوجه. ثم نفاه ونفي تقريب الشيخ بما ذكره لإثبات ما ذهب إليه من كون المورد من موارد التمسك بالعامّ.

وتلخيص ما ذكره - مع توضيحه - : ان العام له حيثيتان : حيثية عمومه وحيثية إطلاقه الأزماني. ومقتضى عمومه ثبوت الحكم للفرد في الجملة. ومقتضى إطلاقه ثبوت الحكم للفرد في الزمان المستمر. فالتمسك بالعموم عند الشك غير ممكن لخروجه بالتخصيص ، ولا يكون عدم شمول الحكم له في غير زمان الخاصّ تخصيصا زائدا كي ينفي مع الشك بأصالة العموم كما عرفت.

ولكن يمكن التمسك بالإطلاق ، فانك عرفت بان للعام إطلاقا أزمانيا ، فإذا قيد هذا الإطلاق بزمان ، يبقى ثابتا في الأزمنة الباقية. فان الزمان المأخوذ ظرفا قابل لأن يقيد ، لأن وحدته طبيعية لا شخصية. فإذا قيد مطلق الزمان بزمان خاص جعله التقييد حصة والحصة محافظة على وحدتها الطبيعية واستمرارها ، فيكون مفاد الإطلاق والتقييد ثبوت الحكم للفرد في غير هذا الزمان الخاصّ.

وبالجملة : فالإطلاق في العام كغيره من الإطلاقات في انها إذا قيدت بقيت في غير مورد التقييد على إطلاقها.

وقد يتوهم : وجود الفرق بين هذا الإطلاق وبين غيره من جهتين :

الجهة الأولى : ان سائر المطلقات لها جهات عرضية ، كالإيمان والكفر والعلم والجهل والذكورة والأنوثة وغيرها في الرقبة ، فيمكن لحاظ هذه الجهات وإطلاق الحكم بالإضافة إليها بلا منافاة لشيء.

ص: 306


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /225- الطبعة الأولى.

اما ما نحن فيه ، فلما لم يكن الزمان المستمر بنفسه ذا افراد متكثرة بل لا يكون كذلك الا بالتقطيع. ولحاظه بنحو التقطيع والإطلاق بالإضافة إليها خلاف المفروض ، لأن المفروض عدم لحاظه كذلك.

والجواب :

أولا : ان الإيراد المذكور يبتني على كون الإطلاق هو الجمع بين القيود - بمعنى انه تلحظ القيود جميعها ويجعل الحكم بإزاء كل واحد منها - ، كي يرجع فيما نحن فيه إلى جعل الحكم في كل قطعة من قطعات الزمان ، فيلزم الخلف. أما بناء على ما هو الحق من انه عبارة من رفض القيود لا الجمع بينها - بمعنى ان الحكم متعلق بطبيعي متعلقه بلا دخل لأي قيد فيه - فلا يتم هذا الإيراد. لأن النّظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي الزمان بها لا وجودا ولا عدما لا يستلزم الخلف. وانما الّذي يستلزم الخلف هو النّظر إليها وجعلها ظروفا للحكم.

وثانيا : ان الزمان المستمر اما ان يلحظ في مقام الثبوت مهملا. أو مقيدا - يعني متقطعا -. أو مبنيا من ناحية الإطلاق وأنه شامل لجميع الأفراد.

اما الأول ، فهو محال لمحالية الإهمال في مقام الثبوت.

وامّا الثاني : فهو خلف.

فيتعين الثالث ، وهو يتوقف على لحاظ الخصوصيات المقيدة لها ونفيها بأخذه لا بشرط ، لا بشرط شيء ولا بشرط لا.

الجهة الثانية : انه لما كان المطلق فيما نحن فيه له ظهور واحد في معنى واحد مستمر ، وبعد رفع اليد عنه بالتخصيص لا ظهور آخر يتمسك به في إثبات الحكم. فثبوت الحكم بعد زمان التخصيص انما يكون لو كان للمطلق ظهورات متعددة بتعدد قطع الزمان ، فإذا ارتفع أحدها بقيت الأخرى على حالها. وليس فيما نحن فيه إلا ظهور واحد.

والجواب : ان جميع المطلقات والعمومات لها ظهور واحد في معنى واحد

ص: 307

وليس لها ظهورات متعددة ، والتخصيص والتقييد انما يفيدان رفع حجية الظهور في الفرد لا رفع نفس الظهور ، بل هو باق لا يرتفع. فيمكن التمسك به في إثبات حكم العام والمطلق للفرد مع الشك.

وقد يستشكل : بان عدم التمسك بالعموم أو الإطلاق انما هو لأجل أن ظاهر العام بحيثيته ثبوت حكم واحد مستمر - كما هو المفروض ، لأن المفروض كون الزمان مأخوذا لبيان الاستمرار - ، وثبوت الحكم للفرد بعد زمان التخصيص انما يقتضي ثبوت حكمين منفصلين لا حكم واحد مستمر.

والجواب : بأن الوحدة المنثلمة انما هي الوحدة الخارجية ، وهي غير معتبرة قطعا ، لقيام البرهان على ذلك لتعدد إطاعة الحكم وعصيانه ، وهو كاشف عن تعدد الحكم في الخارج ، إذ لا يتصور إطاعة وعصيان لحكم واحد. وانما المعتبر هو الوحدة في مقام الجعل والإنشاء. والمراد منها في هذا المقام جعل طبيعي البعث أو حصة منه في قبال جعل بعثين أو حصتين منه - فان البعث في هذا المقام مفهوم صالح لأن يقيد ويحصص ، فان جعل طبيعة أو حصة واحدة منه فقد جعل بعث واحد. وان لوحظ مقيدا محصصا ، فقد تعدد - ، وهي فيما نحن فيه متحققة ، لأن المجعول انما هو بعث واحد لا متعدد.

ومثله الكلام في الاستمرار ، فان المعتبر ليس هو الاستمرار في الخارج لعدم إمكانه لفرض التعدد في هذا المقام. وانما المعتبر هو الاستمرار في مرحلة الإنشاء والجعل وهو متحقق ، فانه قد جعل الزمان المستمر - وهو ما عدا يوم الجمعة مثلا - ظرفا للبعث. إلى هنا ينتهي ما أفاده المحقق الأصفهاني مما له علاقة بتقريب ما ذهب إليه من إمكان التمسك بالإطلاق في الفرض المذكور (1).

ونفي كلامي الشيخ - الّذي يدعي ظهور العموم في وحدة الحكم الثابت

ص: 308


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 116 - الطبعة الأولى.

وصاحب الكفاية قدس سرهما - الّذي يدعى ظهوره في وحدة الحكم واستمراره - ، ولكنه بكلامه الأخير لا يخلو عن نظر (1)

ص: 309


1- تحقيق الكلام في مناقشة المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) وتصحيح ما أفاده الشيخ وصاحب الكفاية : أنّ الإطلاق تارة يراد به الإطلاق الاصطلاحي الراجع إلى ثبوت الحكم على الطبيعة بلا قيد وشرط ، فيستفاد إرادة جميع الحصص بمعونة مقدمات الحكمة. وأخرى يراد به ثبوت الحكم بالنسبة إلى مطلق الحصص لكن لا على أن يكون ذلك مستفادا من مقدمات الحكمة الراجعة إلى إثبات رفض القيود ، بل هو مستفاد من نفس الكلام لوضعه إلى جميع الحصص ، نظير دلالة لفظ « يوم » على جميع أجزاء النهار فإنّها ليست بالإطلاق المصطلح ، نعم يصحّ أن يقال إنّه يراد به مطلق أجزاء النهار بلا تقييد ، ولكن ذلك لا يعني أنّه يراد به التمسّك بمقدمات الحكمة بل من جهة أنّ « اليوم » اسم لجميع هذه الأجزاء من المبدأ إلى المنتهى. ومثل ذلك دلالة لفظ « قوم » على جميع الأفراد فإنّها تختلف عن دلالة لفظ العالم على إرادة جميع أفراد العالم ، فإنّ دلالة لفظ العالم على جميع أفراده بالإطلاق الاصطلاحي ومقدمات الحكمة بخلاف دلالة لفظ « قوم » فإنّه يدلّ على جميع الأفراد لوضعه إلى مجموع الأفراد ولذا يسمّى باسم الجمر. والفرق بين هذين النحوين أنّ الدليل المقيّد في المورد الأول لا يتنافى مع مدلول الكلام وإنّما يستلزم إخراج الفرد عن مقتضى مقدمات الحكمة ، ويبقى الدليل المطلق حجة في سائر الحصص. أما في المورد الثاني فالدليل المقيّد يتنافى مع نفس المدلول رأسا ولذا قلنا - في مبحث العموم والخصوص - إنّه لو ورد ما يدل على إكرام عشرة علماء ثم ورد ما يدل على عدم إكرام واحد منهم كان الدليلان متعارضين لأنّ مدلول عشرة ليس هو الطبيعة بل مجموع الافراد رأسا ، ولأجل ذلك لم تكن من أفراد العموم. فلو ورد ما يدل على مجيء القوم ، ثم ورد ما يدل على عدم مجيء واحد منهم كزيد كان الدليلان متعارضين. نعم حيث أنّ مثل القوم يستعمل في البعض مسامحة يحمل لفظ : « القوم » في مثل « جاء القوم إلاّ زيدا » مما يعلم إرادة البعض مسامحة لأنّه يكون له ظهور ثانوي في ذلك ومثله ما لو كان المخصّص منفصلا وبذلك يختلف عن مثل لفظ : « عشرة » فإنّه ليس له ظهور ثانوي في الأقل ولذا يستقرّ التعارض بين دليل إكرام العشرة ودليل عدم إكرام واحد منهم. وكيف كان فالتمسك بمثل لفظ القوم في غير مورد الاستثناء ليس من جهة الرجوع إلى الإطلاق في غير مورد التقييد بل من جهة الرجوع إلى الظهور الثانوي المحمول عليه الكلام بقرينة ما هو أظهر منه. وإذا اتّضح ما ذكرناه : فاعلم أنّ الدليل الدال على استمرار الحكم في الحصص الزمانية - بعنوان الاستمرار - سواء كان بنحو المعنى الاسمي كأن يقول : « يجب الجلوس مستمرا إلى الغروب » أو بنحو المعنى الحرفي كأن يقول : « يجب الجلوس من الآن إلى الغروب » لا يدل على ثبوت الحكم في جميع أجزاء الزمان المفروض بالإطلاق ومقدمات الحكمة بل بمدلوله الوضعي نظير لفظ « اليوم » الدال على أجزاء الزمان بين المبدأ والمنتهى ، لأنّ الاستمرار اسم لثبوت الحكم في تمام الأزمنة ومجموعها. وعليه فإذا دلّ الدليل على انقطاع الحكم وعدم ثبوته في الأثناء لم يكن ذلك من تقييد المطلق ببعض حصصه كي يرجع إليه في سائر الحصص ، بل هو مناف لأصل الدليل على الاستمرار ومسقط له عن الاعتبار ، ومعه لا دليل على ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص فلفظ الاستمرار نظير لفظ « عشرة » في سقوطه مع معارضته بما هو أقوى منه وعدم الرجوع إليه في غير مورد الدليل المعارض. نعم دلالة الدليل على ثبوت الحكم في الجملة تبقى على حالها لعدم ما يعارضها. ويبقى سؤال أنّه إذا انتفت دلالة الدليل على الاستمرار وبقيت دلالته على الحكم في الجملة فما هو الوجه في الالتزام بثبوت الحكم قبل زمان التخصيص ، إذ يكون ما قبل زمان التخصيص وما بعده بالنسبة إليه على حدّ سواء؟ والجواب عنه هو ما سيأتي - في تحقيق كلام الكفاية - من الالتزام بوجود ظهور آخر للدليل وهو ظهوره في ثبوت الحكم بمجرد تحقّق موضوعه ، ومقتضاه ثبوت الحكم فيما قبل زمان التخصيص. وإذا تحقّق لديك ما بيّناه فنقول : أنّ محطّ كلام الشيخ (رحمه اللّه) وغيره هو ما إذا كان الدليل دالا على استمرار الحكم ولو بنحو المعنى الحرفي ، وعليه فلا يتّجه ما أفاده المحقّق الأصفهاني في مناقشته بالرجوع إلى الإطلاق الأزماني وبيان أنّ الإطلاق رفض القيود ، إذ عرفت أنّ دلالة الدليل المزبور على ثبوت الحكم في تمام الأزمنة ليس بالإطلاق الراجع إلى رفض القيود بل بمقتضى الوضع نظير دلالة لفظ اليوم على جميع الأجزاء بين المبدأ والمنتهى ، فيمكن أن نقول : أنّ ما أفاده ( قده ) لا يخلو عن خلط بين المقامين ، فتدبّر ولا تغفل.

فان الوحدة والاستمرار الذين يدعي ظهورهما من العموم ، يراد منهما الوحدة والاستمرار في مرحلة الخارج ، لا الوحدة والاستمرار في مرحلة الإنشاء والجعل ، وهما غير محققين بعد التخصيص وثبوت الحكم للخاص بعد زمانه ، ولأجل ذلك لا يتمسك بالعموم فيه.

واما ما ساقه من البرهان على عدم اعتبار الوحدة الخارجية من عدم تحققها أصلا لتعدد الإطاعة والمعصية الكاشف عن تعدد الحكم ، فلا ينافي ما ذكرناه ، فان المراد من الوحدة الخارجية المعتبرة انما هو الوحدة بنظر العرف التي يمكن انطباقها على التعدد الدقي ، وهي متحققة في حكم العام بالنسبة إلى افراده ، وتنثلم بالتخصيص. فعدم إمكان الوحدة في مرحلة الخارج بمعنى ، لا يتنافى مع دعوى الوحدة في هذه المرحلة بمعنى آخر.

ص: 310

وكذلك المراد من الاستمرار ، هو الاستمرار بنظر العرف القابل للانطباق على المنقطع بالنظر الدقي. وهو ينثلم بالتخصيص.

فالمراد بالوحدة والاستمرار نظير الوحدة والاستمرار في سائر الأمور التدريجية التي لا تتنافى مع التجدد والتصرم. هذا مع انه لم نعرف معنى محصلا للاستمرار في مقام البعث ، كيف! وهو من شأن الوجودات ، فكيف فرض الحكم المجعول مستمرا بعد فرض انقطاعه في الأثناء؟ واستمراره في مقام البعث. لا نعرف له معنى ظاهرا فتدبر.

وبهذا تعرف عدم تمامية إيراد المحقق الأصفهاني ( رحمة اللّه ) على الشيخ والمحقق الخراسانيّ (قدس سرهما) في عدم تمسكهما بالعموم في هذا الفرض.

وقد استظهر المحقق النائيني رحمه اللّه من كلام الشيخ رحمه اللّه التفصيل بين العام المجموعي والاستغراقي ، بعدم التمسك بالعموم في الأول دون الثاني.

ولما كان هذا مخالفا لما عليه الأصوليون من التمسك بالعامّ المجموعي عند الشك في التخصيص ، التزم بتأويل كلامه وحمله على خلاف ما استظهره مما بنى عليه في المقام من : ان الزمان ..

تارة : يؤخذ ظرفا لمتعلق الحكم كالإكرام والوفاء وغيرهما.

وأخرى : يؤخذ ظرفا لنفس الحكم.

فعلى الأول يمكن ان يكون الدليل متكفلا لاستمرار الحكم دون الثاني لأن نسبة الاستمرار إلى الحكم نسبة العرض إلى معروضه ، والحكم إلى موضوعه ، فثبوت الاستمرار يتوقف على ثبوت الحكم في مرحلة سابقة عليه. فدليل الحكم لا يتكفل ثبوت استمراره ، لأنه انما يثبت بعد فرض تحقق الحكم ، بل لا بد في إثباته من دليل آخر منفصل يكون موضوعه الحكم. ودليل الاستمرار لا يثبت الحكم ، لعدم ثبوته مع عدم ثبوت الحكم ، فكيف يثبت الحكم بدليله؟!. وعليه فمع

ص: 311

الشك في ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص لا يمكن التمسك لا بدليل العام ، لأنه انما يدل على ثبوت الحكم في الجملة. وقد ثبت. ولا بدليل الاستمرار ، لأن ثبوته فرع ثبوت الحكم ، والمفروض الشك فيه.

فعلى هذا ، حمل كلام الشيخ وانه تفصيل بين ما إذا أخذ الزمان ظرفا للمتعلق فيتمسك بالعموم ، وبين ما إذا أخذ ظرفا للحكم فلا يتمسك به. وان كان هذا الحمل خلاف الظاهر للعلم بعدم إرادة الشيخ للظاهر الّذي عرفته (1).

ولكن ما ذكره قدس سره ممنوع. بجهتيه : (2) امّا الأولى : وهي ما استظهره من كلام الشيخ من التفصيل بين العام المجموعي والاستغراقي - والّذي أصر عليه السيد الخوئي وبنى على اشتباه أستاذه في التأويل - ، فان استظهاره لا وجه له ، لأن القسم الثاني الّذي ذكره

ص: 312


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 543 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- تحقيق الإشكال فيما أفاده ( قده ) : أنّ ما أفاده من عدم تكفّل الدليل الدّال على الحكم لاستمراره ، لتفرّع الاستمرار عن نفس الحكم يرد عليه أنّه خلط بين مقام الجعل والمجعول. فإنّ ما أفاده يمكن أن يقرّر في الجعل فإنّ استمرار الجعل متفرّع عن ثبوته ، فلا يمكن أن يتكفّل دليل ثبوت التشريع والجعل استمرار الجعل في نفس الوقت لأنّ مرجع استمرار الجعل إلى إدامة التشريع والثبات عليه وعدم نسخة وهذا لا يمكن أن يفرض إلاّ متأخّرا عن تحقّق الجعل والتشريع. وأما في المجعول وهو الحكم فلا يتمّ ما أفاده فإنّه يمكن أن ينشأ الحكم المستمرّ في آن واحد بلا لزوم لإنشائه أوّلا ثم بيان استمراره ، نظير الملكية المستمرة المنشأ بدليل واحد وإنشاء واحد. وبعبارة أخرى إنّ المجعول يتبع كيفية جعله فقد يجعل في زمان خاص وقد يجعل في جميع الأزمنة بجعل واحد ، ولا يخفى أنّ محطّ الكلام فيما نحن فيه هو الحكم المجعول لا الجعل. هذا مع أنّ ما أفاده غير تام في الجعل والتشريع أيضا وذلك لأنّ الجعل والتشريع ليس مدلولا للكلام والدليل ، بل هو فعل من أفعال الجاهل نظير أخباره ، فإنّ مدلول الكلام هو المخبر به لا الاخبار ، وإنّما الاخبار فعل خارجي يتحقّق بالكلام والاستعمال فنسبة الاخبار والجعل إلى الكلام نسبة المسبّب إلى السبب لا المدلول إلى الدليل. وعليه فلا موضوع لأنّ يقال إنّ استمرار الجعل لا يمكن أن يتكفّله نفس الكلام الّذي يتكفّل ثبوت الجعل.

الشيخ يجتمع مع العموم الاستغراقي والمجموعي معا. ويشهد لذلك انه جعل من هذا القسم ما يمكن ان يكون عاما استغراقيا ، وهو : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ، فان الوفاء بكل عقد واجب ، في كل زمان وآن ، وليس الزمان كله أخذ موضوعا واحدا وبنحو الارتباطية لوجوب الوفاء بالعقد ، بل على تقدير تسليم ظهور كلامه في ذلك ، فلا وجه لتأويله بما ذكر من أن المراد من القسم الثاني ما كان الزمان فيه ملحوظا ظرفا ، لأنه مثل له مثالا يتنافى مع ذلك وهو : ( أكرم العلماء دائما ) ، لظهور تكفل اعتبار الاستمرار بنفس الدليل ، وقد صرح قدس سره بلزوم التكفل بدليل منفصل يكون موضوعه الحكم كما عرفت ، فالتفت.

واما الجهة الثانية : وهي ما ذكره من كون نسبة الاستمرار مع الحكم نسبة العرض مع معروضه ، وانه لا بد في ثبوت الاستمرار من ثبوت الحكم ، لأن الاستمرار أمر انتزاعي ينتزع عن الوجود بعد الوجود بلا فاصل ، وثبوت الحكم في الأزمنة المتعاقبة ، فنسبته إلى الحكم نسبة العنوان إلى المعنون - لأنه ينتزع عن ثبوت خاص للحكم - ، وحينئذ فدليل الاستمرار يتكفل ثبوت الحكم في الأزمنة التالية للزمان الأول ، وثبوت الحكم في الزمان الثاني والثالث معناه الاستمرار.

وعليه ، فيمكن التمسك بدليل الاستمرار في إثبات الحكم فيما بعد زمان التخصيص. ولا يتوقف على إحراز تحقق الحكم ، بل مع إحرازه لا نحتاج إلى دليل الاستمرار.

وبعبارة أخرى : انه ما المقصود من لزوم إحراز تحقق الحكم في ثبوت الاستمرار؟ ، هل إحرازه في الآن الثاني بعد التحقق أو إحرازه في الجملة ولو في الآن السابق؟. فعلى الأول : لا نحتاج إلى إثبات الاستمرار. وعلى الثاني :

ص: 313


1- سورة المائدة ، الآية : 1.

المفروض ثبوت الحكم في الآن السابق ، فتدبر.

ويتم لدينا - من جميع ذلك - : ان ما ذكره الشيخ والخراسانيّ في توجيه دعواهما بعدم التمسك بالعامّ فيما إذا ثبت أخذ الحكم بنحو الوحدة والاستمرار تام كبرويا ، بمعنى انه إذا ثبت أخذ الحكم بهذا النحو من دليل العام أو من دليل خارجي - كما لو قال : « أكرم العلماء إلى الأبد » فان : « إلى الأبد » تدل على استمرار الحكم - ، امتنع التمسك بالعموم فيما بعد التخصيص لانتفاء الاستمرار وتعدد الحكم.

ولكن الكلام يدور معه صغرويا ، بمعنى ان العمومات الثابتة لا دلالة فيها على أخذ الحكم فيها بنحو الوحدة والاستمرار كعموم : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) الّذي ساقه مثالا لدعواه ، فان : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) لا دلالة فيها الا على وجوب الوفاء بالعقد في كل زمان. امّا أخذ الحكم بنحو الوحدة والاستمرار فلا دلالة له عليه. نعم الوحدة والاستمرار ينتزعان عن مثل هذا الوجوب باعتبار تعاقب ثبوت الوجوب وعدم انفصاله ، فيرى عرفا حكما واحدا مستمرا. ولكنه لا يجدي في عدم التمسك بالعموم فيما بعد التخصيص لعدم استفادة اعتباره بدليل ، وانما منطبق على نحو ثبوت الحكم في الزمان.

المحور الثاني : في مخالفة صاحب الكفاية للشيخ فيما لو كان التخصيص في الابتداء ، فقد عرفت انه ذهب إلى جواز التمسك بالعامّ في هذا الفرض. دون الشيخ ، لإطلاقه المنع.

وحاصل ما ذكره في تقريب ما ذهب إليه : ان المانع من التمسك بالعامّ لو كان التخصيص في الأثناء - وهو لزوم ثبوت حكمين منفصلين مع دلالة العام على ثبوت حكم واحد متصل - غير موجود لو كان التخصيص في الابتداء ، لأن كلا من الوحدة والاستمرار لا ينثلم بثبوت حكم العام بعد زمان التخصيص كما لا يخفى.

ص: 314

والّذي (1) ينبغي ان يقال : ان للعام جهتين : جهة العموم التي تقتضي ثبوت الحكم لأفراد العام. وجهة الإطلاق التي تقتضي ثبوت هذا الحكم للفرد في جميع الأزمنة. فلا بد من ملاحظة دليل العام من جهة عمومه ، فان كان يقتضي ثبوت الحكم للفرد في الجملة كان ما ذكره صاحب الكفاية من صحة التمسك بالعامّ بعد زمان التخصيص في محله ، لأن التخصيص انما يزاحم الإطلاق المقتضي لثبوت الحكم في جميع الأزمنة ، فيقتصر على مورد المزاحمة وهو زمان التخصيص ، ويبقى الفرد في الأزمنة الأخرى مشمولا للإطلاق. وان كان يقتضي ثبوت الحكم للفرد بمجرد ثبوته ، لم يكن ما ذكره صاحب الكفاية تاما لأن التخصيص زاحم دلالة العام ورفعها ، فلا يبقى مجال للتمسك بالعموم ولا بالإطلاق ، لأنه فرع

ص: 315


1- التحقيق : إنّ الدليل الّذي يتكفّل ثبوت الحكم إلى الغاية المعيّنة كوجوب الجلوس إلى الليل إذا جاء زيد من السفر يشتمل على مداليل ثلاثة : أصل ثبوت الحكم وثبوته عند حصول موضوعه وبمجرده واستمراره إلى الليل. ولذا قد يفكّك بين هذه المداليل في الصدق والكذب ، كما لو قال القائل : « إذا قام عمرو يقوم زيد إلى الليل » فإنّه إذا فرض قيام زيد عند قيام عمرو ولكنه لا يستمر إلى الليل فإنّه يقال أنّه كذب في جهة وصدق في جهة ، كما أنّه لو استمر قيامه إلى الليل لكن لم يتحقّق بمجرد قيام عمرو يقال إنّه كذب من جهة وصدق من أخرى. وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في أنّ مثل هذا الاخبار ينحل إلى أخبار ثلاثة وعليه نقول : إنّه إذا قام الدليل على التخصيص من الأول ، كان ذلك مصادما لظهور الدليل العام في ثبوت الحكم بمجرد تحقّق الموضوع من دون منافاة للظهورين الآخرين ، فرفع اليد عن هذا الظهور لا ينافي مع الالتزام بالظهورين الآخرين ، ومقتضاه ثبوت الحكم بعد زمان التخصيص مستمرا إلى الغاية المحدّدة. وهذا بخلاف ما إذا كان التخصيص في الأثناء فإن دليل التخصيص يصادم ظهور الدليل الآخر في الاستمرار وهو مدلول واحد كما عرفت ، فيمتنع أن يثبت الحكم بعد زمان التخصيص. فما أفاده صاحب الكفاية متين وجيه ، وهو مما يمكن أن ينسب إلى الشيخ وإن لم يصرّح به لالتزامه بلوازمه ، ولذا لم يتوقّف في الرجوع إلى عموم الوفاء بالعقود بعد انقضاء المجلس ، فلاحظ. وبهذا البيان تعرف الإشكال فيما بيّناه في الدورة السابقة.

ثبوت العموم ، والمفروض انه غير ثابت لنفي التخصيص له.

إلى هنا ينتهي الكلام في هذا التنبيه ، وقد تبين تمامية ما ذكره الشيخ والمحقق الخراسانيّ قدس سرهما من عدم التمسك بالعامّ فيما لو كان التخصيص في الأثناء كبرويا وعدم تماميته صغرويا. كما تبين ما في إطلاق المحقق الخراسانيّ لصحة التمسك بالعامّ لو كان التخصيص في الابتداء ، وانه لا بد من التفصيل الّذي عرفته. فتدبر جيدا.

التنبيه الثالث عشر : في بيان المراد من الشك في الاخبار.

ذكر المحققون : ان المراد بالشك في اخبار الاستصحاب خلاف اليقين ، فيعم الشك بمعنى تساوي الطرفين والظن والوهم. واستدلوا لذلك بوجوه ..

كتصريح أهل اللغة بعموم معناه وتعارض استعماله في الاخبار في غير هذا الباب.

وقوله علیه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر » الدال على تحديد الناقض وانه خصوص اليقين دون غيره.

وغير ذلك - ما جاء في الرسائل (1) والكفاية (2) - (3) وذلك مما لا إشكال فيه. ولا يستدعي زيادة بيان. وبذلك تنتهي تنبيهات المسألة التي ذكرها صاحب الكفاية.

ص: 316


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /398- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /425- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- ومن جملة ما استدلّ به على كون المراد بالشك هو مطلق غير العلم وجهان ذكرهما الشيخ (رحمه اللّه) : أحدهما : الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الاخبار. والآخر : أنّ الظن غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع وإن كل ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده وإن كان مما شكّ في اعتباره فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك. وقد ناقشهما صاحب الكفاية (رحمه اللّه) : فناقش الأول : بأنّه لا وجه لدعواه ولو سلّم اتّفاق الأصحاب على الاعتبار لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الاخبار. وناقش الثاني : بأنّ قضية عدم اعتبار الظن لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره ليست إلاّ عدم ثبوت المظنون به تعبّدا لتترتّب عليه آثاره ، لا ترتيب آثار الشك على الظن وتنزيل وصف الظن منزلة عدمه بلحاظ آثار عدم الظن. والمناقشة في الأول لا بأس بها ومرجعها إلى عدم اليقين بكون الإجماع تعبديّا ليكشف عن قول المعصوم عليه السلام. وأما المناقشة في الوجه الثاني فهي غير واردة على كلا شقّي الترديد في كلام الشيخ. وتوضيح ذلك : أنّ الظن غير المعتبر على قسمين : أحدهما : ما قام الدليل على إلغائه وعدم اعتباره كالظن القياسي ، وهذا ما ألحقه الشيخ بالشك ببيان أنّ دليل الإلغاء يتكفّل تنزيله منزلة العدم فيترتّب عليه كل ما يترتّب شرعا على عدمه. والآخر : ما لم يقم دليل على اعتباره فيكون مقتضى الأصل عدم حجيّته كالشهرة. وهذا ما ألحقه الشيخ بالشك ببيان أنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسببه يكون من باب نقض اليقين بالشك. والظاهر إنّ نظره (رحمه اللّه) إلى نظير ما يقال في ردّ شمول الآيات الناهية عن العمل بغير العلم للظن المعتبر بأنّه خارج تخصّصا ، لأنّه بعد قيام الدليل القطعي على حجيّته لا يكون العمل به عملا بغير العلم بل عملا بالعلم باعتباره ، فيقال فيما نحن فيه إنّ رفع اليد عن اليقين السابق بالظن المشكوك اعتباره يكون استنادا إلى الشك ونقضا لليقين بالشك باعتبار الظن. ولا يخفى عليك أنّ ما أفاده صاحب الكفاية - وتبعه غيره - في مناقشة الشيخ إنّما يرد على ما أفاده بالنسبة إلى الظن الّذي قام على عدم اعتباره الدليل ، إذ يقال أنّ الدليل على الإلغاء ناظر إلى عدم إثبات المظنون به تعبّدا لا تنزيل الظن منزلة عدمه في آثار عدم الظن الشرعية. ولا يرد على ما أفاده بالنسبة إلى الظن المشكوك اعتباره بالبيان الّذي عرفته ولا يرتبط به بوجه أصلا كما لا يخفى ، فالجمع بين القسمين في مقام المناقشة ليس بسديد. فالمتّجه أن يقال في مناقشة الشيخ : أنّ العمل في مورد الظن المشكوك الاعتبار لا يستند إلى الشك بل إلى الظن ، فإنّه لو سلّم صحّة استناد العمل في مورد العلم بالحجيّة إلى العلم لا إلى نفس الظن المعلوم الحجية فهو لا يسري إلى ما نحن فيه ، إذ العلم في مورد الفرض أقوى من الظن فيصلح أن يكون هو المستند إليه لضعف الظن بالإضافة إليه. وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه بل الأمر بالعكس ، فإنّ الشك أضعف من الظن ، فمع اجتماعهما يكون المستند هو الظن ، فيقال عمل بالظن لا بالشك. وبالجملة : الملاحظ في سيرة العقلاء هو الاستناد إلى أقوى الجهتين مع اجتماعهما بحيث يعلّل العمل به لا بالأضعف ، فتدبّر. وكيف كان في غير هذين الوجهين مما أشرنا إليه تبعا للغير كفاية. ثم أنّ بعض كلمات الكفاية في المقام لا يخلو عن غموض وإشكال الأول وهلة ، وهو قوله : - بعد أن استشهد على العموم بقوله عليه السلام : « لا حتى يستيقن أنّه قد نام » بعد السؤال عمّا إذا حرّك في جنبه وهو لا يعلم وترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة الظن وما إذا لم تفد - : « وقوله عليه السلام : بعده ولا تنقض اليقين بالشك أنّ الحكم في المغيا مطلقا هو عدم نقض اليقين بالشك » فإنّ دلالة قوله : « ولا تنقض اليقين بالشك » على ثبوت حرمة النقض في موارد الشك بقول مطلق ليست محل الكلام وإنّما محل الكلام إرادة مطلق عدم العلم من الشك وهذا لا يثبت بظهور الكلام في حرمة نقض اليقين بالشك مطلقا. ويمكن رفع الغموض عن كلامه بأن يقال أنّ مراده : إنّ ظاهر قوله : « ولا تنقض اليقين بالشك » أنّه تطبيق على ما أفاده في قوله : « لا حتى ... » وهو الحكم المغيا ، فيستكشف أنّ الحكم الثابت في المغيا بقول مطلق مصداق لعدم نقض اليقين بالشك ، وبعد ضميمة عموم الحكم في المعنى لصورة الظن الحاصل من تحريك شيء وهو لا يعلم ، يثبت أنّ المراد بالشك ما يعمّ الظن ، فلاحظ والأمر سهل.

ص: 317

ويبقى في المقام تنبيهان آخران ذكرهما الشيخ في الرسائل ، لا بد من التعرض لهما لهما لما يترتب عليهما من آثار عملية.

اما التنبيه الأول : فالكلام فيه حول استصحاب الصحة (1).

ص: 318


1- لا يخفى أنّ البحث في استصحاب الصحة عند طرو مشكوك المانعية أو القاطعية بحث صغرويّ لا كبرويّ ومرجعه إلى تشخيص أنّ المورد من موارد الاستصحاب بالحدود المقرّرة له أو لا؟ نظير مبحث استصحاب العدم الأزلي على ما تقدّم في محله. وتحقيق الكلام في استصحاب الصحة عند وجود مشكوك المانعية ، كالتبسّم في الصلاة - مثلا - بنحو يستوعب جميع احتمالاته أن يقال : إنّ الصحة كما بيّن في محله بمعنى التمامية ، من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأثر الملحوظ والنتيجة المترقّبة فقد يكون العمل تامّا من جهة وليس تامّا من جهة أخرى. وعليه نقول : إنّ الصّحة المشكوكة عند طرو مشكوك المانعية إما أن يراد بها تماميّته من حيث ترتّب الأثر وإما أن يراد بها التمامية من حيث موافقة الأمر ، أو من حيث سقوط الأمر. أما الصحّة من حيث ترتّب الأثر بمعنى المصلحة المترتّبة على العمل ، فإن أريد بها صحة مجموع العمل فهي مشكوكة الحدوث فلا معنى لاستصحابها ، وإن أريد بها صحة الأجزاء السابقة فتحقيق الحال فيها : إنّ الأثر المترتّب على العمل تارة يكون ترتّبه دفعيا يحصل بالإتيان بجميع الأجزاء فلا يترتّب على كل جزء جزء أي شيء ، وأخرى يكون ترتّبه تدريجيّا بحيث تحصل مرتبة منه عند أول جزء وهكذا يتصاعد بتحقّق الأجزاء إلى أن يتحقّق بكامله عند تحقّق الجزاء الأخير ، نظير الحرارة المتصاعدة تدريجا باستمرار النار. وعلى هذا التقدير فشأن حدوث المانع في الأثناء. إما المنع عن ترتّب مراتب الأثر على الأجزاء اللاحقة. وإما رفع الأثر المترتّب على الجزء السابق ، نظير الماء البارد والملقى على الماء المغلي يرفع الحرارة الثابتة للماء. وإما دفع الأثر المترتّب على الجزء السابق بأن يكون ترتّب الأثر عليه مقيّدا ومنوطا بعدم حصول المانع ، فيصير حاصل الاحتمالات أربعة. أما على الاحتمال الأول : - وهو ما إذا كان ترتّبه دفعيّا عند حصول جميع أجزاء العمل - فلا مجال للاستصحاب لعدم اليقين بحدوث الصحة قبل انتهاء العمل. وأما على الاحتمال الثاني : فعند حصول المشكوك يشك في ترتّب على الأجزاء اللاحقة وهو غير مسبوق باليقين بل هو مشكوك الحدوث رأسا فلا يجري الاستصحاب بلحاظها ، وأما بلحاظ الأجزاء السابقة فلا شك في البقاء لأنّ الأثر المترتّب على الجزء لا يرتفع بالمانع على الفرض فالبقاء متيقّن. وأما على الاحتمال الرابع : فصحّة الأجزاء السابقة مشكوكة الحدوث رأسا عند حصول مشكوك المانعية. نعم على الاحتمال الثالث : يكون لدينا يقين بالحدوث وشك في البقاء لليقين بتحقّق مرتبة من الأثر والشك في زوالها ، ولكن لا يخفى عليك أنّ الصحة بهذا المعنى ليست حكما مجعولا ولا موضوعا لحكم مجعول ، فلا تكون مجرى الاستصحاب. والّذي يتلخّص أنّ الصحة بمعنى ترتّب الأثر لا تكون موردا للاستصحاب بتاتا. ولكن الّذي يبدو لنا بوضوح : أنّ الصحة بلحاظ ترتّب الأثر يراد بها غير ما ذكرناه تبعا لبعض الاعلام ، إذ المبحوث عنه في المسألة هو إثبات عدم مانعية المشكوك بالاستصحاب وتمامية العمل والاكتفاء به في مقام الامتثال بحيث لا تجب عليه الإعادة وهذا أجنبيّ بكل معنى الكلمة عن ترتّب المصلحة على العمل وعدمه فالملحوظ في الأثر هو الاكتفاء به في مقام الامتثال لا ترتّب المصلحة عليه ، ومنه ظهر الإشكال في كلمات المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) فلاحظ. وكيف كان فإذا عرفت أنّ البحث عن الصحة بلحاظ الاكتفاء بها في مقام الامتثال ، فقد يقال : إنّ جواز الاكتفاء في مقام الامتثال مما تناله يد الجعل الشرعي كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز ، سواء كان مجعولا رأسا أو بتبع غيره فإنّ ذلك لا يهم ، بل المهم إنّه مما يقع موردا للتعبّد الشرعي. وعليه فيمكن أن يكون موردا للاستصحاب فيما نحن فيه فإن العمل قبل حصول مشكوك المانعية كان مما يكتفي به في مقام الامتثال وبعد حصول المشكوك يشك في بقاء صحته بهذا المعنى ، فتستصحب. ولكن يرد عليه : إنّ المقصود إن كان استصحاب صحة مجموع العمل فهو بعد لم يتحقّق ، فلا يقين بالحدوث. وإن كان استصحاب صحة الأجزاء المتحقّقة فقط ، فهي غير مشكوكة البقاء لأنّها وقعت امتثالا فلا تنقلب عما وقعت عليه ، وإنما يشك في تحقّق سائر الأجزاء والشرائط وامتثال الأمر من جهتها. فاستصحاب الصحة لا يجري إما لعدم اليقين بالحدوث أو لعدم الشك في البقاء. وقد يجعل مورد الاستصحاب المزبور هو الأجزاء اللاحقة لكن بنحو الاستصحاب التعليقي ، فيقال : إنّ الأجزاء اللاحقة كانت قبل عروض مشكوك المانعية مما يكتفي بها في مقام الامتثال لو وجدت ، فالآن كذلك. ولكن للتأمّل في هذا الاستصحاب - مع قطع النّظر عن ابتنائه على جريان الاستصحاب التعليقي الّذي لا نقول به في الأحكام والموضوعات كما تقدّم - مجال واسع وذلك لوجهين : الأول : إنّ الاكتفاء بالعمل في مقام الامتثال وإن سلّم أنّه مما يقع موردا للتعبّد الشرعي كموارد قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز والأوامر الظاهرية ، إلاّ أنّه تابع للدليل عليه ، ولذا لا يكون شرعيا مع الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي بل يكون عقليا لعدم تصدّي الشارع للتعبّد به بل هو مما يحكم به العقل. وعليه نقول : إنّ جواز الاكتفاء في مقام الامتثال الثابت للأجزاء ليس مما تعبّد به الشارع بل هو مما يحكم به العقل باعتبار موافقة الأمر الواقعي. فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لأنّه حكم عقلي أولا ، ولتبدّل الموضوع ثانيا ، لأنّ كل ما يكون دخيلا في الحكم العقلي يكون مأخوذا في موضوعه. ومن الواضح أنّ العقل كان يحكم بالاكتفاء بالأجزاء مقيّدا بعدم مشكوك المانعية لأجل إحراز موافقة الأمر ، فمع حصول المشكوك يتبدّل الموضوع ، للشك في موافقة الأمر. الثاني : إنّ المورد ليس من موارد الاستصحاب التعليقي الّذي تقدّم الكلام فيه نفيا وإثباتا ، وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب التعليقي هو ما إذا كان الحكم ثابتا لموضوع موجود بالفعل على تقدير شرط لم يتحقّق بعد ، كالحرمة الثابتة للعنب على تقدير الغليان ، فإذا تبدّل إلى الزبيب يقال : هذا كان محرّما على تقدير الغليان فالآن كذلك. فموضوع الحكم موجود بالفعل ويكون للحكم التعليقي - بما هو تعليقي - ثابتا له بالفعل. وما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ الاكتفاء في مقام الامتثال المترتّب على الأجزاء اللاحقة ليس موضوعه طبيعي الأجزاء وشرطه هو وجودها ، فيقال : إنّ طبيعيّ الأجزاء يكتفي به في مقام الامتثال على تقدير وجوده ، كي يجري الاستصحاب التعليقي عند طرو مشكوك المانعية ، لأنّ الموضوع غير الشرط الّذي لا وجود له فيمكن فرضه بالفعل وقبل وجوده الّذي هو الشرط. وإنّما موضوعه هو وجود الطبيعة فإنّه هو الّذي يكتفي به في مقام الامتثال ، فقبل وجود الأجزاء ليس لدينا ما يقال إنّه كان يكتفي به في مقام الامتثال على تقدير والآن كذلك. وعند وجودها يكون الاكتفاء مشكوك الحدوث رأسا ، فلا مجال للاستصحاب المدّعى. وأما الصحة من حيث موافقة الأمر ، فالكلام في استصحابها هو الكلام في استصحاب الصحة بلحاظ مقام الامتثال من عدم الشك في البقاء لو أريد صحة الأجزاء السابقة وعدم اليقين بالحدوث لو أريد بها صحة المجموع المركّب ، وكونه من الاستصحاب التعليقي الّذي عرفت إشكاله لو أريد صحة الأجزاء السابقة. هذا مع أنّ موافقة الأمر ليست من الأمور الشرعية بل هي تنتزع عن مطابقة المأتيّ به للمأمور به وليست مجعولة بل تتحقّق بتحقّق أمرين والعمل الخارجي المطابق. ومن الواضح إنّها تبتني على وجود الأمر في مرحلة سابقة على العمل ، إذ لا يتعلّق الأمر بما هو موجود كي يكون المأتي به قبل الأمر مطابقا للمأمور به بعد الإتيان. ومن هنا اتّضح أنّ الأمر الشرعي وإن كان دخيلا في انتزاع عنوان الموافقة لكنّ ذلك لا ينفع في قابلية الموافقة للجعل والرفع ولو بلحاظ منشأ انتزاعه ، لأنّ الأمر لو كان هو الجزء الأخير من العلّة لأمكن الالتزام بذلك ، لكن عرفت أنّه أسبق من الجزء الآخر وهو العمل الخارجي ، فالجزء الأخير لانتزاع عنوان الموافقة هو عمل المكلّف وهو ليس بشرعي ، فتدبّر. ومن هنا يظهر الإشكال فيما أفاده المحقّق العراقي من جريان استصحاب الصحة بمعنى موافقة الأمر ببيان أنّها شرعية لشرعية منشأ انتزاعه وهو أمر الشارع وتكليفه ، وقد عرفت منع كونها شرعية ، كما أنّ ما أفاده في تقريب جريانه بان الموافقة من الأمور التدريجية بتدرّج الأجزاء ، فمع الشك في مانعية الموجود يجري استصحاب الموافقة على نحو جريانه في سائر الأمور التدريجية ، يرد عليه أن جريان الاستصحاب في الأمر التدريجي إنّما ينفع في إثبات الأمر التدريجي بمفاد كان التامة كبقاء النهار والكلام والجريان ولا ينفع في إثبات اتّصاف الموجود بالوصف التدريجي ، فلا يثبت باستصحاب النهار نهارية الموجود. وعليه فاستصحاب الموافقة التدريجية لا يثبت سوى بقائها وأما اتّصاف المأتيّ به بالموافقة فهو لا يثبت بالاستصحاب. ومحل الأثر هو كون المأتيّ به موافقا له ، فلاحظ. وأما الصحة من حيث بقاء الأمر بالعمل وعدم سقوطه فتحقيق الحال فيها : إنّ الأمر الّذي يتعلّق بالمركّبات التدريجية كالصلاة إما أن يلتزم بأنّه موجود دفعة من حين العمل ، غاية الأمر أنّ داعويّته واقتضاءه تدريجيّ الحصول بتدرّج العمل فعند أوّل جزء يكون داعيا إليه وبعد إتيانه يدعو للجزء الآخر وهكذا. وإما أن يلتزم بأنّه موجود تدريجا بتدرّج العمل ، فيحصل جزء منه عند أوّل جزء ثم يحصل جزء آخر منه عند الجزء الآخر من العمل وهكذا ، ومبنى هذا القول هو الالتزام باستحالة الواجب المعلّق ، فيستحيل الحكم الفعلي من الآن بجميع أجزاء العمل التدريجي لأنّ تعلّقه بغير الجزء الأول يكون من قبيل الواجب المعلّق. فعلى المبنى الأول ، إذا تخلّل مشكوك المانعية يحصل الشك في سقوط اقتضاء الأمر بالنسبة إلى الجزء اللاحق لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل الإتيان بمشكوك المانعية ، فقد يقال باستصحاب اقتضاء الأمر بالنسبة إلى الجزء اللاحق ويترتّب عليه لزوم إتيانه ، ولكن لا يخفى أن اقتضاء الأمر ليس أمرا شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي فلا مجال للاستصحاب. وأما على المبنى الثاني ، فتخلّل مشكوك المانعية يوجب الشك في سقوط الأمر المتعلّق بالجزء اللاحق لحصوله بعد إتيان الجزء السابق وقبل إتيان المشكوك. والأمر مما يمكن استصحابه ويترتّب عليه لزوم الإتيان به عقلا ويحصل الامتثال. لكن المبنى نفسه مما لا نلتزم به كما حقّق في محلّه. فتلخّص : أنّ استصحاب الصحة بجميع احتمالاته لا مجال له إلاّ على فرض واحد لا نلتزم بمبناه ، فتدبّر. وبملاحظة هذه الشقوق في استصحاب الصحة تعرف القصور في كلمات الشيخ والمحقّق النائيني لعدم استيعابها لجميع هذه الشقوق ، والأمر سهل. هذا تمام الكلام في استصحاب الصحة عند طروء مشكوك المانعية.

ص: 319

ص: 320

ص: 321

والكلام في مقامين :

المقام الأول : في استصحابها مع الشك في مانعية الموجود أو اعتبار المفقود.

المقام الثاني : في استصحابها مع الشك في طرو القاطع المعبر عنه باستصحاب الهيئة الاتصالية.

امّا الكلام في المقام الأول : فتحقيقه : انه قد يتمسك عند الشك في أحدهما باستصحاب صحة العبادة.

وقد نفي الشيخ في مبحث الاشتغال جريان الاستصحاب المذكور.

بتقريب : ان المستصحب إن كان صحة مجموع العمل ، فهو بعد لم يتحقق ، فلا معنى لاستصحابه. وان كان صحة الاجزاء السابقة ، فالمراد بصحتها لا يخلو امّا

ص: 322

ان يكون موافقتها للأمر الضمني أو الغير المتعلق بها. وامّا ان يكون ترتب الأثر عليها ، وهو حصول المركب بها مع انضمامها إلى باقي الاجزاء والشرائط.

وهي بكلا معنييها مقطوعة البقاء ، لأنها حين الإتيان بها وقعت مطابقة للأمر المتعلق بها فلا تنقلب عما وقعت عليه ، كما انها بنحو لو انضم إليها تمام الاجزاء والشرائط لحصل الكل. فعدم حصول الكل الناشئ من عدم انضمام تمام ما يعتبر فيه إليها لا يوجب الإخلال بصحتها بهذا المعنى. كما هو الحال في المركبات الخارجية مثل : « الإسكنجبين » ، فانه لا يضرّ في صحة « الخل » - بما انه جزء - عدم انضمام باقي الاجزاء إليه.

وعليه ، فلا معنى لاستصحاب الصحة.

وبعد ان ذكر هذا التقريب أورد على نفسه بما محصله : انه بناء على ما ذكر يمتنع عروض البطلان على الاجزاء إلى الأبد ، مع انا نرى وقوع التعبير ببطلانها في النصوص والفتاوى ، وهو ينافي ما ذكر.

وأجاب عنه : بأنه لا ضير في الالتزام بعروض البطلان عليها ، ومعناه عدم الاعتداد بها في حصول الكل (1). ومن هنا كان في كلامه مجال لتوهم جريان الاستصحاب ، لأنه بعد التزامه بإمكان عروض البطلان والصحة على الاجزاء بهذا المعنى ، فمع الشك فيه يمكن إجراء الاستصحاب. وهو لم يتعرض لمنع جريانه. ولكنه أشار إلى منعه بما ذكره من تعليله لعدم الاعتداد بعدم التمكن من ضم باقي الاجزاء إليها.

وتقريب منعه بوجهين :

الأول : ان المتعبد به شرعا لا بد ان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي أو أمرا منتزعا عن حكم شرعي ، ويمثل للأخير - وهو مركز الاستشهاد

ص: 323


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /389- الطبعة الأولى.

بالتعبد بالصحّة ، بمعنى موافقة الأمر ، وبمعنى الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال. فان الشك في صحة العمل.

تارة : يكون سابقا على الإتيان - وهو المراد بها بمعنى موافقة الأمر - ، بمعنى انه حين إرادة الامتثال يشك في ان مجموع هذا العمل موافق للأمر أو لا.

وأخرى : يكون بعد الإتيان به - وهو المراد بها بمعنى الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال - ، بمعنى انه بعد الإتيان بالعمل يشك في الاكتفاء به في الامتثال وسقوط الأمر وعدمه. وموافقة الأمر ليست حكما شرعيا ، ولا موضوعا لحكم شرعي ، بل هي انما تنتزع عن تعلق الأمر بما يطابق المأتي به وهو أمر شرعي. وكذلك الاكتفاء به في الامتثال ، فانه أمر عقلي يدور مدار سقوط الأمر وعدمه - وان خالف في ذلك بعض الأعاظم ، فجعله بيد الشارع (1) - ، ولكنه ينتزع عن بقاء الأمر وعدم بقائه وهو أمر شرعي ، كما لا يخفى. والصحة بكلا هذين المعنيين وان لم تكن من الأحكام الشرعية ولا من موضوعاتها ، ولكنها منتزعة عن أمر شرعي. فالتعبد بها بلحاظ منشأ انتزاعها. وما نحن فيه ليس كذلك ، لأن الصحة والبطلان بالمعنى المذكور - وهو الاعتداد بها وعدمه - تنتزعان عن التمكن من ضم باقي الاجزاء إليها وعدم التمكن ، وهو ليس بأمر شرعي. وان كان منتزعا عن أمر شرعي ، فلا يجري الاستصحاب فيها لأنها تنتزع عن أمر غير شرعي بل انتزاعي.

الوجه الثاني : ان المشكوك على تقدير مانعيته نسبته إلى الأجزاء السابقة واللاحقة على حد سواء ، فكما يمنع عن الاعتداد بالأجزاء السابقة كذلك يمنع عن الاعتداد باللاحقة ، فاستصحاب بقاء الاعتداد بالأجزاء السابقة لا يجدي. في إثبات الاعتداد بالاجزاء اللاحقة وصحتها بهذا المعنى ، إلاّ بنحو الأصل

ص: 324


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 241 - القسم الأول - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المثبت.

وقد اعترض المحقق الهمداني رحمه اللّه على الشيخ رحمه اللّه في جوابه المذكور : بأنه التزام منه باتصاف الاجزاء بالصحّة والبطلان. ثم التزم بجريان الاستصحاب بتقريبين.

الأول : انه يجري استصحاب صحة الاجزاء السابقة لنفي وجوب الإعادة ، ويترتب عليه وجوب المضي في العمل ، وهو حكم شرعي وبذلك دفع الإشكال عليه بكونه مثبتا.

التقريب الثاني : انه يجري استصحاب تنجز وجوب الاجزاء اللاحقة ، لأنه بعد الإتيان بالجزء السابق يتنجز وجوب الجزء اللاحق ، فعند الإتيان بمشكوك المانعية يشك في بقاء تنجز الوجوب وارتفاعه فيستصحب.

ولكن كلا تقريبيه غير تامين :

امّا التقريب الثاني : فلأنه امّا ان نقول : بان وجوب المركب التدريجي فعلي قبل الإتيان به. أو نقول : بان فعلية الأمر وتنجزه تدريجية أيضا بتدريجية الاجزاء. فعند حصول كل جزء والإتيان به يتنجزه الأمر بالجزء الآخر. وهكذا - كما عليه المحقق المذكور على ما هو ظاهر كلامه في المقام -.

وعلى كلا القولين لا يصح ما ذكره.

فعلى القول الأول : فلا مجال للاستصحاب أصلا ، لأن الحكم الشرعي بخصوصياته المرتبطة بالشارع ثابت قبل الإتيان بها وباق ولا شك فيه. وإمكان الإتيان بالجزء اللاحق وعدمه أمر عقلي ناشئ من حكم العقل بالتمكن من الإتيان به عند الإتيان بما سبقه وعدم التمكن منه عند عدم الإتيان بسابقه.

ص: 325

وعلى القول الثاني (1) : فلأنه وان أمكن تصور الاستصحاب النسبة إلى وجوب الجزء اللاحق الأول حيث كان منجزا فيستصحب ، ولكنه لا ينفع بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى اللاحقة. وقد عرفت ان الشك فيها موجود للشك في طرو المانع.

وتوهم : ان تنجز وجوب الجزء اللاحق بامتثال الجزء السابق ، فمع الإتيان به بعد استصحاب تنجز وجوبه يتنجز وجوب الجزء اللاحق الآخر.

مندفع : بأنه انما يتم لو كان امتثال الجزء السابق موضوعا لتنجز وجوب الجزء اللاحق ، ولكنه ليس كذلك ، لأن المفروض ان الأجزاء متلازمة في مقام الامتثال ومترابطة ، ولا امتثال لكل منها مستقلا وعلى حدة ، والموضوعية تقتضي استقلال كل منها بالامتثال. وانما تنجز وجوب الجزء اللاحق ملازم لامتثال الجزء السابق - والملازمة عقلية واقعية - ، فتحققه بامتثال الجزء السابق يتوقف على القول بالأصل المثبت ، لأنه امتثال ظاهري بمقتضى الاستصحاب لا واقعي.

وامّا التقريب الأول : فوضوح الإشكال عليه يتوقف على بيان ان وجوب الإعادة هل هو أمر عقلي أو شرعي؟. وما علاقة وجوب المضي به؟.

وتحقيق ذلك : انه قد اختلف في كيفية تعلق الأمر بالمركب الاعتباري التدريجي إلى مسالك ثلاثة :

الأول : انه متعلق بالاجزاء مع لحاظ عنوان زائد عليها ، وهو سابقية الجزء

ص: 326


1- لم يرتض سيّدنا الأستاذ هذا الإشكال في هذه الدورة ولذا تقدّم التزامه بجريان الاستصحاب بناء على الالتزام بتدريجية الوجوب ، وإنّما منع أصل المبنى ، وعلّله بأنّ الأمر إذا كان تدريجيّا ، أمكن استصحاب بقائه بمجرد حصوله وتعلّقه بالجزء اللاحق الأول ، فعند وصول النوبة إلى الجزء اللاحق الثاني يستصحب بقاء الأمر ، لأنّه واحد تدريجي لا متعدّد. ولكن في النّفس منه شيء ، فإنّ استصحاب بقاء الأمر بالصلاة لا ينفع في إثبات تعلّق الأمر بهذا العمل وهذا الجزء ، كما التزم به في سائر الأمور التدريجية ، فتدبّر.

على الآخر ولا حقية الآخر له. فالامر الضمني المتعلق بالجزء لا يسقط إلاّ مع الإتيان به وحفظ عنوانه من السبق أو اللحوق ، فمع عدم الإتيان بالجزء اللاحق لا يسقط الأمر بالجزء السابق ، بل يبقى على ما كان عليه من اقتضاء الإتيان به بعنوانه ، ومع الشك في الإتيان بالجزء اللاحق وعدمه ، يشك في كون الإتيان بالجزء السابق بعنوانه المأخوذ فيه وعدمه. فيشك في صحته وموافقته للأمر من أول الأمر. ومعه تجري أصالة عدم الصحة. ولا مجال لاستصحاب الصحة لعدم تحققها ، بل هي مشكوكة التحقق والحدوث.

وعليه ، تجب إعادة هذا الجزء لبقاء أمره على اقتضائه.

المسلك الثاني : انه متعلق بذوات الأجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على ذواتها ، وانه امر واحد متعلق بالجميع ويسقط بالإتيان بالكل. وغاية الأمر ان فيه اقتضاءات متعددة بتعدد الأجزاء يحكم العقل بها ، فعند الإتيان بكل جزء يسقط اقتضاء الأمر الخاصّ بذلك الجزء وهكذا ، فإذا طرأ المانع في الأثناء تجدد اقتضاء الأمر للإتيان بالاجزاء السابقة بنظر العقل ، فتجب إعادتها حينئذ ووجوب الإعادة بهذا المعنى عقلي.

المسلك الثالث : انه متعلق بذوات الاجزاء بلا لحاظ أي عنوان زائد على ذاتها ، وانه أمر واحد ولكنه يسقط الإتيان بكل جزء بقدره. فإذا طرأ المانع في الأثناء ثبت أمر آخر يتعلق بالمجموع بنفس الملاك الّذي اقتضى الأمر أولا ، لغرض بقاء الملاك مع عدم الإتيان بالمركب ، فتجب إعادة الأجزاء السابقة حينئذ. ووجوب الإعادة بهذا المعنى شرعي.

ولا يخفى ان الصحة على كلا المسلكين الأخيرين معلومة التحقق ، فيمكن تصور الشك في بقائها عند الشك في طرو المانع. بخلاف المسلك الأول فانها عليه مشكوكة التحقق عند الشك في طرو المانع ، لأن مرجع الشك في المانعية إلى أخذ عدمه جزءا ، فيشك في أن الأجزاء السابقة هل انحفظ فيها

ص: 327

عنوان السبق على الجزء الآخر أولا؟ ، فيشك في أصل الصحة.

وإذا تبين ما ذكرنا ، تعرف انه لا مجال للكلام في استصحاب الصحة - على المسلك الأول - ، كي يبحث في صحة ترتب عدم وجوب الإعادة عليه ، لغرض عدم اليقين بها أصلا في صورة الشك في طرو المانع. وقد عرفت ان الأصل عدم الصحة.

نعم ، يتأتى الكلام فيه على المسلكين الأخيرين لتحقق موضوعه.

إلاّ انه حيث كان وجوب الإعادة المدعى المترتب على استصحاب الصحة عقليا - على المسلك الثاني - لا شرعيا ، لأنه يكون - عليه - عبارة عن اقتضاء الأمر الإتيان بهذا الجزء بنظر العقل ، لم يجري الاستصحاب لعدم ترتب عدم وجوب الإعادة عليه كما ادعي.

نعم ، بناء على المسلك الثالث يكون وجوب الإعادة شرعيا ، لأنه عبارة عن ثبوت امر آخر يشمل هذا الجزء ، فيترتب على استصحاب الصحة عدم وجوب الإعادة.

إلاّ ان الغرض من استصحاب الصحة وعدم وجوب الإعادة ليس هو إلاّ إثبات صحة الاجزاء اللاحقة - لما عرفت من ان نسبة الشك إليها نسبته إلى الأجزاء السابقة - ، ولا طريق إليه إلا إثبات ترتب وجوب المضي على عدم وجوب الإعادة ، وهو ممنوع ، لأن وجوب المضي أمر عقلي ينتزعه العقل من أمر شرعي ، وهو الوجوب الشرعي المتعلق بالاجزاء اللاحقة ، وأمر تكويني ، وهو الإتيان بالاجزاء السابقة ، فان الوجوب المتعلق بالاجزاء اللاحقة محفوظ وثابت لا يرتفع بحال اما في ضمن الكل أو بنفسها بعد الإتيان بسابقها ، فوجوب المضي ينتزع عقلا عنه وعن الإتيان بالاجزاء السابقة ، وإلاّ فهو مما لا أثر له في لسان الشارع ، وعليه فلا يترتب على عدم وجوب الإعادة.

نعم ، لو كان وجوب المضي بمعنى وجوب الإتمام وحرمة الابطال ، وسلمنا

ص: 328

بثبوت وجوب تكليفي للإتمام آخر غير الأمر بالعبادة. كان وجوب المضي حكما شرعيا ، لأنه عبارة أخرى عن وجوب الإتمام. لكن لا يجدي ترتبه على الاستصحاب في الاكتفاء بالعمل في مقام امتثال الأمر بالعبادة ، لأن المضي والإتمام انما يكون امتثالا للأمر بالإتمام ، لأنه حكم تكليفي مستقل - كما هو المفروض - ويشك في كونه امتثالا للأمر بالعبادة.

نعم ، لو قلنا : ان وجوب الإتمام ليس حكما تكليفيا آخر غير وجوب نفس العمل ، وانما يرجع إلى تعيين امتثال الأمر الطبيعي في خصوص هذا الفرد. كان الاستصحاب مجديا ، فانه يستصحب صحة الأجزاء السابقة ، فيترتب عليها وجوب الإتمام وهو حكم شرعي معين لامتثال ذلك الأمر بهذا الفرد. فإذا جيء بباقي الأجزاء امتثل الأمر بالطبيعي.

وقد نقل السيد الخوئي - كما في بعض تقاريره - عن الشيخ - بعد ما نقل عنه : ان استصحاب الصحة بمعنى تمامية مجموع الاجزاء والشرائط لا يجري ، لأنها بهذا المعنى مشكوكة الحدوث - : أن صحة الاجزاء السابقة التي هي عبارة عن الصحة التأهلية ، بمعنى كونها قابلة لانضمام الاجزاء إليها ، لا تكون محتملة الارتفاع بل هي باقية يقينا ، فلا مجال لجريان الاستصحاب الا على نحو التعليق ، بان يقال : ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر الاجزاء قبل حدوث هذا الشيء لحصل الامتثال فالآن كما كان.

ثم حكم بعد نقل هذا : بمتانة ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب ، وانه لا يمكن جريانه الا على نحو التعليق ، وهو غير حجة لا سيما في الموضوعات ، كما في المقام (1).

ولا يخفى ان ما ذكره حكاية عن الشيخ من عدم جريان الاستصحاب

ص: 329


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 211 - الطبعة الأولى.

الا على نحو التعليق يبتني على أمرين :

الأول : ان يكون الملحوظ في قابلية الاجزاء السابقة الانضمام إلى الاجزاء الأخرى المعينة بنحو القضية الخارجية ، لأنه إذا لوحظت الاجزاء الأخرى بنحو القضية الحقيقية ، وان الانضمام إلى باقي الاجزاء لا إلى هذه الاجزاء المعينة الباقية ، لا يكون هناك شك أصلا لليقين بحصول الامتثال واستمراره - حتى بعد طرو المانع - مع انضمام الاجزاء السابقة إلى باقي الاجزاء المعتبرة. فالشك انما يتحقق إذا لوحظت الاجزاء الأخرى بالنحو الأول.

الأمر الثاني : ان يلحظ الأثر المترتب على الكل - وهو حصول الامتثال - ، فانه إذا أضيف إلى بعض الاجزاء اقتضى تعليقها على انضمام البعض الآخر إليها.

وإلاّ فلو لوحظ الأثر المترتب عليها فلا معنى للتعليق - كما لا يخفى -.

ومن الواضح ان هذين الأمرين لا أثر لهما في كلام الشيخ ، لأنه لاحظ الاجزاء الأخرى بنحو القضية الحقيقية لا بنحو القضية الخارجية ، لما عرفت من كلامه من ان الصحة ، بمعنى ترتب الأثر تتصور على نحوين :

أحدهما : ان الاجزاء السابقة لو ضم إليها تمام ما يعتبر في الكل لالتأم الكل ، وهي مقطوعة البقاء حتى مع العلم بطرو المانع.

النحو الثاني : ان الاجزاء السابقة معتد بها في الكل المعبر عنها بعدم لغوية الاجزاء ، وهي التي كانت مجالا للإيراد كما عرفت.

ولا أثر - في كلا النحوين - لهذا الوجه الّذي نقله عن الشيخ من لحاظ الاجزاء السابقة منضمة إلى الاجزاء الأخرى بنحو التعيين.

كما ان الشيخ - بصريح كلامه - لاحظ الأثر المضاف إلى الاجزاء أثرها الخاصّ المترتب عليها.

ص: 330

ثم (1) ما ذكره من متانة حكم الشيخ بعدم الاستصحاب لعدم جريان الاستصحاب التعليقي لا سيما في الموضوعات. لا وجه له ، لأن المستصحب أمر شرعي ، فان حصول الامتثال - على رأيه - بيد الشارع. والشيخ يقول بجريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام وان نفاه في الموضوعات.

والمحقق العراقي قدس سره بعد ما بين - أن سبب الشك في الفساد والصحة يتصور على وجوه. وأجرى الأصل في بعض الموارد في نفس السبب دون المسبب. ومنع جريانه في نفس السبب في بعض الموارد الأخرى ، وانه على تقدير جريان الأصل فيها ، فهو انما يجري في المسبب وهو الصحة وانه قد وقع الخلاف فيه - أفاد : بان الشيخ اختار المنع عنه بتقريب : ان المراد بالصحّة المستصحبة للأجزاء ان كان هو الصحة الشأنية فهي مقطوعة البقاء ، فلا مجال لاستصحابها. وان كان هو الصحة بمعنى المؤثرية الفعلية فلا مجال لاستصحابها لعدم اليقين بحدوثها ، لأنها انما تكون عند الإتيان بالكل من الاجزاء والشرائط والمفروض الشك في ذلك.

وأورد عليه : بأنه انما يتم لو كان ترتب الأثر عليها دفعيّا عند حصول تمام اجزاء المركب. اما مع فرض تدريجية حصوله بتدريجية الأجزاء ، فكل جزء يؤثر في مرتبة من مراتبه حتى يتم المركب ، فلا وجه لمنع الاستصحاب ، فانه بعد تحقق جزء أو جزءين يعلم بتحقق الصحة التدريجية ، أو بعد طرو المشكوك يشك في بقائها بتلاحق بقية الاجزاء والشرائط فتستصحب.

ص: 331


1- بينا في دفتر الاستدراكات انه لا مجال للاستصحاب التعليقي هاهنا. فراجع. ثم ان ما ذكرناه كان بالنسبة إلى الحكم التعليقي الثابت للاجزاء اللاحقة ، ومحل الكلام هنا هو الحكم التعليقي الثابت للاجزاء السابقة. والفرق بينهما موجود ، لوجود الاجزاء السابقة ، فيرتفع الإشكال الّذي بيناه. ولكن نقول : ان الحكم التعليقي لا يثبت للاجزاء السابقة وحدها ، فلا يصح ، بل هي منضمة إلى سائر الاجزاء ، فلا يصح ان يقال : ان الاجزاء السابقة كانت لو انضم إليها سائر ما يفيد لتحقق الامتثال بها ، بل يتحقق الامتثال بها وبغيرها من الاجزاء فانتبه ولا تغفل.

ثم استظهر من ذلك إمكان جريان استصحاب الصحة ، بمعنى موافقة الأمر ، فانها أيضا تدريجية الحصول ، فمع طرو المشكوك يشك في بقاء هذه الموافقة التدريجية فتستصحب. كما يستصحب غيرها من الأمور التدريجية (1).

ولكن يرد على استصحاب الصحة بمعنى المؤثرية التدريجية - مع الإغماض عن مثبتيته التي تتضح فيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - :

أولا : ان المؤثرية ليست من الأمور الشرعية ، بل هي من الأمور التكوينية اللازمة للأجزاء.

وثانيا : ان هذه المؤثرية المترتبة على الجزء ليست هي ملاك تعلق الأمر ، وإلاّ للزم الأمر بكل جزء مستقل ، مع ان المفروض ارتباطيتها وتلازمها ، فلا كلام في استصحابها وعدمه أصلا.

واما استصحاب الموافقة التدريجية ، فيدفعه : ان الأجزاء متلازمة في مقام الامتثال وسقوط الأمر ، فالإتيان بالجزء لا تحصل به الموافقة الا مع ملحوقية غيره له وسابقيته على غيره ، اما بنحو الشرط المتأخر أو أخذه بوصف الملحوقية ، فمع احتمال طرو المانع يشك في أصل الموافقة ، فلا مجال لاستصحابها لأنها مشكوكة الحدوث والتحقق.

ويتحصل من جميع ما ذكرناه : ان لا مجال لاستصحاب الصحة عند الشك في طرو المانع بأي معنى من المعاني أخذت. وان ما ذكره الشيخ قدس سره متين وتام ومسلم.

يبقى الكلام في :

المقام الثاني : وهو استصحاب الهيئة الاتصالية.

وقد بين الفرق بين القاطع والمانع ، بان كليهما وان كانا يشتركان في ان

ص: 332


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 239 - 241 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

عدمهما مما لا بد منه في الصلاة ، إلاّ ان عدم المانع مأخوذ متعلقا للأمر بنحو القيدية أو الجزئية. بخلاف عدم القاطع ، فانه غير متعلق للأمر ، وانما هو مانع من تحقق الجزء الصوري المعتبر في الصلاة ، المعبر عنه بالهيئة الاتصالية. فانه قد يستفاد من التعبير بالقاطع وجود جزء صوري للصلاة مضافا إلى الجزء المادي - الّذي هو أجزاؤها التي تأتلف منها.

ومن هنا يعلم انه لا بد من الكلام في جهتين :

الجهة الأولى : في صحة استصحاب الهيئة الاتصالية وعدمها.

والجهة الثانية : في تحقيق انه هل يوجد فرق بين القاطع والمانع ، بحيث يختلفان في الآثار أم انهما شيء واحد ، والاختلاف بينهما اصطلاحي لا أكثر.

أمّا الكلام في الجهة الأولى : فقد أفاد الشيخ رحمه اللّه في مبحث الاشتغال انه يمكن إجراء الاستصحاب على نحوين :

الأول : ان يستصحب الهيئة الاتصالية الحاصلة بوجود بعض اجزاء الصلاة ، لأن الهيئة الاتصالية من الوجودات التدريجية التي تحصل بحصول بعض اجزائها ، وهي وجود واحد عرفا وان كان متعددا عقلا وذاتا ، فيمكن استصحابها عند الشك في بقائها.

الثاني : ان يستصحب قابلية الأجزاء السابقة للاتصال بالاجزاء اللاحقة ، فانه قبل طروء محتمل القاطعية كانت القابلية متحققة فيها ، وبعد طروه يشك في بقائها فتستصحب.

ثم أورد على النحو الأول : بان المراد من الهيئة الاتصالية المستصحبة ، ان كان طبيعي الهيئة الاتصالية ، فهو لا يجدينا نفعا. وإن كان الهيئة الاتصالية الحاصلة بين الأجزاء السابقة ، فهي مقطوعة البقاء. وان كان الهيئة الاتصالية بين الأجزاء السابقة واللاحقة فهي مشكوكة الحدوث.

وأورد على النحو الثاني : بان استصحاب القابلية لا يبعد ان يكون من

ص: 333

الأصول المثبتة.

وأجاب عن الإيراد على الأول : بان الاجزاء السابقة واللاحقة وجود واحد بنظر العرف - كما يظهر من تشبيهه له باستصحاب الكربة - ، فيمكن استصحاب الهيئة الاتصالية فيه عند تحقق بعض إجزاءه (1).

وفيه :

أولا : ان الأجزاء متباينة ذاتا ، ووحدتها بالاعتبار ، بمعنى اعتبار الاتصال بينها الّذي تحققه هاهنا محل الكلام ، فكيف تستصحب الهيئة الاتصالية باعتباره!.

وثانيا : ان المستصحب في الأمور التدريجية انما هو الأمر التدريجي بمفاد كان التامة فلا يتكفل الاستصحاب ثبوت الوجود التدريجي بمفاد كان الناقصة.

وعليه ، فاستصحاب الهيئة الاتصالية انما يجدي لو كان المعتبر وجود طبيعي الهيئة الاتصالية ، مع انه ليس كذلك ، لأن المعتبر انما هو الاتصال بين اجزاء الصلاة المأتي بها ، والاستصحاب لا يثبته وانما يدل على بقاء الهيئة الاتصالية. اما انها متحققة في هذا الفرد الخاصّ فلا يدل عليه إلاّ بالملازمة.

وقد تقدم الكلام مع المحقق العراقي في ذلك في مبحث استصحاب الأمور التدريجية. وبيّنا ان الوصف التدريجي إذا كان معروضه تدريجيا - كالنهارية لذات النهار ، والهيئة الاتصالية لاجزاء الصلاة وغير ذلك - لا يتكفل الاستصحاب سوى إثبات الوصف بمفاد كان التامة ، فلا يجدي فيما إذا كان الأثر مترتبا على مفاد كان الناقصة ، فراجع تعرف. وان كانت جميع الإيرادات في استصحاب النهارية لا تتأتى فيما نحن فيه ، فلاحظ.

وأجاب عن الإيراد على النحو الثاني : بأنه لما كان المقصود الأصلي من ثبوت القابلية عدم وجوب استئنافها ، كان الحكم بثبوتها في قوة الحكم بعدم

ص: 334


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /290- الطبعة الأولى.

وجوب استئنافها.

ولا يخفى ان هذا - على تقدير تماميته - لا يمنع من كون الأصل مثبتا ، لأنه لا ينافي وجود الواسطة العرفية بين المستصحب والحكم الشرعي ، وان كان الحكم الشرعي وهو المقصود الأصلي من المستصحب.

فتبين مما ذكرنا عدم صحة جريان استصحاب الصحة بمعنييه عند الشك في طروء القاطع.

واما الكلام في الجهة الثانية : فهو تارة يكون في مرحلة الثبوت والإمكان. وأخرى في مرحلة الإثبات والوقوع.

واما الكلام في مرحلة الثبوت : فقد نفي المحقق الأصفهاني إمكان اعتبار الهيئة الاتصالية. بتقريب : ان الهيئة الاتصالية بمعنى محال وبمعنى آخر لا يجدي ، إذ لا يكون في البين فرق بين القاطع والمانع.

لأنه ان أريد من الهيئة الاتصالية الهيئة الاتصالية الواقعية التي هي عبارة عن الحركة من محل إلى آخر ، المعبر عنها بالحركة من المبدأ إلى المنتهى ، فهو محال ، لأنها - على تقدير كونها في جميع المقولات - انما تكون في مقولة واحدة لا بين مقولات متعددة ، كالهيئة الاتصالية الحاصلة بين المشي أو الكلام أو أمثالهما.

- والصلاة - كما لا يخفى - مؤلفة من مقولات متعددة ، فلا يمكن تحقق الهيئة الاتصالية الواقعية فيها.

وان أريد منها الهيئة الاتصالية الاعتبارية ، بمعنى اعتبار الشارع الاتصال بين هذه الاجزاء على نحو يؤخذ عدم القاطع موضوعا لهذا الاعتبار : فهو لا يجدي ، لأنه مع تحقق القاطع في الأثناء تنفي الهيئة الاتصالية من أول الأجزاء ، لانتفاء اعتبارها مع تحققه ، لانتفاء موضوعه ، وهو عدم القاطع ، لا انه يكون هناك اتصال بين الأجزاء السابقة وينتفي استمراره. وعليه فمع طرو مشكوك القاطعية لا يجري استصحاب الهيئة الاتصالية للشك في تحققها

ص: 335

وحدوثها.

فلا يكون هناك فرق بين القاطع والمانع حينئذ ، لأن المانع ما كان وجوده مخلا بالعمل بكامله ورافعا لأثر الكل (1).

ولكن ما ذكره قدس سره من عدم اعتبار الهيئة الاتصالية ثبوتا غير تام ، لإمكان تصوير الهيئة الاتصالية بمعنى ثالث ممكن ومجد. وهو ان يقال : بان المراد من الهيئة الاتصالية هو توالي الاجزاء وتعاقبها بنحو يعد مجموعها واحدا بنظر العرف ، وهو معنى واقعي لا اعتباري ، كي يقال انه مقيد بعدم القاطع ، كما انه ليس بمحال كما لا يخفى. وعليه فمع تحقق القاطع لا ينتفي الاتصال من رأس ، بل انما ينتفي استمراره ودوامه ، فيمكن استصحابه عند طرو مشكوك القاطعية ، ويتحقق الفرق بين القاطع والمانع.

وهذا المعنى مما يمكن استفادة إرادته من حكم الفقهاء ببطلان الصلاة بالفعل الماحي لصورتها كالسكتة الطويلة أو الأكل والشرب ، مما لم يصرح الشارع باعتبار عدمه ، فانه يكشف عن وجود هيئة صورية للصلاة عرفية يعتبرها الشارع ، بحيث يرى العرف انقطاعها عند السكوت الطويل أو الأكل في الأثناء ، ويكون حكم الشارع بقاطعية الحدث وأمثاله مما لا يدرك العرف قاطعيته كالسكتة والأكل ، تنبيها على انه مثلهما في محو صورة الصلاة وقطعه لها باعتبار ذلك منه.

وامّا الكلام في مرحلة الإثبات ؛ فقد نفي المحقق النائيني اعتبار الهيئة الاتصالية بوجهين :

الأول : انه لم يثبت لدينا اعتبار هيئة اتصالية وجزء صوري في الصلاة ، بل ليس الثابت الا اعتبار عدم بعض الأمور فيها.

ص: 336


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 290 - الطبعة الأولى.

- ووافقه المحقق الأصفهاني. فقد أفاد : ان الالتزام بالقاطع بالمعنى المقابل للمانع بلا ملزم ، بل القاطع سنخ من المانع ، وانما يطلق عليه القاطع إذا وقع في الأثناء ، لأنه رافع لما سبق ودافع لما لحقه ، ولذا لو وقع في أول العمل كان دافعا محضا ، كما انه إذا وقع بعد العمل كان رافعا محضا ، فالحدث المقارن للصلاة مانع دفاع والواقع في أثنائها قاطع ، والواقع بعد الوضوء ناقص ورافع لأثره (1) -.

الوجه الثاني : انه على تقدير استفادة اعتبار هيئة اتصالية في الصلاة ، إلا انه يحتمل أيضا أن يكون هذا القاطع مما قد اعتبر عدمه بنفسه ، فيكون مانعا كما يكون قاطعا. وحينئذ فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا يجدي في نفي مانعية الموجود إلاّ بالملازمة ، بل لا بد من الرجوع إلى الأصول من براءة أو اشتغال على الخلاف في مسألة الأقل والأكثر (2).

ولكن الوجه الأول غير تام ، فان التعبير بالقاطع والنهي عنه بما هو كذلك يستفاد منه اعتبار جزء صوري في الصلاة المعبر عنه بالهيئة الاتصالية ، ومن ذلك حكم الفقهاء بإبطال الفعل الماحي لصورة الصلاة ، ولا أظن ان المحقق النائيني لا يلتزم بذلك.

هذا ولكن الإنصاف ان يقال : ان القطع وان كان يتوقف على ثبوت الاتصال للشيء فعلا أو شأنا ، بان يكون من شأنه أن يتصل بأجزاء لاحقة فلا يتصل ، إلا أنه كما يصدق على مجرد الفصل بين الأجزاء وإزالة الجزء الصوري كذلك يصدق على ما يمنع من لحوق الاجزاء السابقة ، ولذا يقال ان زيدا قطع كلام عمرو إذا منعه من الاستمرار في الكلام. وعليه فاعتبار القاطع في مثل الصلاة كما يمكن ان يكون مضرا بالهيئة الاتصالية المعتبرة - لاعتبار الموالاة في

ص: 337


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 290 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 235 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الصلاة - كذلك يمكن أن يكون لأجل امتناع تحقق الأجزاء اللاحقة عند تحققه لاعتبار عدمه في الاجزاء. والمفروض ان مشكوك القاطعية لا يقطع الهيئة الاتصالية تكوينا ، وإلاّ لم يحصل شك فيه. بل كان نظير الحدث. وعليه فاستصحاب الهيئة الاتصالية لا ينفع في نفي الشك ، فتدبر جيدا.

وقد قرب السيد الخوئي اعتبار عدم القاطع في الصلاة ، بحيث يكون له حيثيتان : حيثية القاطعية وحيثية المانعية. بأنه اما ان لا يعتبر عدمه في العمل أو يعتبر. والأول خلف لأنه مساوق لعدم اعتبار الهيئة الاتصالية والمفروض اعتبارها. وعلى الثاني يثبت المدعى (1).

ولكنه أولا : منقوض بلوازم الواجب من إعدام ووجودات غير متعلقة للأمر.

وثانيا : ان هذا التقريب ، وهو الترديد بين الإطلاق والتقييد انما يتأتى في صورة ما إذا كان الإتيان بالقيد وعدمه ممكنا ، لا في صورة ما إذا كان تحققه قهريا ، كما في ما نحن فيه ، باعتبار الهيئة الاتصالية وتوقفها على عدمه ، فالالتزام بثبوت حيثية المانعية للقاطع بنحو الجزم بلا وجه. نعم احتمالها - كما أفاده النائيني - لا مدفع له. وعليه فلا يكون الاستصحاب مجديا للاحتياج إلى أصالة البراءة في نفي المانعية ، ومع جريان البراءة لا حاجة إلى الاستصحاب ، فلاحظ.

بقي (2) في المقام شيء وهو : انه كثيرا ما يعبّر في النصوص بالناقض ، فهل هو قسم آخر على حدة غير المانع والقاطع ، أم انه يرجع إلى أحدهما؟.

ص: 338


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 122 - الطبعة الأولى.
2- خلاصة الكلام في الناقض ، إنّ الظاهر من لفظ الناقض كونه رافعا للأثر السابق الموجود. وعليه فالشك في ناقضية الموجود في الأثناء ملازم للشك في ارتفاع الأثر السابق بعد تحقّقه. وعليه فكلّما كان الأثر السابق من الأمور الشرعية أو موضوع الحكم الشرعي كان مجرى الاستصحاب. وإلاّ فلا مجال لاستصحابه ، فتدبّر.

والظاهر من كلام المحقق الهمداني رحمه اللّه ان فيه جهة القطع ، ولكنه يفترق عن القاطع في أنه يرفع مؤثرية الاجزاء السابقة في الأثر المترتب عليها على تقدير انضمام سائر الاجزاء إليها.

ومن ذلك جزم بجريان الاستصحاب عند الشك في طرو الناقض ، وانه مما لا يتأتى عليه الإشكال كما يتأتى على غيره. بتقريب : انه عند الشك في طروه ، كالشك في ناقضية الحدث الأصغر للغسل ، يشك في خروج الأجزاء السابقة عن صفتها التي كانت عليها ، وهي تأثيرها في الأثر لو انضم إليها سائر الأجزاء ، فيستصحب هذا الحكم الشرعي التعليقي. ويترتب عند حصول المعلق عليه ، وهو انضمام الأجزاء السابقة (1).

وما ذكره قدس سره بظاهره غير تام لوجهين :

الأول : انه لا فرق بين الناقض والمانع أصلا ، بل كل منهما اعتبر عدمه في العمل وأخذ متعلقا للأمر ، ولم يلحظ في اعتبار عدم الناقض رافعيته للأثر المترتب على الأجزاء ، بدليل التعبير به في نقض بعض الآثار الاعتبارية كالطهارة ، مما يكشف عن اعتبار عدمه بالخصوص في تحقق الطهارة.

الوجه الثاني : ان المراد من الحكم الشرعي المستصحب تعليقيا ، ان كان نفس الأثر المترتب كالطهارة في المثال ، فهذا الاستصحاب جار في جميع موارد الشك في طرو المانع ، وقد تقدم الإشكال فيه مفصلا. وان كان تأثير هذه الأجزاء في الأثر كما هو الظاهر ، فالتأثير ليس من الأحكام الشرعية ، لم تقرر في محله من ان السببية ليست من المجعولات الشرعية. كما انه ليس بموضوع لحكم شرعي ، لأن الأمر انما تعلق بذوات الأجزاء ولم يتعلق بها بما هي مؤثرة ، كي تكون المؤثرية موضوعا لحكم شرعي فتستصحب.

ص: 339


1- المحقق الهمداني هامش. فرائد الأصول /290- الطبعة الأولى.

وعلى تقدير تعلق الأمر بها بما هي مؤثرة ، فهي حينئذ وان كانت مما يصح استصحابها لكونها موضوعا لحكم شرعي ، إلا أنه كما أخذت المؤثرية في موضوع الأمر بالأجزاء السابقة كذلك أخذت في الأجزاء اللاحقة. وهي مشكوكة عند طرو مشكوك الناقضية ، لما عرفت من ان نسبة الشك إلى جميع الأجزاء السابقة واللاحقة على حد سواء ، فاستصحاب مؤثرية الأجزاء السابقة لا يجدي في ترتب الأثر للشك في مؤثرية الأجزاء اللاحقة ، وهي مشكوكة التحقق.

والمتحصل ، من جميع ما ذكرنا : عدم صحة جريان استصحاب الصحة عند الشك في طرو المانع أو القاطع أو الناقض.

وامّا التنبيه الثاني (1) - من التنبيهات التي ذكرها الشيخ في الرسائل - فالكلام فيه حول استصحاب الوجوب عند تعذر بعض اجزاء المركب ، وأساس الشك في الوجوب هو تردد أخذ الجزء في المركب بين أن يكون في خصوص حال الاختيار والإمكان. وان يكون بنحو مطلق : فيسقط الوجوب عند تعذر الجزء على الثاني لتعذر المركب دون الأول.

فمع الشك في بقاء الوجوب عند تعذر بعض الأجزاء هل يصح جريان استصحابه أو لا يصح؟. باعتبار كون الوجوب الثابت للاجزاء الباقية قبل التعذر غير الثابت لها بعده - على تقدير ثبوته واقعا - ، فالمتيقن ثبوته سابقا مقطوع الارتفاع ، والّذي يراد إثباته بالاستصحاب مشكوك الحدوث.

وقد ذكر الشيخ قدس سره في رسائله وجوها ثلاثة لجريان الاستصحاب في المورد :

الوجه الأول : ان يستصحب مطلق المطلوبية الثابتة في السابق لهذه الأجزاء ولو في ضمن مطلوبية الكل ، لكون أهل العرف لا يرونها مغايرة في

ص: 340


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /293- 294 - الطبعة الأولى.

الخارج لمطلوبية الاجزاء في نفسها ، فيكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

وقد أورد عليه أولا : بأن الأمر بالجزء ليس أمرا غيريا.

وثانيا : ان استصحاب كلي الوجوب لا يجدي نفعا ما لم يثبت به انه الوجوب النفسيّ ، لأن الوجوب الغيري لا تجب موافقته ، والغرض من إثبات الوجوب هو الامتثال والإطاعة.

وثالثا بان الوجوب الغيري فرد مباين للوجوب النفسيّ ، وليس اختلافهما من قبيل الاختلاف في المراتب كي يصح الاستصحاب (1).

ولكن الإيرادين الأوليين انما يردان لو ثبت كون مراده من مطلق المطلوبية القدر المشترك بين الوجوب النفسيّ والغيري.

إلاّ انه وان كان ظاهرا من كلامه في مبحث الاشتغال ، غير انه غير ظاهر منه في مبحث الاستصحاب ، فيمكن ان يريد القدر المشترك بين الوجوب النفسيّ الاستقلالي والضمني - كما لعله الظاهر من كلامه - فيتعين الوجه الثالث في الإيراد عليه ، وهو كون هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، والوجوبان متغايران عرفا ، فلا يصح الاستصحاب.

الوجه الثاني : ان يستصحب الوجوب النفسيّ المتعلق بالباقي بنحو المسامحة العرفية ، حيث يرى العرف ان موضوع الوجوب النفسيّ باق على حاله ، ووجود الجزء وفقده من قبيل الحالات المتبادلة للمستصحب ، نظير استصحاب بقاء كرية الماء الناقص منه شيء.

والإشكال فيه يتضح إن شاء اللّه تعالى فيما سيأتي من بيان اعتبار بقاء

ص: 341


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 444 - الطبعة الأولى.

الموضوع في صحة الاستصحاب ، وان هذه المسامحة فيما نحن فيه وفي استصحاب الكرية مجدية أو لا فانتظر.

الوجه الثالث : ان يستصحب الوجوب النفسيّ الثابت سابقا ، ليثبت به وجوب هذه الاجزاء الباقية ، نظير استصحابه وجود الكرّ في الإناء لإثبات كرية الموجود فيه (1).

وقد يتوهم : بان هذا من القسم الثالث من استصحاب الكلي ، لأن الوجوب النفسيّ سابقا متعلق بمجموع الأجزاء ، فمع فقد أحد الأجزاء يشك في اتصاف الباقي بوجوب نفسي ، وهو فرد آخر غير ذلك الفرد الثابت سابقا ، فاستصحاب كلي الوجوب النفسيّ بلحاظ الشك في بقائه لاحتمال حدوث فرد آخر منه يكون من القسم الثالث من استصحاب الكلي.

ولكنه يندفع : بان الشك في كون الواجب بالوجوب النفسيّ هو هذه الأركان مع ما يتمكن من باقي الأجزاء أو مع باقي الأجزاء مطلقا ، فالشك في بقاء كلي الوجوب النفسيّ انما هو لتردد الفرد المحقق له بين ما هو باق قطعا وما هو مرتفع قطعا ، لا من جهة احتمال حدوث فرد آخر له مع العلم بارتفاع الفرد السابق ، فيرجع هذا الوجه من الاستصحاب إلى القسم الثاني من استصحاب الكلي.

ولكن الإشكال فيه واضح ، لأنه من الاستصحابات المثبتة كما لا يخفى.

تذييل : قد يفرق في جريان استصحاب الوجوب - على تقدير جريانه - بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف فيجري الاستصحاب المذكور. بين تعذره قبله فلا يجري لعدم ثبوت الوجوب واليقين به ، بل الشك في أصل حدوثه وتحققه لا في بقائه.

وقد نفي الشيخ رحمه اللّه الفرق بين الحالين ، لأن المستصحب هو

ص: 342


1- هذا الوجه ذكره المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية 2 / 297 - الطبعة الأولى.

الوجوب النوعيّ المنجز على تقدير اجتماع الشرائط لا الوجوب الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا (1).

والمراد من استصحاب الحكم الكلي ، ما كان إجراءه من وظيفة المجتهد فقط ، وهو لا يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا.

نعم ، لا بد فيه من تحقق الموضوع وتحقق الشرائط واختلال بعضها ليحصل الشك في البقاء ، كاستصحاب المجتهد نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير ، فانه لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا ، بل يكفي فيه فرض وجود الماء المتغير بهذا النحو فيجري فيه الاستصحاب ، فاستصحاب الوجوب مثله يفرض فيه وجود الموضوع وتحقق الشرائط.

إلاّ انه لا وجه لقياس ما نحن فيه باستصحاب نجاسة الماء المتغير ، لأن المجتهد حين يفرض الموضوع فيه يحصل لديه اليقين والشك فيصح إجراؤه الاستصحاب. بخلاف ما نحن فيه ، فانه مع فرض الموضوع فيه لا يحصل اليقين بحدوث الوجوب لما عرفت من الشك فيه. وقد وجّه المحقق النائيني قدس سره - كما في تقريرات الكاظمي - جريان الاستصحاب فيه قياسا على الاستصحاب في الماء المتغير : بان فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار منه ، فان المفروض ان التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع ، وإلاّ لم يجر الاستصحاب رأسا (2) ...

ولكن كلامه لا يخلو عن خلط ، فان الموضوع الّذي يجب فرضه هو الموضوع العقلي الّذي هو عبارة عن كل ما له دخل في الحكم من جزء وشرط.

ص: 343


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /294- الطبعة الأولى. حيث يظهر من إطلاق كلامه نفى الفرق.
2- الكاظمي الشيخ محمد على. فرائد الأصول4/ 515 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والموضوع الّذي يعتبر بقائه في إجراء الاستصحاب هو معروض الحكم ، فتخرج عنه الشرائط والقيود. ولا يخفى ان التمكن من الجزء المتعذر وان لم يكن من مقومات الموضوع بالمعنى الثاني - بنظر العرف - ، إلاّ انه من مقوماته بالمعنى الأول ، وقد عرفت ان الموضوع المفروض وجوده انما هو الموضوع بالمعنى الأول.

وبالجملة : فما ذكر من التفصيل لا إشكال عليه ، فلا بد من الالتزام به.

إلى هنا ينتهي بنا الكلام عن تنبيهات الاستصحاب.

ص: 344

خاتمة : في شروط الاستصحاب

اشارة

قد ذكرت للعمل بالاستصحاب شروط :

الأول : بقاء الموضوع.

وفسر الشيخ قدس سره الموضوع : بأنه معروض المستصحب ولعله لدفع ما قد يتوهم من : ان الالتزام ببقاء الموضوع في باب الاستصحاب ينافي ما ذكر في بيان الموضوع في غير هذا الباب من انه جميع ما أخذ مفروض الوجود في مقام فعلية الحكم ، بإرجاع كل قيد وشرط أخذ في الخطاب إليه ، فانه إذا اعتبر بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب لا يتحقق الشك أصلا ، لأن الشك انما يكون مع تغير حالة أو صفة من صفات الموضوع ، فمع اعتبار بقائه بخصوصياته وقيوده لا يحصل الشك في بقاء الحكم ، بل يعلم ببقائه قطعا.

ويندفع هذا التوهم : بما ذكره الشيخ من : ان المراد بالموضوع في هذا الباب المعتبر بقاؤه معروض الحكم المستصحب ، بمعنى ما كانت نسبته إلى المستصحب نسبة المعروض إلى العارض ، وهو غير ذلك الموضوع ، فالزوال مثلا

ص: 345

غير دخيل في موضوع الوجوب في هذا الباب ، لأن الوجوب لا يعرض عليه ، كما لا يخفى. بل انما يعرض على الموضوعات الخارجية ، مع انه دخيل فيه في ذلك الباب.

كما فسر بقائه : بتحققه حال الشك على نحو ثبوته ، وتحققه حال اليقين من وجوده الخارجي أو وجوده الذهني التقرري. وبذلك يندفع الإشكال على كلية اعتبار بقاء الموضوع بالنقض بموارد الشك في نفس الوجود ، فانه لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه مع عدم إحراز الوجود ، فانه ناشئ عن توهم إرادة بقاء الموضوع بوجوده الخارجي والغفلة عن إرادة الأعم ، وان المراد تحققه في اللاحق بنحو الّذي كان معروضا للمستصحب في السابق. هذا محصل ما أفاده قدس سره في بيان المراد من بقاء الموضوع (1).

وظاهره يدل على ان المعتبر في استصحاب المحمولات الثانوية تحقق المعروض ووجوده خارجا ، فمع الشك فيه يمتنع جريان الاستصحاب.

وهذا يقتضي عدم جريان الاستصحاب عند الشك في بقاء صفة كانت متقومة بموضوع يشك في بقائه الآن إذا كان الأثر مترتبا على بقاء الصفة بمفاد كان التامة ، لا بقاء اتصاف الموصوف بمفاد كان الناقصة ، كالشك في بقاء قيام زيد أو عدالته مع الشك في وجود زيد. مع ان الشيخ وغيره لا يلتزمون بعدم جريانه ، بل لا مقتض للالتزام به. فظاهر العبارة يستلزم الإيراد عليه بما عرفت.

والّذي يظهر من الشيخ : انه جعل اعتبار بقاء الموضوع من فروع اعتبار وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة.

وقد خالفه صاحب الكفاية في البيان ، فذكر : ان المعتبر هو بقاء الموضوع ، بمعنى اتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة ، بمعنى ان ما كان متعلق اليقين

ص: 346


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 399 - الطبعة الأولى.

سابقا لا بد أن يكون هو متعلق الشك ، فإذا كان المتيقن قيام زيد فلا بد ان يكون هو المشكوك لا قيام عمرو. واما بقاؤه في الخارج فغير معتبر في الاستصحاب ، وانما هو معتبر في مقام ترتب الأثر إذا كان الوجود الخارجي دخيلا فيه (1).

ولا يتوجه عليه الإيراد المذكور على الشيخ ، لأن المعتبر من اتحاد المشكوك مع المتيقن متحقق في الموارد المذكورة ، فان المشكوك هو قيام زيد أو عدالته ، وهو عين المتيقن ، فيجري الاستصحاب وان شك في بقاء المعروض.

ولكنه قدس سره في حاشيته على الرسائل ، أرجع عبارة الشيخ إلى ما ذكره في الكفاية ، فجعله تفسيرا لعبارته لا وجها آخر (2).

وحينئذ لا يرد عليه ما عرفت ، ولكنه خلاف الظاهر من العبارة جدا. فانه لا حاجة معه إلى ما ذكره من اعتبار الوجود الخارجي أو التقرري دفعا للإشكال على كلية اعتبار بقاء الموضوع بالانتقاض بموارد الشك في نفس الوجود. فان المعتبر في الاستصحاب - على هذا التفسير - متحقق في هذه الموارد ، لأن المشكوك وهو وجود زيد - مثلا - عين المتيقن في السابق ، فالإشكال على هذا مندفع بنفسه.

وامّا ما ذكره في ذيل كلامه من استصحاب العدالة على تقدير الحياة. فهو لا يؤيد حمل المحقق الخراسانيّ ، لعبارته على ما ذكره في الكفاية ، لما ستعرفه من تفسير العبارة بشكل لا يتنافى مع إحراز الحياة ، بل بتكفل هذه الجهة فانتظر.

وبعد كل هذا اتضح : بان المعتبر هو اتحاد متعلق الشك واليقين موضوعا ومحمولا ، والدليل على اعتبار هذا واضح ، لأنه مما يتوقف عليه صدق النقض والإبقاء المعتبر في الاستصحاب ، فإن رفع اليد عن الحالة السابقة انما. يعد نقضا

ص: 347


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /427- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /229- الطبعة الأولى.

إذا كان متعلق الشك عين متعلق اليقين ، كما ان عدم رفع اليد حينئذ. يعد إبقاء.

امّا مع اختلاف متعلقهما ، فلا يعد رفع اليد نقضا ولا عدمه إبقاء ، كي يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب ، فإذا كان المتيقن سابقا قيام زيد والمشكوك قيام عمرو ، فالحكم بقيام عمرو لا حقا لا يعد إبقاء للقيام السابق ، كما ان عدم الحكم به لا يعد نقضا له.

وهذا مما لا إشكال فيه ، وانما الإشكال فيما ذكره الشيخ رحمه اللّه من : الدليل العقلي على اعتبار بقاء الموضوع الّذي محصله : انه عدم بقاء الموضوع اما ان يبقى العرض بلا موضوع وهو محال كما لا يخفى. واما ان يكون له موضوع آخر وهو أيضا محال ، لاستحالة انتقال العرض من معروضة لتقومه به (1).

ويرد هذا البرهان : بان مفاد الاستصحاب جعل حكم مماثل للحكم السابق بحسب الظاهر ، ولكنه مغاير له واقعا ، إلاّ انه معنون بعنوان كونه إبقاء لذلك الحكم لا أكثر ، وحينئذ فعلى تقدير كون الموضوع المستصحب لاحقا غيره سابقا لا يكون ذلك من نقل العرض من موضوع إلى آخر ، بل من إثبات حكم آخر لموضوع آخر فالتفت.

وقد تصدى المحقق العراقي لدفع الإيراد على الشيخ بتأويل كلامه ، الّذي محصله : استحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول ، وذلك بإرجاعه إلى كون المورد من موارد الشك في استعداد المستصحب للبقاء وقابليته للاستمرار ، فلا يجري الاستصحاب حينئذ لاختصاص مسلك الشيخ بمورد يكون الشك فيه من جهة الشك في الرافع. ومحصل ما ذكره في هذا المقام : ان عدم بقاء العرض بلا معروضه الأول لأجل امتناع بقائه بلا موضوع أو انتقاله من موضوعه إلى

ص: 348


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.

موضوع آخر ، مرجعه إلى عدم استعداد العرض القائم به للبقاء وقابليته للاستمرار عند عدم موضوعه. وحينئذ فمع الشك في بقاء الموضوع يشك في استعداد العرض القائم به للبقاء ، فلا يكون المورد مشمولا لأدلة الاستصحاب على رأي الشيخ (1) ، فجعل الدليل العقلي الّذي ساقه الشيخ مقدمة لبيان صيرورة المورد حينئذ من موارد الشك في المقتضى الّذي لا يجري فيه الاستصحاب ، فيرتكز توجيهه على أمرين :

الأول : عدم إمكان بقاء العرض بلا موضوعه الأول المستحصل من استحالة بقائه بلا موضوع أو في موضوع آخر.

الثاني : ان نتيجة هذا هو الشك في قابلية العرض للبقاء وعدم إحراز استعداده للاستمرار عند الشك في بقاء الموضوع.

والأول مسلم لا كلام لنا فيه. وانما الكلام في الأمر الثاني ، فإنه لا نسلم كونه نتيجة ذلك أو مرجعه إلى كون الشك في بقاء الموضوع يلازم الشك في استعداد العرض القائم به للبقاء مطلقا ، بل الأمر يختلف باختلاف منشأ الشك في بقاء الموضوع ؛ فان كان من جهة عدم إحراز استعداده للبقاء ، بان كان الموضوع بحيث لو خلي وطبعه غير باق إلى هذا المقدار - الّذي يفسر به عدم إحراز المقتضي في المقام - ، كان الشك في بقاء العرض من جهة الشك في استعداده للبقاء طبعا. وان كان من جهة احتمال وجود الرافع ، بان كان الموضوع بحيث لو خلي وطبعه يستمر في وجوده لو لا حدوث حادث زماني ، كان الشك في بقاء العرض من جهة وجود الرافع أيضا لإحراز قابليته للبقاء بإحراز قابلية موضوعه له ، فلا بد من ملاحظة موارد الشك في بقاء الموضوع ، وانه على أي نحو ، فانه يختلف كما عرفت.

ص: 349


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 4 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بالجملة : فاستحالة بقاء العرض بلا موضوعه الأول لازم أعم لعدم استعداده للبقاء ، لأنه قد يكون ناشئا عن وجود الرافع.

وبهذا تبين عدم ارتباط ما ذكره الشيخ هاهنا بما ذكره هناك. ولو سلمنا ارتباطه وتماميته في نفسه ، فلا يمكننا حمل كلام الشيخ عليه ، ضرورة ان مرجعه إلى عدم صدق : « لا تنقض » على المورد ، لعدم صدق النقض ، فالأدلة قاصرة عن شمولها له ، وهذا هو ما ذكره في الشق الثاني من التردد الّذي ظاهره كونه قسيما للشق الأول من حيث المحذورية في قوله : « اما لاستحالة انتقال العرض ، وامّا لأن المتيقن سابقا وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقن السابق ».

فالعبارة تأبى حمل الشق الأول على ما ذكره المحقق العراقي ، لأنه حينئذ يشترك مع الشق الثاني في المحذورية ، مع ظهورها في كونه محذورا مستقلا وبرأسه.

وبالجملة : ما ذكره قدس سره في مقام تصحيح ما أفاده الشيخ غير تام.

وعليه (1) ، فيتجه ما أوردناه على الشيخ.

ص: 350


1- يمكن دفع الإشكال المزبور وتصحيح استدلال الشيخ (رحمه اللّه) بتقريب : أن إذا فرض أنّ المأخوذ هو العرض المتقوّم بمعروضه بنحو مفاد كان الناقصة كعدالة زيد - لا ذات العرض بوجوده التام كالعدالة فإنّه لا يفرض لها موضوع خاص كي يجب إحرازه ، بل الاستصحاب يجري في وجودها فهي معروض المستصحب نظير وجود زيد - كان مقتضى ذلك ملاحظة النسبة بين العرض ومعروضه واتّصاف المعروض بالعرض الخاصّ ، ومن الواضح إنّ النسبة من المعاني الحرفية التي تقوم بالطرفين وحقيقتها كيفية من كيفيّات الطرفين - كما تقدم بيانه مفصّلا في محلّه وهي مما لا يكاد يتعلّق بها اللحاظ مستقلاّ بل أخذها مستلزم لملاحظة الطرفين بشكل خاص كما أنّه لا بدّ فيها من فرض تحقّق الطرفين. فأخذ عدالة زيد في الموضوع مرجعه إلى ملاحظة زيد العادل ، فلا يمكن أن تتحقّق عدالة زيد بلا فرض وجود زيد ، وعلى هذا البيان تقوم دعوى أنّ الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحلّه فلا بدّ أن يكون العرض مأخوذا بنحو الاتصاف ومفاد كان الناقصة لا التامّة. وعليه : فعدالة زيد في ظرف الشك - بعد فرض ضرورة فرض الموضوع للعدالة بحيث يشار إليه ويقال إنّه مشكوك العدالة - إما أن تفرض بلا موضوع وهو محال لما عرفت من كونها ملحوظة بمفاد كان الناقصة لا التامّة. وإما أن يفرض لها موضوع آخر وهو من انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، إذ المفروض أنّ المشكوك هو نفس عدالة زيد ففرض كون تلك العدالة لغير زيد هو فرض الانتقال المزبور. هذا من جهة. ومن جهة أخرى : إنّ الشك في عدالة غير زيد ليس شكّا في بقاء عدالة زيد فلا يصدق النقض على رفع اليد عن الحالة السابقة. وبهذا البيان ظهر أنّ محطّ نظر الشيخ هو مقام الشك في الّذي هو موضوع التعبّد الاستصحابي ، لا مقام التعبّد الطارئ على الشك ، كما حمل عليه كلامه وأورد عليه بأن الوجود التعبّدي غير الموجود الواقعي ، فتنبّه.

واعلم ان الشيخ قدس سره بعد ما اعتبر العلم ببقاء الموضوع في جريان الاستصحاب. تعرض (1) إلى بيان حكم بعض الصور التي يشك فيها ببقاء الموضوع من جريان الاستصحاب في الحكم أو الموضوع وعدم جريانه.

وقد تعرض لهما الآخرون ممن لم يعتبروا سوى اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة.

وهي فروض ثلاثة :

الفرض الأول : ما إذا كان الشك في العرض غير مسبب عن الشك في

ص: 351


1- تعرّضه كان بعنوان الجواب عن الإشكال الّذي أورده على نفسه بعنوان : « إن قلت ... » ولا يخفى أنّ كيفيّة السؤال والجواب لا تخلو عن إجمال ، لأنّ المراد بالموضوع الّذي يريد المستشكل إجراء الاستصحاب فيه : إن كان هو موضوع الحكم الشرعي فالسؤال يكون غير مرتبط بما قبله لأنّ البحث فيما قبله عن إحراز معروض المستصحب. والمفروض فيه أن لا يكون موضوعا للأثر الّذي يترتّب على عرضه وإلاّ كان هو مجرى الاستصحاب لا عرضه. وكان هو مستصحبا لا معروضه. وإن كان المراد به هو معروض المستصحب فالسؤال يرتبط بما قبله لكن الجواب بتفصيله لا يرتبط به بل كان ينبغي أن يكون الجواب إنّ الاستصحاب في المعروض لا يجدي لعدم كون الاستصحاب في العرض المترتّب عليه من الآثار الشرعية. ولعلّه ( قده ) ذكر الإشكال بهذا العنوان تمهيدا لبيان الأقسام الثلاثة من موارد الشك في المعروض ، والأمر سهل.

موضوعه ، كالشك في عدالة زيد المجتهد مع الشك في حياته.

وقد أفاد الشيخ بأنه لا نحتاج في إجراء استصحاب العدالة إلى إحراز الحياة ، لأن المستصحب هو العدالة على تقدير الحياة ، لكون الموضوع هو زيد على تقدير الحياة. هذا مجمل ما ذكره الشيخ (1).

وقد وقع الكلام بين الأعاظم في مقام تفسيره.

ومنشأ ذلك أمران :

الأول : ما يتراءى من مخالفة ما ذكره هنا لما ذكره أولا من اعتبار بقاء الموضوع ، حيث ذكر انه لا يحتاج إلى إحراز الحياة في استصحاب العدالة.

الأمر الثاني : انه إذا كان الأثر مترتبا على إحراز العرض وموضوعه ، كجواز الائتمام - مثلا - ، فاستصحاب العدالة على تقدير الحياة لا يجدي في ترتب الأثر ما لم تحرز الحياة ، وإحرازها بالاستصحاب لا يجدي في ترتب العدالة ، لأن ترتبها عقلي تكويني لا شرعي.

والظاهر من العبارة بدوا : ان المستصحب أمر على تقدير بان يستصحب فعلا العدالة على تقدير الحياة ، نظير استصحاب نجاسة الماء المتغير فعلا على تقدير زوال تغيره.

وقد حمل المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل كلام الشيخ على تقدير زوال تغيره.

إرادة استصحاب عدالة الحي الفعلية ولو لم تحرز الحياة فعلا - بناء على تفسيره بقاء الموضوع باتحاد متعلق الشك واليقين ، وهو متحقق فعلا ، لأن متعلق الشك عدالة زيد الحي وهو عين المتيقن -.

هذا إذا كان الأثر مترتبا على مجرد إحراز العدالة ، فانه يترتب حينئذ بالاستصحاب المذكور.

ص: 352


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.

واما إذا كان ترتبه متوقفا على إحراز الحياة أيضا ، فيجري استصحاب الحياة ، وينضم أحدهما إلى الآخر. ويترتب الأثر.

وانما لم يحمله على ما يظهر منه بدوا من إرادة استصحاب أمر على تقدير ، لما يرد عليه فيما إذا توقف ترتب الأثر على إحراز الحياة من : انه باستصحاب الحياة لا يثبت التقدير المذكور إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، لأن ترتب الأمر المقدر على ما علق عليه ترتب عقلي لا شرعي. فلا تحرز العدالة باستصحاب الحياة (1).

ولكن ما ذكره في تفسيره لكلام الشيخ مردود لوجهين :

الأول : ان كلام الشيخ كالصريح في ان المعتبر هو إحراز بقاء الموضوع عند إرادة استصحاب عرضه ومحموله.

الثاني : انه إذا كان ترتب الأثر متوقفا على إحراز الحياة أيضا ، فلا يجدي استصحاب الحياة في ترتبه ، لأن مرجع ذلك إلى كون الأثر يترتب على ثبوت الحي العادل ، فالعدالة والحياة مأخوذتان في موضوع الحكم بنحو التوصيف لا التركيب ، كما هو شأن كل عرض ومحله إذا أخذا في الموضوع للحكم ، فحيث ان الحياة موضوعها الجسم الموجود ، فيمكن استصحاب حياة هذا الجسم الخاصّ. ولكن استصحاب العدالة على ما قرره - أعني : استصحاب عدالة الحي - لا يثبت اتصاف الموجود بالعدالة بضم استصحاب الحياة إلاّ بنحو الأصل المثبت كما عرفت.

واستصحابها بمفاد كان الناقصة - أعني استصحاب عدالة هذا الموجود - غير ممكن ، لعدم إحراز بقاء موضوعه وهو الحياة.

ولعل المحقق النائيني في كلامه ناظر إلى هذه الجهة وتصحيحها. ولا بد في

ص: 353


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /331- الطبعة الأولى.

توضيح كلامه من بيان شيء وهو : انه قد أشكل على الاستصحاب في الموضوعات بان الحكم لا يترتب عليها مباشرة وانما يترتب على عنوان مضاف إلى الموضوع ، فاستصحاب الموضوع لا يثبت تحقق العنوان المذكور ، مضافا إلى موضوعه ، كي يترتب عليه الحكم إلاّ بنحو الأصل المثبت ، مثلا الحرمة مترتبة على شرب الخمر وليست على الخمر نفسه ، فاستصحاب خمرية الخمر لا يثبت ان شرب المستصحب شرب للخمر الا على القول بالأصل المثبت.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة لا تخلو من نظر.

وعمدة الجواب : هو الالتزام بان موضوع الحكم مركب من الوصفين وهما : الشرب والخمرية - مثلا - ، وهما وصفان عرضيان يتواردان على موضوع واحد وهو المائع ، فلم يؤخذ في موضوع الحرمة الشرب المتصف بالخمرية ، بل شرب مائع وخمريته ، فإذا أحرز أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل ، التأم الموضوع وترتب الحكم.

إذا اتضح هذا ، فمحصل ما ذكره النائيني ان الموضوع فيما نحن فيه قد أخذ مركبا ، فالعدالة والحياة أخذا بنحو التركيب في الموضوع لا بنحو التوصيف.

وشأن كل الموضوعات المركبة ان يكون الحكم مترتبا على أحد الجزءين على تقدير الجزء الآخر ، فإذا أحرز الجزء الآخر تمّ الموضوع وثبت الحكم. وهذا هو معنى استصحاب العدالة على تقدير الحياة (1).

وبهذا التوجيه لكلامه يتوجه ان يكون تفسيرا لكلام الشيخ. إلا انه لا يخلو عن نظر لأمرين :

الأول : ان الملحوظ في كلام الشيخ هو إحراز الموضوع ، وكلامه دائر حول هذا الأمر وما ذكره خارج عن ذلك.

ص: 354


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 570 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأمر الثاني : انه لا يمكن ان يلتزم بما ذكره ، لأنه قد بنى على ان الموضوع إذا كان مؤلفا من العرض ومحله كانا مأخوذين بنحو التوصيف لا التركيب. وليست العدالة عارضة على الذات كي تكون في عرض الحياة - كما ذكره قده - ، بل العدالة في طول الحياة ، لأن موضوعها الذات الحية لا مطلق الذات ، كما لا يخفى.

وحينئذ فالذي ينبغي ان يقال في توجيه كلام الشيخ : ان بقاء الموضوع انما يعتبر إحرازه فعلا إذا كان ترتب الحكم متوقفا على إحرازه وإثباته ، كما إذا كان دخيلا في موضوع الحكم ، امّا مع عدم توقفه على ذلك فلا يعتبر إحراز الموضوع.

وحينئذ ففي صورة ما إذا كان زيد على تقدير مماته جائز التقليد ، وعلى تقدير حياته يشك في عدالته ، فيمكن استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بان يؤخذ ظرف الحياة ظرفا للمستصحب ، فالاستصحاب فعلا للعدالة في فرض الحياة.

فان كان حيا واقعا فهو. وان كان ميتا جاز تقليده كما هو مقتضى الفرض. فكلام الشيخ ناظر إلى هذه الصورة وهذا الفرض ، وهو ما إذا لم يكن ترتب الأثر متوقفا على إحراز الموضوع ، ويكون هذا من قبيل الاستدراك على كلية اعتبار بقاء الموضوع. ويكون المراد من العبارة ما هو الظاهر منها من كون المستصحب امرا على تقدير.

بل يمكن ان يقال : ان الّذي يعتبر هو بقاء الموضوع في ظرف المستصحب وفعلية التعبد الاستصحابي ، فلو فرضنا ان ظرف المتعبد به غير ظرف التعبد ، كان اللازم بقاء الموضوع في ظرف المتعبد به. وعليه ففيما نحن فيه بما ان الاستصحاب انما هو للعدالة في ظرف الحياة وعلى تقديرها ، ففعلية التعبد الاستصحابي انما تكون على تقدير الحياة ، فلو كان زيد ميتا فلا استصحاب ولا

ص: 355

مستصحب. اذن فالموضوع محرز في ظرف فعلية التعبد ، غاية الأمر لا تحرز بالفعل فعلية التعبد لعدم إحراز الحياة ، ولكن على تقدير الحياة يكون هناك تعبد ومعه يكون هناك موضوع ، فلا يكون هذا الفرض استدراكا كما بيّن لعدم تخلف الشرط فيه. فتدبر.

وهذا التفسير سالم عن الإشكال كما لا يخفى ، إلاّ انه لا يجدي فيما إذا كان الأثر متوقفا على إحراز الموضوع كالحياة في المثال ، لأن استصحاب الحياة لا يجدي في إثبات اتصاف زيد بالعدالة كي يترتب الأثر ، لأن استصحاب اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة انما يثبت تحقق الاتصاف في ظرف تحقق الحياة واقعا ، فمفاده من قبيل جعل الملازمة من الاتصاف بالعدالة والحياة الواقعية. فإحراز الحياة ظاهرا بالاستصحاب لا يترتب عليه ثبوت الاتصاف إلا على القول بالأصل المثبت.

وبتقريب أوضح : ان التعبد بالموضوعات مفاده التعبد بحكم مماثل للحكم الواقعي المترتب عليه ، فالتعبد بالعدالة في ظرف الحياة مرجعه إلى التعبد بالحكم المماثل في ظرف الحياة. ولكن ترتبه على الحياة بواسطة العدالة وهي أمر غير شرعي. وحينئذ فباستصحاب الحياة لا يترتب الحكم المماثل المتعبد به ، لأن ترتبه بواسطة غير شرعية ، فيبتني على القول بالأصل المثبت ، فالتفت.

وتحقيق الكلام في هذا الفرض بإجمال : إن الأثر ..

تارة : يكون مترتبا على مجرد وجود الوصف والحكم بمفاد كان التامة من دون لحاظ اتصاف الموضوع به.

وأخرى : يكون مترتبا على وجوده النعتيّ الّذي هو مفاد كان الناقصة بان يلحظ اتصاف الموضوع به.

وعلى الثاني أما أن يكون ترتب الأثر متوقفا على وجود الموضوع الفعلي بحيث لا يترتب إلاّ إذا كان الموضوع متحققا في الخارج. وامّا أن لا يكون

ص: 356

كذلك ، بل يكفي في ترتبه فرض وجود الموضوع وتقديره ، وذلك كالمثال السابق ..

فان كان الأثر على النحو الأول - أعني : مترتبا على الوصف ، بمفاد كان التامة وبوجوده النفسيّ - فلا إشكال في جريان استصحاب بقاء الوصف كاستصحاب العدالة ويترتب عليه الأثر. وان كان على النحو الثالث ، فلا كلام في جريان استصحاب الوصف - بوجوده النعتيّ - على تقدير الموضوع ، ويترتب عليه الأثر فعلا ، كاستصحاب عدالة زيد على تقدير الحياة. وبعبارة أصح : كاستصحاب اتصاف زيد بالعدالة في ظرف الحياة.

لكنه لا يجري إذا كان على النحو الثاني ، لأن الاستصحاب على تقدير لا يثبت الموضوع ، واستصحاب الموضوع معه لا يستلزم فعلية التقدير لأن الترتب عقلي لا شرعي كما عرفت.

ومن هنا يظهر الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته (1) -. من جريان الاستصحاب في الاتصاف في بعض فروع الفرض : بان يستصحب تحقق العدالة لزيد أو زيد المتصف بالعدالة. ونظّر له بما إذا شك في بقاء الزوجية. بين امرأة وزوجها الغالب لاحتمال موته ، فانه يجري استصحاب بقاء الزوجية. فان الشك في بقاء زيد العادل مرجعه إلى شكوك ثلاثة : تعلق أحدها ببقاء زيد. والآخر ببقاء العدالة. والثالث ببقاء الاتصاف ، واستصحابه غير ممكن لعدم إحراز بقاء موضوعه المتقوم به.

واما ما ذكره من التنظير ، فهو خارج عن محل الكلام ، لأنه فيما إذا كان الشك في الموضوع التكويني المستصحب لا الشرعي ، وترتب الزوجية على حياة الزوج ترتب شرعي لا عقلي. وحينئذ فمع وجود الموضوع والشك فيها تستصحب ، كاستصحابها بالإضافة إلى المرأة ، ومع الشك فيه يستصحب بقاؤه

ص: 357


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 231 - الطبعة الأولى.

وتترتب عليه الزوجية ، كما يستصحب بقاء الزوج وتترتب عليه أحكام زوجيته.

الفرض الثاني : ما إذا كان الشك في الحكم ناشئا ومسببا عن الشك في بقاء الموضوع مع العلم بحدود الموضوع. نظير ما لو علم بان الموضوع للنجاسة هو التغير وشك في بقاء تغير الماء وعدمه. ففي مثل هذه الصورة يجري الاستصحاب في الموضوع ويترتب حينئذ الحكم بلا كلام ، ولا مجال لاستصحاب الحكم مع عدم جريانه في الموضوع بعد الفراغ ، من كون الوصف مقوما.

الفرض الثالث : ما إذا كان الشك في العرض مسببا عن الشك في بقاء الموضوع للشك في مفهوم الموضوع وتردده بين ما هو باق ومرتفع.

وقد مثل له الشيخ بمثالين : أحدهما : ما إذا تردد موضوع النجاسة بين ان يكون هو الماء المتغير ولو آناً ما أو المتغير فعلا. والمثال الثاني : ما إذا تردد موضوع النجاسة بين أن يكون هو الكلب بوصف انه كلب ، بأن يكون الموضوع متقوما بالصورة الشرعية ، أو المشترك بين الكلب وما يستحال إليه من الملح أو غيره ، بان يكون الموضوع هو الجامع بين الحالتين (1).

ولكن المثال الأول خارج عن مورد الشبهة المفهومية ، لأن الشك ليس في مفهوم التغير ولا في مفهوم الماء ، بل انما هو في كون الوصف - أعني : التغير - هل هو من قبيل الحالات للموضوع أو من المقومات له؟ ، فيندرج تحت الشبهة الحكمية. بخلاف المثال الثاني فان الشك في مفهوم الكلب وانه ما هو؟.

وعلى كل فقد حكم الشيخ في هذا الفرض بعدم جريان الاستصحاب لا في الموضوع ولا في الحكم.

اما استصحاب ذات الموضوع ، فهو لا يثبت انه هو الموجود الخارجي المشكوك ، نظير استصحاب الكرية في عدم إثبات كرية الموجود.

ص: 358


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.

وامّا استصحاب الموضوع بما هو موضوع فهو من قبيل استصحاب الحكم ، لأن وصف الموضوعية انما يصح استصحابه مع إحراز معروضه وهو الذات.

وامّا استصحاب الحكم ، فهو لا يجري ، لعدم إحراز موضوعه فلا يعلم كون رفع اليد عن اليقين السابق نقضا كي تشمله أدلة الاستصحاب.

وقرب آخرون المنع عن الاستصحاب في الموضوع : بأنه ليس لدينا شك راجع إلى الموجود الخارجي ، ففي مثال الكلب الصورة النوعية مقطوعة الزوال ، والجسم بدونها مقطوع التحقق ولا شك فيه. ومع عدم تعلق الشك بالموجود الخارجي فما هو الّذي يستصحب حينئذ؟ ، وانما الشك في نفس المفهوم ، وهو لا يصحح الاستصحاب (1).

ولكن ما ذكره الشيخ وغيره من عدم جريان الاستصحاب في الموضوع غير تام بهذا التقريب ، فان الّذي يراد استصحابه هو انطباق المفهوم على هذا الموجود الخارجي ، يعني كلبية هذا الجسم ، فانه قبل زوال الصورة النوعية كان المفهوم منطبقا على هذا الجسم ، وبعد زوالها يشك في بقاء انطباقه عليه فيستصحب. وتوضيح ذلك : ان اللفظ لا يوضع بإزاء الوجود الخارجي ولا الوجود الذهني ، وانما يوضح بإزاء المفهوم والماهية المنطبق على الموجود. فلفظ الكلب - مثلا - المأخوذ في موضوع الحكم موضوع للمفهوم المردد بين ما يكون متقوما بالصورة النوعية وما لا يكون ، بل كان هو الجامع بين الحالتين. وهذا المفهوم المأخوذ في موضوع الحكم كان منطبقا على هذا الجسم وهذا الموجود الخارجي حين اتصافه بالصورة النوعية. وبعد زوال الصورة النوعية يشك في بقاء انطباقه على هذا الموجود فيستصحب ويترتب الحكم عليه ، فيقال : كان هذا كلبا والآن

ص: 359


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 234 - الطبعة الأولى.

كما كان وبهذا التقريب لجريان الاستصحاب لا يبقى مجال لما ذكره الشيخ في مقام المنع من ان استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود إلاّ بنحو الأصل المثبت ، لأن المستصحب ليس هو ذات الموضوع ، بل انطباق الموضوع - وهو الكلبية - على هذا الموجود.

كما ان ما ذكره غيره من عدم الشك في نفس الموجود ، لا وجه له حينئذ ، لأن الّذي يراد استصحابه هو الانطباق وهو متعلق للشك وليس بمعلوم.

فكلا الوجهين في تقريب المنع لا يرتبط بأصل المدعى.

ولكن هذا التقريب أيضا غير تام ، لأن الخصوصية إذا كانت مأخوذة في مقام التسمية والموضوع له كانت من مقومات الموضوع ، فإذا كانت الصورة النوعية مأخوذة عند وضع اللفظ لمفهوم الكلب ، بمعنى ان المفهوم كان هو المتقوم بالصورة النوعية فعند انتفائها ينتفي موضوع الانطباق ، لأنه يكون حينئذ الوجود بصورته النوعية. فمع الشك في دخل هذه الخصوصية - أعني الصورة النوعية مثلا - في المفهوم المسمى والموضوع له اللفظ ، يشك عند انتفائها في بقاء موضوع الانطباق ومعروضه ، لاحتمال ان يكون هو الوجود المتقوم بالصورة النوعية لا الأعم. فلا يصح استصحاب الانطباق لعدم العلم ببقاء موضوعه ، فلا يعلم انه إبقاء للحالة السابقة ، بل يحتمل ان يكون إسراء للمستصحب من معروض إلى آخر.

وبتقريب آخر يقال : بعد فرض كون الخصوصية إذا كانت دخيلة في المسمى والموضوع تكون مقومة للمسمى بحيث ينتفي انتفائها. كان المفهوم مرددا بين المتباينين واجد الخصوصية والأعم ، لأن التردد بين العام والخاصّ تردد بين المتباينين ، فالواجد مباين للأعم مباينة الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا ، وحينئذ فالمفهوم المردد يرجع إلى الفرد المردد. ويكون المورد من

ص: 360

مصاديق الفرد المردد. وقد حقق في ذلك الباب عدم جريان الاستصحاب فيه ، فلا يجري في المفهوم المردد الّذي هو محل الكلام.

ولعل هذا مراد ما ذكره المحقق النائيني في أجود التقريرات من : انه لا يجري الاستصحاب لأن الأمر دائر بين ما هو معلوم البقاء وما هو معلوم الارتفاع. وان لم يكن بمكان من وضوح المراد.

وعليه ، يتجه القول بالمنع عن جريان استصحاب الموضوع في الشبهات المفهومية ، إلاّ انه بالنسبة إلى استصحاب الوجود مسلم لا إشكال فيه. وامّا بالنسبة إلى استصحاب العدم فيمكن ان يقال بجريانه في موارده ، كما فيما إذا شك في تحقق المغرب عند سقوط القرص لتردد مفهومه بين ذهاب الحمرة المشرقية وبين سقوط القرض ، فانه يستصحب عدم تحققه بأي مفهوم كان ، لأنه قبل سقوط القرص ، كان معلوم العدم وبعده يشك في تحققه فيستصحب عدمه (1).

ولكن بعد ما عرفت من رجوع المفهوم المردد إلى الفرد المردد وكونه من مصاديقه ، وعرفت سابقا عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردد مطلقا وبأي وجه كان ، فلا مجال لهذا القول خصوصا فيما ذكره من المثال ، فان المغرب من أوضح مصاديق الفرد المردد لتردده بين المتباينين.

كما يظهر مما عرفته عدم صحة القول بجريان الاستصحاب في المفهوم المردد إذا كان الأثر مترتبا على وجوده بمفاد كان التامة ، لا وجود في ضمن الموجود الخارجي ، حيث انه كان متيقن الحدوث والآن مشكوك البقاء فيستصحب ويترتب الأثر ، لأن المحذور في عدم جريان الاستصحاب فيه ليس ما ذكره الشيخ من ان استصحاب ذات الموضوع لا يثبت موضوعية الموجود الّذي مرجعه جعل المورد من موارد القسم الثاني من استصحاب الكلي ، كي يقال

ص: 361


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 447 - الطبعة الأولى.

بان هذا لا يمنع إذا كان الأثر مترتبا على الذات بمفاد كان التامة. وانما هو كون المورد من موارد استصحاب الفرد المردد ، وهو ممنوع الجريان مطلقا كما حقق في محله.

وبالجملة : ما يذكر ويحقق في مسألة الفرد المردد من عدم جريان الاستصحاب فيه مطلقا أو في الجملة بعينه جار هنا ، لأن المورد من مصاديق تلك المسألة.

ويتحصل مما ذكرناه : عدم جريان الاستصحاب موضوعا في المفهوم والعدم وجودا وعدما.

وإذا لم يجر الاستصحاب في الموضوع ، فهل يجري في الحكم أولا؟. ظاهر الاعلام المحققين إطلاق الحكم بعدم جريانه.

ولكن مقتضى التحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الخصوصية المنتفية المقومة للمسمى بحيث لا يوجب انتفاؤها انتفاء معروض الحكم وموضوعه بنظر العرف ، وان كانت دخيلة في المسمى والموضوع له ، بان كانت في نظره دخيلة بنحو العلة لثبوت الحكم ، وحصول الشك من جهة التردد في كونها علة حدوثا وبقاء للحكم أو حدوثا فقط. وبين ما إذا كانت بحيث يوجب انتفاؤها انتفاء الموضوع بنظره. فيجري على الأول دون الثاني ، وسيتضح هذا عند بيان المراد من الموضوع العرفي. إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

وبعد كل هذا نقول : ان الشك في الحكم لا يتحقق إلاّ من جهة تبدل بعض الحالات التي كان عليها الموضوع ، حيث يشك في ان أخذ هذه الحالة والصفة في موضوع الخطاب والحكم هل هو من جهة كونه من المقومات له فينتفي الموضوع بانتفائها ، أو ليس إلاّ لكونها من الحالات المتبادلة فلا ينتفي الموضوع بانتفائها؟. فلا بد من وجود ما يعين الموضوع ويكون هو الحكم في هذا المضمار. وهو أحد أمور ثلاثة :

ص: 362

الأول : العقل (1) ، ومقتضاه رجوع جميع القيود المأخوذة أو الواردة في

ص: 363


1- [1] هذا ما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) وتقريبه بوجهين : الأول : ما أشير إليه في المتن المأخوذ من كلام الشيخ (رحمه اللّه) وتوضيحه : من أنّ القضية ذات أجزاء ثلاثة : الموضوع والمحمول والنسبة ، والقيود لا يمكن أن ترجع إلى النسبة لأنّها معنى حرفي ، وهي غير راجعة إلى الحكم لأنّ خلاف المفروض إذ المفروض أنّ الحكم غير مشروط ، وقد يمتنع رجوع بعضها إليه ، فيتعيّن أن تكون راجعة إلى الموضوع. وفيه : أنّ من القيود ما يكون سببا لعروض العرض على معروضه من دون أن يكون مقوّما للمعروض ، كالعلل الغائية ، فعدمه يوجب تخلّف عدم العروض من دون مساس بنفس المعروض ، وقس على ذلك العوارض والمعروضات الخارجية من الأجسام ونحوها. الثاني : ما ذكره المحقّق الأصفهاني (رحمه اللّه) من أن جميع القيود والجهات بنظر العقل جهات تقييدية لا تعليلية ، فيتعيّن أن تكون قيودا للموضوع. وفيه : أنّ هذا لو سلّم فإنّما يسلّم في الأحكام العقلية المبتنية على التحسين والتقبيح لا في الأحكام الشرعية الصرفة غير المبتنية على الأحكام العقلية أصلا. مع أنّه غير مسلّم في الأحكام العقلية أيضا كما تقدّم البحث في ذلك في بعض مباحث مقدّمة الواجب ، فراجع. إذن فما أفيد من رجوع جميع القيود إلى الموضوع غير مسلّم. ولو سلّم ذلك فهل يمتنع الاستصحاب في مطلق الأحكام - كما اخترناه في المتن - أو يختصّ بغير مورد الشك في الرافع كما هو ظاهر الشيخ؟ ولذا أورد عليه بأنّ ما ذكره بعنوان اللازم الباطل لتحكيم النّظر العقلي في الموضوع مما التزم به فيما سبق. وبعبارة أخرى أنّه لا ثمرة - على مبناه - في الترديد بين النّظر العقلي وغيره بعد الالتزام باختصاص الاستصحاب حتى بناء على غير النّظر العقلي بمورد الشك في الرافع. وقد حمل المحقّق النائيني (رحمه اللّه) - كما في تقريرات الكاظمي - مراد الشيخ بالرافع هنا على غير مراده بالرافع هناك وإنّ المراد به هنا أخصّ من المراد به هناك ، فراجعه تعرف. وعلى ذلك لا يتوجّه عليه الإيراد المزبور. لكن يرد على المحقّق النائيني .. أولا : أنّه لا قرينة على ما ذكره أصلا وهو لم يذكر وجها يقرّبه ، فهو جمع تبرّعي. وثانيا : إنّ الرافع بالمعنى الّذي ذكره يكون عدمه أيضا مأخوذا في الموضوع ولأيّ سبب لا يكون من قيود الموضوع؟. ولكن الّذي يبدو لنا أنّ مراد الشيخ (رحمه اللّه) من الرافع هاهنا ما كان عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم لا الموضوع مثل الملاقاة التي يكون عدمها مأخوذا قيدا لاستمرار الحكم بالطهارة ، والطلاق الّذي يكون عدمه مأخوذا قيدا لاستمرار الزوجية وهكذا ، فإنّ بعض الأحكام حين تحصل بأسبابها تستمر حتى يحصل ما يرفعها بلا أن يكون عدم الرافع مقوّما وقيدا للموضوع بل قد يكون الموضوع متصرّم الوجود كالعقد في الزوجية والملكيّة ونحوهما. وفي قبال ذلك القيد الّذي يكون راجعا للموضوع نظير العلم الّذي يكون عدمه قيدا لموضوع الأحكام الظاهرية الثابتة بالأصول العملية. وعليه ففيما إذا كان القيد من قيود استمرار الحكم فمع الشك في ارتفاعه لا شك في بقاء الموضوع ، بل الموضوع لم يتغيّر وإنّما الشك في بقاء الحكم فيستصحب. وقد رأينا ما أفاده المحقّق النائيني في أجود التقريرات يشير إلى ما ذكرناه من عدم تقيّد الموضوع بعدم الرافع وإنما هو قيد الحكم لكن بيانه لا يخلو عن إجمال. ومن الغريب أنّ السيد الخوئي نقل عنه ما جاء في تقريرات الكاظمي وردّ عليه بما مرّ. وكيف كان فما ذكره الشيخ بالتوجيه الّذي عرفته لا إشكال فيه ، فتدبّر.

الخطاب إلى الموضوع بحيث ينتفي بانتفائها ، لأنه ليس في القضية الشرعية سوى المحمول والموضوع ، فترجع القيود إلى الموضوع فمع الشك في دخل قيد أو حال في الحكم ، فحيث يرجع إلى الموضوع لو كان في الواقع دخيلا ، فعند انتفائه يشك في بقاء الموضوع.

ولازم هذا عدم جريان الاستصحاب في مطلق الأحكام ، لأن الشك فيها لا يكون إلاّ من جهة الشك في ان القيد الزائل دخيل في ترتب الحكم أو ليس بدخيل - إذ لو علم بعدم دخله لا يحصل الشك ويعلم ببقاء الحكم ، وكذا إذا علم بدخله فانه يعلم بارتفاعه - ، ومعه يشك في بقاء الموضوع. ويختص جريانه بالموضوعات ، لأن الشك فيها قد يحصل على ما هي عليه من الخصوصيات التي كانت عليها حدوثا.

وإن ألحق الشيخ بها ما إذا كان الشك في الحكم الشرعي من جهة الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود ، لأن الشك فيه لا يرجع إلى الشك في بقاء الموضوع ، كما إذا كان الحكم بالطهارة مترتبا على ما غسل بالكر ، وغسل ثوب

ص: 364

به ، ثم شك في ملاقاته للنجس أو في كون ملاقيه نجسا ، فان الموضوع باق على ما كان ، فتستصحب طهارة الثوب (1).

ولكنه غير تام ، لأن مرجع جعل مانعية شيء ، أو شرطيته إلى تقييد الموضوع به وأخذه في موضوع الحكم وجودا أو عدما ، فموضوع الطهارة هو ما غسل بالكر ولم يلاق نجسا ، فمع الشك في الملاقاة يشك في بقاء الموضوع.

الأمر الثاني : الدليل ، بان يكون الميزان ما يفهمه العرف من الدليل وان الموضوع هو هذا ، فيفرق بين ما إذا أخذ الوصف بنحو الشرط ، نحو : « الماء إذا تغير ينجس ». وما إذا أخذ بنحو النعت ، نحو : « الماء المتغير ينجس ». فيكون الموضوع في الأول هو ذات الماء ، فيجري الاستصحاب مع الشك في مدخلية التغير. وفي الثاني هو الماء المتلبس بالتغير فينتفي الحكم بانتفائه.

الأمر الثالث : العرف ، والمراد به ما يفهمه العرف بحسب مرتكزاته من قياسات الأحكام والموضوعات في قبال ما يفهمه بحسب متفاهم الألفاظ وفي مقام المحاورة الّذي هو مفاد تحكيم الدليل ، فقد ، يفهم العرف بحسب لفظ الدليل كون الموضوع للحكم هو الأمر الكذائي ، ولكن بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه ، يرى عدم تبدل الموضوع عند زوال بعض صفاته المقومة بحسب الدليل ، وان الحكم ثابت للأعم ، فهو يرى بحسب الدليل ان الحنطة هي موضوع الحلية ، ولكنه بحسب مرتكزاته يرى ان عروض الحلية لا يختص بالحنطة بل يعمها ويعم الدّقيق ، كما يرى بحسب مرتكزاته ان موضوع النجاسة هو ذات الماء وان التغير يؤثر فيه بنحو العلية. ويشترط ان لا يكون الفهم العرفي المذكور من القوة بحيث يكون من القرائن المتصلة أو المنفصلة الموجبة لانقلاب ظهور اللفظ من معناه وانعقاده في المفهوم العرفي ، أو المانعة عن

ص: 365


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /360- 361 - الطبعة الأولى.

حجيته في ما هو ظاهر فيه ، وإلاّ رجع إلى الأمر الثاني - أعني : لسان الدليل - وبما ذكرنا (1) يندفع ما قد يقال : من انه ما المراد من جعل النّظر العرفي

ص: 366


1- تحقيق الكلام في هذا المقام أن يقال : إنّ الحكم الشرعي بناء على ما هو الصحيح من كونه غير الإرادة والكراهة ، بل هو أمر اعتباري يتحقّق بالإنشاء القولي أو الفعلي لا واقع له سوى مقام الإنشاء والدليل بمعنى أنّ الإنشاء والدليل في مقام الإثبات ليس كاشفا عن الحكم بوجوده الواقعي بل هو محقّق للحكم وسبب لتحقّق الاعتبار ، فنسبة الإنشاء إلى الحكم ليست نسبة الدالّ إلى المدلول بل نسبة السبب إلى المسبّب ، وليس له وجود واقعي منفصل عن الإنشاء ويكون الإنشاء طريقا إليه كما يظهر من بعض التعبيرات ، كالتعبير بمقام اللب والواقع ومقام الإنشاء والإثبات فإنّ ذلك ليس بسديد. وإذا كان الأمر كذلك فلا محصّل لدعوى تشخيص موضوع الحكم بطريق العقل أو العرف قبالا للدليل ، بل الحكم يدور مدار الإنشاء وما قصده المنشئ بإنشائه لا يتعدّاه بتاتا وأيّ دخل للعقل في ذلك؟ وكيف يتصوّر حكم العقل بان موضوع الحكم كذا إذا فرض أنّ الإنشاء على خلافه؟ بل حكم العقل يناط بكيفيّة الإنشاء الّذي هو سبب الحكم. فإنّه يدرك المسبّبات من طريق أسبابها. ولا سبيل له لإدراك مناطات الأحكام كي يستطيع للحكم بدخالة قيد وعدم دخالة آخر ومثل ذلك يقال في نظر العرف ، فإنه لا أساس له ، إذ ليس الحكم من أحكام العرف كي يكون له نظر فيه ، فلا معنى لأن يكون له نظر في الحكم الشرعي يخالف الدليل. نعم قد يكون له نظر خاص في باب الألفاظ أو من ناحية ارتكازاته بنحو يكون موجبا لتغيير ظهور الدليل البدوي إذا كان بمنزلة القرينة المتّصلة ، أو موجبا لعدم حجيّته إذا كان بمنزلة القرينة المنفصلة المانعة عن الحجية أو الكاشفة عن عدم الظهور كما في المقيّد المنفصل على التحقيق ، لكنّه نظر يرجع إلى تشخيص المراد والمقصود بالدليل لا أنّه في قبال الدليل وما يراد به. ومثله يقال في بعض أحكام العقل التي يقيّد بها الدليل كتقييد الأحكام بالقدرة أو الشعور والتمييز ، فإنّه يرجع إلى تشخيص أنّ المراد بالدليل رأسا هو المقيّد. وبالجملة : كل ما يقصده المنشئ هو المتّبع والكاشف عنه الدليل الإنشائي ولو بضميمة حكم العقل أو العرف وقرينتهما المتّصلة أو المنفصلة. وأما غير ذلك فلا محصّل له ، بل عرفت أنّ العقل والعرف لا معنى لأن يكون له نظر في قبال ما يحكيه الدليل عن قصد المنشئ ، فالمقابلة غير سديدة. وإذا عرفت ما بيّنا فنقول : ليس المراد بالموضوع الّذي يعتبر بقاؤه بكل ما يكون دخيلا في تحقّق الحكم ، بل ما كان معروضا للحكم فإنّ بقاؤه هو المحقّق لوحدة القضيّتين وصدق البقاء والنقض. ولا نريد بالمعروض هو المعنى المصطلح له ، وذلك لأنّ معروض الحكم - بالمعنى المصطلح - هو خصوص متعلّقه كالإكرام في مثل « أكرم زيدا » أما متعلّق المتعلّق كزيد في المثال فليس معروضا للحكم الّذي يراد استصحابه ، فلو أريد من المعروض هو المعنى المصطلح لزم أن لا يعتبر بقاء زيد في استصحاب وجوب الإكرام وهو واضح البطلان. إذن فالمراد بالمعروض كل ما كان الحكم مرتبطا به وله إضافة إليه وتعلّق به ولو لم يكن مجعولا عليه. فمثل زيد يكون كذلك فإنّ الحكم يضاف إليه بتوسّط إضافة متعلّقه ، وعلى هذا الأساس يعتبر بقاؤه ويكون انتفاؤه مخلا بصدق البقاء والنقض. وتشخيص ارتباط الحكم وإضافته. تارة : يكون بواسطة ظهور اللفظ نظير المثال المزبور. وأخرى : قد يكون بواسطة العرف القطعي وإن لم يظهر من الدليل كما لو قال : « أطعم زيد الفقير » فإنّ العرف بمرتكزاته يفهم أنّ المراد رفع حاجة الفقير ، فيكون المطلوب رفع حاجته ، فإذا زال الفقر عن زيد انتفى الموضوع فينتفي الحكم لأنّ الحكم مرتبط بالحاجة والفقر ومضاف إليها لأنّها متعلّق المتعلّق على الفرض ، وإن كان الظهور البدوي ليس كذلك. وليس الأمر كذلك لو قال : « أطعم زيدا العالم » فإنّ العلم ليس كالفقر بنظر العرف فإذا زال أمكن استصحاب الحكم مع الشك لبقاء موضوعه وهو ذات زيد ، والعلم يعدّ من الحالات الطارئة عليه لا من مقوّماته المأخوذة في مقام ارتباط الحكم. نعم في مثل ما إذا قال : « قلّد زيدا العام » يكون زوال العلم موجبا لزوال الحكم ، لأنّ العلم مما يضاف إليه الحكم ، إذ التقليد هو أخذ الرّأي واتّباع العلم فإذا زال العلم فقد زال المعروض. وثالثة : قيد يكون بواسطة حكم العقل القطعي ، لتقوم التكليف بالتمييز والشعور ، لأنّه التحريك والبعث وهو يرتبط بالمميّز والشعور ، وليس كذلك الحال في عدم البلوغ. ولذا يصحّ استصحاب عدم التكليف الثابت في ظرف عدم البلوغ ، بخلاف العدم الثابت في ظرف عدم التمييز كالجنون. ولا يخفى أنّ اتّباع العرف أو العقل في تشخيص ما يرتبط به الحكم إنّما هو فيما كان نظره قطعيّا أو يوجب الوثوق والاطمئنان بحيث يوجب التصرّف في ظهور الدليل ، وفيما عدا ذلك لا عبرة به إذا كان للدليل ظهور في شيء معيّن ، بل يتّبع ما هو ظاهر الدليل. ومع إجماله يشكل جريان الاستصحاب لأنّه يستلزم الشك في بقاء الموضوع. هذا تحقيق القول في هذه المسألة ، فلاحظ.

في مقابل النّظر بحسب لسان الدليل؟ - هذا السؤال الّذي يقرب صورته المحقق النائيني كما في أجود التقريرات : بأنه -.

ان أريد من الظهور بحسب الدليل ما يفهمه العرف من لفظ الدليل ، ولو كان الظهور التصديقي الحاصل من ضم اجزاء الكلام بعضها إلى بعض وملاحظة ما يكتنف به من القرائن المقالية أو الحالية ، بحيث يكون المراد من النّظر العرفي حينئذ هو المسامحات العرفية في مقام التطبيق ، فلا مجال لتوهم

ص: 367

اعتبار النّظر العرفي في قبال النّظر بحسب لسان الدليل ، لعدم الاعتبار بالعرف في مقام التطبيق ، بل العرف معتبر في مقام تعيين المفهوم.

وان أريد من النّظر بحسب الدليل هو خصوص الظهور التصوري الحاصل بمجرد سماع اللفظ ، ومن النّظر العرفي الظهور التصديقي ، فلا مجال لتوهم اعتبار النّظر الدليلي بهذا المعنى ، لما قرر من ان الظهور التصوري لا يمكن نسبته إلى المتكلم والقول بان المتكلم اراده (1).

والّذي يقرب صورته المحقق العراقي - كما في نهاية الأفكار - : بأنه ..

ان أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في مقام تعين مفهوم اللفظ ، فهذا يرجع إلى تحكيم الدليل وليس قسما آخر.

وان أريد منه الرجوع إليه في مقام التطبيق وصدق المفهوم على مصاديقه ، فلا عبرة بالعرف في هذا المقام كي يحتمل انه المحكم والمرجع في تعين الموضوع (2).

فانه بعد ان عرفت ان للعرف نظرين :

أحدهما : بما هو من أهل المحاورة وفي مقام التفاهم.

والآخر : بحسب ما يرتكز لديه من مناسبات الأحكام وموضوعاتها.

وانه قد يختلفان في تعيين الموضوع وقد يتفقان ، وان المراد من تحكيم الدليل هو تحكيم العرف بنظره الأول ، ومن تحكيم العرف تحكيمه بالنظر الثاني ، يتضح الجواب عن السؤال المذكور ولا يبقى له مجال.

ثم انه قد يرد إشكال آخر على المقابلة المذكورة ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ومحصله : ان موضوع الحكم له مرحلتان : مرحلة الواقع

ص: 368


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 449 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 10 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واللب. ومرحلة الإنشاء والدلالة. وهو باعتبار الأولى عقلي دقي ، وباعتبار الثانية موضوع دليلي. ولا يكون الطلب متعلقا بشيء في غير هاتين المرحلتين. ونظر العرف في الموضوع انما هو طريق محض إلى ما هو الموضوع عند الشارع - لعدم كون الموضوعية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالاعتبار ، كي يصح للعرف اعتبارها حقيقية - ، وبعد فرض كون الموضوع لا ثبوت له الا في مرحلة اللب واللفظ ، فنظر العرف في كون هذا الشيء موضوعا للحكم مرجعه إلى المسامحة في الموضوع في قبال العقل والنقل ، ولا يصح أخذه مقابلا ، لأن المسامحة في الموضوع تقتضي المسامحة في الحكم - بمقتضى التضايف - ، فلا يقين بثبوت الحكم لهذا الموضوع شرعا كي يحرم نقضه ورفع اليد عنه (1).

ويمكن تقرير هذا الإشكال بشكل أوضح ، بيانه : ان الحكم المجعول لا واقع له الا مقام الإنشاء واللفظ.

وعليه ، فلا بد من لحاظ الموضوع في هذه المرحلة - وهذا المقام - ، لأنه مرحلة موضوعيته وترتب الحكم عليه ، فالمحكم هو لسان الدليل ، وما يراه العرف يرجع إلى التسامح في التعيين ، وهي غير معتبرة قطعا في مقابل الدليل ، فلا مجال للمقابلة.

والجواب عن هذا الإشكال : ان الحكم - سواء قلنا : انه عبارة عن امر واقعي حقيقته الإرادة والكراهة. أو قلنا : بأنه أمر اعتباري يتقوم باعتبار كل معتبر بنفسه. أو انه أمر اعتباري عقلائي ، والإنشاء تسبيب للاعتبار العقلائي - له واقع اما الإرادة أو الكراهة واما الاعتبار ، والإنشاء كاشف عن ذلك الواقع فللموضوع في مقام ترتب الحكم واقع متحقق. وحينئذ يقع الكلام في ان تعيين الموضوع في واقعه هل يكون بنظر العقل ، أو بنظر العرف بحسب ما يفهمه من

ص: 369


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 124 - الطبعة الأولى.

الدليل ، أو بنظره بحسب مرتكزاته من مناسبة الحكم وموضوعه ، فتصح المقابلة المذكورة.

إذا عرفت هذا ، فلا بد من بيان المختار من الطرق في مقام التعيين.

وقد أفاده المحقق الأصفهاني : ان موضوع الكلام في التقابل ليس هو نفس النقض ، وان المعتبر هو النقض الحقيقي أو النقض المسامحي العرفي ، إذ لا شك في عدم اعتبار النقض المسامحي إذا دار الأمر بينه وبين إرادة النقض الحقيقي ، كما انه ليس الموضوع هو الاتحاد وعدمه الّذي به قوام صدق النقض ، لأنه لا إشكال في اعتبار الاتحاد الحقيقي ، لأنه مع الوحدة المسامحية لا يصدق النقض حقيقة ، بل يكون مسامحيا فلا يشمله النهي. وانما الموضوع هو موضوع الحكم المستصحب ، بمعنى ان الموضوع الّذي رتب عليه الحكم ، هل المرجع في تعيينه العقل أو النقل أو العرف؟.

مع إرادة الاتحاد الحقيقي والنقض الحقيقي ، إلاّ ان صدق النقض حقيقة يختلف باختلاف الأنظار المعينة للموضوع.

والمشهور بين المحققين هو الرجوع إلى العرف في تعيين الموضوع.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في مقام إثبات ذلك ما بيانه : انه كما ان حجية الظاهر عند الشارع تستفاد من كونه كأحد أهل العرف في مقام المحاورة والتفهيم ، فكذلك إذا كان للظاهر مصاديق حقيقية ، وكان بعضها مصداقا له بنظر العرف ، فانه باعتبار كون مخاطبته للعرف كأحدهم يستفاد ان هذه المصاديق الحقيقية بنظر العرف متعلقة لإرادته الجدية - كما لو كان ملقي الكلام أحد أهل العرف - ، ما لم ينصف قرينة على تعيين مراده الجدي من المصاديق ، لأنه إذا لم يكن له اصطلاح خاص به ، فلا بد ان يكون قد أراد ما هو عند العرف مصداق حقيقي ، مع عدم نصب قرينة على العدم.

وعليه ، ففيما نحن فيه يكون مراد الشارع الجدي - حيث لم ينصب قرينة

ص: 370

على تعيينه - من مصاديق النقض مصاديقه العرفية الحقيقية ، ومرجع صدق النقض حقيقة عرفا إلى تعيينه الموضوع ، فانه بعد ما يرى ان الموضوع هو كذا يرى ان رفع اليد عن الحالة السابقة نقض حقيقة ، فإذا اعتبر نظره في صدق النقض يكشف عن اعتبار نظره في التعيين (1).

ويشكل ما ذكره : بان نظر العرف في تعيين موضوع الحكم ان بلغ بحد يقطع بأنه المراد للشارع ، فهو يوجب التصرف في حجية لسان الدليل ، لأن الظاهر انما يكون حجة فيما إذا لم يحصل القطع بخلافه ، أو كان بمنزلة القرينة الحالية ، فهو يوجب التصرف في ظهور الدليل.

وكلا الفرضين خارجان عن محل الكلام ، لأن محل الكلام في الأخذ بالنظر العرفي مع بقاء لسان الدليل على ظهوره وحجيته كما عرفت. وان لم يبلغ حد القطع بل كان ظنيا ، فلا دليل على اعتبار هذا الظن لا شرعا ولا عقلائيا ، فلا يصح التمسك بالإطلاق والرجوع إلى العرف في مصداق النقض ، إذ لا دليل على اعتبار العقلاء للنظر العرفي في المصداق المبتني على الظن في تعين الموضوع.

وقد أفاد المحقق العراقي في المقام ما محصله : انه لا إشكال في احتياج إعمال الاستصحاب إلى نحو من المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى القضية المتيقنة ، لأن الإرجاع الحقيقي يستلزم تعلق الشك بما تعلق به اليقين ، وهو مفاد قاعدة اليقين لا الاستصحاب. ثم ان استفادة البقاء والاتحاد تارة : يكون من جهة انتزاعهما عن اعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، وكون متعلق الشك هو اليقين بالشيء ، فانه يقتضي نحوا من الاتحاد بين القضيتين كي ينتزع عنوان البقاء عنه. وأخرى : يكون من جهة إطلاق النقض في المقام المقابل للبقاء الصادق حقيقة على مجرد اتحادهما بأحد الأنظار.

ص: 371


1- الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 124 - الطبعة الأولى.

فعلى الأول : يكون الخلاف في ان المسامحة المحتاج إليها هل هي بمقدار إلغاء خصوصية الزمان مع التحفظ على باقي الخصوصيات بالدقة. أو انها ملحوظة من سائر الجهات.

فعلى الوجه الأول : لا بد من جعل مركز البحث في اختلاف الأنظار هو موضوع الحكم الّذي به قوام البقاء والاتحاد ، لأن الكبرى المذكورة - أعني : كبرى : « لا تنقض اليقين » المستفاد منها اعتبار الاتحاد والبقاء - من المفاهيم المحرزة ولا خلاف فيها ، ولا بد من تطبيق عنوانهما على المورد بالدقة العقلية لا بالمسامحة العرفية ، والتطبيق الحقيقي يختلف باختلاف الأنظار في الموضوع للحكم. فلا بد من تعيين النّظر المحكم لإحراز تحقق الاتحاد والبقاء.

وعلى الوجه الثاني - أعني : ما لوحظت المسامحة من سائر الجهات - : يكون محل الخلاف ومركزه هو نفس البقاء والإبقاء التعبدي لا في كبرى المستصحب.

وقد اختار الثاني ، وان المسامحة ملحوظة في الجهات الأخرى غير خصوصية الزمان.

وعلى الثاني - أعني : إذا كانت استفادة البقاء من حرمة النقض - : فان قيل : بان النقض حقيقة يصدق بمجرد وحدة القضيتين بأحد الأنظار ، فلا شبهة في شموله لجميع الأنظار. وامّا ان قيل : بان النقض الحقيقي لا يصدق إلاّ مع وحدة القضيتين دقة ، فلا يشمل النقض الادعائي المسامحي ، بل شموله يحتاج إلى دليل خاص ، لعدم الجامع بين النقض الحقيقي والادعائي. إلا أن يتمسك بالإطلاق المقامي الّذي مقتضاه شمول النقض لما كان نقضا بنظر العرف ، لأن القضية مسوقة على طبق الأنظار العرفية ، ويكون مقدما على الإطلاق اللفظي الدال على اعتبار النقض الحقيقي. هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي - مع

ص: 372

تصرف منا (1) -.

ولسنا بصدد تحقيق ما أفاده قدس سره ، فانه لا أثر له مهم بعد ما عرفت من تحقيق الحال ، الا إنا نود ان ننبهه على ما يظهر لنا بالنظر البدوي من التهافت في كلامه. فانه بعد ان فرض في صدر كلامه لزوم المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى القضية المتيقنة ، وبنى على المسامحة في إلغاء خصوصية الزمان ، كيف يذهب بناء على اختصاص المسامحة بإلغاء خصوصية الزمان إلى لزوم تطبيق عنوان البقاء والاتحاد بالدقة العقلية لا بالمسامحة!. فانه لا يخلو من منافاة لصدر كلامه. هذا ما بدا لنا عاجلا ولعل التأمل في كلامه يرفع ذلك فلاحظ.

والّذي ينبغي ان يقال في المقام : انه بعد ما عرفت سابقا من تعذر حمل النقض على معناه الحقيقي لاستلزامه كون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين بجميع خصوصياته ، وهو غير ممكن للاختلاف بين الشك واليقين ، لأن أحدهما متعلق بالحدوث والآخر بالبقاء ، فلا بد من ان يحمل على المعنى المسامحي للنقض ، ولا بد حينئذ من حمله مطلقا على المعنى المسامحي لعدم إمكان حمله على المعنى الحقيقي ، فيتمسك بدليل الاستصحاب في كل مورد يصدق فيه النقض ولو مسامحة ، بل النقض الحقيقي متعذر كما لا يخفى.

وتوهم : ان المسامحة في بعض الخصوصيات لا تقتضي المسامحة بالنسبة إلى جميع الخصوصيات ، والحمل على المعنى المسامحي فيما نحن فيه انما كان بالإضافة إلى خصوصية الزمان ، فلا يقتضي ذلك المسامحة في غيرها من الخصوصيات المعتبرة في صدق النقض الحقيقي.

ص: 373


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 11 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

مندفع : بان هذا انما يتم لو كان اعتبار بقاء الخصوصيات وعدم إلغائها مستفادا من إطلاق في المقام ، فانه إذا تعذر الالتزام ببعضها يتسامح بمقدارها ويبقى الإطلاق محكما في الأخرى.

امّا إذا استفيد ذلك من ظهور الكلام في المعنى الحقيقي ، وتوقف تحققه على الالتزام والمحافظة على جميع الخصوصيات ، فإذا تعذر الحمل عليه انتفت إرادة المعنى الحقيقي بتاتا لعدم تعدد المراتب في الحقيقة ، فيتعذر تحققه وحينئذ ، فيحمل اللفظ على معناه المسامحي مطلقا.

ومن هنا يظهر انه لا حاجة لما تكلفه المحقق العراقي من الالتزام بالإطلاق المقامي.

كما انه يعلم حينئذ بأنه لا فائدة في الكلام عن ان الميزان في تعين الموضوع أي الأنظار ، لأنه انما يبحث عنه بعد التسليم بان المراد من النقض معناه الحقيقي.

امّا مع الالتزام بإرادة المسامحي منه ، فلا تصل النوبة إلى ذلك.

وبذلك يتبين عدم الوجه فيما ذكره المحقق الأصفهاني في تعيين محل النزاع من : انه لا وجه للكلام عن ان المراد بالنقض معناه الحقيقي والمسامحي. لأنه لا إشكال في تقديم المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة. إذ قد عرفت إمكان تحقق الكلام فيه ، فتدبر جيدا.

وامّا ما ذكره السيد الخوئي - كما عرفت في بعض تقريراته - ناهجا به على ما ذكره شيخه النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - في دفع الإشكال المذكور على المقابلة بين الأنظار الّذي قرره بما محصله : ان المراد من نظر العرف ان كان ما يفهمه من الدليل الشرعي بمعونة القرائن ، فهو المراد من لسان الدليل. وان كان المراد ما يتسامح به في تطبيق الكلي على مطابقة الخارجي ، فلا ريب في عدم الاعتماد عليه من ..

ص: 374


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 449 - الطبعة الأولى.

ان هذا الإشكال في نفسه صحيح ، ولكنه خارج عن محل الكلام ، إذ ليس الكلام في تعيين موضوع الحكم الشرعي ، بل الكلام في بقاء الحكم في ظرف الشك المستفاد من أدلة الاستصحاب التي مفادها حرمة النقض من حيث توقف جريان الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عن الحالة السابقة ، وصدقه متوقف على بقاء الموضوع ووحدته في القضية المتيقنة والمشكوكة. فيقع الكلام في ان المرجع في البقاء هل هو الدليل الأول الدال على ثبوت الحكم للموضوع ، فبقاء الموضوع المأخوذ في لسان الدليل هو الشرط في جريان الاستصحاب. أو يكون المرجع هو الدليل الثاني الدال على الإبقاء عند الشك ، فيتبع جريان الاستصحاب صدق موضوعه في نظر العرف - وهو النقض والمضي - بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدليل الأول؟. فالمراد من أخذ الموضوع من العرف كون جريان الاستصحاب تابعا لصدق النقض عرفا باعتبار ما يفهمه من النقض. والمراد من أخذه من الدليل هو الرجوع إلى الدليل الأول في جريان الاستصحاب.

ثم بعد توضيح ذلك وبيان إمكان الاختلاف بين النّظر العرفي والدليلي بالمعنى الّذي ذكره ، اختبار كون الموضوع مأخوذا من العرف ، بمعنى ان جريانه تابع لصدق النقض عرفا ، أخذا بالدليل الثاني المتكفل للحكم في مرحلة البقاء ، لأن الكلام فيها دون الدليل الأول المتكفل لمرحلة الحدوث (1). ففيه (2) :

ص: 375


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول1. 238 - الطبعة الأولى.
2- والعمدة في الإشكال هو : أنه لا إشكال في كون البقاء والاتحاد والنقض من المفاهيم المعلومة المحدودة التي لا نزاع فيها ولا يشك في المراد بها. كما لا نزاع في لزوم اتحاد القضيتين ، وان الاتحاد يتقوم بوحدة الموضوز. وانه يلزم ان يكون الموضوع بقاء عين الموضوع حدوثا ، فانه مفروغ عنه في كلماتهم. فينحصر الكلام في تشخيص الموضوع حدوثا ، كي يعتبر بقاءه في مرحلة الشك ، فلا بد من البحث عن الموضوع وتحديده ، فالدوران بين الأنظار انما هو في مقام تشخيص الموضوع ، ولا محصل للدوران بين الدليل الأوّل والدليل الدال على الاستصحاب. ومن الغريب انه بعد هذا البيان ، وفي مقام بيان صدق البقاء عرفا يمثل لما تكون الخصوصية غير مقومة عرفا بما يرجع إلى تشخيص الموضوع للحكم حدوثا ويرتبط بالدليل الأول ، فلاحظ كلامه وتدبر. وقد عرفت تحقيق الحال في أصل المسألة.

أولا : ان التسليم بصحة الإشكال في نفسه في غير محله ، بعد ما عرفت من وجود نظر للعرف في الموضوع بحسب مرتكزاته في مقابل نظره بحسب كونه من أهل المحاورة ، وقد التزم به السيد الخوئي في غير المقام وثانيا : ان دليل حرمة النقض دليل آخر غير الدليل المتكفل لثبوت الحكم حدوثا ، ويتبع فيه نظر العرف في مقام تشخيص موضوعه كالدليل الأول ، وحينئذ فترجع المقابلة إلى انه هل المرجع هو لسان الدليل أو لسان الدليل؟. ولا تخفي ركاكة هذا التعبير واستهجانه ، كما انه يرجع إلى المقابلة بين الدليلين لا بين الدليل والعرف.

وثالثا : ان الدليل الأول متكفل لبيان حكم مرحلة الحدوث ، والدليل الثاني متكفل لحكم مرحلة البقاء. فلا دوران بينهما لعدم المنافاة بينهما بنفسهما ، فيمكن الأخذ بكليهما. نعم التنافي بينهما باعتبار كون صدق النقض يبتني على فهم العرف كون الخصوصية ليست مقومة للموضوع ، وان كانت بحسب ظاهر الدليل الأول مقومة ودخيلة فيه ، فالدوران بينهما انما يكون بهذا الاعتبار.

وعليه ، يقال : ما هو السر في اعتبار الفهم العرفي المذكور في قبال لسان الدليل الظاهر في خلافه؟. فالكلام يرجع بالآخرة إلى بيان الوجه في جعل الفهم العرفي مقابلا لظاهر الدليل ، والأخذ به وطرح ظاهر الدليل.

وقد عرفت إشكال ذلك ، كما انه لم يلتزم به. فما ذكره من تقديم الدليل الثاني في غير محله بعد تصريحه في كون صدق النقض عرفا يبتني على كون الخصوصية غير مقومة. نعم لو كان صدق النقض عرفا يستلزم ذلك لا انه يبتني عليه ، لكان لما ذكره وجه ولكنه خلاف ما صرح به.

يبقى في المقام شيء : وهو ما نقله الشيخ عن بعض المتأخرين من التفريق بين استحالة نجس العين والمتنجس ، بالحكم بطهارة الأول ، لأن

ص: 376

الموضوع للنجاسة فيه متقوم بالصورة النوعية والحكم محمول على النوع ، وبالاستحالة يزول الموضوع ، فمع الشك في طهارة المستحال إليه ونجاسته تحكّم قاعدة الطهارة فيه. دون الثاني ، لأن موضوع النجاسة فيه ليس متقوما بالصورة النوعية ، كالخشبية أو الثوبية - مثلا - ، وانما الموضوع هو الجسم ، وهو لم يزل بالاستحالة ، فمع الشك في بقاء النجاسة في المستحال إليه تستصحب.

وقد خالفه الشيخ رحمه اللّه ، وحكم : بان دقيق النّظر يقتضي خلافه ، وأفاد في تحقيق ذلك : انه لم يعلم بان النجاسة في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية وهي الجسم.

وامّا ما اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات من ان كل جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس. فهو لا يدل على ما ذكره المفصل ، لأن التعبير بالجسم ليس من جهة تقوم الحكم بالجسمية وإناطته بها ، بل من جهة أداء عموم الحكم لجميع افراده وشموله لمصاديقه كلها ، لكونه مشيرا إليها وكاشفا عنها ، فلا ينافي ان يكون ثبوت الحكم لكل فرد من حيث خصوصيته المتقوم بها.

واستشهد لذلك بما إذا قال القائل : « كل جسم له خاصية وتأثير » ، فان التأثير والخاصية من عوارض الأنواع لا الأجسام. فما نحن فيه نظير هذا القول في كون التعبير بالجسم من جهة تعميم الحكم لجميع الافراد من دون كون الحكم منوطا بالجسمية.

ثم ذكر قدس سره : انه لو أبيت الا عن ظهور معقد الإجماع في تقوم النجاسة بالجسم ، فالإجماع لا اعتبار به ، لأن مستنده الأدلة الخاصة الواردة في الأنواع الخاصة ، كالثوب والبدن والماء وغير ذلك ، فاما ان نقول ان استنباط القضية الكلية المذكورة من هذه الأدلة انما كان للإشارة إلى ما تحدث فيه النجاسة وبيان ظرفها لا إلى ما تتقوم به النجاسة وتناط به وإلاّ فلا بد من طرح الإجماع والعمل بمقتضى الأدلة الواردة في مواردها من إناطة النجاسة بالعنوان

ص: 377

المذكور في الدليل (1).

ولكن ما ذكره لا يمكن ان يلتزم به قدس سره لوجوه (2) :

الأول : ان ظاهر معقد الإجماع كون الحكم - وهو النجاسة - منوطا بالجسم من دون وجود ما يصرف هذا الظهور عن ظاهره وحجيته ، فلا مسوغ لترك العمل به.

وما ذكره من التنظير بقولهم : « كل جسم له خاصية وتأثير » يفترق عما نحن فيه ، لوجود الدليل القطعي على كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع ، وهو استحالة تأثير الواحد في المتعدد ، فانه يدل على ان مصدر التأثير هو كل جسم بنفسه ونوعه ، لا الجهة الجامعة بين الأنواع - وهي الجسمية - ، وإلاّ لزم تأثير الواحد في المتعدد ، فالدليل القطعي المذكور يوجب التصرف في الظهور ، لأنه يكون بمنزلة القرينة الحالية.

الوجه الثاني : انه يلتزم كغيره من الفقهاء بان الحكم إذا رتب على أمور متخالفة في موارد متعددة ، تلغى حينئذ الخصوصيات ، وان الحكم ثابت للجهة الجامعة بين هذه الأمور.

وعليه ، فإذا ورد في النصوص ترتب النجاسة على الثوب والبدن والماء وغيرها ، يستكشف من ذلك إلغاء الخصوصيات المفرقة وكون الحكم منوطا بالجهة الجامعة بين هذه الأمور وهو الجسم ، فلا وجه لما ذكره أخيرا من الالتزام بمقتضى الأدلة الواردة في الموارد الخاصة.

الوجه الثالث : انه قد بنى على استفادة الموضوع من فهم العرف ونظره المقابل لظاهر الدليل ، والعرف يرى ان موضوع النجاسة هو الجسم لا الصورة

ص: 378


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول -1. الطبعة الأولى.
2- يضاف إلى هذه الوجوه انه قد ورد الحكم في بعض النصوص على العنوان الجامع بين الأنواع كقوله علیه السلام في رواية عمار الساباطي : « واغسل كل ما أصابه به ذلك الماء » ، فانه ظاهر في كون موضوع النجاسة هو الجسم بلا دخل لخصوصيته وقد اقتصر السيد الأستاذ في الإشكال على الشيخ في هذه الدورة على هذا الوجه والوجه الثاني ...

النوعية ، لأنه يرى ان النجاسة من العوارض الخارجية التي يكون معروضها الجسم لا الصورة النوعية له.

ومن هنا تعرف ان ما ذكره المفصل من قيام الحكم بالجسم في المتنجس دون النجس ثابت لا مجال للمناقشة فيه. ولكنه مع هذا لا يمكن إجراء الاستصحاب في المستحال إليه - وان كان الظاهر من الشيخ تسليم جريانه لو ثبت بان المعروض الجسم - ، لأن عروض النجاسة ليس على كلي الجسم ، بل انما هو على الافراد وعلى الموجود الخارجي بما هي جسم - فلا ينافي ان يكون معروض النجاسة هو الجسم - ، وحيث ان الافراد متباينة ومتغايرة عرفا ، فالعرف بعد استحالة الفرد وتبدله إلى فرد آخر للجسم لا يرى عدم ترتب الحكم - هو النجاسة - عليه نقضا للحالة السابقة ، لمغايرة هذا الفرد للفرد الّذي كانت النجاسة ثابتة له ، فلا يستطيع الحكم بان هذا الفرد كان نجسا ، فلا يصدق النقض بما له من المفهوم العرفي كي يشمله النهي.

وبالجملة : كما يعتبر بقاء العنوان المأخوذ في موضوع الحكم حدوثا ، كذلك يعتبر بقاء وجود الموضوع ، ولذا لا يسري الحكم من جسم إلى آخر ، لأن الحكم انحلالي متعدد الافراد ، فكل فرد بما هو فرد له حكم مستقل ، لكنه لم يثبت له بخصوصيته ، بل بما هو جسم. ومن الواضح انه مع تبدل الفرد لا يتحد الموضوع في القضيتين وان اتحدا عنوانا ، فلا يصدق النقض والابقاء.

فمنع الاستصحاب يرتكز على أمرين :

الأول : كون النجاسة عارضة على افراد الجسم لا كليّة.

الثاني : ان صدق النقض بلحاظ ما هو المفهوم منه عرفا ونظر العرف فيه ولو مسامحة.

وهذا الوجه في منع جريان الاستصحاب أفاده الفقيه الهمداني رحمه اللّه

ص: 379

في حاشيته على الرسائل (1).

الثاني من شروط الاستصحاب : كون الشك متعلقا بالبقاء وبقاء اليقين بالحدوث.

لأن تعلق الشك بالحدوث انما هو ملاك قاعدة اليقين. ولا إشكال في أخذ هذا الشرط ولا خلاف فيه. وانما تعرض لذكره الأعلام لبيان انه هل يمكن استفادة القاعدة من اخبار الاستصحاب مضافا إلى الاستصحاب أو لا؟. وقد (2) ، أفيد في منع استفادة - كلتا القاعدتين من اخبار الباب وجوه :

ص: 380


1- الفقيه الهمداني. هامش فرائد الأصول -1. الطبعة الأولى.
2- مما أفيد في منع شمول الاخبار لكلتا القاعدتين ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) : من أنّ المناط في القاعدتين مختلف بحيث لا يجمعهما مناط واحد ، فإنّ مناط الاستصحاب اتّحاد متعلّق الشك واليقين مع قطع النّظر عن الزمان لتعلّق الشك في بقاء ما تيقّنه سابقا ، ولازم ذلك كون القضية المتيقّنة - كعدالة زيد يوم الجمعة - متيقّنة حال الشك أيضا من غير جهة الزمان. ومناط قاعدة اليقين اتّحاد المتعلّقين من جهة الزمان ، ومعناه أنّه شاك في نفس ما تيقّنه سابقا بوصف وجوده السابق. وعلى هذا فإلقاء الشك في الاستصحاب يرجع إلى التعبّد ببقاء المتيقّن في السابق من غير تعرّض لحال حدوثه. وإلغاؤه في القاعدة يرجع إلى التعبّد بحدوث ما تيقّنه سابقا من غير تعرّض لبقائه واختلاف مؤدّى القاعدتين وإن لم يمنع من إرادتهما من كلام واحد بأن يقول : « وإذا حصل شك بعد يقين فلا عبرة به سواء تعلّق بحدوثه أم ببقائه والحكم بالبقاء في الثاني وبالحدوث في الأول » لكنّه مانع من إرادتها من مثل قوله : « فليمض على يقينه » فإنّ المضي على اليقين في الاستصحاب يغاير المضي عليه في القاعدة فإنّه فيه يرجع إلى الحكم بعدالته بقاء ، وفيها يرجع إلى الحكم بعدالته حدوثا من دون تعرّض لما بعده ، وإرادة كلا المعنيين من اللفظ الواحد ممتنع ثم إنّه (رحمه اللّه) أورد على نفسه بأنّ المضي على اليقين معناه عدم التوقّف لأجل الشك وفرض الشك كعدمه ، وهذا يختلف تطبيقا باختلاف متعلّق الشك ، فإن تعلّق الشك بالحدوث ، فإلغاؤه يرجع إلى الحكم بالحدوث ، وإن تعلّق بالبقاء ، فإلغاؤه يرجع إلى الحكم بالبقاء ، فلا تعدّد في معنى المضي وإنّما التعدّد في المصداق. وأجاب عنه بجواب لا تخلو عبارته من إجمال والّذي نستظهره منها هو : إنّ ظاهر النصوص اتّحاد متعلّق اليقين والشك ، وإنّ الشك لا بدّ وأن يكون متعلّقا بما تعلّق به اليقين. وعليه ففي مقام الحكم إما أن يلاحظ الحاكم الشك المتعلّق بما تعلّق به اليقين مجردا عن الزمان فالمضي عليه عبارة عن الحكم باستمرار المتيقّن ، وأما أن يلاحظه مقيّدا بزمان اليقين فالمضي عليه عبارة عن الحكم بحدوث المتيقّن ، ولا يمكنه أن يلحظه مقيّدا ومجردا ، فليس مراده من عدم تعدّد فرد اليقين والشك عدم تعدّده في الخارج ، فإنّه مما يكذّبه الوجدان خصوصا إن لوحظ ذلك بالنسبة إلى شخصين فكان الشك في الحدوث حاصلا عند غير من حصل عنده الشك في البقاء ، بل مراده عدم التعدّد في مقام الحكم والتعبّد وإن الحاكم إما أن يلحظ الشك مجردا أو مقيّدا ، فقوله ( قده ) : « والشك ليس له هنا فردان » يقصد به ليس له في مقام الحكم ، لا في الواقع كما حملت عليه عبارته ووجّهت ببعض التوجيهات المردودة ، فراجع تقريرات الكاظمي. وما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) بهذا التقريب قابل للمناقشة ، وذلك لما تقدّم من أنّ وحدة متعلّق اليقين والشك تتحقّق بتقيّد متعلّق الشك بكل ما هو مقوّم لمتعلّق اليقين وهو ما كان له إضافة إليه وارتباط به فيصدق عند ذلك حقيقة الشك في نفس ما تعلّق به اليقين. ومن الواضح أنّ الزمان ليس من مقومات متعلّق اليقين إذ لا إضافة له بالنسبة إليه بل هو ظرف لتحقّقه ، فاليقين يتعلّق بذات العدالة ، فوحدة متعلّق الشك مع متعلّق اليقين لا. تقتضي أكثر من تعلّق الشك بذات العدالة مع قطع النّظر عن الزمان السابق أو اللاحق. فلا مقتضى للحاظه مجردا أو مقيّدا بالزمان حتى يتأتّى المحذور السابق ، فإذا تعلّق الشك بالعدالة حدوثا أو بقاء ، يصدق حقيقة قول القائل : « إذا تيقّنت بشيء وشككت فيه ». وعليه فإطلاق الدليل يمكن أن يكون شاملا لكلا الموردين. وتحقيق الحال في أصل المسألة أن يقال : إنّ الملحوظ في قاعدة اليقين - بحسب اصطلاح الاعلام - وإن كان هو الحدوث لكن من المعلوم أنّ ذلك بلحاظ ترتيب الأثر بقاء وفي حال الشك ولذا لو لم يكن للأمر المتيقّن الحدوث أثر شرعي بقاء فلا جدوى في التعبّد بالحدوث بل يكون لغوا. وإذا فرض أنّ محل البحث هو مورد ترتّب الأثر بقاء ، كما لو تحقّق الطلاق في حضور من يقطع بعدالته ثم بعدم مدة شك في عدالته حال الطلاق ، فإنّ ثبوت العدالة في حال الطلاق له أثر بقاء وفي حال الشك وهو زوال الزوجية فعلا بخلاف ما لو لم يكن عادلا فإنّ أثره بقاء الزوجية بالفعل ، وهكذا لو تيقّن بأداء الصلاة الصحيحة وترتّب عليه جواز الاكتفاء بها ، ثم شك بعد ذلك في صحة صلاته ، فإنّ لصحة الصلاة في ظرفها أثرا بالفعل وهو جواز الاكتفاء بها في مقام الامتثال - أمكن أن يقال : بأنّ الأثر الشرعي يشك في بقائه فعلا بعد اليقين بحدوثه وشكّه في البقاء وإن كان مصحوبا بالشك في الحدوث لكون المفروض سراية الشك إلى الحدوث - إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من صدق الشك في البقاء. نعم موضوع الأثر قد لا يكون له بقاء كمثال الصلاة أو يكون له ولكن أثره الشرعي بالمشكوك أثر الحدوث لا أثر البقاء كمثال الطلاق. إلاّ أنّ هذا ليس بمهم بعد أن كان الأثر مشكوك البقاء في جميع الفروض. وإذا كان الأمر بالنسبة إلى الأثر كذلك أمكن أن يقال بتطبيق الأخبار المتضمنة للتعبّد بالبقاء على الأثر نفسه ، فهو متيقّن الحدوث سابقا ، ويشك في بقائه فعلا ، فيكون مشمولا للتعبّد بالبقاء مع غضّ النّظر عن حدوثه. وبعبارة أخرى : إنّ الاخبار تتضمّن التعبّد بالمشكوك في ظرف الشك إذا كان مسبوقا باليقين ، وهي بذلك كما تنطبق على موارد الاستصحاب تنطبق على موارد قاعدة اليقين بالبيان الّذي عرفته فإنّ الأثر متعلّق للشك بالفعل بعد أن كان متعلّقا لليقين فتتكفّل الأخبار التعبّد به. نعم لا تشمل الموارد التي لا يكون الأثر مقارنا لحدوث الموضوع بل يكون متأخّرا عنه وجودا كما لو فرض أنّ عدالة زيد يوم الجمعة موضوع لوجوب التصدّق يوم الأربعاء ، فإنّه إذا شك يوم الأربعاء في عدالة زيد يوم الجمعة بعد أن كان متيقّنا بها ، فليس لديه شك في بقاء وجوب التصدّق بل في حدوثه ولا يكون التعبّد به تعبّدا بالبقاء. ولكن مثل هذا المورد نادر الوقوع فلا يضرّ الالتزام بخروجه. هذا مع أنّه بناء على جريان الاستصحاب في الحكم التطبيقي ، يمكن أن يلتزم بنظيره هنا فإنّه باليقين سابقا بالعدالة يوم الجمعة حصل لديه يقين بالوجوب التعليقي للتصدّق ، فيشك يوم الأربعاء في العدالة ، يحصل لديه الشك في بقاء الوجوب التعليقي فيصحّ التعبّد به ، كما يتعبّد به في موارد الاستصحاب ، ويصل إلى مرحلة الفعلية عند حصول المعلّق عليه. وجملة القول : إنّه لا إشكال في شمول الأخبار لموارد قاعدة اليقين مع الاستصحاب لا من ناحية الموضوع وهو الشك ولا من ناحية الحكم وهو التعبّد فيها يمكن أن يكون بالبقاء من دون تعرّض لحال الحدوث فلا يلزم اجتماع لحاظين ونحو ذلك. هذا ، ولا يخفى عليك أنّ المعتبر في موارد قاعدة اليقين وهو اليقين السابق والشك اللاحق بحيث لا يجتمع الوصفان في زمان واحد. وعلى هذا فقد يشكل شمول الأخبار لتلك الموارد بان ظاهر الأخبار ثبوت اليقين الفعلي كسائر الموضوعات المأخوذة في الأحكام فإنّ دليلها ظاهر في موضوعية الوجود الفعلي للحكم ، فقوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشك » ظاهر في أخذ فعليّة اليقين كالشك في حرمة النقض وهذا يختص بموارد الاستصحاب لوجود اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي في البقاء. والجواب عن هذا الإشكال : إنّ ظاهر الاخبار أنّ المعتبر هو اليقين السابق بالشيء والشك اللاحق به سواء كان الشك متعلّقا بالبقاء خاصّة أو ساريا إلى الحدوث ، فيعتبر أن يسبق اليقين الشك زمانا فلا عبرة باليقين المتأخّر عن الشك أو المقارن له حتى في موارد الاستصحاب ، ومقتضى ذلك اختصاص الاستصحاب بموارد يكون اليقين بالحدوث فيها سابقا على الشك في البقاء ، فتكون الأخبار دالة على قاعدة عامة وهي إلغاء الشك المتأخّر عن اليقين وهذه القاعدة ليست بقاعدة اليقين بالمعنى المصطلح عليه الرابع إلى التعبّد بالحدوث لما عرفت من كون التعبّد بالبقاء. وليست بالاستصحاب بالمعنى المتداول لدى الأصحاب ، بل هي شاملة لبعض موارد قاعدة اليقين والاستصحاب بمعناهما الاصطلاحي وموارد الأخبار لا تأبى من الحمل على هذا المعنى لتحقّق اليقين السابق والشك اللاحق فيها. والقرينة على ما ادّعيناه من الظهور أمران : أحدهما : التعبير في بعض نصوص الباب بقوله : « لأنك كنت على يقين » أو : « من كان على يقين فشك » فإنّ هذا التعبير صريح في كون الموضوع هو اليقين السابق لا اليقين الفعلي. والآخر : إسناد النقض إلى الشك ، فإنّه ظاهر في فرض كون الشك مما يحتمل فيه أن يكون ناقضا لليقين حتى يصحّ النهي عنه. ومن الواضح أنّ هذا إنّما يتأتّى في الشك اللاحق لليقين لأنّه رافع لاستمرار اليقين وقاصم لوحدته الاستمرارية. وأما الشك المقارن لليقين فلا موهم. لكونه ناقضا كيف؟ والمفروض اجتماعهما في آن واحد ، وبعبارة أخرى : إنّ اجتماع اليقين والشك لا يمكن تعقله إلاّ بتقيّد متعلّق اليقين بالزمان السابق فيتيقّن بالعدالة السابقة بما هي كذلك ويشك في العدالة الفعلية ، ولا يخفى أنّ الشك المزبور لا يتوهّم كونه ناقضا لليقين المزبور لاختلاف المتعلّقين ، وبواسطة ذلك ترفع اليد عن ظهور لفظ « اليقين » أو قوله : « فإنّه على يقين من وضوئه » في كون المدار على اليقين الفعلي قياسا على سائر الموضوعات. والخلاصة : إنّ الأخبار ظاهرة في تقوّم التعبّد بسبق اليقين ولحوق الشك ولا صارف لظهورها في ذلك. ونتخلص بذلك عن اللجوء إلى دعوى إرادة المتيقّن من لفظ اليقين التي يشكل تصويرها وإثباتها لأنّها متفرّعة على اعتبار اليقين الفعلي الّذي لا يصحّ إسناد النقض عليه - فراجع ما تقدّم في صحيحة زرارة الأولى تعرف -. ومن هنا يظهر اندفاع إشكال المعارضة بين القاعدة والاستصحاب الّذي بنى عليه الشيخ ، فإنّه متفرّع عن اعتبار اليقين الفعلي في باب الاستصحاب فيتحقّق موضوعه بالفعل لليقين بالفعل بعدم عدالته في الزمان السابق على اليقين به مع تحقّق موضوع القاعدة كما هو المفروض فيتعارضان. أما على ما اخترناه من اعتبار اليقين السابق في الاستصحاب والشك الّذي يتوهّم نقضه به فلا موضوع له لأنّ انتقاض اليقين السابق بالشك يتقوّم باتّصال زمان اليقين بزمان الشك ، والمفروض عدمه لتخلّل اليقين بالعدالة بينهما ، فيكون ناقضا لليقين السابق بعدم العدالة ، فلا يكون الشك الفعلي ناقضا لليقين الأسبق بعدم العدالة بل يكون ناقضا لليقين بالعدالة فيكون المورد من موارد قاعدة اليقين فقط. نعم الشك الفعلي مجتمع مع اليقين الفعلي بعدم عدالة زيد سابقا ، ولكن عرفت أنّه ليس موضوع الاستصحاب. ويتّضح من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا إشكال على ما قرّرناه من دلالة الأخبار على القاعدتين بالشكل الّذي عرفته لا من ناحية الثبوت ولا من ناحية الإثبات. وهذا الوجه لم يعهد من أحد الالتزام به بل التنبه إليه ، فتدبّره فإنّه بالتدبّر حقيق. ثم إنّه قد يشكل ما قرّرناه بأنّه يقتضي سدّ باب الاستصحاب في كثير من موارد الشبهات الحكمية بالنسبة إلى المجتهد ، بيان ذلك : إنّ سيرة المجتهدين قائمة على إجراء الاستصحاب عند الشك في سعة الحكم الكلّي الإلهي وضيقه سواء تعلّق الحكم به أم بمقلّديه كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتعيّن إذا زال تغيّره من قبل نفسه ، أو شك في استمرار خيار الغبن أو فوريّته ، ونحو ذلك ، من غير فرق بين أن يكون موضوع الحكم فعليّا كما لو كان لديه ماء متغيّر أو لم يكن فعليّا بل فرضيا ، فإنّه يجري الاستصحاب ويفتي على طبقه بالفعل ، ويعمل به مقلدوه ، ولو لم يحصل لديهم يقين وشك في ظرفه. وقد وجّه ذلك بأن يقينه وشكّه بمنزلة يقينهم وشكّهم وهذا التنزيل تقتضيه أدلّة الإفتاء. وقد تعرّضنا لبيان الإشكال وحلّه - بصورة مفصّلة - في أوّل مبحث القطع. ولا يخفى أنّ هذا يبتني على فرض موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي فإنّ المجتهد يحصل لديه يقين بالفعل بنجاسة الماء عند تغيّره وشك في بقائها على تقدير زوال التغيّر ، فهو يجري الاستصحاب بلحاظ حالة التغيّر وزوالها. وأما بناء على اعتبار اليقين السابق والشك اللاحق ، فيشكل الأمر في مثل هذه الاستصحابات ، لعدم الترتّب الزماني بين اليقين والشك بالنسبة إلى المجتهد ، بل اليقين والشك يحصلان دفعة بل قد يتقدّم الشك على اليقين ، وأما المقلّد فالمفروض أنّه غافل عن هذه الخصوصيات. فكيف يفتي المجتهد له بل لنفسه بنجاسة الماء المتغيّر إذا زال عنه التغيّر استنادا إلى الاستصحاب؟ مع عدم تحقّق موضوعه لا عنده ولا عند مقلّده. وهذا الإشكال لا محيص عنه ولكنه لا يختص بالمبنى الّذي قرّبناه بل يعمّ المبنى الآخر ، فلا يصح إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الحكم الكلّي إذا لم يتحقّق موضوعه. بالفعل حتى على الالتزام بأنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك في البقاء لوجوه : الأول : إنّ اليقين بالحكم على تقدير حصول موضوعه كاليقين بالخيار على تقدير تحقّق البيع الغبني ، مرجعه في الحقيقة إلى اليقين الفعلي بالملازمة بين الموضوع والحكم ، وأما الحكم فليس بمتيقّن بالفعل لا بوجوده المطلق ولا بوجوده الخاصّ المقيّد بالموضوع ، إذ قد لا يحصل الموضوع بل قد يكون ممتنعا - كما في مثل : لو كان فيهما آلهة إلاّ اللّه لفسدتا - فكيف يكون الحكم متيقّنا؟ والملازمة ليست مجرى الاستصحاب لأنّهما غير مشكوكة البقاء وإنّما الشك في سعة اللازم - وهو الحكم - وضيقه ، مع أنّها ليست بأمر شرعي. الثاني : إنّ الحكم الاستصحابي كسائر الأحكام له مقام جعل ومقام فعلية. والأول : متحقّق بإنشائه ، والثاني : يتحقّق بفعلية موضوعه وهو اليقين والشك ، ومقتضى ذلك أنّه لو حصل اليقين والشك لزم أن يكون الحكم الاستصحابي فعليا ، وبعبارة أخرى : إنّ الاستصحاب في مقام تطبيقه يلزم أن يكون فعليا. وعليه نقول : إنّ مؤدّى الاستصحاب هو استمرار الحكم الثابت ، ومن الواضح أنّ فعلية الاستمرار فرع فعلية الحدوث ، ففي ظرف تطبيق المجتهد الاستصحاب لتحقّق موضوعه لديه لا يكون الحكم فعليا إذ لا معنى للحكم الفعلي بالاستمرار فلا معنى لفعلية الاستصحاب ، وفي الظرف القابل للاستمرار قد يكون المجتهد غافلا بل قد يكون ميتا فلا يقين ولا شك حينئذ. فلا يصحّ جريان الاستصحاب. الثالث : إنّ الاستصحاب يعتبر في تطبيقه الاستمراري استمرار موضوعه أعني : اليقين والشك - فلا يكفي حدوثهما في إجراء الاستصحاب إلى الأبد ، وعليه يقال : إنّ اليقين والشك الحاصلين للمجتهد عند تصدّيه للاستنباط إما أن لا يستمر إلى ظرف فعلية الحكم أو يكونا مستمرين. وعلى كلا التقديرين لا جدوى في الاستصحاب الفعلي. أما على الأول : فواضح لأنّ انتقاض اليقين والشك في ظرف العمل يستلزم انتفاء الحكم الاستصحابي حينئذ ويكون الحكم الاستصحابي السابق لغوا محضا سواء كان دليل الاستصحاب يتصدّى لجعل المنجزية والمعذورية أو يتصدّى لجعل الحكم المماثل ، إذ لا معنى للتنجيز السابق للحكم الّذي يرتفع في ظرف العمل ومثله الحكم المماثل السابق لأنّه بلحاظ الطريقية إلى الواقع. فيكون المورد من قبيل جعل الحكم الفعلي قبل ظرف العمل ثم رفعه في ظرف العمل. فإنّ ذلك لغو محض. وأما على الثاني : فلا مقتضى لإجراء الاستصحاب من حين حدوث اليقين والشك بل يجري في ظرف العمل ، لعدم الفائدة في إجرائه السابق. وبعبارة مختصرة : إنّه لا أثر عملي للتنجيز السابق على ظرف العمل ، بل المدار على ظرفه فأما أن يكون موضوع الحكم الظاهري متحقّقا فهو أو غير متحقّق فيتعبّد به على الأول دون الثاني. وبهذه الوجوه : تعرف أنّ إشكال امتناع المجتهد عن إجراء الاستصحاب في موارد عدم فعلية الموضوع لا يختصّ بالمبنى الّذي قرّبناه بل يعم المبنى المشهور المعروف ، فالتفت. وعلى هذا فلا نرى وجها صالحا لرفع اليد عن ظهور النصوص فيما عرفت وهو سبحانه وليّ التسديد في القول والعمل.

ص: 381

ص: 382

ص: 383

ص: 384

الوجه الأول : ما أفاده المحقق النائيني - كما في تقريرات الكاظمي - من :

ان في الاستصحاب والقاعدة جهات أربعة : جهة اليقين. وجهة المتيقن. وجهة النقض. وجهة الحكم. ولا يمكن الجمع بين القاعدتين في اللحاظ من جميع

ص: 385

الجهات.

امّا من جهة اليقين ، فلأن اليقين في باب الاستصحاب ملحوظ بما هو طريق وكاشف عن المتيقن ، وفي القاعدة ملحوظ من حيث نفسه لبطلان كاشفيته بعد تبدله بالشك.

واما من جهة المتيقن ، فلان المتيقن في الاستصحاب لا بد وان يكون معرى عن الزمان غير مقيد به ، وفي القاعدة لا بد وان يكون مقيدا به.

وامّا من جهة النقض ، فلأن نقض اليقين في الاستصحاب باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن ، وفي القاعدة باعتبار نفس اليقين.

وامّا من جهة الحكم ، فلأن الحكم المجعول في القاعدة انما هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين ، وفي الاستصحاب هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك.

فالقاعدة تباين الاستصحاب من كل جهة من الجهات الأربعة ، فلا يمكن ان تعمهما أخبار الباب (1).

ولكن ما ذكره قدس سره غير تام بشقوقه الأربعة :

امّا الشق الأول : فلأن لحاظ اليقين في القاعدة بما هو صفة لا بما هو طريق بخلافه في الاستصحاب ، إذا كان لأجل عدم اليقين الفعلي في القاعدة حال التعبد ، فلا كاشفية له ووجود اليقين الفعلي في الاستصحاب فيرد عليه :

أو لا : ان الملحوظ في القاعدة هو اليقين الّذي كان سابقا ، وهو كما كان يشتمل على جهة الصفتية كذلك كان مشتملا على جهة الطريقية والكاشفية ، فيمكن حينئذ لحاظه بهذه الجهة - أعني : جهة الطريقية - ، كما ادعى لحاظه بجهة

ص: 386


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 589 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الصفتية.

وثانيا : ان مقام الجعل والإنشاء لا يرتبط بمقام فعلية المجعول ، فالجاعل في مقام الجعل انما يلاحظ مفهوم اليقين لا واقعه ووجوده - إذ قد لا يكون هناك يقين أصلا حال الجعل - ، وهو - أعني : مفهوم اليقين - يشتمل على الخصوصيّتين خصوصية الصفتية وخصوصية الطريقية ، فيمكن لحاظه حينئذ بخصوصية الطريقية.

وفي مقام الخارج والمجعول ، وان كانت الطريقة غير ثابتة لعدم اليقين الفعلي ، إلاّ انه أجنبي عن مقام الجعل ولحاظ الجاعل ، وإلاّ فلا يمكن أخذه بما هو صفة أيضا لعدم ثبوت الصفتية لأجل عدم اليقين. فما ذكره قدس سره خلط بين مقام الجعل ومقام المجعول.

وامّا الشق الثاني : فلان أخذ الزمان في المتيقن في القاعدة وعدم أخذه وإلغائه في الاستصحاب.

ان كان لأجل تقوم الشك في البقاء الّذي هو ملاك الاستصحاب بإلغاء الزمان ، والشك في الحدوث الّذي هو ملاك القاعدة بملاحظته. فذلك يمكن استفادته من إطلاق الشك ، فيراد الأعم من الشك في البقاء والشك في الحدوث ، بلا احتياج للحاظ الزمان وعدمه ، فلا حاجة إلى أخذ هذا القيد.

وان كان لأجل توقف صدق النقض في الاستصحاب على إلغاء خصوصية الزمان ، لأنه مع لحاظها يكون المشكوك مباينا للمتيقن ، فلا يصدق النقض ، لأنه مبني على تحقق الاتحاد بينهما. فهو ممنوع كما ستعرفه قريبا - عند بيان ما أفاده المحقق الخراسانيّ - ، من عدم تأثير اعتبار الزمان في صدق النقض ، وانه لا يحتاج فيه إلى إلغاء الزمان. فانتظر.

وامّا الشق الثالث : فلأنه ..

ان كان المراد من كون النقض في باب الاستصحاب مستندا إلى اليقين

ص: 387

بلحاظ الجري العملي على طبق المتيقن ، ان النقض حقيقة مستند إلى المتيقن ، واليقين قد لوحظ مرآة له.

فهذا خلاف ما التزم به قدس سره من كون النقض في هذا الباب مسندا إلى نفس اليقين دون المتيقن.

وان كان المراد من اسناد النقض إلى اليقين في باب الاستصحاب لا محصل له ولا معنى إلاّ بلحاظ الأثر العملي والجري العملي على طبقه ، من جهة انه لا معنى لجعل الشارع لليقين تكوينيا ، وانما هو جعل تعبدي ، والجعل التعبدي انما يكون بلحاظ الجري العملي على طبق المجعول ، كما هو شأن جميع المجعولات والاعتبارات الشرعية ، فلو لم يكن للجعل أثر عملي فلا معنى له ولا محصل.

فهذا الأمر مما تشترك فيه القاعدة والاستصحاب ، لأن الملاك في اعتبار الجري العملي في جعل اليقين في باب الاستصحاب ، متحقق بالنسبة إلى جعل اليقين في القاعدة ، وهو ما تسالم عليه الكل من ان كل جعل واعتبار شرعي لا بد وان يكون بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار العملية ، وإلاّ فلا معنى له ، فلا معنى لجعل الشارع ملكية زيد للقمر أو النجوم - مثلا -.

وان كان المراد من اعتبار الجري العملي في الاستصحاب هو كون السر في توقف صدق النقض على ذلك ، باعتبار انه مع لحاظ كل من الشك واليقين مستقلا لا يكون لأحدهما ارتباط مع الآخر ، لأن الشك متعلق بالبقاء واليقين بالحدوث ، فيتوقف صدق النقض على ملاحظة ما يقتضيه السابق من الجري العملي في الآن اللاحق ، فمع الشك وعدم العمل على طبق الحالة السابقة في حاله يكون ذلك نقضا لليقين السابق ، لاقتضائه الجري العملي لا حقا ، فعدم النقض حينئذ يكون بلحاظ الجري العملي. وهذا بخلاف القاعدة ، لأن الشك تعلق بما تعلق به اليقين حدوثا ، فلا يحتاج في صدق النقض إلى اعتبار الجري

ص: 388

العملي الّذي هو مقتضى اليقين السابق.

فيرد عليه : انه قد حققنا في محله ان صدق النقض لا يحتاج إلى أكثر من نحو ارتباط بين متعلق الشك واليقين ، وإلاّ فاليقين السابق لا يقتضي الجري العملي الا في حال تحققه وهو حال الحدوث. امّا في حال الشك ، فهو لا يقتضي الجري العملي على طبق المتيقن السابق كما لا يخفى.

وامّا الشق الرابع : فلأنه من الممكن استفادة الحكم بالبقاء والحكم بالحدوث من إطلاق النهي عن النقض وإلغاء الشك ، فانه يشمل الشك في الحدوث والشك في البقاء ، ويختلف بحسب الشك ، فان كان الشك في الحدوث فالإلغاء عبارة عن الحكم بالحدوث. وان كان في البقاء فهو عبارة عن الحكم به.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل ومحصله : انه بعد لحاظ اتحاد متعلقي الشك واليقين - لتوقف صدق النقض والإبقاء على ذلك - لا بد من إلغاء خصوصية الزمان في الاستصحاب ، وحينئذ ففي الاستصحاب يلحظ المتيقن بدون الزمان ، وفي القاعدة يلحظ المتيقن مع الزمان فاللحاظان في القاعدتين مختلفان ، وبذلك يختلف المؤدى في إحداهما عن المؤدى في الأخرى. وحينئذ ..

فان أفيد هذان المؤديان بمفهوم اسمي يعمهما ، بحيث يكشف عن اللحاظين المذكورين - كما إذا قيل : « لا تنقض اليقين بالشك الّذي له تعلق بما تعلق به اليقين » -. فهو. وإلاّ فلا يمكن أداء هذين المؤديين بمعنى حرفي لا يكاد يراد منه إلا أحدهما ، لعدم إمكان اجتماع اللحاظين المتنافيين في إنشاء واحد.

ولا يخفى ان أخبار الباب كذلك ، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يعم المؤديين بلحاظهما المتنافيين ، فلا يستفاد منها إلا الاستصحاب (1).

ص: 389


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /233- الطبعة الأولى.

ويرد عليه :

أولا : انه لا وجه للحاظ المتيقن بدون الزمان في الاستصحاب ، بل لا يعتبر سوى تعلق الشك بفعلية الشيء على حد تعلق اليقين به الملازم لصدق الشك في البقاء - كما ستعرفه - لا ان يؤخذ الزمان في متعلق أحدهما لا أنه يلحظ عدم الزمان.

وثانيا : انه على تقدير اعتبار هذين اللحاظين في القاعدتين ، فالحاكم حين إنشائه الحكم وجعله إياه امّا ان يجتمع في نفسه هذان اللحاظان أو لا يجتمعا وبعبارة أخرى : اما ان يلحظ المتيقن باللحاظين أو لا والثاني خلف ، لأن المفروض اعتبارهما والأول لا يحتاج في الدلالة عليه في مقام الإثبات إلى وجود مفهوم اسمي ، بل يكتفي فيه بالقرينة الحالية أو بعض خصوصيات الكلام ، كإسناد النقض وشبهه.

وبعد كل هذا نقول : الحق هو امتناع استفادة كلتا القاعدتين من الأخبار لوجوه :

الأول : ان القطع واليقين حين يتعلق بشيء ، فهل يتعلق به بذاته الملازم للزمان ، أو انه يتعلق به بما هو مقيد بالزمان ، بمعنى انه يتعلق بالحصة الخاصة منه ، وهي المقيدة بالزمان الخاصّ؟. لا ينبغي الإشكال في انه يتعلق بذات الشيء. مع عدم ملاحظة الزمان - وان لازم الزمان - ، بل كثيرا ما يكون الزمان مغفولا عنه. وهذا أمر عرفي وجداني لا يحتاج في إثباته إلى إقامة برهان.

ثم إذا تعلق اليقين في زمان ما كيوم الجمعة بفعلية شيء كعدالة زيد ..

فقد يحصل الشك في يوم السبت في فعلية ذلك الشيء - أعني : بذات العدالة بلا تقيد بالزمان - ، فيلزمه كونه شكا في البقاء.

وقد يتعلق الشك بذلك الشيء حدوثا ، بمعنى انه يتعلق بالعدالة التي

ص: 390

تعلق بها اليقين ، فلا بد حينئذ من لحاظ الزمان في متعلقه ، لأن المفروض أخذ الزمان السابق - وهو زمان اليقين - في متعلق الشك ، فانه متعلق بفعلية العدالة في يوم الجمعة. وبهذا الاعتبار يكون الشك في الحدوث.

فالشك تارة يتعلق بما تعلق به اليقين سابقا بلا لحاظ الزمان فيه ، بل انما يتعلق بفعلية الشيء كما تعلق بها اليقين. وأخرى يتعلق به بلحاظه.

والأول : مورد للاستصحاب. والثاني مورد القاعدة.

ولا يخفى ان سنخ ارتباط الأول مع اليقين يختلف عن سنخ ارتباط الثاني ، نظير ارتباط الأوصاف بالذوات ، فالضرب - مثلا - الصادر من زيد يختلف ارتباطه بزيد سنخا عن ارتباط الضرب الواقع عليه به ، فان الأول يرتبط به بنحو الصدور ، والثاني بنحو الوقوع عليه.

فارتباط الشك مع اليقين السابق المتعلق بذات الشيء إذا كان متعلقا بفعلية الشيء بلا لحاظ الزمان ، يختلف سنخا عن ارتباط الشك معه إذا كان متعلقا بفعليته بلحاظ الزمان السابق فيه. وهذا مما لا إشكال فيه أيضا.

وعليه ، فإذا كان في الدليل المتكفل لإلغاء الشك مفهوم اسمي يعبّر به عن ارتباط الشك باليقين - كما إذا قيل : لا تنقض اليقين بالشك المرتبط به - ، كان ذلك الدليل متكفلا لأداء القاعدتين بلا إشكال ، لأن المفهوم الاسمي بإطلاقه يعم نحوي الارتباط وسنخيه.

واما إذا لم يكن فيه مفهوم اسمي ، بل دلل على ارتباط الشك باليقين بواقع الارتباط الّذي هو معنى حرفي ، وهو النسبة - مثلا - ، كان الدليل متكفلا لإحدى القاعدتين ، لأنه لا يمكن لحاظ بالشك حينئذ بكلا الارتباطين حينئذ ، بل لا بد من لحاظه بأحدهما اما بالأول أو بالثاني ، فيكون متكفلا لأحد القاعدتين بحسب الارتباط الملحوظ في الشك ، لأن واقع الارتباط سنخ وجود فلا يصلح للانطباق على أنحائه ، بل يختص بنحو واحد يوجد به - كما قرر ذلك في بيان

ص: 391

المعنى الحرفي - ، فالتعبير عن الضرب المرتبط بزيد ارتباط الصدور والضرب المرتبط به ارتباط الوقوع عليه انما يصح معا إذا عبّر عن الارتباط بمفهومه الاسمي ، كما إذا قيل : « الضرب المرتبط بزيد ». امّا إذا دلل عليه بواقعه ، وهو النسبة ، كما إذا قيل : « ضرب زيد » ، فلا يشمل كلا الضربين ، بل يشمل أحدهما بحسب ما هو الملحوظ من الارتباط الصدوري أو الوقوعي.

والّذي ينبغي ان يعلم : ان الأمر الّذي يرتكز عليه ما ذكر هو عدم لحاظ الزمان في متعلق اليقين في قاعدة اليقين ، وانه متعلق بذات الشيء بلا لحاظ الزمان أصلا ، وإلاّ فمع لحاظ الزمان كان ارتباط الشكين به بسنخ واحد ، لأن كلا منهما تعلق بما تعلق به اليقين ، فارتباطهما باليقين بسنخ واحد كارتباط الشك باليقين بعدالة زيد واليقين بعدالة عمرو ، فيمكن أداء هذا الارتباط بواقعه. ولكنك عرفت ان متعلق اليقين هو الذات بلا لحاظ الزمان. فاليقين في كلتا القاعدتين سنخ واحد لا سنخان.

وبالجملة : فوحدة سنخية اليقين تستلزم تعدد سنخية الارتباط ، وتعدد سنخيته تستلزم وحدة سنخية الارتباط. وقد عرفت ان التحقيق وحدة سنخية اليقين.

وإذا تقرر انه لا بد من لحاظ الدليل المتكفل للحكم. فان كان التعبير فيه عن الارتباط بمفهوم اسمي ، كان متكفلا لأداء القاعدتين. وان كان بواقعه الّذي هو معنى حرفي تكفل أداء إحداهما ، فلا بد من ملاحظة اخبار الباب ، وان التعبير فيها عن ارتباط الشك باليقين هل هو بمفهومه الاسمي أو بمعناه الحرفي؟ ، فنقول : ان اخبار الباب من قبيل الثاني ، فان ارتباط الشك باليقين فيها انما هو بواقعه ، إذ ليس فيها مفهوم اسمي يكشف عنه ، فتمتنع استفادة كلتا القاعدتين منها ، بل المستفاد هو خصوص الاستصحاب ، لأنها واردة في موارده - أعني : الشك في البقاء -.

ص: 392

ودعوى : انه ليس في اخبار الباب في مقام الإثبات ما يدل على لحاظ ارتباط الشك باليقين بمفهومه الاسمي أو الحرفي ، لأنه مطلق ، واستفادة اشتراط الارتباط انما كانت من اسناد النقض وتعلقه به ، فيمكن ان يريد مطلق الارتباط ، فيتمسك بإطلاق الشك في إثبات ذلك.

مندفعة : بان ما ذكر من عدم الدلالة في مقام الإثبات على أخذ الارتباط بأحد النحوين ، وان كان تاما في نفسه ، إلاّ انه لا يجدي في التمسك بإطلاق الشك ، لأن التقييد دائر بين المتباينين. توضيح ذلك : انه إذا لوحظ عند الجعل مطلق الارتباط بين الشك واليقين ، فلا بد من لحاظه بمفهومه الاسمي ، فحينئذ يحتاج إلى وجود ارتباط يربطه مع اليقين والشك ، كما هو شأن المفاهيم بعضها مع بعض ، فانه لا ارتباط بينها الا بواقع الربط المعبر عنه بالوجود الرابط ، وهو لحاظ هذا المفهوم مرتبطا بذلك الّذي ليس له ما بإزاء في الخارج ، وهو المعبر عنه بالمعنى الحرفي. أما إذا لوحظ سنخ واحد من الارتباط ، فلا يحتاج إلى لحاظ مفهوم الارتباط الاسمي ، بل يقيد اليقين والشك بواقع الارتباط.

فعلى الأول : يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك والارتباط.

وعلى الثاني : يكون واقع الربط ملحوظا بين اليقين والشك فقط فيكون الربط جزئيا واقعا اما على نحو الربط في الاستصحاب أو في القاعدة.

فيدور الأمر حينئذ بين المتباينين ، فيكون الكلام مجملا بالنسبة إلى مورد الشك ، وهو غير الارتباط المعتبر في الاستصحاب ، فالتفت وتدبر جيدا.

الثاني : وهو الّذي أشار إليه الشيخ في آخر كلامه - : قصور المقتضي للشمول ، فانه بعد تسليم إمكان إرادة كلتا القاعدتين من الاخبار ثبوتا ، يقال : بان الاخبار ظاهرة في الاستصحاب دون القاعدة ومنصرفة إليه دون الأعم ، وذلك لأن ظاهر القضايا في الأحكام إرادة الموضوع الفعلي منه ، فإذا قيل - مثلا - : « أكرم العالم » فظاهره وجوب إكرام العالم الفعلي لا من كان عالما أو يكون.

ص: 393

وعليه ، فظاهر اليقين في الاخبار هو اليقين الفعلي كظهور الشك فيه ، وذلك انما ينطبق على مورد الاستصحاب ، لأن اليقين بالعدالة سابقا موجود حال الشك. بخلاف مورد القاعدة ، فان اليقين ارتفع ، وليس بموجود فعلا ، لسراية الشك إلى متعلقه بخصوصية الزمان ، فتخصص الاخبار ظهورا بالاستصحاب.

ومحصل الوجه : دعوى ظهور وانصراف الاخبار إلى خصوص الاستصحاب.

الثالث - وهو الّذي أفاده الشيخ - : لزوم التعارض في مدلول الرواية ، لأنه كما يكون لدينا يقين بوجود الحادث - كالعدالة - ، كذلك يكون لدينا يقين بعدمه لأنه حادث والحادث مسبوق بالعدم ، فالشك فيما تيقن به من وجود الحادث ينتسب إلى فردين من اليقين ويعارضهما اليقين السابق بالعدالة واليقين الأسبق بعدم العدالة ، ومقتضى الاستصحاب عدم نقض اليقين بعدمها بهذا الشك والحكم بعدمها في زمان اليقين بها. ومقتضى القاعدة عدم نقض اليقين بالعدالة به والحكم بها في زمان اليقين بها. فيحصل التعارض بين القاعدتين ، ولا يمكن ان يتكفل دليل واحد لأداء قاعدتين متعارضتين ، لأن جعل الحجية للمتعارضين بجعل واحد ممتنع.

هذا تمام الكلام في بيان إمكان أداء القاعدتين بدليل واحد ثبوتا وإثباتا - الّذي سبق تحت عنوان الشرط الثاني - ، وقد عرفت الامتناع إثباتا والتفصيل ثبوتا بين الدليل المتكفل للمفهوم الاسمي الدال على مطلق الارتباط والمتكفل للمعنى الحرفي الّذي هو واقع الارتباط.

الثالث من شروط الاستصحاب ان يكون البقاء مشكوكا.
اشارة

اما مع العلم به أو بعدمه ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب ، سواء كان إحراز البقاء أو الارتفاع وجدانيا أو تعبديا ، كما إذا قام الدليل الاجتهادي على وفق الحالة السابقة أو خلافها ، وان كان قيامه غير رافع للشك الوجداني ،

ص: 394

ولكنه لا كلام في تقديمه على الاستصحاب.

وانما الكلام في انه - أعني : التقدم - بأي نحو من الأنحاء ، هل هو من باب التخصيص. أو التخصص. أو الحكومة. أو الورود؟. ولا بد في بيان ذلك من بيان المراد بكل من هذه الأمور ، وبيان الوجه في تقدم الدليل المتضمن لأحدها على الدليل المقابل له ، كتقدم الحاكم على المحكوم ونحوه.

فالكلام يقع في جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في بيان المراد من هذه الأمور :

فأمّا التخصص ، فهو خروج الفرد عن الموضوع العام حقيقة تكوينا وذاتا ، كخروج الجاهل عن دليل : « أكرم العالم ».

وامّا التخصيص ، فهو كون الدليل متضمنا لعدم ترتب الحكم على بعض افراد العام الّذي ثبت له الحكم بدليل آخر ، كنسبة « لا تكرم زيدا العالم » إلى : « أكرم العلماء ».

وامّا الورود ، فهو كون الدليل متضمنا لخروج هذا الفرد عن الموضوع العام حقيقة ، ولكن لا تكوينيا بل بواسطة التعبد الشرعي ، فهو يشترك مع التخصص في الجهة الأولى - أعني : الخروج الحقيقي - ، ولكنه يختلف عنه في الجهة الثانية - أعني : كونه ببركة التعبد لا ذاتيا - ، وذلك كنسبة الدليل الاجتهادي إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية ، فانه بقيام الدليل في المورد يرتفع موضوع القاعدة وهو « لا بيان » فيه حقيقة لأنه بيان جزما ، ولكن كونه بيانا كان بجعل الشارع ، إذ لو لا اعتباره له لما كان بيانا حقيقة.

وكون هذه الأمور بالمعنى الّذي ذكرناه مما لا إشكال فيه ولا خلاف ، وان كان قد يظهر من المحقق الخراسانيّ في الكفاية إرادة معنى آخر من الورود (1)

ص: 395


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /329- 330 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

كما سيتضح في بيان ما ذكره من الوجه في تقديم الدليل الوارد على المورد.

وامّا الحكومة ، فقد وقع الكلام في بيان ضابطها وتعريفها.

والّذي ذكره الشيخ في هذا المقام : ان معنى الحكومة - على ما سيجيء في باب التعادل والترجيح - ان يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عما يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم. أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم. وحاصله : تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة الموضوع في ترتيب أحكامه عليه ، أو داخل في موضوع منزلة الخارج منه في عدم ترتيب أحكامه عليه (1).

وامّا ما ذكره في مبحث التعادل والترجيح فهو : ان ضابط الحكومة ان يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض افراد موضوعه فيكون مبينا لمقدار مدلوله ، مسوقا لبيان حاله مفرعا عليه - يعني : إنه لو لا الدليل المحكوم لكان الدليل الحاكم لغوا (2) -.

ولا بد في بيان المراد من هذه العبارة من بيان ما تحتمله العبارة ، وهو وجهان :

الأول : ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى الدليل الآخر في مقام دلالته على المراد ، فيكون تارة مضيقا لدائرة دلالته. وأخرى موسعا لها. كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « أعني : بالعلماء الفقهاء ». فان الدليل الثاني ناظر إلى مقام دلالة الدليل الأول ومضيق لها.

الثاني : ان يراد ان الدليل الحاكم ما كان ناظرا إلى نفس الحكم مع قطع النّظر عن دلالة الدليل عليه ومقدارها ، فيكون النّظر إلى المدلول بذاته لا بما انه مدلول للدليل.

ص: 396


1- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /400- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /432- الطبعة الأولى.

فهل يراد من العبارة الوجه الأول - أعني كون الدليل ناظرا إلى الدليل في مقام دلالته بتعبير ، أو المدلول بما هو مدلول بتعبير آخر - أو الوجه الثاني ، وهو كونه ناظرا إلى المدلول بذاته من دون نظر إلى دلالة الدليل عليه؟.

الظاهر من صدر العبارة - وهو ما ذكرناه - هو الأول. فان التعبير بالنظر إلى الدليل وبيان حاله ورفع الحكم الثابت بالدليل ظاهر في كون النّظر إلى مقام الدلالة والإثبات والمدلول بما هو مدلول لا نفس المدلول وذاته ، وان المنظور إليه هو الدليل ، كما لا يخفى.

ولكن هناك امرين قد يدعى صلاحيتهما للقرينة على كون المراد بالعبارة المذكورة هو الوجه الثاني :

الأمر الأول : ما ذكره بعد هذا مثالا للحكومة من حكومة الدليل الدال على أنه لا شك لكثير الشك على الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الشك ، بتعليل ذلك - أعني : الحكومة - بأنه لو فرض انه لم يرد من الشارع حكم المشكوك لم يكن مورد للدليل النافي لحكم الشك. فان التعليل بورود حكم المشكوك يظهر منه ان الدليل النافي ناظر إلى نفس الأحكام الثابتة للشك ونفيها لا إلى الدليل الدال عليها وتعيين مقدار دلالته ، وإلاّ لكان الأولى التعليل بورود الأدلة على حكم الشك وكون النّظر إليها.

الأمر الثاني : جعله الدليل الدال على التنزيل الموجب لتوسعة الموضوع من موارد الحكومة - كما هو صريح عبارته الأولى - ، مع انه ناظر إلى ثبوت الحكم للمنزّل لا إلى دلالة الدليل الآخر - كما سيتضح -.

إلا ان الأمر الأول لا يصلح للقرينة لعدم تماميته ، وذلك لأن التنزيلات المتكفلة لتضييق دائرة الموضوع ، سواء في الموضوعات التكوينية أو الموضوعات الشرعية انما تصح فيما إذا كان للموضوع التكويني أو الشرعي أثر ما. فتنزيل : « زيد » منزلة الإنسان انما يصح لو كان هناك أثر يترتب على الإنسان وإلاّ لكان

ص: 397

لغوا. ومثله في الموضوعات الشرعية ، فحين يقول - مثلا - : « الفقاع ليس بخمر » انما يصح لو كان للخمر أثر شرعي يترتب عليه ، ومع عدمه يمتنع التنزيل للغويته.

وترتب الأثر الّذي يكون التنزيل بلحاظه ليس هو ترتبه الواقعي - أعني : وجود الأثر وتحققه - ، فان نفيه بالتنزيل ممتنع. وبعبارة أخرى : ان التنزيل لا يكون بلحاظ الأثر الثابت الموجود حقيقة ، وانما هو الترتب الاعتقادي باعتبار وجود المقتضي ظاهرا لذلك - أعني : لشمول الفرد - ، فينشأ منه تخيل واعتقاد شمول الأثر لهذا الفرد لأنه من الموضوع ، فيكون دليل التنزيل مانعا من تأثير المقتضي ومحددا لشموله ومضيقا لدائرته ، ومفيدا لكون هذا المقتضي الّذي يتخيل انه مقتض لشمول الحكم لهذا الفرد قاصرا عن ذلك ، وان الشمول غير مراد جدا.

وهذا المقتضي في التكوينيات عبارة عن العوارض الخارجية والصفات العارضة على الكائن الموجبة لترتب الحكم عليه.

وامّا في الشرعيات ، فهو عبارة عن العمومات والمطلقات ، فإنها هي التي تقتضي الشمول والاستغراق ، فإذا كان دليل التنزيل ناظرا إلى الأثر الاعتقادي الناشئ من اقتضاء الدليل العام أو المطلق لشمول الفرد ، فمفاده عرفا هو النّظر إلى نفس دلالة العام أو المطلق بتضيق دائرة دلالته.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الدليل النافي للشك انما يتكفل تنزيل شك كثير الشك بمنزلة عدمه ، فهو ينظر لدلالة العام الموضوع للحكم على شمول هذا الفرد ، لأنه هو المقتضي للشمول ، فيضيق مدلوله والمراد الجدي منه.

فإثبات نظر الدليل المتكفل لإلغاء الشك عرفا إلى أدلة أحكام الشك ، وبيان الجهة التي بها يرى العرف نظر هذا الدليل بمدلوله اللفظي إلى تلك الأدلة في مقام دلالتها ، يبتني على شيئين :

ص: 398

أحدهما : كون التنزيل بلحاظ ترتب الأثر.

والآخر : كون الملحوظ في الأثر هو الأثر الاعتقادي التصوري الناشئ من وجود المقتضيات.

وهذا انما يتم في الدليل المتكفل للتضييق. اما المتكفل للتوسعة فلا يتم ، لأنه يمكن ان يكون بلحاظ ترتيب الأثر الواقعي عليه ، بان يكون بلحاظ ثبوت الحكم لهذا الفرد واقعا ، بلا لحاظ التنزيل فلا يكون ناظرا إلى دلالة الدليل المنزل عليه ، بل إلى ثبوت الحكم لهذا الفرد.

وعلى كل فالأمر الأول لا يصلح للقرينة التي قد تدعى.

واما الأمر الثاني : فقد تقرب تماميته في نفسه : بان الدليل الثابت به توسعة موضوع الحكم لا يخلو في مقام اللّب والواقع من أحد أحوال أربعة :

الحال الأول : ان يكون متكفلا لبيان فردية أمر حقيقة لعنوان ما مأخوذ في موضوع الحكم الشرعي ، كما لو كانت فرديته لذلك العنوان أمرا مجهولا لدى العرف ، فيتكفل هذا الدليل كشفها.

ولعل قوله علیه السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس » (1). من هذا النحو ، فانه بلسان بيان ان الفقاع فرد حقيقي للخمر وان لم يعدّه الناس من افراده لاستصغاره.

الحال الثاني (2) : ان يكون بلسان فردية شيء ادعاء لا حقيقة ، بان يدعى دخول هذا الشيء في جنس العنوان المأخوذ في موضوع الحكم مع دخوله فيه حقيقة ، ثم يستعمل اللفظ الموضوع لذلك المعنون فيه ويكون الاستعمال حقيقيا ، لأن التصرف في أمر عقلي وهو التطبيق لا في أمر لغوي وهو الاستعمال.

الحال الثالث : ان يكون متكفلا لبيان اعتبار شيء بأنه ذلك العنوان التي

ص: 399


1- وسائل الشيعة 17 / 292 باب 28 من أبواب الأشربة المحرمة حديث 1.
2- استشكل السيد الأستاذ - دام ظله - في الدورة الثانية في مجرد الفرد الادعائي ولم يبين وجهه ( منه عفي عنه ).

ترتب عليه الحكم أو منه ، وصحة الاعتبار متوقفة على أن يكون الأثر مترتبا على الفرد الاعتباري اما بخصوصه أو مع الفرد الحقيقي ، ومع عدم العلم بذلك يستكشف ترتب الأثر على الفرد الاعتباري بدلالة الاقتضاء بعد ورود دليل الاعتبار.

الحال الرابع : ان يكون متكفلا لتنزيل شيء منزلة آخر في ثبوت الحكم الثابت لذاك بلا بيان انه فرد حقيقي أو ادعائي أو اعتباري.

وليعلم ان هذه الأحوال تتأتى في دليل التضييق أيضا.

ولا يخفى ان الدليل على كل حال من الأحوال الثلاثة الأول ناظر إلى الدليل المحكوم في مرحلة دلالته وإثباته وللمدلول بما هو مدلول ، لأنه يتكفل التوسعة في مدلوله ، فانه بعد ان يكشف عن ان هذا الشيء فرد حقيقي للموضوع ، أو انه قد ادعى فرديته أو اعتبره منه ، يكون العنوان المأخوذ موضوعا في الدليل المحكوم أوسع دلالة ، لأنه حينئذ يعم الفرد الحقيقي المغفول عنه أو الادعائي أو الاعتباري ، فلا محالة يكون الدليل الوارد على أحد هذه الأنحاء الثلاثة ناظرا إلى دلالة الدليل الآخر موسعا لها ، لأن مفاده ان المراد من العنوان العام الأعم.

اما دليل التنزيل ، فليس هو ناظرا إلى الدليل المحكوم في مرحلة دلالته ، بل إلى المدلول بذاته ، لأنه لا يتكفل سوى تنزيل هذا منزلة ذاك. والتنزيل انما يكون في ثبوت الحكم له وبلحاظه ، وهذا لا يوجب التوسعة في مدلول ذلك العنوان ، فلا نظر إلى مدلوله بما هو مدلول ، فلا يكون مفاد دليله تعميم دلالة ذلك العنوان لهذا الفرد.

وبهذا تعرف خروج دليل التنزيل المتكفل لتوسعة موضوع الحكم عن مورد الحكومة بتفسير الشيخ ، بناء على حمله على ما ذكر ، مع ان صريح كلامه قدس سره عدّه من مواردها.

ولكنه لا يخفى ان دليل التنزيل ناظر عرفا بمدلوله اللفظي إلى الدليل

ص: 400

الآخر في مقام دلالته ، وذلك وان لم يكن ظاهرا في بعض الموارد ظهورا تاما ، كما في : « الطواف في البيت صلاة » (1) - بناء على انه يتكفل التنزيل لا الاعتبار - ، فانه ناظر بدوا إلى ثبوت الحكم ، وهو شرطية الطهارة للطواف مع قطع النّظر عن دلالة دليل عليه ، وهو لا يوجب التوسعة في مدلول : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) لأنه لا يتكفل ثبوت نفس ذلك الحكم المنشأ بالدليل المحكوم للطواف بل إثبات حكم آخر مماثل له ، فهو غير ناظر إلى دلالة الدليل المذكور على الحكم.

إلاّ انه يظهر تماما في موارد أخر كموارد قاعدة الفراغ - على ما سيجيء - ، فان القاعدة تتكفل تنزيل هذا الفرد المشكوك منزلة المأمور به ، ويترتب عليه نفس الحكم المنشأ والمترتب على المأمور به لا حكم مماثل ، لما ستعرفه في محله ، فيكون ناظرا إلى المدلول بما هو مدلول للدليل.

فنكتة الفرق بين المقامين : ان أحدهما يكون التنزيل فيه بلحاظ ثبوت نفس الأثر المنشأ الثابت للعنوان الموضوع للحكم وذلك بجعل موضوع الحكم أعم من الفرد الحقيقي والفرد المنزل عليه ، فيكون ناظرا إلى الدليل ، مثل المتكفل للتضييق بلحاظ نفي الأثر الّذي يتخيل ثبوته بالدليل. وان الآخر يكون التنزيل بلحاظ ثبوت أثر مماثل لذلك ، فيكون ناظرا إلى المدلول بذاته بدوا.

وبالجملة : لا فرق بين دليل التنزيل المتكفل للتضييق والمتكفل للتوسعة في كون كل منهما ناظرا إلى الدليل والمدلول بما هو مدلول.

ولكن تعليل هذا الظهور العرفي في الدليل المتكفل للتضييق واضح كما عرفت. وقد لا يتضح تعليله فيما تكفل التوسعة من الأدلة.

وعلى تقدير انه لم يكن ناظرا إلى الدليل ، فهو غير مهم في المقام ومحط

ص: 401


1- عوالي اللئالي 2 / 163 حديث 3.
2- وسائل الشيعة 1 / 256 باب 1 من أبواب الوضوء حديث 1.

الكلام من بيان ضابط الحكومة وتحديد معناها ، لأنه لا إشكال في الأخذ به مع الدليل الآخر لعدم التنافي ظاهرا بينهما ، فسواء كان من موارد الحكومة أو لم يكن فهو مأخوذ به. وانما المهم هو الدليل المتكفل للتضييق ، لمنافاته ظاهرا مع الدليل الآخر ، ولأجل ذلك كان ضبط الحكومة وخصوصياتها بلحاظه والنّظر إليه.

فيتحصل لدينا : انه لا مانع من استظهار كون الحكومة على رأي الشيخ هي النّظر إلى الدليل الآخر ببيان حاله ومقدار دلالته ، لا إلى ذات المدلول ، ولا قرينة تصرف هذا الظاهر عن ظهوره.

ثم المراد بالنظر بالمدلول اللفظي - في تعبير الشيخ - ، هو كون اللفظ بدلالته ناظرا إلى ذاك الدليل اما بالدلالة المطابقية ، كما في الدليل المتضمن لكلمة التفسير وأداة الشرح مثل : « أعني ، وأي » وغيرهما. أو بالدلالة الالتزامية العرفية ، كما في مورد تكفل الدليل الاعتبار ، فانه ناظر إلى الدليل الآخر التزاما بحسب فهم العرف - كما عرفت -.

والسر في أخذ هذا القيد - أعني : كون النّظر بالمدلول اللفظي - في ضابط الحكومة هو إخراج التخصيص عن تعريفها ، لأن الحكومة والتخصيص وان كانا يشتركان في كونهما دالين لبا على تضييق المراد الجدي من العام ، لكن التخصيص انما يدل عليه بالعقل لا بالدلالة اللفظية كما في الحكومة ، فانه لفظا لا يتكفل سوى نفي الحكم عن بعض افراد العام ، ولكن العقل - بواسطة بعض المقدمات العقلية البرهانية - يحكم بعدم إرادة الكل من العام جدا. بخلاف الحكومة ، فان الدليل الحاكم ناظر إلى هذه الجهة من الدليل الآخر بمدلوله اللفظي.

وامّا المراد بالتفرع في قوله : « متفرعا عليه » ، فهو ان الدليل الحاكم يكون لغوا لو لا الدليل المحكوم ، لأنه بعد ان كان ناظرا إليه ومبينا لحاله كانت نسبته إليه نسبته القرينة إلى ذي القرينة والشارح إلى المشروح ، فيتفرع عليه تفرع القرينة على ذيها والشارح على المشروح.

ص: 402

ولكن المحقق الخراسانيّ لم يرتض اعتبار هذا القيد ، وأفاد : بأنه لا يعتبر تفرع الدليل الحاكم على الدليل المحكوم. والمهم في إثبات ما ذكره هو ما ذهب إليه من انتقاض اعتبار هذا القيد بحكومة الأمارات على الأصول - الثابتة عند الشيخ - ، لأن الأمارة لا تتفرع على وجود الأصول ، بل لو لم يكن في البين أصل ما ، لكانت الأمارة ثابتة الاعتبار ومستقلة الثبوت.

وأو عزّ ذلك إلى ان الأمارة تتكفل جهتين :

الأولى : جهة تضمنها حكما مستقلا - كالمنجزية والمعذرية - ، وهي جهة تامة في نفسها.

الثانية : صلاحية النّظر إلى دليل آخر. فلو لم يكن هناك دليل تصلح هي للنظر إليه ، فلا تكون لغوا ، بل تثبت بلحاظ الجهة الأولى.

ولأجل ذلك التزم بتفسير الحكومة : بأنها كون الدليل بحيث يصلح للنظر إلى دليل آخر ، فالمأخوذ فيه صلاحية النّظر لا النّظر الفعلي ، بمعنى انه ان كان هناك دليل يصلح لأن ينظر إليه هذا الدليل فهو ناظر إليه فعلا ، وإلاّ فلا يحتاج في حكومته كونه ناظرا فعلا ، وبذلك عمم ورود الدليل الحاكم لما إذا كان قبل دليل المحكوم وبعده (1).

وكأنّه استفاد من كلام الشيخ في اشتراط النّظر الفعلي لزوم كون الدليل الحاكم واردا بعد ورود المحكوم.

إلاّ ان هذه الاستفادة ممنوعة إذ ليس في كلام الشيخ ما يشير إليها. والتفرع لا يقتضي التأخر في الورود كما لا يخفى.

ولكن ما ذكره قدس سره محل نظر ، فان من يدعي حكومة الأمارة على الأصول التعبدية انما يدعيها بملاك ان دليل اعتبارها متكفل لتنزيل الأمارة

ص: 403


1- الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية الفرائد الأصول /256- الطبعة الأولى.

منزلة العلم ، وان من قامت عنده الأمارة يكون عالما ، أو متكفل لإلغاء الشك مع قيامها ، وان من قامت عنده الأمارة ليس بجاهل وغير عالم.

وصلاحية النّظر التي تتضمنها الأمارة إنما هي بهذا الاعتبار واللحاظ.

وعليه ، فنقول : انه في مقام جعل الأمارة وجعل هذه الجهة فيها - أعني :

جهة الصلاحية - ، أما ان يكون الجاهل ناظرا إلى الأدلة المتكفلة لأحكام الشك وعدم العلم من الأصول التعبدية - يعني انه في مقام جعل الأمارة لاحظ تلك الأدلة - ، أو لا يكون ناظرا. فان كان ناظرا فلا ريب في تفرعها عليها. وان لم يكن ناظرا فلا صلاحية لدليل اعتبار الأمارة للنظر أصلا. فاعتبار صلاحية النّظر في الدليل الحاكم يستلزم التفرع أيضا.

وبهذا كله يتبين ان ما ذكره الشيخ من تفسير الحكومة لا يعرف فيه إشكال ، فيتعين الالتزام به.

واما ما ذكره المحقق النائيني في تفسير الحكومة من : انها عبارة عن تصرف الدليل في عقد وضع الدليل الآخر أو عقد حمله (1).

فهو لا يصلح للضابطية ، لأنه ليس تفسيرا لها ، بل بيانا لموردها ومحققها وواقعها ، فانها كون الدليل ناظرا إلى الدليل الآخر بمدلوله اللفظي ، والتصرف من موجباته ، كما سيتضح عند بيان الوجه في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم.

ومما ينبغي التنبيه عليه : ان الثمرة من تفسير الحكومة بهذا التفسير وجعل الفارق بينها وبين التخصيص مع اشتراكهما لبّا في الدلالة ، هو عدم ملاحظة النسبة بين الدليل الحاكم والمحكوم من انها العموم والخصوص المطلق أو العموم والخصوص من وجه ، لأن الدليل الحاكم يقدم على الدليل المحكوم مطلقا.

بخلاف التخصيص كما لا يخفى. واما السر فيه فسيتضح في بيان الوجه في تقديم

ص: 404


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 710 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الدليل الحاكم. فانتظر.

الجهة الثانية : في وجه تقديم الدليل الحاكم والوارد والمخصص على الدليل المحكوم والمورد والعام.

امّا الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم. فقد قربه المحقق الأصفهاني قدس سره وتبعه السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته (1) -. بأنه لا منافاة بين الدليلين الحاكم والمحكوم ، لأن أدلة الأحكام إذا كانت بنحو القضية الحقيقية متكفلة لإثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع ، بمعنى انه على تقدير تحقق الموضوع خارجا يثبت له الحكم ، ولا تعرض لها أصلا لبيان وجود الموضوع ، بمعنى انه على تقدير تحقق الموضوع خارجا يثبت له الحكم ، ولا تعرض لها أصلا لبيان وجود الموضوع نفيا وإثباتا.

وبما (2) ان الدليل الحاكم شأنه التصرف في الموضوع. ببيان : ان هذا منه

ص: 405


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 349 - الطبعة الأولى.
2- قد عرفت الحكومة بكون أحد الدليلين متصرفا في موضوع الدليل الآخر ، اما بتضييقه أو بتوسعته. هو لا بأس يتحقق هذه الجهة مع غض النّظر عما ذكر في المتن من إشكال ، فنقول : أما دليل التوسعة : فما يتكفل منه بيان فرد حقيقي كقوله عليه السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس » - على احتمال قريب - فهو لا يستلزم توسعة في المدلول ودلالة الدليل ، إذ الحكم وارد على الموضوع المقدر الوجود. والدليل المزبور يكشف عن انطباقه في المورد الخاصّ ، وهذا لا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم. وما يتكفل منه اعتبار فرد للموضوع ، كما يقال في مثل : « الطواف في البيت صلاة » ، فان كان ظاهر الدليل الأولي كون موضوعه أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري ، فلا يكون دليل الاعتبار موجبا لتوسعة الدلالة ، بل هو يتكفل إيجاد فرد للموضوع وتحقيقه نظير اشتغال الشخص بالتحصيل وصيرورته عالما. ويكون دليل الاعتبار واردا على الدليل الأولي لا حاكما. وإن لم يكن ظاهر الدليل ذلك ، فنفس دليل الاعتبار يدل على التوسعة في الموضوع وانه الأعم من الفرد الحقيقي أو الاعتباري بواسطة دلالة الاقتضاء - كما أوضحناه في المتن -. ويكون المورد برزخا بين الحكومة والورود ، لدخول الفرد حقيقة في الموضوع ، ولكون دليل الاعتبار ناظرا إلى الدليل الأولي. وأما ما يتكفل منه التنزيل : فلا يخفى ان مفاد التنزيل ليس إلا ترتيب مثل أثر المنزل عليه على المنزل ، وان شئون المنزل عليه ثابتة للمنزل لا ترتيب نفس أثر المنزل على المنزل. فمرجع التنزيل على هذا إلى إنشاء الأثر - بدليل التنزيل - للمنزل ، ومثله لا يتكفل التوسعة في موضوع الدليل الآخر ، كما هو واضح. وأما دليل التضييق : فما يتكفل البيان الحقيقي : تارة : يرجع إلى بيان عدم مصداقية ، فرد متوهم المصداقية فهو لا يستلزم تضييق الموضوع واقعا لأنه ضيق الصدق في نفسه ، غاية الأمر انه مجهول. وأخرى يرجع إلى التصرف في المفهوم ، فهو مما لا معنى له ، إذ بعد فرض ان المفهوم العرفي معلوم فلا معنى لنفيه حقيقة ، لأنه يصادم القطع به. فلو ورد ما ظاهره ذلك فلا بد ان يرجع إلى الاعتبار وهو خارج عن الفرض. واما ما يتكفل النفي اعتبارا ، فالكلام فيه هو الكلام في دليل التوسعة. وأما ما يتكفل النفي تنزيلا ، فمرجعه إلى نفي الأثر الثابت لهذا الفرد بالدليل الآخر فيستلزم التضييق في الدليل الآخر. وبهذا البيان يظهر اختصاص الدليل الحاكم المتصرف في الموضوع بما يتكفل النفي التنزيلي ويمكن إلحاق دليل الاعتبار الدال على التوسعة والتضييق بدلالة الاقتضاء. وبما ان الملحوظ هو نفي الأثر بلحاظ قيام الدليل على ثبوته وتوهم ثبوته ، كان الدليل الحاكم موجبا للتصرف في مرحلة الدلالة لا ذات المدلول. وقد أوضح هذا المعنى في المتن فراجع -. ثم ان هاهنا تحقيقا في الدليل الحاكم ثبوتا وإثباتا يأتي فيما بعد.

أو ليس منه فلا ينافي الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على عدم خمرية هذا المائع (1).

وهذا الوجه مع عدم تماميته في نفسه غير شامل لجميع موارد الحكومة ، لأن الدليل الحاكم ..

تارة : يكون متكفلا لتفسير وشرح الدليل الآخر ، وهو المشتمل على كلمة : « أعني. وأي » وغيرهما.

وأخرى : يكون متصرفا في عقد وضع الدليل الآخر.

ص: 406


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 144 - الطبعة الأولى.

وثالثة : يكون متصرفا في عقد حمله ، كما يمثل له بدليل نفي الضرر بناء على تكفله نفي الحكم الضرري. وما ذكره من عدم التنافي لا يتنافى في ما تكفل التصرف في عقد الحمل ، إذ التنافي بين أدلة نفي الضرر وأدلة الأحكام مما لا يخفى ، لتكفل أحدهما نفي الحكم والآخر إثباته ، لأن المفروض أن التصرف في نفس الحكم برفعه في بعض الموارد.

فما ذكر من الوجه لا يصلح لأن يكون وجها لتقديم الدليل الحاكم على المحكوم لعدم اطراده في جميع موارد الحكومة.

مع انه غير تام في نفسه وفي مورده - أعني : التصرف في عقد الوضع -. وتحقيق ذلك : انك قد عرفت ان الدليل المتصرف في الموضوع - تضييقا - قد يقال : بأنه متكفل لاعتبار هذا الفرد خارجا عن الموضوع. وقد يقال : بأنه متكفل لبيان عدم الفردية بنحو الادعاء. وقد يقال : بأنه مسوق لبيان عدم الفردية حقيقة. وقد يقال : بأنه مسوق لتنزيل هذا الفرد منزلة الخارج. وعلى جميع هذه التقادير الأربعة لا يتم الوجه المذكور ، لأن التقادير الثلاثة الأول غير معترف بها لعدم تماميتها فلا يصح القول بها.

امّا التقدير الأول - وهو القول بان الدليل الحاكم متكفل الاعتبار - ، فلما يقرر في محله من عدم كون الأحكام الوضعيّة كالملكية وغيرها من المجعولات الشرعية الاعتبارية ، بل هي منتزعة عن الأحكام التكليفية ، لعدم ترتب أي فائدة على اعتبارها فتكون لغوا ، لأن الغرض من اعتبارها ليس إلا ثبوت الآثار الشرعية عند تحقق منشأ اعتبارها ، وهذا يمكن تحقيقه بلا اعتبار للملكية مثلا ، بان يرتب الحكم على تحقق منشأ اعتبارها بلا توسط اعتبارها ، فيكون اعتبارها مستقلا لغوا ، فلا وجود للأمور الاعتبارية الوضعيّة.

ولو سلم وجودها وان لها جعلا مستقلا ، فلا يسلم بإمكان الاعتبار الشخصي الفردي ، ومنه الاعتبار الشرعي ، بل يمنع ذلك ويختص الاعتبار

ص: 407

بالاعتبارات العقلائية العرفية ، إذ لا يترتب عليه أي أثر فيكون لغوا.

ومع تسليم إمكان الاعتبار الشرعي والفردي ، فهو انما يسلم في صورة ما إذا كان للعقلاء اعتبار لسنخ هذا المعتبر ، بان اعتبر الشارع فردا لما اعتبره العقلاء ، كما لو اعتبر ملكية الشيء الكذائي ، وإلاّ فلا يصح الاعتبار. وأدلة التصرف ليست بهذا النحو.

ولو أغمضنا النّظر عن جميع ذلك ، أو قلنا بوجود دليل حاكم بالنحو الأخير ، فنقول : ان الدليل المتكفل لثبوت الحكم لموضوع اما ان يلاحظ فيه الموضوع ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من الموضوع الحقيقي ، بحيث يكون مختص الشمول بما لم يعتبر خروجه أو يلاحظ ذلك فيعم بإطلاقه ما اعتبر خروجه.

فعلى الأول : فالدليل الحاكم المتكفل لعدم فرديته اعتبارا وان قدم على الدليل المحكوم ، لكن تقديمه عليه لا بنحو الحكومة ، بل بنحو الورود لخروجه - أعني الفرد - عن موضوع الحكم حقيقة ، إلاّ انه ببركة الاعتبار الشرعي.

وعلى الثاني : فالتنافي بين الدليلين حاصل ، لأن الدليل الحاكم باعتباره عدم فردية هذا الفرد وخروجه عن الموضوع يتكفل نفي الحكم عنه التزاما ، والمفروض ان المحكوم يتكفل ثبوت الحكم له بالإطلاق ، فيحصل التنافي.

وامّا التقدير الثاني - وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لعدم الفردية بنحو الادعاء - ، فلأن استعمال اللفظ في الموضوع للطبيعة على نحوين :

الأول : ان يستعمل في الطبيعة بما هي بلا لحاظ افرادها الخاصة منه.

النحو الثاني : ان يستعمل في الطبيعة ، ولكن يراد منه فردها بنحو الإطلاق ، بمعنى ان المستعمل فيه هو الطبيعة ، ولكن يراد منه افرادها بنحو إطلاق الطبيعة على فردها ، نظير : « أكلت الرغيف ، وادخل السوق » ، فالمراد فرد من طبيعة الرغيف والسوق ، لامتناع تعلق الأكل والدخول بطبيعة المأكول

ص: 408

والمدخول ، بل هما يتعلقان بالفرد.

والادعاء انما يتصور تحققه في ما إذا كان الاستعمال بنحو الثاني ، لأن المراد الفرد ، فيمكن ادعاء فردية شيء وعدم فرديته ليكون مشمولا للإطلاق أو لا يكون.

امّا إذا كان بالنحو الأول ، فلا يتصور فيه الادعاء ، لأن المستعمل فيه هو الطبيعة بلا لحاظ انطباقها على فرد منها أصلا.

ولا يخفى ان ترتب الأحكام في الأدلة انما هو على الطبيعة بما هي بلا لحاظ فرد بخصوصه منها. فلا وجه لدعوى التصرف في الموضوع بنحو الادعاء.

وتوهم : ان الحكم في جميع القضايا الشرعية ليس مرتبا على الطبيعة بما هي بلا لحاظ افرادها الخارجية ، كي يمتنع كون الدليل الحاكم متصرفا في الموضوع بنحو الادعاء ، بل منها ما رتب الحكم فيه على الافراد دون الطبيعة ، - كما في العمومات الاستغراقية - ، وحينئذ فيمكن كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية ادعاء ، لإمكان ذلك في مثل هذه القضايا ، لأن الملحوظ في الحكم هو الافراد دون الطبيعة.

فاسد : لأن المقصود بالحكم في جميع القضايا الشرعية ، سواء كان الحكم مرتبا في لسان الدليل على الطبيعة كالعمومات البدلية أو على الافراد كالعمومات الاستغراقية ، انما هو الفرد غاية الأمر انه تارة يقصد الفرد على البدل كما في العمومات البدلية ، لأن المطلوب فيها صرف الوجود. وأخرى جميع الافراد كما في العمومات الاستغراقية ، لأن المطلوب فيها مطلق الوجود. ولكنه في كلا الحالتين لا يرتبط بالحقيقة الادعائية أصلا ، لأن الحقيقة الادعائية - كما عرفت - هي استعمال اللفظ في الطبيعة وإرادة فرد منها أو افراد بنحو الإطلاق

ص: 409

مع ادعاء فردية أحدها أو جميعها للطبيعة ، مع انها لم تكن من افراد الطبيعة حقيقة فإطلاق الطبيعة على فردها أو افرادها بالاستعمال ، فلا بد من لحاظ هذه الافراد حين الاستعمال ، ويكون الفرد أو أحد هذه الافراد فردا ادعائيا ، ويكون الادعاء بعد هذا اخبارا لا إنشاء ، نظير ما لو قيل : « رأيت أسود عشرة » وكان أحد العشرة رجلا شجاعا. امّا استعمال اللفظ في الطبيعة أو في مفهوم عام لجميع الافراد يكون عنوانها إجمالا بلا لحاظ أي فرد بخصوصه - كما فيما نحن فيه من قضايا الأحكام فان الافراد ملحوظة بعنوانها الإجمالي وهو العام ، فالاستعمال في المفهوم العام بلا لحاظ تطبيقه على فرد خاص حال الاستعمال - ، فلا يرتبط بالادعاء أصلا. فان التطبيق فيه بعد الاستعمال ، والإنشاء وهو لا يرتبط بالادعاء ، لأن الادعاء يكون بالتطبيق حال الاستعمال ، فيلحظ الفرد بخصوصه ويستعمل اللفظ في طبيعته ويطبق عليه حين الاستعمال.

ودعوى : إمكان ان يكون الحاكم قد لاحظ إجمالا بالمفهوم العام جميع الافراد أعم من الحقيقية والادعائية ورتب الحكم عليه ، فعند ادعاء فردية شيء يكون مشمولا للعام ومرتبا عليه الحكم.

مندفعة : بان هذا ليس من الادعاء في شيء ، بل هو راجع إلى الاعتبار وترتب الحكم على الأعم من الفرد الواقعي والاعتباري ، لأن الادعاء أنم يرتبط بمقام الاستعمال لا غير.

فتحصل : ان دعوى كون الدليل الحاكم مطلقا أو في الجملة متكفلا لنفي الحقيقة ادعاء واضحة البطلان.

وامّا التقدير الثالث - وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية حقيقة وواقعا - ، فلان هناك موارد يعلم فيها بان هذا فرد حقيقي وواقعي للطبيعة ،

ص: 410

فيمتنع ان ينزل الدليل الوارد فيها الدال على نفي فردية هذا الفرد للطبيعة على نفي الفردية حقيقة. فان نفي الفردية حقيقة انما يكون باعتبار المسامحة العرفية في تطبيق العنوان الكلي على افراده ، فيطلق اللفظ على بعض الافراد والتي يعلم خروجها عن الطبيعة حقيقة بالمسامحة. امّا مع العلم بفرديته للطبيعة بلا مسامحة في تطبيق الكلي عليه ، فلا يمكن حمل الدليل على نفي الفردية حقيقة.

فنفي الحقيقة انما يجدي مع المسامحة العرفية في التطبيق ، كما لعله يستفاد من قوله علیه السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس ».

ولو سلم إمكان تكفل الدليل لنفي الفردية حقيقة ، فهو خارج عن الحكومة وليس منها في شيء ، لأنه لا يوجب تضييقا في مدلول الدليل والمراد الجدي منه ، لأن الحكم رتب على افراد الموضوع الواقعية التي يكون الشارع والعرف طريقا إليها ، فمع كشف الشارع عن عدم فرديه شيء لا يوجب ذلك تضييقا في المراد الجدي وموضوع الحكم ، بل هو بيان للافراد التي لم يترتب عليها الحكم في القضية الإنشائية ، ولا يرى العرف ان الشارع قد ضيق موضوع الحكم ومدلول الدليل ، لأنك عرفت ان نفي الفردية انما هو باعتبار المسامحة العرفية في تطبيق الكلي على افراده ، لا باعتبار سعة المفهوم كي يكون نفي الفردية موجبا للتضييق.

ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الدليل المتكفل لنفي الفردية موجبا للعلم أولا لأن النّظر في غير العلمي انما يكون لنفس مدلول الدليل ، وهو خارج عن الحكومة لو كان في الواقع ثابتا.

نعم ، لو كان النّظر إلى دليل اعتباره ، فحيث انه غير موجب للعلم بعدم الفردية ويؤخذ به تعبدا لاعتباره شرعا كان من باب الحكومة. إلاّ ان ذلك خارج عن محل الكلام ، لأنه يكون من الحكومة الظاهرية ، وهي غير مورد الكلام ، وانما الكلام في الحكومة الواقعية التي تكون بلحاظ نفس الدليل مع غض النّظر عن

ص: 411

دليل اعتباره ، كما في التقادير الأخرى - وسيجيء في مبحث التعادل والترجيح بيان الحكومة الظاهرية إن شاء اللّه تعالى -.

وإذا تبين انه لا يمكن الالتزام بكون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية اعتبارا ولا ادعاء ولا حقيقة ، فيتعين الالتزام بأنه يتكفل تنزيل شيء منزلة الآخر في ترتيب الحكم عليه أو عدمه لعدم ترتيب الحكم عليه.

ولا يخفى ان المنافاة الظاهرية بين الدليل المتكفل للتنزيل والدليل الآخر موجودة ، لأن الملحوظ في دليل التنزيل ليس المراد الجدي المدلول عليه بالمطابقة بل خصوص ما يدل عليه التزاما من نفي الحكم عن هذا الفرد الدال على ثبوته له الدليل الآخر ، لأنه يتكفل إثبات الحكم له بالدلالة المطابقية ، فيحصل التنافي ظاهرا وبدوا بينهما فالملحوظ في دليل التنزيل ما يدل عليه بالدلالة الالتزامية - نظير الاستعمالات الكنائية مع عدم لحاظ المدلول المطابقي فيه أصلا ، لذا يكون الدليل النافي موجبا للتضييق ، فانه يكشف عن التنافي.

وبذلك يظهر ثبوت التنافي بين الحاكم والمحكوم ، فلا وجه لجعل الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم هو عدم التنافي بين الدليلين.

الوجه المختار في التقديم

والتحقيق : ان الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو الوجه في تقديم القرينة على ذي القرينة والشارح على المشروح ، لأنك عرفت ان الدليل الحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم بمنزلة القرينة ولذلك كان متفرعا عليه. وان كان الدليل الحاكم من قبيل القرينة المنفصلة ، إذ لا فرق بين المتصلة والمنفصلة في تقديمها على ذيها عرفا.

وتوضيح ذلك : ان القرينة على المراد الجدي من الكلام تارة تكون متصلة وأخرى تكون منفصلة. وتشتركان في انهما تبيّنان ما هو مراد المتكلم الجدي ، وان

ص: 412

كانت القرينة المتصلة تختلف عن المنفصلة في انها قد توجب تصرفا في الظهور الاستعمالي - كما توجب تصرفا في المراد الجدي بحسب الظاهر - فيما لم يكن الجمع بين الظهور الأولى البدوي للكلام وظهور القرينة في مؤداها ، فتقلب ظهور الكلام حينئذ إلى الظهور الثانوي له ، كما في المجاز على المشهور ، نحو : « رأيت أسدا يرمي » ، فان : « يرمي » أوجبت التصرف في ظهور : « أسد » في معناه الحقيقي وظهوره الأولى الّذي هو السبع المخصوص ، وقلب ظهوره إلى الظهور الثانوية وهو الظهور في الرّجل الشجاع ، لمكان المنافاة بين الرمي والسبع المخصوص.

امّا مع إمكان الجمع ، فلا تتكفل الا بيان المراد الجدي ، كما في المثال المذكور على رأي السكاكي (1). فانه ذكر ان : « أسدا » مستعمل في معناه الحقيقي. وامّا الجمع فهو يجعل التصرف في أمر عقلي وهو تطبيق السبع المخصوص على الرّجل الشجاع وجعل الشجاع من افراده. فالقرينة - أعني يرمي - على قرينتها. والظهور الاستعمالي للكلام على ظهوره.

فالقرينة المتصلة والمنفصلة تشتركان في كونهما يتكفلان بيان مراد المتكلم الجدي من كلامه ، فإذا كانت إفادة المراد الجدي وبيانه بالمدلول اللفظي - سواء كان المطابقي أو الالتزامي العرفي - كانت القرينة مقدمة على ذي القرينة عرفا ، بحيث لا يلاحظ العرف بينهما مرجحات التقديم من أقوائية الظهور والنسبة من العموم والخصوص وغير ذلك ، بل لا يتوقف أصلا في تقديم الدليل والمتكفل بمدلوله اللفظي لبيان المراد الجدي من دليل آخر عليه ، بل بملاحظة هذه الجهة لا يرى ان هناك منافاة بين الدليلين كي يتحير في طريقة الجمع بينهما ، ويكون ملاك تقديمه عليه كما لو صرح الجاعل بان مرادي الجدي من هذا الكلام يعرف بدليل آخر ، فبملاك القرينية يتقدم الدليل الحاكم على المحكوم - لأنه متعرض

ص: 413


1- على ما نقل من مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث في الاستعارة.

لحال الدليل الآخر بمدلوله اللفظي فيكون قرينة عليه - ، وان كان منفصلا عنه ، لعدم الفرق بين كلتا القرينتين في ملاك التقديم ، وهو التعرض لبيان المراد الجدي بالمدلول اللفظي.

وبذلك يفترق المقام عن التخصيص ، لأن تعرض الدليل المخصص إلى البيان المراد الجدي من العام ليس بمدلوله اللفظي ، بل بمقتضى حكم العقل ، لأنه بعد ان يرى التنافي بين شمول الحكم لهذا الفرد وشمول آخر له للتضاد بين الأحكام - ، يرى ان أحد الدليلين مناف للآخر. فلا بد من العمل بأحدهما لا كليهما ، فلا بد من تقديم أحدهما على الآخر. فيلاحظ حينئذ مرجحات التقديم من أقوائية الظهور والنسبة وغيرهما ، إذ لا وجه لتقديم المخصص مطلقا على العام ، فإذا قدم المخصص وخصص العام حكم العقل حينئذ بان المراد الجدي من العام هو الباقي لا الجميع ، فقرينية التخصيص ليست لفظية بل عقلية ، ولذلك لا يكون ملاك تقديم أحد الدليلين على الآخر تخصيصا هو القرينية بل مرجحات التقديم.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى : أن تقديم الخاصّ على العام بملاك القرينية (1).

ولكنه غير مسلم وستعرف ما فيه في بيان الوجه في تقديم الخاصّ على العام في باب التعادل والترجيح إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

واما الوجه في تقديم الوارد على المورود ، فهو واضح جدا ، لأن أحد الدليلين ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الّذي ينظر إليه الآخر ، وبعد ورود الدليل الوارد والأخذ به يرتفع موضوع الدليل المورود حقيقة ، فلا يبقى لوروده حينئذ مجال لارتفاع موضوعه.

ص: 414


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 720- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وعليه ، فلا منافاة بينهما عرفا كي يقع الكلام في تقديم أيهما ، فمع ورود الأمارة يتحقق البيان حقيقة ، فينتفى : « لا بيان » الّذي هو موضوع القاعدة العقلية التي تبتني عليها البراءة فلا تبقى القاعدة حينئذ لارتفاع موضوعها.

وبتقريب صناعي : ان الأخذ بالدليل الوارد لوجود المقتضي وعدم المانع.

اما وجود المقتضي ، فهو دليل اعتباره وتحقق موضوعه. واما عدم المانع ، فلأن المانع المتخيل هو الدليل المورود ، وهو غير ناظر إلى ما يتكفله الدليل الوارد أصلا ، وموضوعه غير موضوعه. فكل منها في مقام غير مقام الآخر ، بل لا يصلح ان يكون مانعا إلا على وجه محال ، كما يأتي من صاحب الكفاية ، وان كنا لسنا بحاجة إليه كما يأتي.

واما الدليل المورود ، فلا مقتضى فيه كي يؤخذ به ، لأن ثبوته متوقف على عدم ورود الدليل الوارد ، لأنه رافع لموضوعه.

فالأساس الّذي يرتكز عليه ما ذكرناه هو عدم وجود أي منافاة بين الدليلين ، لأن كلا منهما ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الّذي ينظر إليه الآخر.

وبعد هذا ، لا مجال للإشكال : بان الورود انما يكون مع الأخذ بالدليل الوارد ، وإلاّ فمع الأخذ بالدليل المورود لا يتحقق المورود ، فلم يؤخذ بالدليل الوارد ولا يؤخذ بالدليل المورود؟ - كما تعرض إليه المحقق الخراسانيّ في الكفاية (1) -.

لأنه لا تنافي ولا تصادم بين الدليلين ، كي يقال بأنه لم يؤخذ بهذا الدليل دون ذاك؟.

وهل يفيد التعرض إلى هذا الإشكال بأنه فسر الورود بتفسير آخر غير ما فسره القوم ، أو يمكن حمله على ما لا يخالف ما ذكرناه؟.

ص: 415


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والظاهر انه يمكن توجيهه بما لا يتنافى مع ما عرفته ، بان يقال : ان غرضه هو السؤال عن الوجه في الأخذ بالدليل الوارد ، لأن الأخذ به ليس من الضروريات التي لا تحتاج إلى السؤال فيمكن التساؤل عنه. وليس الغرض هو الإشكال على الأخذ به ، والجواب عنه ما عرفت من وجود المقتضي للأخذ به وعدم المانع.

واما ما ذكره قدس سره في الجواب من : انه مع الأخذ بالدليل المورود يلزم تخصيص الدليل الوارد بلا وجه أو على وجه دائر ، لأن الدليل لما كان رافعا لموضوع المورود ، فالأخذ بالمورود يتوقف على عدم شمول الدليل الوارد لهذا المورد ، وتخصيصه بما عداه. فاما ان يكون تخصيصه بلا وجه ، أو يكون بالدليل المورد. إذ ما يتحمل ان يكون مخصصا هو الدليل المورد ، وتخصيصه بالدليل المورود يتوقف على اعتبار المورود في الورود ، واعتباره في المورد يتوقف على تخصيص الدليل الوارد به فيلزم الدور.

فغير وجيه ، لأن التخصيص يقتضي التوارد على مورد واحد والمنافاة بينهما ، أما مع عدم المنافاة بينهما أصلا لاختلاف مورديهما - كما عرفت في الدليل الوارد والمورد - ، فلا وجه لدعوى التخصيص ، فانه لا منافاة بين ما يستلزم انتفاء عالمية زيد وبين ما يثبت وجوب إكرام العالم.

فإذا كان مفاد دليل الاستصحاب - بناء على الورود كما عليه قدس سره - : « استصحب مع عدم الحجة » ، وكان مفاد دليل الأمارة اعتبار الأمارة في هذا المورد المستلزم لقيام الحجة ، فلا منافاة بينهما أصلا ، ولا نظر لأحدهما إلى مفاد الآخر بتاتا ، فلا وجه لدعوى التخصيص واحتماله كي تقرر وتدفع بلزوم الدور ، بل الدور لو لم يكن بمحذور لما كان دليل الاستصحاب مخصصا ، مع ان مقتضى ما ذكره ذلك فالتفت.

واما الوجه في تقديم الخاصّ على العام ، فبيانه في باب التعادل والترجيح

ص: 416

فانتظر.

الجهة الثالثة : في ان تقديم الأمارة على الاستصحاب هل هو للورود أو للحكومة أو للتخصيص؟. فقد اختلف الاعلام المحققون في ذلك.

فمنهم من ذهب ان نسبة الأمارة إلى الاستصحاب نسبة الوارد على المورود.

ومنهم من ذهب إلى ان نسبتها إليها نسبة الحاكم إلى المحكوم.

ومنه من ذهب إلى كون نسبتها إليه نسبة المخصص.

أما (1) دعوى الورود - وهي دعوى المحقق الخراسانيّ - ، فهي تبتني على

ص: 417


1- المذكور في كلمات المحقق الخراسانيّ لتوجيه دعوى الورود وجهان : الأول : ما أشير إليه في الكفاية من ان رفع اليد عن اليقين السابق بواسطة الأمارة ليس نقضا لليقين بالشك بل باليقين باعتبار الأمارة وحجيتها. وقد يورد عليه : ان النهي عنه في نصوص الاستصحاب ليس استناد نقض اليقين إلى الشك ، وإلا لجاز نقضه بمثل إجابة التماس مؤمن ونحوه ، بل المراد نقضه في مورد الشك بضميمة ان المراد من الشك مطلق عدم العلم والاحتمال غير الجازم ، وقيام الأمارة لا ينفي الجهل وعدم العلم. ويمكن الجواب عنه : بأنه يتم لو فرض كون نظر صاحب الكفاية ما هو ظاهر العبارة بدوا من تعليل الورود بعدم صدق نقض اليقين بالشك. ولكن من الممكن ان يكون نظره إلى دعوى انصراف دليل حرمة النقض بالشك عما إذا كان هناك مستند ودليل علمي النقض نظير دعوى انصراف دليل النهي عن العمل بغير العلم عن الأمارة المعتبرة ، فلا يشملها الدليل للانصراف لا لدعوى انتهاء العمل بها إلى العمل بالعلم. وعليه ، فيكون مدار صحة ما ذكره قدس سره على التسليم بدعوى الانصراف. فتدبر. الثاني : ما ذكره في حاشيته على الرسائل - كما حكي عنه - من ان مقتضى قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » صحة النقض باليقين بحكم مخالف للمتيقن السابق ولو بعنوان آخر ولذا يصح النقض لو علم بحلية ما كان حراما سابقا لأجل عنوان طارئ غير العنوان الموضوع للحرمة. وعليه ، فعند قيام الأمارة على خلاف الحالة السابقة فيتحقق العلم بالحكم الظاهري المخالف للحالة السابقة فيكون النقض باليقين لا بالشك. وقد يورد عليه : بان اليقين بالحكم الظاهري لا ينافي الشك في الواقع بل يجتمع معه كيف؟ وهو مفروض في موضوعه أو مورده. فيكون رفع اليد عن المتيقن السابق بالشك. فالمتجه ان يورد على ما ذكره صاحب الكفاية بان ما أفاده خلاف ظاهر الدليل ، فان الظاهر منه تعلق اليقين اللاحق بعين ما تعلق به اليقين السابق ، وما ذكر شاهدا لا يخلو من مغالطة ، فان اليقين وان تعلق بعنوان آخر كالاضطرار ، إلا انه ملازم لانتفاء الحكم السابق قطعا لأن الرفع واقعي. مع ان لازم ما ذكره فرض موضوع الاستصحاب كموضوع القرعة هو التخير المطلق بحيث يرد عليه كل ما يزيل التحير من جميع الأدلة والأصول وهو مما لا يلتزم به. فالعمدة في إثبات ورود الأمارة على الاستصحاب ما ذكرناه في المتن من الوجوه الثلاثة. فراجع. ثم ان صاحب الكفاية ذهب في مبحث التعادل والترجيح إلى ان تقدم الأمارة على الاستصحاب بالجمع العرفي بالتصرف بالدليلين الّذي جعله قسما للورود وهو بظاهره لا يخلو عن منافاة لما ذكر هاهنا. فلاحظ.

عدم إرادة الصفة الوجدانية من الشك واليقين المغيا به الاستصحاب بل إرادة الحجة وعدم الحجة أو ما شابه ذلك (1).

ولما كان هذا مستلزما للتصرف في ظهور الشك واليقين ، فلا بد من إقامة الدليل عليه ليصبح حقيقة ثابتة لا مجرد دعوى ليس لها أي علاقة بمقام الإثبات - كما أورد على المحقق الخراسانيّ بذلك - (2).

فنقول : ما يمكن به توجيه هذه الدعوى وجوه أربعة.

الأول : انه قد ذكر ان التعليل المذكور لإجراء الاستصحاب تعليل ارتكازي عقلائي ، لا تعليل تعبدي مفاده تشريع كبرى كلية ، كتعليل حرمة الخمر بأنه مسكر ، فان العرف بحسب ارتكازياته لا يرى ان هناك مناسبة بين الحرمة والإسكار بحيث يكون الإسكار علة للتحريم ، فيرجع العليل المذكور إلى جعل كبرى كلية وهي حرمة المسكر وتطبيقها على المورد. اما التعليل

ص: 418


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 248 - الطبعة الأولى.

الارتكازي ، فهو ما كان واردا على حسب مرتكزات العرف بحيث يرى مناسبة بين التعليل والمعلل. وقد عرفت ان من موارده التعليل المذكور في بعض اخبار الاستصحاب من : « ان اليقين لا ينقض بالشك » ، فان العرف بحسب ارتكازاته يرى مناسبة بين التعليل والحكم المعلل به ، بلحاظ ان اليقين امر مبرم محكم فلا ينقض بما ليس كذلك كالشك.

وبعد ان كان التعليل ارتكازيا عرفيا فالعرف انما يرى عدم جواز نقض اليقين بالشك لا لأجل خصوصية الشك وصفتيته. بل لأنه ليس بحجة معتبرة وطريق مبنى عليه. وذكره بالخصوص لأجل انه أظهر مصاديق عدم الحجة ، فاليقين لا ينقض عرفا مع عدم الحجة وهو ما ليس بمستحكم لا مع خصوص الشك.

الوجه الثاني : ان في قضية : « لا تنقض اليقين بالشك » ظهورين : أحدهما : ظهور الباء في السببية ، يعني : استناد النقض إلى الشك. والآخر : ظهور الشك في الصفة الوجدانية.

ولا يمكن الالتزام بكلا الظهورين ، لعدم الاطراد في بعض الموارد ، كما لو استند النقض في مورد الشك إلى غير الشك مما لا يكون صالحا للاستناد إليه شرعا كالتماس مؤمن مثلا ، فانه مع الالتزام بكلا الظهورين يلزم ان لا يكون هذا المورد من موارد النهي ولا يكون العمل على خلاف الحالة السابقة استنادا إلى غير الشك محرما ، ولا يلتزم به أحد أصلا ، فلا بد من التصرف في أحد الظهورين ..

اما في ظهور الباء يحملها لا على السببية ، بل على ان المراد عدم جواز نقض اليقين في مورد الشك وان لم يكن مستندا إليه.

واما في ظهور الشك بحمله على مطلق غير الحجة والطريق المعتبر ، فالمنهي عنه هو النقض المستند إلى غير الحجة.

ص: 419

إذ على كلا التقديرين يكون المورد المذكور وما شابهه مشمولا للنهي.

وبملاحظة ما تقدم من كون المراد بالشك ليس خصوص تساوي الطرفين احتمالا ، بل الأعم منه ومن الظن والوهم. يتعين التصرف في الظهور الثاني دون الأول ، لأن ذكر الشك بالخصوص مع إرادة الأعم منه ومن عدم العلم لا وجه له. إلاّ أن يراد به كونه أظهر مصاديق عدم الحجة ، لأنه الجهة المميزة له. وإلاّ فلا وجه لتخصصه بالذكر فان الحكم إذا كان موضوعه العام لا معنى لبيانه بالحكم على فرد خاص منه إلاّ إذا كانت لذلك الفرد خصوصية تدعو لتخصيصه بالذكر ، ولا خصوصية للشك من بين سائر الافراد الا كونه أظهر افراد التردد وعدم الحجة. فلا وجه للتصرف في الظهور الأول ، بل يكتفي في التصرف في الظهور الثاني. مضافا إلى ان حمل الباء على الظرفية وكونها بمعنى : « في » في المقام يستلزم تقدير محذوف تتعلق به الباء ، إذ لا معنى لتعلق الظرفية بالشك ، فلا بد من تقدير مضاف كما لا يخفى.

الوجه الثالث : ان السائل كزرارة رحمه اللّه لو فهم من الإمام علیه السلام إرادة الصفة الوجدانية من اليقين في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، وان الناقض خصوص اليقين الوجداني ، لفهم بدوا منافاة هذا الحكم لجعل الأمارة والطريق واعتبارها في الموضوعات - الّذي هو مما لا إشكال فيه - ، لأن جميعها متيقنة العدم ، لأنها حادثة والحادث مسبوق بالعدم ، ولا يقين لنا بارتفاعه ، وانه ناسخ لدليل اعتبارها ، مع انا نجزم بعدم فهمه ذلك أصلا - وإلا لسأل الإمام علیه السلام عنه حينئذ - مما يكشف عن انه فهم كون النقض انما يكون بالحجة المعتبرة والطريق المجعول لا بخصوص اليقين. وان المراد من اليقين مطلق الحجة لا اليقين الوجداني.

الوجه الرابع : ان حجية اليقين مما لا شبهة فيها ولا إشكال ، كيف؟ وهي من المستقلات العقلية التي لا تنالها يد الجعل نفيا وإثباتا.

ص: 420

فلو كان المراد من اليقين في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » اليقين الوجداني ، لكان الكلام لغوا ، إذ النقض باليقين لا يحتاج إلى بيان وتنبيه ، لأنه مسلم لا ارتياب فيه.

ودعوى : ان قوله المذكور ليس مفاده الاستدراك وبيان ناقضية اليقين كي يشكل بلزوم اللغوية ، بل المراد منه حصر الناقض في اليقين (1).

مندفعة : بان : « لكن » ظاهرة في الاستدراك ، و « اليقين » ظاهر في اليقين الوجداني ، والجمع بين الظهورين ممتنع للزوم اللغوية - كما عرفت - ، فلا بد من التصرف في أحد الظهورين ..

إما في ظهور : « لكن » ، فيحمل الكلام على الحصر ، حيث ان المنفي هو خصوص النقض بالشك دون غيره من الأمور غير اليقينية ، فالمراد بيان انحصار الناقض باليقين ، ولذلك استفيد منه ان الشك أعم من تساوي الطرفين والظن والوهم.

واما في ظهور : « اليقين » بحمله على مطلق الحجة ، فيصح الاستدراك حينئذ كما لا يخفى.

وبمقتضى الوجوه المذكورة يتعين التصرف في ظهور اليقين ، ويبقى ظهور : « لكن » على حاله.

ولو أبيت الا عن الالتزام بتصادم الظهورين ، فالكلام يكون مجملا في مورد قيام حجة غير القطع على خلاف اليقين السابق ، إذ لا يعلم إرادة الصفة الوجدانية من اليقين ، فلا يجري الاستصحاب في ذلك المورد ، لعدم العلم بتحقق موضوعه ، فتبقى الأمارة بلا معارض.

وهذا وان لم يكن من الورود إلا انه نتيجة الورود.

ص: 421


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 248 - الطبعة الأولى.

اللّهم إلاّ ان يقال : ان « لكن » ظاهرة في الحصر ، لأنها عاطفة ، وهي من موجبات الحصر لا من أدوات الاستدراك. فدعوى إرادة الحصر لا توجب تصرفا في الظهور كي يقع الكلام في المرجح لأحد التصرفين على الآخر ، بل هي على وفق الظهور ومقتضاه.

وبذلك يخرج الكلام عن اللغوية.

هذا ، مضافا إلى إمكان دعوى استفادة الحصر من سياق الكلام لا من التصرف في « لكن » ، ويشهد له انه قد ذكر من جملة الوجوه على كون المراد من الشك في الاخبار هو مطلق عدم اليقين لا خصوص تساوي الطرفين : حصر الناقض في اليقين. وحينئذ يبقى اليقين على ظهوره ولا وجه للتصرف فيه. وعلى هذا لا يتم الوجه المذكور ، فلا يصلح لا ثبات الورود.

ولكن في الوجوه الثلاثة الأخر كفاية ، فانها توجب الاطمئنان ، بل القطع في كون موضوع الاستصحاب عدم الحجة على الخلاف.

وبذلك يتعين القول : بان تقدم الأمارة على الاستصحاب من باب الورود.

وعليه فلا مجال لدعوى الحكومة أو التخصيص. مع انه لو أغمضنا النّظر عن تمامية دعوى الورود فدعوى الحكومة غير تامة ، إذ غاية ما ترتكز عليه هو كون دليل اعتبار الأمارة يتكفل إلغاء احتمال خلاف الأمارة تنزيلا ، فمع قيام الأمارة على خلاف الحالة السابقة يتكفل دليل الأمارة إلغاء احتمال خلافها تنزيلا. ومقتضاه إلغاء احتمال بقاء الحالة السابقة الّذي هو موضوع الاستصحاب ، فيرتفع موضوع الاستصحاب تنزيلا ، لأن موضوعه الاحتمال والشك ، ومفاد دليل الأمارة رفع هذا الاحتمال وإلغائه. فيكون دليل الأمارة حاكما على دليل الاستصحاب لأنه يكون ناظرا بمدلوله اللفظي إلى دليل الأصل وموجبا لتضييق دائرته.

ص: 422

وقد بنى عليه المحقق العراقي (1) أيضا إلاّ ان تعبيره اختلف عن تعبير المحقق النائيني فقد التزم ( قده ) ان قيام الأمارة - بمقتضى دليل الاعتبار - يحقق غاية الاستصحاب وهو اليقين ولم ير بأنه يرفع موضوعه وهو الشك. ولعله لأجل ان موضوع الاستصحاب ليس عبارة عن عدم العلم كي يكون اعتبار العلم رافعا لموضوعه بل عبارة عن امر وجودي وهو الاحتمال الّذي يصل إلى حد العلم. ومن الواضح ان اعتبار أحد الضدين لا يلازم اعتبار عدم الضد الآخر فالتلازم بين الواقعين لا يستلزم التلازم بين الاعتبارين. وعليه فاعتبار العلم لا يلازم اعتبار عدم الاحتمال الخاصّ فلا يكون اعتباره رافعا لموضوع الاستصحاب.

ولكن لا يخفى عليك قوله علیه السلام : « ولكن تنقضه ... » ليس إنشاء لحكم جديد أو تحديدا للاستصحاب وانما هو عبارة أخرى عن ارتفاع موضوعه فهو بصدد بيان ارتفاع الاستصحاب عند ارتفاع موضوعه بلحاظ ملازمة اليقين لعدم موضوع الاستصحاب فليس له عنوانان أحدهما أخذ في الموضوع وأخر أخذ في الغاية. بل ليس إلاّ فرد واحد وهو المأخوذ في الموضوع فإذا فرض انه وجودي أشكل القول بالحكومة على هذا الرّأي من هذه الجهة. فانتبه.

وأما ما أفاده المحقق النائيني في الاستدلال على كون التقدم من باب الحكومة من : أن التحقيق كون المجعول في الأمارة هو الطريقية وتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف وما أشبه ذلك - لا المنجزية ، لاستلزامه تخصيص الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان وهو غير قابل للتخصيص ولا جعل المؤدى ، لمحذور اجتماع الحكم الواقعي والظاهري - وحينئذ يرتفع موضوع الاستصحاب تعبدا عند قيام الأمارة ، وهو معنى الحكومة ، لأنه أوجب التصرف في عقد الوضع (2).

ص: 423


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 18 - 19 - القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول4/ 595 - 596 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فلا يستلزم الحكومة ، لأنك عرفت ان الدليل المتكفل للاعتبار - نفيا - ..

تارة : يكون واردا على الدليل الآخر ، وذلك فيما إذا لوحظ الموضوع فيه ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من افراد الموضوع المرتب عليه الحكم إنشاء ، لأن الدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا يكون حينئذ رافعا لموضوع الحكم في الدليل الآخر حقيقة فيكون واردا عليه.

وأخرى : يكون حاكما على الدليل الآخر ، وذلك فيما إذا لم يكن قد لوحظ في الموضوع ما لم تنف فرديته اعتبارا ، بل أخذ مطلقا ، فحينئذ يحصل التنافي بين الدليلين بمدلولهما اللفظي ، فيكون أحدهما المعين ناظرا إلى الآخر وحاكما عليه.

وتقريب حصول النّظر الموجب للحكومة : بان الاعتبار إنما يكون بلحاظ ترتب أثر عليه أو نفي أثر عنه وإلا لكان لغوا ، فعند وجود دليل يتكفل ثبوت حكم لموضوع ما ، إذا ورد دليل يتكفل اعتبار أمر ليس بفرد من افراد ذلك الموضوع ، فإذا لم يكن لهذا الاعتبار أي أثر ظاهر يحكم بدلالة الاقتضاء - التي هي بملاك صون كلام الحكيم عن اللغوية - بأنه ناظر إلى نفي ترتب الأثر عليه ، فيحصل التنافي حينئذ ، لأن دليل الاعتبار ينفي ترتب الأثر على هذا الفرد بدلالته الالتزامية ، والدليل الآخر يتكفل بدلالته المطابقية ترتب الأثر عليه. ويقدم حينئذ دليل الاعتبار لكونه ناظرا إلى الدليل الآخر بمدلوله اللفظي ، فيكون بمنزلة القرينة عليه. ويحكم حينئذ بان موضوع الحكم في ذلك الدليل انما هو خصوص ما لم يقم على عدم فرديته اعتبار.

وبالجملة : فالدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا إنما يكون حاكما على الدليل الآخر فيما إذا انحصر الأثر عليه في نفي الحكم الثابت للفرد بمقتضى الدليل الآخر ، لتتم دلالة الاقتضاء حينئذ فيحصل النّظر وإلا فمع وجود أثر

ص: 424

آخر في نفي الفردية ، فلا يكون متكفلا لنفي الأثر الثابت بمقتضى الدليل الآخر ، لأنه انما يكون متكفلا لذلك بدلالة الاقتضاء ، وهي غير تامة مع وجود أثر للاعتبار.

وعلى هذا ، فدليل الأمارة وإن كان يتكفل اعتبار الطريقية وما ليس بعلم علما - باعتبار انحصار المجعول بذلك فتكون أمرا اعتباريا - ، إلا ان ذلك لا يوجب حكومته على دليل الاستصحاب ، لأن آثار اعتبار العلم لا تنحصر في نفى الأثر المترتب على عدم العلم - أعني : الاستصحاب - بل له آثار أخر كالمنجزية والمعذرية ، ومع وجود آثار له فلا تتم الحكومة لعدم تمامية دلالة الاقتضاء الموجبة للنظر والحكومة.

ودعوى : التمسك بإطلاق دليل الاعتبار في ترتيب جميع آثار العلم على الأمارة باعتبارها علما.

مدفوعة : بان التمسك بالإطلاق هاهنا يقتضي التصرف بجميع الأدلة الظاهرة في ترتيب الأحكام على الموضوعات الحقيقية الواقعية ، بحملها على ترتب الحكم على الموضوع الأعم من الواقعي والاعتباري ، لما عرفت من ان دلالة الاقتضاء تقتضي التصرف بدلالة الدليل الآخر ، فانه يستكشف بها كون الموضوع للأثر أعم من الفرد الواقعي والاعتباري ، وهو خلاف ظاهر الدليل. فالإطلاق يحتاج إلى مئونة فلا يصح التمسك به.

نعم ، لو كانت المنجزية من الآثار المختصة بالعلم الوجداني ، بحيث يكون ثبوتها للأمارة بدلالة الاقتضاء الموجبة للتصرف بدليلها ، كان التمسك بالإطلاق بالنسبة إلى جميع الآثار في محله ، لأن نسبة دلالة الاقتضاء إلى جميع الآثار متساوية ، ولا يكون في الإطلاق زيادة مئونة لتجشمها على كل حال. ولكنه ليس

ص: 425

كذلك ، بل المنجزية من آثار الأعم من العلم الواقعي والاعتباري ، وهو البيان ، فثبوتها للأمارة بعد اعتبارها لم يكن بدلالة الاقتضاء ، فلا يوجب ثبوتها التصرف في أي دليل ، وثبوتها كان في رفع اللغوية. بل لو كانت من الآثار المختصة بالعلم الواقعي لما كان لترتبها على الأمارة - باعتبار الشارع علميتها - وجه ، لأنها من الأحكام العقلية لا الشرعية فلا تثبت باعتبار الشارع للمعتبر.

فما ذكره المحقق النائيني قدس سره لا يخلو عن منع. ولا تتوجه به دعوى الحكومة ، بل ما ذكرناه هو الوجه الوجيه للدعوى. وبه تمسك الشيخ ( رحمة اللّه ) في إثبات الحكومة في باب الاستصحاب وباب التعادل والترجيح (1).

وقد نفي المحقق الخراسانيّ الحكومة. ولم يبين في باب الاستصحاب نفى الوجه الّذي تبتني عليه الحكومة ، وانما بيّن ان دليل الأمارة لا نظر له بمدلوله اللفظي إلى دليل الاستصحاب أصلا. وبدون ذلك لا تتحقق الحكومة (2).

واما التنافي الحاصل بينهما في مقام العمل ، حيث ان كلا منهما وارد في مورد الآخر ، فهذا لا يوجب الحكومة ، لأنه لو كان يحقق النّظر لكان كلا منهما حاكما ومحكوما ، لأنه جهة مشتركة بينهما ولا تختص به الأمارة. مضافا إلى ان ملاك النّظر الموجب للحكومة لو كان هو التنافي بين المدلولين ، لما كانت الأمارة حاكمة على الاستصحاب في صورة الموافقة ، لانتفاء الملاك - أعني : التنافي -. وما بيّنه هاهنا أجنبي عن المهم في دعوى الحكومة أعني كون مفاد دليل الاعتبار نفى احتمال الخلاف.

نعم أشار إلى ذلك في مبحث التعادل والترجيح بقوله : « وكيف كان ليس

ص: 426


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 407 و432- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبدا » (1).

وعلى كل حال فيتلخص الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية في أن الشيخ يذهب إلى كون دليل اعتبار الأمارة مفاده نفي احتمال الخلاف. وصاحب الكفاية يدعي عدم كونه كذلك. بل هو متكفل لجعل المنجزية والمعذرية أو جعل المؤدى. فالخلاف بينهما صغروي.

والّذي (2) يستفاد من كلام المحقق الأصفهاني قدس سره في المقام انه على القول بان دليل اعتبار الأمارة يتكفل تنزيل الأمارة منزلة العلم وعلى القول بأنه يتكفل تنزيل مؤداها منزلة الواقع. يكون دليل الأمارة حاكما على دليل الاستصحاب.

وبيان ذلك : ان الأمارة والأصل يشتركان في كون مفادهما معا حكما ظاهريا ، ولكن الأمارة تفترق عن الأصل انها تتكفل أداء الحكم الظاهري بعنوان انه الواقع ، ولذا تترتب عليه آثار الواقع. بخلاف الأصل ، فان ما يتكفل بيانه ليس بعنوان انه الواقع ، بل هو في مرحلة متأخرة عن الجهل بالواقع. وعلى هذا ، فتتضح حكومة دليل الأمارة على دليل الاستصحاب لو كان متكفلا لتنزيلها منزلة العلم ، لأنه يتكفل رفع موضوع الاستصحاب - وهو الجهل بالواقع - تعبدا ، ويوجب التصرف في موضوع دليله فيكون ناظرا إليه وحاكما عليه.

أما إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل المؤدي منزلة الواقع ، فقد لا تتضح الحكومة حينئذ ، لأنه لم يؤخذ في موضوع دليل الاستصحاب عدم الواقع ، بل أخذ الشك وعدم العلم لا غير. فلا يوجب دليل الأمارة التصرف في موضوعه ، بل مفاده أجنبي عنه (3).

ص: 427


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /338- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- لم يتعرض السيد الأستاذ - دام ظله - له في هذه الدورة. ( منه عفي عنه ).
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 129 - الطبعة الأولى.

ولذلك ذهب المحقق العراقي إلى عدم الحكومة على هذا القول (1).

ولكنه مع هذا يمكن تقريب الحكومة على هذا القول ببيان ان الموضوع إذا كان مركبا أو مقيدا ، فتنزيل أحد الجزءين أو تنزيل القيد مع إحراز الجزء الآخر أو ذات المقيد يوجب التئام الموضوع ويترتب عليه الحكم ، فتنزيل القيد على هذا تنزيل للمقيد بما هو مقيد لأنه يوجب تحققه تنزيلا ، فيكون التنزيل حينئذ موجبا للحكومة ، لأنه ناظر إلى موضوع الحكم فيضيقه أو يوسعه.

وموضوع الاستصحاب هو العلم المتعلق بالواقع ، فالواقع قيد للعلم. ولا إشكال في انه عند قيام الأمارة يعلم وجدانا بمؤداها ومفادها ، فإذا كان المؤدى بمنزلة الواقع ، خرج المورد حينئذ عن موضوع دليل الاستصحاب للعلم بالواقع حينئذ.

فبهذا التقريب تمكن دعوى حكومة دليل الأمارة على دليل الاستصحاب بناء على القول بان مفاد دليل الاعتبار تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، لأنه أيضا يوجب خروج المورد عن موضوع دليل الاستصحاب.

ولكنه وان أمكن تحققه ثبوتا ، غير انه ليس بثابت في مقام الإثبات ، فلا يتحقق ما هو أساس الحكومة من نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم.

وبيان ذلك : ان دليل التنزيل ظاهر عرفا في كون التنزيل بلحاظ ترتيب آثار نفس آثار المنزل عليه على المنزل ، لا الآثار الأخرى المرتبطة به بنحو ارتباط ، فتنزيل زيد منزلة عمر وانما يكون بلحاظ ترتيب نفس آثار عمر وعلى زيد ، لا آثار أبي عمرو أو أخيه على أبي زيد أو أخيه. ولما كانت الغاية في باب الاستصحاب وغيره من الأصول الشرعية هي العلم بالواقع ، فدليل الأمارة إذا كان يتكفل تنزيل المؤدى منزلة الواقع فهو انما يتكفل التنزيل المذكور بلحاظ

ص: 428


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 19 - القسم الثاني - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ترتيب آثار نفس الواقع على المؤدى. أما ترتيب آثار ما يضاف إليه ويتعلق به ، فلا يتكفله دليل التنزيل.

وعليه ، فلا يتكفل ترتيب آثار العلم بالواقع على العلم بالمؤدى.

نعم ، فيما إذا لم يكن للقيد أثر مستقل أصلا ، إلا بلحاظ إضافة ذات المقيد إليه ، كان تنزيل شيء منزلته بلحاظ ترتيب آثار المقيد بما هو مقيد ، ويكون تنزيل القيد تنزيلا للمقيد بما هو كذلك التزاما.

وبما ذكرنا ، يندفع ما قد يستشكل به من انه : كما انه إذا كان دليل الأمارة متكفلا لتنزيل الأمارة منزلة العلم يتمسك بإطلاق دليل التنزيل ، فيترتب عليها جميع آثار العلم ، ولذلك يقال بحكومتها على أصالة البراءة وغيرها دون خصوص الاستصحاب. فكذلك إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل مؤداها منزلة الواقع ، فليتمسك بإطلاق دليل التنزيل ويرتب على المؤدى جميع آثار الواقع ولو كانت مرتبطة به بنحو ارتباط.

فان ما ذكرناه لا ينافي التمسك بالإطلاق ، لأن ظاهر دليل التنزيل ترتيب آثار نفس المنزل عليه على المنزل ، فإذا كان له إطلاق يتمسك به في ترتيب جميع هذه الآثار عليه. فهاهنا يتمسك بإطلاقه في ترتيب جميع آثار نفس الواقع على المؤدى ، كما يتمسك بإطلاقه في ترتيب جميع آثار نفس العلم فيما إذا كان دليل التنزيل متكفلا لتنزيلها منزلة العلم.

وبالجملة : فما ذكر في تقريب الحكومة على هذا القول وان كان معقولا وممكنا ثبوتا ، إلا انه غير تام إثباتا ، لعدم وفاء دليل التنزيل فيما نحن فيه بذلك.

وعليه ، فينحصر الوجه الصالح لتقريب الحكومة فيما ذكره الشيخ وتصدى لنفيه صاحب الكفاية من : ان دليل الاعتبار يتكفل إلغاء احتمال الخلاف

ص: 429

بتعبير ، وتنزيل الأمارة منزلة العلم بتعبير آخر. وهذا الوجه هو أساس الحكومة ، وهو كبرويا مسلم لأن الأمارة بورودها تحقق الغاية للاستصحاب ولكل أصل أو ترفع موضوعه ، فان الأصول الشرعية مغياة بالعلم أو مقيدة بعدم العلم ، والمفروض ان الأمارة علم تنزيلا ، فتتحقق الغاية بها أو يرتفع الموضوع. وبذلك تكون أدلتها حاكمة على أدلة الأصول لنفيها لموضوعها.

لكنه صغرويا محل إشكال بل منع ، فانه ثبوتا ممكن لكنه إثباتا صعب الإثبات ، فلا يمكن استفادة ذلك من أدلة الاعتبار.

وبيان ذلك : ان التنزيل عبارة عن أمر واقعي حقيقته ترتيب أثر شيء على شيء آخر ، وقد يكشف عنه اللفظ ، كما إذا صرح به وقيل : « أنزلت هذا منزلة ذاك ». وقد ينتزع عن إثبات الحكم المختص بشيء إلى شيء آخر ولو لم يكن تصريح في البين ، فانه ينتزع من هذا الإثبات تنزيل الشيء الآخر منزلة ذاك الشيء في أثره ، ونظير ذلك في التكوينيات انه لو كان هناك أثر مختص عرفا بشيء ثم ترتب ذلك الأثر على شيء آخر ، فانه ينتزع عن ذلك كون هذا الشيء بمنزلة ذلك الشيء - لكن الفرق ان التنزيل لا يتصور في التكوينيات ، لأن ترتب الأثر التكويني واقعي لا جعلي وانما يتصور في المجعولات -.

وبهذا تعرف انه لا يلزم ان يكون دليل التنزيل لفظيا ، بل يمكن ان يكون لبيا.

ثم لا يخفى ان تنزيل شيء منزلة آخر لا يجدي في ترتيب جميع آثار المنزل عليه على المنزل ، إلا إذا كان الملحوظ في دليل التنزيل جميع الآثار. فالمترتب من الآثار هو الملحوظ في مقام التنزيل ، فقد يلحظ جميع الآثار وقد يلحظ بعضها ، فلا بد من ملاحظة دليل التنزيل وما هو ظاهر فيه. فحكومة الأمارة على الاستصحاب من جهة تنزيلها منزلة العلم تتوقف أولا على ثبوت التنزيل ، وثانيا على كونه بلحاظ الاستصحاب المترتب على الشك. ولا يخفى عدم وفاء دليل

ص: 430

الأمارة بكلتا الناحيتين ، إذ غاية ما يستدل به على التنزيل المذكور أمور :

الأول : قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) ، فان الظاهر منها ان السؤال في مقام يجب تحصيل العلم بالحكم ، وظاهره الاكتفاء بسؤال الواحد وإجابته في حصول العلم ، فكأنه قال : « اسألوهم ان كنتم لا تعلمون لكي تعلموا ». ولا يخفى ان إجابة الواحد لا توجب العلم الوجداني ، فلا بد ان يكون ذلك تنزيلا لخبر الواحد منزلة العلم.

الأمر الثاني : تعبير الإمام علیه السلام ب- : « عرف أحكامنا » في الرواية المقبولة : « انظروا ... » (2) ، فان المشار إليه هو المجتهد. ولا يخفى ان معرفة الأحكام للمجتهد انما تكون بالطرق الظنية غير الموجبة للعلم ، فالتعبير عنه ب- : « عرف أحكامنا » لا بد ان يكون من باب تنزيل الطرق المؤدية إليها منزلة العلم.

الأمر الثالث : العقل ، فانه يحكم بامتناع اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد ، فإذا قامت الأمارة على حكم كان فعليا بمقتضى دليل اعتبارها. وحينئذ يمتنع ان يكون هناك حكم فعلي آخر بمقتضى حكم العقل المذكور. فاحتمال الخلاف لما قامت عليه الأمارة منفي بدليل اعتبارها بمقتضى حكم العقل.

الأمر الرابع : بناء العقلاء على العمل بالأمارة وترتيب آثار العلم عليها من المنجزية والمعذرية ، فانه ينتزع عن ذلك تنزيلهم للأمارة منزلة العلم. وقد عرفت إمكان ذلك لعدم اشتراط كون دليل التنزيل لفظيا.

وهذه الأمور لا تفي بإثبات المدعى ..

أما الأمر الأول : فالخدشة في الاستدلال به من وجوه :

ص: 431


1- سورة النمل ، الآية : 42
2- وسائل الشيعة 18 / 98 باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث 1.

الوجه الأول : ان موردها - كما بين في محله - ليس الأحكام الفرعية ، بل انما هو الأمور الاعتقادية التي لا يكتفي فيها بغير العلم قطعا.

الوجه الثاني : ان المراد من : « أهل الذّكر » ليس الرّواة أو المجتهدين ، بل المراد إما الأئمة الأطهار علیهم السلام - كما هو مقتضى بعض الروايات الواردة في تفسير الآية الكريمة (1) - وإما علماء اليهود ، لكون المسئول عنه ما يتعلق بنبوة نبينا صلی اللّه علیه و آله عندهم.

ولا يخفى ان ما يقوله كل منهما موجب للعلم. اما الأئمة المعصومون علیهم السلام فواضح. واما علماء اليهود فلأن ما يقولون في شأن النبوة الحقة مما يؤكد معتقداتنا - كما هو مقتضى الإرجاع إليهم بإيجاب السؤال منهم - ، لا يحتمل فيه الكذب عادة ، لأنهم أعداء النبوة ومنكروها ، فبقولهم يحصل العلم العادي - المعبر عنه بالاطمئنان - ، ان لم نقل بحصول العلم القطعي الوجداني.

الوجه الثالث : ان ظهور الآية في المدعى أساسه كون المطلوب في مقام السؤال هو العلم. لظهورها - على هذا - في كون السؤال لتحصيل العلم ، فيكون من باب تنزيل ما يقوله أهل الذّكر منزلة العلم. وهو غير ثابت ، إذ يمكن ان يكون المطلوب هو كون العمل مستندا إلى مستند شرعي أو عقلي ، فإذا كان هناك علم فهو المتعين ، وإلا فالمرجع هو قول أهل الذّكر ، فتكون الآية بصدد جعل الحجية لقول أهل الذّكر. فيكون مستندا شرعيا يصح الاستناد إليه في مقام العمل مع عدم العلم ،

هذا ، مع انه لو سلم ظهور الآية الكريمة في أصل تنزيل الخبر منزلة العلم ، وأغمضنا النّظر عن هذه المناقشات وأمثالها مما تقدم في مبحث حجية الخبر ، فذلك وحدة لا ينفع في الحكومة ، إذ من الواضح ان تنزيل الخبر منزلة العلم

ص: 432


1- الكافي 1 / 210 باب ان أهل الذّكر هم الأئمة علیهم السلام .

في الآية انما هو بلحاظ مقام العمل والامتثال والتنجيز والتعذير ، دون مطلق آثار العلم العقلية والشرعية ، فلا نظر لها إلى التعبد الاستصحابي الثابت في مورد عدم العلم.

وبالجملة : لا إطلاق في الآية بلحاظ جميع آثار العلم فلاحظ.

واما الأمر الثاني : فالخدشة في الاستدلال به من جهتين :

الأولى : ان حصول العلم الحقيقي والمعرفة الحقيقية بواسطة الطرق العلمية للمجتهد في الصدر الأول غير بعيد ، لقرب العهد بزمان الأئمة المعصومين علیهم السلام - فان شأنهم شأن المقلدين في زماننا في معرفة فتاوى مقلديهم بالمعرفة الحقيقية أو العادية لتوفر الطرق العلمية لذلك - ، فيكون إطلاق المعرفة من باب الفرد الغالب في زمان الحكم. وان لم تتحقق فيما بعد زمانه بمدة ، كما في زماننا هذا.

مع ، انه يمكن تحقق ذلك في زماننا بالنسبة إلى المجتهد ، لأنه يعرف كثيرا من الأحكام الواقعية كالضروريات ، وما استفيد من السنة المستفيضة والمتواترة. وهذا المقدار كاف في صحة إطلاق « عرف أحكامنا » عليه.

الجهة الثانية : ان الأحكام أعم من الأحكام الواقعية والظاهرية. ولا يخفى ان المجتهد عارف بالاحكام الظاهرية حقيقة ، لأن الأدلة الظنية علمية بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، وان كانت ظنية بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

ولو أبيت إلا عن ظهور الأحكام في الأحكام الواقعية وانصرافها إليها ، فالأمر حينئذ يدور بين إبقاء لفظ المعرفة على معناه الحقيقي وظاهره الاستعمالي ، والتصرف في لفظ الأحكام بحملها على الأعم من الواقعية والظاهرية. وإبقاء لفظ الأحكام على معناه الاستعمالي الظاهر ، والتصرف في لفظ المعرفة بحملها على الأعم من المعرفة الحقيقية والمعرفة التنزيلية. ولا مرجح لأحد الظهورين على الآخر ، فلا يتم الاستدلال بالرواية.

ص: 433

هذا ، مع مناقشته بما مرّ في مناقشة الاستدلال بالآية الكريمة من عدم الإطلاق بلحاظ جمع الآثار ، إذ الرواية ليست بصدد بيان التنزيل ، كي يتمسك بإطلاقها ، بل بصدد بيان حكم آخر مرتب على المجتهد الّذي أطلق عليه العارف بالاحكام فانه يكشف عن ثبوت التنزيل في الجملة من دون كشف عن سعته وضيقه ، والمتيقن منه تنزيله بلحاظ الحجية والمنجزية والمعذرية. فتدبر.

وأما الأمر الثالث : فالاستدلال به فاسد لوجوه :

الأول : انه على تقدير تماميته ، فنتيجته الورود لا الحكومة ، لأنه - أي دليل الأمارة - ينفي احتمال الخلاف حقيقة لا تعبدا ، لامتناع تحقق الخلاف عقلا.

الوجه الثاني : انه جهة مشتركة بين دليل الأمارة ودليل الاستصحاب ، فان مقتضى اعتبار الاستصحاب ثبوت الحكم المستصحب في المورد ، وبمقتضى حكم العقل بامتناع اجتماع حكمين ينتفي احتمال خلاف المستصحب ، فدليل اعتبار الاستصحاب يتكفل أيضا نفي احتمال الخلاف بالتقريب المذكور.

الوجه الثالث : ان الحكم المأخوذ في موضوع الأصل لا يمتنع اجتماعه عقلا مع الحكم الفعلي المتحقق بالأمارة ، لأن موضوعه هو احتمال الواقع ، والحكم المتحقق بها حكم ظاهري. وإلا للزم ارتفاع احتمال هذا الحكم بنفس إجراء الأصل ، لأنه يحقق حكما ظاهريا ، فيلزم من إجرائه انتفاء موضوعه ، وهو الاحتمال ، وينتفي هو بانتفائه ، فيمتنع إجراؤه حينئذ ، لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال. وإذا ثبت عدم المنافاة بين الحكمين ، فلا يكون نفي احتمال الخلاف في الأمارة موجبا لارتفاع موضوع الأصل ، لأنه ينفي احتمال خلاف هذا الحكم من الأحكام الظاهرية ، وهو لا يتنافى مع احتمال الحكم الواقعي المخالف لمؤدى الأمارة ، فلا تتحقق الحكومة.

وأما الأمر الرابع : فتمامية الاستدلال به تبتني على ان تكون المنجزية والمعذرية وغيرهما من آثار العلم المختصة به عرفا ، بحيث يكون ثبوتها لغيره

ص: 434

محمولا على التنزل ، وهو مما لا دليل عليه ، إذ يمكن ان تكون في نظر العقلاء أثرا أعم للعلم لا مساو. وقد عرفت ان انتزاع التنزيل انما يكون من ترتيب الآثار المختصة بشيء على آخر ، فترتيب وجوب الإكرام على زيد مع ترتيبه أولا على بكر لا يعد تنزيلا لزيد منزلة بكر كما لا يخفى.

إلاّ ان يقرّب هذا الوجه : بان العقلاء في مقام عملهم لا يعتنون باحتمال الخلاف الموجود عند قيام الأمارة وينزلونه منزلة العدم ، والمفروض ان الشارع أمضى السيرة العقلائية.

وفيه : انه لو تم ، فهو لا يتكفل إلاّ تنزيل الأمارة منزلة العلم في مقام المنجزية والمعذرية ، إذ المنظور في عمل العقلاء ذلك دون التعبد الاستصحابي ونحوه ..

وإذا لم يصلح أي دليل على إثبات تكفل دليل الأمارة نفي احتمال الخلاف ، فلا سند حينئذ لدعوى الحكومة.

ثم انه لو لم تثبت دعوى الورود والحكومة فلا مناص عن القول بتخصيص دليلها لدليله ، لأن أغلب مواردها لو لم تكن كلها من موارد الاستصحاب ، فيلزم من العمل بدليل الاستصحاب وطرح دليل الأمارة عدم العمل بها أصلا أو إلا نادرا ، وهو لا يصحح الاعتبار بل يستلزم لغويته.

تذييل (1) : لا يخفى أنه مع الالتزام بالورود بالتقريب الّذي ذكرناه ، فانما يلتزم به في صورة قيام الأمارة على الخلاف ، اما مع قيامها على طبق الحالة السابقة فلا يتحقق الورود ، لأنا قد قربنا الورود بان المراد بالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة ، وقيدناه بان يكون على الخلاف - بقرينة النهي عن النقض به الظاهر في كونه على خلاف الحالة السابقة بحيث يصدق

ص: 435


1- لم يتعرض له السيد الأستاذ - دام ظله - في الدورة الثانية. ( منه عفي عنه ).

معه النقض - ، فاليقين لا ينقض بغير الحجة على الخلاف.

والورود على هذا انما يتحقق فيما إذا كانت الأمارة قائمة على خلاف اليقين السابق ، لتحقق الحجة والطريق على الخلاف ، فينتفي موضوع الاستصحاب حقيقة. أما إذا كانت الأمارة قائمة على وفق اليقين السابق ، فالمتحقق انما هو الطريق والحجة على الوفاق ، فلا يرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لعدم منافاته لتحقق عدم الطريق على الخلاف وهو الشك ، وإذا تحقق موضوع الاستصحاب وهو عدم الطريق والحجة على الخلاف ، كان المورد مشمولا لعموم أدلة الاستصحاب والنهي عن النقض ، فيجري الاستصحاب في عرض الأمارة.

نعم ، لو أخذ في موضوع الاستصحاب عدم الحجة مطلقا ولو لم يكن على الخلاف ، كانت الأمارة الموافقة واردة ، لأنها تنفي موضوعه ، وهو عدم الحجة ، لأنها تحقق الحجة. ولكنه ليس كذلك ، بل المأخوذ في موضوعه هو عدم الحجة على الخلاف - كما حققناه -.

وقد أشار إلى الإشكال صاحب الكفاية بقوله : « وعدم رفع اليد عنه ... ». فانه قد يرد أيضا بناء على تقريبه للورود. فانه قرّبه : بان النقض بالأمارة ليس نقضا بالشك كي يكون منهيا عنه ، بل هو نقض باليقين أو بالدليل. وفي صورة قيام الأمارة الموافقة لا يتصور النقض بالأمارة ، كي يقال انه ليس نقضا بالشك بل بالدليل ، ولا إشكال في وجود الشك في المورد ، فيكون المورد مشمولا لدليل الاستصحاب ، لأن رفع اليد عن اليقين السابق نقض لليقين بالشك (1).

والظاهر من عبارة الكفاية في مقام الجواب عن الإشكال : ان البقاء على اليقين السابق ليس من جهة ملازمة الرفع لنقض اليقين بالشك ، كي يكون منهيا

ص: 436


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /429- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

عنه ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة ووجوب السير على طبق الطريق المعتبر.

وهذا بظاهره لا يرفع الإشكال ولا يحقق الورود ، لأن شمول دليل الاستصحاب للمورد قهري لتحقق موضوعه - وهو كون النقض بالشك - ، فما المانع من التمسك به في عرض الأمارة؟!.

ولكن يمكن توجيه ما ذكره بما يحقق الورود ويرفع الإشكال. وبيانه : ان موضوع النهي في الاستصحاب هو : « النقض بالشك » ، فالموضوع هو المقيد ، والمقيد بما هو مقيد الّذي هو الموضوع كما يرتفع بارتفاع القيد كذلك يرتفع بارتفاع ذات المقيد. ففي المقام حيث ان رفع اليد عن الحالة السابقة ينطبق عليه عنوان مخالفة الحجة ، فرفع اليد عنه إذا كان بهذا العنوان - أعني : بعنوان مخالفة الحجة - لا يشمله النهي الاستصحابي ، لأنه ليس بعنوان نقض اليقين بالشك ، فلا ينطبق عليه موضوع النهي الاستصحابي وهو النقض. وان كان يشمله نهي آخر ، وهو النهي عن مخالفة الحجة ، فالنهي عن رفع اليد موجود ولكن بعنوان انه مخالفة الحجة لا بعنوان انه نقض لليقين بالشك كي يكون من باب الاستصحاب. فموضوع النهي الاستصحابي مرتفع ، وهو النقض بالشك بارتفاع النقض - وهو ذات المقيد -. كما انه في صورة قيام الأمارة على الخلاف يرتفع الموضوع بارتفاع قيده ، لصدق النقض بالدليل لا بالشك.

وبالجملة : فتقريب الورود - على ما ذهب إليه صاحب الكفاية - في صورة الموافقة ممكن بنحو تقريبه في صورة المخالفة.

ثمرة التذييل

ثم أن ثمرة ذلك تظهر في صورة العلم الإجمالي وقيام الأمارة على أحد الطرفين وقيام أخرى على الطرف الآخر ، وكان أحدهما موردا للاستصحاب ، فانه مع تمامية الورود في صورة الموافقة وان الاستصحاب يكون في طول الأمارة

ص: 437

الموافقة ، يكون التعارض بين الأمارتين فقط فيتساقطان ، فيجري الاستصحاب حينئذ في طرفه ، لعدم المعارض ، وعدم الوارد لعدم العمل بالأمارتين. وأما مع عدم تمامية الورود - كما قربناه - وكون الاستصحاب في عرض الأمارة الموافقة ، كان التعارض بين كل من الأمارة والاستصحاب في هذا الطرف والأمارة في الطرف الآخر ، فيسقط الجميع عن العمل للتعارض.

ومما ينبغي أن يعلم : أن هذه الثمرة انما تتم لو بني - في صورة كون أحد الطرفين في العلم الإجمالي مجرى لأصل ، والطرف الآخر مجري لأصول طولية بعضها في طول بعض - على كون المعارضة في الأصول المذكورة بين الأصل في أحد الطرفين والأصل الأول الأسبق رتبة في الطرف الآخر. أما لو بني على كون المعارضة بين هذا الأصول وجميع الأصول الطولية - كما عليه المحقق النائيني قدس سره (1) - ، فلا تتم الثمرة ولو قيل بالورود ، لأن المعارضة على القول به بين الأمارة في أحد الطرفين والأمارة والاستصحاب في الطرف الآخر أيضا.

وكلام المحقق النائيني وان كان ناظرا إلى التعارض الحاصل بين الأصول ، ولكن ما ذكره من الدليل على مدعاه يشمل الأمارات أيضا لا خصوص الأصول ، فالتفت.

والّذي تبين من جميع ما ذكرناه في المقام : أن الوجه في تقديم الأمارة على الأصل الاستصحابي هو ورودها عليه ، وانه لو تنزلنا عن دعوى الورود ، فلا بد من الالتزام بالتخصيص ولو كان بين دليلهما عموم من وجه ، لعدم تمامية دعوى الحكومة (2).

ص: 438


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 48 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- قد يشكل الالتزام بحكومة الأمارة على الاستصحاب - باعتبار ان دليلها يتكفل جعلها علما تنزيليا والمأخوذ في موضوع الأصل الجهل بالواقع فيكون ورود الأمارة رافعا لموضوع الأصل تعبدا - بان الأمارة قد أخذ في موضوعها الشك أيضا وذلك لأن لا إشكال في عدم اعتبارها مع اليقين بالواقع بأي نحو من أنحاء الاعتبار. فيدور الأمر ثبوتا بين ان يؤخذ في موضوعها الجهل بالواقع أو يكون مطلقا بالنسبة إلى مجال العلم والجهل أو يكون مهملا. لا مجال للثالث لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. وكذا الثاني لما عرفت من عدم اعتبارهما في صورة اليقين والعلم. فيتعين الثالث. وإذا كان موضوعها مقيدا بالجهل فالاستصحاب يتكفل تنزيل الشك منزلة اليقين ، فهو يثبت اليقين تنزيلا ، فيكون رافعا لموضوع الأمارة وحصول اليقين بالواقع تعبدا ، فلا حكومة للأمارة على الاستصحاب بل بينهما تحاكم بالتقريب المذكور. وقد أجيب عن هذا الإشكال بجوابين : الأول : أن الشك المأخوذ في موضوع الأصل مفهوم عالم يصلح للانطباق على الفرد الحقيقي للشك والاعتباري. بخلاف المأخوذ في موضوع الأمارة ، فانه حيث كان بحكم العقل كان ظاهرا في الصفة الوجدانية. وعليه ، فحيث ان دليل الأمارة يتكفل اعتبارها علما ، كان ورودها رافعا لموضوع الأصل ، بخلاف الأصل فانه لا يتكفل رفع الشك حقيقة بل تنزيلا وهو لا يجدي لأن الشك المأخوذ في موضوع الأمارة واقع الشك الظاهر في الصفة الوجدانية. وبعبارة أخرى : ان حيث أخذ الشك في موضوع الأصل إثباتا ولفظا كان ظاهرا في أن الموضوع كل ما يصدق عليه الشك ولو بواسطة الاعتبار. وهذا بخلاف الشك المأخوذ في موضوع الأمارة. فانه مأخوذ ثبوتا والمراد به واقع الشك لا عنوانه إذ لا ربط بالصدق ونحوه في مرحلة الثبوت. وبهذا تكون الأمارة حاكمة على الأصل دون العكس ، مع الالتزام بأخذ الشك في موضوع الأمارة. وفي هذا الجواب ما لا يخفى : أما أولا : فلما عرفت من أن دليل الأمارة لا يتكفل الاعتبار ، إذ مشروعية الاعتبار تختص بموارد خاصة. وأما ثانيا : فلأنه مع التسليم بكونه متكفلة للاعتبار ، انما تكون واردة لا حاكمة لنفيها الموضوع تكوينا - كما عرفت - ، مضافا لاختصاص ورودها بما إذا لم يكن للأمارة من أثر غير نفي الحكم الثابت بالدليل الآخر. وليس الأمر كذلك إذ للأمارة آثار خاصة ولو لم يكن هناك استصحاب ونحوه. وأما ثالثا : فلأن مبنى الإشكال على تكفل الأمارة التنزيل لا الاعتبار وبه يحصل التحاكم ، لأن مفاد الاستصحاب هو تنزيل الشك منزلة اليقين. والتفريق انما يكون بلحاظ نفي الأثر المترتب على الموضوع ، وهو يتحقق ولو كان الموضوع هو واقع الشك إذ لا نظر له جدا إلى الموضوع ، بل نظره إلى الحكم بلسان نفي الموضوع. فلاحظ. الجواب الثاني : ما هو المشهور من ان الشك أخذ في الأمارة موردا وفي الأصل موضوعا ، فلا حكومة للأصل على الأمارة لعدم نظره إليها. وتوضيح هذا الجواب بنحو يندفع به الإشكال والبرهان على أخذ الشك في الموضوع نقول : أن ما يوجب تحديد الحكم بحمد خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره. تارة يكون مأخوذا في مرحلة سابقة على الحكم سواء كان قيدا للحكم كالأمور غير الاختيارية أو لا موضوع كالأمور الاختيارية - وان كان التحقيق رجوع قيود الحكم إلى الموضوع -. وأخرى : يكون ملحوظا ومأخوذا مساوقا للحكم ومقارنا له في المرتبة ، بمعنى ان فعلية الحكم تكون في ظرف تحقق القيد ، فتكون فعلية الحكم وثبوت القيد متنازلين. نظير ثبوت الضد ، فانه مقيد بعدم الضد الآخر ، كثبوت الوجوب فانه لا إشكال مقيد بعدم الحرمة إذ لا يثبت الوجوب في ظرف الحرية. ففعلية الوجوب انما تكون مع عدم الحرمة ، ولكن تقيد الوجوب بعدم الحرمة ليس بمعنى أخذ عدم الحرمة في مرحلة سابقة عليه وفي مرحلة أصل ثبوته ، بحيث يكون التصرف فيه تصرفا في الحكم ومحققا للحكومة. بل بمعنى ان ثبوت الوجوب انما يكون في هذا الظرف دون غيره فهو ملحوظ في رتبة الحكم وإلاّ لكان الدليل الموجب لإثبات الحل مثبتا للوجوب ، لأنه حقق موضوع الوجوب ولا إشكال في انه لا يلتزم به أحد. نعم قد يكون ذلك بنحو الملازمة والأصل المثبت وهو غير ما نحن فيه. وعليه ، فالدليل المثبت لعدم الضد أو النافي له لا يتعرض لثبوت الضد الآخر أو نفيه بحال. والأمر في الأمارات كذلك ، فان تقيدها بعدم العلم كتقيد الضد بعدم الضد الآخر. بل هي من انه بعينه ، وذلك لأن الدليل على عدم ثبوت الأمارة مع العلم بالخلاف انما هو ثبوت التضاد العلمي أو الواقعي. وذلك فان التضاد فيها بملاك التضاد بين الأحكام لا في ذاتها ، فان الأحكام غير متضادة بنفسها بل متضادة في مرحلة داعويتها ومقام الامتثال ، لأن المكلف لا يمكنه امتثال الحكمين معا. فكذلك التضاد بين جعل الأمارة علما تنزيليا والعلم بالواقع. لأن جعل العلم التنزيلي مرجعه إلى جعل وجوب العمل على طبقه وبلحاظ الجري العملي. وجعل الواقع الّذي تعلق به العلم يرجع إلى ذلك أيضا فجعل الواقع وجعل العلم على خلافه متضادان في مرحلة الامتثال. فأخذ عدم العلم في مورد الأمارة من باب أخذ عدم الضد واقعا أو علما. وقد عرفت أنه لم يؤخذ قيدا للحكم بالمعنى الّذي كون التصرف فيه موجبا للتصرف في نفس الحكم ، بل بالمعنى الآخر ، وهو معنى الموردية ، فاتضح بذلك الفرق بين المورد والموضوع المذكور في جواب الاعلام. ومن هنا يتضح كون الجواب عن البرهان المزبور ، بالالتزام بالإهمال في الموضوع في مرحلة الثبوت ولا محذور فيه ، لأن امتناع الإهمال في مقام الثبوت باعتبار إيجابه للتردد في الحكم وانه يشمل المقيد وغيره أو لا؟ إذ لا مجال لتردد الحاكم في حكمه نفسه وعدم علمه بمقدار شموله. وأما إذا كان الإهمال غير مركب للتردد في الحكم بل كان مقدار الحكم معلوما فلا مانع فيه لأن المجعول الّذي لا يمكن التردد فيه لا تردد فيه واقعا والتردد في غيره لا مانع منه. والمقام من هذا القبيل لأن الحكم معلوم المقدار والحد ولو مع إهمال الموضوع. ولو أبيت إلا عن امتناع الإهمال في الموضوع أيضا باعتبار أن الحاكم مع التفاته إلى ضيق دائرة حكمه يلحظ الموضوع ضيقا قهرا عليه ، فيكون الموضوع ضيقا أيضا كالحكم. فلا مانع من الالتزام به بالنحو الّذي التزمنا به في ظرف الحكم بان يلحظ عدم العلم ظرفا للموضوع لا قيدا وموردا لا جزاء. فلا يكون التصرف فيه تصرفا في الموضوع أصلا. فالتفت. استدراك : أن الوجه في تقديم الأمارة على الأصل بالحكومة إن كان لأجل تعرض نفس الأمارة لمفاد الأصل باعتبار انها تثبت ما نفاه الأصل أو العكس ، فذلك غير موجب للحكومة وإلا يحصل التحاكم ، فان الأصل أيضا متعرض ، لمفاد الأمارة لأنه ينفي ما تثبته الأمارة أو العكس ، فملاك حكومة نفي الأمارة ، موجود. وان كان بلحاظ دليل اعتبار الأمارة لا نفس الأمارة ، فهو ليس ناظرا إلى دليل الأصل بمفاده فانما مفاده على المشهور ثبوت حكم ظاهري على طبق مؤدي الأمارة وعلى المختار ثبوت المنجزية والمعذرية بقيام الأمارة ، وعلى كلا الوجهين لا تعرض له بوجه لدليل الأصل كي يكون حاكما عليه. ثم انه قد يقرر وجه حكومة الأمارة على الأصل : بان كلا من دليل اعتبار الأمارة والأصل وان كان يتكفل إلغاء احتمال الخلاف ، فدليل اعتبار الأمارة يتكفل إلغاء احتمال خلافها. ودليل اعتبار الأصل يتكفل إلغاء احتمال خلافه ، إلا أنه لما لم يكن دليل اعتبار الأصل ناظرا إلى إلغاء حكم الأمارة ، لأن حكم الأصل مترتب على الشك في الواقع الّذي هو مؤدي الأمارة ، فلا يمكن أن يكون الواقع مأخوذا فيه عدم حكم الأصل لأن حكم الأصل في طول الواقع ، وكان دليل اعتبار الأمارة متكفلا لنفي احتمال خلافه ، ومنه حكم الأصل. كانت الأمارة رافعة لموضوع الأصل وهو احتمال الخلاف ونافية لحكمه ، بخلاف الأصل فانه غير رافع لموضوع الأمارة ، إذ لا تعرض له لحكمها ، فانه يتكفل إلغاء احتمال خلاف حكمه مما هو في مرتبته ولا يتعدى إلى الواقع كي يكون ناظرا إلى الأمارة أيضا. ونفي هذا الوجه صاحب الكفاية بأن لم يثبت بان دليل الاعتبار في الأمارة والأصل يتكفل إلغاء احتمال الخلاف كي يقرر ما ذكر. هذا محصل توضيح عبارة الكفاية. ولا بد من التعرض لشيء استطرادي أيضا وهو انه قد يشكل على القول بحكومة الأمارة على الاستصحاب. بتقريب : ان دليل الأمارة يتكفل جعلها علما تنزيليا والمأخوذ في موضوع الأصل الجهل بالواقع ، فيكون ورود الأمارة رافعا لموضوع الأصل تعبدا بان الأمارة أيضا قد أخذ في موضوعها الشك وذلك لأنه لا إشكال في عدم اعتبارها مع اليقين بالواقع بأي نحو من أنحاء الاعتبار ، فيدور الأمر ثبوتا بين ان يؤخذ في موضوعها الجهل بالواقع أو يكون مطلقا بالنسبة إلى حكم العلم والجهل أو يكون مهملا لا مجال للثالث لامتناع الإهمال في مرحلة الثبوت. وكذا الثاني لما عرفت من عدم اعتبارها في صورة اليقين والعلم ، فيتعين الثالث ، وإذا كان موضوعها مقيدا بالجهل فالاستصحاب يتكفل تنزيل الشك منزلة اليقين ، فهو يثبت اليقين تنزيلا فيكون رافعا لموضوع الأمارة لحصول اليقين بالواقع تعبدا ، وبالجملة : يلزم من تقريب حكومة الأمارة على الاستصحاب ذكر التحاكم من الطرفين. ولا وجه للتفصي عن هذا الإشكال بعدم أخذ الجهل في الأمارة موضوعا بل موردا لما عرفت من إقامة البرهان على أخذه في موضوعها. وبالجملة : لا يتضح الفرق بين الموضوع والمورد الا لفظا. ويمكن الإجابة عنه : ان الفرق بين الموضوع والمورد هو : ان القيود التي تحدد الحكم بنحو خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره ولا يتحقق في ظرف آخر على نحوين : الأول : مما يرجع إلى المرتبة السابقة على الحكم ، وهي التي يعبر عنها بقيود الموضوع ، كأخذ العادل في موضوع وجوب الإكرام في قول الأمر : « أكرم العالم العادل ». الثاني : ما يكون متحدا في المرتبة مع الحكم ، بان يؤخذ في نفس الحكم دون الموضوع ، وهو المعبر عنه بقيود الحكم. وذلك نظير التعبد بأحد جزئي الموضوع ، فانه مقيد بالتعبد بالجزء الآخر - في صورة عدم إحرازه بالوجدان - بحيث يكون التعبد بالجزء الآخر في عرضه التعبد به ، فهو مأخوذ في نفس الحكم وهو التعبد ، بحيث لولاه لما صح التعبد به ، وليس مأخوذا في مرحلة سابقة عليه للزوم المدعى - كما لا يخفى -. فالقسمان يشتركان في كونهما محددان للحكم بحد خاص ، بحيث لا يثبت مع عدم ثبوتهما ، إلا انهما يختلفان في ان أحدهما يؤخذ في المرحلة السابقة على الحكم ، والثاني : يؤخذ في مرحلة الحكم نفسه ، ويكون قيدا لنفس الحكم. فيمكن أن يكون المراد بقيد الموضوع هو القيد المأخوذ في مرحلة سابقة عن الحكم ، وبقيد المورد هو المأخوذ في نفس الحكم. وحيث ان الشك أخذ في الاستصحاب في المرحلة السابقة مع التعبد وفي الأمارات ليس كذلك ، بل الحكم مقيد بهذا القيد يعني بصورة الجهل دون العلم بالدليل العقلي ، كان الشك مأخوذا في موضوع الاستصحاب دون الأمارة ، بل فيها أخذ في نفس الحكم ، وهو المراد من كونه مأخوذا في موردها. وعلى هذا فلا يكون الاستصحاب حاكما على الأمارة لأنه لا يتصرف في موضوعها. وتوهم : ان الدليل الحاكم أعم مما كان متصرفا في قيود الموضوع أو قيود الحكم ، فانه لو قال أكرم زيدا وقيد الوجوب ليوم الجمعة ، ثم قام دليل على هذا اليوم المتوهم كونه يوم جمعة ، ليس بيوم الجمعة كان هذا حاكما على الدليل الآخر ورافعا لحكمه ، فإذا كان الشك في الأمارة مأخوذا قيدا للحكم كان الاستصحاب رافعا له وهو واضح. مندفع : بأن الشك لم يؤخذ شرطا وقيدا للحكم كي يلزم ما ذكر ، بل أخذه في الحكم بنحو يكون الحكم هو الحصة الملازمة للشك ، والتي تكون مع الشك بحيث لا يثبت الحكم في غير هذا الظرف ، فلا يكون الدليل الرافع الشك متعرضا للحكم بحال ، إذ لا علاقة للشك بالحكم لا قيدا ولا موضوعا ، بل بنحو الملازمة. فغاية ما يكون ان الدليل الرافع للشك يكون معارضا ومنافيا للأمارة بمدلولها - وهو العلم التنزيلي - وهو لا يرفع حكومتها على الاستصحاب لما عرفت أن أحد الدليلين إذا كان رافعا لموضوع الآخر كان حاكما عليه ولو كان الآخر منافيا له في الدلالة. ومن هنا تتضح الإجابة عما أقيم من البرهان على أخذ الشك في موضوع الأمارة وذلك بالالتزام بالإهمال في جانب الموضوع ، وأما المحذور المذكور على الإهمال في مقام الثبوت وهو لزوم تردد نفس الحاكم في حكمه لعدم علمه بشموله للمورد المشكوك وعدمه ، فهو لا يتأتى ، لأن هذا انما يتم لو كان الإهمال في الموضوع موجبا للإهمال في نفس الحكم ، أما العلم بالحكم وحده وانه مقيد بغير المورد - كما عرفت - فالإهمال في الموضوع غير ضائر أصلا ، لأن المجعول الّذي لا معنى للتردد فيه لا تردد فيه ، وغيره التردد فيه غير ضائر. فالتفت. استدراك : يتبع مبحث أخذ الجهل في موضوع الأصول والأمارة. والجواب عن هذا الإشكال : ان الإهمال في الموضوع في مرحلة الثبوت إنما يمتنع إذا كان موجبا للتردد في نفس الحكم وانه يشمل المقيد وغيره أولا ، إذ لا مجال لتردد الحاكم في نفس حكمه وعدم علمه بمقدار شموله وانه في هذا المورد ثابت أو لا. إما إذا كان الإهمال ليس موجبا للتردد في الحكم بل كان مقدار الحكم معلوما فلا مانع من ذلك ، لأن المجعول الّذي لا يمكن التردد فيه لا تردد فيه والتردد في غيره لا دليل على امتناعه. وما نحن فيه كذلك. وتوضيح ذلك : أن ما يوجب تحديد الحكم بحد خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره. تارة : يكون مأخوذا في مرحلة سابقة على الحكم سواء كان قيدا للحكم كالأمور غير الاختيارية أو الموضوع كالأمور الاختيارية وان كان التحقيق رجوع قيود الحكم إلى الموضوع. وأخرى : يكون ملحوظا ومأخوذا مساوقا للحكم في المرتبة بمعنى ان فعلية الحكم تكون في ظرفه تحقق القيد ، فتلحظ فعلية الحكم المقيد بنحو الملازمة ، نظير ثبوت الصد ، فانه مقيد بعدم الضد الآخر كثبوت الوجوب ، فانه لا إشكال انه مقيد بثبوت عدم الحرمة ، إذ لا يثبت الوجوب في ظرف الحرمة. ففعلية الوجوب انما تكون مع عدم الحرمة. فيكون تقيد الوجوب بعدم الحرمة ليس بمعنى أخذ عدم الحرمة في مرحلة سابقة عليه بحيث يكون التصرف فيه تصرفا في الحكم ومحققا للحكومة. بل هو بمعنى ان ثبوت الوجوب انما يكون في هذا المورد دون غيره فهو ملحوظ في رتبة الحكم. وإلا لكان الدليل الموجب لإثبات الحل مثبتا للوجوب لأنه حقق موضوع الوجوب ولا إشكال في انه لا يلتزم به أحد نعم قد يكون ذلك بنحو الملازمة والأصل المثبت وهو غير ما قرره. وعليه ، فالدليل المثبت لعدم الضد وما هو كرافع أو النافي له لا يتعرض لثبوت الضد الآخر أو نفيه بحال. والأمر في الأمارات كذلك فان تقيدها بعدم العلم كتقيد الضد بعدم الضد الآخر ، بل من بابه بعينه ، وذلك لأن الدليل على عدم ثبوت الأمارة مع العلم بالخلاف انما هو ثبوت التضاد العلمي أو الواقعي. فاعتبار عدم العام في التعبد بالأمارة من باب اعتبار عدم الضد في ثبوت الضد الآخر. وقد عرفت أنه لم يؤخذ قيدا للحكم بالمعنى الّذي يكون التصرف فيه موجبا للتصرف في نفس الحكم ، بل بالمعنى الآخر ، وهو معنى الموردية في كلام. فاتضح بذلك والفرق بين المورد والموضوع المذكور في جواب الاعلام. وان ما ذكر عن الترديد العقلي غير ناهض على أخذ الشك في موضوع الأمارات. تقريب التضاد : أن التضاد فيها بملاك التضاد بين الأحكام لا في ذاتها ، وذلك لأن الأحكام غير متضادة بنفسها ، بل متضادة في مرحلة داعويتها ومقام الامتثال. فان المكلف لا يمكن امتثال الحكمين معا. فكذلك التضاد بين جعل الأمارة علما تنزيليا والعلم بالواقع. لأن جعل العلم التنزيلي مرجعه إلى جعل وجوب العمل على طبقه بلحاظ الجري العملي. وجعل الواقع الّذي تعلق به العلم يرجع إلى ذلك أيضا فجعل الواقع وجعل العلم على خلافه متضادان في مرحلة الامتثال ، فأخذ عدم العلم في مورد الأمارة من باب أخذ عدم الضد ، لأن الضد واقعا هو نفس العلم بهذا اللحاظ بلحاظ إيجابه للمحركية بكشفه عن الواقع. فالتفت.

ثم أن هناك قواعد ثلاث تردد أمرها بين الأمارية والأصلية ، ووقع الخلاف في ذلك بين الأعلام. وهي : قاعدة اليد. وقاعدة الفراغ والتجاوز. وأصالة الصحة في عمل الغير.

ولا بأس في تنقيح الكلام فيها مفصلا لما يترتب عليها من آثار فقهية جمة جليلة.

ص: 439

ص: 440

ص: 441

ص: 442

ص: 443

ص: 444

الفهرس

الاستصحاب

تعريف الاستصحاب... 8

مناقشة التعاريف... 10

التعريف المختار... 11

الاستصحاب مسألة أصولية أو لا؟... 13

الفرق بين الاستصحاب وقاعدتي اليقين ، والمقتضي والمانع... 14

تقسيمات الاستصحاب... 15

نفي جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستفاد من العقل... 16

تصحيح الوجه الثالث وتعميمه للشبهة الموضوعية المصداقية... 20

تعميم النفي للأحكام الوجودية والعدمية... 22

الايراد على الشيخ والأصفهاني... 23

تقريب جريان استصحاب العدم في مورد النسيان... 24

اعتبار فعلية الشك والمناقشة فيه... 26

أدلة الاستصحاب ... 33

ص: 445

الاستدلال بالأخبار... 37

صحيحة زرارة الأولى... 37

محتملات مفاد الصحيحة... 38

في الاحتمال الأرجح... 45

التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع... 50

معنى النقض... 50

المختار في معنى النقض... 53

مناقشتنا للكفاية في معنى النقض... 57

امتناع تعلق النقض باليقين... 58

امتناع تعلق النقض باليقين اثباتا... 61

المجعول هو المتيقن لا اليقين... 64

الاستصحاب في الشبهة الموضوعية... 65

المختار في دفع الاشكال في جريان الاستصحاب المذكور... 71

الاستصحاب في الأحكام الكلية... 74

عدم الأثر لاستصحاب عدم الجعل... 76

مناقشة كلام العراقي... 78

عدم قابلية الجعل وعدمه للتعبد بهما... 81

امتناع التعبد بعدم التكليف... 83

هل الجعل يتبع المجعول سعة وضيقا... 84

الاستصحاب في الأحكام الترخيصية والوضعية... 90

صحيحة زرارة الثانية... 90

الاستدلال بالفقرة الأولى... 91

جعل الفقرة من التعليل بالصغرى... 103

ص: 446

منع إفادة الفقرة لقاعدة اليقين... 106

الاستدلال بالفقرة الثانية... 107

صحيحة زرارة الثالثة... 107

رواية الخصال... 117

مكاتبة القاساني... 120

رواية عمار... 124

الأحكام الوضعية... 133

الكلام في سبب التكليف وشرطه ونحوهما... 134

منع جعل السببية استقلالا... 134

الايراد على وجهي الكفاية... 135

السببية منتزعة عن خصوصية واقعية... 138

الكلام في جزء المأمور به وشرطه ونحوهما... 141

استشكال العراقي الشرطية... 142

في جريان الأصل في الجزئية وعدمه... 143

الكلام في الحجية والملكية ونحوهما... 146

الاشكال ثبوتا في جعل الملكية استقلالا... 148

البحث عن مجعولية الصحة والطهارة ونحوهما... 149

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الأول : في جريان الاستصحاب في مودي الأمارات... 151

التبيه الثاني : في استصحاب الكلي... 159

استصحاب الفرد المردد... 160

القسم الأول من استصحاب الكلي... 166

ص: 447

القسم الثاني من استصحاب الكلي... 166

استصحاب الكلي في الأحكام... 171

الشبهة العبائية... 174

تحقيق الحق في الشبهة... 176

القسم الثالث من استصحاب الكلي... 179

القسم الرابع من استصحاب الكلي... 180

التنبيه الثالث : في استصحاب الأمور التدريجية... 182

استصحاب الزمان وجهات الاشكال فيه... 182

استصحاب الحكم في الفعل المقيد بالزمان... 191

التنبيه الرابع : في استصحاب الأمور التعليقية... 194

معارضة الاستصحاب التنجيزي للتعليقي... 204

المختار في دفع اشكال المعارضة... 208

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات... 210

التنبيه الخامس : في استصحاب عدم النسخ... 211

التنبيه السادس : في الأصل المثبت... 211

الأصل المثبت مع خفاء الواسطة... 216

المناقشة في استثناء صورة وضوح الملازمة... 218

الشك في أول الشهر وجريان الأصل فيه... 221

الحكم بتضمين اليد المشكوك ضمانيتها... 224

الامارات المثبتة... 226

التنبيه السابع : جهات تتعلق بالأصل المثبت... 229

الأثر المترتب على الأمر الانتزاعي... 230

المنع في استصحاب عدم التكليف... 232

ص: 448

التنبيه الثامن : حكم ما إذا كان اللازم لازما للأعم من الوجود الواقعي والظاهري 234

التبيه التاسع : اعتبار كون المستصحب مجعولا في مرحلة البقاء فقط لا الحدوث... 235

التبيه العاشر : أصالة تأخر الحادث - مجهولي التاريخ... 236

في اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين... 243

المحاذير المختارة لعدم جريان الاستصحاب... 257

جهالة تاريخ أحد الحادثين... 265

تعاقب الحادثين المتضادين... 272

جهالة تاريخ أحد الحادثين المتضادين... 276

كلام للمحقق النائيني في المقام... 277

التنبيه الحادي عشر : استصحاب الأمور الاعتقادية... 290

استصحاب النبوة والإمامة... 300

الايراد على تشبث الكتابي باستصحاب نبوة نبيه... 301

التنبيه الثاني عشر : في استصحاب حكم المخصص... 303

حول صورة لحاظ الزمان ظرفا... 304

تلخيص كلام المحقق الأصفهاني... 306

مناقشة مع المحقق الأصفهاني... 309

التبيه الثالث عشر : في بيان المراد من الشك في الأخبار... 316

استصحاب الصحة... 318

استصحاب الهيئة الاتصالية... 332

القاطع والمانع هل يختلفان أثرا؟... 335

هل الناقض قسم آخر غير المانع والقاطع... 338

ص: 449

استصحاب الوجوب مع تعذر بعض أجزاء المركب... 340

التفصيل بين تعذر الجزء قبل تنجيز التكليف وبعده... 341

خاتمة : في شروط الاستصحاب

اعتبار بقاء الموضوع وتفسير مفرداته... 345

المختار في تفسير كلام الشيخ قدس سره... 355

المختار في حكم الفرض المذكور... 356

عدم جريان الاستصحاب في الموضوع... 359

التفصيل في جريان الاستصحاب في الحكم... 362

ما اختير من الطرق في تعيين الموضوع... 370

هل يفرق في الاستحالة بين نجس العين وبين المتنجس... 376

هل تستفاد قاعدة اليقين من أخبار الاستصحاب... 380

الوجوه المختارة في امتناع استفادة القاعدة... 390

الثالث من شروط الاستصحاب : أن يكون البقاء مشكوكا... 394

الحكومة ضابطها وتعريفها... 396

المراد من النظر ومن التفرع... 402

وجه تقديم الحاكم على المحكوم وكذا أخواته... 405

الوجه المختار في التقديم... 412

تقديم الامارة على الاستصحاب بملاك الورود... 417

دعوى التقديم بملاك الحكومة... 422

تذييل : الالتزام بالورود انما يلتزم به في صورة قيام الامارة على الخلاف... 435

ثمرة التذييل... 437

ص: 450

المجلد 7

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1418 ه-.ق

الصفحات: 456

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء السابع

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 7

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

قاعدة اليد

اشارة

ص: 5

ص: 6

قاعدة اليد

لا إشكال في تقدم القاعدة المذكورة على الاستصحاب وان لم تكن من الأمارات ، بل كانت من الأصول ، لأنها واردة في موارده غالبا ، فيلزم من تخصيص دليل الاستصحاب لدليلها عدم بقاء مورد لها إلا نادرا ، فيوجب ذلك لغوية اعتبارها كقاعدة كلية كما لا يخفى.

ثم أنه لا أهمية في البحث عما يتعلق بلفظ « اليد » من كونه لفظا حقيقيا أو كنائيا أو غير ذلك ، بعد معرفة المراد منها وهو الاستيلاء الخارجي. كما لا أهمية في الكلام في كون مسألة اليد مسألة أصولية أو فقهية.

وإنما يقع المهم من الكلام فيها في جهات :

الجهة الأولى : في حجية اليد على الملكية.

وهي من المسلمات في الجملة لدى الأعلام واستدل لها ببناء العقلاء والسنة.

ص: 7

أما السنة : فهي روايات أربع :

الأولى : موثقة حفص بن غياث التي فيها : « أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد انه لا؟. قال علیه السلام : نعم. فقال الرّجل : اشهد انه في يده ولا اشهد انه له فلعله لغيره ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : أفيحل الشراء منه؟. قال : نعم. فقال علیه السلام : فلعله لغيره ، فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك. ثم قال علیه السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (1).

ووجه الاستدلال بها : انه علیه السلام أجاز الشهادة على الملك باعتبار أن الشيء المشهود به في يد المشهود له ، كما أجاز الشراء بهذا الاعتبار.

يؤكده استفهام الإمام علیه السلام التقريري للسائل ونقضه عليه حين توقف من أداء الشهادة على أنه له ، فانه يدل على ان هذا الأمر من الارتكازيات العقلائية التي لا تقبل الإنكار ، ولذلك اقتنع السائل بنقض الإمام علیه السلام .

ولكن التحقيق عدم دلالة الرواية المذكورة على حجية اليد على ملكية المال الّذي يكون باليد ، وذلك لأن جواز الشراء والحكم بملكية المشتري للمبيع لا يتوقف على كون البائع مالكا للمبيع ، بل يكفي فيه كونه مالكا للتصرف فيه. وعليه فما ذكره الإمام علیه السلام نقضا على السائل في توقفه من جواز الشراء من ذي اليد لا يدل على جواز الشهادة على الملكية باعتبار اليد ، إذ لا ملازمة بين جواز الشراء وجواز الشهادة على الملك. نعم ، بينه وبين جواز الشهادة على ملك التصرف ملازمة. فمن اقتناع السائل بالنقض يستكشف ان المسئول عنه هو جواز الشهادة على ملك التصرف ، وأن المال له تصرفا وولاية أعم من أن يكون مملوكا

ص: 8


1- وسائل الشيعة : 18 / 215 باب : 25 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث 2.

له أو لا يكون. وإلا لم يقتنع السائل إذ لا ملازمة كما عرفت.

فالرواية - بمقتضى ظاهر النقض واقتناع السائل به - لا تدل إلا على جواز الشهادة على ملكية التصرف لا ملكية نفس المال.

وهذا وإن كان خلاف ظاهر التعبير ب- « أشهد انه له » بدوا ، إذ ظاهره كونه الشهادة بالملكية ، إلاّ انه كثيرا ما يقع استعمال مثل هذا التعبير فيما يشابه ما ذكرناه في لسان أهل العرف ، كما لا يخفى على الملتفت إلى موارد الاستعمال.

ويدل عليه قوله علیه السلام في النقض : « ثم تقول بعد الملك هو لي » ، فانه ظاهر في ان : « هو لي » وشبهه ليس مفاده بيان الملكية ، بل ما يترتب عليها من ولاية التصرف ، فيدل على ان الكلام بين الإمام والسائل دائر حول الشهادة بولاية التصرف لا الملكية ، وإلا لكان الأنسب ان يقول « ثم تقول بعد الشراء هو لي » لا بعد الملك ، فالتفت.

وأما التزام ان المفروض كون الدوران في المورد المسئول عنه بين يد الملك ويد الغصب ، بحيث إذا انتفى احتمال الغصبية يعلم بأنها يد ملك لا ولاية - مثلا - وحينئذ فتكون هناك ملازمة بين جواز الشراء وبين جواز الشهادة ، لأن الشراء انما يكون باعتبار الحكم بالملكية لليد ، وهو يلازم جواز الشهادة.

فهو مما لا شاهد عليه في الرواية ، لأن المسئول عنه قضية حقيقية مطلقة قد يتفق وقوعها للسائل بلا تقييد لها بنحو خاص.

ولو سلم ذلك. فلا يدل على المدعى أيضا ، بعد البناء على ان جواز الشراء انما يستند إلى ملكية التصرف بالمال لا ملكية نفس المال. فان اليد حينئذ انما تدل على الملكية في خصوص المورد باعتبار العلم بالملازمة بين ملكية التصرف وملكية المال ، لأن المفروض ان الدوران بين الملكية والغصبية ، فإذا جاز التصرف فقد انتفى احتمال الغصب فيثبت احتمال الملكية ، فاليد إذا دلت على ملكية التصرف بالمال - كما هو ظاهر النقض - فقد دلت بالملازمة على ملكية المال لذي اليد ، فجواز الشهادة

ص: 9

بالملكية - الّذي يدعى استظهاره من السؤال والجواب في الرواية ، وان ناقشنا فيه واستظهرنا كون السؤال عن الشهادة بملكية التصرف بقرينة النقض وقناعة السائل به - يختص بالمورد باعتبار الملازمة الاتفاقية المذكورة ، فمع ثبوت ملكية التصرف وجواز الشهادة عليها بلحاظ اليد تثبت ملكية نفس المال فتجوز الشهادة عليها.

وبالجملة : فدلالة اليد على الملكية في المورد باعتبار الملازمة ، غير دلالتها على الملكية مطلقا ومطابقة كما هو المدعى.

وعلى هذا ، فلا دلالة للرواية المذكورة على حجية اليد على الملكية.

الثانية : ما عن أمير المؤمنين علیه السلام في حديث فدك حيث قال علیه السلام لأبي بكر : « أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه؟ قال : لا. قال علیه السلام : فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت انا فيه ، من تسأل البينة؟. قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه. قال علیه السلام : فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي ... » (1) الخبر.

وتقريب الاستدلال بها : أن الإمام علیه السلام جعل نفسه منكرا ومدعى عليه بما انه ذو يد ، وجعل أبا بكر مدعيا باعتبار مخالفة قوله للحجة - فاستنكر على أبي بكر مطالبته له بالبينة - ولا حجة في المقام سوى اليد ، والدعوى المفروضة هي الملكية ، فاليد حجة عليها.

ولكن الإنصاف عدم دلالة الرواية على المدعى ، لأن المعنى العرفي للمدعي والّذي عليه المشهور هو : « من لو ترك ترك » ، والخلاف بين الإمام علیه السلام وأبي بكر إنّما هو في تطبيق حكم من أحكام القضاء ، وهو مطالبة المدعي بالبينة دون المدعى عليه ، واستنكار الإمام علیه السلام على أبي بكر انما هو في مطالبته بالبينة ، لأنه ليس مدعيا ، بل مدعى عليه ، لأنه ذو يد ، ومقتضى اليد صيرورته

ص: 10


1- وسائل الشيعة : 18 / 215 باب : 25 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث 3.

مدعى عليه وصيرورة أبي بكر مدعيا فعليه البينة ، لأنه بترك أبي بكر الدعوى يجري كل أمر على ما كان عليه ويستمر على حاله السابق. فاحتجاج الإمام علیه السلام لنفي وجوب البينة عليه بأنه ذو يد لا يدل على كون اليد حجة ، بل لصيرورة ذيها مدعى عليه. ولا يلزم ان يكون للمدعى عليه حجة كي يقال انها هاهنا منحصرة في اليد فتكون حجة على الملكية.

نعم ، لو قيل بان المدعي هو من خالف قوله الحجة ثم الاستدلال بالرواية ، لكنك عرفت ان المشهور على تفسيره بغير ذلك.

الثالثة : رواية حمزة بن حمران : « أدخل السوق فأريد ان أشتري جارية تقول أني حرة. فقال علیه السلام : اشترها إلا ان تكون لها بينة » (1) ..

ووجه الاستدلال بها : انه علیه السلام أجاز شراء الجارية مع ادعائها الحرية إلاّ ان تقوم البينة على حريتها ، فلا بد ان يستند الشراء إلى حجة وهي اليد لا سبب آخر كالبينة ، لأنه لو كان مصحح الشراء هو قيام البينة على المملوكية لما اتجه الحكم بعدم جواز الشراء عند قيام البينة على الحرية ، لأنها معارضة بالبينة القائمة على الرقية ، فلا بد ان تكون هي اليد - لأنها لا تعارض البينة - فتكون حجة على الملكية.

والتحقيق : عدم سلامة الاستدلال بها من الإشكال ، لأن ظاهر المورد هو سبق الرقية على الجارية - لامتياز الجواري في ذلك الزمان عن غيرهن - فترجع دعواها للحرية حينئذ إلى دعوى انقلابها عن الرقية إلى الحرية ، ومقتضى الاستصحاب - مع عدم البينة - بقاء الرقية ، فلعل الحكم بجواز الشراء مستند إلى الاستصحاب وهو مورود للبينة - كما لا يخفى - ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم ظهور المورد في سبق الرقية لعدم الامتياز ، بل

ص: 11


1- وسائل الشيعة : 13 / 31 باب : 5 من أبواب بيع الحيوان ، الحديث 2.

الظاهر دعواها الحرية مطلقا وعدم الرقية أصلا. فلا ظهور للرواية في استناد جواز الشراء إلى اليد ، إذ لم يفرض سائل معين يدعي الملكية وله يد على الجارية ، بل قد يكون البائع مجهول الحال ، بل لا يدعي الملكية بل يدعي عدمها - كما لا يخفى على من لاحظ أسواق بيع الجواري ، فان البائع غالبا لا يكون المالك - ولكنه في نفس الوقت يدعي المسوغ الشرعي لبيع هذه الجارية ، فقد يكون جواز الشراء مستندا إلى أصالة الصحة في عمل الغير وهي الحجة التي تسوغ الشراء ، وترتفع بالبينة. فلا دليل على إناطة الشراء باليد كي يكون الحكم بحجيتها حكما بملكية ذي اليد للجارية.

الرابعة : موثقة يونس بن يعقوب : « عن أبي عبد اللّه علیه السلام في امرأة تموت قبل الرّجل أو رجل قبل المرأة. قال : ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرّجال والنساء فهو بينهما. ومن استولى على شيء منه فهو له » (1).

وتقريب الاستدلال بها : انه علیه السلام قال : « ومن استولى على شيء منه فهو له » فحكم بالملكية بمجرد الاستيلاء وهو معنى اليد ، وبإلغاء خصوصية المورد يتعدى إلى باقي الموارد ويحكم فيها بحجية اليد على الملكية.

ولكنه غير تام ، لأن الظاهر من السؤال عدم وجود حجة شرعية في المورد توجب ثبوت شيء من المتاع إلى أحدهما ، وان الورثة في مقام الحيرة والتردد ، ولأجل ذلك حكم الإمام علیه السلام بملكية المتاع الخاصّ بالمرأة للمرأة استنادا إلى ظاهر الحال لأن اختصاص المرأة بالمتاع يوجب الظهور في ملكيتها للمتاع ، لا من جهة اليد ، إذ قد لا يكون لأحدهما يد معين على متاعه الخاصّ ، ومع ذلك يحكم بملكيته له من باب الظهور الحالي.

ومنه يظهر انه يمكن ان يكون الحكم بالملكية في صورة الاستيلاء لا من جهة

ص: 12


1- وسائل الشيعة : 17 / 525 باب : 8 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث 3.

اليد ، بل من جهة كون الاستيلاء مرجحا لملكية المستولي للمستولى عليه ، لأنه يوجب ظهور ذلك ، بل بقرينة ما ذكرناه أولا من ان مفروض المقام عدم الحجة على التعيين ، وحكمه في صورة الاختصاص بملكية ذي الاختصاص ، وبالاشتراك في الملكية في المتاع المشترك يمكن الجزم بهذا الاحتمال ، وان التقسيم انما هو بلحاظ الظاهر الحالي للمتاع.

ولو سلمنا دلالة الرواية على ان الحكم بالملكية في صورة الاستيلاء باعتبار اليد ، فلا دليل على التعدي إلى سائر الموارد ، لأنه يمكن ان يكون للمقام خصوصية أوجبت اعتبار اليد فيه دليلا على الملكية ، بل هو الظاهر من الحكم الأولي في الرواية ، فانها لا تجري في غير المورد مما يكشف عن خصوصية فيه. فالتفت.

وقد تبين من جميع ما ذكرنا : انه لا دلالة لهذه الروايات على حجية اليد على الملكية أصلا. وكأن استظهار الفقهاء حجية اليد منها مبني على ما ارتكز في أذهانهم من حجيتها. فتدبر جيدا.

واما بناء العقلاء : فقد يقرب : بان العقلاء بانون على التعامل مع ذي اليد في الأسواق بلا توقف وتردد حتى قيام الحجة على ملكية ذي اليد لما في يده. وما ذلك إلا لأجل اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذيها.

ولكن هذا التقريب لا يفي بحجيتها على الملكية ، لأنه انما يكشف عن اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذي اليد للتصرف في المال الّذي في يده لا ملكية نفس المال ، لأنهم لا يعتنون في كون البائع مالكا أو وليا أو غير ذلك ولا يهمهم ذلك ، وانما المهم لديهم هو كون البائع مالكا للتصرف ، فلا يدل عدم توقفهم في التعامل على اعتبارهم اليد حجة على الملك ، بل حجة على ولاية التصرف لا أكثر ، وليس المهم في مقام التعامل كون البائع مالكا للمال كي يكون عدم توقفهم دليلا على حجية اليد على الملكية عندهم.

ويمكن الاستشهاد على ذلك بتعليل الإمام علیه السلام في رواية حفص

ص: 13

المتقدمة التي قربناها في حجية اليد على ملكية التصرف ، بأنه : « لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق » ، فانه تعليل لحجية اليد على ملكية التصرف ، فيكشف عن أن توقف قيام السوق انما هو على اعتبار اليد حجة على ملكية التصرف. لا على اعتبارها حجة على ملكية المال ، إذ لا يتوقف قيام السوق على ذلك ، لأن صحة التعامل لا تبتني على ملكية كلا الطرفين للمال.

فبناء العقلاء بهذا التقريب لا يكون دليلا على حجية اليد على الملكية.

نعم ، يمكن التمسك على حجيتها ببنائهم في بعض الموارد الجزئية ، كما لو مات شخص وكان في بيته مال كثير ، وقد يكون أكثر من شأنه ، فانهم يحكمون بملكيته للمال لأنه تحت استيلائه وتصرفه ولو لم تقم حجة عليها ، ولذا لو ادعى شخص بعض تلك الأموال يطلب منه إقامة البينة ، ولا يعتبر انه مدع بلا معارض. وكما لو كان بيد شخص مال يتصرف فيه وادعى آخر انه ولي المال لا مالكه. فأنكر ذو اليد وادعى ملكيته للمال ، فإنه يحكم له بالملكية لأنه ذو يد ما لم تقم البينة على عدمها.

فمن مثل هذه الموارد يستكشف بناء العقلاء على ملكية ذي اليد لما في يده من المال لأجل اليد. وإذا ثبت بناء العقلاء على حجيتها ، فعدم الردع من الشارع كاف في صحة العمل بها ، ولو لم يكن في البين إمضاء صريح. فيتحصل : ان اليد حجة على الملكية في الجملة.

الجهة الثانية : في أن اليد هل تكون أمارة أو أصلا.

ولا يخفى ان هذا البحث علمي صرف لا أثر عملي له ، لأن الحال لا يفترق في اليد سواء كانت أمارة أو أصلا ، لأن الأثر المختلف فيه من هذه الناحية انما يدور في محورين :

الأول : في إثبات اللوازم ، فانها إذا كانت أمارة كانت حجة على لوازم الملكية بخلاف ما إذا كانت أصلا.

الثاني : معارضتها مع الأمارات والأصول ، فإنها إذا كانت أمارة فهي تعارض

ص: 14

الأمارات الأخرى وتتقدم على الأصول ، بخلاف ما إذا كانت أصلا فانها تؤخر عن الأمارات ولا تتقدم على الأصول.

ولكن الحال فيها لا يختلف في كلا المحورين :

أما الأول : فلما بينا سابقا من أنه لا فرق بين الأمارة والأصل في عدم تكفل دليل اعتبارهما لإثبات لوازم مؤداهما بهما ، فالأمارة بدليل اعتبارها ليست حجة على اللازم كما أن الأصل كذلك.

نعم ، بعض الأمارات يكون لسانها الكشف عن المؤدى ولازمه ، وإثباتهما واقعا في مرتبة سابقة عن دليل اعتبارها ، فيتكفل دليل اعتبارها إثبات حجيتها فيه.

كما هو الحال في خبر الواحد ، فان الاخبار بالمؤدى إخبار عرفا بلازمه ، فيكون بمنزلة قيام خبرين خبر على المؤدى وخبر على اللازم ، فدليل اعتبار الخبر يتكفل لاعتباره في اللازم والملزوم. وهذا غير متحقق في اليد لأن اليد على الملكية ليست يدا على لوازمها ، فلوازم الملكية لا تثبت باليد. ولو فرض ان اليد على الملكية يد على لوازمها ، فلا يختلف الحال في كونها أمارة أو أصلا ، لأن دليل الاعتبار على كلا التقديرين يشملها لأنها من قبيل اليدين لا اليد الواحدة كما في الخبر.

وأما المحور الثاني : فلما عرفت من انه لا كلام في تقدم اليد على الاستصحاب وباقي الأصول ، كما انه لا إشكال في تقدم الأمارات الأخرى عليها كالبينة ، سواء كانت أصلا أم أمارة. فمن هنا يعلم عدم الأثر العملي للكلام في هذه الجهة ، فالبحث فيها علمي بحث ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي بيان الفرق بين الأمارة والأصل ، والمراد من الأصل هاهنا.

فنقول : الوظائف العملية المتبعة في مقام الظاهر وعدم انكشاف الواقع على ثلاثة أقسام :

الأول : ما يلحظ فيه الجهل بالواقع ويفرض الواقع مجهولا ومستورا. وأن

ص: 15

هذه الوظيفة وظيفة للجاهل مع غض النّظر عن كون الواقع ما هو ومثل هذا يعبر عنه بالأصل كالبراءة.

الثاني : ما يلحظ فيه الواقع ، بمعنى أن مفاده يكون هذا هو الواقع ، لا أن يفرض مستورا. ومثل هذا يعبر عنه بالأمارة.

الثالث : ما كان وسطا بين القسمين وبرزخا بينهما بان كان وظيفة للجاهل وعدم العلم بالواقع ، ولكن كان فيه نظر إلى الواقع وجهة كشف عنه. فهو يشارك الأول في كونه وظيفة الجهل وعدم العلم وبهذا يفترق عن الثاني. ويشارك الثاني في كونه ذا جهة كشف ونظر إلى الواقع وبهذا يفترق عن الأول. ومثل هذا يعبر عنه بالأصل المحرز.

والمراد بأصلية اليد في قبال أماريتها انما هو النحو الثالث - أعني انها من الأصول المحرزة - لا النحو الأول. لا من جهة أن حجية اليد ثبتت ببناء العقلاء ، وليس للعقلاء أحكام ظاهرية يتعبدون بها ، بل نظرهم دائما إلى الواقع ، لأن هذا غير تام ، إذ يمكن ان يكون لهم أحكام ظاهرية تعبدية يعملون بها عند استتار الواقع حفظا للنظام ورعاية للشئون ، بل من جهة أن بناءهم على اعتبار اليد لما فيها من نظر إلى الواقع وكشف عنه.

فالكلام يقع في أن اليد أمارة أو أصل محرز - وان كان الظاهر من الاعلام في المقام إرادة الأصلية بالنحو الأول - وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب الأمارية ثبوتا : ان الاستيلاء الخارجي لازم بالطبع لملكية المال ولازم لملكية التصرف ، فهو لازم أعم لملكية المال. لكن لزومه لملكية المال أقوى من لزومه لملكية التصرف ، من جهة غلبة ملكية المال وكون الاستيلاء الخارجي ناشئا عنه ، لغلبة نشوء ملكية التصرف عن ملكية المال. فمن جهة اللزوم الطبعي والغلبة المذكورة يكون لزوم الاستيلاء لملكية المال أقوى ، فيكون فيه نحو كشف عن الملكية ، وهو المعبر عنه بالكشف الناقص ، فتكون طريقا

ص: 16

للواقع وأمارة عليه.

واما إثباتا : فلا دليل على تعيين أحد الأمرين فيها ، إذ غاية ما هو ثابت ان فيها نظرا إلى الواقع وكشفا عنه. أما ان اعتبارها كان بهذا النحو فقط ، أو بنحو أخذ الواقع مجهولا فلا دليل عليه.

نعم ، يرجح جانب الأمارية بالاستظهار واستبعاد الأصلية ، وان الارتكاز العرفي ظاهر في كون التعبد بها لأجل طريقتها إلى الواقع.

وإلاّ فلا برهان على تعيين أحد النحوين.

وعلى كل فليس ذلك بمهم ، لما عرفت من عدم الثمرة العملية. وإنما دخلنا في هذا المبحث جريا على طريقة الاعلام.

الجهة الثالثة : في ان اليد هل تكون حجة مطلقا ، بمعنى انها حجة على الملكية ولو علم حال اليد سابقا في أنها غير مالكية ، بل كانت يد عادية أو إجارة مثلا. ثم شك في تبدلها إلى المالكية؟. أو تختص حجيتها في صورة الجهل بعنوان اليد السابق ، بحيث كان يحتمل أن تكون يد مالكية عند الاستيلاء؟.

اختار كل من المحقق الأصفهاني والنائيني والعراقي اختصاص حجيتها بصورة جهل العنوان وعدم حجيتها مع العلم بعنوان السابق وهو كونها غير مالكية. ووجه كل منهم ذلك بوجه يختلف عن توجيه الآخر.

فاما ما ذكره المحقق الأصفهاني ، فحاصله : انه بناء على أن اليد حجة من باب الطريقية فلا يصح التمسك بها في المقام - إلا على القول بان الطريقية من باب اللزوم الطبيعي ، لأنه متحقق في المقام ، إذ لا يتقيد تحققه بعدم المانع ، لأن عدم المانع شرط فعلية اللزوم لا تحققه ، فلا يمنع العلم بالحال من تحققه ، فملاكها متحقق ثبوتا - ، لأن اعتبارها من باب الطريقية يستدعي وجود ملاك الطريقية فيها كي يصح اعتبارها من هذه الناحية ، وإلا فلا يصح.

وفي المقام ينتفي ملاك الطريقية ، لأن طريقية اليد إلى الواقع : ان كان من باب

ص: 17

غلبة الملكية في اليد ، فهذا في المقام معارض بغلبة بقاء اليد على ما كانت عليه لغلبة بقاء الحادث على ما وجد عليه.

وحينئذ تتقيد الغلبة الأولى بالغلبة الثانية ، فيكون الغالب من افراد اليد ان تكون مالكية إلا إذا وجد الفرد النادر ، فان الغالب فيه بقاؤه على عنوانه. فالغلبة الأولى ضيقة الدائرة ، فلا يلحق مثل هذا المشكوك بالأيدي المالكية ، ويمتنع اعتبارها طريقا حينئذ لانتفاء ملاك الطريقية.

وان كان من باب ان الاحتواء الاعتباري يتقوى جانبه بالاحتواء الخارجي - كما قرب قدس سره الطريقية بذلك - فكذلك يجري فيه ما تقدم ، فان تقوي الاحتواء الاعتباري بالاحتواء الخارجي انما هو فيما إذا لم يكن ثبوت خلافه مرتكزا في الذهن بواسطة تقوي بقاء الحال على ما كان عليه ، فالمعارضة أيضا حاصلة ونتيجتها التقييد المذكور.

نعم ، لو قلنا بان اعتبارها من باب الأصلية لا الأمارية ، جاز التمسك بإطلاق دليل اعتبارها - لو كان له إطلاق وتم - في اعتبارها في المورد المزبور. هذا ملخص ما أفاده قدس سره (1) بتوضيح.

ولكن (2) هذا منه غريب جدا ، لأن الطريقية الملحوظة في الأمارات انما يقصد

ص: 18


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1. 329 - الطبعة الأولى.
2- هذا وقد أورد عليه ( دام ظله ) في الدورة الثانية : أن المقصود من تضييق الغلبة الثانية ان كان انتفاء الغلبة الأولى فهذا باطل جزما ، لأن الفرد النادر لو كان جميعه على خلاف الغلبة الأولى لا ينافي تحقق الغلبة الأولى فضلا عن كون أغلبه كذلك. فلو فرض ان أغلب أهل بلد كانوا شجعانا الا أغلب أهل شارع واحد منه فانه لا ينافي ان يقال : ان أغلب أهل البلد شجعانا. وإن كان أريد من ذلك تحقق المزاحمة بين الغلبتين وسقوط اليد عن الأمارية لأجل التزاحم. فيدفعه : ان غلبة مالكية اليد مزاحمة دائما للغلبة الاستصحابية سواء كان في عنوانها - كما فيما نحن فيه - أو في متعلقاتها - كما في سائر الموارد فكيف تكون حجة في مورد دون آخر؟

بها الطريقية النوعية الشأنية لا الشخصية الفعلية ، بحيث يختص اعتبار الأمارة في مورد تكون كاشفة عن الواقع فعلا دون غيره ، ولذلك يقال بحجية الظاهر ولو كان الظن الشخصي على خلافه.

والسر فيه : ان المناط في اعتبار الشيء طريقا وإمارة ليس متمحضا في الطريقية والكشف عن الواقع ، بل في الأمارة المعتبرة مصلحة خاصة أوجبت اعتبارها ، ولكن الاعتبار كان بعنوان الطريقية والكشف لا بملاكه ، فالطريقية حكمة للاعتبار لا ملاك وعلة ، ولذلك لو تخلف في بعض الموارد لا يخرج الدليل عن الحجية ، كما انها لو وجدت في موارد أخر ليست موضوع دليل الاعتبار ، لا يكون ذلك موجبا لحجية تلك الموارد ، ومن هنا يعلم بان الاعتبار لا يدور مدار تلك الطريقية وجودا وعدما.

ولأجل ذلك يلتزم بان في الأمارة جهة الموضوعية ، بمعنى ان اعتبارها كان بلحاظ مصلحة خاصة فيها ، وليست متمحضة في جهة الطريقية.

وعليه ، فما أفاده من انه في المقام لا يكون ملاك الطريقية في اليد لانتفائه بالمعارضة المذكورة ، فلا يصح اعتبارها فيه. ينافي ما يلتزم به من كون الظن في الأمارات نوعيا لا شخصيا ، ووجود جهة الموضوعية في الأمارة. فما ذكره مساوق لإنكار ذلك ، فالمعارضة المذكورة لا تنافي اعتبار اليد في المقام ، كما لا ينافي الظن الشخصي على الخلاف لاعتبار الظاهر. والاستحسان الظني المنعقد على خلاف مؤدى خبر الواحد لاعتبار الخبر ، مع ان كلا منهما يوجب رفع الكشف والطريقية.

فمن هنا يعلم ان المراد بالكاشفية النوعية أن الأمارة لو خليت وطبعها كانت كاشفة نوعا عن الواقع ، وهذا متحقق فيما نحن فيه ، لأن اليد مع قطع النّظر عن العلم بحالها السابق كاشفة نوعا عن الملكية ، وإلاّ فلو اعتبرت الكاشفية الفعلية للزم

ص: 19

خروج الخبر القائم على خلافه الاستحسان ، فانه يوجب رفع كاشفيته النوعية الفعلية ، مع انه لا يلتزم به أحد ، فلا بد من كون المراد بالكاشفية النوعية معنى لا ينافي ذلك وهو ما ذكرناه ، فالتفت وتدبر جيدا.

واما ما ذكره المحقق النائيني فهو : ان اليد انما تكون أمارة بما انها مشكوكة الحال ، فاستصحاب عدم تبدل حالها وبقائها على ما كانت عليه يكون حاكما عليها ، لأنه يخرجها عن كونها مشكوكة الحال بإثباته عدم كونها يد ملك ، فهو يحقق الغاية وهي العلم بالحال ، فيرتفع موضوع اعتبار اليد (1).

وتحقيق الكلام بنحو يتضح الإشكال عليه ، وعدم تمامية ما ذكره : ان العلم المأخوذ غاية لاعتبار اليد.

إما ان يضاف إلى نفس الواقع - أعني : الملكية وعدمها - فيكون اعتبار اليد مشروطا بعدم العلم بالملكية أو عدم الملكية.

واما ان يضاف إلى عنوان ينطبق على اليد من دون لحاظ الواقع من كونها يد عادية أو ولاية أو مالكية.

وهذا العنوان الّذي جعل العلم به غاية لاعتبار اليد :

تارة : يكون امرا منتزعا عن الواقع ، يعني انه ينتزع عن تحقق الملكية وعدمها.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بل كان امرا حقيقيا لا يرتبط تحققه بالواقع. فالصور ثلاث :

أما الصورة الأولى - وهي ما أخذ العلم [ الغاية ] متعلقا بالملكية وعدمها - فلا إشكال في تقدم اليد على الاستصحاب ، لأن مجرى الاستصحاب حينئذ هو عدم الملكية. ومجرى اليد هو الملكية. فهما واردان على موضوع واحد ، فتقدم اليد لا محالة

ص: 20


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 225 - الطبعة القديمة.

كما لا يخفى.

وأما الصورة الثانية - وهي ما أخذ العلم متعلقا بعنوان اليد المنتزع عن الملكية وعدمها - : فالأمر فيه أوضح ، لأن مورد الاستصحاب وان كان هو العنوان ، لكن نسبة العنوان - حسب الفرض - إلى الملكية - الواقع - وعدمها ليست نسبة الموضوع إلى الحكم كي يقدم على ما يجري في الواقع ، بل نسبة المعلول إلى العلة ، فما يكون جاريا في نفس الواقع كاليد يكون مقدما على الاستصحاب ، لأنها تجري في مرحلة منشأ انتزاعه.

والّذي يظهر من كلامه قدس سره إرادة هذه الصورة لأنه أخذ الجهل بالحال - أعني : بحال اليد - موضوعا لاعتبار اليد. ومعلوم انه يريد من حالها كونها يد عادية أو مالكية أو شبهه لا غير ذلك.

ومن الواضح ان اليد العادية تنتزع عن عدم الملكية ، لأن الغصب هو التصرف في مال الغير بدون إذنه ، وان اليد المالكية تنتزع عن الملكية.

فإذا كان الحال المأخوذ قيدا للعلم والجهل ، عنوانا منتزعا عن الملكية أو عدمها ، فالاستصحاب الجاري فيه لا يكون حاكما على اليد ، لأن نسبة العنوان الّذي هو موضوع الاستصحاب إلى مفاد قاعدة اليد ليست نسبة الموضوع إلى الحكم ، بل نسبة المعلول إلى العلة ، فتكون اليد مقدمة عليه.

نعم ، لو أخذ العنوان بالنحو الثاني - كما هو في الصورة الثالثة - بان كان أمرا حقيقيا لا انتزاعيا عن الواقع ، وكان نسبته إلى الواقع نسبة الموضوع إلى الحكم ، فيكون الاستصحاب حاكما على اليد لأنه يجري في موضوعها.

ولكنه مجرد فرض لا تحقق له في الخارج ، لأن هذه العناوين المتصورة التي يمكن أخذها في متعلق العلم والجهل - كعنوان العادية والمالكية وغيرهما - عناوين انتزاعية كما بيّنا ، وغيرها لا وجه لأخذه في متعلق العلم والجهل إذ لا دليل عليه

ص: 21

وقد اعترض (1) المحقق العراقي قدس سره - كما في بعض تقريراته - على ما ذكره

ص: 22


1- وقد ذكر في ضمن اعتراضه : ان الجهل بعنوان اليد ان أخذ في الموضوع كان الاستصحاب واردا لعدم نظر نفس اليد إلى موضوعها ، وإلاّ لزم من وجود حجيتها عدمها لأنها إذا رفعت الجهل فقد رفعت موضوع الحجية. وأما إذا كان مأخوذا بنحو الموردية كانت اليد حاكمة على الاستصحاب لأن الاستصحاب لا يتصرف في موضوع اليد ولكن اليد تثبت عنوانها ظاهرا وكونها يد ملك لا غضب فتقدم على الاستصحاب. وما أفاده قدس سره ممنوع بكلا شقيه ، أما الثاني : فلان الدليل كما لا يمكن أن يتصرف في موضوعه وينفيه كذلك لا يمكن أن يتصرف في مورده بنفيه ، إذ كما ان الدليل لا يمكن أن ينفك عن موضوعه كذلك لا يمكن أن ينفك عن مورده ، والفرق انما هو في أخذ الموضوع في رتبة سابقة دون المورد. وعليه فكيف تصور نفي اليد للجهل بالعنوان وإثبات انها يد مالكية لا عادية وبذلك كانت حاكمة على الاستصحاب ولم يتصور ذلك فيما إذا كان الجهل مأخوذا موضوعا لليد مع أن المحذور مشترك؟ وأما الأول فلان اليد إذا لم يمكن إحرازها في تحقيق موضوعها أو نفيه فكيف يجري الاستصحاب ويكون واردا على اليد والحال أن مورد الاستصحاب واليد واحدة فيلزم ان يرفع الاستصحاب الجهل المأخوذ في موضوعه فان لدينا شكا واحدا مورد الاستصحاب من جهة ومورد اليد من جهة. فإذا لم يجر فيه اليد للمحذور المزبور لم يجر فيه الاستصحاب أيضا. فلاحظ. فما أفاده قدس سره في مقام الاعتراض غير وجيه. والتحقيق في مقام الإشكال على المحقق النائيني ان يقال : ان المتيقن في الأدلة والأمارات هو اعتبارها في مورد لا يعلم بمتعلقها ، وليس ذلك من جهة امتناع التعبد في مورد العلم ، بل لأن اعتبارها من باب الكشف والطريقية وهو ظاهر في كونه في مورد الجهل إذ المعلوم لا معنى لجعل الطريق إليه. ولا يخفى أن هذا الملاك انما يقتضي ملاحظة الجهل بنفس المؤدى وذي الطريق والمنكشف. أما الجهل بعناوين ملازمة لذلك فلا مقتضى للحاظها بالمرة. فمثلا يلحظ في حجية الخبر الجهل بالواقع المخبر عنه ، أما الجهل بمطابقة الخبر للواقع الّذي هو ملازم للجهل وبالواقع فلا وجه لملاحظته بنحو الموضوع أو المورد. وما نحن فيه كذلك فان المتيقن ملاحظة الجهل بالواقع في حجية اليد ، اما الجهل بعنوان اليد الملازم للجهل بالواقع فلا مقتضى لملاحظته ولا دليل عليه فالالتزام بتقييد حجية اليد بالجهل بالعنوان مما لا وجه له أصلا فتدبر. فانه لا يخلو عن دقة.

المحقق النائيني من أخذ الجهل بالحال في موضوع اعتبار اليد : بان الجهل بالحال مأخوذ بنحو الموردية لا الموضوعية كما هو الحال في باقي الأمارات ، وإلا لكانت اليد من الأصول لا الأمارات.

وعلى هذا ، فلا مجال لجريان الاستصحاب في عرض اليد ، فضلا عن تقدمه عليها ، لأن لازم أمارية هذه اليد كونها بدليل اعتبارها رافعة للجهل عن ملكية ما في اليد لصاحبها ، ولازم تطبيق يد الملك عليها هو الحكم بعدم كونها يد غصب ظاهرا ، فيرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لحكومتها عليه (1).

وما ذكره بظاهره غير تام ، لأن الجهل الّذي يقال بأخذه في الأمارة بنحو الموردية وفي الأصل بنحو الموضوعية - تخلصا عن الإشكال بلزوم حكومة الأصل على الأمارة لو أخذ الجهل في موضوعها - انما هو الجهل بالواقع ، وليس متعلق الجهل فيما نحن فيه هو الواقع كي يورد عليه بهذا الإيراد العام ، وانما متعلقه هو حال اليد ، وهذا لا ينافي كون الجهل بالواقع مأخوذا في الأمارة بنحو الموردية لا الموضوعية ، فالفرق ان الجهل المأخوذ في موضوع اليد هو الجهل بواقع اليد لا بالواقع الّذي تثبته اليد وتكون أمارة عليه. فالإشكال المذكور على المحقق النائيني أجنبي عن مفاد كلامه.

إلاّ أن يرجع ما ذكره إلى بيان : ان ملاك أخذ الجهل بحال اليد في موضوعها ليس هو إلا لأن العلم بحالها علم بالواقع والجهل بحالها جهل به ، فمرجع أخذ الجهل بحالها في موضوعها إلى أخذ الجهل بالواقع في اعتبارها. وهذا هو المنفي بالإيراد العام من أن أخذ الجهل في مورد الأمارة لا في موضوعها.

وبهذا يتجه ما أفاده إيرادا على المحقق النائيني.

ص: 23


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار :4/ 23 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واما ما ذكره المحقق العراقي ، فهو : ان الظاهر من أدلة اعتبار اليد اختصاص اعتبارها بغير هذه الصورة. بل مجرد الشك في شمول دليل الاعتبار لهذه اليد كاف في عدم ثبوت حجيتها ، لأن الدليل على اعتبار دليل لبي وهو بناء العقلاء ، والدليل اللبي لا إطلاق له كي يتمسك به في مورد الشك.

وأما الأدلة اللفظية ، كالاخبار ، فهي واردة في مقام تقرير سيرة العقلاء وبنائهم على اعتبار اليد ، لا في مقام التأسيس كي يصح الأخذ بإطلاقها في إثبات حجية هذه اليد ، بل المتبع ما ثبت من السيرة من مقدار حجيتها (1).

ولا يخفى ان ما ذكره قدس سره أولا من كون الدليل لبيا ويكفي في عدم الاعتبار ، الشك في شموله لمثل هذه اليد لو لم نقل بظهوره في غيره وانصرافه عنه. مما لا إشكال فيه.

ولكن ما ذكره أخيرا من عدم إمكان التمسك بالأخبار مع تسليم دلالتها على الحجية لأنها في مقام الإمضاء لا التأسيس. لا وجه له.

وتحقيق ذلك : ان الدليل المتكفل لبيان حكم مماثل لحكم موجود متحقق الاعتبار ، يمكن ان يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

لأنه تارة يكون إخباريا. وأخرى يكون إنشائيا.

فالأخباري : ما تكون صورته إنشاء الحكم ، ولكن يكون المقصود منه هو الاخبار عن تحقق متعلقه وهو الحكم ، نظير الأوامر الإرشادية التي تتصور بصورة الإنشاء ولكن يكون واقعها الاخبار عن تحقق متعلقها في الخارج.

والإنشائي : تارة : يكون منبعثا عن إرادة إيصال حكم الغير العام الّذي يكون هو على صفته ، وذلك كالأوامر التبليغية ، فان أمر الأب ابنه بالصلاة أمر حقيقي المقصود منه البعث ، وليس من الأخبار في شيء ، ولكن الغرض منه إيصال أمر اللّه

ص: 24


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 22 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

تعالى لولده ، والملحوظ فيه الأمر على طبق ذلك الأمر العام المأمور به كلي المكلف. وهذا في العرفيات كثير.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بان لم يلحظ فيه إيصال الحكم الآخر ولا الاخبار عنه ، بل لوحظ فيه إنشاء الحكم صرفا. غاية الأمر ان هذا الحكم مماثل لذلك الّذي اعتبره الغير لا أكثر.

ومن هذا الدليل بأنحائه الثلاثة ينتزع عنوان الإمضاء والتقرير لحكم الغير ، وهو واضح الوجه.

ولا يخفى ان الدليل ان كان على النحوين الأولين ، فالتمسك بإطلاقه من دون لحاظ الحكم المعتبر من الغير ومقدار دائرته ممنوع ، لأن الملحوظ في الإنشاء هو ذلك الحكم ، اما بنحو الاخبار عنه أو إيصاله ، فلا استقلال لهذا الحكم المنشأ أصلا.

واما إذا كان بالنحو الأخير ، فلا مانع من التمسك بإطلاقه لو كان له إطلاق بلا لحاظ الحكم المماثل له ، لعدم ارتباطه به في مقام الجعل والإنشاء لعدم لحاظه فيه أصلا. بل هو حكم مستقل. غاية الأمر انه مماثل لذلك الحكم.

والأدلة الشرعية التي تتكفل إنشاء الأحكام المماثلة للأحكام العقلائية العرفية كلها من النحو الثالث ، فان الدليل لم يلحظ فيها الا إنشاء الحكم وجعله على المكلف بلا لحاظ إيصال حكم العقلاء للمكلف أو الاخبار عنه.

ومن هنا يتمسك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) في إثبات حلية بعض البيوع غير المعتبرة عرفا ، لأن لسانه إنشاء حكم مستقل لم يلحظ فيه إيصال حكم العقلاء ولا الاخبار عنه. غاية الأمر انه يفيد حكما مماثلا لما عليه العقلاء ، وهذا لا يضر في التمسك بإطلاقه.

وحينئذ فلا وجه لمنع التمسك بإطلاق الاخبار الواردة في اعتبار اليد حجة على الملكية.

ودعوى : ان مثل هذا الدليل لا ينتزع عنه عنوان الإمضاء ، لأن الظاهر من

ص: 25

الدليل الإمضائي ما كان ملحوظا فيه حكم الغير ، والمفروض عدم لحاظ حكم الغير في هذا الدليل ، فلا يكون دليلا إمضائيا ، مع ان الأدلة الشرعية يصطلح عليها بأنها إمضائية واردة في مقام تقرير أحكام الغير ، فلا بد ان لا تكون على هذا النحو.

مندفعة : بان إطلاق لفظ الإمضاء على الأدلّة الشرعية المذكورة ليس باعتبار لحاظ حكم الغير فيها ، فان لسانها يأبى عن ذلك ، بل باعتبار كون الحكم المنشأ بها مماثلا لما عليه العقلاء لا أكثر. فهي في واقعها تأسيسية وان كان عنوانها إمضائية.

فالمراد بالإمضاء ما يساوق عدم الردع والموافقة لا إنفاذ ما عليه الآخرون حتى يتوهم لزوم ملاحظة ذلك في الموضوع. أو فقل : ان الإمضاء هنا بلحاظ مقام الثبوت لا الإثبات ، وما يضر بالتمسك بالإطلاق هو الثاني لا الأول ، فتأمل تعرف.

والتحقيق في أصل المسألة : ان سيرة العقلاء دليل لبّي ، وقد عرفت ان مجرد التشكيك في قيامها يكفي في عدم جواز التمسك بها. وأما الأخبار فليس لها إطلاق من هذه الجهة ، لكون المسوق له البيان أمر آخر ، كما لا يخفى على من لاحظها هذا مع قطع النّظر عن التشكيك في أصل دلالتها على حجية اليد. فتدبر.

الجهة الرابعة : لا يخفى ان اليد كما لا إشكال في ترتيب آثار الملك عليها ، كذلك لا شبهة في وجوب ترتيب آثارها في مقام الدعوى ، فيطالب المدعي على ذي اليد بالبينة ، ويكون هو منكرا ، سواء ثبت للمدعي ملكية المال سابقا أم لم تثبت.

ولكن الكلام في انه لو أقر ذو اليد بملكية المدعي للمال سابقا ، فهل تنقلب الدعوى إلى دعوى انتقال المال إليه فيكون هو مدعيا فعليه الإثبات ويكون الغير منكرا أو لا تنقلب؟ المشهور على الانقلاب.

ولا يخفى ان موضوع الدعوى الثانية المبحوث عنها ينبغي ان يكون هو تحقق السبب الناقل ، كالبيع والهبة وغيرها وعدمه ، لا الانتقال وعدمه ، لأن الانتقال أمر انتزاعي ينتزع عن ملكية الغير في اللاحق وعدم ملكية المالك السابق في اللاحق ، فهو متأخر عن الملكية فلا كلام فيه ، لأن الكلام فيما هو سابق عن الملكية ، وهو

ص: 26

تحقق السبب الناقل - ولذلك يدعى حصول الانقلاب وتترتب عليه آثاره بالنسبة إلى الملكية الفعلية لذي اليد -.

قد ذهب المحقق الأصفهانيّ إلى انه بالإقرار بالملكية السابقة لا تتشكل دعوى أخرى. ولو قلنا بتشكيل دعوى أخرى فلا انقلاب ، بل المدعي في الدعوى الأولى مدع في الدعوى الثانية والمنكر منكر.

اما الأول : فقد قربه : بان الدعوى من الدعاء وطلب الشيء ، فهي من المعاني الإنشائية ، فما لم يقع الشيء موضوعا للطلب لا يقع في مصب الدعوى ، والإقرار بالملكية السابقة للمدعي مع دعواه الملكية الفعلية [ وان كان اخبارا بتحقق السبب الناقل خ ل ] بالانتقال منه بالالتزام ، ولكنه ليس الاخبار باللازم بالملازمة يكون موجبا لتشكيل دعوى به ، بل لا بد في ذلك من وقوعه في مصب الدعوى وإنشاء الطلب به ولذلك لو وقع النزاع بين اثنين في ان المعاملة الواقعة بينهما هل كانت هبة أو بيعا ، فادعى كل منهما إحدى المعاملتين ، فان لكل من البيع والهبة لوازم يختلف حالها من حيث الدعوى والإنكار ، فلا بد من صيرورتها مصب الدعوى كي يتعين المدعي والمنكر ، وإلا فمجرد ادعاء البيع لا يوجب ادعاء لوازمه ، وكذلك ادعاء الهبة ، فإذا كان موضوع الدعوى هو البيع والهبة بما هما بيع وهبة من دون لحاظ لوازمهما المختلفة كان الشخصان متداعيين. ولو كان مصب الدعوى البيع والهبة ولكن بما هما معرفان لثبوت العوض وعدمه ، كان مدعي البيع مدعيا لأن الأصل على خلاف قوله ، ومدعي الهبة منكرا. ولو كان مصبها البيع والهبة من حيث الجواز واللوازم ، كان مدعي الجواز مدعيا ، لأن الأصل على خلافه ، إذ الأصل عدم الجواز.

فدعوى الملزوم لا تستلزم تشكيل دعوى باللازم قهرا ما لم تنشأ دعوى مستقلة فيه ، والانتقال هاهنا لم يقع مصب الدعوى وان وقع موضوع الاخبار بالملازمة.

واما الثاني - يعني نفي الانقلاب - فقد قرّبه : بان المعروف ان اليد أمارة ،

ص: 27

والأمارة على المسبب أمارة على السبب ، فاليد كما تكون حجة على المسبب ، وهو الملكية الفعلية ، كذلك تكون حجة على السبب الناقل. وحينئذ فمدعي الانتقال ذو حجة وهي اليد ، فيكون منكرا لا مدعيا ويكون مقابله مدعيا ، فلا يتحقق الانقلاب (1).

وفي كلا تقريبيه ما لا يخفى :

أما تقريبه لعدم تشكيل دعوى ثانية ، فأساسه : ان الدعوى من الأمور الإنشائية المتقومة بالإنشاء والجعل ، فالاخبار بشيء لا يكون دعوى به ما لم ينضم إليه طلبه.

ولا يخفى انه بملاحظة الاستعمالات العرفية للدعوى والادعاء غير المسامحية ، يعلم بان الدعوى نوع من أنواع الاخبار ، وهو الاخبار في ظرف التردد والشك ، ولا يتوقف تحققها على إنشاء طلب ، بل كثيرا ما يستعمل « المدعي » في المخبر بخبر في ظرف الشك مع عدم تحقق أي إنشاء منه ، فالمخبر بالهلال يقال له مدعي رؤية الهلال ، لأن المقام مقام شك.

وعليه ، فحيث ان الانتقال من الأمور المشكوكة الواقعة موضوعا للتردد ، فالاخبار بها ولو بالملازمة يشكل دعوى به بلا كلام.

وأما ما استشهد به من مثال البيع والهبة فلا يصلح للنقض ، لأن مصب الدعوى في العوض انما هو في العوض الخاصّ من كونه شخصيا أو كليا في الذّمّة. ومدفوعا أو غير مدفوع. وأحدها ليس من لوازم البيع كما لا يخفى ، وانما لازم البيع ثبوت عوض ، ولكنه لا يكون محط الدعوى.

وأما اللزوم والجواز ، فهما من اللوازم الشرعية للبيع والهبة لا اللوازم العرفية ، فليس الاخبار بالبيع اخبارا باللزوم عرفا ، كما ان الاخبار بالهبة ليس اخبارا

ص: 28


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 337 - الطبعة الأولى.

بالجواز عرفا.

وأما تقريبه لعدم الانقلاب بأن اليد أمارة ، والأمارة على المسبب أمارة على السبب. فهو غير وجيه على مذهبه في ان الأمارة ليست حجة في لوازمها ، وانها كالأصل في ذلك وليس تحقق السبب الناقل ملزوم أعم للملكية الواقعية والظاهرية كي يثبت بثبوت الملكية الفعلية باليد ، وانما هو ملزوم للملكية الواقعية ، ولا ملازمة بين الحكم بالملكية ظاهرا وتحقق السبب الناقل ظاهرا.

وعليه ، فلا حجة لذي اليد على تحقق السبب الناقل ، فيحصل الانقلاب لموافقة قول المدعي الأول للأصل وهو استصحاب عدم السبب الناقل ، فله المطالبة بالبينة عليه ويكون ذو اليد مدعيا.

ثم لا يخفى ان الأصل المذكور - أعني : أصالة عدم تحقق السبب الناقل - انما يتعبد به بلحاظ ما يترتب على نفس التعبد من أثر شرعي من جواز المطالبة بالبينة لمن وافقه قوله وهو المقر له بمقتضى الإقرار ، لا بلحاظ ما يترتب على نفس المتعبد به من أثر وهو بقاء ملكية المقر له لأن ذلك ينافي مفاد اليد من ملكية ذي اليد ، والمفروض بقاؤها على حجيتها بالنسبة إلى الملكية الفعلية ، ولا يكون الإقرار موجبا لارتفاع حجيتها ، بل لازم الإقرار هو جعل المدعي طرفا للأصل المذكور فيكون منكرا بمقتضاه لا أكثر ، كما هو شأن جميع الأصول الجارية في طرف الدعوى ، لأن المفروض ان المدعي يدعي العلم بعدم تحقق مفاد الأصل وانقلاب الحالة السابقة ، فلا يجري الأصل في حقه كي يثبت قول المنكر.

نعم ، انما يجري الأصل في حق المنكر ، بل هو لا يجري في حقه أيضا لأنه يعلم بالبقاء ، والحاكم لا يحق له خصم الدعوى بإجراء الأصل ، لأن القضاء لا بد ان يكون بالبينات والأيمان كما هو مقتضى النبوي المشهور (1) ، فلا فائدة في الأصل إلا

ص: 29


1- دعائم الإسلام 2 / 518 ، الحديث 1857.

كون الموافق له منكرا. فالتفت.

ولذلك يترتب آثار ملكية ذي اليد قبل خصم الدعوى ، كما انه لو لم يحلف المقر له على عدم تحقق السبب الناقل في صورة عدم إقامة ذي اليد للبينة على التحقق لا يصح له التمسك به في إثبات ذلك ، مما يكشف عن ان الإقرار انما استلزم صحة تمسك المقر له بالأصل من ناحية صحة مطالبته ذي اليد بالبينة على تحقق الناقل لا غير.

وهذا - أعني : الانقلاب - على القول بعدم حجية اليد في اللوازم والملزومات - كما هو الحق - واضح ، لأن اليد لا تثبت بالملازمة تحقق السبب الناقل ، فلا يرتفع موضوع الأصل ، فيصح جريانه ويترتب عليه آثار التعبد بمقتضى الإقرار لا آثار المتعبد به كما عرفت. وكذلك لو قلنا بان اليد من الأصول لا الأمارات كما لا يخفى.

ولكنه على القول بان الأمارة حجة في اللوازم ، فيشكل تصوير الانقلاب حينئذ ، لأن اليد - بناء على انها أمارة - على هذا تثبت تحقق السبب الناقل ، فلا يبقى لجريان الأصل مجال.

ولكنه - مع هذا - يمكن تصوير حصول الانقلاب بنحو لا يتنافى مع أمارية اليد وحجيتها على الملكية ، وذلك بتقريب : ان موافقة الأصل المقتضية لكون الشخص منكرا لا مدعيا ليس المراد منها الموافقة للأصل الفعلي الجاري مع وجود الحجة واقعا ، بل المراد منها موافقة الأصل الجاري في نفسه ومع قطع النّظر عن وجود الحجة من بينة وأمارة رافعة لموضوعه تكوينا ، ولا إشكال في وجود هذا الأصل في المقام ، وهو أصالة عدم تحقق السبب الناقل.

وحينئذ فمع وجود اليد فحيث انها حجة في الملزوم وهو تحقق السبب الناقل - بدعوى ان الأمارة تثبت الملزومات الواقعية - فحجيتها فيه توجب ارتفاع موضوع الأصل المذكور - وهو عدم الطريق - فلا مجال لجريانه أصلا.

أما مع إقرار ذي اليد للمدعي بملكيته السابقة الملازم لدعوى تحقق السبب

ص: 30

الناقل ، فحيث ان اثره هو الاعتراف بطرفية المدعي للأصل وارتباطه به ، كانت اليد حجة في خصوص مدلولها المطابقي وهو الملكية دون الالتزامي - أعني : تحقق السبب الناقل - لأن اليد لا تكون حجة مع الإقرار ، وحجيتها تضييق بمقدار الإقرار ، بحيث تنتفي حجيتها في مفاد الإقرار واثره ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ وجائز ، وإقرار ذي اليد بملكية المدعي السابقة - الّذي لازمه دعوى تحقق السبب الناقل - مفاده ارتباط المدعي المقر له بالأصل المذكور ، وهذا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل ، فيصح له التمسك به في هذه الدعوى ويكون له المطالبة بالبينة لصيرورته منكرا ، فاليد حجة على خصوص الملكية الفعلية ، أما على ملزومها فلا ، لمنافاتها حينئذ مع الإقرار (1).

وبالجملة : فبالإقرار تنقلب الدعوى وتشكل دعوى ثانية موضوعها تحقق السبب الناقل وعدمه ، وهي غير الدعوى الأولى التي موضوعها الملكية وعدمها

ص: 31


1- لا يخفى أن الإقرار بالملكية السابقة ليس إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل إذ لا ملازمة كما لا يخفى مضافا إلى أنه لو كان كذلك لكان دعواه تحقق السبب الناقل منافيا لإقراره فيؤخذ بإقراره وتخصم الدعوى ، وإذا لم يكن الإقرار بالملكية السابقة إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل فلا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل ، فلا وجه لنفي حجيّتها عليه ، لعدم منافاتها للإقرار. وهذا لا ينافي كون مفاده جواز التمسك بالأصل في المطالبة بالبينة ، لأن المفروض أن موافقة الأصل عبارة عن موافقة الأصل الجاري في نفسه لا بالفعل. وعليه فيكون المقام من باب التداعي لأن كلا من الشخصين يوافق قوله الحجة ، لو لم نقل بان مفاد الإقرار جواز التمسك بالأصل بنحو التعليق يعني لو كان هناك أصل فلا مانع من التمسك به ، وقيام الحجة على المدعى وهي اليد يرفع موضوع الأصل تكوينا ، فلا أصل كي يجوز التمسك به فلا يتحقق الانقلاب وذلك لا ينافي الإقرار أصلا كما لا يخفى. وعلى كل فالأمر سهل بعد أن عرفت عدم حجية اليد في ملزوم مفادها - إذ لا يأتي هذا الكلام بناء عليه - كما ان ما ذكرناه في مقام توجيه فتوى المشهور بالانقلاب بنحو لا يتنافى مع ما ستعرفه ، كما سيتضح مع غض النّظر عن صحته وعدمها. مضافا إلى أنه لم يعلم بناء المشهور على أمارة اليد بل يمكن أن تكون أصلا عندهم. فالتفت.

لأن مفاد الإقرار جعل المقربة هو الأصل الجاري في نفسه.

ولو لا الإقرار لما انقلبت الدعوى ولما تشكلت دعوى أخرى ، لأن عدم السبب الناقل وان كان موضوع الأصل ، إلاّ أنه لا يصح للمدعي التمسك به إذ لا حجية له على كونه طرف الملكية السابقة ، بل لا دعوى لذي اليد بتحقق السبب الناقل ، إذ لا يدعي سوى الملكية ، لأنه لم يخبر مع عدم الإقرار بالسبب الناقل ولو بالملازمة كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك ان الدعوى الثانية انما تتشكل ويحصل الانقلاب إذا كان المدعي منكرا لتحقق السبب الناقل. أما مع عدم كونه منكرا وانما يقول بجهالة الحال وانه مالك المال الآن بمقتضى الأصل فلا تتشكل دعوى ثانية ، لعدم وجود قول للمقر له في تحقق السبب الناقل مقابل ذي اليد كي تكون هناك دعوى ثانية ، ويكون قوله موافقا للأصل فيكون منكرا ، بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها ، والمدعي يدعي الملكية بحسب القواعد ، وحينئذ فلذي اليد التمسك بيده في إثبات ملكيته الفعلية ونفي الأصل بها.

ولا مجال لجريان الأصل وثبوت مؤداه في قبال اليد ، لما عرفت من ان الأصل المذكور انما يجري بلحاظ أثر التعبد من جواز المطالبة بالبينة وصيرورة طرفه منكرا ، لا بلحاظ أثر المتعبد به من بقاء الملكية السابقة.

ولا يذهب عليك أن تشكل الدعوى الثانية وحصول الانقلاب لا يفرق فيه بين أن يكون المقر له هو المدعي أو المورث أو الموصي لنفس الملاك.

ولكنه يقيد بصورة كون المدعي أو الوارث أو الموصى له منكرا لتحقق السبب الناقل كما عرفت.

وبهذا يندفع الإشكال على المشهور - في فتواهم : بأنه لو أقر ذو اليد للمدعي أو لمورثه بالملكية السابقة لما في يده انقلبت الدعوى وصار ذو اليد مدعيا والمدعي منكرا ، لأن إقراره للمدعي بالملكية السابقة مساوق لدعوى الانتقال منه إليه ،

ص: 32

فيكون مدعيا وعليه البينة ، ويكون المدعي منكرا لموافقة قوله الأصل - بان الفتوى بالانقلاب تنافي اعتراض الإمام علیه السلام على أبي بكر في مطالبته البينة من الزهراء علیهاالسلام ، لأنها اعترفت بملكية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سابقا ، وهذا يساوق دعوى الانتقال منه صلی اللّه علیه و آله إليها علیهاالسلام ، فتكون الزهراء علیهاالسلام مدعيا وأبو بكر - باعتبار ولايته على المسلمين - منكرا ، لأن ملكية الرسول لفدك لو بقيت لانتقلت إلى المسلمين بعد وفاته بمقتضى الرواية المخلوقة : « نحن معاشر ... » المفروض تسليمها من قبل الزهراء علیهاالسلام . وعليه فالبينة تكون على الزهراء علیهاالسلام لا على أبي بكر ، فكيف استنكر عليه الإمام علیه السلام ونسب إليه الحكم بغير حكم اللّه؟

وجه الاندفاع واضح ، لأن أبا بكر لم ينكر على فاطمة علیهاالسلام دعوى تحقق السبب الناقل وهو النحلة ، وانما ادعى جهالة الحال وان المال باق على ملك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمقتضى القواعد الشرعية حتى يثبت خلافه ، فلا دعوى أخرى ، بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها لا تحقق السبب الناقل وعدمه ، فلفاطمة علیهاالسلام التمسك بيدها في إثبات الملكية - كما فعلت - ولا منافاة بين ذلك وبين إقرارها لأن إقرارها لم يرفع اليد عن حجيتها على الملكية - كما عرفت - ولا يصح لأبي بكر مطالبتها بالبينة.

ومما يدل على عدم إنكار أبي بكر لدعوى النحلة هو : أنه حين رد البينة التي أقامتها الزهراء علیهاالسلام لم يطالب الإمام علیه السلام باليمين على عدم النحلة ، مما يكشف عن انه لم يدع عدم النحلة ، بل كان يدعي جهالة الحال ، ولذلك كان استنكار الإمام علیه السلام موضوعه المطالبة بالبينة لا عدم الحلف.

وبالجملة : ففتوى المشهور بالانقلاب في صورة لا تطبق على مسألة فدك ، وهي صورة إنكار المقر له لدعوى السبب الناقل ، فلا إشكال على المشهور.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره في دفع الإشكال المذكور على المشهور

ص: 33

ما حاصله : ان الملكية إضافة وعلقة قائمة بالطرفين المالك والمملوك ، إلاّ انها تختلف في ظرف التبدل باعتبار موارده. ففي مثل البيع يكون التبدل في ناحية المملوك ، بمعنى ان طرف العلقة الرابطة بين المال والمالك من ناحية المالك على حاله.

وانما الطرف من ناحية المال قد حلّ وربط بمملوك آخر غير ذلك ، فالإضافة على حالها ، وانما التبدل بين المالين ، وهو طرف الإضافة. وفي مثل التوريث بالعكس يكون التبدّل في ناحية المالك ، فان طرف العلقة من ناحية المالك يحل بموته ويربط بمالك آخر مع بقاء الإضافة وارتباطها بالمال على حالها ، وقد يكون التبدل في نفس العلقة كما في الهبة فانها تتضمن إعدام إضافة المال للمالك وإيجاد إضافة أخرى بين المال والموهوب له.

ومثل الهبة الوصية التمليكية الموجبة لانتقال المال إلى الموصى له بعد الموت.

وأما الوصية العهدية ، فهي خارجة عن تمام الأقسام ، لأنها لا توجب التمليك ، بل تتكفل تعيين مصرف المال بعد الموت.

وعلى هذا ، فالاعتراف بملكية المورث حيث انه اعتراف بملكية الوارث لعدم التبدل فيها - كما عرفت - فيكون كالاعتراف بملكية نفس المدعي في انقلاب الدعوى.

بخلاف الاعتراف بملكية الموصي لأنها أجنبية عن ملكية الموصى له ، فالاعتراف له كالاعتراف للأجنبي ، فلا يوجب الانقلاب.

والمقام من هذا القبيل ، لأن المسلمين ليسوا بوارثين بل الانتقال إليهم من قبيل الانتقال بالوصية التمليكية.

وعليه ، فلا يكون الاعتراف بملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله السابقة موجبا لانقلاب الدعوى ، فلا تخرج الزهراء علیهاالسلام عن كونها منكرة وأبو بكر عن كونه مدعيا. مضافا إلى ان كون المقام من قبيل الوصية التمليكية ممنوع ، بل الظاهر انه من قبيل الوصية العهدية فالمسلمون لا يدعون ملكية المال أصلا.

ص: 34

وحينئذ فلا يكون الاعتراف بملكية الموصي المرتفعة يقينا مع عدم الانتقال إلى المدعي - ذي اليد - موجبا لانقلاب الدعوى ، لعدم الأثر في الاعتراف بها مع ارتفاعها يقينا. هذا حاصل ما أفاده قدس سره (1).

ويرد عليه :

أولا : ان علقة الملكية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالطرفين بنحو يستحيل وجودها بدون الطرفين ، كاستحالة وجود العرض بدون معروضه.

وعليه ، فيستحيل بقاء العلقة مع تبدل أحد الطرفين ، بل بارتفاع أحدهما ترتفع هي ، فإذا حصلت علقة بين المال ومالك آخر ، أو بين المالك ومال آخر ، فهي علقة ملكية أخرى. فما ذكره قدس سره من إمكان بقاء العلقة على حالها مع تبدل أحد الطرفين لا مجال له.

وعليه ، فلا فرق بين الموصى له والوارث في كون تملكهما بملكية ثانية.

وثانيا : ان مركز الدعوى الثانية إنما هو الانتقال في حياة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وان الملكية المعترف بها هل استمرت إلى حال الوفاة أو انقطعت أثناء الحياة ، فلا ربط لذلك بسنخ ملكية المسلمين بعد الوفاة وانها استمرار لتلك الملكية أو سنخ آخر من الملكية ، بل بقاء ملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى وفاته هي مركز الدعوى والنزاع القائم ، بحيث لو ثبت البقاء لكانت « فدك » للمسلمين قطعا وبلا ترديد ، لأن المفروض تسليم الرواية المخلوقة.

وملكية الرسول لفدك في حياته ترتبط بالمسلمين ، فالاعتراف بها سابقا يوجب كون المسلمين ممن لهم الحق في المطالبة بالبينة على الانتقال ويعدون منكرين في قبال فاطمة علیهاالسلام ، سواء كانوا ورثة أم موصى لهم ، إذ لا علاقة بالدعوى بما بعد الوفاة ، بل مركزها ما قبل الوفاة وكونهم طرف الدعوى

ص: 35


1- الكاظمي الشيخ محمد علي ، فوائد الأصول 2 / 229 - الطبعة الأولى.

لارتباطها - أعني الملكية - بهم - كما عرفت -.

وعليه ، فلا وجه لتعليل اعتراض الإمام علیه السلام على أبي بكر في طلبه البينة : بان الملكية المعترف بها ليست عين الملكية المدعاة ، فلا يحصل الانقلاب ، لأن المفروض ان مركز الدعوى بقاء ملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله لإبقاء الملكية مطلقا ، وملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله أجنبية عن ملكية المسلمين على التقديرين - أعني : الوراثة والوصاية - اما لاختلاف الإضافة أو لاختلاف سنخ الملكية.

وبالجملة : فلا يظهر لما ذكره المحقق النائيني وجه وجيه. فتدبر.

واما المحقق العراقي ، فقد ذهب إلى : ان مقتضى القاعدة عدم انقلاب الدعوى بالإقرار للمدعي بالملكية السابقة لحكومة اليد على الأصل.

ولكن قام الإجماع على الانقلاب في صورة الإقرار بملكية المدعي أو المورث. واما في صورة الإقرار بملكية الموصي فلا إجماع على الانقلاب ، فمقتضى القاعدة عدمه ، والإجماع المذكور يقتصر فيه على مورده لأنه دليل لبي لا إطلاق له. وحيث ان الإقرار في مسألة فدك للموصي لا للمورث لم يلزم منه انقلاب الدعوى ، فيتجه اعتراض الإمام علیه السلام على أبي بكر في مطالبته إياه بالبينة مع انه ذو يد.

ولا يخفى ان هذا - مع غض النّظر عن كون الانقلاب مقتضى القاعدة كما عرفت ، وكون الإجماع في مورده ليس تعبدا محضا ، بل الفقهاء يعللون الانقلاب ، فلا وجه للتمسك به مع كونه على خلاف القاعدة - ليس اعتذارا عن المشهور دفعا للإشكال عليهم. فالتفت.

فالأولى في الاعتذار ما عرفته فتدبره فانه بالتدبر حقيق واللّه سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

ص: 36

الجهة الخامسة : في ان اليد هل تكون حجة على الملكية مطلقا ولو شك في قابلية ما عليه اليد للملكية والنقل والانتقال ، كما لو شك في كون من باليد عبدا أو حرا ، أو تختص في صورة العلم بالقابلية ، فتكون حجة على إضافة الملكية إلى ذي اليد.

وعلى الأول : يقع الكلام في مسألتين :

الأولى : ما إذا علم حال العين في انها ليست قابلة للنقل والانتقال واليد سابقا ، بان كانت العين وقفا واليد يد ولاية أو إجازة أو نحوهما ، ثم شك في مالكية ذي اليد للعين لا حقا.

الثانية : ما إذا علم حال العين فقط ولم يعلم حال اليد ، بل احتمل ان تكون اليد من أول حدوثها مالكية.

ولا يخفى ان الكلام في هاتين المسألتين في طول ثبوت حجيتها المطلقة ، وإلا فمع ثبوت اختصاص حجيتها بما له القابلية ، فلا إشكال في عدم حجية اليد في المسألتين للشك في القابلية كما لا يخفى.

أما الكلام في المسألة الأولى ، فيعلم من الكلام في الجهة الثالثة الّذي مر مفصلا ، وعرفت فيه عدم حجية اليد ، لأن القدر المتيقن غير هذا فراجع.

وأما الكلام في المسألة الثانية فهو يقع في مرحلتين :

الأولى : مرحلة الثبوت. والتكلم فيها في تحقق ملاك الطريقية والكاشفية الناقصة في اليد ، بناء على اعتبارها من باب الطريقية.

وليس الكلام فيه بمهم في المقام ، لأن الطريقية بالمعنى الّذي ذكرناه سابقا - وهي الطريقية النوعية غير المنتفية بوجود المزاحم - متحققة هاهنا ، إذ اليد طريق بنفسها إلى الملكية لو لا بعض الحالات التي تكتنفها. وبالمعنى الّذي قرره المحقق الأصفهاني هناك من الطريقية النوعية الفعلية أيضا متحققة ، لأن غلبة بقاء العين على ما كانت عليه - لغلبة بقاء الحادث - انما تزاحم - في المقام - غلبة كون الأموال

ص: 37

ملكا طلقا لا وقفا.

وأما غلبة اليد المالكية فلا تزاحم بها ، فالطريقية الفعلية متحققة لتحقق ملاكها بلا مزاحم ومقيد - كما قرره قدس سره هاهنا - وهو يخالف المسألة السابقة ، لأن غلبة البقاء هناك في حال اليد لا في نفس العين كما في هاهنا.

وقد تمسك المحقق الأصفهاني لحجية اليد فيما نحن فيه بالإطلاق.

ولا يخفى ان أصح ما استدل به - عنده - من الأدلة اللفظية هو قوله علیه السلام في رواية يونس : « ومن استولى على شيء منه فهو له » ، وهي بدلالتها اللفظية لا إطلاق لها لاختصاصها بالمورد ، لمفاد : « منه » ، والتمسك بها في غير المورد انما كان من باب إلغاء خصوصية المورد.

لا يخفى انه إذا كان للمورد خصوصيات متعددة وعلم بعدم دخل بعض خصوصياته في الحكم يكون مطلقا من ناحية هذه الخصوصية دون غيرها.

والخصوصية الملغاة في مورد الرواية انما هي خصوصية كون المال من متاع الرّجل والمرأة وموت أحدهما - بتقريب حصول العلم بعدم دخل هذه الإضافة في الحكم بالملكية لليد وان عرفت ما فيه - فالإطلاق فيها من هذه الناحية.

ولكنه توجد في المورد خصوصية أخرى يحتمل دخلها في الحكم بالملكية لليد ، وهي : كون المال قابلا للملكية والتردد في المالك ، وهي منتفية فيما نحن فيه للشك في قبول المال للملكية ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق ، إذ لا إطلاق للرواية من هذه الناحية.

وعليه ، فيقع الكلام في معارضة اليد بأصالة عدم حصول السبب المسوغ وعدمها.

وقد قرب المحقق الأصفهاني عدم تعارض الأصل مع اليد وحكومة اليد عليه : بان اليد لما كانت حجة على الملكية فهي حجة على ملزومها وهو حصول السبب المسوغ للبيع. وعليه فتكون اليد حاكمة على الأصل.

ص: 38

ولا يخفى ما فيه ، لما عرفت من ان اليد ليست حجة في اللوازم والملزومات ، ولو كانت أمارة ، بل هي حجة في نفس مفادها لا أكثر.

فالأولى التمسك في المقام بأصالة الصحة في عمل الغير ، فنصحح العقد الحاصل بها ، وهي مقدمة على استصحاب عدم حصول السبب المسوغ.

وقد يقال : ان مثل المورد هو مورد اليد الّذي وقع التسالم على اعتبارها فيه ، لأن أصالة عدم حصول السبب المسوغ ، كأصالة عدم حصول السبب الناقل مع العلم بعدم الملكية السابقة ، فكما ان اليد لا تتعارض مع هذا الأصل فكذلك لا تتعارض مع ذاك.

ولكنه يقال : فرق بين المقامين ، لأن القدر المتسالم عليه هو عدم معارضة أصالة عدم تحقق السبب الناقل لليد. واما مع العلم بتحقق السبب ولكن الشك في تحقق المؤثر لسببيته والمسوغ له ، فلا يعلم تقدم اليد على الأصل الجاري لنفي تحقق المسوغ. ويمكن إجراء هذا الإشكال في جميع صور الشك في الصحة من جهة الشك في تحقق بعض شروطها كالعلم بالعوضين وغيره.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره في المقام : ان اليد قد أخذ في موضوع حجيتها قابلية المحل للملكية والنقل والانتقال ، لأن مفادها : ان المال قد انتقل من مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد الأسباب الناقلة ، وذلك انما يكون بعد الفراغ عن كون المال قابلا للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، لأن الانتقال فيه انما يتحقق بعد عروض السبب المسوغ للنقل ، واليد لا تتكفل ذلك. بل استصحاب عدم طرو المسوغ يقتضي سقوط اليد لأنه يرفع موضوع اليد ، فيكون حاكما عليها (1).

وقد أورد المحقق العراقي قدس سره - في بعض تقريراته - : ان أخذ القابلية الواقعية في موضوع اليد - مضافا إلى عدم تماميته - يستلزم سقوط اليد عن الحجية

ص: 39


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 266 - الطبعة الأولى.

بمجرد الشك في القابلية وعدمها ، لأنه شك في تحقق الموضوع ، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب وحكومته على اليد.

فكلامه مع المحقق النائيني في جهتين :

الأولى : عدم أخذ القابلية في موضوع اليد.

الثانية : انه لو أخذت ، فلا حاجة الاستصحاب ، بل مجرد الشك كاف في سقوط اليد عن الحجية.

أما الجهة الثانية : فهي غير تامة ، لأنه لا إشكال في ان لجريان الاستصحاب في عدم تحقق المسوغ - مع قطع النّظر عن اليد - أثرا شرعيا كعدم جواز بيعه وغيره من أحكام الوقف ، فيمكن أن يكون جريانه بلحاظ أثره الشرعي.

وأما التعبير بالحكومة ، فيمكن توجيهه : بان الدليل الحاكم لا يختص بما كان مخرجا لفرد كان مشمولا فعلا للدليل المحكوم لو لا الدليل الحاكم ، بحيث كان للدليل المحكوم اقتضاء فعلي لشمول هذا الفرد.

بل هو يعم ما كان كذلك وما كان مخرجا لفرد يتوهم شمول الدليل الآخر له ، وان لم يكن فيه مقتضى الشمول فعلا.

والاستصحاب هاهنا أثبت عدم تحقق قابلية العين للملكية ، وهي - أي العين - مما يتوهم شمول دليل اليد لها في حد نفسها ومع قطع النّظر عن كونها مشكوكة الحال وان الشبهة موضوعية ، وان كان ليس فيه اقتضاء الشمول فعلا باعتبار الشك.

وعليه ، فالاستصحاب جار ويكون حاكما على اليد بهذا اللحاظ ، وهذا لا ينافي سقوط اليد عن الحجية للشك. فلا إشكال على المحقق النائيني من هذه الناحية.

نعم ، لو كان مراده قدس سره أن سقوط اليد عن الحجية انما هو لأجل الاستصحاب ، بحيث لولاه لكانت اليد حجة - كما لعله الظاهر من كلامه فتأمل -

ص: 40

اتجه عليه الإيراد : بأنه لا حاجة إلى الاستصحاب في ذلك ، بل بمجرد الشك تسقط اليد عن الحجية ، لأن الشبهة مصداقية كما لا يخفى.

وأما (1) الجهة الأولى - وهي العمدة في المقام كما أشرنا إليه - فتحقيق الكلام

ص: 41


1- تحقيق الحال في المسألة باختصار : ان اليد الحادثة على العين تارة يشك في انها حدثت عن تملك بعقد أو بغيره أو حدثت لا عن تملك. ومثل ذلك هو المتيقن من بناء العقلاء على الحجية وأخرى يعلم بأنها حدثت عن عقد أو نحوه وشك في صحة العقد وعدم صحته ، وفي مثل ذلك يمكن ان يقال ان بناء العقلاء على غض النّظر عن اليد وملاحظة السبب الناقل فيرى أنّه صحيح أو ليس بصحيح ويحكم بالملكية وعدمها بملاحظته. ولا أقل من التشكيك في حجية اليد في مثل هذه الصورة. وقد يقال انهم يحكمون بحجية اليد ما لم يثبت لديهم بطريق معتبر بطلان العقد ، ولا يحكمون بالملكية استنادا إلى اليد جزما ، وليس بناؤهم على ترتيب أثر الملكية قطعا. وبالجملة مع العلم بالسبب الناقل والشك فيه إما أن يقال بقصر نظرهم عليه وسقوط اليد عن الحجية مطلقا ويقال بسقوطها في مورد ثبوت بطلان السبب. ومفروض كلام النائيني قدس سره ، من هذا القبيل فان المفروض العلم بسبق الوقف واحتمال عروض المصحح لبيعه. وفي مثله لا تكون اليد حجة بل لا بد من ملاحظة السبب الناقل فيتمسك له مثلا بأصالة الصحة أو غيرها. ومع الغض عن ذلك فلا يشك في أنه مع ثبوت بطلان السبب تسقط اليد عن الحجيّة وهذا كما ذكرناه ما ادعاه النائيني قدس سره فان استصحاب عدم طرد المسوغ يترتب عليه بطلان البيع فيثبت بطلانه بواسطة الاستصحاب فيرتفع موضوع حجية اليد وتسقط عن الاعتبار. وبهذا البيان للمسألة وتوجيه كلام النائيني قدس سره لا يتم ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من قياس هذا الاستصحاب باستصحاب الملكية الجاري في مطلق موارد اليد ، فان استصحاب الملكية لا ينفي موضوع اليد ولا يترتب عليه شرعا بطلان العقد بخلاف هذا الاستصحاب. كما أنه لا وجه لما جاء في كلام العراقي في البحث في ان المأخوذ هو القابلية الواقعية أو الجهل بها وتفصيل الكلام في ذلك ، في مقام الإيراد على النائيني ، إذ عرفت أن محل الكلام لا يرتبط بأخذ القابلية ونحوها بل يرتبط بملاحظة السبب الناقل ولا يخفى عليك ان محل الكلام هو مورد العلم بسبق عدم القابلية اما مع عدم فرض ذلك بلا شك رأسا في ان ما تحت اليد ملك أو وقف فلا إشكال في حجية اليد وعدم توقف العقلاء في البناء على ملكية ذي اليد ومعاملته معاملة المالك.

فيها يستدعي بيان المراد من القابلية المبحوث عنها هاهنا. فنقول : ليس المراد من القابلية ، القابلية بمعناها الفلسفي الّذي هو عبارة عن الاستعداد الذاتي للعين. لوضوح حصول التبدل في العين من هذه الناحية ، فتارة تكون ذات قابلية. وأخرى لا تكون كذلك مما يكشف عن عدم إرادة ذلك المعنى منها ، بل المراد منها تأثير السبب الناقل في العين. فإذا حكم الشارع بان السبب الناقل يؤثر في هذه العين الانتقال كان لها قابلية. وان حكم بعدم التأثير لم يكن لها قابلية. فالقابلية وعدمها ينتزعان عن حكم الشارع بتأثير السبب في نقل العين وعدمه.

وعلى هذا ، فقد يقال : بان محققات القابلية وشروطها - في العين المسبوقة بعدم القابلية - تكون شروطا في تأثير العقد في هذه العين ، نظير العلم بالعوضين وطيب النّفس ، فيقال : العقد مؤثر وناقل لهذه العين إذا كان قد حصل الأول إلى الخراب - مثلا -. فمرجع الشك في بقاء عدم القابلية وعدمه إلى الشك في حصول السبب الناقل وعدمه - إذ عدم حصوله أعم من عدم وجوده بالمرة أو حصوله غير صحيح - ولا إشكال في عدم استلزام ذلك لسقوط اليد عن الحجية ، فلا ثمرة في الكلام حينئذ.

ولكنه وإن سلم ذلك ، إلاّ ان هذا النوع من الشروط - وهو شرط القابلية للنقل والانتقال - له خصوصية عن غيره ، ولذلك وقع محل الكلام دون غيره.

وعلى كل ، فليس هذا بمهم وضائر ، لأن الكلام في أخذ القابلية للملكية في موضوع اليد مطلقا مع غض (1) النّظر عن سبق القابلية أو عدمها وتحقق عقد

ص: 42


1- فيه تأمل يظهر من ملاحظة تحقيق كلام النائيني قدس سره في الحاشية.

وعدمه. بل موضوع الكلام ما إذا كانت عين في يد شخص وكانت مشكوكة القابلية ، فهل اليد تكون دليلا على الملكية أو لا.

لا إشكال في ذلك - أعني كونها دليلا على الملكية - إذ لا إشكال في عدم اعتبار القابلية في موضوع اليد ، لما نراه من بناء العقلاء على عدم ملاحظة قابلية ما في اليد للملكية ، بل يعاملون ذا اليد معاملة المالك ويبنون على ما في يده ملكا وان كان لديهم شك في قابلية المحل للملكية ، ويتأكد ذلك بملاحظة التعليل لاعتبار اليد الوارد في رواية حفص من توقف قيام السوق للمسلمين على ذلك ، إذ لا ريب في انه مع اعتبار القابلية وعدم حجية اليد مع الشك فيها يأتي المحذور السابق لأن أغلب ما في سوق المسلمين مشكوك القابلية ، فالتفت.

يبقى الكلام في اعتبار عدم العلم بعدم القابلية في موضوع حجية اليد.

وقد قرّبه المحقق العراقي : بأنه لا إشكال في ان دليل اعتبار اليد دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، والقدر المتيقن من بناء العقلاء هو اعتبار اليد مع عدم العلم بعدم القابلية.

اما مع العلم بعدمها فلا يبنون على حجية اليد على الملكية ، فيختص موضوع اعتبار اليد بعدم العلم بعدم القابلية. وحينئذ فمع الشك وسبق العلم بعدم القابلية يكون استصحاب عدم القابلية مقدّما على اليد على قول ومعارض لها على قول آخر ، فانه على القول بان دليل الاستصحاب مفاده التعبد ببقاء اليقين وتنزيل الشك منزلة اليقين ، يكون الاستصحاب مقدما على اليد لأنه يحقق العلم تنزيلا بعدم القابلية فيرتفع به موضوع اليد. وعلى القول بان مفاد دليل الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، وان اليقين مأخوذ مرآتا للمتيقن لا يكون مقدّما ، لأن الاستصحاب لا يرفع الجهل بالقابلية ولو تنزيلا ، بل يكون معارضا لليد (1).

ص: 43


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار :4/ 27 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وفي كلامه - بشقيه - نظر :

أما حديث التفرقة بين القولين في جريان الاستصحاب وتقدمه على اليد.

ففيه ما سيأتي من تصحيح تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي مطلقا وعلى كل تقدير ، حيث ان نسبة الأصل المذكور إلى اليد كنسبة الأصل السببي إلى الأصل المسببي ، فان الأصل الجاري فيما كان الجهل فيه أو في عدمه موضوعا لمجرى أصل آخر يكون سببا ، وذلك الأصل الآخر مسببيا كما سيتضح فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وأما حديث أخذ الجهل بعدم القابلية في موضوع اليد شرعا. فيتضح عدم تماميته بما عرفت من ان الجهل قد يؤخذ موردا وقد يؤخذ موضوعا. وان الفرق بين الأصول والأمارات ان الجهل في الأولى مأخوذ بنحو الموضوعية ، وفي الثانية الأصول والأمارات ان الجهل في الأولى مأخوذ بنحو الموضوعية ، وفي الثانية مأخوذ بنحو الموردية. وإلا فهما لا يفترقان في عدم جريانهما في صورة العلم بالواقع ، واختصاص جريانهما في صورة الجهل بالواقع ، فاليد وان كان اعتبارها مختصا بما إذا كان عدم القابلية مجهولا ، إلاّ انه لا يعلم كون الجهل قد أخذ بأي النحوين ، فقد يكون مأخوذا بنحو الموردية ولا دليل على كونه مأخوذا بنحو الموضوعية ، فتدبر جيدا.

ثم أنه قدس سره ذهب إلى عدم أخذ القابلية بوجودها الواقعي في موضوع حجية اليد ، لاستلزام سقوط اليد عن الحجية في كثير من الموارد ، مما يؤدي إلى اختلال النظام المشار إلى نفيه في رواية حفص بقوله علیه السلام : « ولو لم يجز ذلك لم يقم للمسلمين سوق ». ولا يخفى ان ظاهر ما أفاده قدس سره هو خلط في موارد الشك في القابلية بين سبق عدم القابلية وعدم السبق بذلك.

وقد عرفت ان محل الكلام الأول دون الثاني. ثم ان الاستدلال باختلال النظام غير مسلم إذ ليس من موارد الشك في القابلية بذلك الموجبة لاختلال النظام ، مع أنها لو تمت فانما تتم في موارد العلم بسبق عدم القابلية ، إذ الالتزام بعدم حجية اليد في موارد العلم بسبق عدم القابلية لا يستلزم الاختلال قطعا ، لعدم كونها

ص: 44

بحد من الكثرة بحيث يلازم سقوط اليد اختلال النظام ، فلاحظ.

الجهة السادسة : في ان اليد كما تكون دليلا على ملكية العين ، هل تكون دليلا على ملكية المنفعة أم لا؟

وأساس الكلام على ان الاستيلاء الّذي هو معنى اليد هل يمكن ان يحصل على المنفعة ، كما يمكن ان يكون على نفس العين أم لا؟

وقبل الخوض في تحرير المسألة لا بد من ان نعرف الثمرة من البحث فيها.

ولا يخفى ان الغرض إثبات ملكية المنفعة باليد ، كما تثبت ملكية العين بها ، بحيث تكون اليد طريقا إلى إثبات ملكية المنفعة.

فقد يقال : ان ملكية المنفعة تابعة لملكية العين ، فاليد على العين طريق لملكية العين وبها تثبت ملكية المنفعة ، فلا يحتاج في إثبات ملكية المنفعة إلى إثبات تحقق الاستيلاء عليها وحجيته على ملكيتها ، فلا ثمرة حينئذ.

ولأجل ذلك قيل : بان الثمرة تظهر في صورة اختصاص الاستيلاء على المنفعة دون العين ، وذلك كالمتصدي لإجارة الدار والصلح على المنفعة ، فان له استيلاء على المنفعة باعتبار تصديه للمعاملة عليها دون العين ، إذ العين بيد الغير ، فثبوت ملكية المنفعة منحصر باليد عليها إذ لا يد لمالكها على العين كي تثبت ملكيتها بتبع ملكية العين.

ويشكل هذا : بان الاستيلاء على المنفعة لا يعقل انفكاكه عن الاستيلاء على نفس العين ، والتصدي للإجارة والصلح لا يحقق الاستيلاء ، وإلا لكان الفضولي المتصدي لإجارة الدار فضوليا له استيلاء على المنفعة ، مع انه ليس كذلك.

فالأولى ان يقال : بان الثمرة تظهر في صورة ما إذا كان الشخص له استيلاء على العين والمنفعة وعلم بعدم ملكيته العين ، كالمستأجر للوقف أو لدار غيره ، فان المستولي على المنفعة - في هذا الفرض - وان كان له استيلاء على العين ، لكنه ليس مالكا لها - كما هو المفروض - فلا يمكن استكشاف ملكية المنفعة بالاستيلاء على

ص: 45

العين.

إذا عرفت ذلك : فالمنسوب إلى الفاضل النراقي قدس سره تخصيص حجية اليد بالأعيان دون المنافع ، ثبوتا وإثباتا.

أما ثبوتا : فلأنه لا يتصور تحقق الاستيلاء الخارجي على المنافع ، لأنه انما يتحقق في الأمور القارة التي لها ما بإزاء في الخارج كالأعيان.

أما الأمور التدريجية ، فلا يتصور تحقق الاستيلاء عليها ، لأن موضوع الثمرة والمهم في المقام هو الاستيلاء على المنفعة المستقبلة الحدوث. أما الاجزاء الموجودة ، فلا أهمية ولا غرض في الاستيلاء عليها. والمنفعة المستقبلة عبارة عن الاجزاء الأخرى التي بعد لم تحصل ، وانما يكون حصولها بعد هذا الآن ، فهي معدومة الآن فلا يتحقق الاستيلاء بالنسبة إليها ، إذ لا استيلاء على المعدوم. والمنفعة من الأمور التدريجية الحاصلة بالتدرج فلا يتحقق الاستيلاء عليها.

وأما إثباتا : فلأن الأدلة على حجية اليد لا إطلاق لها إلا روايتي يونس وحفص.

والأولى : موضوعها الأعيان ، لرجوع الضمير في : « منه » إلى متاع البيت وهو من الأعيان.

والثانية : وان كانت بحسب صدرها عامة للتعبير بالشيء ، وهو أعم من العين والمنفعة ، إلا ان في الكلام ضميرا يرجع إلى بعض افراد العام وهو الأعيان ، وذلك في قوله : « تشتريه » فان الشراء يتعلق بالأعيان لا بالمنافع. فيدور الأمر بين ان يكون المراد من العام هو هذه الافراد ، أو يكون استعمال الضمير من باب الاستخدام ، فلا أقل من صيرورة الكلام مجملا ، وهو كاف في عدم جواز التمسك به في إثبات المطلوب (1).

ص: 46


1- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 578 الموضع السادس من الفصل الخامس الطبعة القديمة -.

وقد أورد عليه السيد الطباطبائي قدس سره في كتاب القضاء (1) ، بوجهين :

الأول : انه يمكن تصور الاستيلاء على المنافع مستقلا على الاستيلاء على الأعيان كالمزرعة الموقوفة على العلماء والسادة مع كون العين بيد المتولي وصرف حاصلها ومنافعها فيهم ، فان لهم الاستيلاء على المنافع المرسلة إليهم.

الثاني : النقض عليه بحق الاختصاص ، فكما يتصور الاستيلاء على حق الاختصاص كما في العين الموقوفة المختصة بأربابها ، كذلك يتصور الاستيلاء على المنافع.

وقد أورد على الوجه الأول : بان المراد من المنافع التي هي موضوع البحث ما يقابل الأعيان ، وهي التي تكون تدريجية التحقق ومعدومة الوجود فعلا ، والمنافع المذكورة المستوفاة من المزرعة الموقوفة داخلة في الأعيان ، وان أطلق عليها لفظ المنفعة باعتبار استخراجها من عين أخرى.

وأورد على الوجه الثاني : بان الاستيلاء على الأعيان تختلف آثاره باختلاف الأعيان ، والاستيلاء على الدار اثره ملك العين وعلى الموقوفة اختصاصها بالمستولي ، وعلى الأرض الحجرة أولويته بها فالكل من باب الاستيلاء على الأعيان لا الاستيلاء على العين تارة وعلى الحق بأنحائه أخرى.

أما الإيراد على الوجه الأول فلا شبهة فيه كما هو واضح.

ولكن الإيراد على الوجه الثاني لا يمكن الالتزام به ، لأنه قدس سره يصرح في أوائل كلامه بمضمون الإيراد ، فلا وجه للإيراد به عليه ، إذ منه يعلم إرادة شيء آخر من نقضه لا يتوجه عليه هذا الإيراد.

ويمكن ان يريد من كلامه : ان حق الاختصاص نوع من أنواع الملكية

ص: 47


1- الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى3/ 122 - الطبعة الأولى.

كملكية العين وملكية المنفعة وملكية الانتفاع. فمتعلق حق الاختصاص من سنخ متعلق ملكية المنفعة. وبعبارة أخرى : ان الاختصاص من سنخ المنفعة ، فكما يثبت حق الاختصاص باليد على العين الموقوفة - مثلا - فكذلك تثبت ملكية المنفعة بالاستيلاء على العين ، إذ لا فرق بينهما.

وقد ذكر صاحب البلغة قدس سره - كما حكي عنه (1) - : ان قبض المنافع بقبض العين ، بدليل جواز مطالبة الموجر للمستأجر بالأجرة بمجرد القبض ، فما لم يقبضه المنفعة لم يكن له المطالبة بالأجرة ، لأن المعاملة قد وقعت على المنفعة.

وفيه : - كما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره - كما حكي عنه - ان مقتضى القاعدة جواز المطالبة بالأجرة بمجرد المعاملة ، لأن الموجر يملك العوض بالمعاملة ، كما ان المستأجر يملك المعوض - وهو المنفعة - بها أيضا. فالحكم بعدم جواز المطالبة بالعوض في سائر المعاملات قبل الإقباض حكم على خلاف القاعدة وليس على وفقها ، من باب الالتزام الضمني من كلا المتعاقدين على ان التسليم بعد الإقباض. فيقتصر فيه على مورده وهو غير الإجارة ، فانهم حكموا فيها بعدم جواز المطالبة بالأجرة قبل التمكين من استيفاء المنافع لا قبل قبض المنفعة.

فصحة المطالبة بالأجرة حين قبض العين انما هو من جهة حصول التمكين على الاستيفاء لا من جهة إقباض نفس المنفعة.

بل هذا الوجه جار في سائر المعاوضات ، فان صحة المطالبة بالعوض فيها متوقفة على التمكين من استيفاء المعوض لا على قبضه ، فالتفت.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في رد ما ذكره الفاضل النراقي : ان منافع الأعيان حيثيات وشئون قائمة بها وموجودة بوجودها على حد وجود المقبول بوجود القابل ، واما السكنى بالمعنى الفاعلي ، فهي من أعراض الفاعل لا من منافع الدار.

ص: 48


1- بحر العلوم بلغة الفقيه 3 / 315 - الطبعة الأولى.

فحيثية المسكنية هي منفعة الدار ، وما دامت الدار على هذه الصفة تكون المنفعة مقدرة الوجود عند العقلاء ، فتقبل كل صفة اعتبارية من الملك والاستيلاء.

ولا يخفى ان المراد من المسكنية التي تكون هي منفعة الدار إن كان هو قابلية الدار للسكنى ، فهم لا يلتزمون بكون المنفعة هي القابلية ، وان كان هو المسكنية الفعلية فهي مضافا إلى انها من شئون الفاعل تدريجية الحصول ، فتكون معدومة.

والتحقيق ان يقال : ان بناء العقلاء على ملكية المنفعة عند الاستيلاء على العين بحيث يعدونها من شئون الاستيلاء على العين مما لا إشكال فيه ولا ريب يعتريه ، سواء في ذلك كون العين مملوكة للمستولي أو غير مملوكة له.

فلا يهمنا كثيرا معرفة قبول المنفعة للاستيلاء وتصوير المنفعة بشكل يقبله بعد البناء المذكور من العقلاء.

وقد يكون هذا البناء منهم لبنائهم على تحقق الاستيلاء على المنفعة ، أو لأجل غلبة ملكية المنفعة عند الاستيلاء على نفس العين فتدبر جيدا ولا تغفل.

الجهة السابعة : في جواز الشهادة على الملك استنادا إلى اليد.

ولا بد أولا من بيان ثمرة الكلام ، إذ قد يتوهم عدم الثمرة لأنه لا يختلف الحال في الشهادة على اليد أو على الملك في ترتب الأثر المطلوب ، وهو ثبوت ملكية المشهور له بل قد يقال : بان الاحتياج إلى الشهادة في مقام الدعوى ، ولا تنفع البينة المستندة إلى اليد مع وجود بينة معاكسة لها ، إذ البينة المستندة إلى اليد لا تزيد على نفس اليد واليد لا تعارض البينة على الخلاف. هذا مع ان البينة المستندة إلى اليد ، مع التفاتها إلى البينة المخالفة تسقط عن الحجية ، لأجل استنادها إلى غير الحجية وهو موجب للفسق.

فنقول : الثمرة تظهر في ما لو كان المطلع على استيلاء المشهور له واحدا وكان هناك شخص آخر مطلعا على ملكية المشهود له السابقة ، فانه بناء على قيام الطرق والأصول مقام العلم تكون شهادة كل من الشخصين بالمسبب - أعني : الملكية -

ص: 49

بلحاظ وجود الطريق لكل منهما وان كان مختلفا ، مجدية في المقام لتمامية البينة على الملكية. بخلاف ما لو شهد بالسبب الّذي يعلمانه ، لأن كلا منهما يشهد بسبب غير السبب الّذي يشهد به الآخر ، فلا تتم البينة على أحد السببين كي يترتب عليه الأثر. فالشهادة على اليد في الفرض لا أثر لها بخلاف الشهادة على الملك ، لأنها جزء البينة ، فبضميمتها إلى الشهادة الأخرى على الملك تتم البينة ويترتب الأثر.

والّذي يقرب في النّظر عدم جواز الشهادة استنادا إلى اليد ، وذلك لأن الإخبار الجائز هو الخبر الصادق في قبال الخبر الكاذب. والصدق والكذب عنوانان ينتزعان عن مطابقة الخبر للواقع وعدم مطابقته ، ومع الشك في المطابقة لا يجوز الإخبار قطعا ولو لأجل التجري لكونه طرف العلم الإجمالي.

وعليه ، فإذا قامت اليد على الملكية لا يحرز أن الإخبار عن الملكية مطابق للواقع ، فلا يحرز أنه صدق.

نعم ، لو كان اليد حجة في اللوازم كانت حجة في مطابقة الخبر للواقع ، ولكن عرفت منع ذلك.

وبالجملة : الحكم الشرعي غير مترتب على مؤدى اليد مباشرة ، بل متعلق بعنوان ملازم له ، وهي غير حجة في لوازمها بخلاف البينة ، فانها إذا قامت على الملكية كان لها دلالة التزامية ، على ان الإخبار عنها مطابق للواقع ، وهي حجة في الدلالة المطابقية والالتزامية.

وإذا ظهر عدم جواز الإخبار بمقتضى اليد تكليفا ، ظهر عدم جوازه وضعا ، فلا يكون الإخبار حجة لفسق المخبر به جزما.

وهذه الجهة مما غفل الأعلام عنها ، ولم أجد من تنبه لذلك ، وانما أوقعوا الكلام في اعتبار العلم في جواز الشهادة وقيام اليد مقام العلم ، فتدبر.

وكيف كان فالمشهور - على ما حكي - على المنع عن الشهادة استنادا إلى اليد ، لأخذ العلم الوجداني في موضوع جواز الشهادة.

ص: 50

وتحقيق الكلام في هذه الجهة يستدعي البحث في نواح ثلاث :

الأولى : في أخذ العلم موضوعا لجواز الشهادة.

الثانية : في انه على تقدير موضوعية العلم فهل هو مأخوذ بنحو الصفتية أو الطريقية؟.

الثالثة : في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي.

أما موضوعية الأولى - أعني العلم لجواز الشهادة - فلا إشكال فيها ولا ارتياب لدلالة الاخبار الكثيرة عليها. هذا ولكن يقرب جدا : ان يكون المنظور في الاخبار النهي عن الشهادة استنادا إلى التخمين والحدس الظني الّذي كثيرا ما يستند إليه المخبرون ، ولا نظر لها إلى اعتبار العلم بالمخبر به ، كما لا يخفى على من لاحظها والأمر هيّن.

وأما الناحية الثانية - وهي كيفية أخذه وانه بنحو الصفتية أو الطريقية ، فالكلام فيها يبتني على القول بإمكان أخذ العلم موضوعا بأحد النحوين.

أما من لا يرى إمكان أخذه بنحو الصفتية وانحصاره في جهة الطريقية ، فهو في سعة عن الكلام فيها.

وذلك كالمحقق الأصفهاني قدس سره ، فانه أفاده في تقريب ذلك بان : أخذ العلم في الموضوع معناه أخذه بميزاته عن الصفات الأخرى.

فالملحوظ فيه هو الجهة المميزة له عن غيره ، وإلاّ فلو أخذ بلحاظ بعض الجهات المشتركة بينه وبين غيره ، لا يكون أخذا له في الموضوع ، بل أخذا للجامع المشترك بينه وبين غيره.

ولا يخفى ان الجهة المميزة للعلم التي هي بمنزلة الفصل له هي جهة الطريقية والكشف التام. فان بها يكون العلم علما ويكون مباينا للظن وغيره من الصفات. فمعنى أخذ العلم في الموضوع أخذه بهذه الجهة ، إذ لا جهة أخرى تميزه عن باقي الصفات.

ص: 51

وقد تقدم منا في مباحث القطع : ان هذا التقريب غير مانع من إمكان أخذ العلم بأحد النحوين.

ومحصل ما ذكرناه هناك : ان العلم وان كان فيه جهة واحدة هي المميزة له عن سائر الصفات النفسيّة وبها صار علما ، وهي جهة الطريقية والكشف التام.

إلا ان هذه الجهة تارة : يترتب عليها الأثر بما هي هي ومع غض النّظر عن الواقع المرآتي بها والمنكشف بواسطتها. وأخرى يكون الأثر مترتبا عليها بلحاظ الواقع المنكشف بها. فالانكشاف في كلا الموردين موضوع للأثر ، لكنه بنفسه وبلحاظ ذاته يكون كذلك في مورد وبلحاظ الواقع المنكشف به يكون كذلك في المورد الآخر.

وعليه ، فأخذ العلم في الموضوع بما هو صفة خاصة معناه أخذ الجهة المميزة له بنفسها وبما هي. وأخذه بما هو طريق هو لحاظ الجهة المميزة فيه باعتبار كشفها عن الواقع ، فكأن الواقع هو الملحوظ فيه وان كان العلم هو الموضوع حقيقة.

وإذا اتضح إمكان تصور أخذ العلم بهذين النحوين ولو كان المميز للعلم جهة واحدة ، فلا بد من تعيين انه على أي النحوين قد أخذ موضوعا لجواز الشهادة.

والّذي يظهر من مساق الروايات الواردة في اعتبار العلم في موضوع جواز الشهادة هو أخذه بنحو الطريقية. فان الظاهر منها كون المنظور هو حفظ الواقع عن التغيير والتبديل ، وان أخذ العلم انما هو للمحافظة على حقوق الناس وان الشهادة لا بد ان تكون على أساس ومستند ولا تكون مجازفة في القول وتهور كي تحفظ الحقوق عن الضياع.

وأما الناحية الثالثة - وهي قيام الطرق مقام القطع الموضوعي - : فهو انما يتحقق بناء على القول بان دليل الأمارة يتكفل تنزيلها منزلة العلم ، لما تقدم من التمسك بإطلاق دليل التنزيل في ترتيب جميع آثار العلم عليها. لكنك عرفت عدم ثبوت التنزيل المذكور لعدم وفاء الأدلة به. خصوصا في مثل اليد التي لا يعرف انها

ص: 52

أمارة أو أصل ، فكيف يستطاع ان يشخص مفاد دليلها على احتمال كونها إمارة؟ فلاحظ.

أما على الأقوال الأخرى في ما يتكفله دليلها ، فلا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع.

أما على ما ذكره الشيخ - واخترناه أخيرا - من تكفل دليلها تنزيل المؤدى منزلة الواقع (1) ، فعدم القيام واضح ويتلخص وجهه بما بينه صاحب الكفاية قدس سره في أوائل مباحث القطع في مقام الإيراد على الشيخ من : ان دليل الاعتبار إذا كان متكفلا لتنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فالملحوظ فيه استقلالا هو المؤدى والواقع ، والأمارة والقطع ملحوظان في هذا التنزيل باللحاظ الآلي المرآتي. وقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي يستدعي لحاظ الأمارة والقطع بالاستقلال في دليل التنزيل ، فلا يمكن ان يتكفل دليل الأمارة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل الأمارة منزلة العلم ، لاستلزامه اجتماع لحاظين أحدهما آلي والآخر استقلالي وهو ممتنع (2).

وأما على ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ من جعل المنجزية والمعذرية. فقد يتوهم قيامها مقامه باعتبار كون الدليل يتكفل تنزيلها منزلة العلم في ذلك.

ولكنه غير صحيح لوجهين :

الأول : ان جعل المنجزية والمعذرية يقتضي لحاظ الواقع بالاستقلال ، لأن مفاده ان الواقع يتنجز بالأمارة ، فقيامها - حينئذ - مقام القطع الموضوعي يقتضي لحاظ نفس الأمارة بالاستقلال ، فيلزم اجتماع اللحاظين.

ص: 53


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /4- الطبعة القديمية.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /264- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثاني : ان دليل التنزيل هاهنا ليس لفظيا ذا إطلاق كي يتمسك به في ترتيب جميع الآثار ، إذ هو منتزع عن ترتيب أثر خاص للعلم وهو المنجزية والمعذرية على الأمارة ، فيؤخذ بالقدر المتيقن ، وهو التنزيل بلحاظ هذا الأثر الخاصّ لا بلحاظ جميع الآثار - كما مر ذلك في بيان حكومة الأمارة على الاستصحاب -

وأما على المختار سابقا من كون دليل الأمارة يتكفل اعتبارها علما وجعلها كذلك ، المعبر عنه بجعل الوسطية في الإثبات وتتميم الكشف - كما عليه المحقق النائيني (1) - فلأن دليل الاعتبار انما يقتضي ترتيب آثار العلم الموضوعي عليها فيما إذا لم يكن للأمارة بهذا الاعتبار أثر خارجي لا يوجب تصرفا بدليل ، فانه يحكم حينئذ بدلالة الاقتضاء ، بان موضوع الحكم في ذلك الدليل الظاهر في الفرد الحقيقي أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري ، كي يترتب الأثر على هذا الفرد المعتبر ، وإلا لكان الاعتبار لغوا.

والمفروض ان للأمارة بهذا الدليل القائم على اعتبارها علما أثرا يترتب عليها ، وهو المنجزية والمعذرية ، لأن موضوعها أعم من العلم الحقيقي الوجداني والعلم الاعتباري.

فلا تتم دلالة الاقتضاء بالنسبة إلى الآثار الأخرى ، لعدم لغوية الاعتبار الترتب أثر عليه بلا تصرف تقتضيه دلالة الاقتضاء ، كما لا يصح التمسك بإطلاق دليل الاعتبار لاحتياجه إلى مئونة زائدة ، وهي التصرف في موضوع الآثار وجعله أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري - وقد تقدم بيان ذلك في حكومة الأمارة على الاستصحاب فراجع -

هذا ، ولكن لصاحب المستند قدس سره تقريبا لوفاء الأمارة بتحقق موضوع جواز الشهادة ، على الأقوال الأخرى في الأمارة.

ص: 54


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 7 - الطبعة الأولى.

وقد ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في رسالته في اليد. وحاصله : ان الملكية ليست من الموضوعات الواقعية كي يكون مرجع التعبد بها إلى التعبد بحكمها ، فهي لا تكون معلومة بل المعلوم حكمها. وانما هي من الأحكام الاعتبارية المجعولة أو الأمور الانتزاعية المنتزعة عن الأحكام الشرعية - كما عليه الشيخ -

وعليه ، فعند قيام الأمارة على الملكية تثبت هناك ملكية ظاهرية إما اعتبارية أو انتزاعية ، ويتعلق بها العلم الوجداني ، فتصح الشهادة بالملكية لتحقق موضوعها حقيقة تكوينا ببركة الأمارة.

أما تحقق الملكية الظاهرية بقيام الأمارة ، فهو بناء على جعل المؤدى واضح ، لأن المفروض ان المجعول حكم ظاهري وهو الملكية أو ما ينتزع عنه الملكية من الأحكام الموجب لثبوتها في مرحلة الظاهر (1).

ولكنه قد لا يتضح بناء على جعل المنجزية أو جعل الوسطية في الإثبات ، لأجل انها على هذين البناءين أجنبية عن ثبوت حكم ظاهري بها.

إلا أنه يمكن تصويره على هذين البناءين. بأنه عند قيام الأمارة ، ففي مقام العمل والوظيفة العملية تترتب آثار الملكية الواقعية ، فللملكية نحو ثبوت ، وهو معنى الملكية الظاهرية.

نعم ، يبقى في المقام شيء ، وهو : ان مصب الدعوى هو الملكية الواقعية والثابت بالأمارة المعلوم بالعلم الوجداني ، هو الملكية الظاهرية ، فما هو المعلوم الّذي تصح الشهادة به غير مصب الدعوى ، فلا يجدي ما ذكر من التقريب.

ولكنه قدس سره أجاب عنه : بأنه لما كان إحراز الملكية الواقعية صعبا جدا بل غير ميسور عادة - لأن ثبوت ملكية الشخص انما تكون بأسبابها ، والحكم بملكية الأسباب وصحتها انما يكون بإجراء الأصول والقواعد الظاهرية - كان

ص: 55


1- أصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 340 - الطبعة الأولى.

المدار في الدعاوي والنزاعات ثبوت الملكية الفعلية المتحققة بحسب الأدلة والقواعد الشرعية المتعارفة ، لا على الملكية الواقعية. والملكية الفعلية ثابتة بالأمارة - كما عرفت - وهي معلومة بالعلم الوجداني فتصح الشهادة بها.

وقد حكى المحقق الأصفهاني عن المحقق في الشرائع (1) ، كلاما لمنع الشهادة بمقتضى اليد مضمونه : انه لو أوجبت اليد الملك لم تسمع دعوى من يقول الدار التي في يد هذا لي ، كما لا تسمع لو قال ملك هذا لي. انتهى. وقد استظهر منه المحقق الأصفهاني انه في مقام إنكار ثبوت الملكية باليد ، وإلاّ لكان الاعتراف بها مساوقا للاعتراف بالملكية ، فيكون كالاعتراف بالملكية في عدم سماع دعوى المعترف حينئذ.

فحكم بسخافته - وهو عجيب منه جدا لما عرف منه من التحفظ على الموازين العرفية والآداب العقلائية في تعبيراته بالنسبة إلى من هو أصغر من المحقق الحلي شأنا وأقصر باعا -.

وأورد عليه بوجهين :

الأول : انه إنكار لحجية اليد على الملكية مع انه مسلم ومحل الكلام غير هذا ، فانه جواز الشهادة بمقتضى اليد بعد الفراغ عن حجيتها ، لا كونها توجب الملكية.

الثاني : ان الفرق بين الدعويين موجود ، حيث ان الأولى تتضمن الإقرار بالسبب - لأن معنى كون اليد حجة كونها طريقا وسببا ظاهريا للملكية وهو يقبل الفساد - وهو لا يكون منافيا ومكذبا لدعواه بملاحظة المناقشة في شرائطه ، كما إذا قال هذا الّذي اشتراه زيد من عمر - وهو لي فانه يجامع فساد الشراء ، بخلاف الثانية ، فانها تتضمن الإقرار بملك المدعى عليه ، وهو مناف لدعواه الملك ، فلا يقبل

ص: 56


1- المحقق الحلي جعفر بن الحسن. شرائع الإسلام /339- الطبعة القديمة.

منه كما لا يخفى (1).

ولكن الّذي يظهر من كلام المحقق الحلي انه ليس في مقام إنكار حجية اليد على الملكية الّذي هو خارج عن محل الكلام. بل هو في مقام إنكار حجية اليد على الملكية التي هي موضوع التخاصم والنزاع ومحل النفي والإثبات - كي تجوز الشهادة بالملك استنادا إليها - في فرض تمامية شروط حجية اليد على الملكية من جهل العنوان والقابلية وغيرهما.

فمراده : ان هذه اليد المفروض كونها حجة على الملكية الظاهرية في المقام لو كانت موجبة للملك الّذي هو محل النزاع وموضوع الخصام ، لكان الاعتراف بها اعترافا بالملكية المتنازع فيها ، فمقتضى القاعدة عدم سماع دعوى المعترف حينئذ ، لأنه أقر لذي اليد بما يدعيه ، فيكون كإقراره الصريح بملكية المدعى عليه في عدم سماع دعواه حينئذ.

فاليد وان كانت تفيد ملكية ذيها ، لكن الملكية الثابتة بها لا تنفع في خصم الدعوى ، والإقرار بها ضمنا لا يجدي المدعى عليه نفعا أصلا.

وبعبارة مجملة : المراد كون الملكية التي هي موضوع الدعوى غير الملكية الثابتة بمقتضى اليد ، وإلاّ لكان الإقرار باليد موجبا لعدم سماع دعوى المعترف واللازم منتف.

وعليه ، فلا مورد للإشكالين المذكورين عليه ، لأنه ليس في مقام إنكار أصل حجية اليد على الملكية ، بل كلامه لا ينافي حجيتها عليها ، وان الثابت بها ملكية ظاهرية ولكنها لا تنفع.

كما انه لا فرق بين الدعويين - من جهة ان الاعتراف في إحداهما بالسبب وهو يقبل الفساد - إذ ليس المراد ان إيجاب اليد الملكية الظاهرية موجب لعدم

ص: 57


1- الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 341 - الطبعة الأولى.

سماع الدعوى بالإقرار ، كي يقال : إن الإقرار هاهنا بالسبب بذاته وهو يقبل الفساد لا بالسبب بما هو سبب ، إذ المفروض كون الإقرار بالسبب بما هو سبب ، هو العلة التامة لثبوت الملكية ظاهرا الّذي هو محل الكلام في جواز الاستناد إليه في الشهادة ولا جوازه.

بل المراد ان الملكية الثابتة باليد ان كانت هي الملكية التي تكون موضوع الدعوى ومصبها بالإقرار بها لزم ما هو منتف ، وهو عدم سماع دعوى المعترف بها لأن إقراره يكون مكذبا لدعواه ، فلا بد ان تكون ملكية أخرى غير ما هي مصب الدعوى.

وبهذا التوجيه لكلام المحقق لا يتوجه عليه شيء أصلا ، إلا ما قد يقال - كما عرفت من كلام صاحب المستند - من : ان موضوع الدعاوي ليس إلا الملكية الظاهرية لعدم ثبوت الملكية الواقعية خارجا ، لأن إحراز الملكية بأسبابها انما يكون بتوسط الأصول والطرق ، فالثابت هو الملكية الظاهرية واليد تثبتها.

فيأتي الإشكال وهو : لزوم عدم سماع الدعوى بالإقرار بها مع انه يناقش فيه. فلا بد من رجوع كلامه إلى نفي حجية اليد على الملكية بالمرة لا نفي حجيتها على الملكية التي تكون موضوع الخصام لعدم تماميته حينئذ.

ولكن يمكن التخلص عنه : بان الطرق والأصول الجارية في إثبات الملكية ليست كلها في عرض واحد ، بل هي طولية ، لأن بعضها يجري في أصل السبب كأصالة القصد الجارية عند الشك في تحقق قصد الإنشاء في البيع ، واليد الجارية عند الشك في ملكية البائع وغيرهما. وبذلك تتحقق الملكية من ناحية السبب. ثم الدليل على هذه الملكية انما هو اليد والبينة والاستصحاب وشبهها ، والملكية الثابتة بهذه الطرق كلها ظاهرية وليست واقعية. فعند دعوى المدعى ملكية المال وإقراره باليد يعلم منه بقرينة الإقرار باليد بان موضوع دعواه ليست الملكية الظاهرية مطلقا ولو كانت الثابتة باليد - لأنه تكذيب لدعواه - ، بل الملكية الظاهرية التي تكون في

ص: 58

مرحلة سابقة على اليد وفي مرتبة الأصول في السبب - مثلا - وكذلك لو لم يقر باليد ولكن كانت اليد معلومة له.

وعليه ، فموضوع الدعوى غير الملكية الثابتة باليد ، فيشكل جواز الشهادة استنادا إلى اليد ، لأن المشهود به غير مصب الدعوى. فلا إشكال على المحقق في كلامه.

نعم ، في صورة عدم إقراره باليد وعدم وضوحها له ، لا مانع من جواز الشهادة لمن يعلم باليد. لأن دعواه انما هي الملكية الظاهرية مطلقا - ان لا قرينة على إرادة الملكية الظاهرية في المرحلة السابقة على اليد - وهي معلومة بالوجدان بمقتضى اليد ، فتجوز الشهادة بها.

فالمتحصل : انه لا بد من التفصيل بين صورة الإقرار باليد أو العلم بها وصورة عدمها. ففي الأولى لا تجوز الشهادة بمقتضى اليد ، لأن المشهود به غير مصب الدعوى. وفي الثانية لا مانع منها لاتحاد مصب الدعوى مع المشهود به. فالتفت وتدبر.

وأما الاستدلال على جواز الشهادة بمقتضى اليد برواية حفص بن غياث المتقدمة في أدلة حجية اليد ورواية معاوية بن وهب التي ذكرها في الوسائل مستشهدا بها على جواز الشهادة بمقتضى الاستصحاب ، ففيه منع :

أما رواية حفص ، فهي مضافا إلى ما تقدم من مناقشة دلالتها على حجية اليد على الملكية ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها في إثبات الحكم.

وأما رواية ابن وهب ، فهي غير دالة على المطلوب ، لأن ظاهر السؤال فيها ان الشخص يرى استحقاق الورثة للمال بمقتضى الموازين الظاهرية ، لكن القاضي لا يعمل بذلك تعنتا بل متوقف على الشهادة ، كما هو ظاهر قوله : « ولا تقسم » ، فسأل الإمام علیه السلام عن جواز الشهادة في مثل ذلك لأجل إيصال الحق إلى أصحابه.

ص: 59

فالحكم بجواز الشهادة هنا لا يستلزم صحة الشهادة في كل مورد حتى المورد الّذي يتوقف ثبوت الحق ظاهرا على الشهادة ، إذ الحق في مورد الرواية ثابت ظاهرا مع قطع النّظر عن الشهادة لعدم المدعي في مقابل الورثة المعلومين ، فانتبه ولا تغفل.

الجهة الثامنة : في الأيدي المتعددة على العين الواحدة.

لا شبهة ولا إشكال في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة عند تعدد الأيدي عن العين الواحدة.

إلا ان الإشكال في ان الحكم بالملكية المشاعة هل هو من جهة تحقق اليد على الحصة المشاعة أو من جهة أخرى ، فالبحث علمي صرف ، وهو يقع في جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في إمكان تحقق الاستيلاء واليد على الحصة المشاعة.

الجهة الثانية : في وجود ما يدل على تحققها عليها فيما نحن فيه بعد الفراغ عن إمكان الاستيلاء ثبوتا.

الجهة الثالثة : في جهة الحكم بالملكية المشاعة على القول بعدم تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة ثبوتا أو إثباتا.

أما الجهة الأولى وهو - مقام الثبوت - فتحقيق الكلام فيه يتوقف على بيان المحتملات في معنى ملكية المشاع ومعنى الاستيلاء الّذي هو معنى اليد.

أما ملكية المشاع ، فقد قيل - كما هو المختار - بأنها ملكية واحدة طرفها متعدد ، وهو طرف المالك. فأحد طرفي العلقة الملكية مشدود بالمال والآخر مشدود بذوي الأيدي ، فكل فرد له انتساب إلى هذه الملكية ، بحيث تترتب آثار الملكية المستقلة عند انضمام الجميع.

وقيل بأنها ملكيات متعددة بتعدد الحصص ، فكل فرد له ملكية مستقلة لحصته الخاصة به. وهذه الملكيات المتعددة ..

ص: 60

تارة يقال : بأنها متعلقة بأمر شخصي خارجي ، ويعبر عنه بالكسر المشاع ، بحيث تكون كل حصة من كل جزء يمكن فرضه للعين مملوكة للفرد ، فالمملوك جزء خيالي فرضي.

وأخرى يقال : بأنها متعلقة بأمر كلي من قبيل الكلي في المعين - لامتناع تحقق السريان والشيوع في الأمر الجزئي - بان يكون المملوك هو الحصة الخاصة من العين المتحققة في ضمن هذا المعين وهو العين.

ثم ان الاحتمالين في الكلي في المعين ، وهما كونه امرا خارجيان من قبيل الفرد على سبيل البدل ، وكونه أمرا كليا من قبيل الكلي في الذّمّة ، فالمملوك أمر كلي في الذّمّة يتصوران هاهنا.

وان كان الاحتمال الثاني فيه لا مجال له فيما نحن فيه ، بل لا معنى له كما لا يخفى (1). فمن يقول بان الكلي في المعين من مصاديق الكلي في الذّمّة لا وجه له لأن يقول بان ملكية المشاع بنحو ملكية الكلي في المعين. فالاحتمالات في ملكية المشاع - على هذا - ثلاثة :

وأما الاستيلاء ، فليس المراد منه قطعا خصوص الاستيلاء الخارجي المقولي ، كالاستيلاء على الخاتم بلبسه وعلى الدّابّة بركوبها ، لصدق اليد على الأراضي الواسعة مع عدم تحقق الاستيلاء الخارجي عليها.

فلذلك ذكر المحقق الأصفهاني : بان المراد منه أعم من الاستيلاء المقولي والاستيلاء الاعتباري ، كالاستيلاء على الأعيان الواسعة ، فانه بالبناء العرفي يعتبر الاستيلاء عليها وان لم يكن بمستول عليها حقيقة (2).

ولكن الإنصاف ان الاستيلاء امر انتزاعي ينتزع عن التصرفات الخارجية

ص: 61


1- وجهه ان مقتضى ذلك كون العين مملوكة لصاحبها الأول والشريكان لهما في ذمته - لأن الملكية لم تتعلق بأمر خارجي في المعين أصلا - ولا يظن وجود قائل بذلك فالتفت.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 331 - الطبعة الأولى.

في العين ، حتى في مثل لبس الخاتم وركوب الدّابّة ، فالاستيلاء الحاصل على الأعيان الواسعة وغيرها استيلاء انتزاعي لا اعتباري قائم بوجود المعتبر ، بل له وجود حقيقي ، غاية الأمر انه انتزاعي ولا حقيقي مقولي. ففي الاستيلاء احتمالان.

ثم ان الاستيلاء الحقيقي المقولي في مورده لا يمكن تصوره على الحصة المشاعة بأي معنى من المعاني التي ذكرناها لملكية المشاع ، لأنه يكون على العين كلها ، إذ لا وجود للحصة المشاعة متعينا كي يتحقق الاستيلاء عليه خارجا.

وأما الاستيلاء الاعتباري ، فهو خفيف المئونة ، إذ لا يحتاج إلى مئونة خارجية أصلا ، لتقومه بنفس المعتبر وليس له ما بإزاء في الخارج ، فيمكن تحققه على الحصة المشاعة بأي تصوير ذكر لملكيتها ، ويكون شأنه شأن ثبوت الملكية لها الّذي هو ثبوت اعتباري ، فكما يتصور ملكية الحصة المشاعة واعتبارها على جميع الاحتمالات ، كذلك يمكن تصور اعتبار الاستيلاء عليها.

وأما الاستيلاء الانتزاعي ، فتصوره بالنسبة إلى الحصة المشاعة على الاحتمال الأول لملكيتها ممكن ، لأن العقلاء ينتزعون من تصرف الشخصين بالعين تصرفا خارجيا مع استئذان كل واحد منهما من الآخر وبلا مزاحمة ثالث لهما ، استيلاؤهما على العين بنحو يناسب ملكيتهما للعين ، بحيث يكون استيلاء كل منهما ناقصا وبانضمامهما يكون استيلاؤهما استيلاء تاما ، فهو يناسب الملكية بالمعنى الّذي اخترناه.

وأما على الاحتمال الثاني ، فانتزاع الاستيلاء على الحصة المشاعة من التصرفات الخارجية لا يمكن تحققه ، لأن التصرفات الخارجية لا تكون في الكسر المشاع ، لأنها انما تكون في الأمور المفروزة المتعينة ، فهي تقع على العين كلها.

نعم ، التصرفات المعاملية كالبيع والهبة والصلح يمكن تحققها بالنسبة إلى الكسر المشاع. فمنها يمكن انتزاع تحقق الاستيلاء على الكسر المشاع.

ومثله - في الكلام - الاحتمال الثالث الّذي هو جعل الحصة المشاعة بنحو الكلي في المعين ، ولكنه أمر خارجي على سبيل البدل.

ص: 62

هذا كله في مقام الثبوت.

وأما الجهة الثانية - وهو مقام الإثبات - الّذي يكون الكلام فيه في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة خارجا وعدم تحققه.

فأما على الاحتمال الأول في ملك المشاع ، فلا إشكال في انتزاع الاستيلاء خارجا والحكم بالتنصيف من جهة اليد ، إذ لا يحتاج ذلك إلى أكثر من موضوع المسألة المفروض ، وهو كون العين بيد شخصين أو أكثر يتصرفان فيها. كما ان اعتبار الاستيلاء أيضا متحقق.

وأما على الاحتمالين الأخيرين ، فحيث لا تصرفات خارجية واقعة على الحصة المشاعة تكشف عن اعتبار الاستيلاء عليها ، أو ينتزع عنها الاستيلاء ، لأنها تقع على العين كلها فلا تحقق لليد على الحصة المشاعة ، بل اليد على العين بمجموعها.

نعم ، إذا رؤي منهما التصرفات المعاملية الواقعة على الحصة المشاعة يحكم باستيلائهما على الحصة أو ينتزع عنها ذلك.

ولكنه فرض زائد على موضوع المسألة - كما لا يخفى.

ثم انه في صورة عدم ثبوت الاستيلاء على الحصة المشاعة إثباتا أو ثبوتا ، فلا بد من بيان الوجه في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة - وهو الجهة الثالثة من جهات البحث - :

وقد ذكر للحكم بالتنصيف والملكية المشاعة وجوه :

الوجه الأول : ما في المستند من دلالة رواية يونس بن يعقوب - الواردة في المتاع - على ذلك ، لقوله علیه السلام : « ومن استولى على شيء منه فهو له » ، فانها تدل على ان المستولي على شيء فهو له ، وهذان الشخصان قد استوليا على هذا المال فهو لهما ، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة انه بينهما نصفين.

ويعضده الروايات الدالة على الحكم بالتنصيف فما لو تداعى شخصان مالا

ص: 63

وكان بيدهما ولم يكن لأحدهما بينة أو كانت لكليهما (1) ، ثم انه نفي دلالة رواية حفص على ذلك ، فانه بعد ما ذكر توهم دلالتها باعتبار انها تدل على الملازمة بين جواز الشراء ممن بيده المال والشهادة بملكيته ، فكلما جاز الشراء جازت الشهادة بالملكية ، ولا إشكال في جواز شراء العين من هذين الشخصين ، فمقتضى الرواية الدالة على الملازمة هو الحكم بملكيتهما للعين. ذكر : ان هذا غير تام ، لأن الرواية إنما تدل على ان هذا المال الّذي بيديهما بينهما دون غيرهما ، فملكيته لا تتعداهما إلى ثالث ، اما انه لكليهما أو لأحدهما فذلك لا تدل عليه الرواية وأجنبي عن مفادها (2).

ولا يخفاك ان ما ذكره بجهاته الثلاثة غير تام ..

أما رواية يونس بن يعقوب ، فهي انما تدل على المدعى لو قلنا بأن لهما استيلاء واحدا يرتبط بهما معا ، كما قررناه على الاحتمال الأول لملكية المشاع ، فانه يكون مشمولا للرواية ، لأن هذا المال يكون لهما استيلاء عليه فهو لهما ، لاندراجهما تحت : « من استولى » أما لو قلنا بان لكل منهما استيلاء مستقلا تاما - كما عليه صاحب المستند - فلا يتم ما ذكره من دلالتها على المدعى ، لأن كلا منهما يكون مشمولا للرواية - لا كليهما معا - لأن له استيلاء على المال كله ، ومقتضى الرواية ثبوت المال له ، فيتعارضان.

وأما ما ذكره من انه تعضده الروايات الواردة في مقام التداعي ، فلا وجه له ، لما ستعرفه من أن محل الكلام ما لم يكن أي دعوى وتداع في البين ووجود الفرق بين الصورتين.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى رواية حفص ، فالوجه الّذي يرتكز عليه ما ذكره

ص: 64


1- وسائل الشيعة 18 / 188 باب : 12 - من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : 3.
2- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 579 - الطبعة الأولى.

بحيث يخرج عن كونه دعوى جزافية ، هو انه لاحظ بان الحكم بملكية ذي اليد انما هو بلحاظ نفي ملكية الغير باليد ، واستفادة ملكية الشخص ذي اليد تكون بالملازمة ، فمصب الرواية انما هو على نفي ملكية الغير كما يشهد به قول السائل : « فلعله كان لغيره ».

ولكنه غير سديد ، فان الظاهر من الرواية كون الملحوظ هو الحكم بملكية ذي اليد باليد بلا لحاظ نفي ملكية الغير. وأما قول السائل المذكور ، فهو لبيان وجود الشك في ملكية ذي اليد ، إذ لو لم يشك في انه لغيره لا وجه للتوقف في ملكية ذي اليد ، فالحكم بالملكية لا يرجع أولا إلى نفي ملكية الغير ، بل إلى إثبات ملكية ذي اليد وعدم الاعتناء بالشك.

وعلى أي حال فليس تحقيق ذلك بمهم بعد ضعف سند الرواية وعدم دلالتها على حجية اليد على الملكية.

الوجه الثاني : قاعدة العدل والإنصاف. المستفادة من الروايات الواردة في الموارد الجزئية ، ومقتضاها الحكم بالتنصيف والشركة فيما لو دار المال بين شخصين مع عدم المرجح لملكية أحدهما بالخصوص ، لأنه مقتضى الإنصاف ، فان الترجيح بدون مرجح ينافيه.

ولكن الإنصاف عدم تمامية الاستدلال بها فيما نحن فيه ، لأنها - على تقدير تسليمها - انما تتم في صورة العلم بعدم ملكية غير هذين الشخصين ، ودوران ملكية العين بينهما فقط ، فلا بد في الاستدلال بها على المدعى من فرض العلم بعدم ملكية غير من بيدهما المال ، أو ادعاء ان اليد من الأمارات وان الأمارة تثبت اللوازم وحجة في الدلالة الالتزامية فاليد حجة فيها. وقد تقرر في محله انه في صورة وقوع المعارضة بين الأمارتين يسقط عن الحجية خصوص مورد المعارضة من الدلالات ويبقى الباقي على حجيته ، فيسقط في المقام خصوص الدلالة المطابقية التي موضوعها ملكية ذي اليد للمال لكل من اليدين لمعارضتها بالدلالة الالتزامية لليد الأخرى.

ص: 65

أما الدلالة الالتزامية على نفي ملكية غير ذوي اليدين فهي باقية على حجيتها ، لعدم كونها موضوع المعارضة.

وكلا الفرضين ممنوعان ..

أما فرض العلم ، فلأنه خلاف الفرض ومحل الكلام ، لأن المفروض تردد الملكية بينهما وبين غيرهما ، لا بينهما بالخصوص. مضافا إلى ان المدعى ثبوت الحكم المذكور لهذه الصورة مطلقا ، والقاعدة لا تشملها بجميع افرادها.

وأما الفرض الثاني ، فقد عرفت عدم ثبوت أمارية اليد ، كما عرفت انها لو كانت فلا تكون حجة في الدلالة الالتزامية ، لأن الأمارات ليست حجة فيها بقول مطلق.

وأما الحكم بعدم ملكية الغير في صورة الحكم بملكية شخص ، فهو ليس لأجل الدلالة الالتزامية ، بل لأجل الملازمة الظاهرية بين ثبوت ملكية الشخص وعدم ملكية غيره ، وهي غير متحققة فيما نحن فيه ، لأن اليد سقطت عن الحجية على الملكية بالمعارض فلا يترتب عليها ما هو أثر الملكية الظاهرية.

الوجه الثالث : الاستدلال بالخبر المرسل الدال على التنصيف في ما لو تداعى في عين اثنان ولا يد لهما عليها (1). ففي الفرض لما كانت يد كل منهما حجة على ملكيته فيتساقطان لمزاحمة كل منهما الأخرى ، إذ لا يمكن اجتماع سببين متزاحمين على مسبب واحد ، لاستحالة اجتماع ملكيتين مستقلتين لعين واحدة ، وإذا سقطت اليدان عن الحجية تكون العين كما لو لم يكن للمتداعيين عليها يد فيشملها المرسل الحاكم بالتنصيف.

وهذا الوجه - كأخويه - غير وجيه ، لأن مورد الخبر صورة التداعي ووجود الدعوى على الملكية. والمفروض في المقام عدم وجود شيء من ذلك غير اليد ،

ص: 66


1- سنن البيهقي 10 / 255 ، إلاّ ان فيها ( ليس لأحدهما بيّنة ).

بحيث يكون الشك في ملكيتهما أو عدم ملكيتهما وملكية غيرهما ، لا في ملكيتهما أنفسهما وانه أيهما المالك.

وعليه فلا يتجه الاستدلال بالخبر المذكور ، إذ الحال يفترق بين وجود الدعوى وعدمه ، لأن الدعوى لما كانت بمنزلة الاخبار ، فدعوى كل منهما الملكية كما تكون إخبارا بها تكون اخبارا بلازمها وهو عدم ملكية غيره - لأن الاخبار بالشيء اخبار بلازمه - فدعواهما بالنسبة إلى نفي ملكية غيرهما معا دعوى بلا معارض. ومن المعلوم الحكم على طبقها ، فملكية الغير معلومة العدم حكما في صورة الدعوى ، فيكون الفرض من موارد قاعدة العدل والإنصاف التي يحكم فيها بالتنصيف المشاع مع عدم المرجح لأحد المتداعيين.

وهذا بخلاف صورة عدم الدعوى ، لعدم العلم بعدم ملكية الغير. والمفروض فيما نحن فيه ذلك. فتعدية الحكم من تلك الصورة إلى هذه بلا ملاك ومستند.

ومن هنا ظهر عدم صحة التمسك بالروايات الدالة على الحكم بالتنصيف في صورة التداعي وكون العين بيد المتداعيين وعدم المرجح - كما فعل صاحب المستند كما مر عليك -.

وعلى هذا يتضح عدم صحة التمسك بأحد هذه الوجوه.

فالذي ينبغي أن يقال : انه على الاحتمال الأول في ملكية المشاع حيث انه لا إشكال في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة ، فالحكم بملكيتها لأجل اليد وشمول دليل اعتبارها.

وأما على الاحتمالين الأخيرين ، فقد عرفت عدم تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة.

فان قلنا : بان الاستيلاء على تمام العين وان كان استيلاء مستقلا ، إلاّ انه استيلاء ناقص ضعيف بحيث يكون استيلاؤهما بمنزلة استيلاء واحد تام - بتقريب ان التصرف إذا خرج عن الاختيار وكان قهريا لم ينتزع عنه عنوان الاستيلاء ،

ص: 67

والتصرف منهما وان لم يكن في نفسه قهريا بل باختيارهما ، لكنه حيث يتوقف على الاذن من الطرف الآخر كان قهريا من هذه الجهة ، فيكون استيلاء كل منهما استيلاء ضعيفا لأن فيه جهة غير اختيارية - أمكن دعوى وجود بناء العقلاء على ملكيتهما للمال دون غيرهما من دون تعيين الحصة ، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة يكون الحكم هو التنصيف.

وان قلنا : بان استيلاء كل منهما استيلاء مستقل تام - كما عليه صاحب المستند فانه ذكر انه لا مانع من تحقق استيلاءين كذلك على عين واحدة - بحيث لو كان وحده لدل على ملكية المستولي وحده للعين ، فلا محيص عن القول بسقوط اليدين عن الحجية للتزاحم.

ولا وجه حينئذ للحكم بالتنصيف والملكية المشتركة المشاعة ، فتدبر جيدا.

الجهة التاسعة : في الحجية اليد مع شك ذيها في الملكية.

وقد حررت هذه المسألة على نحوين :

الأول : يرتبط بتكليف نفس ذي اليد بالنسبة إلى ما في يده لو شك في ملكيته له ، فهل يترتب آثار الملكية بملاك اليد أو لا؟

الثاني : يرتبط بتكليف الغير بالنسبة إلى ما في يد الشاك المصرح بعدم العلم ، فهل يترتب على ما في يده آثار ملكيته له مع تصريحه بعدم علمه بملكيته للمال ، أو تختص حجية اليد بصورة دعواه الملكية أو سكوته.

وقد حرر المسألة بهذا النحو صاحب المستند قدس سره . كما حررها بالنحو الأول المحقق الأصفهاني قدس سره . ولا يختلف الحال فيما هو المهم على التقديرين.

والعمدة في ثبوت دعوى الاختصاص - كما عليه صاحب المستند - خبرا جميل بن صالح وإسحاق بن عمار.

أما صحيحة جميل بن صالح : « رجل وجد في بيته دينارا. قال : يدخل منزله

ص: 68

غيره؟ قلت : نعم كثير. قال : هذه لقطة. قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال : يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا. قال : فهو له » (1) ، فقد قرب صاحب المستند الاستدلال بها على المدعى - بعد ان بين قصور أدلة اعتبار اليد عن شمول هذه الصورة - بأنه علیه السلام حكم فيما هو في داره الّذي لا يعلم انه له مع كونه في يده على ما مر ومستوليا عليه أنه ليس له. وأيضا علل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنه ليس لغيره.

فالصدر يدل على عدم حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد في صورة التردد (2).

ويرد عليه ما أفاده السيد الطباطبائي قدس سره في ملحقات العروة من : ان عدم إدخال شخص غيره يده في صندوقه لا يلزم منه ارتفاع الشك في كون الدينار له أو لغيره ، ولا يوجب العلم بعدم كونه لغيره ، إذ يمكن ان يكون الشك من جهة كونه عارية أو أمانة أو غيرهما ، أو من جهة وضع غيره للدينار في صندوقه اتفاقا ، ولا ينافي ذلك ما هو المفروض من عدم إدخال شخص غيره يده عادة (3).

فالذيل يدل على عدم الاختصاص ، لأنه حكم بملكية ذي اليد مع تحقق الشك لديه في ان الدينار له أو لغيره.

ولكنه قدس سره أورد على استدلال صاحب المستند بالصدر : بأنه لم يصرح فيه بأنه لا يعلم انه له أو لغيره ، بل الظاهر علمه بأنه ليس له ، فهو أجنبي عما نحن فيه.

ولكن ما ذكره رحمه اللّه غير واضح الوجه ، إذ لا ظهور في الرواية ولا قرينة على ما ادعاه من فرض العلم بعدم كون الدينار له ، بل الموارد الغالبة على خلافه ، فان الغالب فيما لو وجد الشخص في داره مالا حصول الشك في كونه له أو

ص: 69


1- وسائل الشيعة 17 / 353 باب 3 من أبواب اللقطة ، الحديث : 1.
2- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 577 - الطبعة الأولى.
3- الطباطبائي الفقيه السيد محمد الكاظم. العروة الوثقى3/ 120 - الطبعة الأولى.

لغيره ، والعلم بعدم ملكيته انما يكون في موارد خاصة - ليس في الرواية ما يدل على المورد منها - كما لو كان صاحب الدار عارفا بمقدار ما يملكه من المال ، أو كان ما وجده نحوا من المال يخالف نحو ما يملكه عادة.

وقد أورد المحقق الأصفهاني رحمه اللّه على الاستدلال بصدر الرواية على المدعى بما يرجع إلى ان عدم حكم الإمام علیه السلام في المورد بملكية ذي اليد انما كان لأجل معارضة غلبة اليد المالكية بغلبة أخرى.

وذلك لأنه مع كثرة الداخلين يكون احتمال كون المال لذي الدار معارضا بالاحتمالات الكثيرة التي موضوعها كون المال لغيره ، يكون ضعيفا ، فلا غلبة في صورة وجود الداخل ، فينتفي ملاك حجية اليد على الملكية (1).

ولكن ما ذكره قدس سره عجيب ، لأنه جار في جميع موارد الشك في ملكية ذي اليد التي يدور الأمر بين ملكيته وملكية غيره غير المعين ، لتعدد الاحتمالات المعارضة لاحتمال كون المال لذي اليد وكثرتها ، كما لا يخفى.

وأما احتمال انه مع تعدد الداخل للدار أو الواضع في الصندوق يتعدد الاستيلاء على الدار وعلى الصندوق ، ومعه تكون اليد معارضة بيد أخرى ، دون صورة التفرد.

فهو وان لم يبعد بالنسبة إلى الصندوق ، إذ قد يتعارف إذن صاحب الصندوق لغيره في الاستفادة من صندوقه بوضع المال ، لكنه بعيد بالنسبة إلى الدار ، إذ دخول الناس في دار الغير ولو كان كثيرا لا يحقق الاستيلاء على الدار.

والّذي ينبغي ان يقال : ان الاستيلاء كما عرفت منتزع عن التصرف الخارجي الاختياري ، فإذا لم يكن وضع الشيء في دار إنسان بعلمه واختياره لم يعد عرفا مستوليا على ذلك المال.

ص: 70


1- الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية3/ 333 - الطبعة الأولى.

نعم ، إذا وضعه بنفسه أو بإذنه كان مستوليا عليه وان غفل بعد ذلك عنه.

فمع عدم إحراز استيلائه وان هذه العين التي يشك في ملكيتها الآن هو كان قد وضعها في هذا المكان ليكون مستوليا عليها عرفا ، أو وضعها غيره بلا علمه واختياره فلا يكون مستوليا عليها لعدم تحقق منشأ الاستيلاء عليها منه أصلا.

لا يصح الحكم بملكيته لعدم إحراز يده على المشكوك فلا ملاك للحكم بملكيته.

ومن هذا القبيل مورد الصدر - أعني : الدينار الموجود في الدار - فانه بعد ان كان يدخل إلى الدار غيره كان استيلاؤه على الدينار الموجود فيها غير محرز ، لاحتمال كونه من غيره ولم يكن وجوده في الدار عن اختياره ، فلا يكون مستوليا عليه. فلذلك لم يحكم علیه السلام بملكية صاحب الدار للدينار ، بل حكم بأنه لقطة.

وأما مع إحراز استيلائه كان الحكم بملكية المشكوك متعينا لتحقق ملاكه.

ومنه مورد الذيل ، وهو الدينار الموجود في الصندوق ، لأنه إذا لم يكن أحد غيره يدخل يده في الصندوق يتعين كون الواضع للدينار صاحب الصندوق ، فيكون الدينار بيده وتحت استيلائه ، فالحكم بملكيته على طبق قاعدة اليد.

فالمتعين في المقام التفصيل بين صورة إحراز الاستيلاء فيحكم بملكية ذي اليد - إذ لا يبعد بناء العقلاء على ذلك - وبين عدم إحرازه فلا يحكم بالملكية لعدم تحقق ملاكها.

والتفصيل في الرواية بين صورة دخول غيره الدار وعدمه وبين إدخال غيره يده في الصندوق وعدمه ، إنما هو لأجل ما ذكرناه.

هذا ، ولكن الإنصاف ان ذيل رواية جميل لا دلالة له على حجية اليد على ملكية ذي اليد نفسه ، إذ هي ظاهرة في انحصار الاستيلاء بذي اليد بنحو يطمئن بكون المال له وعدم احتمال كونه لغيره احتمالا معتدا به ، إذ المراد من وضع أحد شيئا

ص: 71

في الصندوق ليس وضعه من دون علمه وباستيلاء خاص به ، بل وضعه فيه بواسطته وبطريقه بحيث يكون الواضع مباشرة هو صاحب الصندوق ، وذلك بقرينة تقابل وضع شيء مع إدخال أحد يده في الصندوق. وحينئذ فإذا نفي إدخال أحد يده في الصندوق مع نفي وضع صاحب الصندوق مال الغير فيه ، يتعين بحكم العادة كون المال لصاحب الصندوق وكون التردد في غير محله وأشبه بالوسوسة ، فقوله علیه السلام : « فهو له » ليس حكما تعبديا ، بل هو اخبار عن نتيجة نفي الأمرين. فتدبر.

وأما رواية إسحاق بن عمار الموثقة : « عن رجل نزل في بعض بيوت مكة ، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : فاسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها. قلت : فان لم يعرفوها. قال : يتصدق بها » (1). فقد قرب صاحب المستند دلالتها على ما ذهب إليه : بأنه لا شك ان الدراهم كانت في تصرف أهل المنزل على ما عرفت ، ولو انهم قالوا لا نعلم انها لنا أو لغيرنا فيصدق انهم لا يعرفونها فلا يحكم بملكيتها لهم (2).

والمهم في رد الاستدلال بها أمران :

الأول : عدم وضوح تحقق الاستيلاء على المدفون.

والثاني : ورودها في الكنز ، وهو ذو أحكام خاصة لا ترتبط بالقواعد الكلية والأصول العامة. فلا يتجه الاستدلال بها على الاختصاص.

والحاصل : أن الظاهر تحقق بناء العقلاء على حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد نفسه مع إحراز استيلائه ويده ، وإلا فلا ملاك للحكم بملكيته خارجا. فتدبر.

الجهة العاشرة : في حجية يد المسلم على التذكية.

وثمرة الكلام انما تظهر في ما لم تكن على المشكوك تذكيته أمارة على التذكية

ص: 72


1- وسائل الشيعة 17 / 355 باب 5 من أبواب اللّقطة ، الحديث : 3.
2- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 578 - الطبعة الأولى.

من سوق المسلمين أو أرض الإسلام أو تصرف المسلم بل لم يكن إلاّ في يد المسلم من دون انضمام تصرفه المتوقف على التذكية إليها ، أو سوق المسلمين أو غير ذلك من الأمارات الدالة على التذكية ، كما لو وجد اللحم في يد المسلم وهو في الطريق ولم يعلم انه ذاهب به ليأكله أو ليلقيه وينبذه.

فان قلنا : بأمارية يد المسلم بنفسها جاز ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم ، وإلا فلا يجوز ترتيبها ما لم ينضم إليها التصرف المتوقف على التذكية.

وحيث تعين محل الكلام ، فعدم أمارية اليد على التذكية - بحيث تكون أمارة في قبال أرض الإسلام وسوق المسلمين وتصرف المسلم واضح ، لعدم الدليل عليها أصلا ، لأن الاخبار واردة في بيان أمارية سوق المسلمين وأرض الإسلام ، وأما يد المسلم فلا دليل على أماريتها.

نعم ، هناك خبر واحد وارد في يد المسلم وهو خبر إسماعيل بن عيسى الآتي - إلا أن الحكم بالحلية فيه مرتب على تحقق التصرف المتوقف على التذكية من المسلم دون مجرد كونه في يده ، وكون التصرف موردا ولا يخصص الوارد ، فلا يدل أمارية اليد بما هي يد.

وعلى هذا ، فلا حاجة إلى صرف الكلام إلى مرحلة الثبوت وتحقيق وجود ملاك الأمارية في يد المسلم وغير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن.

نعم ، لا بأس في التعرض إلى أمرين :

الأمر الأول : ان حجية سوق المسلمين وأرض الإسلام وتصرف المسلم على التذكية ، هل مرجعه إلى أصالة الصحة في فعل المسلم أو أنه جعل مستقل لأمارات مستقلة لا يرتبط بأصالة الصحة؟.

ذهب صاحب الجواهر قدس سره إلى ان مرجع الجميع إلى أصالة الصحة في فعل المسلم. ولأجل ذلك حكم بعدم أمارية اليد المجردة عن التصرف المتوقف

ص: 73

على التذكية (1).

ويورد عليه بما أفاده المحقق الهمداني قدس سره في مصباحه من : أن أصالة الصحة في فعل الغير المسلم انما تثبت صحة العمل الصادر من المسلم المشكوك في صحته للشك في وجود بعض شرائطه - مثلا - ولا تثبت وجود المشكوك وتحققه خارجا ، فهي في المقام تثبت صحة البيع أو صحة الصلاة بمشكوك التذكية ، أما أنها تثبت التذكية المشكوكة كي تصح صلاة المشتري فيه فلا ، فلا وجه لإرجاع أمارية هذه الأمور إلى أصالة الصحة.

ولا يخفى ان البحث المذكور بحث علمي صرف ، ولا أثر له في مقام العمل.

الأمر الثاني : ان اليد على تقدير ثبوت أماريتها على التذكية ، فهل هي أمارة مستقلة منفصلة عن سوق المسلمين ، أو ان سوق المسلمين أمارة على التذكية باعتبار أماريته على يد المسلم لا باعتباره نفسه ، فهو أمارة على الأمارة؟.

والأثر العملي في هذا الكلام ظاهر ، فانه لو كان سوق المسلمين أمارة مستقلة على التذكية للحكم بما في يد الكافر الموجود في سوق المسلمين بالتذكية.

بخلاف ما لو لم يكن أمارة مستقلة ، بل كان أمارة على الأمارة للعلم بعدم تحقق يد المسلم التي هي الأمارة في الفرض ، فلا أثر لسوق المسلمين. نعم ، في صورة الشك بتحقق يد المسلم بان شك في كون ذي اليد مسلما أو كافرا يحكم بمسلميته بمقتضى السوق ، وهذا معنى أمارية سوق المسلمين.

وقد ذهب المحقق الهمداني قدس سره إلى الثاني مستظهرا ذلك من رواية إسماعيل بن عيسى ( موسى خ ) : « عن الجلود الفراء يشتريها الرّجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟. قال علیه السلام : عليكم أنتم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشتركين يبيعون ذلك. وإذا رأيتم

ص: 74


1- النجفي الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام8/ 56 - الطبعة الحديثة.

يصلون فيه فلا تسألوا عنه ».

ووجه الاستظهار : انه علیه السلام في فرض الشراء من السوق فصل في مقام وجوب السؤال عن ذكاة الجلد بين كون البائع مشركا فيجب السؤال وكونه مسلما فلا يجب ، مما يكشف عن ان السوق بنفسه لا عبرة فيه ، بل انما يعتبر باعتبار كشفه عما هو أمارة وهو يد المسلم ولذلك لم يعتبر في صورة العلم بيد الكافر في مورد الرواية ، إذ لا موضوع لأمارية السوق حينئذ (1).

وفيه ما لا يخفى ، فانه لا ظهور ولا قرينة في الرواية المذكورة على كون المورد من موارد سوق المسلمين ، وكون الملحوظ فيها أماريته وعدمها ، بل ذيل الرواية الّذي يقتضي إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية تصرف المسلم بالصلاة يدل على عدم لحاظ السوق أصلا ، وإلا لكان المناسب إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية بيع المسلمين لإحراز يدهم وتصرفهم.

فالإنصاف ان هذه الرواية لا تدل على ما ذهب إليه الفقيه الهمداني رحمه اللّه ، فتبقى عمومات اعتبار سوق المسلمين في الحكم بالتذكية سالمة عن المخصص. وبذلك يكون السوق أمارة بنفسه على التذكية.

الجهة الحادية عشرة : في أمارية يد الكافر على عدم التذكية. ويلحق بهذا البحث الكلام في أمارية أرض الكفر وسوق الكفار على عدم التذكية.

فهل أن يد الكافر بنفسها أمارة على عدم التذكية ، أو انها ليست بأمارة ، والحكم بعدم التذكية في موردها لأصالة عدم التذكية؟ ومثلها أرض الكفر وسوق الكفار.

والثمرة في هذا الكلام تظهر في موارد :

منها : ما لو تعارض سوق المسلمين ويد الكافر ، بان كان اللحم بيد كافر بائع

ص: 75


1- الفقيه الهمداني الشيخ آغا رضا مصباح الفقيه / 141 - كتاب الطهارة - الطبعة القديمة.

في سوق المسلمين ، فانه بناء على ان الحكم بعدم تذكية ما في يد الكافر لأجل أمارية يده على عدم التذكية ، تتعارض الأمارتان - أعني سوق المسلمين ويد الكافر - وبناء على ان الحكم المذكور من جهة أصالة عدم التذكية يكون السوق مقدما على اليد ، لأنه إمارة وهي واردة على الأصل كما لا يخفى.

ومنها : ما لو اجتمعت يد الكافر ويد المسلم ويتصور ذلك فيما لو كانت يد الكافر على جزء من الحيوان ويد المسلم على جزء آخر ، لأن الحكم بالتذكية أو عدمها إنما يكون بالنسبة إلى مجموع الحيوان لا إلى خصوص الجزء الموجود في اليد إذ التذكية التي تكون اليد أمارة عليها أو على عدمها إنما هي تذكية الحيوان كله لا تذكية هذا الجزء خاصة الّذي تحت اليد. فتدبر - فانه على القول بأمارية يد الكافر تتعارضان. وعلى القول بعدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على أصالة عدم التذكية.

ومنها : ما لو كانت الذبيحة فعلا بيد كافر وكانت قبلا بيد مسلم فانه بناء على أمارية يد الكافر تكون متعارضة مع يد المسلم لأنها حين حدوثها كانت أمارة على التذكية حدوثا وبقاء ، فتتعارض الأمارتان. وبناء على عدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على الأصل.

وقد استدل لأمارية يد الكافر وأرض الكفر وسوق الكفار بأمور :

الدليل الأول : مصحح إسحاق بن عمار : « لا بأس في الصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت : فان كان فيها غير أهل الإسلام؟. قال علیه السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (1).

والاستدلال بها على المدعى من وجوه :

الوجه الأول : مفهوم الشرط ، حيث انه علیه السلام علق عدم البأس على

ص: 76


1- وسائل الشيعة 2 / 1072 باب : 50 من أبواب النجاسات ، الحديث : 5.

كون الغالب على الأرض المسلمين ، فيدل التعليق على ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين وبذلك يثبت المدعى.

ولكنه كما ترى ، فان ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين بمقتضى التعليق أجنبي عن أمارية سوق الكفّار الّذي هو المدعى ، فانه موضوع آخر وغاية ما يقتضيه التعليق هو ثبوت البأس في هذا المورد ، أما ملاكه فلا تتكفل بيانه الرواية ، فقد يكون الملاك هو أصالة عدم التذكية لتحقق موضوعها وعدم الأمارة على خلافها ، لكون المفروض عدم غلبة المسلمين ، فلا سوق لهم كي يرد على الأصل المذكور. فترتيب البأس على ارتفاع الغلبة قد يكون لأجل ارتفاع الرافع لموضوع الأصل.

الوجه الثاني : مفهوم الوصف ، حيث انه علیه السلام علق الحكم بنفي البأس على الغلبة الموصوفة بغلبة المسلمين ، ومقتضاه ثبوت البأس عند الغلبة الموصوفة بغلبة غير المسلمين. فيكون المراد : إذا كان الغالب عليها غير المسلمين ففيه بأس.

وظاهر ذلك استناد ثبوت البأس إلى غلبة غير المسلمين لا إلى أمر آخر ، لأن موضوع ثبوت البأس وعدمه في الموردين هو الغلبة ، والاختلاف في الحكم انما كان من جهة الاختلاف في الوصف.

وهذا الوجه غير سديد ، لما حقق في محله من عدم حجية مفهوم الوصف وعدم اعتباره شرعا.

الوجه الثالث : ان الظاهر كون الإمام علیه السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين - أعني : التذكية وعدمها - لا أنه في مقام بيان حكم طرف دون آخر. وحيث انه جعل المناط في الحكم بالتذكية هو غلبة المسلمين يكون ذلك قرينة منه على اعتبار الغلبة في الطرف الآخر ، فان المناط ثبوتا في التذكية وعدمها هو الغلبة. فاستفادة اعتبار غلبة الكفار في الحكم بعدم التذكية ليس من جهة المفهوم ، كي يقال بان الوصف غير المعتمد على موصوف لا مفهوم له ، بل من جهة قرينة المقام ، وهي

ص: 77

كونه علیه السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين لا إعطاؤه في طرف ، وإيكال السائل إلى جهله في طرف آخر.

وهذا الوجه - كأخويه - لا يجدي لإثبات المدعى ، لأن ما يرتكز عليه من كون الإمام علیه السلام بصدد بيان الضابط للطرفين غير مسلم لأن المسئول عنه والّذي كان الإمام بصدد بيان حكمه ليس إلاّ ما كان مصنوعا في أرض الإسلام. أما ما كان في أرض الكفر أو سوق الكفار ، فلا ظهور في الخبر على انه علیه السلام كان بصدد بيان حكمه. فجعل الضابط في طرف هو الغلبة لا يستفاد منه كونه هو الضابط في الطرف الآخر لقرينة المقام. فالتفت.

الدليل الثاني : رواية إسماعيل بن عيسى المتقدمة.

وقرب المحقق الأصفهاني قدس سره دلالتها على أمارية يد الكافر : بأنها - بمقتضى الأمر بالسؤال - تدل على وجوب الاجتناب عما كان بيد الكافر ، فيدور الأمر بين ان يكون منشأ ذلك أصالة عدم التذكية ، أو عدم الأمارة الرافعة وهي يد المسلم أو يد الكافر. وحيث ان الظاهر كون المنشأ هو الثالث تحفظا على ظهور كون الإسناد إلى ما هو له ، كان ذلك دليلا على أماريتها ، لأنها لا تكون بنفسها حجة على عدم التذكية إلاّ إذا كانت أمارة (1).

ولكن الإنصاف انها لا تدل على المدعى ، لأن الظاهر ان وجوب السؤال هو الّذي تدل عليه الرواية وهو وجوب شرطي لا نفسي. فيرجع مفادها إلى انه إذا أريد ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم الّذي هو بيد المشرك فلا بد من الفحص ، ولا يكفي في ترتيب الآثار كونه بيد المشرك. بخلاف ما إذا كان بيد المسلم فان ترتيب آثار التذكية جائز بمجرد كونه بيد المسلم بلا فحص وسؤال. فينتزع من هذا حجية يد المسلم وأماريته دون يد المشرك ، ولا ينتزع منه أمارية يد المشرك على

ص: 78


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 344 - الطبعة الثانية.

العدم ، لأن مرجع وجوب السؤال إلى عدم الاعتناء بيد المشرك وعدم ترتيب آثار التذكية عليها ، وهذا لا يدل إلاّ على عدم الأمارية لا على الأمارية على العدم.

وبالجملة : حيث كان الأمر في الرواية بالسؤال وظهور ذلك في كون وجوبه شرطيا - بمعنى انه شرط لترتيب آثار التذكية - لا يكون في الرواية أي دلالة على أمارية يد الكافر ، بل انما تدل على عدم أماريته.

نعم ، لو كان الحكم في الرواية بوجوب الاجتناب ، لأمكن ادعاء ظهور استناده إلى يد الكافر ، فيدل على حجيته على العدم.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الحكم بوجوب السؤال ، ووجوب الاجتناب مستلزم له ، وهو - أعني : وجوب السؤال - لا يدل إلاّ على عدم الاعتناء بيد الكافر في مقام ترتيب آثار التذكية.

وهذا انما ينفي الأمارية على التذكية ، لا انه يثبت الأمارية على عدمها.

كما يقرر مثل هذا الكلام في وجوب التبين عند اخبار الفاسق المستفاد من آية النبأ ، فانه يقال : انه وجوب شرطي مرجعه إلى عدم جواز ترتيب آثار الواقع المخبر به عند اخبار الفاسق الا بعد السؤال والعلم بصحته وهذا انما يدل على عدم حجية خبر الفاسق لا على حجيته على عدم وقوع المخبر به.

الدليل الثالث : انه من المسلم عند الأصحاب انه إذا كانت الذبيحة بيد الكافر في سوق المسلمين أو أرضهم ، فهي محكومة بعدم التذكية.

وهذا دليل على اعتبارهم يد الكافر أمارة بحيث تعارض أمارية السوق ، فيتساقطان ويرجع إلى أصالة عدم التذكية. وإلاّ فنفس أصالة عدم التذكية لا تجدي ، لأنها محكومة للسوق لأنه أمارة بلا معارض.

وفيه : ان تسليمهم ليس بحجة بحيث يمكن التمسك به في قبال القواعد المقررة ، لأنهم بين ..

من لا يرى السوق والأرض أمارة مستقلة ، بل هما أمارة على الأمارة - كما

ص: 79

عرفت عن الفقيه الهمداني - ففي صورة العلم بيد الكافر تنتفي أمارية السوق أو الأرض.

ومن يرى رجوع هذه الأمارات إلى أصالة الصحة في فعل المسلم كما عرفت عن صاحب الجواهر - وهي غير جارية في صورة العلم بكون اليد يد كافر.

ومن يرى تخصص عموم أمارية السوق بيد الكافر ، لرواية إسماعيل بن عيسى ، فلا يكون تسليمهم بذلك حجة على من لا يرى رأيهم - بل ليس بناء منهم على أمارية يد الكافر - فيلتزم بعدم الاعتناء بيد الكافر في سوق المسلمين.

هذا ، مضافا إلى ان تسليمهم لا يدل على بنائهم على أمارية يد الكافر ، بل يمكن أن يكون لأجل انتفاء ملاك أمارية سوق المسلمين بالنسبة إلى يد الكافر وهو الغلبة - وستأتي الإشارة إليها عن قريب -. كما يلتزمون بسقوط خبر الواحد عن الحجية عند معارضته للشهرة مع التزامهم بحجية الخبر وعدم حجية الشهرة. بتوجيه : ان الشهرة توجب عدم الوثوق بصدق الخبر الّذي هو ملاك حجيته - وان أورد عليهم بان الملاك خبر الثقة لا الخبر الموثوق به -.

وبالجملة : فمن الممكن ثبوتا تصور التزام الأصحاب بتقدم اللاحجة على الحجة لبعض الوجوه.

والمتحصل : انه لا دليل على أمارية يد الكافر وأرض الكفار وسوقهم على عدم التذكية ، وليس الثابت إلا عدم حجيتها.

الجهة الثانية عشرة : في ان يد المسلم نفسها أو مع اقترانها بالتصرف ، هل هي حجة على التذكية مطلقا أو تختص بغير المستحل للميتة بالدباغ؟.

قد ذكر المحقق الأصفهاني (1) : ان الكلام يكون تارة في مقام الثبوت. وأخرى

ص: 80


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 347 - الطبعة الأولى.

في مقام الإثبات.

أما الكلام في مقام الثبوت ، فمحصله : ان الحكم بالتذكية إما أن يكون لأجل توقف حفظ النظام عليه والتسهيل على المؤمنين به. أو لأجل الغلبة - أعني : غلبة كون ما في أيدي المسلمين من ذبائحهم - وإما لأجل ظهور حال المسلم في إحراز التذكية عند تصرفه المتوقف على التذكية.

فعلى الأول : فهو متحقق بالنسبة إلى ذبيحة المستحل ، لأن غالب المسلمين من أهل السنة ، وهم يستحلون ذبيحة الكتابي ، فالتحرز عن ذبائحهم يوجب العسر والاختلال غالبا.

وعلى الثاني : فكذلك ، لأن معنى الغلبة كون الغالب مما في أيدي المسلمين مذكى لا غيره ، وهو متحقق بالنسبة إلى المستحلين ، إذ الغالب مما في أيديهم كونه مذكى بالذبح لا بالدباغ.

وعلى الثالث : فالامر مشكل ، لأن ظهور حال المسلم بالنسبة إلى المستحل غير جار ، للعلم بأنه يحرز التذكية بالدباغ ، فظهور حاله في إحراز التذكية لا يكشف عن التذكية بالذبح دون الدباغ.

وعلى كل ، ففي الوجهين الأولين لإحراز ملاك الأمارية كفاية.

وأما مقام الإثبات : فالإطلاقات الدالة على أمارية اليد على التذكية مطلقا تامة ، ولا يتوهم وجود مقيد لها الا خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « كان علي بن الحسين علیه السلام رجلا صردا فلا تدفئه فراء الحجاز لأن دباغها بالقرظ. فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه. فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الّذي يليه ، وكان يسأل عن ذلك فيقول : ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون ان : دباغه ذكاته » (1). والاستدلال بها على

ص: 81


1- وسائل الشيعة 3 / 338 باب : 61 من أبواب لباس المصلي ، الحديث : 2.

التقييد واضح.

ولكنه يشكل بضعف سندها ، وعدم صراحتها في الإلزام - إذ يمكن ان يكون فعله علیه السلام للتنزه اللائق منه بمثل الصلاة أو الاحتياط فانه حسن - بحيث يمكن معارضتها للإطلاقات الواردة في هذه الموارد وتقييدها لها.

وأما ما ذكر : من أنها كما يستدل بها على المنع كذلك يستدل بها على الجواز ، للإجماع القائم على عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا ، وعدم التفكيك بين الاستعمال في الصلاة وغيرها ، فلبس الإمام علیه السلام

لفرو العراق في غير الصلاة مع استحلالهم الميتة بالدبغ دليل على الجواز ، فلا بد ان يحمل نزعه في الصلاة على التنزه.

فغير سديد ، إذ لم يعلم قيام الإجماع بنحو يصح الاعتماد عليه ، كيف؟ وقد خالف في ذلك بعض مستدلا بهذه الرواية على حلية استعمال الميتة أو ما في حكمها في غير الصلاة.

مضافا إلى ما تشير إليه بعض الاخبار من الفرق بين الاستعمال في الصلاة وغيرها ، حيث يسأل السائل عن الصلاة فيما اشتراه من السوق. مما يكشف عن ان جواز الشراء للمشكوك وما يترتب عليه من استعمال مفروغ عنه لدى السائل ، وانما الإشكال في جواز الصلاة فيه.

وعلى أي حال ، فلا إشكال في عدم نهوض هذه الرواية للتقييد فتبقى الإطلاقات على حالها.

الجهة الثالثة عشرة : في أمارية اليد على غير الملكية من الاختصاصات كالزوجية والنسب.

فهل يثبت بالاستيلاء على المرأة زوجيتها له ، وعلى صبي بنوته له أم لا؟.

والبحث في هذه الجهة ليس بمهم ، إذ لا يتصور الاستيلاء على الزوجة والابن خصوصا في زماننا هذا. مضافا إلى عدم الدليل على أمارية اليد في الموردين ، الا ما يتوهم من شمول إطلاق قوله علیه السلام : « ومن استولى على شيء منه فهو له ».

ص: 82

ولكن شمولها للمدعى - بعد تسليم دلالتها على أمارية اليد مطلقا بإلغاء خصوصية المورد - يستلزم فروضا (1) ، بعيدة عن الظاهر والذوق السليم كما لا يخفى.

وعليه ، فلا إشكال في عدم أمارية اليد بالنسبة إلى إثبات الزوجية والنسبية ، وان نسب إلى العلامة (2) ، السيد الطباطبائي ( قدس سرّهما ) (3) ظهور أماريتها على البنوة من كلاميهما. فتدبر.

وقد يستدل لثبوت الزوجية بأصالة الصحة ، بتقريب : ان المسلم حيث لا يجوز له النّظر وسائر العلاقات إلى الأجنبية ، فظاهر حاله يقتضي زوجية المرأة التي ينظر إليها ويباشرها.

إلا انه يشكل : بأن الثابت بها ليس إلا حلية نظره وغيره وعدم حرمته ، وأما نفس الزوجية المقصود ثبوتها لترتيب آثارها ، فلا تثبت إلا بالملازمة ، وستعرف عدم تكفل أصالة الصحة لإثبات اللوازم.

الجهة الرابعة عشرة : « في قبول قول ذي اليد وأخباره بطهارة ما في يده أو نجاسته ونحوهما مما يكون من شئون العين.

وقد حكي عن الحدائق ظهور الاتفاق عليه من الأصحاب ، وادعى عليه السيرة المستمرة (4).

ص: 83


1- منها : ان يفرض كون المراد من اللام في « له » أعم من الاختصاص بالملك والاختصاص بالحق ليشمل مثل الزوجية. ومنها : الالتزام بعموم : « شيء » للإنسان فانه وان صح إطلاقه عليه بحسب اللغة ، إلا انه يندر عرفا ذلك في الاستعمالات فلا يستفاد من لفظ : « شيء » ما يعم الإنسان.
2- العلامة الحلي. قواعد الأحكام /230- كتاب القضاء - الطبعة القديمة.
3- الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى3/ 196 - الطبعة الثانية.
4- البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة5/ 252 - الطبعة الأولى.

وقد استدل على ذلك بروايات عديدة :

منها : رواية محمد بن الحسين الأشعري - الواردة في التذكية - « كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني علیه السلام : ما تقول في الفرو - يشتري من السوق؟. قال علیه السلام : إذا كان مضمونا فلا بأس » (1). فان الظاهر من الضمان هو اخبار البائع بالتذكية.

ويشكل الاستدلال بها ...

أولا : بان الظاهر كون موردها سوق المسلم ويده ، وكلاهما حجة على التذكية ، فلا وجه لتوقف جواز الشراء على أخباره ، فالرواية غير واضحة المفاد.

وثانيا : بأنه لو حمل المورد على غير وجود الحجة ، بان حمل على الشراء ممن يستحل الميتة بالدباغ - مثلا - فلا ظهور في إرادة اخبار البائع بالتذكية من الضمان ، فيحتمل ان يراد منه توصيف البائع الرافع للغرر ، لأن اختلاف الجلد بين المذكى وغيره يوجب تفاوته من حيث السعر والقيمة السوقية ، فشراء الجلد مع الجهالة يكون شراء غرريا ، بخلاف ما إذا وصفه البائع وكان الشراء للموصوف بالتذكية ، فان الغرر يرتفع بذلك وهذا لا ينافي عدم حجية اخبار البائع. أو يراد من الضمان هو الالتزام بكونه مذكى والتعهد بذلك ، وهو لا ينافي عموم حجية أخباره - كما أشار إليه المحقق الأصفهاني (2) -.

ومنها : ما ورد في بيع الدهن المتنجس من لزوم إعلام المشتري (3). فانه لو لا حجية خبره ولزوم الأخذ به لما كان وجه لوجوب إعلامه.

ويشكل الاستدلال بها ...

أولا : بان الغالب حصول الاطمئنان بصحة المخبر بالنجاسة ، لأنه اخبار عن

ص: 84


1- وسائل الشيعة 3 / 338 باب 61 من أبواب لباس المصلّي ، الحديث : 3.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 349 - الطبعة الأولى.
3- وسائل الشيعة 12 / 66 باب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : 3 و 4.

نقص في ماله المبيع ، وهو سبب للاطمئنان بصحة الخبر.

وثانيا : بان الاخبار في الشبهة المصداقية غير لازم ، وانما يجب فيما إذا كان عدم الاعلام منشأ لتسبيب ارتكاب النجس - مثلا - كأكله - لما دل على حرمة التسبيب -. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانه بدون الاعلام يكون البائع مسببا إلى شرب النجس ، فوجوب الاعلام انما هو لأجل دفع التسبيب ، وهذا لا يرتبط بحجية قوله واخباره - كما لا يخفى -.

ومنها : رواية ابن بكير الواردة فيمن أعار ثوبا لا يصلى .. فيه حيث قال علیه السلام : « لا يعلمه بذلك. قلت : فان أعلمه؟ قال علیه السلام : يعيد (1) ، فان الأمر بالإعادة دليل على حجية خبره وإعلامه ، وإلا فلا وجه للأمر بالإعادة.

وللمناقشة فيه مجال ، لأن الطهارة شرط بوجودها العلمي لصحة الصلاة لا بوجودها الواقعي ، فمع علمه بوقوع صلاته في النجس مع عدم سبق علمه بالنجاسة قبل الفراغ من الصلاة لا تجب عليه الإعادة فضلا عن اخباره بذلك ، فالأمر بالإعادة لا يكشف عن حجية إعلامه بالنجاسة ، فلا بد من حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب والاحتياط ، وهو غير ملازم لحجية خبره ، بل يكفي فيه الاحتمال.

ومنها : ما ورد من أمر الإمام علیه السلام باشتراء الجبن من السوق والنهي عن السؤال من البائع (2). فانه يدل على حجية خبره ، إذ لو لا حجيته لما اتجه النهي عن السؤال.

والاستدلال بها غير وجيه لوجهين :

الأول : انه من المعلوم ان كون الجبن من الميتة أو فيه الميتة لا يضر بطهارته وجواز استعماله ، للاتفاق على استثناء الإنفحة واللبن في الضرع من ما لا يجوز

ص: 85


1- وسائل الشيعة 2 / 1069 باب 47 من أبواب النجاسات ، الحديث : 3.
2- وسائل الشيعة 17 / 91 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث : 4 و 8.

استعماله من الميتة ، فالنهي عن السؤال ولو كان خبر البائع حجة غير واضح الوجه كما لا يخفى.

الثاني : انه على تقدير القول بحرمة استعمال الجبن الّذي فيه الميتة ، فمن المحتمل ان يراد من السؤال المنهي عنه الفحص عن حاله ، نظير السؤال المأمور به في قوله علیه السلام : « عليكم أنتم ان تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك » (1).

ومنها : ما ورد في اخبار البائع بالكيل والوزن الدال على تصديقه في ما يدعيه من الكيل (2).

ولكنه لم يظهر منه ان ذلك من باب تصديقه فيما يدعيه وحجية اخباره ، إذ يمكن ان يكون من باب ارتفاع الجهل بتوصيفه ، فيرتفع به الغرر ، وهذا لا يلازم حجية خبره.

ومن الأمور التي استدل بها على حجية قول ذي اليد : السيرة المستمرة القائمة على ان ذا اليد إذا أقر لأحد المتداعيين فيما في يده به كان المقر له بمنزلة ذي اليد منكرا ويكون الآخر مدعيا فيطالب بالبينة ، وليس هذا أثر الإقرار ، لأن اثره خصوص نفيه عن نفسه ، اما ثبوته لغيره المعين فليس من مقتضيات الإقرار ، فلا بد أن يكون ذلك لحجية قول ذي اليد ، فيكون المقر له منكرا لموافقة قوله الحجة.

ويشكل الاستدلال بها ، لأنه لم يعلم كون الاتفاق المذكور انما حصل لأجل حجية قول ذي اليد ، بل ظاهر المستند - بل صريحه - التمسك لهذه الفتوى بالمستفيضة الدالة على ان لو أقر ذو اليد بما في يده لغيره فهو له (3). ولصدق انه ذو يد عرفا بالإقرار له. وكلاهما أجنبي عن حجية قول ذي اليد كما لا يخفى.

واما الاستدلال بالمستفيضة الدالة على ان من أقر لعين لأحد فهي له ،

ص: 86


1- وسائل الشيعة 2 / 1072 باب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث : 7.
2- وسائل الشيعة 12 / 257 باب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : 6.
3- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 580 - الطبعة القديمة.

بدعوى ان ذلك يرجع إلى حجية الاخبار ، إذ أثر الإقرار انما هو نفي الملكية عن نفسه لا أكثر.

ففيه : انه يمكن ان الحكم المذكور الّذي تدل عليه المستفيضة من باب نفوذ الإقرار في حق الغير - بملاك : من ملك شيئا ملك الإقرار به - مضافا إلى كون موردها ما لم يكن المقر له طرفا للتداعي مع آخر ، فاستفادة كون الحكم بالملكية بالإقرار لا لخصوصية الإقرار بل لحجية الاخبار. وإلغاء خصوصية موردها بحيث يستفاد حجية الاخبار مطلقا مشكل جدا. فتدبر.

فالمتعين هو الاستدلال بالسيرة المستمرة على الأخذ بقول ذي اليد واعتباره مطلقا من دون اعتبار شروط حجية خبر الواحد فيه. ويسندها خبر معاوية بن عمار : « عن الرّجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج (1) ، ويقول : قد طبخ على الثلث : وانا أعرفه انه يشربه على النصف فأشر به بقوله وهو يشربه على النصف؟.

فقال علیه السلام : لا تشربه. قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه انه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟. قال علیه السلام : نعم (2). فان ذيلهما بقرينة الصدر يدل على جواز الاعتماد على قول ذي اليد مع انتفاء ما يوجب اتهامه في خبره ، فتدبر. وباللّه الاعتصام. هذا تمام الكلام في قاعدة اليد (3).

والكلام بعدها في أصالة الصحة.

ص: 87


1- العصير المطبوخ.
2- وسائل الشيعة 17 / 234 باب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث : 4.
3- تم الفراغ منها : في 22 / 6 / 1382 ه

ص: 88

أصالة الصّحّة

اشارة

ص: 89

ص: 90

أصالة الصحة

أصالة الصحة (1)

والكلام فيها في جهات ثلاث :

الأولى : في موارد جريانها.

الثانية : في مقدار الآثار المترتبة عليها.

الثالثة : في نسبتها مع الأصول والأمارات.

ص: 91


1- لا يخفى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني من تقريب وحدة قاعدة الفراغ وأصالة الصحة بإرجاعهما إلى أصالة الصحة في عمل نفسه وعمل غيره لا يخلو عن منع. وذلك لاختلاف القاعدتين موضوعا ، لأن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك الحادث بعد العمل ، واما موضوع قاعدة الصحة هو الشك في عمل الغير ولو في أثناء مباشرته للعمل مع اختلافهما موردا ، لأن الغالب في موارد قاعدة الفراغ ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في الغفلة. والغالب في موارد قاعدة الصحة ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في مبالاة العامل وتسامحه وبينهما فرق بعيد. فتدبر. والأمر سهل لعدم الأثر العملي الواضح لهذه الجهة.

ويتضح الكلام فيها بعد معرفة دليل اعتبارها وحجيتها.

ولا بد قبل التعرض إلى ذكر الدليل من بيان أمرين :

الأمر الأول : ان لحمل الصحة مقامات ثلاثة :

المقام الأول : حسن الظن والاعتقاد بان يكون الشخص حسن الظن بعمل غيره ويعتقد صحته بلا لحاظ الأثر الخارجي المترتب عليه أصلا.

وهو - أعني : الظن والاعتقاد - وان كان أمرا غير اختياري ، إلاّ ان مقدماته من تصفية النّفس وتمرينها اختيارية ، فالتكليف به بلحاظ أسبابه. ان لم نقل بان الاعتقاد أمر اختياري ، لأنه عبارة عن عقد القلب ، فيصح تعلق التكليف به.

المقام الثاني : مقام المعاشرة ، بمعنى ترتيب آثار الصحيح على عمل الغير وقوله في مقام المعاشرة. فيعاشره معاشرة القائل للصحيح واقعا.

وهذان المقامان يرتبطان بعالم الأخلاق وتحسين الحالة الاجتماعية وحفظ التحابب بين الافراد.

المقام الثالث : مقام ترتيب الأثر الخارجي العملي ، بمعنى ترتيب الآثار الخارجية العملية للعمل الصحيح على عمل الغير.

الأمر الثاني : ان هناك حسنا وقبيحا ، وصحيحا وفاسدا. وهما يختلفان ، بمعنى ان الفساد لا يساوق القبح ، والصحة لا تساوق الحسن - لا يخفى ان المراد من الحسن عدم القبح - فقد يكون العمل فاسدا ولكنه ليس بقبيح ، لمعذورية العامل في عمله الفاسد. كما أنه قد ينعكس الفرض فيكون العمل قبيحا وليس فاسدا ، كما في المعاملات التي ينطبق عليها عنوان محرم.

ولا يخفى ان المقام الأول يرتبط بعالم الحسن والقبح لا الصحة والفساد ، كما لا يخفى عليك ان ما نحن بصدده هو المقام الثالث من مقامات الحمل على الصحة المرتبط بالصحّة والفساد لا بالحسن والقبح.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فاعلم : انه قد استدل لاعتبار أصالة الصحة في

ص: 92

الجملة بالأدلة الأربعة :

اما الكتاب : فقد استدل منه بآيات :

الأولى : قوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (1). ووجه الاستدلال بها : انه قد جاء تفسيرها في الكافي : « لا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا » ، والمراد بالقول هو الظن والاعتقاد ، وبما انهما ليسا من الأمور الاختيارية كي يصحح التكليف بهما ، فلا بد ان يراد ترتيب آثار الاعتقاد الصحيح ، ومعاملة الناس في أفعالهم معاملة الصحيح.

ويشكل الاستدلال بها ...

أولا : ان الظاهر انها في مقام النهي عن السب واللعان والأمر بالقول الطيب الحسن ، كما فسرت في رواية أخرى بذلك (2).

وثانيا : انه لو سلم إرادة الاعتقاد من القول ، فقد عرفت إمكان تعلق التكليف به فلا حاجة إلى تقدير الآثار.

وثالثا : انه لو سلم دلالتها على الأمر بترتيب الآثار ، فهي انما تدل على ترتيب آثار الحسن لا الصحيح ، وقد عرفت الفرق بينهما.

الثانية : قوله تعالى : ( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (3). حيث يراد من الظن الإثم هو ظن السوء قطعا لا ظن الخير ، وحيث ان الظن غير قابل لتعلق التكليف به فلا بد ان يكون المتعلق ترتيب آثار الظن السوء ، فهو منهي عنه ، فلا بد من الحمل على الصحة.

ص: 93


1- سورة البقرة ، الآية : 83.
2- عن جابر عن أبي جعفر علیه السلام في قوله تعالى : ( وقولوا للناس حسنا ) قال علیه السلام : قولوا للناس أحسن ما تحبون ان يقال لكم فان اللّه يبغض اللّعان السباب الطعان على المؤمنين الفحاش المتفحش السائل الملحف ويحب الحليم العفيف المتعفف.
3- سورة الحجرات الآية : 12.

والإشكال في الاستدلال بها يعلم مما تقدم ، فان الظن قابل لتعلق التكليف به باعتبار أسبابه الاختيارية. مضافا إلى انها لو دلت على حرمة ترتيب الآثار ، فهي انما تدل على حرمة ترتيب الآثار ، فهي انما تدل على حرمة ترتيب آثار العمل السيئ لا الفاسد.

الثالثة : قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1). حيث تدل على وجوب الوفاء بكل عقد واقع ، ومعناه ترتيب آثار العقد الصحيح عليه ، والخطاب للناس جميعا. فهي تدل على وجوب ترتيب آثار الصحة من كل أحد على المعاملة الواقعة.

ويمنع الاستدلال بها لوجوه :

أحدها : ان الخطاب فيها لخصوص المتعاملين لا لجميع المكلفين.

ثانيها : ان المفروض كون مورد الحمل على الصحة مشتبه بالشبهة المصداقية ، إذ لا يعلم ان الواقع هل هو العقد الصحيح أو العقد الفاسد الّذي خرج عن العموم بالتخصيص ، ولا يصح التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

ثالثها : انها أخص من المدعى ، لأن المدعى جريان أصالة الصحة في جميع الأعمال لا في خصوص العقود كما تدل عليه الآية.

وأما السنة : فروايات :

منها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين علیه السلام : « ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ، ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير سبيلا » (2).

ولا يتجه الاستدلال بها لجهتين :

الأولى : ان ظاهرها انها في مقام الأمر بحسن الظن والاعتقاد ، خصوصا بملاحظة ذيل الرواية حيث يقول فيها : « ولا تظنن بكلمة خرجت ... »

ص: 94


1- سورة المائدة ، الآية : 1.
2- الكافي : باب التهمة وسوء الظن ، الحديث : 3. إلاّ انّ فيها كلمة محملا بدل سبيلا.

الثانية : انه لو سلم دلالتها على وجوب ترتيب الآثار - ولا دلالة لصدرها على خصوص وجوب الظن الحسن - ، فهي انما تدل على وجوب ترتيب آثار العمل الحسن لا الصحيح. فهي على كلتا الجهتين لا ترتبط بما نحن بصدده.

ومنها : قول الصادق علیه السلام لمحمد بن الفضل : « يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال وقال لم أقل فصدقه وكذبهم » (1).

ولكنها انما تدل على وجوب حمل الأخ المؤمن على الصحة في مقام المعاشرة وترتيب آثار الصدق على دعواه ، فان موردها ذلك وموضوعها موردها.

ولا يخفى انها لا ترتبط بمقام القلب وحسن الظن ، إذ يبعد ان يأمر بالظن بصحة قول فرد مؤمن وتكذيب خمسين قسامة. فلا بد من حملها على التكذيب العملي والأمر بعدم ترتيب ما يترتب على الكذب وشبهه.

ومنها : ما ورد أن المؤمن لا يتهم أخاه المؤمن ، وانه إذا اتهم أخاه انماث الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء (2). وتقريب الاستدلال بها : ان حمل المعاملة الصادرة من المؤمن على الفاسدة اتهام له بعدم المبالاة والمعرفة بشئون المعاملات الدينية ، فهو منهي عنه ، فلا بد من الحمل على الصحيح ، وترتيب آثار الصحيح عليها.

ولكنه محل تأمل ومنع ، فان الرواية تحتمل وجوها أربعة :

الأول : انها واردة في مقام عقد القلب على كون الواقع من المؤمن صحيحا ، فلا ترتبط بمقام الخارج أصلا.

الثاني : انها واردة في مقام ترتيب آثار الصحيح في مقام المعاشرة.

ص: 95


1- وسائل الشيعة 8 / باب : 157 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : 4. وفيها عن محمد بن فضيل عن أبي الحسن موسى علیه السلام .
2- الكافي ، باب التهمة وسوء الظن ، الحديث : 1.

الثالث : انها واردة في مقام ترتيب آثار الصحيح الخارجية.

الرابع : انها واردة في النهي عن اتهام المؤمن في أقواله بالكذب.

وإذا كانت تحتمل وجوها أربعة ولا معين لأحدها ، فلا يتجه الاستدلال بها على المدعى ، بل القرينة معينة لغير ما نحن بصدده.

وذلك لأنه لو حملت على الاحتمال الثالث لشملت أقوال المؤمن ، لأن لسانها آب عن التخصيص ، وذلك يقتضي ترتيب آثار الصدق على أقواله ، وهو مما لا يمكن الالتزام به ، لأنه يرجع إلى حجية قول المؤمن بحيث يترتب عليه ما يترتب على الواقع.

كما ان الظاهر ان الاتهام انما هو بحمل فعل المؤمن على السوء لا على الفاسد. هذا لو قلنا بان الاتهام من الأفعال الخارجية ، اما مع القول بأنه من الأفعال القلبية ، فنحن في غنى عما ذكر كما لا يخفى.

وأما الدليل العقلي : فهو لزوم اختلال النظام من ترك الحمل على الصحة ، وهو واضح بالوجدان - وعليه فيدل على اعتبارها فحوى التعليل الوارد في خبر حفص المتقدم - وتفيده بان تخلفها في موارد الحاجة لا يستدعى ذلك. فاسد ، لأن أظهر مواردها العقود النكاحية ، والإيقاعات الطلاقية ، فلو لا أصالة الصحة لاختل نظام الزواج بلا ارتياب.

واما الإجماع : فالقول منه لا وجود له ، إذ تحرير المسألة كان متأخرا زمانا.

وأما العملي ، المعبر عنه بالسيرة وبناء العقلاء ، فلا إشكال في انعقاده - على ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من الغير - ولا ارتياب. وعدم الردع في صحة التمسك بها.

ودعوى : كون البناء قد يكون لوجود الأمارات أو الأصول الخاصة. واضحة البطلان ، ضرورة ان البناء حاصل في صورة انتفاء الأمارة والأصل.

إذا تبين ذلك فمقامات البحث في هذه المسألة متعددة. ولكن يجمعها الجهات

ص: 96

الثلاث التي ذكرناها آنفا.

المقام الأول : في ان المحمول عليه الفعل هل هو الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل؟. فإذا صدر من شخص عمل فهل يحمل على انه صحيح واقعا ، فيترتب عليه آثار الواقع. أو يحمل على انه صحيح باعتقاد الفاعل ونظره ، فيترتب عليه آثاره ان كانت له آثاره بالنسبة إلى الحامل؟

وتظهر ثمرة ذلك : انه لو بنينا على إجراء أصالة الصحة عند الفاعل ، فلا تجدي في ترتيب الآثار على علمه إلا في موارد اتفاق الحامل مع الفاعل في الرّأي اجتهادا أو تقليدا. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق أحد نافذا واقعا في حق الآخرين ، ومحل ذلك مما لا نعهده. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق الشخص موجبا لصحة عمله واقعا لديه أيضا كمعتقد الجهر في مورد الإخفات ، فان صلاته صحيحة واقعا في حقه للنصوص الخاصة أو لحديث لا تعاد. واما في غير ذلك ، فلا يمكن ترتيب آثار العمل الصحيح على ما أتى به. بخلاف ما إذا بنينا على إجراء أصالة الصحة الواقعية ، فانه يترتب الأثر على عمله مطلقا. كما ان لازم الحمل على الصحيح عند الفاعل انه يختص بمن يعرف الصحيح والفاسد ، اما من لا يكون عالما بالصحيح والفاسد فلا معنى للحمل على الصحيح عنده ، إذ هو جاهل على الفرض ، فلا صحيح عنده وفي علمه. فانتبه.

ولا بد في تحقيق الكلام أن يقال : ان الحامل تارة : يعلم علم الفاعل بالصحيح والفاسد. وأخرى : يعلم بجهله بهما. وثالثة : يجهل حاله ولا يعلم بأنه عالم بالصحيح والفاسد أم جاهل بهما.

وفي صورة علمه بأنه يعلم الصحيح والفاسد تارة : يعلم موافقته اجتهادا أو تقليدا. وأخرى : يعلم مخالفته. وثالثة : يجهل الحال من موافقته له ومخالفته. فالصور خمس ..

أما صورة علمه بعلم الفاعل بالصحيح والفاسد وموافقته له اجتهادا أو

ص: 97

تقليدا ، فلا أثر في الخلاف في الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل ، إذ الأثر المرغوب يترتب على كلا الحالين.

وأما صورة مخالفته له في الصحيح والفاسد ، فالمخالفة تارة : تكون بالتباين ، كما لو اعتقد أحدهما وجوب الجهر في ظهر يوم الجمعة والآخر وجوب الإخفات.

وأخرى : تكون بالعموم المطلق ، كما لو اعتقد أحدهما صحة العقد بالفارسي والآخر فساده واختصاص الصحيح بالعربي.

فعلى الأول : لا إشكال في الحمل على الصحة عند الفاعل ، لأن الحمل على الصحة الواقعية في الفرض حمل للفاعل على خلاف ما يعتقده ويدين به ، ولا إشكال في عدم صحة ذلك.

نعم ، على الثاني للحمل على كلا المعنيين مجال ، فمع حمله على الصحة الواقعية تترتب عليه آثار الواقع. واما مع حمله على الصحة عند الفاعل فلا يمكن ترتيب آثار الواقع عليه ، إذ يمكن ان يكون الصادر منه ما هو فاسد بنظر الحامل ، فكيف يترتب عليه آثار الواقع؟

وهكذا الحال في صورة جهله بموافقته له ومخالفته كما لا يخفى.

وأما صورة العلم بجهله بالصحيح والفاسد ، فلا معنى لحمله على الصحيح عند الفاعل ، إذ المفروض كونه جاهلا لا اعتقاد له. فلو فرض جريان أصالة الصحة في المورد ، فلا إشكال في كونها الصحة الواقعية.

ومثل هذه الصورة في الحكم صورة الجهل بحاله ، وانه هل يعلم الصحيح والفاسد أو يجهلهما؟

هذه هي شقوق المسألة المحررة.

وتعيين الحكم بالنسبة إلى الموارد مشكل جدا بعد أن لم يكن دليل الأصل المزبور لفظيا ، كي يتمسك بإطلاقه ، بل كان دليلا لبيا. ولذلك اختلفت فيه كلمات

ص: 98

الاعلام. والّذي يظهر من المحققين العراقي في تقريرات بحثه (1) ، والأصفهاني في رسالته (2) ، العموم ما عدا صورة اختلافهما بنحو التباين. والمنسوب إلى الفقيه الهمداني العموم حتى لهذه الصورة.

والكلام يقع في مرحلتين :

الأولى : في ان المحمول عليه الفعل ما هو - وهو عنوان البحث -؟

والتحقيق ان يقال : انه ان استند في أصالة الصحة إلى ظاهر حال المسلم وانه لا يأتي إلا بما يوافق الموازين ، فهو لا يقتضي أكثر من الصحة عنده ، لأن هذا هو ما يقتضيه ظاهر حاله. وان استند فيها إلى السيرة ، فهي تقتضي الحمل على الصحة الواقعية لقيامها على ذلك.

الثانية : في عموم جريان الأصل للموارد المذكورة وعدمه.

والأقرب هو العموم ، لقيام السيرة على جريان الأصل بلا توقف وتردد في جميع الموارد. نعم ، لا يمكن الجزم بقيام السيرة على جريان أصالة الصحة في مورد العلم بجهل العامل بالصحيح والفاسد ، بحيث تكون مطابقة عمله للصحيح الواقعي من باب الصدقة والاتفاق ، ولذلك يكون الحكم بجريانها في هذا المورد محل إشكال وتوقف وان كان ليس ببعيد ، فان كثيرا من العوام يجهلون الصحيح والفاسد ، مع ان السيرة على حمل عملهم على الصحيح.

المقام الثاني : في أصالة الصحة في العقود.

ومحل الكلام - كما أشار إليه الشيخ (3) - هو جريان أصالة الصحة عند الشك في صحة العقد وفساده قبل استكمال أركانه وانعقاده - بأن كان منشأ الشك الشك في تحقق أحد الأركان - ، وعدم جريانه قبل الاستكمال.

ص: 99


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار :4/ 80 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 312 - الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /418- الطبعة القديمة.

والّذي نقله الشيخ عن المحقق الثاني قدس سره هو القول الثاني مستدلا على ذلك بوجهين :

الأول : ان نسبة الأصل إلى العقد نسبة الحكم إلى موضوعه ، لأن مؤداه صحة العقد وموضوعه الشك في الصحة والفساد ، وذلك في مرتبة متأخرة عن تحقق العقد كي يتصف بالصحّة والبطلان. ومع الشك في تحقق بعض أركان العقد يكون الشك في وجود العقد لا في صحته ، فلا مجال لجريان أصالة الصحة.

الثاني : ما ذكره بعنوان التفريع على دعواه ، ولكن الظاهر من تفصي الشيخ عنه انه وجه مستقل ، وهو : الفتوى بتقديم قول من يدعي وقوع المعاملة على الحر فيما لو ادعى أحد المتعاقدين بيع العبد وادعى الآخر بيع الحر. ولو كانت أصالة الصحة جارية في المقام لما توجهت هذه الفتوى.

وأجاب الشيخ عن الأول : بأنه ان كان المراد من وجود العقد وجوده الشرعي ، فهو عين الصحة ، إذ العقد غير المؤثر ليس عقدا شرعا. وان كان المراد منه وجوده العرفي ، فهو متحقق مع الشك ، بل مع القطع بالعدم ، إذ العقد الواقع على الحر عقد عرفا وان كان فاسدا ، فالحال لا يختلف بالنسبة إلى جميع الشروط غير العرفية على كلا التقديرين.

وأما الثاني : فالجواب عنه بما قرره الفقيه الهمداني قدس سره في حاشيته على الرسائل ، وبيانه : ان عدم جريان أصالة الصحة في المورد المذكور ليس من أجل عدم تحقق موضوعها وهو العقد ، وإلاّ للزم ان لا تجري في صورة كون موضوع الدعوى هو الثمن ، بأن ادعى البائع البيع بعبد والمشتري بحر ، لأن نسبة الثمن والمثمن إلى وجود العقد متساوية ، مع انه قد أفتى جملة من الفقهاء بان القول قول مدعي الصحة للأصل. فلا بد ان يرجع تقديم قول مدعي الفساد وعدم إجراء أصالة الصحة في مورد كون الموضوع للدعوى هو المثمن إلى وجه آخر غير ما تخيله المحقق الكركي واستدل به على دعواه.

ص: 100

ولعل الوجه هو : انه لما كان موضوع الأثر في هذه الصورة هو وقوع العقد الصادر على العبد ، إذ لا أثر لوقوعه على الحر أصلا ، لأنه يكون حينئذ بمنزلة العدم ، فجريان أصالة الصحة في العقد الواقع لا يثبت كون المبيع هو العبد فلا أثر لجريانها ، فلا تجري ، فتكون أصالة عدم السبب الناقل بلا حاكم.

وهذا بخلاف صورة ما إذا كان موضوع الدعوى هو الثمن ، وانه حر أو عبد ، لأن مورد الأثر صحة العقد الواقع على المثمن المعين وتحقق النقل والانتقال به ، فجريان أصالة الصحة يجدي في ترتب الأثر ويلزمه ثبوت الثمن في ذمة المشتري وان لم يكن معينا - لأن الأصل المزبور لا يعينه -.

وان كان قد يرد على هذا التوجيه : بأنه في الصورة الأولى يمكن جريان أصالة الصحة باعتبار طرف الثمن فانه يشك في ثبوت الثمن في ذمة القابل بواسطة العقد الواقع فتجري أصالة الصحة فيه ، فتأمل. ولكنه ليس بمهم إذا المهم هو إثبات ان عدم إجراء أصالة الصحة في المثال لم يكن لما ادعاه المحقق قدس سره من عدم تمامية الأركان لإجرائها فيما لو كان الخلاف في الثمن. أما توجيه الفرق بما ذكر فليس إثبات صحته بمهم.

وعبارة الشيخ قدس سره - في بعض النسخ - في مقام الجواب لا تخلو عن إبهام ..

والّذي يظهر منها التفريق بين صورة التمليك المجاني والعوضي.

أما الأول : فحيث ان المالك بدعواه تمليك الحر لا يدعي على الآخر شيئا ولا يطالبه بشيء ، وانما الأثر على ثبوت دعوى تمليك العبد ، كان موضوع الدعوى وأحكامها هو دعوى ثبوت تمليك العبد - أما دعوى تمليك الحر ، فهي ساقطة عن الاعتبار لعدم الأثر - فيكون القول قول منكر التمليك المذكور فعليه اليمين إن لم تقم البينة على خلافه. ولا مجال لأصالة الصحة للشك في تحقق موضوعها لعدم العلم بتحقق التمليك كي تجري فيه أصالة الصحة. أما التمليك الواقع فجريان أصالة

ص: 101

الصحة فيه لا يثبت وقوعه على العبد كما لا يخفى.

وأما الثاني : فهو داخل في المسألة المعنونة في كلام الأصحاب. وقد أجرى بعضهم أصالة الصحة. ولا يفرق فيه - كما يظهر من تعبيره بالعوضين - بين أن يكون الاختلاف في الثمن أو المثمن ، وإن كان ظاهر عنوان المسألة كون الاختلاف في الثمن. لكن الملاك في كلتا الصورتين واحد. فالتفت وتدبر. فعبارته ومقابلته لا تخلو من غموض ، وأكثر نسخ الكتاب قد حذف فيها الشق الأول من الترديد. وعلى كل فليس الأمر بهذه المثابة من الأهمية.

وأعلم ان الأعلام المتأخرين (قدس سرهم) عدلوا عن تحرير محل النزاع بنحو ما ذكره الشيخ رحمه اللّه إلى نحو آخر وهو : ان أصالة الصحة هل يختص جريانها في ما إذا كان الشك في صحة العقد ناشئا عن الشك في شرائط العقد بما هو عقد ، كالماضوية والعربية وغيرهما. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي يعتبر في العقد أو المتعاقدين أو العوضين مع إحراز شرائطه العرفية. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي أو عرفي مع إحراز إنشاء البيع؟ وجوه وأقوال ...

وقد ذهب المحقق النائيني إلى الأول ، واستدل عليه : بان معقد الإجماع القولي على أصالة الصحة هو أصالة الصحة في العقود ، وظاهره تعلق الصحة والفساد بالعقد بما هو عقد ، وذلك انما يتحقق فيما إذا كان الشك في أحد شرائط العقد بما هو عقد. أما إذا كان الشك في أحد شرائط المتعاقدين أو العوضين ، فالشك في الصحة والفساد لا يتعلق بالعقد ابتداء ، بل هو يتعلق بأمر آخر ، ولازمه تعلق الشك بالعقد ، فاتصاف العقد بالصحّة حينئذ من باب الوصف بحال متعلق الموصوف ، وإلاّ فالعقد بما هو لا قصور فيه وانما القصور من جهة المتعلق أو العاقد (1).

ص: 102


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 245 - الطبعة القديمة.

وقد دفعه المحقق الأصفهاني قدس سره بوجوه ثلاثة :

الأول : بان قصور معقد الإجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العملية على إمضاء المعاملات المشكوكة ولو كان منشأ الشك هو الشك في الإخلال بشرط من شرائط العوضين أو المتعاقدين.

الثاني : ان الصحة والفساد في أي حال تضافان إلى العقد دون غيره. وهذا لا يرتبط بإضافة الشرط إلى غيره ، فكون الشرط لغيره لا يضر في إضافة الفساد للعقد عند انتفاء هذا الشرط. ومعقد الإجماع هو البناء على صحة العقد عند الشك لا البناء على وجود شرط العقد ، كي لا يكون شاملا لمورد يكون الشك فيه في شرط المتعاقدين أو العوضين.

الثالث : ان الدعوى المذكورة تبتني على انعقاد إجماعين قولين أحدهما في باب العبادات والآخر في باب العقود والإيقاعات بعنوانها.

وأما مع انعقاد الإجماع على البناء على صحة كل عمل له أثر - سواء كان عباديا أم معامليا - فلا وجه للدعوى المذكورة ، لأن الصحة في معقد الإجماع لم تسند إلى العقد بما هو عقد ، بل إلى العمل العبادي أو المعاملي ، وظاهر أن جميع الشرائط دخيلة في ترتب الأثر على المعاملة بما هي معاملة (1).

ولا يخفى أنه يمكن توجيه ما أفاده المحقق النائيني بنحو لا يرد عليه الوجهان الأخيران ، ببيان : ان المتداول في تعبيرات الفقهاء هو إطلاق الصحة على العقد بمجرد تمامية شرائطه الراجعة إليه ، مع عدم إطلاقهم الصحة على مثل العوضين والمتعاقدين ، بل يطلقون القابلية على العوضين والأهلية على المتعاقدين فيقولون عقد صحيح وقع من أهله وفي مورد قابل. إلاّ ان الّذي يهون الخطب اننا لا نعترف بحجية مثل هذا الإجماع كما عرفت ، والدليل الّذي لدينا على أصالة الصحة هو

ص: 103


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 313 - الطبعة الأولى.

السيرة خاصة ، فلا بد من ملاحظة موردها ، وعلى هذا فالأمر في صحة ما ذكره النائيني وعدمه سهل.

وقد ذهب المحقق العراقي إلى ما نتيجته توافق ما ذهب إليه الشيخ - وهو جريان الأصل عند الشك في أي شرط مع إحراز الشرائط العرفية للعقد الّذي هو الوجه الثاني - فانه بعد أن ذكر أمرين :

أحدهما : ان الشرائط المعتبرة في صحة العقد وتأثيره الفعلي لترتب الأثر ليست على نمط واحد ..

فمنها : ما يرجع اعتباره إلى دخله في السبب ، وهو العقد ، كالموالاة بين الإيجاب والقبول ، والماضوية وغيرهما.

ومنها : ما يرجع اعتباره إلى دخله في قابلية المسبب للتحقق ، وهذه الطائفة بين ما يكون محله المتعاقدين كالبلوغ والعقل وغيرهما. وبينما يكون محله العوضين كالمعلومية والمالية. وبين ما يكون محله نفس المسبب كعدم الربوية والغررية في البيع.

وثانيهما : ان صحة كل شيء بحسبه ، لكونها بمعنى التمامية ، وتمامية كل شيء انما هي بلحاظ وفائه بالأثر المرغوب عنه في قبال فاسدة الّذي لا يكون كذلك فصحة الإيجاب بمعنى أنه لو تعقبه قبول صحيح لحصل أثر العقد.

وصحة العقد عبارة عن تماميته في نفسه ، بحيث لو ورد على محل قابل لأثر فيه النقل والانتقال وترتب عليه الأثر المرغوب. فهي - أعني : الصحة - في العقد عبارة عن مفاد قضية تعليقية لا تنجيزية ، وهو كونه بحيث لو ورد على محل قابل لا تصف بالمؤثرية الفعلية.

بعد أن ذكر هذين الأمرين. أفاد : ان الشك في الصحة والفساد ..

ان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط العرفية للسبب أو المسبب ، كالشك في التوالي بين الإيجاب والقبول المعتبر عرفا ، ومطلق المالية في

ص: 104

العوضين ، فلا تجري أصالة الصحة لا في السبب ولا في المسبب ، لرجوع هذا الشك إلى الشك في مجرى أصالة الصحة ، مع انه لا بد من إحراز عنوان موضوعه عرفا.

وان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط الشرعية مع إحراز الشرائط العرفية ، فان كان الشرط المشكوك فيه من شرائط العقد جرت أصالة الصحة في العقد ، لأنه عقد عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من شرائط المسبب كالبيع ، فلا تجري أصالة الصحة في العقد لإحراز صحته ، لأنها مفاد قضية تعليقية وهي محرزة ولو مع القطع بانتفاء شرط المسبب ، وانما تجري في نفس المسبب وهو البيع مثلا ، لأنه بيع عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من شرائط السبب والمسبب ، بان كان الشك من الجهتين ، جرت أصالة الصحة في السبب والمسبب (1).

هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي قدس سره ، وهو نتيجة يوافق الشيخ وان كان يختلف عنه بحسب المقدمات.

وقد استدل على ذلك بالسيرة ولزوم اختلاف النظام ، وانهما يقتضيان التعميم لجميع صور الشك مع إحراز عنوان موضوع الصحة عرفا ، ولا بد حينئذ من التفصيل بين موارد الأصل من كونه السبب أو المسبب.

ولكن السيد الخوئي - كما في بعض تقريرات بحثه - لم يرتض هذا الاستدلال ، ولذلك التزم بما التزم به المحقق الثاني والعلامة وأستاذه النائيني من اختصاص جريان أصالة الصحة في مورد الشك في شروط العقد دون غيره ، إذ اعتبر في جريانها إحراز القابلية الشرعية والعرفية في الفاعل والمورد.

فانه بعد ما حرر موضوع المسألة ، وبيّن صور الشك ، وذكر ان المحقق الثاني والعلامة (قدس سرهما) ذهبا إلى عدم جريان أصالة الصحة عند الشك في قابلية

ص: 105


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 82 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الفاعل أو المورد العرفية والشرعية. حكم بصحة ما ذهب إليه متمسكا لذلك بعدم وجود دليل لفظي لأصالة الصحة كي يتمسك بعمومه وإطلاقه ، بل دليلها ليس سوى السيرة ولم يحرز قيامها على ترتيب آثار الصحيح عند الشك في القابلية - وهو كاف في الحكم بعدم جريان أصالة الصحة - بل المحرز قيامها على عدم ترتيب الآثار ، وضرب لذلك مثالين :

أحدهما : ما لو باع زيد دار عمرو مع اعترافه بكونها دار عمرو ، وشك في كونه وكيلا عن عمرو أو لا.

والثاني : ما لو طلق زيد زوجة عمرو وشك في كونه وكيلا عنه.

فان العقلاء لا يرتبون آثار البيع الصحيح أو الطلاق الصحيح على ما صدر من زيد ، وهذا لا يرجع إلا لعدم ترتيب آثار الصحة عند الشك في القابلية. ثم أشار إلى ما ذكره الشيخ من قيام السيرة على ترتيب آثار الصحة على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابلية الفاعل. وذكر ان ترتيب الآثار ليس من جهة أصالة الصحة بل من جهة قاعدة اليد وإحراز القابلية باليد ، ولذلك لا تجري أصالة الصحة فيما تقدم من المثالين لعدم كونه موردا لقاعدة اليد (1).

وللمناقشة فيما ذكره مجال ، فان السيرة قائمة على إجراء أصالة الصحة في الموارد التي لا يكون هناك أصل أو أمارة يستند إليها ، كالشك في البلوغ ، أو الرشد ، أو في مجهولية العوضين ، أو زيادة أحدهما على الآخر في المعاملة الربوية ، أو وقوع الطلاق في أيام الطهر ، أو حضور عدلين عند إنشائه ، وغير ذلك مما لا طريق إلى إثباته من يد أو غيرها. واليد انما تثبت المالكية ، أما بلوغ البائع أو رشده فلا تقتضي شيئا منهما ، فلا وجه لما ذكره من أن قابلية الفاعل تحرز بقاعدة اليد. مع أن الشك لا ينحصر في قابلية الفاعل ، إذ قد يكون في قابلية المورد.

ص: 106


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 327 - الطبعة الأولى.

وأما ما ذكره من النقض ، فهو لا يدل على المدعى من جهتين :

الأولى : ان استناد العقد أو الإيقاع إلى المالك مما هو مأخوذ في موضوع أصالة الصحة ، لأن مفاد أصالة الصحة مفاد : ( أوفوا ) في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وظاهر أنه قد أخذ في موضوع الوفاء استناد العقد إلى المالك كما أخذ في موضوعه العقد ، لظهور الكلام في ذلك عرفا بحيث لا يكون ما يدل على عدم نفوذ بيع غير المالك مخصصا لعموم : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .

وعليه ، فعدم جريان أصالة الصحة انما هو لأجل عدم إحراز موضوعها وهو العقد المستند إلى المالك ، لا من جهة قيام السيرة على عدم جريانها عند الشك في القابلية.

الثانية : أن حصول الأثر وترتبه في المثالين يتوقف على إحراز المالك أو الزوج استناد المعاملة إليه ، لا من جهة كون الاستناد مأخوذا في موضوع النفوذ ، بل من جهة أن المالك انما يجب عليه تسليم الدار للمشتري إذا صدر منه العقد ، وهكذا الزوج. وأصالة الصحة في العقد الواقع لا تثبت خصوصية استناد العقد إلى المالك كي يجب على المالك ترتيب الآثار ، بل هي أجنبية عن المالك.

وبالجملة : عدم جريان أصالة الصحة في المثالين ليس لأجل قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار عند الشك في القابلية ، بل هو من جهة خصوصية في المقام ، فلا يرد النقض بهما.

وعلى هذا ، فالالتزام بجريان الأصل المزبور عند الشك في مطلق الشرائط الشرعية المعتبرة في العقد أو في غيره مع إحراز الشرائط العرفية للعقد مما لا إشكال فيه ، لتمامية الدليل ، وهو السيرة واختلال النظام ، سواء قلنا بان صحة العقد مفاد قضية تعليقية - كما هو شأن المقتضيات أجمع - وان الأصل يجري في المسبب - كما ذهب إليه المحقق العراقي على ما عرفت -. أو قلنا بان للعقد صحة أخرى هي التي تكون مجرى الأصل لا تلك ، وهي صحة فعلية منتزعة عن تأثيره وترتب الأثر

ص: 107

عليه - فانه وإن كان مقتضيا للأثر لا علة تامة ، والشرائط متممات التأثير وشرائط تأثيره ، لكنه هو المباشر للتأثير ، فانه هو المؤثر والأثر يترتب عليه ، كمباشرة النار للإحراق مع كونها مقتضية له لا علة تامة ، فصحته يراد بها هذا المعنى وهي فعلية - فالأصل دائما يجري في العقد ولو كان الشك في شرائط غيره ، لأنه سبب للشك في صحته - كما سيتضح لك ذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى - ولا يجري في المسبب اما لعدم الحاجة إلى ذلك ، أو لعدم قابليته للاتصاف بالصحّة والفساد ، كما يذكر ذلك في مبحث الصحيح والأعم ، وتحقيقه ليس هذا موضعه.

كما انه لا يمكن الالتزام بما التزم به المحقق الأصفهاني قدس سره من جريان أصالة الصحة مع الشك في الشرائط العرفية ، لما سنذكره في بعض التنبيهات إن شاء اللّه تعالى. فانتظر.

ثم ان السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بعد كلامه المزبور نسب إلى الشيخ قدس سره جريان أصالة الصحة - مع التنزل والالتزام بعدم جريان الأصل مع الشك في القابلية - فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد المتعاقدين مع إحراز قابلية الآخر. بتقريب : انه مع إحراز قابلية الموجب - مثلا - وكان الشك في صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل تجري أصالة الصحة في الإيجاب ، فيحكم بتأثير الإيجاب وهو معنى صحة العقد. وأورد عليه بان صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الجزء معناها قابليته للجزئية ولا يثبت بها وجود الجزء الآخر ولا صحته ، فجريان أصالة الصحة في الإيجاب لا يثبت وجود القبول ولا صحته فلا وجه لما ذكره.

ولكن ما نسبه إلى الشيخ وأورد عليه بما عرفت أجنبي عن ظاهر كلام الشيخ. فانه في مقام الإيراد على المحقق الثاني الّذي ادعى ان ظاهر حال المسلم لا يصح ان يتمسك به المضمون له - فيما إذا اختلف مع الضامن في وقت الضمان - وانه كان قبل بلوغ الضمان أو بعده - لأنه لا يتم إلا مع استكمال العقد للأركان التي

ص: 108

منها شروط المتعاقدين. وان كلامه على إطلاقه ممنوع لإمكان التمسك به في صورة وتعدد طرفي العقد وإحراز قابلية أحد الطرفين لأن الظاهر انه لا يتصرف فاسدا.

وأين هذا من جريان أصالة الصحة في الإيجاب وترتب الأثر عليه؟ بل هو أجنبي عن أصالة الصحة بالمرة. فالتفت ولا تغفل.

المقام الثالث : في اختلاف الصحة بحسب مواردها. وبيان ذلك : ان الصحة على نحوين تأهلية ، وفعلية.

فالأولى عبارة عن قابلية الشيء لترتب الأثر عليه لو انضم إليه غيره مما له الدخل في ترتب الأثر.

والثانية : تنتزع عن ترتب الأثر الخارجي فعلا على الشيء والصحة التأهلية انما يتصف بها أجزاء المؤثر ولا تتصف بغيرها لأن الأثر لا يترتب فعلا على كل جزء بل على المجموع ، فالصحة في الجزء عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه سائر الاجزاء والشرائط لترتب الأثر ، فالصحيح ما كان بهذه الحيثية ، كالإيجاب بالعربي فانه جزء العقد المؤثر ، والفاسد ما لم يكن بهذه الحيثية ، كالإيجاب بالفارسي على القول باعتبار العربية فيه.

وعليه ، فجريان أصالة الصحة في الجزء لا يثبت الجزء الآخر ، لعدم توقف صحته عليه ، ولا يقتضي ترتب الأثر المتوقف على المركب عليه.

والصحة الفعلية انما يتصف بها المجموع المركب المؤثر. وهو لا يتصف بغيرها كما لا يخفى.

ومن هنا تبين أن صحة كل شيء بحسبه ، إذ الأشياء ليست على حد سواء في الصحة ، فالجزء لا يتصف إلاّ بالصحّة التأهلية ، والكل بالنسبة إلى اثره على العكس لا يتصف إلا بالصحّة الفعلية.

وبه يندفع ما قد يتوهم من : ان جريان أصالة الصحة في الإيجاب - مثلا - تكفي في ترتيب آثار الصحة ولو لم يحرز القبول ، إذ لا وجه لتخصيص دليل أصالة

ص: 109

الصحة بغير المورد ، ومع جريانها يترتب الأثر ، لأنه معنى : الصحة الفعلية. ووجه الاندفاع واضح ، فان جريان أصالة الصحة في الإيجاب لا تجدي في المطلوب ، لأن صحته تأهلية والأصل يجري بمقدارها ، فلا تخصيص لدليل الأصل ، كما انه لا يترتب الأثر على جريانها فيه ، فالتفت.

وهذا الأمر هو الّذي عقد له الشيخ فصلا مستقلا ، وهو واضح لا غبار عليه ولا إشكال فيه.

وإنما الإشكال فيما فرعه الشيخ عليه من الموارد التي ذكر أن جريان أصالة الصحة فيها لا تثبت المشكوك المتوقف ترتب الأثر عليه وان جريان أصالة الصحة في العقد في عدم ثبوت المشكوك بها نظير جريانها في عدم ثبوت القبول بها ، وهي ما لو شك في تحقق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقق الإيجاب والقبول ، أو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي ، أو كان العقد في نفسه مبنيا على الفساد كبيع الوقف بحيث يكون المصحح من الطوارئ ، أو شك في وقت بيع الراهن الرهن مع إذن المرتهن ورجوعه وانه كان قبل الرجوع أو بعده ، فانه أفاد : ان جريان أصالة الصحة في الهبة أو الصرف أو السلم لا تثبت تحقق القبض ، كما أن جريانها في بيع الفضولي لا يثبت إجازة المالك ، والأولى بعدم الجريان مورد بيع الوقف مع الشك في وجود المسوغ له ، وان جريانها في الاذن لا يثبت وقوع البيع صحيحا وجريانها في الرجوع لا يقتضي فساد البيع ، لأن صحة كل منهما تعليقية تأهلية ، فهي في الاذن كونه بحيث لو وقع البيع بعده وقبل الرجوع كان صحيحا ، وفي الرجوع كونه بحيث لو وقع البيع بعده لكان فاسدا ، وهي محرزة وجدانا. كما ان جريانها في نفس البيع لا يجدي ، لأنه لا يثبت بها رضا المالك المرتهن ، لأنه بظاهره يوهم المنافاة ، لما ذكره في الفصل السابق من الالتزام بجريان أصالة الصحة عند الشك في شرط من شروط المتعاقدين أو العوضين ، إذ الموارد المذكورة كلها من هذا القبيل.

ص: 110

فالمهم : بيان مراد الشيخ ونظره والتوفيق بين ما ذكره أولا وأخيرا ، بنحو يرتفع توهم التنافي ويتضح الحال للمستشكل.

والّذي ينبغي أن يقال : أما في مسألة الهبة والصرف والسلم وتوقفهما على القبض ، فالوجه في عدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون هو : ان الشك في الصحة الفعلية للعقد في مرحلة البقاء لا في مرحلة الحدوث لأن العقد حين تحققه كان متصفا بالصحّة التأهلية ، ويشك بقاء في صحته الفعلية وعدمها ، وأصالة الصحة لا تجري فيما إذا كان الشك بين الصحة والبطلان بقاء ، بل يختص جريانها فيما إذا كان الشك من حين حدوث العقد - لأنه هو المناسب لدليل أصالة الصحة ثبوتا - وهو في المقام غير متحقق إذ لا شك حين حدوثه في صحته ، كما لا يخفى.

وأما مسألة بيع الفضولي ، أو الراهن بلا إجازة المرتهن ، فالسبب في عدم جريان أصالة الصحة فيه يمكن أن يكون أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ما ذكر في مسألة الهبة وأخويها ، لأن الشك في الصحة والبطلان بقاء لا حدوثا ، لأن صحة العقد التأهلية محرزة حين حدوثه.

الثاني : أنه على تقدير جريان أصالة الصحة في مرحلة البقاء ، فهي انما تجري لو كان الشك بين الصحة والفساد رأسا - إذ هو ظاهر أدلتها - أما مع كون الشك في الصحة التأهلية والصحة الفعلية ، فلا دليل على جريانها وتعيينها المعنى الثاني والمقام من هذا القبيل ، لأن الشك في إجازة المالك يوجب الشك في بقاء العقد على صحته التأهلية ، أو صيرورته صحيحا فعليا بالإجازة.

الثالث : ما أشرنا إليه سابقا من أن موضوع الصحة هو العقد المضاف إلى المالك ، وأصالة الصحة انما تجري مع إحراز موضوع الصحة ، وهو غير محرز في الفرض للشك في إجازة المالك ، فلا مجال لجريانها. بل تكون صحة العقد تأهلية لأنه جزء المؤثر.

وأما مسألة بيع الوقف ، فلا يعرف لها وجه خصوصا مع كون الشك في

ص: 111

الصحة الفعلية والفساد رأسا.

إلاّ أن يكون نظر الشيخ إلى انه بعد ان كان العقد الواقع على الوقف بنفسه فاسدا ، وكان طرو المسوغ مصححا له كان طرو المسوغ جزء الموضوع للأثر بحيث يكون موضوع الصحة هو العقد والمسوغ ، فالعقد جزء المؤثر ، فصحته تأهلية ، فلا تجدي في إثبات الجزء الآخر وهو المسوغ ، فتأمل.

وأما مسألة بيع الراهن الرهن والاختلاف بينه وبين المرتهن في وقت البيع ، فعدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون الوجه فيه هو دوران صحة العقد حين صدوره بين التأهلية والفعلية - لأنه ان كان قبل الرجوع ، فصحته فعلية. وان كان بعده ، فصحته تأهلية ، لأنه يكون كبيع الفضولي - وقد عرفت أنه غير مورد أصالة الصحة.

ولكن ظاهر الرسائل كون الوجه فيه : كون العقد بدون إجازة من له الحق - وهو المرتهن - جزء الموضوع ، فصحته تأهلية لا فعلية نظير العقد بالنسبة إلى إجازة المالك في بيع الفضولي ، فالتفت.

نعم ، قد يستشكل في هذا الفرع : بأنه لم لا يجري الأصل في نفس المسبب - وهو البيع - مع ان المفروض كون الشك في صحته الفعلية وفساده ، ويمكن الجواب عنه : بان الأمر في المسبب أيضا دائر بين الصحة الفعلية والصحة التأهلية ، كما في نفس العقد حرفا بحرف ، فلا تجري أصالة الصحة فيه. فتدبر جيدا.

المقام الرابع : في وجوب إحراز عنوان موضوع الأثر.

وبيان ذلك : انه لا بد في ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من إحراز عنوانه الّذي به يكون موضوعا للأثر ، فمع عدم إحراز عنوانه لا تجري أصالة الصحة.

ص: 112

وقد عقد الشيخ رحمه اللّه لذلك فصلا مستقلا (1). ولكنه ذكره فقط بلا ان يبين الوجه فيه والدليل عليه ، ولعله (2) لوضوحه ، لأن العمل إذا لم يكن بنفسه

ص: 113


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول -1. الطبعة القديمة.
2- تحقيق الكلام في هذه الجهة بإجمال : انه لا إشكال في انه يعتبر في جريان أصالة الصحة من كون الفاعل في مقام الإتيان بالعمل الّذي هو موضوع الأثر ، فما لم يكن الشخص في مقام التطهير لا يحمل عمله على الصحة ، وكذا إذا لم يكن في مقام البيع والنكاح وغيرهما من المعاملات ، لا يحمل ما يصدر منه على الصحة. إنما الإشكال في انه إذا أحرز انه في مقام الإتيان بالعمل ذي الأثر الخاصّ ، ولكن شك في تحقق ما هو مقوم عقلا لتحقق موضوع الأثر كالقصد في العقود الإنشائية وكإزالة النجاسة في غسل الثوب أو العصر بناء على تقدم الغسل به ، فهل تجري أصالة الصحة أو لا؟ قد يقال : ان أصالة الصحة تتكفل ترتب الأثر على العمل ، ولا تتكفل تحقق نفس العمل ، فمع الشك في نفس العمل لا مجال لأصالة الصحة. ويمكن الإشكال في ذلك : بان الأثر يترتب على إجراء الماء - مثلا - ولكن بواسطة تعنونه بعنوان الغسل أو ترتب الغسل عليه بنحو المسببية التوليدية ، وكذا يترتب على الإيجاب والقبول بواسطة القصد. وعليه ، فينبغي ان يبحث في أن أصالة الصحة هل تتكفل ترتب الأثر المترتب على الفعل بلا واسطة ، أو الأعم منه ومن المترتب بواسطة؟ ولا بد في ذلك من ملاحظة ما عليه السيرة وبناء العقلاء ، لا سلوك طريقة الاستدلال العقلي - كما أشير إليه - ثم ان بعض من ذهب إلى إجراء أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم ، كمثال التطهير ، التزم في إجراء أصالة الصحة في عمل الغائب مع عدم إحراز قصد النيابة في عمله. فقد يورد عليه : ان ذلك ينافي مبناه من جريان أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم. ويمكن ان يدفع الإيراد : بان أصالة الصحة إنما تلغي احتمال الفساد في العمل الصادر ، وهذا يختص بما إذا كان الشك راجعا إلى جهة دخيلة في الصحة. وليس قصد النيابة دخيلا في صحة العمل ، إذ العمل صحيح حتى إذا لم يقصد النيابة ، نعم ، لا يقع عن المنوب عنه ، وهذا أجنبي عن الصحة. وبعبارة أخرى : ان العمل إذا فرض انه صحيح قصد فيه النيابة أم لم يقصد ، لم تكن أصالة الصحة متكفلة لإثبات النيابة مع الشك ، نظير ما إذا دار أمر الصلاة بين كونها نافلة الصبح أو فريضة ، فأصالة الصحة لا تثبت قصد الفريضة بها. ثم انه يقع الكلام في جهة أخرى ، وهي انه إذا أحرز قصد النيابة ، ولكن احتمل فساد العمل من جهات أخرى ، فهل ينفع إجراء أصالة الصحة في العمل لإثبات براءة ذمة المنوب عنه أم لا؟ وهذا ما يأتي تحقيقه ، فلاحظ.

وبذاته موضوع الأثر بل بما هو معنون بالعنوان الكذائي ، فلا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز موضوع الصحة وهو العمل المعنون بعنوان كذا لا مجرد نفس العمل ، إذ الأثر غير مترتب عليه بنفسه ، فمع عدم إحرازه لا يحرز موضوع الصحة ، فلا تصل النوبة إلى إجراء أصالة الصحة.

وبعبارة أخرى : ان الوجه فيه هو وجوب إحراز موضوع الصحة عرفا في ترتيب آثار الصحيح ، إذ مع عدم إحرازه لا يعقل ترتبها ، فإذا كان الموضوع هو العمل المعنون ، فلا بد من إحراز العنوان الّذي به يكون العمل موضوعا ، كعنوان الصلاة في الأفعال الخاصة ، أو التعظيم في القيام ، أو الخضوع في السجود ، أو غير ذلك.

وعليه ، فبلا إحراز موضوع الصحة عرفا ، لا مجال لجريان أصالة الصحة.

وقد يستشكل : بان ما ذكر يتم بالنسبة إلى ترتيب آثار الصحة الشرعية عند الشك في الشرائط الشرعية ، فانه مع إحراز الشرائط العرفية يحرز الموضوع العرفي « الصحة الشرعية خ ل » لأصالة الصحة. أما بالنسبة إلى الشرائط العرفية عند الشك فيها فلا يتم ، إذ لا يحرز موضوع الصحة عرفا عند الشك فيها ، فيلزم ان لا تجري أصالة الصحة عند الشك في الشرائط العرفية ، مع انه لا إشكال في جريانها ، كيف؟! والسيرة العرفية وبناء العقلاء قامت على جريانها - غير السيرة المتشرعة - ومعناه إجراء العرف الأصل عند الشك في بعض شرائط العمل عندهم ، وهو لا يتفق مع ما ذكر في توجيه لزوم إحراز العنوان العرفي في جريان الأصل.

ص: 114

والجواب عن الإشكال المذكور : ان المراد من الموضوع الواجب إحرازه هو ما كانت نسبة الأثر إليه نسبة العرض إلى معروضه ، والمسبب إلى سببه ، والمقتضي إلى مقتضية ، والأثر إلى ذي الأثر إذ لا يخفى انه ليس كل ما له دخل في ترتب الأثر يكون دخيلا في التأثير وسببا للأثر ، ويتضح ذلك في العلل والمقتضيات التكوينية ، فان مجرد النار ليست علة تامة للإحراق ، بل يبوسة المحل والملاقاة شرط في ترتب الأثر - أعني الإحراق - ، ولكن الإحراق انما يستند إلى النار ونسبته إليها نسبة العرض إلى معروضه ، فانها هي المؤثرة فيه ، والشرائط من الملاقاة ويبوسة المحل دخيلة في تأثير النار لا أنها بنفسها مؤثرة. فالشرط العرفي ان كانت نسبته إلى الأثر نسبة المعروض إلى العروض والمقتضي إلى المقتضى بحيث يكون جزء المؤثر ، وجب إحرازه عند إجراء أصالة الصحة شرعا وعرفا. وان لم تكن نسبته كذلك بل كانت من قبيل الشرط وعدم المانع لم يلزم إحرازه في إجراء أصالة الصحة شرعا وعرفا ، لعدم دخالته في موضوع الأثر وهو مورد جريان أصالة الصحة التي قامت عليها السيرة العرفية كما في الإشكال.

فجملة القول : انه لا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز الموضوع للصحة ، وهو ما كان مباشرا للتأثير ، ولا يلزم إحراز جميع الشرائط العرفية ولو لم تكن دخيلة في الموضوعية.

وعليه ، فلا يرد الإشكال المذكور. إلا ان يدعى قيام السيرة على جريان أصالة الصحة بمجرد إحراز صورة العنوان ولو لم يحرز العنوان أو غيره من اجزاء الموضوع ، كجريانها بالنسبة إلى الغسل مع الشك في وصول الماء إلى بعض الاجزاء ، مع انه مقوم للموضوع عقلا ، كما ذهب إلى هذا المحققان الخراسانيّ (1)

ص: 115


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /245- الطبعة الأولى.

والأصفهاني (1). (قدس سرهما).

ولكن ثبوت ذلك محل نظر وشك ، وهو كاف في منع هذه الدعوى.

وقد مثل الشيخ رحمه اللّه لصغرى المقام - أعني : ما يشترط فيه إحراز العنوان - بالغسل ، وانه لا تجري فيه أصالة الصحة ما لم يحرز كون الفاعل بعنوان التطهير ، لأن الغسل بظاهره ليس فيه صحيح ولا فاسد.

وهذا بظاهره قد يستغرب وقوعه من الشيخ ، لأن الطهارة انما هي من آثار نفس الغسل ، إذ لا يشترط في حصولها كونه بعنوان التطهير كما لا يخفى.

ولم أجد من المحققين من تعرض لتوجيه كلام الشيخ.

وغاية ما يمكن ان يقال في هذا المجال : ان اتصاف الشيء بالصحّة والفساد لا يدور مدار ترتب الأثر وعدم ترتبه فقط ، فلا يقال للغسل الحاصل بواسطة قوة الريح وإلقائها الثوب في الماء انه صحيح لو طهر الثوب أو فاسد لو لم يطهر.

وانما يدور مدار ترتبه وعدم ترتبه مع كون الفعل صادرا بداعي ترتب الأثر ، فالغسل إذا كان صادرا بعنوان التطهير يتصف بالصحّة والفساد ، أما إذا لم يكن متحققا بهذا الداعي فلا يتصف بهما ، فمع عدم إحراز العنوان لا تحرز قابلية الفعل للاتصاف بالصحّة والفساد.

ثم ان الشيخ بعد ان تعرض إلى هذه الجهة ذكر أمرا آخر ، وهو : بيان الفرق بين مثل الصلاة على الميت ، والصلاة عنه تبرعا أو استيجارا ، أو الحج عن العاجز ، حيث حكم الأصحاب بإجراء أصالة الصحة في الأول ورتبوا عليها سقوط الوجوب عن الغير ، وعدم إجرائها في الثاني حيث اشترطوا الثقة والعدالة في النائب والمستأجر مما يكشف عن عدم اعتبارهم أصالة الصحة فيه.

وقد ذكر قدس سره لتوجيه التفريق وجهين :

ص: 116


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 318 - الطبعة الأولى.

الأول : انه في صلاة النائب لا يعلم كونه في مقام إبراء ذمة الميت في صلاته أو لا يعلم كونه في مقام الصلاة ، وإلا فمع العلم بحاله وانه في مقام الإتيان بالصلاة إبراء لذمة الميت يلتزم بالحمل على الصحة وجريان الأصل في العمل عند الشك ، والطريق إلى الوصول إلى ذلك هو العدالة بحيث يوثق بقوله ودعواه انه في مقام الإبراء.

الثاني : ان لفعل النائب الصادر بعنوان النيابة حيثيتين : إحداهما : حيثية كونه فعلا للنائب. والأخرى : حيثية كونه منتسبا إلى المنوب عنه بلحاظ جهة التسبيب ، ويترتب على الفعل باعتبار كل من الحيثيتين ما لا يترتب عليه باعتبار الأخرى.

والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من الحيثية الثانية التي هي موضوع الأثر وهو فراغ الذّمّة وعدم وجوب الإعادة.

وهذا بخلاف مثل الصلاة على الميت مما يكتفي في إسقاط الذّمّة تحقق الفعل من الغير.

وقد صار هذا الكلام محلا للنقض والإبرام بين المحققين الأعلام.

والتحقيق : انه لا محيص عن الالتزام به. وذلك لأن هاتين الحيثيتين عرضيتان ، فالفعل - بمعناه الاسم المصدري - بذاته ينتسب إلى النائب باعتباره المباشر له ، وينتسب إلى المنوب عنه بلحاظ التسبيب بالاستئجار ، فإذا شك المنوب عنه في صحة هذا الفعل المتحقق في الخارج باعتبار انتسابه إليه ، فلا مجال له لإجراء أصالة الصحة فيه كي يترتب عليه آثار الفعل الصحيح المنتسب إليه من فراغ الذّمّة ، لأنه بهذا اللحاظ فعل نفسه ، وأصالة الصحة موضوعها فعل الغير لا فعل الشخص نفسه.

نعم ، لو شك المنوب عنه في صحة الفعل باعتبار انتسابه إلى النائب بلحاظ ترتيب آثاره من استحقاق الأجرة وغيره ، أمكنه إجراء أصالة الصحة فيه ، لأنه بهذا الاعتبار فعل الغير ، ولكن الصحة من هذه الحيثية لا تثبت الصحة من

ص: 117

الحيثية الأخرى. إلا بأحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون مفاد أصالة الصحة ثبوت المشكوك تكوينا وخارجا حقيقة ، فمع جريانها بالاعتبار الأول يثبت المشكوك تكوينا فيرتفع شك المنوب عنه حقيقة ويحصل له العلم الوجداني باجتماع الاجزاء والشرائط.

الثاني : ان يكون أثر الصحة بالاعتبار الثاني في طول أثر الصحة بالاعتبار الأول ، بان يكون هذا موضوعا لذاك شرعا ، فإذا ثبت بأصالة الصحة أثر الصحة بالاعتبار الأول يترتب جزما أثر الصحة بالاعتبار الثاني.

الثالث : ان تكون الإضافة الثانية في طول الإضافة الأولى - فالطولية بين الإضافتين لا بين الأثرين - بان يكون الفعل الصادر من النائب هو موضوع الإضافة إلى المنوب عنه لا نفس الفعل بذاته ، ويكون موضوع الأثر هو فعل النائب الصحيح. وعليه فبجريان أصالة الصحة في فعل النائب يترتب الأثر المرغوب.

وجميع هذه الوجوه منتفية :

أما الأول : فواضح ، لأن مفاد أصالة الصحة هو التعبد بصحة العمل الصادر لا إثبات تحقق المشكوك تعبدا فضلا عن إثباته تكوينا وحقيقة.

وأما الثاني : فلأن دعوى كون فراغ الذّمّة - أعني : ذمة المنوب عنه الّذي هو أثر الصحة بالاعتبار الثاني - حكما من أحكام استحقاق الأجرة الّذي هو من آثار الصحة بالاعتبار الأول ، واضحة المنع.

وأما الثالث : فلأن موضوع الإضافة هو نفس العمل الخارجي ، فهو بنفسه مضاف إلى النائب ، كما انه بنفسه مضاف إلى المنوب عنه ، فالإضافتان غير طوليتين بل عرضيتين.

فإذا ثبت التعبد بصحة العمل باعتبار إضافته إلى النائب التي مرجعها إلى ثبوت آثار عمل النائب الصحيح لا غير ، لا تترتب آثار عمل المنوب عنه الصحيح ، كما لا يخفى.

ص: 118

ولكن هذا انما يتم في صورة حياة المستنيب كالنيابة في الحج عن العاجز.

أما في صورة استئجار الولي أو الوصي ، فلا مانع من جريان أصالة الصحة في العمل بلحاظ إضافته إلى المنوب عنه ، لأن الاستئجار يكون من الولي أو الوصي ، وعمل المنوب عنه بالنسبة إليهما فعل الغير ، فيكون موردا لأصالة الصحة وتترتب آثار الصحيح بالنسبة إليهما.

ثم لا يخفى ان هذا كله مبني على تفسير النيابة ، بأنها تنزيل الفاعل نفسه منزلة المنوب عنه في فعله ، بحيث يكون الفاعل وجودا تنزيليا للمنوب عنه فيكون للفعل انتسابان عرضيان.

أما لو قيل : بان النيابة ليست سوى فعل الشخص عملا لنفسه ، غاية الأمر ان نتيجة هذا العمل ترجع إلى الغير ، فيكون منوبا عنه ، فلا إشكال في كون جريان أصالة الصحة في فعل النائب بما هو فعل للنائب كافيا في فراغ ذمة المنوب عنه ، لأن فراغ ذمته أثر للعمل الصحيح الصادر من الغير ، فالتفت.

المقام الخامس : فيما يثبت بأصالة الصحة من الآثار.

والتحقيق : ان الثابت بها ليس إلاّ آثار العمل الصحيح الشرعية ، دون لوازمه وملزوماته العقلية والعادية ، كما لا يثبت بها الجزء المشكوك كي تترتب عليه آثاره. ولا يفترق الحال في هذا بين أن نقول بأن قاعدة الصحة إمارة أو أصل - كما هو الأقرب ، لاعتبارها في مورد ينتفي فيه ملاك الأمارية ، وهو مورد جهل الفاعل بالصحيح والفاسد - لما ذكرناه آنفا من أن الأمارة بنفسها ليست حجة في لوازم مفادها وملزوماته - نعم ، قد يكون قيام الأمارة على الملزوم أو اللازم منشئا لقيام إمارة من فصيلتها على اللازم أو الملزوم ، كما في الخبر ، لأن الاخبار بالملزوم اخبار باللازم وبالعكس ، فيثبتان بالأمارة الثانية ، ولكن هذا ليس من حجية الأمارة في اللوازم والملزومات - كما لا يخفى - وهذا مما لا إشكال فيه.

وانما الإشكال فيما فرّعه الشيخ رحمه اللّه على هذا من : أنه إذا شك في ان

ص: 119

الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير أو بعين من أعيان ما له ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع ، لأن كون الثمن خلا أو شاة - مثلا - ليس مفاد أصالة الصحة ، كما انه ليس من آثار الصحة شرعا ، بل هو من اللوازم العقلية ، لأن صحة البيع متوقفة عقلا على ان يكون الثمن هو هذا ، فلا يثبت بأصالة الصحة.

وقد ذكر في مقام الإشكال على هذا التفريع وجهان :

الأول : انه ان جرت أصالة الصحة في العقد الواقع بلا ان يترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري ، كان جريانها بلا أثر - إذ أثرها هو حصول النقل والانتقال وهو غير متحقق كما هو الفرض - فلا معنى لجريانها. وان ترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري بلا انتقال العين من تركته إلى البائع ، كان البيع بلا عوض وهو خلاف مفهوم البيع.

الثاني : العلم الإجمالي بكون أحد العينين ليس ملكا له ، لأنه ان وقع البيع بالخل - مثلا - فقد خرج عن ملكه. وان وقع بالخمر فالمبيع ليس ملكه. فإجراء الأصلين - أعني : أصالة الصحة ، وأصالة بقاء العين على ملكيتها للمشتري - يستلزم مخالفة قطعية للعلم الإجمالي ، وهي غير جائزة.

ولكن هذين الوجهين لا ينهضان لمنع جريان أصالة الصحة في المورد المزبور.

أما الأول : فيدفع بان الحكم بعدم انتقال الخل لا يستلزم الحكم بوقوع البيع بلا عوض ، بل يقتضي عدم ثبوت العين الخاصة ثمنا ، أما عدم ثبوت الثمن بالمرة فهذا أجنبي عن ذلك ، بل ثمن المثل ثابت في الذّمّة.

وأما الثاني : فهو أجنبي عن عدم قابلية الأصل للجريان ، إذ عدم جريان الأصل في الفرض يكون لأجل وجود المانع ، لا لأنه في نفسه غير قابل - الّذي هو محل الإشكال - ولذلك فلا مانع من جريانه فيما لو لم يكن العلم الإجمالي منجزا ، كما

ص: 120

لو كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء ، فالتفت وتأمل جيدا واللّه سبحانه ولي التوفيق.

المقام السادس : في معارضة أصالة الصحة مع غيرها من الأصول.

والكلام.

تارة : يكون في حكم الأصل بالنسبة إلى الأصل الحكمي الجاري في نفسه في جميع مواردها ، وهو أصالة عدم ترتيب الأثر وتحقق النقل والانتقال في العقود.

وأخرى : يكون في حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي الجاري في نفسه في بعض الموارد ، كأصالة عدم البلوغ عند الشك في صحة العقد وفساده من جهة الشك في البلوغ ، فان البلوغ أمر حادث فالأصل عدمه.

ثم انه حيث لم يثبت أمارية القاعدة أو أصليتها - وان لم يكن فرق بينهما من حيث عدم ثبوت اللازم والملزوم بها كما أشرنا إليه - لا بد من الكلام من الجهتين ، فيتكلم في حكمها بناء على الأمارية ، كما يتكلم في حكمها بناء على الأصلية.

أما نسبتها مع الأصل الحكمي ، فهما في رتبة واحدة لاتحاد موردهما ، فأصالة الصحة معناها ترتب الأثر ، كما ان أصالة الفساد معناها عدم ترتب الأثر.

فان قلنا بأنها أمارة ، سواء أثبتت اللازم أو لم تثبته ، تكون مقدمة على الأصل الحكمي بالورود - كما حققناه - وإلاّ فبالتخصيص لا بالحكومة ، وان كانت قول المشهور. وعلى كل فهي مقدمة عليه لا محالة ، لأنها رافعة لموضوعه اما تكوينا - كما هو مبنى الورود - أو تنزيلا - كما هو مبنى الحكومة -.

وان قلنا بأنها أصل ، فمقتضى القاعدة التي تقتضيها الصناعة هو تعارضهما وتساقطهما ، لكن الاتفاق تم على تقدم أصالة الصحة ، إما للزوم اللغوية - لأن أكثر مواردها بل كلها يوجد فيها أصل حكمي ، فيلزم من سقوطها تخصيص الأكثر وهو قبيح - أو للزوم اختلال النظام ، أو لقيام سيرة المتشرعة على جريانها في مثل هذه الموارد.

ص: 121

وأما حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي ..

فان قلنا بأنها إمارة وهي تثبت اللازم والملزوم ، كانت حاكمة على الأصل أو واردة عليه - على الخلاف الّذي عرفته - لأن قيامها على الصحة يثبت تحقق الموضوع المشكوك ، فلا يبقى مجال للأصل النافي لقيام الأمارة في مورده.

وان قلنا بأنها أمارة ، ولكن لا تثبت اللوازم والملزومات ..

فقد يتوهم : تقدم الأصل عليها ، حيث أنه أصل موضوعي وهي أمارة حكمية ، وما هو في رتبة الموضوع - ولو كان أصلا - مقدم على ما هو في رتبة الحكم - ولو كان أمارة -.

ولكنه توهم فاسد ، لأنه انما يتم إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع - أعني : ثبوت الحكم للموضوع بنحو القضية الحقيقية - فان الأصل الجاري في رتبة الموضوع ينقح الموضوع فيتقدم عليها.

أما إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم في مورد الشك في الموضوع - كما فيما نحن فيه - لم يكن الأصل الجاري في الموضوع مقدما عليها ، لأنه وان رفع الشك تعبدا ، ولكنه - أعني : الشك - لم يؤخذ في موضوع الأمارة كي ينتفي موضوعها بجريانه ، بل هو مأخوذ بنحو الموردية.

وعليه ، فالأمارة في نفسها لا مانع من جريانها. كما ان الأصل الموضوعي يترتب عليه نفي ترتب الأثر ، فيتعارضان والنتيجة هي التساقط.

وان قلنا بأنها أصل لم يكن شك - بمقتضى القواعد الصناعية - في تقدم الأصل الموضوعي عليها لرفعه لموضوعها كما لا يخفى.

ولكن الصناعة وان كانت على هذين القولين تقتضي عدم جريان أصالة الصحة فعلا. ولكن الالتزام بها في هذه الموارد قول الأصحاب ، وعللوه : بلزوم اللغوية والسيرة العقلائية. وكلا التعليلين غير صالحين لإسناد القول المذكور.

أما لزوم اللغوية فلأن دليل أصالة الصحة ليس لفظيا كي يقال بأنه يلزم من

ص: 122

نفي أصالة الصحة في هذه الموارد استعمال المطلق في الفرد النادر.

وأما السيرة العقلائية ، فلأنها انما تكون حجة لو لم يردع عنها. ويمكن ان يكون الشارع قد اكتفي في مقام الردع بهذه الأصول النافية للترتب الأثر ، فلا دليل على حجيتها. نعم ، الّذي يمكن التمسك به في إثبات القول المذكور هو قيام سيرة المتشرعة بما هم متشرعة على التمسك بأصالة الصحة في هذه الموارد. فتدبر.

هذا بالنسبة إلى أصل المطلب. يبقى الكلام في كلام الشيخ بالنسبة إلى الأصل الموضوعي ، فقد اضطربت نسخ الرسائل في نقل كلام الشيخ ووقع الخلط فيها بين كلامه وكلام السيد الشيرازي (قدس سرهما). والّذي نقله المحقق الأصفهاني عن الشيخ يخالف ما في النسخ بالمرة ، فقد نقل كلاما له والسيد الشيرازي وذكر ان الشيخ صحح كلام السيد الشيرازي كما رآه بخطه الشريف.

أما ما نقله عن الشيخ ، فمحصله : ان أصالة الصحة تقتضي صحة العقد ، بمعنى جامعيته للشرائط التي منها البلوغ - مثلا - فيترتب عليها النقل والانتقال. والاستصحاب يقتضي - بضميمة الجزء الآخر المحرز بالوجدان وهو العقد - عدم ترتب الأثر لتمامية موضوع الفساد ، وهو العقد الصادر من غير البالغ. فيتعارض الأصلان.

ثم اعترض على هذه المعارضة : بأن الأثر يترتب على العقد الصادر من البالغ ، فنفي هذا الأثر بإثبات ضد السبب يكون بالملازمة ، لأن عدم الأثر بعدم السبب لا بوجود ضد السبب ، فيبقى الاستصحاب بلا أثر فلا يجري فتبقى أصالة الصحة بلا معارض.

ثم عدل عن هذا الأصل - أعني : أصالة عدم البلوغ - إلى أصل آخر وهو أصالة عدم السبب الناقل ، أو أصالة عدم صدور العقد من البالغ الّذي هو موضوع عدم الأثر - كما مر - فتتحقق المعارضة بين الأصلين ، لأن أحدهما ينفي الأثر والآخر يثبته.

ولكنه قدس سره أجاب عن هذه المعارضة : بان أصالة عدم السبب

ص: 123

بالنسبة إلى نفي الأثر من باب اللااقتضاء ، لأن عدم السبب انما لا يقتضي وجود المسبب لا انه يقتضي عدمه. وأصالة الصحة بالنسبة إلى إثبات الأثر من باب الاقتضاء ، لأنها تثبت مقتضى الأثر ، ولا مزاحمة بين ما له الاقتضاء وما لا اقتضاء له. وعليه فتجري أصالة الصحة بلا مزاحم ولا معارض وتتقدم على الأصل الموضوعي.

هذا ما نقله عن الشيخ قدس سره (1).

والإشكال على ما ذكره أخيرا واضح ، لأن ما يتكفل لبيان شيء بنحو اللااقتضاء وما يتكفل لبيان ضده بنحو الاقتضاء لم يثبت كون تنافيهما من باب التزاحم ، كي يقال بعدم المزاحمة ، بل سيأتي انه من باب التعارض. وعلى تقدير كونه من باب التزاحم فهما انما لا يتزاحمان فيما لو لم يكن في الدليل الدال على الأمر اللااقتضائي اقتضاء للااقتضاء. أما مع وجود المقتضى للاقتضاء يحصل التزاحم طبعا. وما نحن فيه كذلك ، لأن التعبد بالأصل انما يكون بلحاظ وجود المصلحة في المتعبد به والمقتضي لثبوته ، فالامر اللااقتضائي الثابت بالاستصحاب له مقتضي قهرا فيحصل التزاحم.

واما ما ذكره عن السيد الشيرازي (2) ، فحاصله : ان المراد بالصحّة في أصالة الصحة إن كان نفس ترتب الأثر ، فلا إشكال في تقدم أصالة عدم البلوغ عليها ، لأن الشك في ترتب الأثر يكون ناشئا عن الشك في بلوغ العاقد ، والأصل المذكور يرفعه تعبدا كما هو شأن كل أصل سببي مع الأصل المسببي. وان كان بمعنى استجماع الشرائط التي منها البلوغ ، يحصل التعارض بين الأصلين بلا حكومة لأحدهما على الآخر ، لأن أصالة الصحة مقتضاها صدور العقد من البالغ ، ومقتضى الاستصحاب - بضميمة الجزء الآخر - صدوره من غير البالغ.

وبعد ان ذكر هذا اعترض على هذه المعارضة : بان مفاد أصالة الصحة هو

ص: 124


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 323 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 323 - الطبعة الأولى.

التعبد بوجود العقد الصحيح ، ومفاد الاستصحاب التعبد بعدم سببية العقد الموجود ، ولا تقابل الا بين وجود العقد الصحيح وعدمه ، أو بين سببية العقد الموجود وعدمها.

وهذا الاعتراض مجمل المفاد ويحتمل فيه وجوه ثلاثة :

الأول : ما ذكره الشيخ من كون الاستصحاب من الأصول المثبتة ، لأن نفى الأثر المترتب على الضد بإثبات الضد الآخر يكون بالملازمة.

الثاني : ان الأثر انما يترتب على وجود العقد الصحيح ، فنفي صحة العقد الواقع لا تستلزم نفي ترتب الأثر ، بل الّذي يستلزم هو نفي العقد الصحيح ، وهو غير مفاد الاستصحاب.

الثالث : اختلاف مورد الأصلين ، فان المعارضة بين الأصلين انما تكون إذا كان موردهما واحدا ، وأما مع تعدد موردهما ، فلا يحصل بينهما التعارض. ومورد الاستصحاب هو عدم سببية العقد الموجود ، ومورد أصالة الصحة هو وجود العقد الصحيح ، فمورد كل منهما يختلف عن الآخر ، فلا تعارض بينهما.

وهذا الوجه هو الّذي حمل عليه المحقق الأصفهاني عبارة السيد ، مستشهدا على ذلك بما ذكره السيد في مقام دفع هذا الاعتراض ، بان مفاد أصالة الصحة ليس هو التعبد بوجود العقد الصحيح ، بل هو التعبد بصحة العقد الواقع ، فيتحد مورد النفي والإثبات ، فيحصل التعارض.

وعليه ، فالسيد التزم بالمعارضة بين أصالة الصحة والاستصحاب الموضوعي الجاري في المقام.

وعليه ، فمقتضى الصناعة تساقط الأصلين ، ولكن سيرة المتشرعة قائمة على العمل بأصالة الصحة في هذه الموارد كما ذكرنا. فتدبر جيدا واللّه ولي التوفيق. انتهى الكلام في أصالة الصحة (1) والكلام بعده في :

ص: 125


1- وذلك في يوم الأربعاء 19 / 8 / 82.

ص: 126

قاعدة الفراغ والتّجاوز

اشارة

ص: 127

ص: 128

قاعدة الفراغ والتجاوز

اشارة

والكلام فيها في جهات :

الجهة الأولى : في أنها قاعدة أصولية أو قاعدة فقهية.

لا إشكال في كونها قاعدة فقهية ، لأن جميع التعاريف للمسألة الأصولية بشتى أنواعها تشترك في كون مورد المسألة الأصولية هو الشبهة الحكمية ، ومورد القاعدة التي نحن بصددها انما هو الشبهة الموضوعية كما لا يخفى ، فلو انطبقت جميع خصوصيات المسألة الأصولية على القاعدة لما استلزم كونها مسألة أصولية لكون موردها هو الشبهة الموضوعية.

هذا ولكن تقدم تعريف المسألة الأصولية بما لا يختص إجراؤه بالمجتهد ، بل بما يعم حكمه الشبهة الموضوعية ، فراجع.

إلاّ ان يراد من بيان ضابط المسألة الأصولية بيان الضابط لمسائل معينة

ص: 129

حررت لغرض الاستنباط ، فلا تشمل مسائل الشبهة الموضوعية والأمر سهل.

الجهة الثانية : ان الشك تارة : يكون متعلقا بوجود الشيء ، وأخرى : يتعلق بصحة العمل الموجود والأول مورد قاعدة التجاوز والثاني مورد قاعدة الفراغ فما يتكفل الإلغاء حكم هذين الشكين هل هو قاعدة واحدة أو قاعدتان؟. وقع الكلام ، في ذلك ، وهو يقع في مرحلتين : مرحلة الثبوت ، ومرحلة الإثبات.

أما مرحلة الثبوت فالكلام فيها يقع في إمكان كون ما يتكفل إلغاء الشكين قاعدة واحدة.

وقد بين في وجه عدم إمكان كونه قاعدة واحدة تقريبات متعددة :

أحدها : ان متعلق الشك الأول وجود الشيء ، وهو مفاد كان التامة ، ومتعلق الشك الثاني صحة الموجود ، وهو مفاد كان الناقصة. وهما - أعني : نسبة كان التامة ونسبة كان الناقصة - نسبتان متغايرتان لا جامع بينهما ، كي يمكن بيان حكمهما بدليل واحد.

ولكن نسب إلى الشيخ قدس سره المناقشة في هذا التقريب ببيان : انه يمكن إرجاع الشك في صحة العمل الموجود إلى الشك فيها بمفاد كان التامة ، وذلك بان يكون الشك في وجود العمل الصحيح ، وهو مفاد كان التامة ، فكلا المتعلقين بهذه النسبة ، فيمكن بيان حكم الشكين بدليل واحد ، لإمكان الجامع (1).

ولكن المحقق العراقي رحمه اللّه (2) ، أورد على الشيخ : بان مورد الأثر

ص: 130


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /414- الطبعة القديمة.
2- التحقيق ان ما أفاده قابل للمناقشة ، فان الأثر العملي يترتب على مجرد وجود العمل الصحيح ، سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات. وأما في المعاملات: فقد يشكل بان إحراز وقوع العقد الصحيح لا ينفع في ترتب الأثر ، بل لا بد من إحراز ان هذا العقد صحيح. وفيه : انه يكفي في ترتب الأثر إحراز وقوع البيع الصحيح على العين الكذائية بين الشخصين ، لأن مقتضاه انتقال كل من العينين إلى مالك الأخرى. ولا حاجة إلى إحراز صحة العقد الواقع. واما ما ذكره قدس سره من مثال قضاء السجدة المنسية وبيان ترتب الأثر فيه على إحراز صحة العمل الواقع ، ولا يكفي مجرد وقوع العمل الصحيح. ففيه : ان دليل لزوم قضاء السجدة لم يقيد بما إذا كانت الصلاة صحيحة ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، وانما اعتبر صحة العمل في لزوم القضاء من جهة استظهار ورود الأمر بالقضاء لتصحيح العمل ، فلا يثبت الأمر به مع فساد العمل للغويته. ولا يخفى ان اللغوية ترتفع في ما إذا ترتب على القضاء فراغ الذّمّة والقطع بالامتثال ولو لم يحرز ان هذا العمل صحيح ، وما نحن فيه كذلك ، فانه إذا ثبت بالقاعدة المبحوث عنها وجود الصلاة الصحيحة وجاء المكلف بالسجدة بعد العمل الّذي في يده ، يحرز فراغ ذمته. بخلاف ما إذا ترك القضاء ، فانه لا يقطع بفراغ الذّمّة ، فالأثر لا ينحصر بصورة إحراز صحة العمل الموجود بمفاد كان الناقصة ، بل يترتب على إحراز وجود الصحيح بمفاد كان التامة.

يختلف ، فتارة : يكون موضوعه وجود الشيء بمفاد كان التامة. وأخرى : يكون اتصاف شيء بشيء بنحو مفاد كان الناقصة. فإرجاع الشك في الصحة إلى الشك بنحو مفاد كان التامة لا يجدي في ترتب الأثر المرغوب ، حيث أخذ مورد الأثر الشك في اتصاف العمل بالصحّة ، وهو مفاد كان الناقصة (1).

كما أورد عليه المحقق الأصفهانيّ قدس سره : بان العمل الصحيح المأخوذ وجوده في موضوع الشك إما ان يكون بالإضافة إلى الصحة مطلقا ، بمعنى انه لا يلحظ فيه كونه صحيحا ، بل يلحظ الشك في وجوده فيرجع إلى القسم الأول من الشك. واما ان يكون بالإضافة إليها مقيدا ، بان يلحظ العمل المتصف بالصحّة

ص: 131


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 38 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فيكون بنحو مفاد كان الناقصة. كما انه لا يمكن ان يكون مهملا ، لامتناع الإهمال في مقام الثبوت.

ولكنه قدس سره أفاد في مقام التفصي عن هذا الإشكال - أعني : إشكال اختلاف النسبتين - مع التزامه بان مورد الأثر الشك في الصحة : ان الصحة المشكوكة تارة تلحظ بمفاد كان التامة. وأخرى تلحظ بمفاد كان الناقصة. فان لوحظ في مورد الشك وجود الصحة بلا لحاظ اتصاف عمل خاص بها ، كان ذلك بمفاد كان التامة. وان لوحظ وجود اتصاف عمل بها ، بان لوحظت وصفا لعمل خاص كانت بمفاد كان الناقصة. وعليه فلا ملزم للالتزام بان الملحوظ في هذا القسم هو اتصاف العمل بالصحّة ، بل ليس هو إلاّ صحة العمل فانه مورد الأثر ، فيمكن لحاظه بمفاد كان التامة.

وعليه ، فلا مانع للجمع بين القاعدتين من جهة تباين نسبتيهما ، لاتحادهما ذاتا (1).

ثانيها : ما ذكره المحقق الأصفهاني بعد تفصيه عن إشكال تباين النسبتين بما عرفت وهو : انه لا جامع بين الشك في وجود الشيء والشك في صحة الشيء كي يتكفل بيان حكمهما دليل واحد (2).

وربما يقال : انه يمكن تصوير الجامع بان يكون عنوان المشكوك ، فيتكفل الدليل إلغاء الشك ، والبناء على تحقق المشكوك وثبوته أعم من نفس العلم وصحته.

ويشكل على هذا : بان موضوع الكلام تصوير الجامع في مرحلة متقدمة على الشك ، فالمطلوب تصوير الجامع في متعلق الشك ، بحيث يكون الدليل متكفلا لبيان إلغاء الشك فيه فيعم القسمين ، وهو لا يتصور بين الصحة والوجود.

وللمحقق الأصفهاني بيان لإمكان تصوير الجامع وعدم مانعية ما ذكره من

ص: 132


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية3/ 296 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية3/ 296 - الطبعة الأولى.

اختلاف متعلق الشك وعدم الجامع له ، محصله : ان الصحة التي تكون متعلقا للشك ويكون الشك فيها موردا للقاعدة ، تارة : تكون بمعنى ترتب الأثر. وأخرى : تكون بمعنى استجماع العمل للاجزاء والشرائط وثالثة : تكون عنوانا انتزاعيا للاستجماع.

فإن كان المراد بها الأول والثالث ، كان ما ذكر من عدم تصور الجامع بين المتعلقين مسلما كما لا يخفى. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس مفاد القاعدة المتكفلة لإلغاء الشك ترتب الأثر ولا العنوان الانتزاعي ، إذ ليس هو موضوعا للأثر ، بل مفادها استجماع العمل للشرائط والاجزاء الّذي هو موضوع الآثار الشرعية والعقلية ، فيرجع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الكل ، فيكون متعلق الشك بقسميه هو الوجود - وان اختلف موضوعه ، حيث انه تارة يكون الكل وأخرى يكون الجزء - وذلك كاف في تحقق الجامع (1).

ولكن ما أفاده قدس سره لا يجدي شيئا ، لما أشار إليه المحقق العراقي (2) من : ان موضوع الأثر قد يكون صحة العمل الخارجي لا وجود العمل التام وتحققه في الخارج ، فرجوع متعلق الشك إلى وجود الكل ، بحيث يكون مفاد القاعدة وجود الكل لا كلية الموجود. لا يتلاءم مع ما ذكرناه من كون موضوع الأثر في بعض الموارد تمامية الموجود لا وجود التام.

هذا ، ولكن بعد ان أرجعت الصحة إلى مفاد كان التامة ، بحيث اتحد المتعلقان نسبة ، فما ذكر من عدم تصور الجامع بالتقريب الثاني لا مجال له ، إذ يمكن تصور جامع عنواني يشار به إلى كلتا الصورتين - لأنه لا يلزم كونه جامعا حقيقيا ذاتيا - كلفظ الموصول ، أو لفظ : « شيء » ، فيقال مثلا : « إذا شككت في وجود شيء فابن على وجوده » أو : « كل ما شككت في وجوده فابن عليه » ، فانه يعم الشك في وجود

ص: 133


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية3/ 296 الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد حسين. نهاية الأفكار4/ 38 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ذات العمل ووجود صحة العمل فانها شيء من الأشياء.

ثالثها : ان متعلق أحد الشكين أصل وجود الشيء ومتعلق الآخر صحة الشيء مع الفراغ عن أصل وجوده. فالشيء في أحدهما مفروض الوجود وفي الآخر ليس بمفروضه ، ولا جامع بين ما هو مفروض الوجود وما هو ليس بمفروضه.

ولكن هذا التقريب غير تام كأخويه السابقين ، لأنه بعد ان عرفت ان إمكان أخذ متعلق كلا الشكين بمفاد كان التامة ، فلا ملزم حينئذ لأخذ فرض الوجود في أحدهما بل هو غير ملحوظ أصلا ، لأنه فرع كون المأخوذ مفاد كان الناقصة ، بحيث يكون أصل الوجود مفروغا عنه والشك فيما يتعلق به من الصحة. أما مع أخذ المتعلق هو الصحة بمفاد كان التامة ، فلا تصل النوبة إلى أخذ فرض الوجود في المتعلق ، إذ لا معنى له.

نعم ، العمل في المورد مفروض الوجود ، ولكن ذلك أجنبي عن متعلق الشك.

رابعها وخامسها : ان الجزء لما كان في مرحلة جزئيته مندكا في الكل فلا يلاحظ مع لحاظ الكل إلاّ بنحو الاندكاك وباللحاظ الآلي ، وانما يلاحظ بالاستقلال في مرحلة سابقة عن لحاظ الكل ، فلحاظه الاستقلالي سابق رتبة على لحاظه الآلي.

فإذا أريد بيان حكم الشك في الكل والجزء بدليل واحد ، فلا بد من لحاظهما معا بنحو الاستقلال ، فيلزم حينئذ اجتماع لحاظين للجزء أحدهما آلي والآخر استقلالي ، كما ويلزم تأخر المتقدم رتبة وهو اللحاظ الاستقلالي كما لا يخفى. وكلا هذين الأمرين ممتنعان.

وقد تفصى المحقق النائيني قدس سره عن ذلك بما محصله : ان الشك في الاجزاء لم يلحظ في جعل القاعدة الواحدة كما لوحظ نفس المركب ، وانما المجعول ابتداء هو عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن العمل ، ثم قامت الأدلة الخاصة على اعتبار القاعدة في موارد الشك في الاجزاء ، فهي حاكمة على الأدلة الأولية.

ص: 134

فلو لا قيام الأدلة الخاصة لاختص مورد القاعدة بالشك بعد الفراغ ، ولذلك يقتصر في التعدي إلى الاجزاء بمقدار ما قام الدليل بالنسبة إليه.

ومن هنا يظهر الوجه في خروج اجزاء الطهارات الثلاث عن موضوع القاعدة ، لاختصاص الأدلة باجزاء الصلاة ، فلا يتعدى منها إلى غيرها لعدم الدليل على إلحاقها بها ، كما انها ليست بداخلة « تحت خ ل » في ضمن الدليل الأولي.

ولا حاجة بعد هذا إلى تعليل خروجها بورود تخصيصها بالأخبار أو الإجماع.

هذا ملخص ما أفاده المحقق المذكور قدس سره . ووجه التفصي به واضح بين ، إذ الملحوظ ابتداء ليس إلاّ الكل فلا يجتمع لحاظان كما لا يلزم تأخر المتقدم (1).

ولكنه غير تام ، لأن الدليل الحاكم المتكفل لبيان اعتبار القاعدة في الاجزاء ..

ان كان لسانه ومفاده هو الكشف عن أن المراد بموضوع الحكم في الدليل الأولي أعم من الجزء والكل ، فيكون مفاده إخباريا ، ويثبت للجزء نفس الحكم الثابت للكل بدليله ، عاد المحذور بالنسبة إلى الدليل الأولي - كما لا يخفى - وان كان مفاده تنزيل الجزء منزلة الكل في الحكم بجعل حكم مماثل له ، كان ذلك التزاما بتعدد القاعدة ، وهذا يعني الالتزام بالمحذور.

وبالجملة : فما ذكره قدس سره إما لا يجدي في دفع المحذور ، أو يرجع إلى الالتزام بالمحذور.

فالأولى في التفصي عنه أن يقال : ان المحذور انما يرد لو كان الملحوظ عند جعل القاعدة نفس الجزء والكل ، ولكن لحاظ المصاديق بخصوصياتها في جعل الحكم عليها غير لازم - كما هو الحال في القضايا الحقيقية - بل هو غير ممكن

ص: 135


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 232 - الطبعة الأولى.

بالنسبة إلى بعض الموارد لعدم تناهي المصاديق أو تميزها فيها ، بل يكفي في جعل الحكم على المصاديق من لحاظها بعنوانها المنطبق عليها - كما يقرر ذلك في بيان الوضع العام والموضوع له الخاصّ - والحكم عليها بواسطة العنوان ، فيكون موضوع الحكم هو العنوان وهو الملحوظ دون المصاديق.

وعلى هذا فلا ملزم للحاظ الجزء والكل بأنفسهما عند جعل القاعدة ، بل مع لحاظ جامعهما العنواني وهو لفظ : « الشيء » مثلا وجعله موضوع الحكم فيها.

وعليه ، فلا يبقى لما ذكر مجال ، لوحدة اللحاظ وعدم تعدده ، كي يلزم ما ذكر من اجتماع اللحاظين وتأخر السابق لعدم لحاظ الجزء ولا الكل بأنفسهما.

سادسها : ما ذكره الشيخ في التنبيه الرابع لا بعنوان المحذور (1) ، ولكن المحقق النائيني ذكره محذورا يتحقق من وحدة القاعدة ، وهو محذور التدافع.

ومحصل ما ذكره قدس سره : انه إذا شك في الإتيان بالجزء في أثناء العمل بعد التجاوز عن محله ، فباعتبار لحاظ الجزء بنفسه يصدق انه تجاوز عن محله فلا يعتنى بالشك وباعتبار لحاظ المركب بما هو يصدق انه لم يتجاوزه فيجب عليه التدارك. فيلزم التدافع في مفاد القاعدة بلحاظ الاعتبارين.

وبعد ان ذكر هذا ، أورد على نفسه : بان التدافع حاصل على القول بتعدد القاعدة ، فانه بمقتضى قاعدة التجاوز لا يعتني بالشك لحصول التجاوز عن محل المشكوك ، وبمقتضى قاعدة الفراغ يعتني بالشك لعدم حصول التجاوز عن المركب.

وأجاب عنه : بأنه مع تعدد الجعل تكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ ، لأن الشك في صحة العمل وفساده مسبب عن الشك في الإتيان بالجزء ، والمفروض ان الشك السببي يلغى بقاعدة التجاوز فينتفي موضوع قاعدة الفراغ تعبدا ، وهو الشك في الصحة والفساد.

ص: 136


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /412- الطبعة القديمة.

ثم أورد على نفسه : بأنه لا فرق في حكومة أحد الأصلين على الآخر بين ان يكونا مجعولين بجعلين - كما هو الحال في الاستصحاب والبراءة - أو بجعل واحد - كحكومة أحد الاستصحابين على الآخر -. فمع شمول القاعدة لمورد قاعدة التجاوز - وهو الشك في الجزء بعد التجاوز عنه - تتحقق الحكومة بلا فرق بين الجعل الواحد والجعلين.

وأجاب عنه : بان حكومة أحد الأصلين على الآخر - المجعولين بجعل واحد - تتوقف على تحقق موردهما في حد أنفسهما ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لأن جريان قاعدة الفراغ يتوقف على الانتهاء من العمل ، وهو غير متحقق لفرض الشك في الأثناء ، فلا موضوع لقاعدة الفراغ كي يقال بحكومة قاعدة التجاوز عليها ، بل المتحقق فيه عكسها. فالمورد باعتبار يدخل في القاعدة ، وباعتبار آخر يدخل في عكسها ، ولا وجه لدعوى الحكومة في مثل هذا.

هذا ملخص ما أفاده في تقريب المحذور (1).

ولكنه لا يرجع إلى محصل ، لأن التدافع المدعى ..

ان كان بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ ، فالمفروض انه لا موضوع لقاعدة الفراغ ، لكون الشك في أثناء العمل - وبذلك قرر عدم الحكومة - فليس في البين إلاّ قاعدة التجاوز.

وان كان التدافع بين منطوق القاعدة ومفهومها بلحاظ الاعتبارين ، فإذا كان المورد - بلحاظ الجزء - مشمولا للقاعدة الواحدة المجعولة - لأنه مورد قاعدة التجاوز المفروض شمول القاعدة لمواردها لأنها قاعدة جامعة - يندفع التدافع بالحكومة ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في وجود الجزء كما عرفت ، فجريان القاعدة بلحاظ الجزء يوجب انتفاء الشك بلحاظ الكل تعبدا.

ص: 137


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 465 - الطبعة الأولى.

هذا ، مع انه يمكن ان يقال : بعدم وصول النوبة إلى الحكومة ، وذلك لأنه سيأتي في دفع المحذور السابع : انه قد أخذ التجاوز في مورد القاعدة - بناء على وحدتهما - بالمعنى الأعم من الحقيقي - المتحقق في الشك في الصحة - والادعائي المسامحي - المتحقق في الشك في الوجود على ما سيظهر - فمورد الحكم بالتعبد هو التجاوز بالمعنى الأعم ، ومقتضى ذلك انه إذا تحقق التجاوز بأي معنى كان يتحقق موضوع التعبد والحكم بإلغاء الشك ، والمفروض ان التجاوز بأحد معنييه - وهو المسامحي - متحقق في الفرض فيتحقق موضوع القاعدة ، وتجري بلا إشكال ولا تدافع. فالتفت.

سابعها : ان اسناد التجاوز إلى الشيء في مورد قاعدة التجاوز اسناد مجازي مسامحي ، لأن الشيء لا يعلم تحققه كي يتجاوز عنه ، وانما يسند حقيقة في هذا المورد إلى المحل. واسناده إلى الشيء في مورد قاعدة الفراغ اسناد حقيقي لتحقق العمل خارجا فيصدق التجاوز عنه حقيقة ، فنسبة التجاوز إلى الشيء في أحد الموردين مجازية وفي الآخر حقيقية ، وحيث لا جامع بين النسبتين - لأن النسبة من المعاني الحرفية - امتنع تكفل دليل واحد لبيان حكم الموردين بالنسبة إلى المتجاوز عنه.

ويمكن التخلص من محذور هذا التقريب بان اختلاف النسبتين انما يتحقق في صورة ما إذا أريد من التجاوز في كلا الموردين معناه الحقيقي الموضوع له ، فان اسناده إلى الشيء يختلف حقيقة ومجازا باختلاف الموردين.

اما إذا أرجعنا المسامحة في الإسناد المتحققة في مورد قاعدة التجاوز إلى المسامحة في الكلمة ، بان التزمنا في التجاوز بمعنى أعم ، بحيث يكون اسناده إلى الشيء في هذا المورد بهذا المعنى حقيقيا. لم تختلف النسبتان حينئذ.

وبالجملة : التخلص عن المحذور يكون بالالتزام بمعنى للتجاوز أعم من معناه الحقيقي ، بحيث يكون اسناده إلى الشيء في كلا الموردين بهذا المعنى حقيقيا ، فيرجع

ص: 138

المجاز إلى الكلمة لا الإسناد ، فانه بذلك لا اختلاف بين النسبتين ، فيمكن تكفل دليل واحد لحكمهما معا.

وبهذا جميعه تبين انه لا مانع ثبوتا من الجمع بين القاعدتين ووحدتهما ، إذ لم يتم شيء من هذه المحذورات المذكورة كما عرفت.

وفي قبال القول بعدم إمكان وحدتهما ثبوتا القول بلا بدية وحدتهما ثبوتا ، ورجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز. بتقريب : ان الشك في صحة العمل ينشأ دائما عن الشك في وجود جزء أو شرط في ذلك العمل باعتبار ان الصحة عبارة عن الوصف الانتزاعي المنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به. وقاعدة التجاوز تتكفل إلغاء الشك في وجود الشيء بعد تجاوز محله ، فيرتفع الشك في الصحة تعبدا ، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا يكون لغوا (1).

ولكنه محل نظر ، لأن قاعدة الفراغ تجري في موارد لا تجري فيها قاعدة التجاوز ، كما لو شك بعد الفراغ من الصلاة في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة أو كلمات الآية ، فان مثل هذا الموالاة لا تعد عرفا وجودا مستقلا يتعلق به الشك ويكون الشك فيه موضوعا للتعبد بإلغائه ، كي يكون الشك فيها من موارد قاعدة التجاوز ، بل الشك فيها يرجع في نظر العرف إلى الشك في صحة الكلمة أو الآية - لأنها بنظره من شئونهما وأطوارهما - ، ففي مثل هذا المورد لا يكون الشك في صحة الصلاة مسببا عن الشك في وجود شيء كي يكون محكوما بقاعدة التجاوز ومرتفعا بها تعبدا.

وأيضا : يعتبر في قاعدة التجاوز - كما سيتضح - الدخول في الغير المترتب على المشكوك ، وهذا لا يعتبر في قاعدة الفراغ ، بل المعتبر فيها هو البناء النفسيّ على الانتهاء من العمل ، سواء دخل في الغير أم لم يدخل. وبذلك يتعدد موردهما أيضا

ص: 139


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 271 - الطبعة الأولى.

ولا يتحد كي ترجع الثانية إلى الأولى للحكومة ولزوم اللغوية ، وذلك كما يظهر في مثل ما لو شك بعد الفراغ من العمل في الجزء الأخير منه ولم يكن قد دخل في عمل آخر مترتب عليه ، فانه لا مجال في مثل هذا لجريان قاعدة التجاوز لعدم توفر شرطها مع انه مورد لقاعدة الفراغ.

والمتحصل : ان ما ذكر انما يتم لو كانت موارد قاعدة الفراغ كلها أو الأغلب منها قابلة لجريان قاعدة التجاوز ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان هناك موارد جمة تكون مجرى لقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز ، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا لا يكون لغوا.

هذا ، مع أن الحكومة انما تثبت في موارد السببية والمسببية الشرعية وليس ما نحن فيه كذلك ، لأن الصحة ليست من الآثار الشرعية لوجود الجزء بل هي معنى انتزاعي يحكم به العقل ، وليس مجعولا شرعيا فالأصل الجاري في إثبات الجزء لا يكون حاكما على الأصل الجاري في إثبات الصحة ، فلاحظ ولا تغفل.

هذا كله في مقام الثبوت ، الّذي بقين منه : انه يمكن ثبوتا أن يكون كل من القاعدتين قاعدة مستقلة بنفسها ، كما يمكن كونهما قاعدة واحدة ، كما يمكن رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ - كما عليه المحقق النائيني - وهناك احتمال آخر وهو عدم وجود قاعدة التجاوز بالمرة وانه ليس إلا قاعدة الفراغ ، فالاحتمالات أربعة.

وأما الكلام في مقام الإثبات ، فهو حول ما يتكفله الدليل من تعيين أحد هذه الاحتمالات الأربعة ، فنقول - وباللّه الاعتصام -.

أما الاحتمال الثاني - وهو كونهما قاعدة واحدة - فلا يساعد عليه الدليل ، لأنه مبني - كما عرفت - على الالتزام بالتوسع في معنى التجاوز وكونه أعم من المعنى

ص: 140

الحقيقي ، وهذا لا مجال له بالنسبة إلى بعض النصوص (1) ، مما يمكن ان تكون نسبة التجاوز والمضي فيها إلى الشيء بمعناه الحقيقي نسبة حقيقية ، فانه مع إمكان حمل اللفظ على ظاهره اللغوي لا وجه للتصرف فيه وحمله على غير معناه الموضوع له.

وأما الاحتمال الثالث - وهو رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ بالتقريب السابق الّذي ذكرناه في دفع المحذور الرابع من كون المجعول أولا هو قاعدة الفراغ ثم نزل الشك في وجود الجزء منزلة الشك في الكل في خصوص باب الصلاة - فهو ممتنع من جهتين.

الأولى : عدم اختصاص قاعدة التجاوز موردا بالصلاة ، بل تجري في غيرها كما ستعرف.

الثانية : انه مع تسليم الاختصاص بالصلاة ، فلا دليل على ان ذلك - أعني عدم الاعتناء بالشك في الجزء فيها - كان من باب التنزيل أو الحكومة ، كما قرره قدس سره ، كي يرجع الجعل إلى قاعدة واحدة هي قاعدة الفراغ ، إذ لا ظهور من لفظ النصوص في ذلك.

هذا ، ويمكن ان يقرب ما أفاده قدس سره : ان الروايات الواردة في إلغاء الشك في اجزاء الصلاة مذيلة بحكم عام ، كقوله علیه السلام في رواية زرارة الآتية : « إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (2) ، وقوله في رواية إسماعيل الآتية : « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (3). وهذا الحكم العام ظاهر في كون موضوعه الشك في الصحة لا الوجود ، كما هو مقتضى لفظ التجاوز والمضي على المشكوك والخروج منه فان جميع ذلك ظاهر في كون الشيء مفروغا عن وجوده ، وإنما الشك في شأن من شئونه وهو

ص: 141


1- كقوله علیه السلام : كل شيء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.
2- وسائل الشيعة 5 / 336 باب : 23 من أبواب الخلل ، الحديث : 1.
3- وسائل الشيعة 4 / 971 باب : 15 من أبواب السّجود ، الحديث 4.

الصحة.

وإذا تم هذا ، يظهر ان تطبيق هذا الحكم على المصاديق المذكورة في الصدر لا يكون إلا من باب تنزيل الشك فيها منزلة الشك في الصحة ، وهو مما يقتصر فيه على مورده المتيقن وهو خصوص اجزاء الصلاة.

هذا غاية ما يمكن ان يوجّه به ما أفاده قدس سره ، لكن يرد عليه : ان الذيل إذا كان ظاهرا في كون الموضوع هو الشك في الصحة فالتحفظ عليه يستلزم التصرف في ظهور الصدر وحمل المصاديق المذكورة فيه على بيان مصاديق الشك في الصحة لا الوجود ، إذ ليست دلالتها على إرادة الشك في الوجود بنحو النص الّذي لا يمكن التصرف فيه.

فتكون الروايات ظاهرة صدرا وذيلا في بيان قاعدة الفراغ كما سنقرّبه.

ولو لم يمكن الجمع بذلك ، فما أفاده من الجمع بحمل الرواية على التنزيل ليس جمعا عرفيا ونتيجة ذلك إجمال النصوص وعدم استفادة شيء منها. فلاحظ.

وأما الاحتمال الأخير ( الرابع ) - وهو عدم الأساس لقاعدة التجاوز ، وان المجعول ليس إلاّ قاعدة الفراغ ، فلا يلغي الشك في الوجود شرعا - فهو وان كان احتمالا في قبال الفتاوى والإجماع ، لكنه مما يمكن الجزم به عند لحاظ روايات الباب المستدل بها على ثبوت القاعدة ، فان عمدتها روايتا زرارة (1) ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال علیه السلام : يمضي. قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟. قال علیه السلام : يمضي. قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ؟. قال علیه السلام : يمضي. قلت : شك في القراءة وقد ركع؟. قال علیه السلام : يمضي ، قلت : شك في الركوع وقد سجد؟. قال علیه السلام : يمضي على صلاته. ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت

ص: 142


1- وسائل الشيعة 5 / 326 باب : 23 من أبواب الخلل الحديث : 1.

في غيره فشكك ليس بشيء - وإسماعيل بن جابر (1) - عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه -.

وقبل الكلام فيهما لا بد من بيان شيء ، وهو : ان الشك في الشيء قد يطلق ويراد به الشك في أصل وجود الشيء. وقد يطلق ويراد به الشك في شأن من شئون الشيء مما يرجع إلى صحته مع تسليم وجوده ، فهو قابل لكلا الإطلاقين ، إلاّ انه مع عدم القرينة ظاهر عرفا في الأول - أعني الشك في وجود الشيء - إذا عرفت هذا فنقول :

أما رواية زرارة ، فصدرها وان كان يشتمل على التعبير بالشك في الشيء الظاهر عرفا في الشك في وجوده ، إلاّ ان ذيلها الوارد بنحو تطبيق كبرى كلية على الموارد الجزئية المذكورة في الصدر ظاهر في كون الشك في صحة الشيء ، لقوله فيه : « يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء » ، فان الخروج من الشيء ظاهر عرفا في كون أصل الشيء موجودا ، لأنه مع عدم وجوده لا يتحقق الخروج عنه.

فلو لم نقل بان ظهور الذيل في الشك في الصحة مع الفراغ عن أصل الوجود موجب لتغيير ظهور الصدر في الشك في الوجود ، بأن يكون المراد من الشك في صحة الشيء ، فان التعبير قابل لذلك ، لأنه وارد مورد التطبيق ، وأقوائية ظهوره في مؤداه من ظهور الصدر. فلا أقل من تصادم الظهورين ، فتكون الرواية مجملة لا يعتمد عليها في شيء من القاعدتين.

وأما رواية إسماعيل ، فالكلام فيها كالكلام في سابقتها ، فان قوله : « شك فيه »

ص: 143


1- وسائل الشيعة 4 / 971 باب : 15 من أبواب السجود ، الحديث : 4.

ظاهر - كما عرفت - في الشك في الوجود ، ولكن قوله : « جاوزه » ظاهر في التجاوز عن نفس الشيء ، وهو يقتضي تحقق وجود الشيء ، فيتصادم الظهوران ، لدوران الأمر بين حمل : « جاوزه » على خلاف ظاهره والتصرف فيه بإسناده إلى المحل ، أو حمل : « شك فيه » على الشك في صحته. ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، بل إبقاء ظهور لفظ التجاوز على اسناده الحقيقي أولى ، لظهور قوله : « فليمض عليه » في ان تحقق أصل الشيء مفروغ عنه وإلاّ فلا يتحقق المضي عليه ، كما لا يخفى.

فالمتحصل : عدم إمكان الاعتماد على هاتين الروايتين في إثبات قاعدة التجاوز ، فلا يثبت لها أساس في النصوص ، فلا يبقى الا قاعدة الفراغ.

وعلى هذا فلو شك في الصلاة في جزء سابق وقد دخل في غيره ، ينبغي له العود للإتيان به ، إلاّ إذا كان قد دخل في ركن لفوات محل التدارك حينئذ ، حتى مع العلم بترك الجزء. وعليه فان كان الجزء المشكوك من غير الأركان ، كالقراءة أو التشهد فلا يبطل عمله بمقتضى حديث : « لا تعاد ». وان كان من الأركان ، كالركوع بعد دخوله في السجدة الثانية حكم ببطلان عمله ولزوم الإعادة.

ولو انتفى هذا الاحتمال أو لم يمكن الالتزام به ، فلا محيص عن الالتزام بتعدد القاعدتين ، وان أحدهما - وهي قاعدة التجاوز - موضوعها الشك في وجود الشيء بعد التجاوز عن محله. والأخرى - وهي قاعدة الفراغ - موضوعها الشك في صحة الشيء بعد فرض وجوده ، وعلى هذا البناء يقع الكلام في الجهات الأخرى للبحث.

الجهة الثالثة : في عموم قاعدة التجاوز لجميع صور الشك في الوجود ، أو اختصاصها بالصلاة ، كما ذهب إليه المحقق النائيني على ما عرفت.

وقد استدل للعموم بإطلاق لفظ : « شيء » في رواية زرارة ، وعموم لفظ : « كل شيء » في رواية إسماعيل. فانهما غير ظاهرين في خصوص شيء دون آخر ، فلا محيص عن الالتزام بالعموم ، لدلالتهما على ذلك.

ولكن من خص جريانها باجزاء الصلاة قرب عدم دلالة الروايتين على

ص: 144

العموم ، بان : « شيء » في رواية زرارة لفظ مطلق ودلالة المطلق على الإطلاق انما هو بتمامية مقدمات الحكمة ، وإحداها عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهي منتفية في المقام لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهو اجزاء الصلاة - باعتبار كونها مورد الرواية - فلا يمكن التمسك بإطلاق لفظ : « شيء » لعدم انعقاده. واما لفظ : « كل شيء » ، فهو كسابقه ، لأن ، « كل » لا تدل على العموم بنفسها وانما بلحاظ دلالة مدخولها ، وبعبارة أخرى : ان : « كل » تدل على عموم ما يراد من مدخولها ، وإلاّ فهي بنفسها غير دالة على الاستغراق والعموم ، فتتوقف دلالتهما على العموم على انعقاد مقدمات الحكمة في لفظ : « شيء » الّذي هو مدخولها ، وإحداها - وهي عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب - منتفية ، لوجوده وهو مورد السؤال.

ولكن هذا التقريب انما يتجه صدوره ممن يقول باعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة - كالمحقق الخراسانيّ - اما من لا يقول بتوقف انعقاد الإطلاق على عدم وجود القدر المتيقن - كالمحقق النائيني - ، فصدور هذا التقريب منه غير واضح الوجه.

مع ان نفس المبنى مناقش فيه ، إذ لا يلتزم أحد بحمل المطلقات على خصوص مواردها - حتى المحقق الخراسانيّ - فلا وجه لاعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب في التمسك بالمطلقات.

ولو تنزل على ذلك ، فما ذكر في الرواية الثانية من ان لفظ : « كل » لا تدل على العموم بالوضع ، بل بمقتضى دلالة مدخولها ، فالمتبع هو عموم المدخول ، وهو يكون بتمامية مقدمات الحكمة ، وهي غير تامة كما عرفت.

غير وجيه ، لما حقق في محله من ان : « كل » من ألفاظ العموم بحيث تدل عليها بالوضع ، فلا يحتاج في دلالتها عليه إلى تمامية مقدمات الحكمة. وكلام المحقق الخراسانيّ مختلف من هذه الناحية.

وبالجملة : فما ذكر في التخصيص باجزاء الصلاة انما يتم بتمامية أمرين :

ص: 145

أحدهما : اعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة.

والآخر : عدم دلالة : « كل » على العموم بالوضع ، بل باعتبار ما يراد من مدخولها.

أما قاعدة الفراغ ، فهي عامة لجميع الأعمال ، لأنه وان كانت بعض رواياتها واردة في الطهور والصلاة ، إلاّ ان هناك روايتين يتمسك بهما للعموم :

إحداهما : رواية : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » فان : « كل » دالة على العموم ولا ظهور لها في فرد دون آخر.

والأخرى : رواية باعتبار ما ذكر فيها من قوله علیه السلام : « فانه حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » ، فانه وان لم يكن تعليلا - كما قيل - لكنه أشبه به ، ولسانه لا يختص بالوضوء - وان كان موضوعه - بل هو ظاهر في ان الشخص حين يتوجه للعمل أو حين يشتغل فيه يكون أكثر التفاتا إلى خصوصيات العمل وجزئياته المعتبرة فيه من وقت شكه ، وهذا لا يختص بعمل دون آخر.

فالمتحصل مما ذكرناه : ان كلتا القاعدتين تجريان في جميع الموارد التي تنطبقان عليها.

الجهة الرابعة : في عموم قاعدة التجاوز للشك في جزء الجزء ، كما لو شك في الآية السابقة وهو في اللاحقة ، أو في الكلمة السابقة في الآية وهو في اللاحقة ، أو في الحرف السابق من الكلمة وهو في اللاحق.

وقد قرب عدم عمومها واختصاصها بجزء العمل بوجوه ثلاثة :

الأول : ما قرره المحقق النائيني من : انه لا وجود لقاعدة التجاوز كي يتمسك بعموم دليلها أو إطلاقه ، وانما هي من باب تنزيل الجزء منزلة الكل ، وإلحاقه حكما بالكل ، فلا بد من الاقتصار على المقدار المنزل منزلة الكل ، وليس في أدلة التنزيل ما يتكفل تنزيل جزء الجزء منزلة الكل ، بل هي مقتصرة في التنزيل على خصوص الاجزاء كما لا يخفى على من لاحظ الروايات.

ص: 146

وهذا الوجه قد عرفت ما فيه من عدم الدليل إثباتا على تكفل الدليل تنزيل الجزء منزلة الكل ، بل ظاهره - لو تم - بيان قاعدة كلية عامة.

الثاني : ان المعتبر في قاعدة التجاوز ، التجاوز عن محل المشكوك ، فلا بد من فرض محل له قد جعله الشارع وقرره ، بحيث يكون فرض المحل امرا زائدا على المأمور به لا أمرا يتقوم به المأمور به ، فمع عدم وجود محل مقرر له شرعا لا يتحقق موضوع قاعدة التجاوز ، فلا وجه لجريانها ، وجزء الجزء لا محل له كي يقال تجاوز عنه ، فمثلا : امر الشارع بتكبيرة الإحرام في الصلاة وهي : « اللّه أكبر » ، فسبق كلمة : « اللّه » على كلمة : « أكبر » ليس امرا ملحوظا لدى الشارع ومأمورا به ، بل ليس المأمور به الا التكبيرة لا إجزاءها ، والسبق المذكور من مقوماتها ، فلا يقال لمن عكس وقال : « أكبر اللّه » انه جاء بالمأمور به ( التكبيرة خ ل ) من غير ترتيب ، بل يقال انه لم يجئ بالمأمور به ، فالترتيب المذكور من مقومات المأمور به لا أمر زائد عليه تعلق به الأمر الشرعي.

وهذا الوجه غير تام ، لأنه لا دليل على ما ذكره فيه من فرض كون المحل امرا زائدا على المأمور به مقررا من قبل الشارع ، بحيث يلحظ الترتب الشرعي ، بل الأدلة بالنسبة إلى المحل عامة فهي تدل على انه لو تجاوز عن محل الشيء المقرر له مطلقا سواء كان التقرير شرعيا - كأجزاء الصلاة - أو غيره - كما في آيات السورة وكلمات الآية وأحرف الكلمة - فانه يصدق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى كل هذه الأمور.

الثالث : دعوى الانصراف ببيان : ان لفظ : « الشيء » في الروايات منصرف إلى الأجزاء بخصوصها دون أجزائها ، فعليها يحمل اللفظ ، فتختص القاعدة بها. وهذا كانصراف لفظ : « الحيوان » في أدلة عدم جواز الصلاة في اجزاء غير المأكول منه عن الإنسان إلى غيره.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تمامية هذه الدعوى بالنسبة إلى أحرف

ص: 147

الكلمة ، لأنها وان كانت شيئا بالدقة ، لكن لفظ : « الشيء » في الرواية لا يشملها عرفا وينصرف عنها.

وهذه الدعوى لا تبتني على برهان كي يناقش فيه ، بل هي دعوى وجدانية يسهل لكل أحد المناقشة فيها بدعوى عدم الانصراف.

والتحقيق : ان المعتبر في جريان قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير المترتب ، بحيث تكون ذات الغير المأمور بها محرزة ، وان لم يحرز بكونها امتثالا لفرض الشك في الجزء السابق.

وعليه ، نقول : ان المركب المؤلف من اجزاء ..

تارة : يكون الإخلال بأحد اجزائه لا يوجب سلب وصف الجزئية عن سائر الاجزاء بحيث يكون ذات الجزء متحققة ، كما لو لم يجئ بالركوع وأتى بالسجود ، فانه يصدق على السجود انه ذات الجزء المترتب عليه ، فمع الشك في الركوع وهو في السجود يكون الشك بعد الدخول في غير المترتب.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بل يكون الموجود من الاجزاء في ظرف فقدان البعض الآخر مباينا عرفا للموجود مع وجود البعض الآخر ، وفي مثله لو شك في بعض الاجزاء وقد دخل في غيرها لا يصدق انه دخل في الغير المترتب على المشكوك لاحتمال فقدان المشكوك ، فيكون هذا الجزء مباينا للمأخوذ في العمل بذاته ، فلا يكون قد دخل في الغير المترتب - ولو كان ترتبه عقليا - وهذا نظير اجزاء الكلمة الواحدة فان الراء من : « أكبر » لا تتصف بأنها جزء : « أكبر » إلاّ إذا جيء بالكلمة بتمامها ، فالانضمام كما هو شرط للامتثال يكون مقوما لصدق عنوان المأمور به وصيرورة كل حرف جزء لذات المأمور به.

وعليه ، فمع الشك في التلفظ بالكاف وقد دخل في الراء لا يصح إجراء قاعدة التجاوز ، لعدم إحراز الدخول في الغير. ومثله التكبير المتقوم بكلمة : « اللّه أكبر ». بالنحو الخاصّ ، فان انضمام الكلمتين مقوم لصدق عنوان التكبير على اجزائه ، وكل

ص: 148

كلمة بمفردها لا تكون جزء للتكبير ، فمع الشك في قول : « اللّه » وهو في : « أكبر » لا مجال لإجراء قاعدة التجاوز. ولعل مثله اجزاء الآية ، وكل عنوان واقعي يتقوم بالمجموع كالحمد والشهادة ونحو ذلك.

والضابط : هو ما عرفت من عدم تحقق ذات الجزء مع الإخلال بالجزء الآخر ، بحيث يعد المتحقق مباينا بذاته لجزء المأمور به المنضم إلى غيره وقد يقع الإشكال في تشخيص بعض المصاديق.

فالتفصيل في جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء بالنحو الّذي عرفت هو المتعين.

ثم إن ثمرة هذا المبحث تكون كثيرة لو لم نقل بجريان قاعدة الفراغ في مورد الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه ، فانه مع البناء على جريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى جزء الجزء لو شك بعد الفراغ من الجزء في جزء الجزء لا تجب الإعادة ، ومع البناء على عدم جريانها تجب.

أما مع القول بجريان قاعدة الفراغ في الجزء بعد الفراغ منه ، فلا يختلف الحال عملا في مورد الشك بعد الفراغ عن الجزء في جزئه باختلاف البناءين ، لجريان قاعدة الفراغ في الجزء نفسه ، لأن الشك المذكور يرجع إلى الشك في صحته بعد الفراغ منه ، وهو مورد القاعدة. فظهور الثمرة العملية ينحصر - على هذا القول - في مورد الشك في أثناء العمل.

الجهة الخامسة : في عموم قاعدة التجاوز للشك في الشرط في أثناء المشروط.

وقد ذكر الأصفهاني لمنع العموم وجوها وأجاب عنها.

الأول : ان نسبة الشرط إلى جميع الاجزاء نسبة واحدة ، فمع الشك في تحققه في الجزء السابق يشك قهرا بتحققه في الجزء اللاحق الفعلي ، فإحرازه بالقاعدة بالنسبة إلى الجزء السابق لا يجدي شيئا ، لعدم إمكان إحرازه بها بالنسبة إلى الجزء

ص: 149

الفعلي ، لعدم تحقق التجاوز عنه ، فيكون اعتبار قاعدة التجاوز في الفرض لغوا ، للتلازم بين الشك في شرط الجزء السابق وشرط الجزء الفعلي اللاحق.

والجواب : ان هذا الوجه انما يتم بالنسبة إلى ما لا يمكن تبدله ( حدوثه خ ل ) في الأثناء كالطهارة ، أما ما يمكن تبدله كالستر ، فلا يتم هذا الوجه فيه ، ومثاله : لو لبس في أثناء الصلاة ما يستره قطعا وشك بعد ذلك في ان ما كان لابسه سابقا كان ساترا أو لم يكن ، فانه لا ملازمة في مثل الفرض كما لا يخفى ، فاعتبار قاعدة التجاوز لا يكون لغوا لجريانها في هذه الموارد ، وهو كاف في رفع اللغوية ، فإطلاق المنع لا يخلو عن الخدش.

الثاني : انه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون الشيء ذا محل ، والشروط لا محل لها كي يتحقق التجاوز عنه.

والجواب : انه ...

ان أريد بعدم المحل ان المشروط ليس ظرفا ومحلا للشرط ، كما ان الكل ليس محلا للجزء ، فهذا لا يختص بالشرط المقارن بل يعمه ويعم السابق واللاحق ، فكما تجري القاعدة بالنسبة إلى الشرط السابق - كالوضوء على القول بشرطية نفسه - باعتبار كون محله هو الزمان السابق ، فكذلك فلتجر بالنسبة إلى المقارن باعتبار كون محله الزمان المقارن وقد تجاوز عنه الفاعل.

وان أريد بان الشرط انما هو شرط للمجموع لا لكل جزء جزء ، فلا محل له ، وانما المجموع محله. ففيه : انه قد حقق في محله ان الشرط انما هو للمركب ، وثبت بان المركب هو عين الاجزاء بالأسر ، فهو شرط للاجزاء بأسرها فيكون شرطا لكل جزء جزء.

واستشهد على ذلك : بأنه لو انتفى الشرط في بعض الاجزاء دون بعض وأمضى العمل ، لا يقال بتبدل الشرط وانه شرط جديد باعتبار ان الشرط الواقعي للمجموع وهذا للبعض ، بل يقال بانتفائه في بعض دون آخر. فالتفت.

ص: 150

الثالث : ان الشروط من الكيفيات والحالات للمشروط ، فلا يتحقق التجاوز عنها لا بالحقيقة ولا بالمسامحة ، بل التجاوز بكلا معنييه يتحقق بالنسبة إلى المتكيف بها دونها ، فلا مجال حينئذ لجريان قاعدة التجاوز فيها ، لعدم صدق موضوعها.

والجواب : ان الشروط على قسمين : قسم له وجود مستقل ، كالستر والاستقبال والطهارة ، وقسم لا يكون كذلك ، بل يكون كيفا للغير ، كالترتيب والموالاة. فالقسم الأول يتحقق بالنسبة إليه التجاوز ، فلا يكون مشمولا لهذا التقريب. نعم يبقى القسم الثاني ، فان الكلام فيه تام ، لأنه من كيفيات المشروط فلا وجود له إلا بتبع مشروطه.

إلى هنا يظهر ان المحقق الأصفهاني يلتزم بالتفصيل بين ما له وجود مستقل من الشروط وبين ما لا وجود له كذلك ، فتجري القاعدة في الأول دون الثاني.

وقد سبقه إلى ذلك الشيخ وتقريبه واضح ، لأخذ الشيء موضوعا للشك الّذي هو مورد القاعدة ، وواضح عدم صدقه عرفا على ما لا وجود له بنفسه.

إلا أنه قدس سره ذكر بيانا آخر يحقق فيه عدم جريان القاعدة في مطلق الشروط ، ومحصله : ان التجاوز قد فسر في بعض النصوص بالخروج عن الشيء والدخول في غيره ، وهذا يستدعي المغايرة بين المتجاوز عنه والمتجاوز إليه ، ولا إشكال في عدم صدق هذا المعنى عرفا في الشروط. فان الاستقبال - مثلا - واحد مستمر ، لأنه متعدد بحيث يصدق على الاستقبال في الركعة الثانية انه غير الاستقبال في الأولى ، ومع عدم المغايرة لا يتحقق الخروج والدخول في الغير كما لا يخفى ، فلا موضوع لقاعدة التجاوز في الشروط ، فلا مجال لجريانها (1).

وهذا التقريب وان كان بحسب النّظر الأولى وجيها ، إلاّ انه يمكن المناقشة فيه بما ذكر في باب استصحاب الأمور التدريجية ، من : ان الأمر التدريجي وان كان

ص: 151


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 302 - الطبعة الأولى.

مستمرا ومتصلا وواحدا دقة إلاّ انه قد يعد عرفا متعددا بلحاظ طرو بعض الحالات عليه ، كما بالنسبة إلى الليل والنهار ، فانهما يعدان عرفا أمرين ، مع ان الزمان مستمر لا انقطاع فيه.

وعليه ، فالاستقبال - مثلا - وان كان مستمرا غير منقطع ، إلاّ انه بلحاظ اعتبار الشروط للمركب - وهو الاجزاء بالأسر - يعد شرطا لكل جزء ، فيرى متعددا بنظر العرف بهذه الجهة وان كان واحدا بالنظر الدقي ، فتتحقق المغايرة عرفا بين الاستقبال في جزء والاستقبال في جزء آخر ، فيصدق الخروج عن الشيء والدخول في غيره.

هذا كله بالنسبة إلى الشروط التي تكون بنفسها متمحضة في الشرطية وليس فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية.

وبعده يقع الكلام في الشروط التي تكون فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية ، بأن تكون بنفسها متعلقا للأمر وموضوعا لأثر ما ، نظير صلاة الظهر ، فانها شرط في صحة صلاة العصر مع انها بنفسها متعلق للأمر وموضوعا للأثر ، فهل مثل هذه الشروط يكون الشك فيها مجرى قاعدة التجاوز بعد الفراغ والبناء على جريانها في الشروط الأخرى.

ووجه تخصيصها بالكلام جهتان :

الأولى : احتمال اختصاص أدلة القاعدة بموارد الشك في القسم الأول من الشروط مضافا إلى الاجزاء.

ويدفعه : ان الأدلة عامة لجميع موارد الشك في الوجود مما كان المشكوك ، له محل مقرر ولو كان مركبا تاما ، فيتمسك بعمومها ، ولا وجه لاحتمال اختصاص الأدلة بموارد دون أخرى.

ويؤيده ورود إلغاء الشك في النص بالنسبة إلى الأذان والإقامة ، مع انها ليست جزءا للصلاة ، وهي مأمور بها بالاستقلال ، لكن لها جهة ارتباط بالصلاة ،

ص: 152

ومثلها الأذان.

الثانية : ان مفاد قاعدة التجاوز ليس هو ترتيب الأثر على وجود المشكوك ، بل هو البناء على تحقق المشكوك ووجوده ، بحيث لا يلزم الإتيان به بعد هذا.

وعليه ، فجريان القاعدة في صلاة الظهر في أثناء العصر أو بعدها يقتضي عدم لزوم الإتيان بالظهر بعد تمام العصر ، لأن مفادها هو البناء على تحقق المتجاوز عنه ، فمقتضاها تحقق الإتيان بالظهر ، فلا وجه حينئذ لوجوب الإتيان بها بعد العصر ، مع انه لا يلتزم به أحد. فالالتزام بجريان قاعدة التجاوز يلزم منه ما ذكر ، كما ان عدم الالتزام به يستلزم تخصيص دليلها بلا وجه.

والتحقيق في رفع هذه الشبهة ، والتوفيق بين عدم الالتزام بعدم لزوم الإتيان بالظهر وجريان القاعدة فيها : ان قاعدة التجاوز وان كان مفادها هو البناء على وجود المشكوك وتحققه ، إلاّ انها انما تقتضي التعبد بالمشكوك بمقداره.

والمشكوك الّذي يكون موردا للقاعدة هاهنا ليس هو صلاة الظهر بقول مطلق ، لأنها بنفسها وبلحاظها ذاتها ، لم يتجاوز عن محلها ، وانما يكون التجاوز عن محلها بلحاظ جهة شرطيتها لصلاة العصر. فالمشكوك الّذي يكون مورد القاعدة في الفرض انما هو صلاة الظهر بهذا الاعتبار - أعني باعتبار شرطيتها للعصر ودخالتها في صحة العصر - لا بلحاظها نفسها وذاتها ، فجريان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر لا ينافي الالتزام بوجوب الإتيان بها بعد العصر.

ثم إن الشيخ رحمه اللّه فصّل - احتمالا لا اختيارا - بين الشروط التي يكون محل إحرازها قبل العمل - كالوضوء - والشروط التي يكون محل إحرازها أثناء العمل - كالاستقبال - فأجرى قاعدة التجاوز في الأول مع الشك في أثناء العمل دون الثاني ، لأنه لا بيد من إحرازه للاجزاء المستقبلة.

فلا بد من الكلام في هذه الجهة ، كما لا بد من دفع توهم سراية ما ذكر بالنسبة إلى صلاة الظهر بالإضافة إلى اجزاء العمل ، لأن فيها جهة الشرطية للاجزاء

ص: 153

اللاحقة - لارتباطيتها - فإحراز الإتيان بالجزء يجدي لما سبق من الاجزاء دون ما لحق لعدم التجاوز عن محله.

وتوضيح الكلام على وجه يتضح به الحال يتوقف على بيان أقسام الشروط - بلحاظ جهة ارتباطها بالعمل التي هي شرط له - وأحكامها.

فنقول : الشروط على أقسام أربعة :

الأول : ان يكون فيه جهة زائدة على جهة الشرطية ، كأن يكون موضوعا لحكم بنفسه مضافا إلى جهة شرطيته ، كأجزاء الصلاة ، فان كلا منها مأمور به بنفسه ، كما انه شرط لغيره.

الثاني : ان يكون متمحضا في جهة الشرطية ، وكان بوجوده الواحد المستمر أو بوجوده المجموعي شرطا لكل جزء من أجزاء العمل ، كما لعله يظهر من أدلة اعتبار الاستقبال انه كذلك وأنه أمر واحد معتبر في جميع أجزاء الصلاة.

الثالث : ما كان كذلك وكان شرطا لكل جزء في ظرفه ، كالتستر.

الرابع : ما كان كذلك ، ولكنه كان مما لا بد من إحرازه قبل العمل ، كالوضوء - على قول - أما النحو الأول ، فلا إشكال في ان جريان قاعدة التجاوز فيه في الأثناء مجد ، لأنه بذاته له محل مقرر شرعا قد تجاوز عنه ، فإذا جرت قاعدة التجاوز فيه بلحاظ جهة جزئيته تحقق هذا الجزء تعبدا ، فيتحقق شرط الاجزاء اللاحقة تعبدا.

فلا وجه حينئذ لأن يقال بعدم إجرائه لعدم تحقق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما لحق من الاجزاء ، لأن إجراءها فيه لا يكون بلحاظ جهة شرطيته كي يتأتى ما ذكر ، بل لحاظه نفسه وجهة جزئيته.

وأما النحو الثاني ، فلا مجال لقاعدة التجاوز فيه في الأثناء مع فرض إحرازه بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لوجهين.

الأول : إن الشرط انما هو الشرط المستمر لا كل جزء منه ، فجريان قاعدة

ص: 154

التجاوز فيه بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يثبت الشرط إلاّ بالملازمة - كما لا يخفى - وهو بنفسه لا أثر له شرعا ، لأن الأثر يترتب على وجوده المستمر.

وقد يقال : بأنه يمكن إجراء قاعدة التجاوز فيه ويضم إليها الاستصحاب ، بان يستصحب فيثبت استمراره بالاستصحاب ، لأنه موضوعه ، فيترتب الأثر لأن الشرط هو موضوع الاستصحاب ، ولا مانع من استصحاب الشرط كيف ما كان.

لكنه يشكل : بان الاستصحاب يتوقف على ثبوت اليقين السابق بالمستصحب إما الوجداني ، أو التعبدي ، وكلاهما منتف.

أما الأول : فواضح ، لأنه الفرض.

وأما الثاني : فلأنه انما يثبت بقاعدة التجاوز ، وجريانها يتوقف على كون موضوعها مما يترتب عليه الأثر بنفسه ، وقد عرفت ان لا أثر له مطلقا ، فلا تجري بنفسها فيه.

الثاني : انه يعتبر في جريانها تحقق التجاوز عن محل المشكوك ، وإذا كان الشرط هو المجموع أو المستمر لا يتحقق التجاوز عنه ما دام في الأثناء ، كما لا يخفى.

وأما النحو الثالث ، فلا يرى هناك مانع لجريانها بالنسبة إلى الاجزاء السابقة ، لأن المفروض كونه شرطا لكل جزء في ظرفه ، فقد تحقق التجاوز عنه بالتجاوز عن نفس الجزء.

وأما النحو الرابع ، وهو موضوع الكلام الشيخ ، فالحق فيه عدم جريانها فيه في الأثناء ، لعدم إجرائها. وذلك لأن ذات الشرط لا يكون مأمورا به بنفسه ، وإلاّ لكان دخيلا في المركب فيكون جزءا ، وهو خلاف الفرض ، وانما أخذ التقيد به دخيلا ، وجزءا في الصلاة ، فالشرطية تنتزع عن أخذ التقيد بالعمل. ومعنى التقيد في هذا النحو من الشروط ، هو كون العمل المركب مسبوقا بالعمل وهو الوضوء ، فحيث ان العمل المركب عبارة عن اجزائه ، فكل جزء أخذ فيه مسبوقيته بالوضوء ، فإحراز المسبوقية بالقاعدة بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يجدي بالنسبة إلى اللاحقة ، لأنها

ص: 155

لم يتجاوز عن محلها ، فلا يتحقق موضوع القاعدة بالنسبة إليها.

وهذا الكلام بعينه جار في مورد الشك في صلاة الظهر في أثناء العصر ، لأن الصورتين بملاك ونحو واحد.

هذا تمام الكلام في جريان قاعدة التجاوز في الشروط ، فتدبر جيدا.

الجهة السادسة : في عموم قاعدة الفراغ للإجزاء ، بمعنى انه إذا شك في صحة الجزء بعد الفراغ عنه ، فهل تجري قاعدة الفراغ فيه فيبني على صحته ، أو لا بل تختص بمورد الشك في صحة الكل؟. الّذي يقتضيه عموم رواية زرارة : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » هو جريانها في مورد الشك في صحة الجزء ، إذ لا وجه لاختصاصها بالكل. وان كانت الرواية الثانية موضوعها الصلاة والطهور. والتمسك بالعموم على التعميم كاف في المطلوب ، فلا حاجة حينئذ إلى الاستدلال بفحوى قاعدة التجاوز ، من انه إذا كان الشك في وجود الجزء ملغى في نظر الشارع فإلغاء الشك في صحته أولى.

مضافا إلى انه لم يعلم كون هذه الأولوية من أي نوع هي ، هل هي من الأولوية القطعية أو الظنية التي ترجع إلى القياس؟

نعم ، يستثنى من ذلك ما إذا كانت جهة الشك مقومة لتحقق الجزء كالموالاة في حروف الكلمة ، أو الترتيب بين حروفها ، فانه مع الشك فيها لا يمكن إجراء القاعدة لإثبات صحة الكلمة لعدم إحراز الكلمة كي يتعبد بصحتها ، فتدبر.

الجهة السابعة : في ان قاعدة الفراغ هل تعم ما إذا كان منشأ الشك في الصحة هو الشك في الشرط أو لا؟ والحق العموم ، لمقتضى عموم رواية زرارة السابقة ، إذ لا ظهور فيها في كون المنشأ هو الشك بالإخلال بجزء دون شرط.

ثم ان للشيخ رحمه اللّه كلاما في الموضع السادس يرتبط بهذه الجهة من الكلام ، وهذا نصه : « ان الشك في صحة المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان ، بل هو هو ، لأن مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح ، ومحل الكلام ما لا يرجع

ص: 156

فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية. لكن الإنصاف ان الإلحاق لا يخلو عن إشكال ، لأن الظاهر من اخبار الشك في الشيء انه مختص بغير هذه الصورة ... ».

وهذه العبارة لا تخلو عن غموض ، وهي مع قطع النّظر عن التعليل المذكور يمكن حملها على أن قاعدة الفراغ محكومة لقاعدة التجاوز ، لأن نسبتها إليها نسبة الأصل المسببي إلى الأصل السببي ، لأن الشك في الصحة ينشأ من الشك في وجود جزء أو شرط ، ويمكن إحرازه بقاعدة التجاوز ، فلا يبقى لقاعدة الفراغ موضوع تعبدا. وبذلك يكون حكم الشك في الصحة حكم الشك في الإتيان.

وهذا انما يتحقق فيما إذا كان منشأ الشك مما له وجود مستقل بحيث يصدق التجاوز عنه ويكون قابلا للتعبد بنفسه ، أما ما لا يكون كذلك ، كالموالاة بين حروف الكلمة والترتيب بين الكلمات ، فلا يتم ما ذكر ، لعدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذه الأمور لعدم استقلاليتها في الوجود فلا يتحقق التجاوز عنها فهذه الفروض تكون محل إشكال.

ولكن هذا التفسير لا يتلاءم مع التعليل المذكور لأن ظاهره رجوع مورد قاعدة الفراغ إلى مورد قاعدة التجاوز لا انتفاء موضوعها تعبدا بجريان قاعدة التجاوز الظاهر في تعدد المورد نوعا.

وعلى هذا تكون العبارة غير واضحة المراد ، لأن ما ذكره بعد التعليل من كون محل الكلام ما لم يرجع الشك فيه إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة كالموالاة. غير تام - بحسب النّظر البدوي - لأن المنشأ إذا كان هو الشك في مثل الموالاة يرجع الشك إلى الشك في وجود العمل الصحيح أيضا.

فالجمع بين التعليل وما ذكره بعده مشكل (1).

ص: 157


1- يمكن ان يكون نظره قدس سره إلى التفصيل بين الشرائط المعتبرة شرعا في الصحة مما لا يتقوم بها العمل المشروط كالطهارة والاستقبال بالنسبة إلى اجزاء الصلاة ، وبين الشرائط المقومة عقلا للعمل وليست معتبرة شرعا في صحته ، ولا وجود لها مستقل عن وجود المشروط كالموالاة في الكلمة ، فان فقدانها يستلزم عدم صدق الكلمة على الحروف الملفوظة. ففي الأول تجري القاعدة مع الشك في الشروط لأنها ذات وجود مستقل ومتعلقة للأمر الشرعي. واما في الثاني فيشكل جريانها في نفس الشرط لعدم تعلق الأمر به ولا في المشروط لظهور الأدلة في كون موضوع القاعدة هو الشك في أصل الوجود لا ما إذا علم وجود شيء وشك في انه هو الجزء أو غيره. فمراده ان محل الكلام في إلحاقه بالشك في الوجود هو القسم الثاني لا الأول لأن الأول ، مجرى القاعدة بنفسه بلا حاجة إلى الإلحاق. كما انه يشكل الإلحاق في القسم الثاني للاستظهار المتقدم ، فلا بد من التماس دليل آخر على إثبات صحة العمل مع الشك فيه. فتدبر. وقد تحمل بعض الاعلام في توجيه كلام الشيخ رحمه اللّه واللّه سبحانه العالم.

ويمكن ان يقال في مقام التوفيق : ان ما يعتبر في الصحة عنوانا تارة : يكون في نفسه خارجا عن حقيقة الشيء ، كالطهارة والاستقبال ، فانهما من شروط الصلاة ولكنهما خارجان عن حقيقتهما ، إذ صدق الصلاة لا يتقوم بهما. وأخرى : يكون مقوما ، كالموالاة بين الحروف والكلمات ، فانها مقومة عقلا لصدق الكلمة والآية وبدونها لا تصدقان ، ولذلك كانت من الشروط العقلية ، فإذا وجد الشك في الموالاة حصل الشك في وجود نفس الكلمة أو الآية.

ومن هنا يتضح المراد من كون محل الكلام ما لم يكن من هذا القبيل - أعني : من قبيل الشك في الموالاة - ، فان ما كان من هذا القبيل تجري فيه قاعدة التجاوز رأسا ، فلا إشكال فيه.

فالمراد : ان محل الكلام في السراية - أعني : سراية أدلة قاعدة التجاوز إليه باعتبار رجوع الشك فيه إلى الشك في الوجود - هو النحو الأول. أما النحو الثاني فلا إشكال فيه لأن الشك فيه شك في الوجود ، فلا يتكلم في السراية بالنسبة إليه لشموليته لقاعدة التجاوز بلا كلام.

ص: 158

وبهذا لا يكون هناك تناف بين التعليل وما ذكره بعده ، إذ ليس المفاد ما قد يستظهر من ان ما كان من قبيل الموالاة محل إشكال في إرجاعه إلى مورد قاعدة التجاوز كي تشمله أدلتها ، بل المفاد انه من مواردها فلا كلام فيه ، وانما الكلام في غيره.

وعليه ، فلا وجه لما ذكره المحقق الأصفهاني من : انه ان أراد عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض فهو وجيه ، لأن موردها الشك في صحة الموجود لا في الموجود. وان أراد عدم جريان قاعدة التجاوز في نفس الموالاة فهو وجيه أيضا ، لعدم استقلالها في الوجود ، إلاّ انه يمكن جريان القاعدة في نفس الجزء للشك في وجوده ( انتهى ). فانه لا مجال حينئذ إلى مثل هذا كما لا يخفى.

الجهة الثامنة : فيما يعتبر في قاعدة التجاوز. والكلام في موضعين :

الأول : في اعتبار التجاوز عن المحل وتعيينه.

لا إشكال في اعتبار التجاوز عن المحل في جريان قاعدة التجاوز ، فانه من مقومات موضوعها ، لما عرفت من ان التجاوز عن نفس المشكوك مع فرض الشك غير متصور إنما الإشكال في تعيين المحل الّذي لا بد من تحقق التجاوز عنه ، فهل هو خصوص المحل الشرعي الّذي قرره الشارع ، أو هو أعم منه ومن غيره من العقلي والعادي؟ - فان المحل ..

تارة : يكون مقررا من قبل الشارع ، كمحل اجزاء الصلاة ، فان الترتيب الخاصّ بينها من مقررات الشارع.

وأخرى : يكون مقررا من قبل العقل بمقتضى الوضع أو غيره وليس مقررا من قبل الشارع ، نظير تقدم : « اللّه » على « أكبر » في التكبيرة ، أو تقدم حروف الكلمة بعضها على بعض ، فان ذلك ليس من مجعولات الشارع بحيث يكون العكس إتيانا بالمأمور به من غير ترتيب ، بل من مقررات العقل ، فلو عكس لم يتحقق المأمور به بالمرة بنظر العقل.

ص: 159

وثالثة : يكون بمقتضى العادة والالتزام العادة والالتزام النوعيّ أو الشخصي ، كما لو كان من عادة شخص الصلاة في أول الوقت أو الموالاة في الغسل أو نظير ذلك -.

أما التجاوز عن المحل الشرعي فمما لا كلام فيه أصلا.

وانما الكلام في التجاوز عن المحل العقلي أو العادي ، فهل تجري قاعدة التجاوز مع حصوله أو لا.

أما التجاوز عن المحل العقلي ، فالتحقيق كفايته في جريان القاعدة لإطلاق الأدلة ، إذ لم يقيد التجاوز فيها بالمحل المقرر شرعا بل أخذ مطلقا ، ويصدق على الدخول في الغير مطلقا تجاوز عن محل الشيء ، ولو كان الترتيب غير شرعي ، فيكون مشمولا للأدلة.

هذا مع انه يمكن ان يقال : ان المحل العقلي معتبر شرعا ، فيكون محلا شرعيا ، وذلك لأن الأمر يتعلق بالكلمة بكيفيتها الخاصة لا بذات الحروف كيف ما تحققت. وبعبارة أخرى : ان الأمر متعلق بالكلمة الخاصة ، وهي عبارة عن الحروف بالكيفية الخاصة ، فالترتيب بين حروف الكلمة ملحوظ في متعلق الأمر ، فيكون شرعيا.

هذا مع ما تقدم من عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل الكلمة والتكبيرة مع الشك في جزئها مع قطع النّظر عن كون المحل عقليا أو شرعيا. وعلى هذا فالبحث المزبور يخلو عن الفائدة ، فالتفت.

وأما التجاوز عن المحل العادي ، فقد بنى الشيخ رحمه اللّه على التأمل في كفايته في جريان القاعدة ، لإطلاق الأدلة وعموم التعليل في قوله : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » ، فانه ظاهر في تقديم الظاهر على الأصل ، فالمدار على الظهور النوعيّ ولو كان من العادة ، ولأنه يلزم من جريانها تأسيس فقه جديد ومخالفة إطلاقات كثيرة (1).

ص: 160


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /411- الطبعة القديمة.

ولكن الإنصاف ان ما ذكره من شمول إطلاق الأدلة للفرض وعموم التعليل له غير ثابت ، وذلك لأن الظاهر من الأدلة ان الشيء المتجاوز عنه مما له محل بالنظر إلى ذاته وبقول مطلق ، بحيث لا يختلف فيه مكلّف عن آخر.

وهذا غير متحقق بالنسبة إلى ما له محل عادي ، فان كون محل الشيء هو هذا ليس بلحاظ ذاته بل بالإضافة إلى الشخص أو النوع ، فمثل هذا لا يكون مشمولا للأدلة من رأس.

ونظير هذا ما يقال من عدم شمول ما دل على حرمة الصلاة في اجزاء محرم الأكل لما كان محرما بالعرض بالنسبة إلى مكلف خاص - كما لو كان لحم الغنم مضرا له فيحرم أكله عليه - ، باعتبار ظهور الدليل في إرادة محرم الأكل بقول مطلق وبالنظر إلى ذاته.

وأما التعليل ، فهو لا يقتضي التعميم ، لأن ظاهره انه مقام تقديم خصوص ظهور حال المسلم في انه في مقام أداء الوظيفة الشرعية لا يترك ما هو جزء أو شرط على الأصل لا مطلق ظهور حاله ، فلا يشمل تقديم ظهور حاله في عدم ترك ما اعتاده النوع أو بشخصه بلحاظ الاعتياد النوعيّ أو الشخصي كما ذكره قدس سره ، لعدم دخله في مقام أداء الوظيفة الشرعية ، لعدم ارتباطه بها ، كما لا يخفى.

الثاني : في اعتبار الدخول في الغير وتعيينه.

لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة التجاوز ، لأخذه في الرواية في موضوع القاعدة. وإنما الإشكال في أن الغير الّذي لا بد من الدخول فيه هل هو مطلق الغير ولو لم يكن مترتبا شرعا على المشكوك كما هو مقتضى إطلاق الغير في النصوص ، كمقدمات الأفعال ، نظير الهوي إلى السجود بالنسبة إلى الركوع؟

أو خصوص الغير المترتب شرعا ، كالسجود بالنسبة إلى الركوع ، فلا يدخل ما كان من قبيل المقدمات؟. فان كان المراد هو مطلق الغير ، كان قيد الدخول في الغير المأخوذ في الرواية قيدا توضيحيا للتجاوز والخروج عن الشيء ، لأن التجاوز لا

ص: 161

يتحقق إلاّ بالدخول في الغير ، ولا يكون قيدا احترازيا.

ومن هنا لا يتضح المراد من ما ذكره الشيخ في الموضع الثالث من أن الدخول في غير المشكوك تارة : يكون محققا للتجاوز. وأخرى : لا يكون ، بل يكون التجاوز حاصلا بدونه ، لأن التجاوز مطلقا لا يتحقق إلا بالدخول في الغير (1).

وقد ذهب المحقق العراقي قدس سره إلى : ان مقتضى الإطلاقات الدالة على اعتبار التجاوز عن المحل هو اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، لعدم تحقق التجاوز عن المحل بدونه ، وان أخذه في لسان النصوص لأجل كونه محققا للتجاوز عن المحل لا لخصوصية فيه (2).

أقول : ان التجاوز عن المحل لا يتحقق إلا بالاشتغال بما يكون بينه وبين المتجاوز عنه طولية وترتب ، فالاشتغال بالذكر في أثناء القيام لا يعد تجاوزا عن محل القراءة لعدم الترتب والطولية بينهما ، بخلاف ما إذا دخل في الركوع.

وبما ان الركوع عن قيام لا يمكن بدون الهوي إليه عقلا فاعتبار القراءة عن قيام واعتبار الركوع بعدها مستلزم لترتب الهوي إلى الركوع على القراءة ، وتأخره عنها إما بحكم الشرع بدعوى ان اعتبار ذي المقدمة - وهو الركوع - مستلزم لاعتبار مقدمته. واما بحكم العقل بلحاظ توقف الركوع على الهوي ، فإذا فرض تأخر الركوع عن القراءة كان الهوي إليه متأخرا عنها أيضا. وعليه فالدخول في الهوي مستلزم للتجاوز عن محل القراءة وهو القيام غاية الأمر التجاوز عن محله العقلي لا الشرعي ، لعدم أخذ الهوي متعلقا للأمر.

وعليه ، فلا بد من البحث في ان المحل الّذي يعتبر التجاوز عنه هو المحل الشرعي ، كالدخول في الركوع بالنسبة إلى القراءة ، أو ما يعم المحل العقلي كالدخول

ص: 162


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /411- الطبعة القديمة.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 54 - طبعة المؤسسة النشر الإسلامي.

في الهوي بالنسبة إليها.

وأما الالتزام باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا لأجل تقوم التجاوز به فهو ، مصادرة وأول الدعوى ، إذ عرفت ان التجاوز عن المحل يتحقق بالدخول في مثل الهوي. نعم ، التجاوز عن المحل الشرعي لا يكون إلاّ بالدخول في الغير المترتب شرعا ، فينبغي إيقاع الكلام في هذه الجهة كما عرفت.

هذا مضافا إلى ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من : ان عنوان التجاوز عن المحل لم يؤخذ في لسان النصوص ، بل المأخوذ التجاوز عن الشيء المشكوك ، والمراد به التجاوز بالعناية والمسامحة ، لأن التجاوز الحقيقي لا يصدق إلا إذا فرض وجود الشيء. ومن الواضح صدق التجاوز عن القراءة مسامحة إذا دخل في الهوي ، ولا يعتبر فيه الدخول في المترتب شرعا.

إذن ، فالمطلقات لا تقتضي اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، بل يكفى مطلق المترتب ، ويقع الكلام بعد ذلك في وجود ما يقيد هذه العمومات أو المطلقات ظاهره اعتبار الدخول في المترتب شرعا.

وقد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى ذلك وأفاده في بيانه : ان الظاهر من صحيحة إسماعيل بن جابر - المتقدمة - هو ذلك ، وذلك لظهور انه علیه السلام ذكر الأمثلة المذكورة في الصدر توطئة وتحديدا للقاعدة الكلية المذكورة في الذيل ، فمقتضاه ان الغير الّذي لا بد من الدخول فيه في جريان القاعدة ما كان من قبيل السجود بالنسبة إلى الركوع والقيام بالنسبة إلى السجود ، وان ما كان من قبيل الهوي والنهوض لا يعد غيرا ، يكون الدخول فيه محققا لموضوع القاعدة ، وإلاّ لقبح ذكر السجود والقيام في مقام التحديد والتوطئة. « انتهى » (1).

وقد نفاه المحقق الأصفهاني قدس سره : بان الظاهر ان الأمثلة المذكورة في

ص: 163


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /411- الطبعة القديمة.

الصدر من باب التمثيل لا التحديد ، وإلاّ للزم الأخذ بجميع خصوصيات الصدر فيقتصر فيها على مورده وهو الشك في الركوع بعد الدخول في السجود والشك في السجود بعد الدخول في القيام.

والقول بالتفكيك بين موضوع الشك والغير ، بحمل ذكر الأول على التمثيل وذكر الثاني على التحديد تحكم بحت. وعدم تعرض الإمام علیه السلام للانتصاب والهوي ليس من جهة عدم اعتبار الدخول فيهما ، بل لأجل ان الغفلة الموجبة للشك لا تحصل - عادة - في حالهما لقربهما من الفعل المشكوك (1).

ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به ، لظهور ان ذكر الخصوصيات في رواية إسماعيل انما هو في مقام تحديد الغير.

واما ما ذكره من استلزام ذلك للالتزام بجميع خصوصيات الصدر المستلزم للاقتصار على خصوص مورد الرواية ..

فهو ممنوع ، للعلم بأن خصوصية الركوع والسجود لم تؤخذ في موضوع الشك ، وإلا لكان تعقيب الصدر بالقاعدة الكلية لغوا محضا - كما لا يخفى - فبالجملة : ان الصدر ظاهر في كونه في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة الكلية ، وهو يشتمل على جهتين :

موضوع الشك.

والغير الّذي لا بد من الدخول فيه.

ومقتضى القواعد الأولية هو الأخذ بكلتا الجهتين بخصوصياتهما ، إلاّ انه حيث كان هناك مانع من الأخذ بخصوصيات الجهة الأولى لاستلزامه لغوية ذكر القاعدة الكلية اقتصر على الأخذ بخصوصيات الجهة الثانية حيث لا مانع منه.

فالتفكيك في الصدر بالقول بأنه تحديد من جهة وتمثيل من جهة مما لا بد منه

ص: 164


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 309 - الطبعة الأولى.

فتدبر.

إلحاق : أفتى صاحب المدارك قدس سره بعدم الاعتناء بالشك في الركوع لو كان في حال الهوي إلى السجود ، وبالاعتناء بالشك في السجود في حال نهوضه إلى القيام (1).

وقد أشكل عليه صاحب الحدائق رحمه اللّه ، بان هذه الفتوى أشبه بالفتوى بالمتناقضين (2).

وقد أورد على صاحب الحدائق : بان هذا الكلام مما لا يصلح صدوره من الفقيه ، لأن قاعدة التجاوز ليست من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص والتقييد ، بل هي من القواعد التعبدية التي يقتصر فيها على مورد الدليل ، فكما لا تجري القاعدة بالنسبة إلى اجزاء الوضوء لورود النص ، فكذلك يمكن ان لا تجري في مورد الشك في السجود في حال النهوض لورود النص أيضا (3).

ولكنه يمكن الاعتذار عنه ، بان نظره إلى ان قاعدة التجاوز من القواعد العامة ، فاما أن يكون دليلها شاملا لمورد الشك في الشيء بعد الدخول في مقدمة الفعل الآخر فيكون عاما لجميع الموارد. واما ان لا يكون شاملا فيكون عالما لجميع الموارد أيضا. فالتفكيك بين الموارد غير ظاهر.

وعلى كل ، فالظاهر استناد صاحب المدارك في فتواه إلى روايتي عبد الرحمن الواردتين في كلا الموردين المتضمنتين لمضمون الفتوى ..

أما الأولى فهي : « قلت لأبي عبد اللّه : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟. قال علیه السلام : قد ركع » (4).

ص: 165


1- العاملي الفقيه السيد محمد. مدارك الأحكام4/ 249 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة9/ 177 - الطبعة القديمة.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 302 - الطبعة الأولى.
4- وسائل الشيعة 4 / 937 باب : 13 من أبواب الركوع ، الحديث : 6.

وأما الثانية ، فهي : « قلت لأبي عبد اللّه رجل رفع رأسه عن السجود فشك قبل أن يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟. قال علیه السلام : يسجد قال : فرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟. قال علیه السلام : يسجد » (1).

وهاتان الروايتان غير متباينتين منطوقا لاختلاف موردهما.

وانما الكلام في نسبتهما مع رواية إسماعيل بن جابر .. فمن يذهب إلى اعتبار الدخول في مطلق الغير بمقتضى الإطلاق - كالمحقق الأصفهاني - كان في سعة ، لأن غاية ما يترتب على قوله هو خروج الدخول في النهوض عن الاعتبار بمقتضى الرواية الثانية بالتقييد ، لأن المستفاد من رواية إسماعيل قاعدة كلية يقيد إطلاقها في هذا المورد.

ولا محذور فيه ولا التواء. هذا مع ان التأمل في الرواية الثانية يقرب حملها على قاعدة الفراغ ، وذلك لأنه في سؤاله الأول فرض رفع رأسه عن السجود ثم تحقق الشك ، وهو ظاهر في وقوع السجود منه ، فشكه في السجود وعدمه لا بد ان يرجع إلى الشك في انه سجد واحدة أو اثنتين ، ولكنه لا يتلاءم مع تقييد الشك بما قبل الاستواء جالسا ، إذ لا يختلف الحال في ذلك بين كونه قبل الجلوس أو بعده. مع ان ظاهر النص كون المشكوك فيه نفس ما رفع رأسه عنه.

وعليه ، فاما ان تحمل الرواية على إرادة رفع رأسه عن السجود متخيلا ذلك ثم شك فيه ، أو تحمل على إرادة الشك في صحة سجوده الواقع ، ويمكن ان ينفى السجود بانتفاء بعض خصوصياته المعتبرة فيه - فالشك فيها يصحح قوله : « أسجد أم لم يسجد » - كما ورد في بعض النصوص انه لا سجود لمن لم يصب أنفه بما يصيب جبينه ، وهو مستعمل عرفا وليس ببعيد ، وفي مثله يحتمل الفرق بين الجلوس وما

ص: 166


1- وسائل الشيعة 4 / 972 باب : 15 من أبواب السجود ، الحديث : 6.

قبله باعتبار ان الجلوس حالة أخرى والسائل يشك في ان النهوض للجلوس هل هو حالة أخرى أو لا؟. وقد ورد في بعض روايات قاعدة الفراغ اعتبار الدخول في حالة أخرى وحمل النص على هذا الاحتمال اقرب عرفا (1) ، فيكون أجنبيا عن قاعدة التجاوز فتدبر. ومثله سؤاله الآخر ، لوحدة السياق واتحاد التعبير في السؤالين.

وأما من يرى دلالة الرواية على اعتبار الدخول في خصوص الغير المترتب شرعا ، فالتنافي بين هذه الرواية - أعني : رواية إسماعيل - والرواية الأولى عنده حاصل ، لأن رواية إسماعيل بصدرها تقتضي - بمقتضى ورودها للتحديد - إلغاء الدخول في الهوي عن الاعتبار ، وهذه الرواية - أعني : رواية عبد الرحمن - تدل على اعتباره ، فالتنافي ظاهرا حاصل بينهما. أما الرواية الثانية فهي واردة على مقتضى القاعدة المستفادة من رواية إسماعيل. فلا بد من علاج هذا التنافي وحلّه.

وقد قرب المحقق النائيني عدم التنافي والعلاج بما بيانه : ان السجود تارة : نقول بأنه من الأفعال. وأخرى : نقول بأنه من الهيئات.

فعلى الأول : لا بد من القول باعتبار آخر مرتبة الهوي المتصل بالهيئة الساجدية أو تمام الهوي بعد الركوع في حقيقة السجود ، فإذا تحقق أول جزء منه فقد تحقق السجود.

وعلى هذا لا تكون هناك منافاة بين الروايتين ، لأنه على الاعتبار الثاني - أعني : اعتبار تمام الهوي في حقيقة السجود - تكون رواية عبد الرحمن موضوعها الشك في الركوع بعد السجود ، لأن المفروض انه دخل في السجود بمجرد تحقق الهوي منه ، وهذا الموضوع هو بنفسه موضوع رواية إسماعيل.

ص: 167


1- لم يظهر وجه الأقربية ، بل الأقرب هو الأول ، فيكون المورد من موارد قاعدة التجاوز قبل الدخول في الغير المترتب وهو الجلوس بعد السجود. فلاحظ ( منه عفي عنه ).

وعلى الاعتبار الأول - أعني : اعتبار آخر مراتب الهوي في حقيقة السجود - تحمل رواية عبد الرحمن على هذه المرتبة بقرينة رواية إسماعيل الواردة في مقام التحديد ، فيتحد موردهما ، فلا منافاة بينهما بل بينهما تمام الوفاق.

وعلى الثاني : فيخرج الهوي عن حقيقة السجود ، فيحصل التعارض بين الروايتين ، إلاّ انه يمكن علاجه بالالتزام بتقييد رواية إسماعيل لرواية عبد الرحمن ، وذلك لأن دلالة رواية عبد الرحمن على كفاية مطلق الدخول في الهوي انما كانت بالإطلاق ، فيمكن تقييده وحمله على خصوص الهوي المنتهى إلى السجود بواسطة رواية إسماعيل الدالة على اعتبار الدخول في السجود (1).

ولكن (2) ما أفاده في بيان تقييد رواية عبد الرحمن عجيب منه ، وذلك لما تقرر من ان التقييد إنما يقتضي تخصيص موضوع الحكم بالطبيعة الملازمة للقيد.

وبعبارة أوضح انه عبارة عن تقييد موضوع الحكم في الدليل المطلق ، وهو الطبيعة السارية بحصة خاصة منه مع المحافظة على موضوعية الطبيعة للحكم ، فأحد الدليلين انما يكون مقيدا للآخر فيما كان مفاده أن موضوع الحكم ليس هو الطبيعة على الإطلاق بل الطبيعة المتقررة في الفرد الخاصّ منها.

أما إذا كان مفاد أحد الدليلين أن موضوع الحكم هو الحصة الخاصة لا الطبيعة المتحصصة ، فلا يكون هذا مقيدا للدليل الآخر الدال على ان موضوع الحكم

ص: 168


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 474 - الطبعة الأولى.
2- يمكن ان يناقش أيضا : ان دلالة رواية إسماعيل على الاعتناء بالشك قبل السجود إنما هي بالمفهوم - على ما يأتي - ومن الواضح ان المفهوم بالنسبة إلى رواية عبد الرحمن مطلق لشموله لحالتي القيام والهوي ، واختصاص رواية عبد الرحمن بحالة الهوي ومقتضى القواعد الصناعية تقييد المفهوم برواية عبد الرحمن والالتزام بتعدد الشرط في إلغاء الشك في الركوع. ويحتمل ان إلغاء الشك حال الهوي يستلزم إلغاء خصوصية الشك حال السجود ، لأنه متأخر عن الهوي ، فيتحقق التعارض بين النصين ، فلاحظ. ( منه عفي عنه ).

هو الطبيعة السارية ، بل يكون متعارضا معه ومنافيا له.

فحمل المطلق على المقيد انما يصلح لو كان لسان المقيد بالنحو الأول لا الثاني. فمثلا لو ورد : « أكرم العالم » ثم ورد : « أكرم العادل » ، فتارة : يستفاد من الدليل الثاني تقييد موضوع الحكم وهو العالم بالعادل. وأخرى : يستفاد منه ان موضوع الحكم هو العادل بلا دخل للعلم فيه.

فعلى الأول : يحمل المطلق عليه. وعلى الثاني : لا يحمل لتنافيهما في مقام الدلالة - كما لا يخفى - وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن مفاد رواية عبد الرحمن على ما ذكره الاعتبار بالشك الحادث حال الهوي مطلقا سواء تعقبه السجود أو لم يتعقبه.

ومفاد رواية إسماعيل الاعتبار بالشك الحادث في خصوص السجود ، فقد أخذ حدوثه في حال السجود موضوعا للحكم فيها. وأما بقاؤه إلى حال السجود مع كون حدوثه حال الهوي فهو غير معتبر في هذه الرواية.

وبالجملة : ليس مفاد رواية إسماعيل على اعتبار الشك الحاصل في السجود ولو بقاء كي يقيد به إطلاق رواية عبد الرحمن لعدم المنافاة بينهما حينئذ ، بل مفادها ان موضوع الاعتبار هو الشك الحادث في السجود دون الحادث في حال الهوي ، فهما متنافيان مفادا ، ولا وجه لحمل إحداهما على الأخرى ، إذ مقتضى كونها مقيدا للإطلاق كون مفادها هو عدم الاعتناء بالشك الحاصل حال الهوي المتعقب بالسجود ، وهو أجنبي عن مفادها بالمرة كما هو واضح جدا.

كما أن أعجب منه إيراد السيد الخوئي عليه : بان التنافي بين المنطوقين غير حاصل ، وإنما هو بين مفهوم رواية إسماعيل ومنطوق رواية عبد الرحمن ، ولا مفهوم لرواية إسماعيل إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لأخذ الشك في مدخول الشرط ،

ص: 169

فلا تصلح للتقييد حينئذ (1).

ووجه العجب : ان الاستدلال برواية إسماعيل على نفي اعتبار الدخول في الهوي لم يكن باعتبار مفهوم الشرط كي يقال بأنه هنا سالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم آية النبأ. بل كان باعتبار مفهوم التحديد الّذي قيل عنه بأنه أقوى المفاهيم وان لم يذكر في كتب الأصول ، وهو تام هاهنا كما لا يخفى. فالإيراد بما ذكر خروج عن الفرض.

مع انه يمكن الالتزام بمفهوم الشرط هاهنا وعدم كون الشرط لبيان تحقق الموضوع ، كي يكون المفهوم بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. بتقريب ان موضوع الكلام في الحديث هو الشاك والمقام مقام بيان حكمه ، فقوله علیه السلام : « ان شك في الركوع بعد ما سجد » تفصيل في الشاك ، فالموضوع المقسم هو الشاك في الركوع ، فيكون المفهوم انه ان شك قبل ما سجد يعتني بشكه ، وليس الموضوع هو الشاك في الركوع بعد السجود ، فانتبه.

هذا ، مع ان الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع إذا كان مقيدا بما لا يكون دخيلا في الموضوع عقلا - كما فيما نحن فيه وآية النبأ - قد يلتزم بثبوت المفهوم فيه إذا انتفى ذلك القيد ، وان ناقشناه في محله ، فراجع مبحث الاستدلال على حجية خبر الواحد بمفهوم آية النبأ ، وقد تقدم ان من جملة القائلين بالمفهوم السيد الخوئي.

ثم أنه ( حفظه اللّه ) أجاب عن الصحيحة بقصورها عن إثبات المدعى بنفسها.

بتقريب : انه قد عبر فيها بلفظ : « أهوى » بصورة الماضي ، وهو يدل على تحقق الهوي ومضيه ، فيكون موردها هو الشك بعد الوصول إلى السجود ، ولا دلالة فيها على عدم الاعتناء بالشك في الركوع حال الهوي.

نعم ، لو عبر بلفظ المضارع لدلت على المدعى ، واستشهد لما ذكر بمراجعة

ص: 170


1- الواعظ الحسيني. محمد سرور. مصباح الأصول3/ 303 - الطبعة الأولى.

الاستعمالات العرفية وان قولنا : « زيد يصلي » يختلف مفادا عن : « زيد صلى » ، فالأوّل يدل على اشتغاله في الصلاة والثاني يدل على انتهائه منها وتحققها منه.

وهذا التقريب منه غير تام ، فان لفظ : « أهوى » وان دل على تحقق الهوي ومضيه ، إلا انه لا ينافي إرادة الشك حال الهوي ، نظير قوله علیه السلام في بعض النصوص : « بعد ما سجد » وشبهه ، فانه لا إشكال في إرادة الشك حال السجود منه مع دلالة اللفظ على تحققه بعد تحقق السجود.

نعم ، ما ذكره في مثل : « صلى » و « يصلي » تام ، ونكتة الفرق : ان اللفظ تارة يكون موضوعا لمجموع اجزاء العمل بحيث لا يصدق على كل جزء بخصوصه.

وأخرى يكون موضوعا للمجموع ولكن يصدق على كل جزء من أجزائه. فالأوّل نظير لفظ : « الصلاة » ، فانها موضوعة لمجموع الاجزاء ولا يصدق على كل جزء لفظ : « الصلاة » ، ولا تصدق الصلاة قبل الإتيان بالمجموع. والثاني نظير لفظ السجود ، فانه يصدق على كل جزء من هذه الهيئة الخاصة سجود ، ويصدق السجود بتحقق أول جزء منه.

فما كان من قبيل الأول لا يصح التعبير به بلفظ الماضي بعد تحقق مجموع الاجزاء ، ولذلك كان التعبير بلفظ : « صلى » ، دالا على تحقق الصلاة منه ومضيها ، والتعبير بلفظ : « يصلي » دالا على الاشتغال بها.

أما ما كان من قبيل الثاني ، فيصح التعبير به بلفظ الماضي بعد الإتيان بأول جزء منه ولو لم ينته منه ، فيقال : « زيد سجد » إذا تحقق منه السجود ولو كان حين الاخبار عنه مشغولا بعد بالسجود. ومن قبيل : « السجود » لفظ : « الهوي » فانه لم يوضع لمجموع اجزاء العمل الخاصّ بل يصدق على كل جزء منه لفظ الهوي ، فلا مانع من التعبير بلفظ : « أهوى » الدال على تحقق الهوي ومضيه مع إرادة حال الهوي ، ولا منافاة بين الأمرين ويشهد له التعبيرات الكثيرة الواردة في لسان

ص: 171

النصوص ، فراجع.

وعليه ، فلا ظهور في الرواية في كون موردها هو الشك في الركوع بعد الوصول إلى السجود.

فالأولى في الجمع بين الروايتين أن يقال : أن رواية عبد الرحمن تدل على إلغاء الشك الحاصل بعد تحقق الهوي ، وهذا مطلق يحتمل فردين :

الأول : الشك حال الهوي.

الثاني : الشك بعد الانتهاء منه والوصول إلى السجود.

فان كلا منهما يصدق عليه شك بعد الهوي. ورواية إسماعيل تدل على إلغاء خصوص الفرد الثاني من الشك دون الأول ، فيقيد بها إطلاق رواية عبد الرحمن. ولا يرد على هذا الحمل الإشكال المزبور الّذي ذكرنا وروده على ما ذكره المحقق النائيني ، لأن المطلق لم يؤخذ هاهنا هو الشك حال الهوي ، كي يقال بان رواية إسماعيل منافية مفادا لتلك الرواية ، لأن مفادها كون موضوع الحكم هو الشك الحادث حال السجود فقط ، فالطبيعة السارية غير مأخوذة في موضوع الدليل المقيد ، بل أخذ هاهنا الشك بعد الهوي ، وهو مأخوذ في موضوع رواية إسماعيل ، لأن موضوعها هو الشك الحادث حال السجود ، وهو شك بعد الهوي كما لا يخفى.

هذا ، مع ان التحقيق عدم تصور تحقق التجاوز عن الركوع بالهوي إلى السجود ، لأن الهوي إذا لم يكن قد وصل إلى حد الركوع وشك في الركوع لم يكن متجاوزا عن محل الركوع لتمكنه من الركوع فعلا بلا أي شيء ، بل هذا الهوي من مقدمات الركوع. وان كان الهوي متجاوزا حد الركوع ، فهو ليس بنفسه مما يترتب على الركوع بل المترتب هو مجموع الهوي بين القيام والسجود. إذن فلا يتصور تحقق التجاوز عن الركوع بتحقق الهوي ، لأنه بكلا حدّيه غير محقق للتجاوز ، لأنه ليس من الدخول في الغير المترتب ولو بالترتب غير الشرعي.

ص: 172

وعليه ، فاما ان تحمل الرواية على بيان حكم تعبدي بإلغاء الشك في الركوع إذا وجد الإنسان نفسه مشغولا بالهوي إلى السجود ولو لم يكن من مصاديق قاعدة التجاوز. واما ان تحمل على تحقق الشك بعد السجود لا قبله ويكون المراد بقوله : « أهوى إلى السجود » هو الكناية عن سجوده. والاحتمال الأول بعيد جدا بل يقطع بخلافه فيتعين الثاني (1).

ص: 173


1- ثم انه يقع الكلام في موردين : المورد الأول : في جريان قاعدة التجاوز مع الدخول في جزء مستحب كالشك في القراءة بعد الدخول في القنوت. وتحقيق الكلام : انه إما ان نلتزم بان القنوت جزء مستحب بالتصوير المتقدم في أواخر مبحث الصحيح والأعم ، واما ان لا نلتزم بذلك ، ونقول باستحالته كما ذهب إليه بعض ونلتزم بأنه مستحب في واجب. فعلى الأول : تجري قاعدة التجاوز في القراءة. وعلى الثاني لا تجري. وذلك لأن التجاوز عن المحل المعتبر في قاعدة التجاوز لا يتحقق إلا إذا فرض أخذ المشكوك سابقا على المدخول فيه بان اعتبر سابقيته عليه كما اعتبر تأخر المدخول فيه عنه. وإلا فمجرد الدخول في الغير المترتب المعتبر تأخره عن المشكوك لا يوجب صدق التجاوز عن محل المشكوك ، لعدم أخذ المشكوك سابقا عليه ، فلم يفت محله ، ولا يصدق التجاوز عنه. ولذا بيّنا ان قاعدة التجاوز لا تجري في صلاة الظهر مع الشك فيها بعد الدخول في صلاة العصر ، لعدم اعتبار سابقيتها على صلاة العصر فيها وان اعتبر ذلك في صلاة العصر ، نعم ، بمقدار شرطيتها لصلاة العصر تجري فيها قاعدة التجاوز. وعلى هذا فإذا كان القنوت جزء للواجب بحيث يشمله الأمر المؤكد على ما قربناه ، كان يعتبر في القراءة المتعلقة لهذا الأمر ان تكون سابقة على القنوت ، فإذا دخل في القنوت تحقق التجاوز عن القراءة فمع الشك فيها تجري القاعدة. وأما إذا لم يكن القنوت جزء ، بل كان مستحبا ظرفه الصلاة. فهو وان اعتبر فيه ان يكون مسبوقا بالقراءة. لكن لم يؤخذ في القراءة ان تكون سابقة على القنوت ولذا لو تركه لا يلزم إخلال في القراءة. ومقتضاه ان الدخول في القنوت لا يحقق التجاوز عن القراءة لعدم فوات محلها ، فلا تجري قاعدة التجاوز فيها مع الشك إلا بمقدار تصحيح القنوت بها ، لأنها بهذا المقدار مما تحقق التجاوز عنه ، كما في مثل صلاة الظهر وصلاة العصر. فتدبر. المورد الثاني : في جريان قاعدة التجاوز في مثل السجدة إذا شك فيها وهو في القيام للثالثة مع علمه بنسيان التشهد. والحق عدم الجريان ووجهه : ان المعتبر في التجاوز الدخول في ذات الغير المترتب - كما عرفت -. ومن الواضح ان القيام المترتب على السجود هو القيام المسبوق بالتشهد لا مطلق القيام. فمع العلم بعدم تحقق التشهد يعلم بان هذا القيام ليس هو القيام المترتب بذاته على السجود ، فلا يتحقق به التجاوز عن محل السجدة. وهذا الوجه هو العمدة. لا ما ورد في بعض الكلمات من لغوية القيام شرعا في تنزيله منزلة العدم ، أو انه بالعود إلى التشهد يكون الشك شكا في المحل. فتدبر. هذا حكم ما لو علم بترك التشهد. أما لو شك فيه أيضا بان شك في الإتيان بالسجدة والتشهد فله صورتان : إحداهما : ان يشك فيهما بنحو التلازم وبشك واحد ، بان كان يدور أمره بين الإتيان بهما معا وتركهما معا. والأخرى : ان يشك في كل منهما بشك مستقل بلا تلازم بينهما. أما الصورة الأولى : فالحكم فيها انه لا تجري فيها قاعدة التجاوز لا في السجدة ولا في التشهد. أما في السجدة ، فلأنه مع الشك في تحقق التشهد لا يعلم ان القيام الّذي هو فيه المترتب على السجود أو غيره ، كما أشرنا إليه ، فلا يجوز تحقق التجاوز ، فيكون من موارد الشبهة المصداقية لعموم القاعدة. وأما في التشهد ، فلعدم إحراز تجاوز المحل بالنسبة إليه وذلك لأن المعتبر في التشهد ان يكون بعد السجود وقبل القيام ، فمحله ما بين السجدة والقيام ، فمع الشك في تحقق السجدة لا يحرز تجاوز محل التشهد عند الدخول في القيام ، لأن تجاوز محله يتوقف على تحقق السجدة ، والمفروض تحقق الشك فيها. ومن هنا يظهر الحال في الصورة الثانية وانه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في السجدة ولا في التشهد.

ص: 174

تذنيب : (1) في الشك في الجزء الأخير من العمل ، وهو يتصور على وجوه :

ص: 175


1- تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الجزء الأخير : ان الاحتمالات أو الأقوال فيها أربعة : عدم الجريان مطلقا سواء دخل في امر مرتب شرعا كالتعقيب ، أو دخل في المنافي السهوي والعمدي كالاستدبار. والجريان مطلقا. والتفصيل بالجريان في الأول دون الثاني. والتفصيل بالعكس. وهذا هو الأقوى. وبيانه : ان التجاوز عن المحل يعتبر فيه أخذ المتجاوز عنه سابقا على المدخول فيه ولا يكفي فيه مجرد أخذ المدخول فيه متأخرا عن المشكوك كما عرفت في القنوت والقراءة وصلاة الظهر وصلاة العصر. وبعبارة أخرى ، يكون السبق مأخوذا في صحة السابق ، ولا يكفي أخذه في صحة اللاحق. وعليه ، فمثل التعقيب وان أخذ متأخرا عن التسليم ، إلا أنه لم يؤخذ في التسليم ان يكون قبل التعقيب ، بل يصح ولو لم يتعقبه تعقيب. فلو قدم التعقيب لم يبطل التسليم ، بل يبطل التعقيب لفقدان شرطه. وعليه فلا يتحقق التجاوز عن التسليم بالدخول في التعقيب - كما ادعي لأجل انه دخول في الغير المترتب شرعا - ، نظير الوضوء لو أخذ بنفسه شرطا للصلاة فانه قد عرفت ان قاعدة التجاوز انما تجري فيه بمقدار ما يصحح به الصلاة لا بإتيانه بقول مطلق وهكذا في مثل صلاة الظهر لو شك فيما بعد الدخول في العصر. ومن الغريب ان من يذهب في تلك الموارد إلى عدم إجراء قاعدة التجاوز إلاّ بمقدار تصحيح المشروط بالمشكوك ، يذهب في ما نحن فيه إلى جريان القاعدة لإثبات التسليم ، مع انهما من واد واحد. فتدبر. فظهر بهذا البيان وجه عدم جريان القاعدة عند الشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب. وأما جريانها عند الشك فيه بعد الدخول في المنافي السهوي والعمدي ، فقد ينفي بان المنافي ليس أمرا مترتبا على التسليم كي يكون الدخول فيه محققا للتجاوز. ولكن التحقيق : ان التسليم وان لم يؤخذ سابقا على المنافي في لسان الأدلة. إلا انه من ملاحظة دليل مانعية المنافي إذا وقع أثناء الصلاة يستفاد اعتبار تعقب التسليم للتشهد بلا فصل بالمنافي ، فيعتبر في التسليم ان يقع عقيب التشهد بلا ان يفصل المنافي بينهما. فمحل التسليم بعد التشهد بلا فصل ، فإذا فرض تحقق المنافي في الأثناء لزم من ذلك فوات محل التسليم وتجاوزه ، فالشك فيه والحال هذه يكون من الشك بعد التجاوز ، فيكون من موارد القاعدة. هذا تحقيق الحال في هذه المسألة وقد ظهر مما ذكرناه وجوه الأقوال الأخرى ومناقشتها. هذا بالنسبة إلى قاعدة التجاوز. وأما جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير فتحقيق الكلام فيه بإجمال : ان الشك في الجزء الأخير تارة : يكون مع عدم الدخول في الغير أصلا ، بل هو بعد على هيئة المصلى ولكن يشك انه جاء بالجزء الأخير أو لم يجئ. وفي مثله لا تجري قاعدة الفراغ لعدم العلم بتحقق المضي والفراغ من العمل لاحتماله ان يكون سكوته من الآنات المتخللة بين أفعال الصلاة ، لا الآن المتعقب للتسليم ، فلا يحرز موضوع القاعدة. وأخرى : يكون مع الدخول في المنافي السهوي كالاستدبار. ومحل الكلام ما إذا وجد نفسه في حالة غير صلاتية ، بمعنى انه لم يكن ناويا للصلاة وشك في أن ذلك كان منه قبل التسليم سهوا أو انه كان منه بعده ، ومثّل له بما إذا أفاق فرأى نفسه في السجود وشك في انه سجود الشكر بعد الصلاة أو انه سجود الركعة الأخيرة ، فان حالته الفعلية حالة غير صلاتية ، وقد اعتبر المحقق النائيني في جريان القاعدة بتحقق معظم الاجزاء. ونوقش بان تحقق المعظم يلحظ في تحقق عنوان الصلاة في قبال عدمه لا في كون الشك بعد الفراغ في قبال كونه في الأثناء الّذي هو المقصود فيما نحن فيه. والتحقيق : ان المراد من لفظ الفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل فان مفهومه يساوق ذلك فانه بمعنى الخلو ، ومن الواضح ان تحقق المنافي السهوي بالنحو الّذي فرضناه يحقق عدم الاشتغال بالعمل والخلوّ عنه لعدم كونه ناويا للصلاة فعلا ، فيصدق به الفراغ فيكون من موارد القاعدة. وليس المراد بالفراغ هو الإتمام والانتهاء من العمل في قبال كونه في الأثناء ، بل صدق الفراغ على الإتمام من باب استلزامه للخلو وعدم الشغل. ولو سلم كون المراد منه هو إتمام العمل والانتهاء منه ، فلا يخفى ان المراد بالعمل ما يعم الصحيح والناقص لا خصوص الصحيح التام ، لأنه ينافي فرض الشك في الصحة. ومن الواضح انه يصدق بتحقق المعظم ، فإذا تحقق المعظم صدق الفراغ عن العمل والانتهاء منه بعد الدخول في القاطع ، فان الدخول في القاطع دخول في حالة مباينة للصلاة ، والمفروض تحقق الصلاة بتحقق المعظم ، فقد صدق الانتهاء من الصلاة - بالمعنى الأعم - ولعل هذه النكتة هي السبب في اعتبار المحقق النائيني تحقق المعظم في جريان القاعدة ، فلا يتوجه عليه النقاش المزبور. هذا مع انه ليس في روايات الباب ما ورد فيه التعبير بالفراغ الا رواية زرارة الواردة في الوضوء المتكفلة للتفصيل بين الشك في أثناء الوضوء والشك بعده وهي واضحة الدلالة بملاحظة صدرها على كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل وعدم الخلو منه. فلا فلاحظها. هذا كله بالنسبة إلى عنوان الفراغ. وأما لفظ المضي ، فقد ذهب السيد الخوئي إلى انه بمعنى الفوات وعدم إمكان التدارك ولذا لم يلتزم بجريان القاعدة إذا كان الشك بعد الدخول في المنافي العمدي خاصة كالتكلم لاحتمال كونه سهويا فيمكن التدارك. ولكن فيه : انه لا قرينة على هذا الظهور بل الظاهر انه بمعنى التحقق في الزمان الماضي والسابق ، وعليه ، فلا يختلف الحال فيه بين الدخول في المنافي السهوي أو العمدي ، بعد تحقق معظم الاجزاء لصدق مضي الصلاة إذا وجد نفسه فعلا في حالة غير صلاتية. كما هو محل الكلام. ثم لا يخفى انه بناء على ما ذكرناه من كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل ، لا يتحقق الفراغ إلا بالبناء على تمامية العمل ، فيكون الفراغ المقصود هو الفراغ البنائي ، لكن لا من باب استعمال لفظ الفراغ في الفراغ البنائي دون الحقيقي كي يقال انه لا دليل عليه بعد كونه خلاف الظاهر ، بل الفراغ مستعمل في الفراغ الحقيقي ، لكن الفراغ الحقيقي بالمعنى الّذي عرفته لا يتحقق إلا بعدم نية العمل وبنائه على تماميته ، إذ ما دام ناويا للعمل يكون مشتغلا به. نعم ، الفراغ بمعنى الإتمام والانتهاء في مقابل الأثناء يتحقق حقيقة ولو بدون بناء إذ العمل يتم ولو فرض انه بعد بانيا على عدم التمامية اشتباها وسهوا. واما الاشتغال فلا حقيقة له الا نية العمل لأن الصلاة معنى قصدي يتقوم بالقصد فما دام ناويا للصلاة فهو بعد مشتغلا بها ولو كان اشتغاله سهويا ، فلاحظ تعرف.

ص: 176

ص: 177

الأول : أن يكون الشك فيه مع عدم الاشتغال بشيء أصلا وعدم تحقق السكوت الطويل الموجب لفوات محل التدارك ، ولا إشكال في عدم كون مثل هذا الشك موردا لقاعدة التجاوز ، لعدم تحقق التجاوز عن المحل والدخول في الغير المعتبر في جريان القاعدة.

الثاني : ان يكون الشك بعد الاشتغال بأمر غير مرتب على الجزء الأخير ولكنه كان منافيا له بوجوده العمدي ، كما لو شك في التسليم وهو مشغول في الكلام.

وقد بنى السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - في مصباح الأصول - على عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذا الفرض ، لعدم التجاوز في مثل هذا الفرض ، لعدم التجاوز عن المحل وإمكان التدارك لكون المفروض انه ليس منافيا للجزء الأخير بوجوده المطلق بل بوجوده العمدي ، فيمكن التدارك لاحتمال كون الكلام صدر عن سهو (1).

وفيه :

أولا : ان فوات محل التدارك ليس مقوما لتحقق التجاوز عن المحل وإلا للزم أن يخص جريانها في موارد الشك في الشيء مع الدخول في الغير الركن ، فلا تشمل مورد الشك في التكبيرة وهو في القراءة والشك في السجود وهو في التشهد أو في القيام ، ولا ملتزم بذلك ، كيف؟ وهذه الموارد مورد النصوص.

وثانيا : انه لم يؤخذ في لسان الرواية التجاوز عن المحل من مقومات قاعدة التجاوز كي يقال بأنه في مثل هذا الفرض لا تجري القاعدة لعدم التجاوز عن المحل ، بل المقوم لجريان القاعدة هو صدق التجاوز عن الشيء بالعناية ، سواء تجاوز عن المحل أم لم يتجاوز ، لأنه هو المأخوذ في لسان الرواية موضوعا للقاعدة.

ص: 178


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 293 - الطبعة الأولى.

وفي مثل الفرض يصدق التجاوز بالعناية باعتبار أن الملتفت إلى العمل لا يترك الجزء الأخير ويأتي بالمنافي ، فمع إتيانه بالمنافي يصدق لا محالة التجاوز عن التسليم بالعناية ، فيتحقق موضوع القاعدة.

وهذا الوجه مأخوذ مما أفاده المحقق الأصفهاني في مقام تحقيق معنى الغير الّذي لا بد من الدخول فيه ، وبه جزم بان المراد به مطلق الغير مما لا يجتمع مع ترك المشكوك حال الالتفات (1).

ومما ينبغي ان يعلم ان هذا الكلام في هذا الفرض مبني على اعتبار الدخول في مطلق الغير ، وإلا فمع اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا بالخصوص لا إشكال في عدم جريان القاعدة حينئذ.

الثالث : ان يكون الشك فيه بعد الاشتغال بأمر مرتب عليه شرعا ، ولكنه غير مانع من تداركه ، كالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب.

وقد بنى المحقق النائيني قدس سره في هذا المثال بالخصوص على جريان قاعدة التجاوز لصدق الدخول في الغير ، واستشهد على ذلك بإلغاء الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة الوارد في رواية زرارة السابقة. بتقريب : ان الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة يشرف الفقيه على القطع بعدم الاعتناء بالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب ، لاتحادهما في الخروج عن حقيقة الصلاة (2).

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بإيرادين :

الأول : انه لا ملازمة بين الموردين في جريان قاعدة التجاوز ، لأنه منوط بالتجاوز عن المحل ، وهو لا يصدق إلاّ فيما كان محل المشكوك سابقا بحسب الجعل

ص: 179


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 309 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 234 - الطبعة الأولى.

الشرعي على الغير الّذي صار الشك بعد الدخول فيه ، وكان محل الغير مؤخرا عن المشكوك فيه.

وهذا المعنى موجود في الأذان والإقامة دون التسليم والتعقيب فان الأذان قد أخذ محله شرعا سابقا على الإقامة أخذ محلها متأخرا عن الأذان ولو بلحاظ أفضل افرادها.

والتعقيب وان أخذ مؤخرا عن التسليم ، لكن التسليم لم يؤخذ شرعا سابقا على التعقيب ، إذ لا يشترط في التسليم وقوعه قبل التعقيب كما لا يخفى ، فالتجاوز عن المحل صادق عند الشك في الأذان حال الاشتغال بالإقامة ، وغير صادق عند الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب ، فجريان قاعدة التجاوز هناك لا يستلزم جريانها هنا.

الثاني : بالنقض بما لو شك في إتيان الصلاة حال الاشتغال بالتعقيب ، فانه مع الالتزام بجريان القاعدة في الشك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، لا بد من الالتزام بجريانها في الشك في الصلاة مع الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار ، لأن التعقيب مترتب شرعا على الصلاة. مع انه لا ملتزم بذلك من الفقهاء بل المتفقهين (1).

وهذان الإيرادان وجيهان في الجملة ، ولكنه يمكن مناقشتهما في أنفسهما ..

أما الأول : فهو تام لو لم يلتزم بما أفاده المحقق الأصفهاني الّذي ذكرناه في الوجه الثاني ، لتقوم صدق التجاوز عن المحل باعتبار السابقية على الغير شرعا.

أما مع الالتزام بما أفاده قدس سره من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل في جريان القاعدة ، بل المعتبر هو صدق التجاوز بالعناية ، فلا يبقى فرق فارق بين الصورتين - أعني : صورة الشك في الأذان وصورة الشك في التسليم - لتحققه في

ص: 180


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 294 - الطبعة الأولى.

صورة الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار السابق ، وهو ان الملتفت لا يترك التسليم ويأتي بالتعقيب ، فمع إتيانه بالتعقيب يصدق التجاوز عن التسليم بالعناية.

فالفرق الّذي ذكره مع الالتزام بهذا القول لا يكون فارقا.

وأما الثاني : وهو النقض ، فحله بناء على الالتزام بهذا الرّأي بان صدق التجاوز المسامحي عن الشيء غير المترتب شرعا انما يتحقق بملاك ان الملتفت لا يجمع بين الأمر الداخل فيه وترك المشكوك عمدا. وهذا الملاك انما يوجب الصدق المسامحي فيما لو كان عدم ترك المشكوك لأجل امتثال الأمر المتعلق به ، أما لو كان عدم تركه ليس لأجل امتثال الأمر المتعلق به ، بل لأجل امتثال الأمر المتعلق بالغير الداخل فيه ، فلا يكون هذا الملاك موجبا لصدق التجاوز المسامحي عن المشكوك ، فلا يكون المورد مجرى لقاعدة التجاوز.

بيان ذلك فيما نحن فيه : ان عدم ترك التسليم والدخول في التعقيب عمدا من الملتفت انما يكون لأجل امتثال الأمر المتعلق بالتسليم ، ولأن تركه يوجب بطلان الصلاة وليس هو لأجل تحقق مشروعية التعقيب - لأنه غير مشروع قبل انتهاء الصلاة - وان كان بعدم الترك يصير مشروعا. أما عدم ترك الصلاة عمدا من الملتفت والدخول في التعقيب ، فهو ليس إلا لأجل تحقق مشروعية التعقيب وحتى لا يكون الإتيان به بدون الصلاة لغوا ، وليس لأجل امتثال الأمر المتعلق بالصلاة ، إذ بالترك لا يتحقق شيء ولا يفوت محلها.

ولأجل ذلك لا يصدق التجاوز عن الصلاة فلا تكون موردا لقاعدة التجاوز ، بخلاف التسليم فانه يصدق التجاوز عنه فتجري فيه قاعدة التجاوز. فالفرق بين الصورتين بجريان قاعدة التجاوز في الأولى دون الثانية هو هذه الجهة ، فالتفت ولا تغفل.

ثم انه قد يشكل على جريان القاعدة في التسليم بعد الدخول في التعقيب ..

ص: 181

بان رواية إسماعيل لما كانت واردة في مقام التحديد ، فهي كما تدل على تحديد الغير بالغير المترتب شرعا كذلك تدل على تحديد موضوع الشك والغير بالجزء الشرعي ، بحيث يكون كل من المشكوك المتعبد به والغير الداخل فيه جزء للعمل ، فلا تشمل القاعدة ما كان الشك في جزء مع الدخول في غير الجزء المترتب كالتسليم والتعقيب. ولو تنزل عن ظهورها في ذلك ، فلا أقل من احتماله ومع احتمال ذلك يلزم إجمال العموم المذكور في الذيل من هذه الجهة ، لاحتفافها بما يصلح للقرينية ، فلا يصح التمسك به على التعميم ، بل يقتصر فيه على القدر المتيقن ، وهو ما ذكرناه من كون المشكوك والمدخول فيه جزءين لعمل واحد.

والجواب : منع ظهورها في ذلك ، فانه لا دلالة في الكلام على ذلك كي يؤخذ به بمقتضى مفهوم التحديد. وأما احتماله فهو وان كان موجبا لإجمال العام المذكور في الذيل ، إلاّ ان ذلك لا يضر بالتعميم لعموم رواية زرارة ، وإجمال رواية إسماعيل لا يضير بظهور عموم رواية زرارة في التعميم.

الرابع : ان يكون الشك فيه بعد الدخول في المنافي المطلق - أعني : العمدي والسهوي - كالاستدبار والحدث.

ولا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز لو التزم باعتبار الدخول في الغير المترتب ، لأن المنافي غير مترتب كما لا يخفى.

وأما مع الالتزام بكفاية الدخول في مطلق الغير ، فلا مانع من جريان القاعدة فيه لصدق التجاوز المسامحي بالملاك السابق الذّكر.

وقد بنى السيد الخوئي على عدم جريانها ، لعدم صدق التجاوز عن المحل لأن التسليم غير مأخوذ سابقا على المنافي (1).

ولكنه يرد عليه ما عرفت من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل ، بل ليس

ص: 182


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 293 - الطبعة الأولى.

المعتبر إلا صدق التجاوز العنائي. وقد عرفت صدقه.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره في المقام : بان مختاره في الدورة السابقة كان جريان القاعدة حيث يصدق الدخول في الغير المترتب شرعا ، لأن المنافي مباح بعد الصلاة لقوله : « تحليلها التسليم » فيكون مترتبا على الصلاة ، لأن التسليم محلل للمنافيات. إلا انه عدل عنه في هذه الدورة باعتبار اختصاص أدلة القاعدة بما كان الغير المدخول فيه من اجزاء المركب أو من ملحقاته لا مطلق الغير ولو كان أجنبيا ، فلا تكون الصورة مجرى للقاعدة ، لأن الغير المدخول فيه أجنبي عن المركب (1).

ولكن ما ذكره أخيرا يندفع بإطلاق النصوص وعدم ظهورها في الاختصاص بمورد خاص.

وأما ما ذكره أولا - والظاهر ارتضاؤه له بنفسه وعدم عدوله عنه بذاته ، بل انما عدل عن نتيجته - من ترتب المنافي على التسليم باعتبار كون التسليم محللا ، فلا نعرف له وجها ظاهرا ، لأن المنافي كالاستدبار لا معنى لترتبه بلحاظ ذاته على التسليم ، وانما يتصور ترتبه باعتبار حكمه ، وهو ذو أحكام أربعة : الحرمة التكليفية ، والحرمة الوضعيّة - وهي القاطعية والمنافاة - والجواز التكليفي والجواز الوضعي.

والأولان يترتبان عليه إذا حصل في الأثناء ، والأخير - ان يترتبان عليه إذا حصل بعد الفراغ. فإذا كان المنافي محكوما بهذه الأحكام بالاعتبارين ، فلا يتصور ترتبه بنفسه على الصلاة كي يكون الدخول فيه محققا للدخول في الغير المترتب ، وانما هو بأحد صوره مترتب وهو الفرد المحلل ، ولكن الواقع حيث لا يعلم حاله فلا يمكن الجزم بأنه الفرد المترتب أو غيره فلا يعلم بتحقق الدخول في الغير المترتب. نعم ، لو كان بجميع أحكامه ملحوظا بعد الفراغ كان مترتبا شرعا ولكنه ليس كذلك ، فتصور ترتب مثل الاستدبار على التسليم غير واضح. فتدبر.

ص: 183


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 472 - الطبعة الأولى.
تنبيه :

قد يقال : بان اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا يستلزم عدم جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء ، لما عرفت من ان الترتيب بين أجزاء الجزء ليس بشرعي ، بل هو مقوم للمأمور به بحيث يكون الإخلال به إخلالا بنفس الجزء المأمور به لا إتيانا به بغير ترتيب ، كما تقدم تقريبه في تكبيرة الإحرام. وعليه فمع الشك في جزء الجزء مع الدخول في الجزء الآخر للجزء ، كالشك في كلمة : « اللّه » مع الدخول في كلمة : « أكبر » لا يتحقق الشك بعد الدخول في الغير المترتب شرعا لعدم ترتب كلمة : « أكبر » على كلمة : « اللّه » شرعا ، بل الترتيب بينهما عقلي ، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز.

ولكنه يمكن التفصي عن هذا الإشكال بأحد وجهين :

الأول : أن الترتيب وان كان مقوما للمأمور به عقلا إلا ان هذا لا ينافي تعلق الأمر به ، وذلك لأن المأمور به إذا كان متقوما بالترتيب كان مركبا من مادة وصورة ، فالمادة هي نفس الألفاظ الخاصة كلفظ : « اللّه » و : « أكبر » في التكبير ، والصورة هي الهيئة الخاصة التي يؤتى بالألفاظ عليها. وحينئذ فالأمر بهذا المركب أمر بمادته وصورته ، لأن معناه الإتيان بهذه الألفاظ بالنحو الخاصّ من التقديم والتأخير ، فالصورة التي هي عبارة أخرى عن الترتيب مأمور بها كما أن المادة مأمور بها ، وذلك لا يتنافى مع تقوم المأمور به بالترتيب. فمثلا بيت الشعر عبارة عن الألفاظ الخاصة على الهيئة المخصوصة بحيث إذا كان الإتيان بالألفاظ لا على الهيئة المخصوصة لا يعد ذلك شعرا ، فالوزن مقوم لصدق الشعر ، فالأمر بالشعر لما كان معناه الأمر بالألفاظ الموزونة يكون في الواقع أمرا بالوزن كما هو أمر بنفس الألفاظ.

وعليه ، فإذا كان الترتيب مأمورا به شرعا كان الدخول في الجزء الآخر للجزء دخولا في الغير المترتب شرعا.

ص: 184

الثاني : انه لو تنزل عن هذا وقيل بعدم تعلق الأمر بالترتيب ، فرواية إسماعيل لا دلالة لها على عدم إلغاء الشك في جزء الجزء بعد الدخول في غيره غير المترتب شرعا ، وذلك لأن غاية ما تدل عليه بمقتضى مفهوم التحديد هو عدم اعتبار الدخول في المقدمات عند الشك في الجزء ، أما عدم اعتبار كون المشكوك جزءا مستقلا للعمل فهو وان كان محتملا إلا انه لا دلالة لها بوجه على ذلك ، كما لا دلالة لها على اعتبار كون المشكوك وظرف الشك جزءين لعمل واحد على ما عرفت.

وعليه ، فيمكن التمسك على تعميم القاعدة لجزء الجزء برواية زرارة فالتفت.

هذا تمام الكلام فيما يعتبر في جريان قاعدة التجاوز.

الجهة التاسعة : في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ.

والكلام في هذه الجهة في مقامين :

المقام الأول : فيما إذا كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في غير الجزء الأخير ، بحيث يتحقق الفراغ بمجرد الإتيان بالجزء الأخير.

فهل يعتبر الدخول في الغير مطلقا ، أو لا يعتبر مطلقا بل يكتفي بمجرد الفراغ ، أو يفصل بين الوضوء وغيره فيعتبر في الأول دون الثاني؟ وجوه وأقوال.

ومقتضى إطلاق الأدلة الدالة على اعتبار القاعدة عدم اعتبار الدخول في الغير ، إذ لم يؤخذ في موضوعها سوى تحقق المضي عن العمل ، وهو يتحقق بمجرد الفراغ ولو لم يدخل بعد في غير العمل.

وقد قيل بتقييد هذه المطلقات برواية زرارة الواردة في باب الوضوء عن أبي جعفر علیه السلام : قال علیه السلام : « إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو لم تمسحه مما سمى اللّه ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى اللّه مما

ص: 185

أوجب اللّه عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه .. » (1).

بتقريب : انه أخذ في إلغاء الشك بعد الفراغ الصيرورة في حال أخرى ولم يكتف بمجرد الفراغ. وهي وان كان موضوعها الشك في الوضوء إلاّ انه بضميمة عدم القول بالفصل بين الوضوء وغيره من الأعمال تدل بالالتزام على اعتبار الدخول في الغير عند الشك في غير الوضوء بعد الفراغ عنه ، فيبنى حينئذ على تقييد المطلقات بهذه الرواية كما هو شأن كل مطلق ومقيد.

إلاّ ان هذا القول غير وجيه ، إذ لم يثبت عدم الفصل بين الوضوء وغيره ، فيحتمل ان يكون الوضوء له خصوصية تقتضي اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه ، وهي لا توجد في غيره من الأعمال ، بل ثبت بعدم قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء وجريانها في غير اجزائه ، وجود الفرق بين الوضوء وغيره ، فلا يبعد ان يعتبر الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه دون غيره.

ثم انه قد استشكل في دلالة الرواية على أصل المدعى - أعني : اعتبار الدخول في الغير - من وجوه :

الأول : أن موضوع الشك بعد الفراغ لم يبين في الرواية ، فيمكن ان يحمل على الجزء الأخير فيكون الدخول في الغير من محققات الفراغ عن الوضوء لا أمرا زائدا عليه.

ووجه الحمل : هو ظهور المطلقات في كفاية مطلق الفراغ ، فوجه الجمع بينهما حمل الرواية على كون موضوع الشك هو الجزء الأخير ، فلا يكون هناك تغاير وتناف بينهما حتى بالإطلاق والتقييد ، بل تكون الرواية واردة في بيان إحدى صغريات الكبرى الدالة عليها المطلقات ، لما عرفت ان المضي عن العمل لا يتحقق مع الشك في الجزء الأخير إلاّ بالدخول في الغير.

ص: 186


1- وسائل الشيعة 1 / 330 ، باب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث : 1.

وفيه ما لا يخفى : فان هذا انما يتجه ان يقال لو لم يذكر في الصدر مورد الشك ، فيقال الرواية مجملة من هذه الجهة فتحمل على إرادة الشك في الجزء الأخير جمعا بينها ، وبين المطلقات. أما بعد ان ذكر صريحا في الصدر بكون موضوع الشك هو جميع اجزاء الوضوء من غسل ومسح ، فلا وجه لهذا القول حينئذ ، وذلك لأن الظاهر من الرواية هو المقابلة بين حال القعود على الوضوء وحال القيام عنه في الحكم المترتب على الشك في الاجزاء ، وهي تقتضي ان يكون موضوع الشك الّذي أخذ في حال القعود عينه موضوعا للشك الحاصل في حال القيام ، وإلا لانتفت المقابلة ، لأن المقابلة انما تتحقق بين الحكمين ، إذا كانا واردين على موضوع واحد ، أما إذا تعدد موضوعهما واختلف فلا مقابلة بينهما كما لا يخفى.

وبالجملة : فموضوع الشك بعد القيام هو عين موضوع الشك حال القعود وهو جميع الأجزاء.

الثاني : أن ظاهر الرواية كون الذيل بيانا لمفهوم الصدر ، وهو : « إذا كنت قاعدا ... » لا لخصوصية فيه بنفسه ، فالظاهر حينئذ كون المدار هو الشك في الأثناء كما هو مقتضى المنطوق ، والشك بعد الفراغ كما هو مقتضى المفهوم ، سواء دخل في الغير أو لم يدخل.

وعليه ، فلا منافاة بين هذه الرواية وبين المطلقات ، بل هما بمفاد واحد.

والجواب : ان الذيل ليس كذلك ، لأن المذكور فيه موضوع وجودي ، فلا معنى لكونه مفهوما للصدر ، لأن المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الأمر المترتب عليه فلا بد ان يؤخذ فيه موضوع عدمي يترتب عليه عدم الحكم ، كما ان مفهوم الشرط فيما نحن فيه : « إذا لم يكن قاعدا » بنحو السالبة بانتفاء الموضوع وليس هو « إذا كنت قائما » عن الوضوء أو نحوه من التعبيرات.

وبالجملة : ترتيب الحكم على موضوع وجودي أجنبي عن بيان المفهوم ، وكون الحكم المترتب عليه باعتبار كونه محققا لمفهوم الشرط ، فالتفت.

ص: 187

الثالث : ان الفراغ عن العمل ملازم مع الكون على حال أخرى ولو كانت هي السكون ، وإلا لما صدق الفراغ. وليس المذكور في الرواية الا الصيرورة في حال أخرى وهو ليس بأمر زائد عما يقتضيه صدق الفراغ والمضي ، فليس في الرواية قيد زائد على نفس الموضوع وهو الفراغ والمضي. فلا دلالة لها على التقييد.

وهذا الوجه انما يتجه لو لم تفسير الحال الأخرى في الرواية وذكرت مطلقة ، إذا يمكن حملها على ما لا يزيد على تحقق الفراغ ، إلا انها فسرت في الرواية بالدخول في ما يغاير العمل الّذي كان فيه ، كما يدل عليه قوله : « وصرت إلى حال أخرى في الصلاة وغيرها » ، فلا يتجه هذا القول حينئذ ، فالتفت.

فالمحصل : ان هذه الوجوه غير ناهضة لنفي دلالة الرواية على التقييد مطلقا. فلا بد من الالتزام بدلالتها على التقييد بالدخول في الغير لكن لا مطلقا بل في خصوص الوضوء.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى اعتبار الدخول في الغير مطلقا سواء في ذلك الوضوء وغيره.

ببيان : ان الأدلة الدالة على حجية القاعدة منها ما يدل على التقييد بالدخول في الغير كرواية زرارة ، ومنها ما لم يعتبر في أكثر من المضي والتجاوز كموثقتي ابن بكير وابن أبي يعفور. فيدور الأمر بين حمل المطلق على الفرد الغالب ، فان الغالب من موارد الشك موارد الدخول في الغير. وبين حمل القيد على الغالب ، فلا يظهر في كونه قيدا احترازيا. والأول هو المتعين ، لا من جهة اقتضاء الدليل المقيد للمفهوم ولا لحمل المطلق عليه ، وانما هو لأجل انصراف المطلق في نفسه إلى الفرد الغالب باعتبار كون الماهية تشكيكية بحيث يكون شمولها للفرد النادر خفيا بنظر العرف ، فان ذلك يوجب انصراف المطلق عنه إلى الفرد الغالب لا باعتبار نفس الغلبة فانها لا توجب الانصراف. ولو تنزل عن ذلك فلا أقل من كونه قدرا متيقنا في مقام

ص: 188

التخاطب ، فالمطلق في نفسه قاصر عن شمول مورد عدم الدخول في الغير (1).

وهذا الّذي ذكره لا تمكن الموافقة عليه بجميعه ، لوجوه :

الأول : انه عدّ رواية زرارة من أدلة قاعدة الفراغ ، مع انك عرفت انها تعد من أدلة قاعدة التجاوز - وان ناقشنا في دلالتها على ذلك - الثاني : أنه جعل وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مانعا عن انعقاد الإطلاق ، مع انه : قدس سره لا يرى ذلك في مبحث المطلق والمقيد ، ويورد على المحقق الخراسانيّ في اختياره ذلك (2).

الثالث : ان ما ذكره من إيجاب التشكيك للانصراف مناقش فيه كبرويا وصغرويا ..

أما كبرويا ، فلأنه قد حقق في محله بان نظر العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم وتشخيصها من حيث السعة والضيق ، أما نظره في تشخيص المصداق فهو مردود لا يعتمد عليه ، فعدم صدق المطلق على الفرد النادر بنظر العرف لخفائه غير قادح في التمسك بإطلاقه ولا يوجب صرفه عنه بعد ان كان يصدق عليه حقيقة.

وأما صغرويا ، فلان التشكيك انما يوجب الانصراف - لو سلم كبرويا - فيما كان التفاوت بين الافراد من حيث الظهور والخفاء. أما فيما كان التفاوت بينها من حيث الأظهرية والظهور ، بمعنى ان صدق الطبيعة على هذا الفرد كان أظهر من صدقها على ذلك فلا يتحقق الانصراف. وما نحن فيه كذلك ، فان صدق الطبيعة ( الفراغ ) على مورد الدخول في الغير أظهر من صدقه على مورد عدم الدخول في الغير كما لا يخفى ، لا ان صدقه على مورد عدم الدخول في الغير خفي وصدقه على مورد الدخول ظاهر. فتدبر.

ص: 189


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 471 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 530 - الطبعة الأولى.

وإذا لم يثبت القول بالتقييد مطلقا ولم يثبت القول بعدم التقييد مطلقا ، فالالتزام بالتفصيل بين باب الوضوء وبين غيره باعتبار الدخول في الغير فيه دون غيره هو المتعين.

والمقام الثاني : فيما كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في الجزء الأخير. ولا بد من تحقق الدخول في الغير - في الجملة - في جريان القاعدة لتوقف صدق الفراغ عن العمل والمضي عنه بالدخول في الغير ، لأنه مع عدم الدخول في الغير وبقاء محل التدارك لا يتحقق مضي العمل ، إذ يمكن ان لا يكون قد أتى بالجزء الأخير المحقق للمضي والفراغ.

وقد ذكر بعضهم ان الشك في الجزء الأخير تارة : يكون بعد الدخول في الغير.

وأخرى : يكون قبل الدخول في الغير إلاّ انه كان قد حصل اليقين آناً ما بتحقق الفراغ عن العمل. وثالثة : يكون قبل الدخول في الغير وعدم حصول اليقين بتحقق الفراغ. فالقاعدة في الصورتين الأولتين تجري دون الصورة الثالثة (1).

وأورد الشيخ قدس سره عليه في ذهابه إلى جريان القاعدة في الصورة الثانية : بأن الفراغ لا يصدق باليقين به آناً ما ، ونفس اليقين الآني السابق المتبدل إلى الشك لا موضوعية له ، بل هو طريق إلى الواقع ، فلا دليل على حجيته بعد تبدله بالشك إلا أحد أمرين ... قاعدة اليقين ، وهي غير ثابتة. وظهور حال اليقين في كونه مطابقا للواقع ، وهذا الأمر لا دليل عليه وغير ثابت.

وأما جريان القاعدة في الصورة الأولى وعدم جريانها في الثلاثة ، فملاكه واضح لا يحتاج إلى بيان ولا إشكال فيه (2).

ص: 190


1- النجفي الفقيه الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام2/ 361 - الطبعة الحديثة.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة /162- الطبعة القديمة.

ولكن ما ذكره الشيخ رحمه اللّه يمكن الخدشة فيه بتقريب : ان صدق الفراغ والمضي عن العمل المركب يكون بأحد امرين ... الإتيان بالجزء الأخير منه. وقطعه والاقتصار على بعض أجزائه بعد مضي قسم منه يصدق عليه لفظ المركب في نفسه ، فانه بالإتيان بهذا المقدار لا يصدق الفراغ عرفا ما دام مشغولا بباقي الاجزاء ، ولكنه مع قطعه وعدم المضي في باقي الاجزاء يصدق تحقق العمل والفراغ منه. وهذا واضح ولا إشكال فيه.

ولما كانت وحدة المركبات الاعتبارية - ومنها الصلاة - انما هي بالقصد والنية - إذ لا وحدة لها حقيقية لاختلاف اجزائها ماهية ومقولة - كان اليقين بالفراغ ولو آناً ما سببا لتحقق الفراغ ، لأنه موجب لتبدل القصد والنية فيتحقق الانقطاع ، وبذلك يصدق العمل والفراغ عنه.

فجريان القاعدة في هذه الصورة ليس من جهة موضوعية اليقين في نفسه ، بل لأجل تحقق الانقطاع بحصوله الموجب لصدق موضوع القاعدة ، وهو الشك في صحة العمل بعد الفراغ عنه.

وبذلك يظهر انه لا محيص عن الالتزام بما ذكره صاحب الجواهر من جريان القاعدة في الصورتين الأولتين ، وانه لا وجه لما ذكره الشيخ في مقام الإشكال عليه.

ولبعض الفقهاء تقريب لتصحيح كلام الجواهر والخدشة في كلام الشيخ بيانه :

انه مع اعتبار تحقق الفراغ في جريان القاعدة يدور الأمر بين إرادة الفراغ الحقيقي ، وإرادة الفراغ الادعائي ، وإرادة الفراغ البنائي - يعنى البناء على تحقق الفراغ عن العمل - لا يمكن الالتزام بإرادة المعنى الحقيقي والمعنى الادعائي للفراغ.

أما الأول ، فلأنه انما يصدق عند الإتيان بالعمل بجميع أجزائه وشرائطه ، فاعتباره يلزم تعطيل قاعدة الفراغ ، لأن موردها الشك في صحة العمل لفقد جزء أو شرط ، والفراغ الحقيقي غير صادق مع هذا الشك.

وأما الثاني ، فلأنه يصدق بالإتيان بمعظم الاجزاء ، فاعتباره يستلزم صحة

ص: 191

جريان القاعدة مع الشك في الصحة بعد الإتيان بالمعظم وقبل الانتهاء من العمل ، مع انه لا إشكال في عدم صحة ذلك ، لعدم صحة جريان القاعدة في أثناء العمل.

وإذا لم يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي ولا الفراغ الادعائي تعين الالتزام بإرادة الفراغ البنائي ، وهو يحصل باليقين بالتمام. فجريان القاعدة مع تحقق اليقين الآني بالفراغ ليس لأجل حجية اليقين بعد زواله أو لأجل ظهور الحال كي ينفى بعدم الدليل عليه بل لأجل صدق الموضوع المأخوذ في لسان الدليل ، وهو الفراغ البنائي (1).

ولكن ما ذكره لا تمكن الموافقة عليه لوجهين :

الأول : انه يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي بلا استلزام للمحذور المذكور - أعني : محذور التعطيل - وذلك بالالتزام بكون متعلق الفراغ العمل الجامع بين الصحيح والفاسد - لا خصوص العمل الصحيح كي يلزم ما ذكر - وبذلك يتحقق الفراغ الحقيقي بلا عناية ولا تكلف مع الشك في فقد جزء أو شرط كما لا يخفى.

وتوهم : أن الأمر يدور حينئذ بين التصرف في لفظ الفراغ والتصرف في متعلقه بحمله على الأعم فما هو المرجح؟ كي يلتزم بالأخير.

فاسد ، فان التصرف في المتعلق بحمله على الأعم مما لا بد منه على القولين ، بل هو صريح الروايات ، لأن فيها اسناد الفراغ إلى العمل مع الشك فيه مما يكشف عن إرادة الأعم ، فالالتزام بإرادة المعنى الحقيقي للفراغ لا يستدعي مئونة زائدة بخلاف العكس.

الثاني : ان اعتبار تحقق الفراغ البنائي في جريان قاعدة الفراغ مطلقا يستلزم عدم جريان القاعدة مع الإتيان بالجزء الأخير والشك في الإتيان بما قبله بلا فصل ، كالإتيان بالتسليم مع الشك في التشهد ، فانه في حال الشك لا يقين له بالفراغ ، إذ

ص: 192


1- الحكيم الفقيه السيد محسن ، مستمسك العروة الوثقى 2 / 518 - الطبعة الأولى.

يحتمل ان يكون إتيانه بالتسليم عن غفلة لا أنه عن التفات وبعد الإتيان بالتشهد ، وفي تلك الحال كان غافلا ، فلم يتحقق منه الفراغ البنائي أصلا. مع أنه لا إشكال في جريان القاعدة في هذه الصورة.

فالمحصل : ان ما ذكره هذا القائل لا يعرف له وجه ظاهر ، فالمتعين هو ما ذكرناه.

بقي الكلام في جريان قاعدة الفراغ في الصور الأربع التي ذكرناها للشك في الجزء الأخير عند الكلام في جريان قاعدة التجاوز فيه.

فالتحقيق : ان جريان القاعدة في الصورتين الأوليتين - وهما : صورة تحقق الشك مع عدم الاشتغال بشيء مناف أصلا وعدم تحقق السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة. وصورة تحقق الشك مع الإتيان بالمنافي العمدي كالكلام بالنسبة إلى الصلاة - انما يصح لو تحقق في الحالين اليقين بالفراغ ولو آناً ما. أما مع عدم تحققه فنفس الحالين لا يحققان المضي والفراغ كما لا يخفى.

وأما الصورتان الأخيرتان - وهما : صورة تحقق الشك مع الاشتغال بأمر مرتب على العمل ، كالتعقيب بالنسبة إلى الصلاة. وصورة تحقق الشك مع الاشتغال بالمنافي العمدي والسهوي - فالقاعدة جارية فيهما.

أما جريانها في الأخيرة فواضح ، لانقطاع العمل بالاشتغال بالمنافي وتحقق الفراغ عنه وصدق مضيه كما لا يخفى.

وأما جريانها في الثلاثة ، فلأن الاشتغال في الأمر المترتب بعنوانه الخاصّ - كالاشتغال في التعقيب بما انه تعقيب لا بما انه دعاء أو ذكر مثلا - لا يكون إلا بعد البناء على الفراغ واليقين بالانتهاء من العمل ، وذلك موجب لصدق المضي ، لانقطاعه بتبدل القصد. هذا تمام الكلام في جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الصحة للشك في الجزء.

ص: 193

الجهة العاشرة (1) : في تحقق جريان قاعدة الفراغ لو كان منشأ الشك هو

ص: 194


1- تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز أو الفراغ عند الشك في الشرط ، ان يقال : ان الشرط على أقسام : ما يكون شرطا مقوما للمأمور به عقلا بحيث يتقوم به صدق عنوان المأمور به كقصد الصلاتية في تحقق عنوان الصلاة ، وقصد الظهرية في تحقق عنوان الظهر. وما يكون شرطا مقوما للجزء ، كقصد الركوع في تحقق الركوع ، إذ ليس كل انحناء ركوع بل الانحناء الركوعي هو المأتي بعنوان الركوع. وكالموالاة بين الحروف في تحقق الكلمة. وما يكون شرطا شرعيا للكل ، كالاستقبال بالنسبة إلى الصلاة. وما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر بالنسبة إلى القراءة. أما الشرط المقوم عقلا للمأمور به كالنية ، فقد التزم البعض بجريان قاعدة التجاوز فيه إذا تحققت شرائطها. وذهب البعض إلى عدم جريانها فيه ، كما يظهر من مراجعة الفرع الأول من فروع العلم الإجمالي من العروة وما كتب حوله. والتحقيق : ان متعلق الأمر هو عنوان الصلاة أو الظهر ، وقصد الصلاتية أو الظهرية محقق لعنوان المأمور به. من دون ان يلحظ في متعلق الأمر جزء أو شرطا وانما هو شرط تكويني. وعلى هذا فلا معنى لإجراء القاعدة فيه ، إذ لا يقع مثله مورد التعبد الشرعي لعدم دخله شرعا في المأمور به ، فالتعبدية لا يجدي شيئا ولا يترتب عليه أثر شرعي مترقب ، وترتب عنوان المأمور به عليه ترتب عقلي لا ينفع فيه التعبد. وبهذا يظهر انه لا وجه يقتضي جعله موردا للكلام كما ارتكبه الاعلام. ولعله إلى ذلك ينظر المحقق العراقي في منعه جريان القاعدة فيه معللا بان المعتبر في العمل نشوؤه عنه لا نفسه ، فانه يمكن ان يكون نظره إلى ما ذكرناه من عدم اعتباره في العمل وانما المعتبر هو عنوان الصلاتية أو الظهرية. ولو تنزلنا عن هذه الجهة فنقول : ان القصد المعتبر إما يكون قصدا واحدا مستمرا وعليه يبتني مبطلية نية القطع أو القاطع ، كما التزم به بعضهم ، واما يكون متعددا بتعدد الاجزاء فهو معتبر في كل جزء ولذا لا تبطل الصلاة بنية القطع. ولا يخفى ان قاعدة التجاوز انما تجري في القصد إذا كان اعتباره بالنحو الثاني لصدق التجاوز عنه بتجاوز الجزء. أما إذا كان اعتباره بالنحو الأول ، فلا مجال لجريان القاعدة فيه لأن المفروض انه امر واحد مستمر ومحله جميع العمل ، فلا يتحقق التجاوز عنه في الأثناء. هذا بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في النية. وأما بالنسبة إلى قاعدة التجاوز في نفس العنوان المأمور به ، فتحقيق الحال فيه : انه يتصور على أنحاء. فتارة يقال : انه أمر واحد مستمر يعنون به مجموع العمل. وأخرى يقال : انه متعدد بتعدد الاجزاء ، وهو تارة : يكون متقوما بمجموع الاجزاء بحيث لا ينطبق إلا على المجموع ، نظير الحمى القائمة باجزاء البدن فان كل جزء لا يقال انه محموم ، بل مجموع البدن محموم. وأخرى : يكون متقوما بكل جزء فكل جزء ينطبق عليه انه صلاة أو ظهر. ولا يخفى انه لا مجال لتوهم جريان قاعدة التجاوز في العنوان بناء على الاحتمالين الأولين ، لعدم تحقق التجاوز عنه بعد تقومه بالكل. نعم ، لتوهم جريان القاعدة فيه مجال على الاحتمال الثالث لتجاوز محله بتجاوز الجزء ، وان وقع محل الإشكال من جهات أخرى. وأما الشرط المقوم للجزء عقلا ، كقصد الركوعية في الركوع ، فقد ظهر الحال فيه مما ذكرناه في شرط الكل ، إذ عرفت انه لا مجال لتوهم جريان القاعدة في الشرط العقلي التكويني لعدم ترتب أثر شرعي عليه. وأما إجراء القاعدة في وصف الركوعية ، فللمنع عنه مجال ، لأن الانحناء الركوعي مباين عرفا للانحناء غير الركوع والذاتان متباينان ، والمطلوب هو الذات المعنونة بعنوان الركوع. ومن الواضح ان إثبات تحقق الركوعية لا يثبت تحقق الذات المعنونة وهي الركوع إلا بالملازمة. وأما إجراء القاعدة في نفس الركوع فقد تقدم الاستشكال فيه بدعوى انصراف اخبار القاعدة إلى الشك في أصل الوجود لا في اتصاف الموجود بعنوان الجزء. نعم ، يمكن إجراء قاعدة الفراغ في الانحناء وإثبات صحته بناء على عدم اعتبار إحراز العنوان في جريانها. وسيجيء البحث فيه. وأما الشرائط الشرعية المعتبرة في الكل ، فالحق فيها هو التفصيل بين ما هو معتبر حال العمل كالاستقبال والستر ونحوهما ، وما هو معتبر سابقا على العمل كالوضوء على قول ، فتجري القاعدة في الثاني دون الأول. والوجه في ذلك - على سبيل الإجمال - أن التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما هو معتبر في حال العمل لا يصدق ولو مع دخول المكلف في الجزء اللاحق ، إذ غاية ما يمكن تصوير تحقق التجاوز عن محل الشرط مع الدخول في الجزء اللاحق هو ما يقال : من ان المعتبر في كل جزء تقيده بالشرط المفروض ، فمع التجاوز عن الجزء يتحقق التجاوز عن التقييد المأخوذ فيه فتجري القاعدة في تقيده بالشرط ، ويترتب الأثر مع إحراز التقيد بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة. ولكن هذا المطلب لا يمكن الالتزام به ، فان التقيد من شأن المفاهيم والعوارض ولا يتصور في المعاني المتباينة مثل الطهارة والركوع ، فان كلا منهما يباين الآخر فلا معنى لأن يكون أحدهما مقيدا بالآخر إذ الطهارة من عوارض المكلف لا الركوع. نعم ، يتصور أخذ التقييد بنحو آخر ، وهو ان يكون الواجب هو الركوع المقارن للطهارة ، فيؤخذ القيد وصف المقارنة للطهارة. ولكن هذا مما لا يلتزم به ، وإلا لأشكل الأمر في استصحاب الطهارة ، فانه لا يثبت الوصف الملحوظ المأخوذ في الواجب وهو وصف المقارنة. وعليه ، فالذي يلتزم به في باب الشروط هو أخذ الشرط بنحو المعية في الوجود مع الجزء ، نظير نفس الاجزاء فيما بينها إلا ان الفرق تعلق الأمر بالجزء دون الشرط. ومن الواضح ان أخذ الشرط بهذا النحو لا يستلزم كون الجزء محلا له وظرفا بحيث يكون التجاوز عنه تجاوزا عن الشرط ، بل بالإتيان بالجزء دون الشرط لم يفت محل الشرط ويمكن الإتيان به مع الجزء في كل وقت ولو بإعادة الجزء. وقد يلتزم في باب الشروط بوجه آخر وهو اعتبار الإضافة إلى الشرط بمعنى ان الواجب هو إيقاع الجزء في ظرف الشرط ، فيلحظ الجزء مضافا إلى الزمان الخاصّ وهو زمان الشرط. ولكن لو تم هذا لم ينفع في المطلوب ، لأن طرف الإضافة هو نفس الزمان دون الخصوصية ، فالشك في الخصوصية - أعني الشرط - لا يستلزم الشك في طرف الإضافة بل في خصوصيته. والوجه فيه : ان طرف الإضافة لو كان هو الزمان الخاصّ لا شكل الأمر في مثل استصحاب الشرط كالطهارة ، لعدم إثباته إضافة الجزء للطهارة حتى يتحقق طرف الإضافة ، فكيف يجدي في الامتثال؟ فمقام الثبوت والإثبات يساعدان على كون طرف الإضافة نفس الزمان والخصوصية للزمان نفسه لا مأخوذة في الإضافة ، فيعتبر ان تكون الصلاة في زمان فيه طهارة ، فيصح إجراء استصحاب الطهارة لإثبات خصوصية الزمان ، نظير استصحاب الخمرية لإثبات حرمة شرب المائع المشكوك ، فانه لا يثبت كون شرب هذا المائع شرب خمر ، ولكن يثبت به انه شرب مائع هو خمر ، وليس الملحوظ في الحكم أزيد من ذلك ، فليس المحرم الشرب المضاف إلى الخمر بل الشرط المضاف إلى مائع هو خمر. وعليه ، فإذا ثبت ان طرف الإضافة هو الزمان ، والشرط لوحظ كخصوصية للزمان لا طرفا للإضافة ، فالمشكوك لا يكون طرف الإضافة بل خصوصية الطرف ، وهي مما لم يفرض لها محل. هذا مع أخذ الشرط طرفا للإضافة لا يظهر منه سوى كون الشرط ظرفا للجزء لا العكس ، فاعتبار كون الركوع في حال الطهارة ظاهر بحسب لسان الدليل في كون الطهارة ظرفا للركوع لا كون الركوع ظرفا للطهارة فانتبه. فتبين من جميع ذلك انه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في الشرط المقارن. وأما الشرط السابق على العمل ، فالقاعدة تجري فيه إذا شك فيه بعد الدخول في العمل لتجاوز محله بعد الدخول ، لأن ظرفه هو الزمان السابق على العمل. وهذا مما لا إشكال فيه. إنما الإشكال في انه هل يعتبر إحرازه للاجزاء اللاحقة أو لا؟ ذهب المحقق العراقي إلى لزوم ذلك ، وان القاعدة لا تنفع إلا في ما مضى من الاجزاء ، إذ ما يأتي من الاجزاء لم يتجاوز عنه ، ودليل القاعدة انما يتعبد بها بمقدار ما تحقق التجاوز عنه ، وهذا منه مبني على اعتبار التجاوز عن نفس المشروط لا خصوص المشكوك ، وهو مما لا دليل عليه ، إذ غاية ما يدل عليه الدليل اعتبار التجاوز عن المشكوك ، وهو فيما نحن فيه حاصل ، إذ الشرط إذا كان مأخوذا سابقا على العمل فمع الدخول في العمل يتحقق التجاوز عن محله حتى بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لأن شرطها هو الفعل السابق عن العمل. نعم ، بالنسبة إلى الأعمال المستقلة الأخرى كصلاة ثانية لا تنفع ، لأن قاعدة التجاوز انما تتعبد بالمشكوك بمقدار التجاوز عنه ، والوضوء للصلاة الأخرى لم يتجاوز عن محله بالدخول في هذه الصلاة. نعم ، هو تجاوز عن محل الوضوء لهذه الصلاة ، فلا تثبت القاعدة إلا وضوء هذه الصلاة لا غير ، فيلزمه الوضوء للصلوات الأخرى. ومن هنا ظهر الحال ما إذا شك في صلاة الظهر بعد دخوله في صلاة العصر ، فان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر انما تثبت تحقق صلاة الظهر بمقدار تأثيرها في صحة العصر ، واما صلاة الظهر بما هي واجبة مستقلا فلم يتجاوز عن محلها ، إذ لا يعتبر فيها ان تكون قبل العصر بل المعتبر ان تكون العصر بعدها فيلزمه على هذا الإتيان بالظهر بعد العصر. هذا تمام الكلام في الشروط

ص: 195

ص: 196

ص: 197

الشك في الشرط ، وذلك يتوقف على بيان أقسام الشروط.

وقد ذكر المحقق العراقي قدس سره أقساما عديدة للشروط وذكر حكمها مما يرتبط بما نحن بصدده من جريان قاعدة الفراغ ، مع ذكره حكمها بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز.

ومحصل ما أفاده : ان الشروط.

منها : ما يكون شرطا عقليا في تحقق عنوان المأمور به من الصلاتية والظهرية ونحوهما ، كالنية ، فان هذه العناوين لما كانت أمورا قصدية فلا تتحقق إلا بالقصد والنية.

ومنها : ما يكون شرطا شرعيا لصحة المأمور به بعد الفراغ عن تحقق عنوانه ، كالطهور والستر والاستقبال ونحوها.

ومنها : ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء ، بمعنى كونه مما يتوقف عليه وجود الجزء عقلا ، كالموالاة بين حروف الكلمة.

ومنها : ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر والإخفات بناء على القول بكونهما شرطا للقراءة ، لا للصلاة في حال القراءة.

ثم ما كان شرطا شرعيا إما أن يكون مما له محل مقرر شرعا ، بان يكون قبل

ص: 198

الدخول في المشروط كصلاة الظهر بالنسبة إلى العصر ، وكالطهارة على قول. أو لا يكون له محل مقرر ، كالستر والاستقبال.

فالأقسام خمسة.

أما ما كان شرطا عقليا لعنوان المأمور به ، بمعنى أنه مقوم لتحققه عقلا كالنية ، فلا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز فيه مع الشك ، وذلك لأنه مضافا إلى عدم وجود محل له مقرر شرعا مع اختصاص القاعدة بذلك ، لا تكون القاعدة تجدي في إحراز عنوان المشروط ، فان جهة نشوء الأفعال عن قصد الصلاتية ونحوها من اللوازم العقلية للقصد والنية ، فالتعبد بوجود القصد لا يجدي في إثبات هذه الجهة. وكذلك لا تجري قاعدة الفراغ في المشروط مع الشك ، لاختصاصها بما إذا كان العمل محرزا بعنوانه وكون الشك في صحته وفساده ، نظير قاعدة الصحة في عمل الغير - فانهما من سنخ واحد - ومع فرض الشك في القصد يشك في تعنون العمل بعنوانه المطلوب ، فلا مجال لقاعدة الفراغ.

هذا بالنسبة إلى النية المقومة لعنوان المأمور به.

أما بالنسبة إلى النية بمعنى قصد القربة ، فمع الشك فيها في الأثناء لا تجري قاعدة التجاوز - وان قلنا بكونها مأخوذة في المأمور به شرعا لا عقلا - لعدم كونها ذات محل مقرر شرعا كي يصدق عليها عنوان التجاوز من المحل.

وأما قاعدة الفراغ فهي تجري بناء على كونها شرطا شرعيا ولو بنحو التقييد. وأما بناء على القول بكونها شرطا عقليا فلا تجري ، لعدم الشك في صحة المأتي به الشرعية ، بمعنى استجماع المأتي به للاجزاء والشرائط الشرعية ، فانه محرز مع القطع بعدم اقترانه بقصد القربة فضلا عن الشك.

وأما ما كان شرطا شرعيا للصلاة مع عدم وجود محل له شرعي كالستر ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق التجاوز عن المحل بالدخول في المشروط.

وأما قاعدة الفراغ : فتجري في المشروط للشك في صحته بالشك في الشرط.

ص: 199

هذا بعد الفراغ منه. أما إذا كان الشك في الأثناء ، فقاعدة الفراغ انما تجري إذا كانت الاجزاء الماضية بنحو يكون لها بنظر العرف عنوان مستقل كالركعة ، دون غيره مما لا يعد كذلك كالآية. إلا ان قاعدة الفراغ انما ينفع جريانها في الأثناء لو كان الشرط محرزا حال الشك بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، أما مع الشك فيه حتى بالإضافة إلى الاجزاء اللاحقة والحالية ، فلا ينفع جريانها فيما مضى من الاجزاء ، فلا مجال على هذا لجريانها.

وأما الشرط الشرعي ذو المحل ، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر ونحوها ، فما ذكره قدس سره مما يرتبط بالمقام من جريان قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ لا يزيد عما ذكرناه سابقا نتيجة فراجع.

وأما ما يكون شرطا عقليا للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة ، فلما كان الشك فيه يرجع إلى الشك في وجود الكلمة ، تجري فيها - أي : في الكلمة - قاعدة التجاوز.

وأما ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر والإخفات - لو قيل بكونهما شرطا للقراءة - فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق الشيء على مثله ، فالأدلة منصرفة عنه.

وأما المشروط ، فهو وان صدق عليه الشيء إلا ان الشك ليس في وجوده بل في صحته ، فهو مورد لقاعدة الفراغ. إلا ان البحث عنه قليل الجدوى لورود النص على عدم الإعادة مع نسيان الجهر والإخفات فضلا عن صورة الشك ، ولم نعثر على مثال للفرض غير هذا.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره (1) ، ولكن في كلامه مواقع للنظر.

الأول : ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز مع الشك في تحقق القصد

ص: 200


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 63 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بتقريب : أن موضوع الأثر ليس هو القصد ، بل ما يلازم القصد عقلا من تعنون العمل بعنوان المأمور به أو جهة نشوء الأفعال عن قصد العنوان المأمور به - كما قد يظهر من كلامه - أعني : الترديد في موضوع الأثر فإثبات تحقق القصد بالقاعدة لا يقتضي ثبوت الجهة المرغوبة.

ووجه النّظر فيه : أن الشك في تحقق القصد ملازم للشك في تعنون العمل بعنوان المأمور به أو نشوء الأفعال عن قصد العنوان ، فلا ملزم حينئذ لإجراء قاعدة التجاوز في نفس القصد كي يتأتى ما ذكره ، بل يمكن حينئذ إجراء القاعدة في نفس موضوع الأثر - وهو أحد الأمرين - لتحقق الشك فيه بالشك في تحقق القصد ، فلا يرد ما أفاده كما لا يخفى.

الثاني : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض نفسه لعدم إحراز عنوان العمل مع اعتباره في جريانها قياسا على أصالة الصحة في عمل الغير ، لأنهما من سنخ واحد والاختلاف في مورد جريانهما.

ووجه النّظر فيه : ان هذا - على تقدير تسليمه - انما يتأتى في صورة الشك في تحقق أصل قصد العنوان كالشك في تحقق قصد الصلاتية ، لعدم إحراز العنوان. أما مع العلم بقصد الصلاتية والشك في خصوصية القصد من الظهرية والعصرية ونحوهما ، فلا مجال لما ذكره من منع جريان قاعدة الفراغ ، لإحراز عنوان العمل من كونه صلاة والشك في صحته وفساده.

مع ان ما ذكره من لا بدية إحراز عنوان العمل في جريان قاعدة الفراغ ، كاعتباره في قاعدة الصحة غير مسلم لأن اعتباره في أصالة الصحة لم يكن لقيام دليل عليه ، بل لعدم الدليل على عدم اعتباره ، حيث ان دليل أصالة الصحة - كما عرفت - دليل لبي لا لفظي ، وهو السيرة العقلائية ، ومعه يقتصر على القدر المتيقن بمجرد الشك ، فمع الشك في اعتبار إحراز عنوان العمل وعدمه ، يبنى على الاعتبار من باب عدم الدليل على عدمه والأخذ بالقدر المتيقن من دليل الأصل ، وهو غير

ص: 201

صورة عدم الإحراز.

وما نحن فيه ليس كذلك ، لأن دليل قاعدة الفراغ ليس دليلا لبيا بل هو دليل لفظي ، يمكن التمسك بعمومه مع الشك ولم يقم دليل آخر على اعتبار إحراز العنوان ، فلا وجه لتخصيص القاعدة بصورة إحرازه ، بل الوجه تعميمها لصورة عدم الإحراز تمسكا بالعموم.

وعليه ، فيصح جريانها فيما نحن فيه للشك في أن هذا العمل المأتي به مطابق للمأمور به أو غير مطابق ، فتجري فيه قاعدة الفراغ وتثبت صحته ولو لم يحرز العنوان ، فتدبر.

وبالجملة : لا دليل صناعيا على ما أفاده ، فلا وجه لرفع اليد عن العموم لأن الشك في الصحة يجامع الشك في العنوان فيشمله الدليل. إلا ان يدعى انصراف لفظ الشيء في قوله : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (1) ، إلى كونه مشيرا إلى الأفعال بعناوينها المأخوذة في ترتب الأثر لا إلى ذات العمل ، وهي غير سهلة الإثبات.

الثالث : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في تحقق قصد القربة ، بتقريب : انه لا شك في صحة المأتي به بمعنى مطابقته للاجزاء والشرائط المأمور بها شرعا ، للعلم بالمطابقة مع اليقين بعدم تحقق قصد القربة فضلا عن صورة الشك فيه.

ووجه النّظر فيه : انه بعد عدم معقولية أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بالعمل أو في متعلق أمر آخر ، وحكم العقل بوجوب الإتيان بالعمل مقارنا لقصد القربة ، لتوقف تحقق الغرض عليه وتحصيله واجب في مقام الامتثال ، لا يمتنع على الشارع الاكتفاء في مقام الامتثال بالإتيان بما يحتمل معه تحقق الغرض ، إذ لا مانع من ذلك عقلا ، إذ أي محذور في ان يقول الآمر بأني اكتفي في مقام الامتثال باحتمال تحقق الغرض دون الجزم به.

ص: 202


1- وسائل الشيعة 5 / 336 باب 23 من أبواب الخلل ، الحديث : 3.

وإذا ثبت ذلك في نفسه ، فيمكن أن يثبت فيما نحن فيه ، بان يكتفي الشارع بالإتيان بما يحتمل تحقق الغرض به في الامتثال ، فيكتفي بما يحتمل مقارنته لقصد القربة.

ويكون الدليل المتكفل لذلك هو عموم دليل قاعدة الفراغ ، فانه يدل على عدم الاعتناء بالشك والاكتفاء بالمأتي في مقام الامتثال ، ومنه ما نحن فيه ، فيكون من الاكتفاء بما يحتمل تحقق الغرض به ، وقد عرفت انه لا مانع منه ، وانه من صلاحيات الشارع. فالتفت.

الرابع : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الأثناء مع الشك في الشرط الشرعي للعمل ، إلا إذا كان ما مضى من الاجزاء بنحو يعد عملا من الأعمال.

فانه غير وجيه ، لأنه إن كان لأجل استفادته من بعض النصوص كقوله علیه السلام : « كل ما مضى من صلاتك وطهورك ... » - فانه يستفاد منه كون مجرى القاعدة أمرا ذا عنوان مستقل كعنوان الصلاة والطهور - فذلك يدفعه إطلاق قوله علیه السلام : « كل ما شككت فيه مما مضى فشكك ليس بشيء » ، فانه بإطلاقه يشمل الكل والجزء وذا العنوان وغيره.

مضافا إلى ان ما ذكره هاهنا ينافي ما ذكره في آخر كلامه من كون الجزء المشكوك في شرطه موردا لقاعدة الفراغ في نفسه ، إلا انها لا تجري لانتفاء الأثر.

وأما ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز عن ما لا محل له من الشروط الشرعية كالستر والاستقبال وقصد القربة - على أحد القولين - فيعرف صحته بإطلاقه وعدم صحته مما نقحناه سابقا. فراجع.

الجهة الحادية عشرة : في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث.

والتحقيق : انه لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشك في فعل من افعال الوضوء بعد الدخول في غيره وقبل الفراغ من الوضوء فقد انعقد الإجماع على ذلك ، وادعى الشيخ ورود الاخبار الكثيرة في ذلك (1).

ص: 203


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /412- الطبعة القديمة.

وقد ألحق الأصحاب الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز ، فأدلة قاعدة التجاوز مخصصة بالأخبار والإجماع.

هذا كله مما لا كلام فيه ، وانما الكلام في موثقة ابن أبي يعفور : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء. انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » (1) ، حيث ان ظاهرها إلغاء الشك في أحد الاجزاء الوضوء مع الدخول في الجزء الآخر ، وهو يقتضي جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء.

وذلك ينافي معقد الإجماع ودلالة الاخبار على خروج أفعال الوضوء عن عموم القاعدة.

وقد تخلص الشيخ من هذه المنافاة بإرجاع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء ، فيكون مفاد الصدر إلغاء الشك في جزء الوضوء مع الدخول في غير الوضوء لا غير الجزء من الاجزاء الأخرى. وهذا لا يتنافى مع معقد الإجماع والأخبار ، لأن مفادهما عدم إلغاء الشك ما دام في الأثناء.

ثم أنه قدس سره أفاد : ان الظاهر من الموثقة كون هذا الحكم - وهو عدم إلغاء الشك في أثناء الوضوء - ليس حكما تعبديا صرفا خارجا عن مقتضى القاعدة وثبت بالتخصيص ، وانما هو حكم على طبق القاعدة ، بمعنى انه حكم جزئي لقاعدة كلية تنطبق موردا على الوضوء ، كما هو مقتضى ذيلها ، فان ظاهره انه حكم كلي طبق على المورد ، فالمستفاد من الرواية قاعدة كلية مقتضاها عدم إلغاء الشك في جزء العمل ، ما دام في أثناء العمل واختصاص الإلغاء بما إذا دخل في غير العمل (2).

ومن هنا يتوجه عليه إشكالان :

أحدهما : ان هذا يستلزم إلغاء الشك في جزء من اجزاء الوضوء باعتبار

ص: 204


1- وسائل الشيعة 1 / 330 ، باب : 42 من أبواب الوضوء ، الحديث : 2.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /412- الطبعة القديمة.

الشك في جزئه بعد الدخول في غيره ، كالشك في غسل بعض اليد بعد الفراغ منها والدخول في غيرها من إعمال الوضوء ، لأنه يصدق عليه انه شك في جزء العمل بعد الفراغ عن العمل والدخول في غيره ، مع ان إلغاء هذا الشك خلاف الإجماع لانعقاده على الاعتناء بمطلق الشك في الأثناء.

والآخر : هو حصول التعارض بين هذا الخبر وبين الأخبار الدالة على إلغاء الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، فيما إذا شك في جزء من أجزاء الوضوء بعد الدخول في غيره من الاجزاء وقبل الفراغ من الوضوء ، إذ باعتبار انه شك بعد تجاوز المحل يكون مشمولا لاخبار قاعدة التجاوز. وباعتبار انه شك في جزء العمل قبل الفراغ عن العمل يكون موردا لهذا الخبر.

وقد يستشكل : بان التعارض المذكور حاصل دائما بين منطوق دليل قاعدة التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء بعد تجاوزه وقبل الفراغ عن العمل ، إذ مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشك ومفهوم قاعدة الفراغ الاعتناء به لأنه في الأثناء.

ولكنه فاسد جدا ، لما عرفت ان هذا التعارض البدوي ينحل بحكومة دليل قاعدة التجاوز على دليل قاعدة الفراغ ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في الجزء ، فيرتفع بجريان قاعدة التجاوز فيه.

وهذا غير ما نحن فيه ، لأن المورد واحد لكلتا القاعدتين ، وموضوع إحداهما عين موضوع الأخرى ، إذ لا شك الا شك واحد تنطبق عليه كلتا القاعدتين.

وقد تفصى الشيخ رحمه اللّه عن هذين الإشكالين : بان الوضوء بأجزائه كلها فعل واحد بنظر الشارع ، بمعنى : ان هذا الأمر المركب في الحقيقة اعتبره الشارع أمرا واحدا ، فلم يلحظ كل جزء منه فعلا مستقلا بل لوحظ المجموع فعلا واحدا. والمصحح لهذا الاعتبار هو وحدة المسبب وهو الطهارة ، فانها أمر بسيط غير مركب يترتب على الوضوء ، وهذا أمر ليس بالغريب المستبعد لارتكاب المشهور مثله

ص: 205

بالنسبة إلى افعال الصلاة ، فانهم لم يجروا قاعدة التجاوز في كل جزء من اجزاء الفاتحة أو الآية أو الكلمة ، بل الظاهر كون الفاتحة - بل القراءة - بنظرهم فعلا واحدا ، بل القرينة على هذا الاعتبار والشاهد له هو إلحاق المشهور الغسل والتيمم بالوضوء في هذا الحكم ، إذ لا وجه له بحسب الظاهر إلا ملاحظة كون الوضوء أمرا واحدا باعتبار وحدة مسببه ، فيطرد في الغسل والتيمم. وإذا ثبت هذا الأمر وتقرر ، فلا وجه حينئذ لكلا الإشكالين ، لأن اجزاء الوضوء لم تلحظ بنظر الشارع أفعالا مستقلة كي يتحقق التجاوز عنها والدخول في غيرها - فتكون موردا للتعارض - أو يتحقق الشك في اجزائها بعد الفراغ عنها - فيشملها الذيل فيلزم مخالفة الإجماع - ، بل لوحظ مجموعها فعلا واحدا ، فالتجاوز عنها لا يتحقق إلاّ بعد الفراغ من الوضوء ، فالاعتناء بالشك في الأثناء انما كان لعدم صدق التجاوز بنظر الشارع.

ومن الغريب ما جاء في تقريرات السيد الخوئي ( دام ظله ) من حمل كلام الشيخ في نفي جريان قاعدة التجاوز في الوضوء على : ان المطلوب في باب الوضوء هو الطهارة ، وهي أمر بسيط لا اجزاء له ، وأما الوضوء فهو مقدمة للمأمور به وليس متعلقا للأمر الشرعي ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز. ثم أورد عليه بإيرادين (1). ووجه الغرابة : ان كلام الشيخ في المقام لا غموض فيه ، بل هو صريح فيما بيناه ولا إشارة فيه إلى ما جاء في التقريرات. فلاحظه تعرف.

وقد أورد المحقق العراقي قدس سره على الشيخ في تقريبه المزبور بوجهين :

الأول : ان وحدة الوضوء الاعتبارية ( لا تجتمع مع ) تنافي التصريح في صدر الرواية بالشك في شيء من الوضوء الّذي يفيد كون الوضوء عملا ذا أجزاء.

الثاني : انه لو كان الملاك والعلة في هذا الاعتبار وحدة الأثر المترتب على العمل ، لاطرد ذلك في سائر العبادات من الصلاة وغيره ، فان الصلاة مما يترتب

ص: 206


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول /3/ 314 - الطبعة الأولى.

عليها أثر واحد بسيط وهو النهي عن الفحشاء ونحوه ، مع انه لا إشكال في عدم اطراده لعدم الاعتناء بالشك في جزء الصلاة بعد التجاوز عنه وقبل الفراغ من الصلاة ، بلا ريب ولا إشكال. وذلك دليل عدم اعتبار الوحدة ، وإلاّ لما جرت قاعدة التجاوز في الأثناء (1).

وكلا الوجهين مخدوش فيهما :

أما الأول : فلأن الواحد بالاعتبار لا بد وان يكون مركبا في نفسه وواقعه ، وإلا لما احتيج إلى اعتبار وحدته.

وعليه ، فهو ذو مرتبتين : مرتبة الاعتبار ، وهو فيها أمر واحد بسيط. والمرتبة السابقة على الاعتبار ، وهو فيها أمر مركب ذو أجزاء. ولا إشكال في صحة إطلاق المركب عليه باعتبار المرتبة السابقة على الاعتبار ، بل لا إشكال في صحته مع التصريح باعتبار الوحدة ، بان يقول المعتبر : « هذا الأمر ذو الاجزاء قد اعتبرته واحدا » ، فمع قيام الدليل وثبوت اعتبار الوحدة يحمل التعبير الدال على التركيب على لحاظ المرحلة السابقة على الاعتبار ، ومنه ما نحن فيه ، فالتعبير في الصدر بالشك في شيء من الوضوء لا ينافي اعتبار الوحدة لو ثبت وتم الدليل عليه.

وأما الثاني : فلأن الأثر الّذي يترتب على العمل تارة : يكون تكوينيا. وأخرى : يكون جعليا. والأثر الشرعي تارة : تكون نسبته إلى ذي الأثر نسبة الحكم إلى الموضوع. وأخرى : تكون نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب - والفرق بين السبب والموضوع ليس محل بيانه هنا بل يذكر في مبحث النهي عن المعاملة - والأثر المترتب على الوضوء وأخويه أثر شرعي نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب. فملاكية وحدة المسبب لاعتبار وحدة الوضوء انما تقتضي اطراد ذلك في كل أمر يترتب عليه أثر نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب دون كل أمر

ص: 207


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 49 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

يترتب عليه أثر ما.

وهذا انما يكون في العقود ، لأنها سبب في ترتب آثار عليها. أما الصلاة ونحوها من العبادات فآثارها تكوينية لا جعلية ، فلا تصلح مادة للنقض على الاطراد ، لعدم اعتبار الوحدة فيها ، بل النقض انما يتوجه بباب العقود.

ولكن لم يثبت الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في اجزائها قبل تمامها كي يكون ذلك دليلا على عدم اعتبار الوحدة مع وحدة المسبب. كما ان عدم الالتزام بها في هذا الباب لا يستلزم أي محذور.

ثم أنه قدس سره ذكر تقريبا للتخلص عن منافاة الموثقة للأدلة الخاصة ، ومحصله : انه يلتزم برجوع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء بقرينة الإجماع والنص وقرب المرجع ، وذلك يرجع إلى الالتزام بتقييد التجاوز عن المشكوك فيه في خصوص اجزاء الوضوء بالتجاوز الخاصّ المساوق للتجاوز عن الوضوء مع إبقاء التجاوز في الذيل على إطلاقه وظهوره في مطلق التجاوز عن الشيء ، ومرجع الالتزام بتقييد التجاوز في باب الوضوء إلى التوسعة في محل الجزء وانه لا يتحقق التجاوز عن محله الا بعد الفراغ من الوضوء.

وبالجملة : الموثقة صدرا وذيلا ظاهرة في اعتبار القاعدة ، إلا أن موضوعها - وهو التجاوز - مقيد بنحو خاص في خصوص مورد الرواية وهو الوضوء. ولا محذور في تقييد المورد ، بل هو واقع ، مثل تقييد مورد مفهوم آية النبأ المفروض كونه في الموضوعات الخارجية بصورة انضمام خبر عدل آخر ، مع إبقاء الكبرى على شمولها لقبول خبر العادل بلا ضميمة خبر عدل آخر إليه في غير المورد.

وبهذا البيان يندفع ما ذكر من الإشكال على الموثقة.

وقد ذكر الإشكالات وبيان اندفاعها بهذا التقريب. ولا حاجة لنا ببيانه.

وما ذكره قدس سره من توجيه الرواية وان كان أمرا دقيقا وجيها في نفسه ، إلاّ ان إرادته من مثل هذا التعبير لا يساعد عليه الذوق العرفي لأساليب

ص: 208

الكلام ، وذلك لأن لفظ الوضوء وان كان اقرب إلى الضمير من لفظ : « شيء » ، لكن المسوق له الكلام هو : « شيء » ، والوضوء ملحوظ من متعلقات ما هو المسوق له الكلام ، وذلك يقتضي كون مرجع الضمير هو : « شيء » ، لا الوضوء. مضافا إلى ان تقييد مورد العام ، أو المطلق بقيد وإثبات حكم العام له بلسان ثبوت الحكم لسائر افراد العام - كما لو قال : « أكرم زيدا العالم إذا كان عادلا » لوجوب إكرام العالم - مستهجن عرفا وان رجع إلى أخذ الموضوع في المورد بنحو خاص ، كما لا يخفى على من له مرانة في كلام العرب.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى آية النبأ ففيه : ان مورد الآية لم يطرأ عليه تقييد ، إذ ليس المورد هو الموضوع الخارجي ، بل موردها خبر الفاسق في الموضوع الخارجي. والمفروض ان الآية نفت حجيته بلا تقييد.

والمتحصل : ان ما أفاده الشيخ قدس سره في مدلول الرواية وتوجيهه بنحو لا يرد عليه الإشكالات وان كان في نفسه متينا ولكنه احتمال لا دليل عليه. كما ان ما ذكره المحقق العراقي وجيه لو لا بعده عن الذوق العرفي.

فالأولى في حل إشكال معارضة الإجماع والنص أن يقال : (1) ان الضمير في

ص: 209


1- ان ضمير « غيره » يرجع إلى الجزء المشكوك فيه ، ولكن المراد بالشك فيه ليس الشك في وجوده - كما هو ظاهره الأولى مثل الشك في صحته - ، فتكون الرواية ناظرة إلى إهمال الشك في صحة الجزء بعد الدخول في غيره ، فلا تنافي بما دل على الاعتناء بالشك في وجود الجزء إذا كان في أثناء الوضوء ، كرواية زرارة المتقدمة ، والقرينة على حمل الشك في الشيء في رواية ابن أبي يعفور على الشك في الصحة هي الذيل الوارد مورد التطبيق ، وذلك لأن تجاوز الشيء لا يصدق إذا لم يكن نفس الشيء موجودا. فقوله و « انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » ظاهر في المفروغية عن تحقق الشيء ، فيكون قرينة على كون المراد بالشك فيه هو الشك في صحته لا في وجوده ، وقد تقدم صحة إرادة الشك في الصحة من الشك في الشيء ، وان كان خلاف الظهور الأول لكن يحمل الكلام عليه مع القرينة. ويمكن ان يحل الإشكال في الرواية بوجه آخر وهو أن يقال : بان المراد من ضمير : « غيره » هو الوضوء والملحوظ في الرواية نفي الشك في الصحة لا في الوجود ، بأن يكون المراد بالشك في الشيء ليس مدلوله المطابقي بل المدلول الالتزامي بنحو الكناية وهو الشك في الصحة ، لأن الشك في وجود بعض الأجزاء يلازم الشك في صحة الوضوء ، فتكون رواية ناظرة بصدرها وذيلها إلى بيان جريان قاعدة الفراغ في الوضوء إذا كان الشك بعد الانتهاء عنه ، وعدم جريانها إذا كان الشك في الأثناء. وبهذا البيان نتخلص عن إشكال تقييد المورد الّذي تقع فيه إذا كان المنظور في الصدر جريان قاعدة التجاوز. ولكن هذا الوجه انما نلتزم به ونرفع اليد عن الوجه الأول الّذي هو أقرب للظاهر إذا فرض ان رواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء تشمل مطلق الشك الأعم من الشك في صحة الجزء أو وجوده ، فتكون قرينة على التصرف في هذه الرواية وحمل صدرها على إرادة الدخول في غير الوضوء واما لو فرض استظهار كون موردها خصوص الشك في وجود الجزء - كما هو القريب - فلا وجه لرفع اليد عن التوجيه الأول وحمل الرواية على بيان جريان قاعدة الفراغ في أثناء الوضوء مع الشك في صحة الجزء ، فتدبر.

« غيره » وان كان بالظهور البدوي راجعا إلى الشيء المشكوك فيه ، إلاّ ان إرجاعه إلى الوضوء بقرينة الإجماع والنص على عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، وقرب المرجع لا يكون فيه مخالفة صريحة للظاهر ، فإذا أرجع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء ، كان الصدر ظاهرا في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، وان عدم الاعتناء بالشك انما يكون بعد الفراغ من الوضوء ، وحينئذ يرتفع التنافي بين الصدر وبين الإجماع والنص كما لا يخفى.

يبقى تطبيق الحصر في الذيل على الصدر ، والأفضل ان يقال فيه : ما أشرنا إليه سابقا في روايات الباب ، وهو : ان الذيل ليس ظاهرا في ضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة التجاوز - كما أفاده العراقي - بل يمكن ان يكون لضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة الفراغ ، وذلك بقرينة اسناد التجاوز إلى نفس الشيء الظاهر في كون أصل الشيء مفروغا عن وجوده والشك في صحته ، وان كان الشك في الشيء ظاهرا بدوا

ص: 210

في الشك في أصل وجود الشيء ، إلاّ انه يحمل على الشك في الصحة بقرينة اسناد التجاوز ، وكونه تطبيقا على الصدر الّذي عرفت انه من موارد قاعدة الفراغ.

وحمل الذيل على ما أفاده الشيخ خلاف الظاهر ، لأنه يستلزم ان يكون متعلق الشك غير متعلق التجاوز ، وهو خلاف ظاهر الكلام ، كما انه يلزم منه التأويل المذكور للتخلص عما يرد عليه من الإشكال وهو مئونة زائدة غير ظاهرة من الكلام.

فالحاصل : ان الرواية أجنبية بالمرة عن جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، بل هي متكفلة صدرا وذيلا لبيان جريان قاعدة الفراغ فيه ، فلا منافاة بينها وبين الإجماع والنص فالتفت.

ثم انه لا وجه لإلحاق الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز بعد اختصاص الإجماع والنص بالوضوء ، لشمول مطلقات القاعدة لهما بلا مخصص ومقيد. فتدبر (1).

ص: 211


1- قد عرفت عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء. فهل تجري قاعدة الفراغ فيها مع الشك في صحتها أو لا؟. فمثلا إذا دخل في غسل اليد اليسرى وشك في صحة غسل اليمنى أو الوجه لفقد بعض شرائطه ، فهل تجري قاعدة الفراغ لإثبات صحة الغسل أو لا؟. ولا يخفى ان البحث في ذلك بعد الفراغ عن جريان القاعدة في الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه بقول مطلق وفي سائر المركبات. والتحقيق : ان مقتضى العموم كقوله عليه السلام : « كل شيء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » هو جريان القاعدة في الوضوء. وانما الشبهة من جهة رواية زرارة الآنفة الذّكر الدالة على الاعتناء بالشك في الأثناء. لكن عرفت انها ظاهرة في كون موضوعها خصوص الشك في وجود الجزء فلا تشمل الشك في صحة الجزء المشكوك. هذا وقد استثنى السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - من ذلك ما إذا كان الشك فيما سماه اللّه سبحانه في كتابه كما لو شك في الغسل بالماء المطلق أو المضاف ، فانه لا تجري قاعدة الفراغ في الجزء المشكوك لكون الشك فيما سماه اللّه كما يظهر من قوله : « فاغسلوا وجوهكم ... » بضميمة « فان لم تجدوا ماء » ، وإذا كان الشك فيما سماه اللّه سبحانه كان مشمولا لرواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك فيه. وما ذكره حفظه اللّه تعالى لا يخلو عن كلام وذلك : لأن المستفاد من رواية زرارة إن كان الاعتناء بالشك في خصوص وجود الاجزاء غسلا أو مسحا بحيث كان قوله عليه السلام فيها : « مما سماه اللّه ... » قيدا توضيحيا ، لأن جميع الغسلات والمسحات مما ذكرت في الكتاب الكريم ، فلا نظر للرواية حينئذ إلى الشك في مثل الغسل بالماء أو من الأعلى أو غير ذلك مما يرتبط بصحة الجزء. وإن كان المستفاد منها هو الاعتناء بالشك في كل ما يرتبط بالوضوء من اجزاء وشرائط بقول مطلق ، فيكون قوله عليه السلام « مما سماه اللّه » قيدا احترازيا. ومن الواضح ان مقتضاها حينئذ تخصيص قاعدة الفراغ أيضا فلا تشمل مورد الشك في أثناء الوضوء ، لكن لا يخفى ان التقييد بما سماه اللّه كما يستلزم طرح قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء في خصوص ما إذا رجع الشك فيه إلى الشك فيما سماه اللّه كذلك يستلزم تقييد إلغاء قاعدة التجاوز في خصوص ذلك المورد ، فالالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء وشرائطه بقول مطلق ، وتخصيص عدم جريان قاعدة الفراغ بخصوص ما إذا رجع الشك إلى الشك فيما سماه اللّه ليس بصحيح. فما أفاده لا يخلو عن إشكال ، وبعبارة أوضح نقول : ان القدر المتيقن من الرواية هو نظرها إلى إلغاء قاعدة التجاوز في الوضوء بلا إشكال لدى الكل ، وعليه فيكون التقييد المزبور راجعا إلى تقييد إلغاء قاعدة التجاوز لا خصوص قاعدة الفراغ. فانتبه. ثم أنك قد عرفت ان الرواية تختص بالشك في خصوص وجود الغسلات والمسحات ولا نظر لها إلى غير ذلك. وعليه فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء بقول مطلق. فتدبر.

الجهة الثانية عشرة : هل يختص جريان قاعدة الفراغ بصورة الشك في الغفلة والذّكر حال العمل أو يعم صورة ما إذا علم بالغفلة ولكنه احتمل الإتيان بالمشكوك من باب الاتفاق؟.

التزم المحقق النائيني (1) ، بالتعميم لعموم الأدلة. وخالفه السيد الخوئي (2) ،

ص: 212


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 481 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 306 - الطبعة الأولى.

فالتزام بالتخصيص ، بمقتضى التعليل المذكور في الرواية ، ولكون مرجع القاعدة إلى أصالة عدم الغفلة ، وهي انما تجري مع الشك في الغفلة ، اما مع العلم بها فلا وجه لجريانها.

والتحقيق ان يقال : ان القاعدة إن كانت من الأصول التعبدية ، فمقتضى عموم دليلها هو تعميم جريانها للصورتين لتحقق موضوعها وهو الشك في الصحة.

وان (1) كانت من الأمارات ، فالأمر يختلف باختلاف ملاك الأمارية ، فقد ذكر لها ملاكات ثلاثة :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني ، وهو الملازمة النوعية بين الإرادة المتعلقة بالمركب والإتيان بالجزء ، فان إرادة المركب هي المحركة لكل واحد من الاجزاء في محله وان كان الجزء حال الإتيان به مغفولا عنه إلاّ ان الإتيان به ناش عن الإرادة الإجمالية الارتكازية ولا يحتاج إلى تعلق الإرادة التفصيلية به (2).

الثاني : ان العاقل إذا أراد الإتيان بعمل ما فمقتضى القاعدة عدم غفلته عن الإتيان بخصوصياته واجزائه ، فهذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى أصالة عدم الغفلة.

الثالث : ان العاقل إذا اعتاد على عمل ما ، وأراد الإتيان به فهو بمقتضى طبعه وعادته لا يترك اجزاء العمل وخصوصياته.

ص: 213


1- تحقيق الحال في ذلك بإجمال : ان ما ذكر لكون قاعدة الفراغ أمارة وجوه استحسانية لا دليل عليها ، مع ان الأول يرتبط بقاعدة التجاوز ولا يشمل قاعدة الفراغ ، لأن من مواردها المتيقنة مورد احتمال الغفلة من حين العمل ، ولا يتأتى فيه الملاك المزبور. واما استفادة الأمارية من التعليل المذكور في رواية الوضوء ، وهو قوله عليه السلام : « هو حين يتوضأ اذكر من حين يشك » فسيأتي الكلام فيه وبيان اختصاصه بصورة خاصة ، فلا يصلح لتقييد المطلقات. اذن ، فالعمل على طبق مطلقات الباب الشاملة لصورة العلم بالغفلة متعين.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 463 - الطبعة الأولى.

فعلى الملاك الأول ، يختص جريان القاعدة بصورة العلم بتحقق الالتفات أول العمل المركب وان احتمل تبدله إلى الغفلة في الأثناء ، إذ مع عدم العلم بالالتفات لا يحرز تحقق ملاك جريان القاعدة ، وهو الملازمة بين إرادة المركب والإتيان بالجزء ، إذ لا يعلم بتحقق الإرادة للمركب.

وعلى الملاك الثاني : تشمل القاعدة صورة الشك في الغفلة والذّكر من أول العمل لأصالة عدم الغفلة من العاقل عن خصوصيات العمل الّذي يشرع فيه.

ولكنها لا تشمل صورة العلم بالغفلة وان احتمل تبدلها إلى الذّكر في الأثناء لمزاحمة استصحاب الغفلة لهذا الأصل العقلائي في أماريته وكشفه.

وعلى الملاك الثالث : فالقاعدة تشمل جميع الصور حتى صورة العلم بالغفلة واستمرارها إلى ما بعد محل المشكوك فيه ، لثبوت الملاك في هذه الصورة - وهو اقتضاء الطبع والعادة للإتيان بالجزء وان كان مغفولا عنه بالمرة - نعم ، يستثنى منها صورة ما إذا كانت الغفلة عن الجزء أو الشرط ناشئة عن الجهل بحكمه فان العادة لا تقضي بالإتيان به لعدم تحققها بالنسبة إليه ، كما لو لم يكن يعلم بوجوب السورة ولم يكن يخطر على باله وجوبها وشك بعد الإتيان بالعمل في أنه جاء به مع السورة أو بدونها.

فالمتحصل ان الصور أربع :

الأولى : العلم بتحقق الالتفات حال العمل والشك في تبدله في الأثناء إلى الغفلة.

الثانية : الشك في تحقق الغفلة أو الذّكر حال العمل.

الثالثة : العلم بالغفلة حال العمل والشك في تبدله إلى الالتفات في الأثناء.

الرابعة : العلم بالغفلة واستمرارها.

فالقاعدة بالملاك الأول تجري في خصوص الصورة الأولى.

وبالملاك الثاني تجري في الصورتين الأولتين.

ص: 214

وبالملاك الثالث تجري في جميع الصور إلا ما عرفت استثناءه من الصورة الأخيرة.

وقد يستدل على جريان قاعدة الفراغ في صورة العلم بالغفلة عن المشكوك فيه برواية الحسين بن أبي العلاء : « سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال : حوّله من مكانه. وقال : في الوضوء تديره فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة » (1) ، فانها تدل على عدم الاعتناء بالشك في وصول الماء إلى البشرة بعد الفراغ مع العلم بالغفلة عن ذلك وعدم الالتفات إليه لنسيان تحريك أو تحويل الخاتم.

وقد نوقش الاستدلال بها : بان الظاهر من الخبر ان التحويل والإدارة مطلوبان في أنفسهما لا باعتبار وصول الماء إلى البشرة المخفية بالخاتم ، إذ لا وجه لذكر التحويل في الغسل والإدارة في الوضوء لو كانا مطلوبين لا لإيصال الماء لكفاية العكس في ذلك ، بل كل منهما كاف في ذلك في الوضوء والغسل. فهذا التفريق بينهما شاهد في مطلوبيتهما في أنفسهما ، غاية الأمر علم من الخارج عدم وجوبهما ، بل نفس الخبر يدل على ذلك لقوله : « فان نسيت فلا آمرك ان تعيد الصلاة » ، فانه يدل على انهما ليسا شرطين لصحة الغسل والوضوء ، بل هما امران راجحان فيهما. وعلى كل فالخبر أجنبي عن المدعى.

ولكن هذه المناقشة لا تخلو من إشكال ، فانه مما لا يخفى على من له أدنى ذوق ان سؤال السائل عن الخاتم في الغسل ليس إلاّ لما يترتب عليه من منع لوصول الماء أو شك في ذلك ، أما السؤال عن الخاتم لاحتمال خصوصية فيه فهذا بعيد عن ظاهر السؤال. فتوجيه الجواب بما ذكر بعيد عن ظاهر السؤال.

فالتحقيق في الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية ، أن يقال : ان طريق العلم

ص: 215


1- وسائل الشيعة 1 / 329 ، باب 41 من أبواب الوضوء ، الحديث : 2.

بوصول الماء إلى البشرة تحت الخاتم وعدمه موجود غالبا ، وذلك بملاحظة الخاتم من ناحية الضيق والسعة ، ولو وصل إليه الماء فهو بغير الشرط الشرعي من الترتيب ، فلا بد من حمل الرواية على صورة العلم بعدم وصول الماء - لا الشك فيه لعدم تحققه غالبا - فيكون غرض الإمام علیه السلام هو الأمر بإيصال الماء ولزوم غسل ما تحت الخاتم ، والإدارة والنزع طريقان إليه والاختلاف بينهما تفنن في التعبير لا لخصوصية فيهما والإشارة إلى كفايتهما معا. ثم ما ذكره من عدم الأمر بالإعادة عند النسيان يحمل على العفو عن عدم وصول الماء إلى بعض البشرة في صحة الصلاة بعد فراغها ويكون مقيدا لحديث : « لا تعاد » ان التزمنا بشموله لصورة الإخلال بغسل بعض البشرة ، ولم نقل بظهوره في الاختصاص بصورة ترك أصل الطهارة ولا يشمل صورة الإخلال بها.

الجهة الثالثة عشرة : في جريان القاعدة مع الشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

وتوضيح الحال : ان الشك في الصحة تارة : يكون ناشئا عن الشك في أمر اختياري للمكلف ، كالإتيان بالجزء أو الشرط. وأخرى : يكون ناشئا عن الشك في أمر غير اختياري له ، كما لو صلى إلى جهة معينة ، ثم يشك في ان هذه الجهة هي القبلة أو لا؟ فان كون هذه الجهة هي القبلة ليس بأمر اختياري للمكلف. ويعبر عن هذه الصورة بالشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

فالقسم الأول ، هو القدر المتيقن من موارد قاعدة الفراغ.

وأما القسم الثاني ، فهو محل الكلام.

وقد اختار المحقق النائيني عدم جريان القاعدة فيه ، لأن الأدلة انما تشمل صورة الشك في انطباق المأتي به على المأمور به. أما صورة الشك في انطباق المأمور

ص: 216

به على المأتي به - كما فيما نحن فيه - فلا تشمله الأدلة (1).

ولم يذكر وجه عدم شمول الأدلة له.

ولا يخلو الحال في الوجه فيه عن أحد أمور ثلاثة :

اما إجمال الأدلة فيقتصر فيها على القدر المتيقن ، وهو غير هذه الصورة.

واما انصرافها إلى غير هذه الصورة.

واما دعوى : ان سياق الكلام يدل على ان مورد القاعدة ما إذا كان الشك راجعا إلى العمل بحيث يكون محله العمل لا ان يكون المشكوك فيه أمرا خارجا عنه وان ارتبط به.

والأول : لا يعترف به قدس سره ، إذ لا يقول بإجمال الأدلة.

والثاني : ممنوع في نفسه ، مضافا إلى أنه لا يقول بالانصراف الا في موارد خاصة - وهي موارد التشكيك في الصدق - ليس ما نحن فيه منها.

والثالث : لا يخلو عن المغالطة ، لأن الشك وان تعلق أولا ، وبالذات بالأمر الخارج عن العمل ، لكنه يسبب الشك في صحة العمل باعتبار تحقق الشرط بالموجود ، فيكون موردا للقاعدة.

وبهذا البيان يندفع ما يظهر منه قدس سره من : ان الشك هاهنا راجع إلى وجود الأمر ، ومجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الامتثال ، ووجه اندفاعه : ان أصل وجود الأمر لا شك فيه ، إذ لا شك في شرطية الاستقبال ، وانما يشك في موافقة ما أتي به لما هو المأمور به ، وهو مجرى القاعدة.

فالتحقيق ان يقال : ان بني على أصلية القاعدة ، فالقول بجريانها في هذه الصورة متعين ، لإطلاق الأدلة ، ولا دليل يعتد به على التخصيص ، إلاّ ان يدعى انصرافها إلى ما إذا كان الشك في الموافقة وعدمها إلى ما يرجع إلى اختياره بحيث

ص: 217


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 482 - الطبعة الأولى.

يكون عدم مطابقة المأتي به للمأمور به ناشئة عن تركه الاختياري ، لا عن امر آخر ، فتأمل.

وأن بني على الأمارية بمقتضى التعليل بالأذكرية ، أو بغيره من الملاكات ، فلا وجه لجريانها ، لأن الأذكرية انما هي بالنسبة إلى ما يمكن صدوره منه وتحققه باختياره ، أما بالنسبة إلى ما هو خارج عن اختياره فلا يتحقق ملاك الأذكرية ، إذ الشك في الصورة لا يرجع إلى الغفلة وعدم الالتفات ولا يرتبط بها أصلا ، إذ هو حاصل حتى مع العلم بالاتجاه إلى هذه الجهة والالتفات إليه. فتدبر.

الجهة الرابعة عشرة : فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشبهة الحكمية ، كما لو صلى وشك في ان صلاته كانت مع السورة أو بدونها مع الجهل بوجوب السورة.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره : ان الشك تارة : يكون في مطابقة عمله لفتوى مجتهده الّذي تحقق منه تقليده. وأخرى : يكون في مطابقة عمله للمأمور به الواقعي مع عدم تحقق تقليد منه.

ففي الشق الأول تجري القاعدة ، لكون الشك في مطابقة المأتي به للمأمور به المعين ، فيكون كالشبهة الموضوعية.

وأما الشق الثاني ، فلا تجري فيه القاعدة ، لأن التكاليف الواقعية تكون منجزة بواسطة العلم الإجمالي ، فيجب الخروج عن عهدته اما بإحراز إتيانه أو بإتيان بدله الظاهري ، كما في صورة الانحلال بالتقليد. وقاعدة الفراغ لا تثبت انطباق الأمر الواقعي المجهول على المأتي به (1).

وما أفاده في كلا الشقين ممنوع ..

أما الشق الأول ، فلا بد من التفصيل بين الأمارية والأصلية ، فتجري على

ص: 218


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 481 - الطبعة الأولى.

الثاني دون الأول ، لعدم تحقق ملاكها مع الجهل بالحكم حال العمل كما تقدم.

مع ان ما ذكره من كونه من الشبهة الحكمية عجيب ، لأنه بعد تقليده تعين لديه المأمور به وانه مع السورة - مثلا - فالشك يرجع حينئذ إلى انه جاء بالمأمور به أو لا ، وهذا شك في الموضوع كما لا يخفى. نعم ، قبل التقليد كان جاهلا حكما ، إلا أنه في حال إجراء القاعدة بعد التقليد يرتفع جهله الحكمي ، فالشق المذكور من صور الشبهة الموضوعية.

وأما الشق الثاني ، فما ذكره من عدم انحلال العلم الإجمالي وتنجزه ، ان كان تمهيدا لبيان عدم جريان القاعدة ، فلا كلام فيه ، واما ان كان تتمة للاستدلال على عدم جريانها ، فلا يعرف له وجه ، لأن قاعدة الفراغ مؤمنة في صورة العلم التفصيليّ بالتكليف ، فضلا عن صورة العلم الإجمالي ، فلا فرق في الانحلال بين التقليد وعدمه.

الجهة الخامسة عشرة : هل يعتبر في جريان قاعدة الفراغ ان يكون الشك حادثا بعد العمل أو لا ، فتجري ولو كان الشك قد حدث في الأثناء؟

التحقيق : هو الأول.

أما على القول بان القاعدة أمارة ، فواضح : لأنه إذا فرض ان الشك كان في أثناء العمل فلا تتحقق أذكريته ، بل لا معنى لها ، إذ حاله قبل الفراغ كحاله بعد الفراغ لأنه شاك في الحالين.

وأما على القول بأنها أصل ، فلظهور الروايات في كون موضوع الإلغاء هو الشك المتعلق حدوثا بالعمل الماضي المفروغ عنه لا الشك الحادث قبل الفراغ المستمر إلى ما بعد الفراغ كما لا يخفى (1).

ص: 219


1- وقد تعرض بعض الاعلام في هذا المبحث إلى فرع تقدم تحقيق الكلام فيه في أوائل الاستصحاب وهو ما إذا شك الإنسان قبل صلاته في الطهارة والحدث وكانت حالته السابقة هي الحدث فاستصحبه ثم غفل وصلى ، وبعد صلاته تنبه ، وحصل له الشك في صحة صلاته لاحتمال الطهارة واقعا. ولهذا الفرع صورتان : إحداهما : ان يعلم بأنه لم يتوضأ بعد الاستصحاب وانما يتمحض احتمال الصحة باحتمال الطهارة الواقعية ، والأخرى : ان يحتمل أنه توضأ بعد الاستصحاب كما يحتمل ان يكون غفل وصلى بدون وضوء رافع للحدث الثابت بالاستصحاب. وقد التزم المحقق النائيني بجريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية دون الأولى ، ووجّه جريانها بان حكم استصحاب الحدث لا يزيد على حكم اليقين الوجداني به ولا شك انه مع اليقين بالحدث قبل الصلاة ثم شك بعد الصلاة في أنه توضأ ثم صلى أو غفل وصلى تجري في حقه قاعدة الفراغ ، فكذلك ما إذا كان مستصحب الحدث. وأما عدم جريانها في الصورة الأولى ، فلأجل الاستصحاب الجاري قبل العمل وعدم احتمال انتقاضه ، وقاعدة الفراغ ناظرة إلى الاستصحاب الجاري بعد العمل بلحاظ الشك الحاصل بعد العمل ، ولا نظر لها إلى الاستصحاب الجاري قبل العمل بلحاظ الشك الحاصل قبل العمل. وقد ناقشه المحقق العراقي : بأنه لا وجه للتفكيك بين الصورتين ، فإن القاعدة لا تجري في كلتا الصورتين ، وذلك لأن المعتبر في القاعدة ان لا يكون الشك في الصحة مسبوقا بشك آخر قبل العمل من سنخه أو غير سنخه. وبما ان الشك في كلتا الصورتين مسبوق بشك آخر قبل العمل لم يكن من موارد القاعدة. كما انه ناقش ما أفاده في الصورة الأولى من عدم حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب الجاري قبل العمل ، بان الاستصحاب بما أنه حكم مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير فلا يجري إلا مع الالتفات ، اما مع الغفلة كما هو المفروض فيما نحن فيه فلا مجال لتأثيره لامتناع التنجيز في حق الغافل ، إذن فلا استصحاب أثناء العمل كي يكون مقدما على قاعدة الفراغ. أقول : قد تقدم منا تقريب جريان استصحاب الحدث مع الغفلة ببيان : ان الاستصحاب إنما يتكفل التنجيز في الأحكام التكليفية دون الوضعيّة كالحدث والطهارة والملكية والزوجية ونحو ذلك ، فلا مانع من جريانه مع الغفلة ، فكما أن وجودها الواقعي لا يرتفع بالغفلة كذلك وجودها الظاهري ، ولذا تترتب آثار الملكية ونحوها من الأحكام الوضعيّة مع الغفلة عنها. وأما ما أفاده في مناقشة جريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية ، من عدم جريان قاعدة الفراغ في الشك المسبوق بشك آخر من سنخه أو من غير سنخه. فيمكن التأمل فيه بأن أصل الكبرى التي فرضنا وان كانت لا تخلو عن قرب بعد حملها على ان يكون المراد من إرادة الشك غير المسانخ ما لو نحو ارتباط بالشك في الصحة لا مطلق الشك غير المسانخ ولو كان أجنبيا بالمرة عن الشك في الصحة إذ لا وجه له محصل. ووجه قرب ذلك : ان الشك في الصحة وان كان حادثا بعد العمل إلا ان المرفوع بقاعدة الفراغ هو الشك في أداء الوظيفة والخروج عن العهدة ، ومع وجود الشك السابق ، لا يرجع الشك في الصحة إلى الشك في أداء الوظيفة لأن الشك السابق معين لوظيفة خاصة على المكلف والمعلوم عدم أدائها. لكن الإشكال في تطبيقها على ما نحن فيه ، فانها تختص بما إذا كان الشك السابق حادثا حين العمل لا ما إذا كان قبل العمل بمدة واحتمل الالتفات حال العمل ، والعمل بما هو مقتضى وظيفة الشاك من الوضوء ورفع الحدث الاستصحابي ، فان أداء الوظيفة مشكوك في هذا الحال لا معلوم العدم. فلا مانع من جريان القاعدة. وعلى هذا فالتفصيل بين الصورتين كما أفاده المحقق النائيني وجيه. فتدبر. ثم ان المحقق العراقي تعرض إلى البحث في جهتين آخرتين : الجهة الأولى : في ان المضي على المشكوك فيه في مورد قاعدة التجاوز رخصة أو عزيمة ، وقد ذهب قدس سره إلى انه عزيمة ، فلا يجوز الإتيان بالمشكوك ولو برجاء الواقع ويكون الإتيان به من الزيادة العمدية بالنسبة إلى المشكوك والغير الّذي دخل فيه وذلك يوجب البطلان ، واستند في ذلك إلى ظهور الأمر بالمضي في اخبار الباب وقوله عليه السلام : « بل قد ركعت » في وجوب البناء على وجود المشكوك فيه وتحققه في محله ، فلا يشرع الاحتياط لعدم الموضوع له بعد حكم الشارع بوجود المشكوك. هذا ما أفاده قدس سره. ويمكن المناقشة في استدلاله وما رتبه من الأثر على مدعاه. أما استدلاله ، فلأنه من الواضح ان قوله عليه السلام : « بلى قد ركعت » لا يراد به الاخبار عن تحقق الركوع واقعا ، وانما هو تعبد ظاهري بتحقق الركوع ومن البين ان الحكم الظاهري لا يمنع من الاحتياط فيما نحن فيه ، لأنه مسوق مساق التأمين والتعذير فهو رخصة لا عزيمة. وأما الأمر بالمضي ، فهو أمر واقع مورد توهم الحظر يعني : حظر المضي ولزوم العود وإتيان المشكوك ، فلا يفيد سوى عدم الحظر وعدم لزوم العود لا لزوم المضي وحرمة العود ، فالتفت. وأما ما رتبه من الثمرة ، وهو ان الإتيان بالمشكوك يكون من الزيادة العمدية ، فيرد عليه : انه لا يتم في الاجزاء التي يتقوم صدق زيادتها بإتيانها بقصد الجزئية كالقراءة والتشهد ونحو ذلك ، إذ بالإتيان بها رجاء لا تصدق الزيادة لعدم قصد الجزئية. نعم ، في مثل السجود والركوع بناء على القول بتحقق زيادتهما بمجرد الإتيان بهما بذاتهما ولو لم يقصد بهما الجزئية يتأتى ما ذكره. مع إمكان الرجوع إلى أصالة عدم زيادة الركوع في نفى عروض المبطل على الصلاة الواقعية. فتأمل. الجهة الثانية : في انه إذا دار امر الجزء الفائت بين ما يستلزم فواته البطلان كالركن وما لا يستلزم فواته البطلان كغير الركن ، فهل تجري قاعدة التجاوز في كلا الجزءين وتسقط بالمعارضة أو لا؟ كما لو علم إجمالا بفوات الركوع منه أو التشهد فانه قد يقال ان كلا من الركوع والتشهد مجرى القاعدة ومقتضى ذلك التساقط. لكنه « قدس سره » ذهب إلى عدم جريان القاعدة في مثل التشهد ، وذلك لأنه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون المشكوك على تقدير وجوده واقعا مما يجزم بأنه مأتي به على طبق أمره ، فلو لم يكن المشكوك كذلك لم تجر القاعدة لعدم ترتب أثر عملي على التعبد بالمضي عليه ، وما نحن فيه كذلك ، لأن وجود التشهد ملازم لفوات الركوع وهو مستلزم لبطلان صلاته ، فلا يترتب على وجوده أثر عملي حتى يثبت بالقاعدة. وببيان آخر يقال : انه في الفرض يعلم تفصيلا بعدم الإتيان بالتشهد موافقا لأمره ، إما لعدم الإتيان به رأسا واما للإتيان به في صلاة باطلة. ومع العلم التفصيليّ المزبور لا مجال لجريان القاعدة فيه. فتكون قاعدة التجاوز في الركوع بلا معارض. وقد تلقي ما أفاده بالقبول وطبق في فروع متعددة من فروع العلم الإجمالي في العروة الوثقى. وهو بيان علمي رصين ، لكنه لا يخلو عن مناقشة وذلك : لأن قاعدة التجاوز إما ان يكون مفادها الصحة الفعلية للصلاة بحيث يكون مقتضى جريانها إثبات الأمر بغير المشكوك فيكون العمل المأتي به موافقا للأمر ، واما ان يكون مفادها الصحة من جهة المشكوك خاصة فهي تتكفل التأمين من ناحية المشكوك من دون إثبات أمر ظاهري آخر غير الأمر بالمقام. فعلى الأول : لا يمكن إجراء القاعدة مع تعدد الجزء المشكوك ركنا كان أم غير ركن ، لأن إجراءها في كل واحد منهما يقتضي إفادة الصحة الفعلية وإثبات أمر ظاهري بغير المشكوك وهذا يمتنع مع فرض الشك في إتيان الجزء الآخر المستلزم للشك في الصحة ، وليس لدينا قاعدة واحدة تجري في كلا الجزءين المشكوكين معا ، لأن كل جزء مشكوك موضوع مستقل لعموم دليل القاعدة. وعلى الثاني : فلا مانع من جريان القاعدة في التشهد في نفسه لعدم العلم بتركه والمفروض انهما تتكفل التأمين من ناحية عدم الإتيان به خاصة وهو غير معلوم ، فلا يتجه ما ذكره من العلم بعدم امتثال أمره إما لتركه أو لترك الركن الموجب للبطلان ، فانه يتم لو فرض تكفل القاعدة للتأمين الفعلي لا التأمين من جهة كما هو الفرض. نعم ، يبقى إشكال اللغوية وان التأمين من ناحية التشهد لا أثر له مع عدم صحة العمل. ويندفع : بان قاعدة التجاوز الجارية في الركوع تثبت الصحة وتنفي البطلان. فلا يكون جريانها في التشهد بلا أثر ولغوا. نعم ، لمكان العلم الإجمالي تتحقق المعارضة بين القاعدتين ، وبعبارة أخرى : يكفي في رفع اللغوية ترتب المعارضة على جريانها لأن اللغوية ترتفع بأدنى أثر. ولا وجه لطرح قاعدة التجاوز في التشهد خاصة. فتدبر واللّه سبحانه العالم.

ص: 220

ص: 221

ص: 222

الجهة السادسة عشرة : في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان منشأ الشك احتمال عدم صدور الأمر من المولى ، كما لو صلى ثم شك في دخول وقتها حين الإتيان بها وعدمه ، فان الشك في الصحة هاهنا ناشئ عن الشك في تعلق الأمر بالصلاة. وكما لو اغتسل للجنابة ثم شك في انه كان جنبا فيصح غسله أو لا؟.

وقد ذكر السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - انه لا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ ، لأن قاعدة الفراغ أمارة على وقوع الفعل من المكلف باجزائه وشرائطه ، فلا كاشفية لها بالنسبة إلى ما هو من فعل المولى وصدور الأمر منه. ويدل عليه ما ورد من التعليل بالأذكرية ، فانه من المعلوم ان كونه أذكر حال العمل

ص: 223

بالنسبة إلى ما يصدر منه من الأعمال دون ما هو من أفعال المولى (1).

ولكن التحقيق أن هذا التقريب لعدم الجريان غير واف فيه ، فان الشك في كلا المثالين يرجع إلى ما هو من أفعال المكلف ، فالتعليل بالأذكرية يشمله بلا توقف.

أما مثال الصلاة ، فلأن صحة الصلاة لا تدور مدار تعلق الأمر بها فعلا ، كما يدل على ذلك صحة صلاة الصبي بعد دخول الوقت وقبل بلوغه لو بلغ في أثناء الوقت ، مع انه لم يكن مأمورا بها فريضة. بتقريب : ظهور دليل وجوب الصلاة كون المقصود تحققها بشرائطها المعتبرة فيها ، فلا يشمل الدليل من تحققت منه الطبيعة التي تكون متعلقا للأمر ولو كان ذلك بلا أمر ، بل المدار هو تحقق ما هو قابل في نفسه لتعلق الأمر به - وبعبارة أخرى : تحقق فرد الطبيعة التي تعلق بها الأمر وان لم يشمل الأمر هذا الفرد - وهو الصلاة بشرائطها ومنها الوقت. فالشك يرجع إلى الشك في كون الصلاة في الوقت أو لا ، وهذا من أفعال المكلف ، وان لازم الشك في صدور الأمر من المولى. فالمورد مشمول للتعليل كما هو ظاهر.

نعم ، هاهنا شيء وهو ان الظاهر من لسان أدلة قاعدة الفراغ وإلغاء الشك في العمل بعد مضيه ، ان الإلغاء يكون في مقام لولاه لوقع المكلف في كلفة الإعادة ، فهي بلسان رفع الكلفة. أما في غير هذه الصورة فلا تجري القاعدة ولا يتحقق الإلغاء.

وعلى هذا فلا بد اتباع السيد الطباطبائي « قدس سره » (2) في التفصيل فيما نحن فيه بين ما إذا كان الشاك في صحة الصلاة للشك في دخول الوقت جازما بدخول الوقت حال الشك فتجري القاعدة. وما إذا لم يكن جازما بدخول الوقت حال الشك ، بل كان شاكا أيضا ، فلا تجري القاعدة. اما جريانها في الأول ، فلأنه مع

ص: 224


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 308 - الطبعة الأولى.
2- الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى - المسألة الخامسة في أحكام الأوقات.

عدم الحكم بإلغاء الشك يكون المكلف مأمورا بالصلاة حال الشك لدخول الوقت ، فيقع في كلفة الإعادة ، وهذا مما تنفيه أدلة القاعدة.

وأما عدم جريانها في الثاني ، فلأنه لو لم يحكم بصحة الصلاة لا يقع المكلف في الكلفة لفرض الشك فعلا بدخول الوقت الملازم للشك في صدور الأمر ، وبمقتضى استصحاب عدم دخول الوقت يثبت عدم الأمر تعبدا ، فيكون هذا المورد خارجا عن الأدلة في نفسه.

وأما مثال الغسل ، فلأن الشك فيه شك فيما يرجع إلى المكلف ، وهو الكون جنبا ، فهو مشمول للتعليل بالأذكرية ، فيكون من موارد القاعدة في نفسه. لكن المشهور والمسلم عدم جريانها فيه.

ولعل السر فيه ما يقال من : أن عدم وجوب الوضوء للصلاة لا يترتب على صحة الغسل ، بمعنى ان صحة الغسل موضوع لعدم وجوب الوضوء ، حتى يكون إجراء قاعدة الفراغ في الغسل ذا أثر شرعي وهو رفع وجوب الوضوء وجواز الدخول في الصلاة بدونه ، لأن وجوبه يترتب على أمرين - بنحو الجمع - وهما : تحقق الحدث الأصغر ، وعدم الكون جنبا ، فمع تحققهما يجب الوضوء.

ولا يخفى انه بجريان القاعدة في الغسل مع الشك في أصل الجنابة لا يثبت تحقق الجنابة كي ينتفي موضوع وجوب الوضوء ، فانه أجنبي عن مفاد القاعدة ، فباستصحاب عدم الجنابة يثبت موضوع وجوب الوضوء ، فلا يجدي إثبات صحة الغسل في رفع كلفة الوضوء ، فتبقى القاعدة بلا أثر ، فلا يتجه جريانها من جهة عدم الأثر.

الجهة السابعة عشرة : في كون القاعدة من الأصول أو الأمارات.

وقد ذكرنا انه قد ذكر للأمارية ملاكات ثلاثة :

أحدها : ما ذكره المحقق النائيني من الملازمة النوعية بين إرادة المركب

ص: 225

والإتيان بالجزء في محله ولو مع الغفلة حال الجزء (1).

والثاني : ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من كون الإتيان بالاجزاء والشرائط أمرا بمقتضى العادة والطبع المستند إليها (2).

والثالث : ما قرره السيد الخوئي ، من الأصل في العاقل القاصد للإتيان بالمركب عدم الغفلة عن الإتيان بأجزائه وشرائطه (3).

وكل من هذه الملاكات غير صالح لاعتبار قاعدة الفراغ من باب الأمارية والكشف.

أما الأول : فلعدم ثبوت الملازمة النوعية بين إرادة المركب والإتيان بالجزء في ظرفه ولو مع الغفلة - بلا استناد إلى العادة - إلا في صورة كون الاجزاء من سنخ واحد كالمشي والقراءة المتكررة ونحوهما. أما ما كانت الاجزاء فيها ليست من سنخ واحد بل متغايرة ، فالملازمة مع الغفلة لا تثبت إلا مع الاعتياد ، بحيث يكون الإتيان به مستندا إلى العادة لا إلى الملازمة.

وأما الثاني : فهو مختص بصورة الاعتياد على العمل ، فلا ينبغي - مع اعتبار القاعدة بلحاظه - أن تجري في صورة عدم الاعتياد ، ككثير من المعاملات وبعض العبادات كالحج لغير المعتاد وكالصلاة في أول الإسلام أو التكليف إذا لم يسبق منه الاعتياد على الصلاة.

وأما الثالث : فهو يقتضي إلغاء قاعدة الفراغ بالمرة ، لأن أصالة عدم الغفلة من الأصول العقلائية المسلمة فاعتبار القاعدة بلحاظه لا يكون إلا إمضاء للعمل به لا تأسيسا لقاعدة مستقلة.

مضافا إلى أنه لم يعلم من حال العقلاء العمل بهذا الأصل في عمل الشخص

ص: 226


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 463 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 305 - الطبعة الأولى.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 262 - الطبعة الأولى.

نفسه بل المتيقن هو العمل به في عمل الغير ، فلا يصلح للملاكية لظهور كون موارد القاعدة عمل الشخص نفسه. فتدبر جيدا.

فالمتحصل : ان شيئا من هذه الملاكات لا يصلح ملاكا لأمارية قاعدة الفراغ.

يبقى الكلام في التعليل بالأذكرية الوارد في بعض الروايات وهو قوله « علیه السلام » : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ».

وهو يحتمل معان ثلاثة :

الأول : التعبد بالواقع من باب غلبة الذّكر نوعا.

الثاني : التعبد بالذكر الشخصي من باب غلبة الذّكر النوعيّ ، فيثبت الواقع بالملازمة.

الثالث : التعبد بالذكر الشخصي رأسا بلا لحاظ شيء فيه ، فيثبت الواقع بذلك.

فمع حمل التعليل على الوجه الأول يكون شاملا لصورة العلم بالغفلة الشخصية. بخلاف ما إذا حمل على الوجهين الأخيرين ، فانه لا يكون شاملا لهذه الصورة ، إذ يمتنع التعبد بالذكر الشخصي مع العلم بالغفلة.

والظاهر منه هو الوجه الأخير ، فانه علیه السلام يسند الأذكرية إلى نفس الشاك بلا تعليل بشيء من غلبة الذّكر نوعا ونحوه.

ثم انه لا يخفى ان الالتفات والذّكر غير قابل للتفضيل مع اتحاد موضوعه ، فان الشخص إما أن يكون ملتفتا أو غير ملتفت ، فالتفاضل في الالتفات والذّكر لا يكون إلا بنحو المسامحة.

وعليه ، فلا بد من أن يكون التفضيل المسند إلى الذّكر بلحاظ موجباته ، فيكون المراد أن موجبات الذّكر في حال العمل أكثر منها في حال الشك ، وإنما جعل التفضيل في نفس الذّكر تسامحا وتجوزا.

ثم أن المشهور في معنى التعليل : ان المكلف في حال العمل أذكر منه في حال

ص: 227

الشك ، فهو يأتي بالعمل في محله وظرفه لالتفاته إليه.

ولكن الوجه المذكور أجنبي عن مدلول الكلام ، لأن الشاك ملتفت إلى نفس الجزء في حال شكه ، فليس هو في حال العمل أكثر التفاتا منه في حال الشك.

كما أنه ليس الملحوظ في حال الشك هو الإتيان فعلا بالجزء ، كي يقال بأنه في حال العمل أذكر منه فيأتي به دون حال الشك لعدم التفاته ، بل متعلق الشك انما هو تحقق إيقاع العمل المشكوك في محله ، وانه هل جاء به أو لا؟ فمورد التفضيل انما هو هذا الأمر.

فيكون مفاد الرواية (1) : ان المكلف في حال العمل تكون موجبات الالتفات إلى تحقق جزء العمل منه بالنسبة إليه أكثر منها في حال الشك ، لقربه من محل الجزء حال العمل وبعده منه حال الشك ، ولوجود بعض القرائن من حس أو حال قد يغفل عنها بعد عمله ، فاستمراره في العمل وبناؤه على الإتيان بالجزء ، يكون كاشفا

ص: 228


1- التحقيق في مفاد الرواية : انها ناظرة سؤالا وجوابا إلى صورة خاصة ، فلا تصلح للتقييد ، لأن المسئول عنه صورة خاصة لا مطلق الشك بعد الفراغ كي يكون التعليل مقيدا. وتوضيح ذلك : ان المراد بالأذكرية هاهنا هو توفر موجبات الذّكر والالتفات لا التفاضل في نفس الذّكر ، فانه لا يقبل التفاضل - كما أشير إليه في المتن. وعليه ، فالمراد ان الإنسان حين وضوءه تكون موجبات ذكره أزيد مما إذا كان في حالة أخرى ، وذلك لأنه يستطيع أن يرى ما غسل وما لم يغسل من أعضائه ، بخلاف حالة شكه ، فان الأعضاء تيبس فلا يستطيع التمييز ، وهذا أمر يقال في حق الوسواسي الّذي يكثر من التأمل والغسل ثم يحصل له الوسوسة بعد الشك فلا يستطيع ان يتميز ما غسله عما لم يغسله ، فيقال له : انك حين العمل تستطيع المعرفة أكثر من حال الشك ، فالرواية واردة في مثل هذا الشخص ، والقرينة على ذلك نفس السؤال بلفظ المضارع : « رجل يشك بعد ما يتوضأ » ، فانه ظاهر في كونه أمرا استمراريا لا من باب الصدفة ، وهذا إنما يكون عند الوسواسي. وإذا كان المسئول عنه صورة خاصة ، كان الجواب مختصا بها ، ولا نظر له إلى مطلق الشك بعد الفراغ فتدبر.

عن تحقق الجزء منه ، فيلغى الشك فيه ولا يعتنى به ، لأن بناءه على الإتيان به في حال كثرة موجبات الالتفات يكون مقدما على الشك فيه في حال قلتها.

ولا يخفى ان هذا يختص بصورة تحقق الالتفات منه حال العمل والبناء على تحقق المشكوك ، ثم حدث عنده الشك بعد العمل.

أما صورة العلم بالغفلة أو التردد فيها ، فلا يشملها التعليل ، لعدم تحقق الظاهر المقدم على الشك لديه - وهو البناء على تحقق المشكوك في حال كثرة موجبات الالتفات - أو عدم إحرازه.

ومن هنا يمتنع القول بكون هذا الكلام واردا للتعليل بحيث يدور الحكم مداره وجودا وعدما وضابطا وملاكا للأمارية ، ضرورة أن صورة الشك في الغفلة وعدمها من الموارد المتيقنة لجريان قاعدة الفراغ ، مع أنها تخرج بمقتضى هذا الكلام.

مضافا إلى عدم ظهور ذلك من نفس اللفظ - كما لا يخفى - فلا محيص عن الالتزام بكونه من قبل الحكمة لا العلة ، وبهذا يثبت عدم الدليل على لحاظ جهة الطريقية والكشف في جعل قاعدة الفراغ ، بل لو ثبت ذلك لم يكن دليلا على كونها من الأمارات ، بل تكون من الأصول المحرزة التي تتفق مع الأمارة بلحاظ جهة الطريقية فيها ، وتختلف عنها بكون الشك مأخوذا في موضوعها - كما هو الحال في قاعدة الفراغ - دون الأمارة.

فالحاصل : انه لا دليل على أمارية القاعدة ولو ثبت لحاظ جهة الطريقية في اعتبارها ، فيتعين كونها من الأصول.

الجهة الثامنة عشرة : في شمول القاعدة لصورة احتمال الإخلال العمدي.

والمقصود بالكلام ليس هو احتمال الإخلال العمدي في الأثناء ، إذ العاقل لا يستمر بالعمل عادة إذا أخلّ به عمدا ، وانما الفرض هو ما إذا رأى نفسه خارجا عن العمل واحتمل ان يكون لانتهائه عن العمل ، أو لرفعه اليد عنه عمدا لغاية من الغايات. وعلى هذا ، فالتعليل الوارد في رواية الوضوء لا يشمل المورد بالتقريب

ص: 229

الّذي أفاده الشيخ وتبعه عليه العراقي ، وهو ان مفاد التعليل ان احتمال الترك السهوي خلاف فرض الذّكر ، واحتمال الترك العمدي خلاف إرادة الإبراء ، لأنه يحتمل انه عدل عن قصد الإبراء. نعم ، المطلقات تشمل المورد.

وقد تقدم المراد من التعليل وانه بنحو لا يصلح لتقييد المطلقات. فلاحظ.

الجهة التاسعة عشرة : في نسبتها مع الاستصحاب.

ولا إشكال في تقدمها عليه ..

أما مع فرض الأمارية أو كونها من الأصول المحرزة دون الاستصحاب ، فواضح.

وأما مع فرض تساويهما في الأصلية ، فتقدمها عليه بالتخصيص ، إذ ما من مورد قاعدة الفراغ إلا والاستصحاب جار فيه موضوعا ، فيلزم من تقدم الاستصحاب عليها إلغاؤها بالمرة ، فتدبر جيدا وتأمل.

وقد تقدم - بحمد اللّه - الكلام في قاعدتي الفراغ والتجاوز في يوم الأحد الموافق 1 - 2 - 1383. والكلام بعده في :

ص: 230

القرعة

اشارة

ص: 231

ص: 232

القرعة

وقد وردت فيها روايات مختلفة المؤدى - كما قيل - فمورد : « القرعة لكل أمر مجهول » (1) ، و : « القرعة لكل أمر مشتبه » (2) ، و : « القرعة لكل أمر مشكل » (3).

وقد أفاد المحقق العراقي : بان دليل القرعة ..

ان كان هو الأخير ، لم يكن هناك علاقة للقرعة بأي أصل من الأصول ، لظهور المشكل فيما لا تعين له في الواقع ، كما لو أعتق أحد عبيده ، وما لا تعين له في الواقع - وبعبارة أخرى الأمر المردد - لا يكون موردا لأصل من الأصول.

وأما لو كان دليلها الروايتين الأوليين ، فتكون موردا للتعارض مع الأصول ، ولكنه في خصوص موارد الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي دون الشبهة الحكمية مطلقا والشبهة الموضوعية البدوية ، لظهور المشتبه والمجهول في كونه وصفا لذات الشّيء المعنون من جهة تردده بين الشيئين أو الأشياء ، لا وصفا لحكمه ولا

ص: 233


1- وسائل الشيعة 18 / 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : 11.
2- وسائل الشيعة 18 / 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : 11.
3- عوالي اللئالي 2 / 112 - الطبعة الأولى.

عنوانه ، فلا يشمل موارد الشبهات الحكمية لأن الاشتباه فيها في حكم الشيء لا في ذاته ، ولا الشبهات الموضوعية لأن الاشتباه في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم على الموجود الخارجي لا فيما قد انطبق عليه العنوان بعد الفراغ عن تحقق الانطباق خارجا ، بل يختص في المشتبه موضوعا المردد.

ثم أنه في هذا الحال ..

تارة : يكون المشتبه متعلقا لحكم اللّه ، فلا تجري القرعة لوجود المانع ، وهو العلم الإجمالي المنجز غير المنحل بالقرعة. ثم استقرب انحلاله بها ، لكونها من باب جعل البدل ، فالعمدة في المنع هو الإجماع على عدم جريانها في المورد.

وأخرى : يكون متعلقا لحق الناس ، فلا بد فيه من الاحتياط التام أو الناقص - ان لم يمكن التام - للعلم الإجمالي ، ومع عدم إمكان كلا النحوين من الاحتياط كالولد المردد كان المورد من موارد القرعة ، وان احتمل العمل بقاعدة العدل والإنصاف في بعض هذه الموارد. ثم يتعرض بعد ذلك إلى نسبتها مع الاستصحاب (1).

هذا فهرست ما أفاده قدس سره ، ولكنه لا يخلو من نظر في أغلب مقطوعاته ..

فما ذكره من تفسير المشكل ، وتفسير المشتبه بنحو يختص بالشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي ، ومن عدم انحلال العلم الإجمالي بها. كل ذلك موضوع المناقشة ، وليس المورد محل الكلام فيها ، لأنه لا أثر يترتب عليه.

وانما الّذي لا بد ان يقال : هو أن القرعة بمقتضى رواياتها عامة لجميع موارد الاشتباه البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي الحكمية والموضوعية.

ولكن الاستصحاب التزموا بها في موارد خاصة ولم يلتزم بها أحد في جميع الموارد.

فلا بد من رفع اليد عن ظاهر الأدلة ، لأن إبقاءها يستلزم تخصيص الأكثر

ص: 234


1- البروجردي. الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 104 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المستهجن.

وبهذا يظهر انه لا يتجه البحث عن نسبتها مع الاستصحاب ، لأنه إذا قام الدليل من إجماع أو رواية على العمل بها في خصوص مورد ، فلا يتوهم حينئذ تقدم الاستصحاب أو غيره من الأصول أو الأمارات عليها ، بل يكون الدليل مخصصا لعموم أدلة الأصول والأمارات.

ومع عدم قيامه على العمل بها في خصوص مورد لم يكن مجال لأن يعمل بها فيه كي تلاحظ نسبتها مع الأصول الجارية في ذلك المورد. فتدبر والتفت واللّه الموفق (1).

وقد تم البحث فيها في يوم الثلاثاء 3 / 2 / 1383.

ص: 235


1- الكلام في القرعة من ناحيتين : الناحية الأولى : في تحقيق مواردها ، والضابط العام لمجراها ، وهي ناحية فقهية ليس المقام محل ذلك الناحية الثانية : في نسبتها مع الاستصحاب وسائر الأصول ، وهي محل الكلام فيما نحن فيه .. وقد يتوهم معارضتها للأصول باعتبار ورود قوله عليه السلام : « كل مجهول ففيه القرعة » الظاهر في جريان القرعة هي جميع موارد الجهل. ولكن التحقيق انه توهم فاسد ، لأن أدلة الأصول أخص منها ، لأن كل أصل يشبه دليله في مورد خاص من موارد الجهل. حتى الاحتياط ، فانه وان كان عقليا ، لكن ورد في موارده تقرير الشارع له وعدم إيجاب القرعة. فالالتزام بالقرعة يوجب طرح جميع الأصول وهو مما لا معنى له ، فلا بد من حمل القول المزبور على تقدير صحة سند الرواية ، اما على إرادة المجهول المطلق ، من حيث الواقع والظاهر المساوق للمشكل ، فتكون موارد الأصول خارجة موضوعا ، أو على بيان أصل تشريع القرعة في المجهول وعدم تشريعها في غير موارد الجهل ، ردا على احتمال جريانها مطلقا. الّذي يمكن ان يكون جاء في ذهن السائل والسؤال مجمل من هذه الناحية ، فيكون الجواب مما لا إطلاق له ، فلاحظ. والحمد لله رب العالمين. انتهى مبحث القرعة في هذه الدورة الثلاثاء 25 / 11 / 1394 ه.

ص: 236

تعارض الاستصحاب مع الأصول

اشارة

ص: 237

ص: 238

تعارض الاستصحاب مع الأصول

أما أصالة البراءة ..

فما كان منها مدركه العقل لا يعارض الاستصحاب لأنه بيان للحكم الظاهري ، فينتفي موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومثله ما كان مدركه النقل المساوق لحكم العقل ، كالمستفاد من الآية الشريفة : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) بناء على دلالتها على البراءة.

وإذا كان مدركه مثل قوله علیه السلام : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي (2) ، فقد ذكر في الرسائل وجوها ثلاثة لعدم المعارضة :

ص: 239


1- سورة الإسراء : الآية 15.
2- وسائل الشيعة : 18 / باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 60.

الوجه الأول : ان مورد الاستصحاب خارج تخصصا عن عموم هذه الرواية ، لأنه يصدق على المستصحب انه شيء ورد فيه نهي ولو بلحاظ الزمان السابق.

الوجه الثاني : ان مورد الاستصحاب خارج بالورود ، وذلك لأن النهي الثابت بعدم نقض اليقين محقق للغاية ، فترتفع به الرخصة المغياة.

الوجه الثالث : - وهو الّذي اختاره الشيخ قدس سره - هو تقريب الحكومة.

وبيانه : ان مفاد الاستصحاب هو تعميم النهي السابق إلى الزمان اللاحق تنزيلا ، فيكون رافعا لموضوع الإباحة تعبدا ، فيتقدم على البراءة الثابتة بالرواية بالحكومة ، فانه كما لو ثبت بنفس الدليل الأولى للحرمة استمرارها وعمومها لجميع الأزمان حقيقة يتقدم ذلك الدليل على البراءة ، فكذلك ما يتكفل لإثبات الاستمرار تنزيلا وان كان الأول يتقدم بالتخصص أو الورود.

والثاني : بالحكومة والاستصحاب من قبيل الثاني فانه بمنزلة المعمم للنهي إلى الزمان اللاحق ، فيكون حاكما على البراءة ، فان الرخصة مغياة بورود النهي المحكوم عليه بالدوام ، والاستصحاب يثبت الدوام ولو بنحو التنزيل.

وقد أورد الشيخ قدس سره (1) على الوجه الأول : بان الفرد المشكوك حرمته لا حقا غير المعلوم حرمته سابقا ، فهما فردان متغايران ، فورود النهي عن أحدهما لا يوجب صدق وروده عن الآخر ، كالأفراد العرضية لكلي ، فكما ان النهي عن فرد لا يكون نهيا عن الآخر ، فكذلك ما نحن فيه. والتفريق في الافراد بين ما كان تغايرها بتبدل الأحوال والأزمان - وهي الافراد الطولية - وغيرها من الافراد شطط من الكلام.

وفيه ما لا يخفى : فان المفروض ان المورد في نفسه من موارد الاستصحاب ،

ص: 240


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /423- الطبعة القديمة.

ومبنى الاستصحاب على اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحيث يصدق النقض أو الإبقاء.

ومع الالتزام بان المشكوك فرد غير الفرد المتيقن لا يتحقق حينئذ ما هو الأساس في الاستصحاب من الاتحاد ، وهذا خلاف الفرض والواقع ، فان تبدل الحالات لا يوجب التعدد.

فالأولى في الإيراد أن يقال : بان مفاد الرواية كون الغاية هي الوصول وفعلية الحكم لا مجرد وروده ولو آناً ما ، وهي غير متحققة حال الشك ، لأن الحكم فيه غير وأصل وليس فعليا لفرض الشك. وكونه فعليا في السابق لا يجدي في تحقق الغاية لأنها : « ما وصل حكمه فعلا » لا : « ما كان حكمه واصلا » كما هو مقتضى التعبير بالمضارع.

وأورد قدس سره أيضا على الوجه الثاني : بان ظاهر الرواية كون الغاية ورود النهي عن الشيء بعنوانه الأولي لا بما انه مشكوك الحكم ، والنهي الثابت بالاستصحاب بعنوان كونه مشكوكا ، وإلا فيمكن عكس القضية بان يقال : ان النهي عن النقض انما يثبت في صورة عدم ثبوت الإباحة بالأصل ، فيختص الاستصحاب في غير مورد جريان البراءة.

وتقريب ما ذكره بنحو لا يتجه عليه ما قد يوجه من ان ذلك مجرد دعوى : بان أساس كون الرواية من أدلة البراءة إرادة الوصول والعلم بالحكم من الورود لا ثبوته الواقعي - وإلا خرجت عن أدلة البراءة - فمفادها يكون كل شيء مجهول الحكم مطلق حتى يعلم حكمه الواقعي ، ففرض الجهل والعلم بالحكم يقتضي أخذ الحكم المعلوم أو المجهول في مرحلة سابقة على الشك والجهل الفعلي ، سواء كان ثبوته السابق للشيء بعنوان الأولي أو بعنوان الشك كالحكم الثابت بالأصل سابقا ثم يشك في استمراره.

وعليه ، فالغاية هي العلم بالحكم الثابت في المرحلة السابقة عن الشك

ص: 241

الفعلي ، فلا يكون النهي الثابت بالاستصحاب محققا للغاية ، لأن ثبوته كان بلحاظ الشك الفعلي لا في المرحلة السابقة عليه. فالتفت.

وأما ما ذكره الشيخ قدس سره ، فهو انما يتم بناء على ان مفاد أدلة الاستصحاب تنزيل الشك منزلة اليقين والحكم بان الشاك متيقن ، فان الغاية وهي العلم بالحكم تتحقق به تنزيلا فيكون حاكما. أما بناء على ان مفادها تنزيل المشكوك منزلة المتيقن - كما هو مذهب الشيخ - ، فلا تتم دعوى الحكومة ، لأن الغاية هي العلم بالواقع والحكم لا ثبوت الواقع ، فثبوت الحكم تعبدا بالاستصحاب لا يحقق الغاية.

ولا بد (1) ، في تحقيق الحال في نسبة الاستصحاب مع البراءة من بيان المجعول

ص: 242


1- العمدة في الإشكال ما كان من أدلة البراءة مفاده جعل الحلية الظاهرية كقوله علیه السلام : « كل شيء حلال ... ». وأما ما كان مفاده رفع المؤاخذة ، فقد عرفت انه كالبراءة العقلية. ودعوى ارتفاع موضوع الحلية الظاهرية تعبدا بقيام الاستصحاب لتكفل دليله جعل اليقين وفرض الشاك متيقنا ، فيكون الاستصحاب حاكما. يدفعها - بعد تسليم ذلك - أولا : ان موضوع الحلية ليس امرا عدميا وهو مجرد عدم العلم والجهل كي يرتفع بالإثبات ، بل هو أمر وجودي وهو الاحتمال وذلك لعدم جريان دليل البراءة في حق الغافل مع انه غير عالم ، بل تجري في حق الملتفت المتردد ، فيكشف ذلك عن أخذ جهة وجودية في الموضوع وليس هو مجرد عدم العلم ، وليست تلك الخصوصية سوى الاحتمال والتردد ، ومن الواضح ان التعبد بالعلم لا يلازم التعبد بعدم الاحتمال ، فان التعبد بأحد الضدين لا يلازم التعبد بعدم الآخر. وعليه ، فلا يرتفع موضوع البراءة بقيام الاستصحاب. وثانيا : - وهو العمدة - ان ظاهر دليل الاستصحاب المتكفل للنهي عن النقض بمثل « لا ينبغي » الظاهر في كون متعلقه أمرا اختياريا - لعدم صحة حمل « لا ينبغي » على الإرشاد - كون المجعول هو اليقين بمعنى لزوم ترتيب آثار بقائه عملا ، فلا نظر في الدليل إلى جعل صفة اليقين والتعبد بها ، بل نظره إلى لزوم ترتيب آثار اليقين بقاء ، وأين هذا من جعل اليقين؟! فلا يتصرف دليل الاستصحاب في موضوع البراءة بل هو يتنافى معها رأسا ، لأن مقتضاها الحلية ومقتضاه الإلزام فيتصادمان من دون مرجح على الآخر. ولكن الّذي يهون الخطب ، انا لم نلتزم بجعل الحلية في الشبهات الحكمية لاختصاص الدليل بالشبهات الموضوعية. ولا نعهد - فعلا - موردا يصطدم فيه الاستصحاب الحكمي مع البراءة فيها ، وأما الاستصحاب الموضوعي فهو مقدم على البراءة ، لما سيجيء من تقديم الأصل السببي على المسببي. فلاحظ وسيأتي التوقف في ذلك بالنسبة إلى البراءة وبيان الحكومة بوجه آخر. وأما ما ذكره في الكفاية من تقديم الاستصحاب على البراءة بما ذكر وجهه في حاشيته على الرسائل - كما حكي عنه - فجوابه ظاهر كما أفاده المحقق الأصفهاني فراجع تعرف.

بأدلة الاستصحاب ، فنقول - وبه سبحانه الاعتصام - : الأقوال في المجعول ثلاثة :

الأول : - وهو ما اختاره الشيخ (1) ، والخراسانيّ (2) - ان المجعول بها هو المتيقن ، بمعنى ان التعبد انما كان بالمتيقن حال الشك فاليقين والشك لوحظا مرآتا لمتعلقهما موضوعا أو حكما ولم يلحظا بأنفسهما.

الثاني : ان المجعول هو الطريقية ، بمعنى أن التعبد بنفس اليقين من جهة طريقيته وكاشفيته عن الواقع.

الثالث : - وهو الّذي التزم به المحقق النائيني (3) - ان المجعول هو نفس اليقين ، ولكن لا من باب الطريقية بل بلحاظ الجري العملي.

والوجه الأخير لا نعرف له وجها في مقام الثبوت ، لأن المجعول ان كان هو نفس الجري العملي ، بمعنى ان التعبد انما هو بتحقق الجري العملي نحو المكلف به ، فهو أجنبي عما نحن بصدده من إثبات الحكم أو نفيه بالاستصحاب لأنه مرتبط بمقام الامتثال ، ومفاده الحكم بموافقة الأمر وتحقق الامتثال ، والمفروض انه بالاستصحاب يثبت التكليف - مثلا - ، فيجب امتثاله ، لا أن مفاده انه لا يجب عليه لموافقته وعمله

ص: 243


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 318 الطبعة القديمة.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /384- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 343 - الطبعة الأولى.

بالأمر (1).

وان كان التعبد باليقين - لا بنفس الجري العملي - ولكن بلحاظ الجري العلمي - كما هو الظاهر من كلامه - فلا يخفى ان المحركية والجري العملي على طبق اليقين فرع انكشاف الواقع باليقين وتنجزه عليه ، فليس هو متفرعا على اليقين رأسا ، بل عليه بضميمة جهة الطريقية فيه ، فلا معنى لاعتباره بهذا اللحاظ بلا لحاظ جهة الطريقية ، فيرجع حينئذ إلى القول الثاني الّذي فرّ منه.

وعلى هذا فالأمر ثبوتا يدور بين القولين الأولين ، وهما : جعل المتيقن. وجعل اليقين من باب الطريقية.

وأما إثباتا ، فروايات الاستصحاب على نحوين :

فمنها : ما هو بلسان الاخبار عن عدم انتقاض اليقين بالشك ، وهذا النحو ظاهره التعبد بنفس اليقين ، وذلك لأنه يرجع إلى الاخبار عن اعتبار عدم نقض اليقين بالشك ، واعتبار صفة اليقين في مرحلة الشك ، إذ لا معنى للاخبار عن عدم الانتقاض حقيقة كما لا يخفى.

ومنها : ما هو بلسان الإنشاء كقوله : « ولا ينقض اليقين بالشك ». ولا يخفى ان النهي عن نقض اليقين بالشك لا معنى له على حقيقته ، لانتقاضه حقيقة فالنهي عنه محال لأنه تكليف بغير الممكن ، فلا بد من رجوعه إلى أمر ممكن وهو النهي عن النقض عملا وإيجاب الإبقاء عملا.

والعمل على طبق اليقين لازم لأمرين : أحدهما : اليقين باعتبار كاشفيته ومحركيته. والآخر : المتيقن ، فان الامتثال بنظر العامل من آثار نفس المتيقن والواقع المنكشف باليقين دون نفس اليقين ، ولكنه في الحقيقة من آثار اليقين فهو عمل على

ص: 244


1- لاحظ ما ذكرناه حول كلام المحقق المذكور في بيان عدم إمكان تكفل الأدلة لجعل الاستصحاب وقاعدة اليقين ، فعله ينفعك.

طبق اليقين. فالنهي عن النقض عملا كما يمكن ان يكون للتعبد بنفس اليقين كذلك يمكن ان يكون للتعبد بنفس المتيقن. والكلام وان كان ظاهرا في الأول ، لكنه يظهر في الثاني بعد ملاحظة بعض النصوص مما يكون التعبد فيها بلحاظ ما يترتب على الوجود الواقعي للمتيقن لا العلمي ، كرواية زرارة الأولى التي يكون التعبد فيها بلحاظ ما يترتب على الطهارة من الآثار ، كالدخول في الصلاة وأمثاله. فان الطهارة شرط واقعي للصلاة لا علمي ، فلا بد من رجوع التعبد فيها إلى نفس المتيقن - وهو الطهارة - لا إلى اليقين بها ، إذ اليقين بها ليس الملاك في ترتيب الأثر المرغوب عليه.

ويشهد لما ذكرنا أيضا : ان سؤال السائل في أغلب الروايات انما هو عما يترتب على شكه ، وانه بشكه هل يبني على انقلاب الواقع عما كان عليه أو على عدم ترتيب آثاره أو يبني على بقائه وعدم تبدله فتترتب عليه آثاره؟. فالتفت.

وعليه ، فإذا تعيّن ان المجعول انما هو المتيقن لا صفة اليقين ، فيشكل الأمر في تقدم الاستصحاب على البراءة المأخوذ في موضوعها الجهل بالحكم وفي غايتها العلم بالحكم - بل يشكل الأمر أيضا في تقدم الأمارات عليها بناء على ما هو التحقيق من كون مفاد أدلتها تنزيل المؤدى منزلة الواقع - لأن التعبد بنفس الحكم لا بالعلم به كي يكون حاكما عليها لتكفله تحقيق الغاية ورفع الموضوع تنزيلا وتعبدا. وقد تقدم إيضاح ذلك في نفي حكومة الأمارات على الأصول إذا كان مؤداها تنزيل المؤدى منزلة الواقع - والعلم الوجداني بهذا الحكم المتعبد به لا يكفى في الورود ، لما عرفت من أخذ متعلق العلم الحكم السابق في ثبوته على مرحلة الشك الفعلي ، والحكم المتعبد باستمراره ودوامه انما هو بلحاظ حال الشك - كما لا يخفى - فلا يكون العلم به محققا للغاية -

وتوهم : ان ملاك الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر بمدلوله اللفظي ، وهو متحقق هاهنا ، لأن التعبد وان كان واقعا بالحكم لكنه بلسان التعبد باليقين فيكون حاكما على الأدلة المأخوذ في موضوعها اليقين ، نظير : « لا شك لكثير الشك »

ص: 245

و : « الطواف بالبيت صلاة » ، فان التعبد فيها واقعا بالحكم والآثار مع أنها حاكمة على الأدلة الأخرى باعتبار أخذ نفس الشك والصلاة في الدليل.

فاسد : لأن تحقق نظر أحد الدليلين إلى الآخر فيما إذا كان التعبد فيه بنفس آثار الموضوع أو بنفيها بلسان إثبات الموضوع أو نفيه كما في : « لا شك » ، فان المتعبد به نفي الآثار المترتبة على الشك بلسان نفي الشك ، ولذلك كان ناظرا لأدلة اعتبار الشك ، ومثله على العكس : « الطواف بالبيت صلاة » (1).

أما ما نحن فيه ، فليس كذلك ، لأن التعبد لم يكن بآثار اليقين بلسان التعبد باليقين حتى يكون ناظرا إلى الأدلة الأخرى وحاكما عليها. بل التعبد بالمتيقن بلسان التعبد باليقين ، والمتيقن ليس من آثار اليقين كما لا يخفى. فلا يكون الدليل المتكفل واقعا للتعبد به ناظرا إلى أدلة اليقين ، ولو كان التعبد بلسان اليقين فلا يكون حاكما ، لأن التنزيل الموجب للحكومة هو التوسعة أو التضييق في الموضوع بلحاظ ترتيب آثاره أو نفيها. دون غيره ، فالتفت.

وتحقيق الحال بوجه يرتفع به الإشكال : ان روايات البراءة على أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : ما كان بنحو : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون ». والتحقيق : ان المراد بالعلم فيها ليس هو الصفة الوجدانية النفسانيّة ، بل مطلق الحجة والدليل على الحكم ، وذلك لأنه مما لا إشكال فيه ان مفادها ليس هو نفي الواقع بعدم العلم وبيان ان ثبوت الحكم الواقعي دائر مدار العلم ، كما انه لا إشكال في عدم كون الشارع في مقام إهمال الواقع وعدم نصب طرق وأمارات عليه. فالمفهوم من هذا النص ان الشارع في مقام عدم العلم والطريق إلى الواقع لم يجعل الاحتياط - إذ كان بإمكانه جعله فلم يجعله - لأنه إذا لم يكن في مقام نفي الواقع ورفعه واقعا ، كما انه ليس في مقام إهمال الواقع وإيكال العلم به إلى الصدفة والاتفاق ، فلا بد ان يكون المراد هو

ص: 246


1- إشارة إلى ان التعبد فيها بنفس الآثار لا بنفيها بلسان إثبات الموضوع.

عدم جعل الاحتياط ورفع الحكم ظاهرا عند عدم الطريق إلى الواقع ، وإلا - فلو كان المراد رفع الحكم وعدم جعل الاحتياط والطرق - لكان إهمالا للواقع ، وهو خلف.

وبتقريب آخر : انه لا إشكال في وجود طرق غير علمية إلى الواقع. ولا إشكال انه عند ورود هذا النص لم يفهم منه أحد إلغاء اعتبار هذه الطرق ، بل المفهوم انما هو رفع التكليف وعدم جعل الكلفة بالاحتياط منة على الأمة ولطفا.

وبما ان نفي الاحتياط امتنانا انما يتحقق في مقام يكون في جعله كلفة ، وهذا انما يكون مع عدم وجود ما يثبت التكليف ، أما مع وجود الدليل المثبت له فنفي الاحتياط لا يكون منة ولطفا ، إذ ليس فيه رفع كلفة.

فبهاتين المقدمتين - وهما : كون الرواية في مقام نفي الاحتياط فقط لا نفى طرق الواقع أجمع من أمارة واستصحاب واحتياط ، لأنه ليس في مقام إهمال الواقع ، كما انه ليس في مقام نفيه ، وكون نفي الاحتياط من باب الامتنان وهو انما يتحقق في صورة عدم الطريق المثبت للحكم. بهاتين المقدمتين - يثبت كون موضوع البراءة عدم الطريق والحجة على الحكم لا عدم العلم الوجداني.

وان أبيت إلا عن استظهار الصفة الوجدانية من العلم ، فنقول : ان البراءة انما تجري في حال عدم العلم في صورة عدم وجود الطريق إلى الحكم ، فيرجع ذلك إلى تقييد الموضوع. وبهذا يكون الاستصحاب واردا على البراءة لأنه رافع لموضوعها حقيقة ببركة التعبد.

ولو لم يثبت - جدلا - ما ذكرناه ، فلا مفرّ عن الالتزام بالمعارضة بين الاستصحاب والبراءة.

ولكن نحو المعارضة يختلف باختلاف الآراء في مفاد الرواية ، فانه اختلف في ان المرفوع بها ما هو؟ والأقوال ثلاثة :

الأول : كون المرفوع بها الحكم الكلي ، فتختص بالشبهات الحكمية.

ص: 247

الثاني : كون المرفوع بها مطلق الحكم الكلي والجزئي ، فتعم الشبهات الحكمية والموضوعية.

الثالث : ان المرفوع بها خصوص الموضوع ، فتختص بالشبهات الموضوعية.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : ان الرفع في السابق متعلق بنفس الحكم الجزئي ، وهاهنا متعلق بموضوعه ، وان كان في الحقيقة متعلق به بلسان رفع موضوعه.

فبناء على القول الأول : لا تجري البراءة - بهذا الدليل - في الشبهات الموضوعية ، فتختص المعارضة في خصوص الشبهات الحكمية ، ولا محذور في الالتزام بالمعارضة وعدم الالتزام بالاستصحاب في هذه الشبهات - كما قد التزم به بعض بغير هذا الوجه.

وبناء على القول الثاني : تختص المعارضة أيضا في موارد الشبهات الحكمية ، لأن الاستصحاب الجاري في الموضوع يكون حاكما على البراءة الجارية في الحكم الجزئي - كما سيأتي بيانه في الشك السببي والمسببي - وبناء على القول الثالث : - تكون المعارضة بين الاستصحاب والبراءة في مطلق موارد الشك الموضوعي ، فالالتزام بالتساقط مشكل ، إذ يلزم منه نفي جريان الاستصحاب مطلقا أو في الغالب وهو مما لا يمكن الالتزام به ، فلا بد من الالتزام بتقدمه عليها بالتخصيص ، كما لا بد من الالتزام بذلك في تقدم الأمارات على البراءة - لعين الملاك فلاحظ -

ولكن عرفت ان النوبة لا تصل إلى هذا الحل ، بل الأمارات والاستصحاب واردة على البراءة على الأقوال كلها ، فتدبر.

النحو الثاني : قوله : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ». ولم تثبت صراحة هذه الرواية في ثبوت أصالة البراءة ، إذ يمكن ان يكون المراد من الورود الثبوت الواقعي للأحكام ، فيكون مفادها بيان الإباحة الأصلية للأشياء حتى يتعلق بها

ص: 248

نهي من المولى ، وبهذا يكون مفادها أجنبيا عن البراءة بالكلية.

نعم ، لو لم يكن المراد بالورود هو الثبوت الواقعي ، بل الوصول كانت دليلا على البراءة ، ولكنه لم يؤخذ في الغاية إحراز النهي والوصول العلمي بل أخذ مطلق الوصول والورود وظاهره إرادة وصول الحكم الواقعي وثبوته في ذمة المكلف بأي طريق كان ، ومنه الاستصحاب ، فيكون واردا لأنه محقق للغاية تكوينا ، كما لا يخفى.

النحو الثالث : مثل : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه .. ». ودلالة هذه الرواية على البراءة مناقشة في ان ثبوت الحلية في المصاديق المذكورة في الموثقة انما هو بواسطة الأصول والأمارات الموضوعية السابقة بالرتبة على الاستصحاب والبراءة ، كأصالة الصحة وقاعدة اليد ، فيكون الحكم بالحلية حكما بمفاد تلك القواعد الظاهرية وفي مقام الأمر بعدم الاعتناء بالاحتمال الناشئ عن الوسواس ونحوه مع وجود القواعد ، لا حكما بمفاد أصالة البراءة كي يستكشف جعل البراءة في مثل هذه الموارد.

وأما أصالة الاشتغال ..

فالاستصحاب مقدم عليها ، لأن موردها الشك في براءة الذّمّة بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل ، ومع قيام الاستصحاب على التعيين يزول احتمال الضرر لقيام الحجة الشرعية على تعيين أحد الافراد.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى أصالة التخيير. فان حكم العقل بالتخيير في فرض التحير ، وبالاستصحاب يرتفع التحير.

وبالجملة : الاستصحاب وارد على الأصول العقلية من براءة واحتياط وتخيير ، لأنه رافع لموضوعها تكوينا ببركة التعبد الشرعي.

ص: 249

تعارض الاستصحابين

تعارض الاستصحابين (1)

ويقع الكلام بعد ذلك في تعارض الاستصحابين.

وقد ذكر الشيخ (2) رحمه اللّه صورا متعددة للاستصحابين المتعارضين من كونهما موضوعيين أو حكميين أو مختلفين. ومن كونهما وجوديين أو عدميين أو مختلفين. وغير ذلك. إلا أن هذا الاختلاف لا أثر له في اختلاف حكم المتعارضين.

وانما الكلام يقع في صورتين هما الجامع بين هذه الصور المختلفة في محل الكلام ، وهما :

الأولى : ان يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، كالشك في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء كان متيقن الطهارة ، فان الشك في بقاء نجاسة الثوب مسبب عن الشك في بقاء طهارة الماء.

الثانية : ان يكون الشك فيهما مسببا عن أمر غيرهما.

وأما تصور كون الشك في كل منهما مسببا عن الآخر - كما ينسب إلى المحقق النراقي - فهو باطل لما ستعرفه من ان السببية والمسببية تنشئان من كون أحد المشكوكين من أحكام الآخر ، وهذا يعني كون أحدهما موضوعا للآخر ، فيمتنع ان يكون كل من المشكوكين موضوعا للآخر - كما لا يخفى - وعليه ، فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في الشك السببي والشك المسببي.

وتحقيق الكلام فيه : انه مما لا إشكال فيه عند الاعلام تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي ، وانما الإشكال في وجه التقديم من حكومة ، وورود وغيرهما ،

ص: 250


1- لم أتوفق لحضور درس سيدنا الأستاذ ( حفظه اللّه ) في هذه المباحث لبعض الموانع ونظرا إلى طلبي منه تقريرها لي ، أجابني إلى ذلك. ولعل هذا التقرير يخالف تقريرات الآخرين نظرا لتبدل الرّأي. فلينتبه.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /424- الطبعة القديمة.

فالكلام في جهتين :

الجهة الأولى : في وجه التقديم.

وقد ذكر لذلك وجوه متعددة :

الأول : ما ذكره الشيخ من الإجماع على ذلك كما يظهر للمتتبع ، فان الفقهاء لا يتوقفون في تقدم الأصل السببي على المسببي.

ولكن الاعتماد على الإجماع في مثل ما نحن فيه مشكل ، إذ لا يحرز كونه إجماعا تعبديا بعد وجود الوجوه العقلية وغيرها المستدل بها على التقديم ، فلا يكشف عن قول المعصوم علیه السلام .

الثاني : (1) ما أفاده الشيخ أيضا - وهو المهم من الوجوه التي ذكرها - من ان

ص: 251


1- ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في الوجه الثاني مرجعه [ حمل السيد الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الشيخ على ما حمل عليه في الدرس في الدورة السابقة ، لا على ما هو مذكور في المتن. فالتفت ( المقرر ) ] إلى الورود ويمكن ان يقرب بوجهين : الأول : ان يكون المراد بالشك عدم الحجة فيكون نقض اليقين في مورد الأصل المسببي بالحجة وفيه : أولا : انه ينافي ما التزم به قريبا من حكومة الأمارة على الاستصحاب لا ورودها كما هو مقتضى هذا التوجيه. وثانيا : ان المراد بالحجة الرافعة هي الحجة على الواقع المتيقن في السابق كالخبر فان مفاده الكشف عن الواقع والمفروض انه حجة في مؤداه. وليس الاستصحاب كذلك ، لأنه حكم ظاهري مجعول في ظرف الجهل لا بعنوان انكشاف الواقع ، وان تكفل التنجيز والتعذير كسائر الأحكام الظاهرية كأصالة الطهارة. الثاني : ان يكون المراد بالشك عدم العلم ولو بعنوان آخر ، ومع العلم بالحكم بعنوان ظاهري يرتفع الموضوع قهرا. وفيه : ما تقدم في مناقشة صاحب الكفاية عند البحث في تقدم الأمارة على الاستصحاب فراجع. وقد يوجه كلام الشيخ رحمه اللّه بان الأصل السببي يحقق موضوع دليل الحكم الثابت لمجراه فيكون هو الحكم ، وهو المقدم على الأصل المسببي لا الأصل. وهذا مما لا تأباه عبارته ، ولعله مأخذ ما ذكره صاحب الكفاية من إجزاء الأمر الظاهري الجاري في تحقيق متعلق التكليف كأصالة الحل والطهارة واستصحابهما. وقد أورد على هذا الالتزام بإيرادات متعددة عمدتها ان مقتضاه الحكم بطهارة المغسول بالماء المستصحب الطهارة ولو انكشف بعد ذلك انه نجس وهو مما لا يلتزم به أصلا. وفي مراجعة مبحث الاجزاء فائدة. ثم ان هذا الوجه يختص بما إذا كان مجرى الأصل السببي حكما شرعيا قابلا للجعل بنفسه كالطهارة والحلية ونحوهما. ولا يتأتى فيما إذا كان مجراه موضوعا تكوينيا كالعدالة والحياة ، لعدم ثبوته به حقيقة حتى يمكن تطبيق الدليل. فانتبه. وبالجملة : فما أفاده الشيخ رحمه اللّه في الوجه الثاني غير تام. وأما ما ذكر في الوجه الثالث : فقد تصدى قدس سره لمناقشته بما لا يخلو عن إشكال. والتحقيق في مناقشته : ان قلة المورد لا تعد محذورا إذا لم يساعد الدليل على العموم ، فأي ضرر في أن يكون الاستصحاب قاعدة في موارد خاصة. وإن كان مراد المستدل ان ذلك يتنافى مع مورد الرواية ، حيث ان موردها إجراء الاستصحاب في الموضوع وهو الطهارة. ففيه : انه يمكن ان لا يكون المنظور في النص إجراء الاستصحاب في نفس الطهارة والوضوء ، بل في عدم وجوب الوضوء كما هو مورد السؤال ، فالمستصحب هو المسبب رأسا لا السبب. ومما يؤيد عدم تقدم الأصل السببي على المسببي انه لم يتصد في النص إلى إجراء الاستصحاب في السبب وهو عدم الرافع ، وهو النوم. وأما ما ذكره في الوجه الرابع ، ففيه : ان الاشتغال لا يكون مجرى للاستصحاب كما تقدم بيانه في مبحث الأقل والأكثر ، والأصل المسببي في مورد الرواية هو الأصل الجاري في نفي وجوب الوضوء وهو يوافق الأصل السببي ، وقد تقدم إمكان كون المنظور في الرواية هو جريان الأصل في المسبب رأسا. وأما ما أفاده أخيرا تحت عنوان .. ، ففيه : ان الكلام ليس في ترتيب آثار الأصل السببي بل الكلام في عدم معارضته بالأصل المسببي وليس فيما ذكره إشارة إلى ان ارتكاز العرف عليه ، مع ان المبحث عقلي لا عرفي. والمتحصل : ان شيئا من هذه الوجوه الأربعة لا يفي بالمطلوب. ولا يخفى عليك ان مقتضى الوجه الثاني هو الورود ، أما الثالث والرابع فمقتضاه من هذه الجهة مجمل ، وانما هما يتكفلان التقديم لا أكثر. وأما دعوى تقديم الأصل السببي على المسببي بالحكومة - كما عليه المحقق النائيني على ما نقل كلامه في المتن - فيدفعها ما عرفت في تقديم الاستصحاب على البراءة من ان المفهوم من أدلة الاستصحاب بملاحظة النهي عن النقض بمثل « لا ينبغي » إرادة النقض والإبقاء العملي ، وهذا لا يرجع إلى جعل اليقين واعتباره ، بل إلى الأمر بترتيب آثار بقاء اليقين. هذا مع غض النّظر عما أشرنا إليه في المتن من ان التعبد باليقين بشيء لا يستلزم التعبد باليقين بآثاره. والنافع في دعوى الحكومة إثبات التعبد باليقين بالأثر لا التعبد باليقين بالموضوع. فلاحظ. والّذي يمكن ان يقال في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي : هو ان الأصل السببي ناظر إلى مفاد الأصل المسببي وملغ له ، فيكون حاكما. وذلك لأن التعبد بطهارة الماء - مثلا - مرجعه إلى ترتيب آثار طهارته ومن جملتها حدوث الطهارة للمغسول به بعد نجاسته وصيرورته طاهرا. ومن الواضح ان مرجع التعبد بالحدوث هنا إلى إلغاء الحالة السابقة وعدم الاعتناء بها ، وهذا ينافي جريان الاستصحاب في المغسول به ، لأن إبقاء الحالة السابقة يتنافى مع إلغائها وعدم الاعتناء بها. فيكون الأصل السببي ناظرا لمفاد الأصل المسببي فيتقدم عليه بالحكومة. وبالجملة : إطلاق دليل الاستصحاب الشامل لمورد الشك السببي يمنع من شمول الإطلاق للشك المسببي. وهذا هو معنى الحكومة في ما نحن فيه ، فلا يرد الإشكال فان الحكومة تكون بين دليلين لا في دليل واحد. إلا ان هذا انما ينفع في إثبات حكومة الاستصحاب السببي على خصوص الاستصحاب الجاري في الشك المسببي ، لأنه متفرع على ملاحظة الحالة السابقة ، فيكون محكوما لما يقتضي إلغاءها. وأما مثل أصالة الإباحة أو الطهارة الجارية في الشك المسببي فلا ينفع البيان المزبور لإثبات محكوميتها للاستصحاب السببي لعدم النّظر فيها إلى الحالة السابقة ، بل هي تتكفل مجرد الثبوت. فتصطدم مباشرة مع أثر الأصل السببي. وتحقيق الكلام في هذا المجال : ان المولى إذا ألزم المكلف المتحير والمتردد بين احتمالين بأحد الطرفين بأي لسان كان الإلزام. من جعل المؤدى أو جعل اليقين وصفا أو عملا أو المنجزية ، كان مرجع الإلزام - عرفا - إلى إلغاء الاعتناء بالطرف الآخر من الترديد ولعل هذا ما يقصده الشيخ بإلغاء احتمال الخلاف - لا بمعنى جعل العلم واعتباره - لأنه يلتزم بجعل المؤدى ونتيجة ذلك هو نفي ما يقتضي اعتباره لأن لسانه لسان نفي ترتيب الأثر لا مجرد عدم الاعتناء به. وعليه فيكون الاستصحاب حاكما على البراءة في مورده ، لتكفل دليل الاستصحاب تعيين أحد طرفي الترديد لأن لسانه لسان عدم النقض والإبقاء وهو ناظر إلى إلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به فينفي أصالة الإباحة الراجعة إلى الاعتناء بالاحتمال. وهكذا الكلام في أصالة الطهارة. ولا تصح دعوى العكس ، لأن كلا من أصالة البراءة وأصالة الطهارة لا يتكفل تعيين أحد المحتملين ، بل تتكفل بيان وظيفة المكلف مع فرض تردده وشكه وغض النّظر عن الواقع. وليس كذلك الأمارة والاستصحاب. والمتحصل : ان حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي بالبيان السابق. وأما حكومة الاستصحاب السببي على البراءة وأصالة الطهارة في الشك المسببي بل مطلقا فهي بالبيان الأخير. فتدبر واعرف. ومن هذا البيان ظهر تقريب حكومة الأمارة على الاستصحاب لو لم تتم دعوى الورود بالبيان السابق ، فان الأمارة بمقتضى دليل اعتبارها تتكفل إلغاء احتمال الخلاف فتنصرف في موضوع الاستصحاب وتنفيه ، والاستصحاب وان كان كذلك لكن لم يؤخذ الجهل موضوعا في الأمارات بل موردا. ومعه لا وجه لإنكار صاحب الكفاية - في مباحث التعادل والترجيح - دعوى الحكومة بعدم النّظر ، إذ عرفت منشأ نظر دليل اعتبار الأمارة إلى دليل الاستصحاب ولو لم يلتزم بان المجعول فيها الطريقية. وأما ما يظهر من عبارته - في ذلك المبحث - من احتمال تكفل دليل الاعتبار مطلقا ولو في الأصول لإلغاء احتمال الخلاف فهو غير واضح ، إذ لا يحتمل هذا المعنى في أدلة البراءة أصلا.

ص: 252

ص: 253

ص: 254

الأصل السببي بجريانه يمنع من شمول العموم لمورد الأصل المسببي ، وذلك لأن العام انما هو عدم نقض اليقين بالشك ، ومع جريان الأصل السببي لا يكون نقض اليقين في مورد الأصل المسببي بالشك ، بل بالدليل ، وان كان موضوع الحكم وهو الشك واليقين ثابتا. بخلاف العكس ، فانه بجريان الأصل المسببي لا يرتفع صدق النقض بالشك في مورد الأصل السببي ، فالأصل السببي بجريانه يتصرف في محمول الأصل المسببي - وهو النقض بالشك - لا في موضوعه - وهو الشك - فالتفت (1).

والإشكال عليه : بان ما ذكر من عدم قابلية مورد الشك المسببي لشمول العموم له انما يتحقق على تقدير الالتزام بالأصل السببي ، ولكنه محل الكلام وما هو الوجه في الالتزام به وطرح الأصل المسببي؟.

مندفع : بان مقتضى شمول العام - وهو حرمة النقض في مورد الشك السببي - ثابت لصدق النقض بالشك والمانع مشكوك فينفي بأصالة عدم التخصيص. بخلاف الشك المسببي ، فان مقتضى الشمول - وهو صدق النقض بالشك - معلق على عدم ثبوت العام في مورد الشك السببي ، وقد عرفت ثبوته بأصالة عدم التخصيص.

وعليه : فقد يشكل : بأنه بعد فرض ان موضوع الحكم في كلا الموردين ثابت وهو اليقين السابق والشك اللاحق - ولما كانت نسبة الحكم بعدم النقض إليهما على حد سواء إذ نسبة حكم العام إلى افراده بالسوية ، لأنها جميعها في عرض واحد ، لم يكن وجه لجعل شمول الحكم العام لفرد ببناء العقلاء على أصالة عدم التخصيص مانعا عن شموله لفرد آخر ، لأن أصالة عدم التخصيص جارية فيهما على حد سواء مع قطع النّظر عن الآخر.

وعليه ، فلا وجه لجعل أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي مانعة عن شمول العام لمورد الشك المسببي ، إذ لو لا جريانه وثبوت حكم العام لمورد الشك

ص: 255


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /425- الطبعة القديمة.

السببي بواسطتها ، كان حكم العام ثابتا في مورد الشك المسببي ، ولم يثبت بناء العقلاء على جريانها في الفرد السببي دون المسببي ويندفع بما أفاده قدس سره : من الوجه العقلي في بيان عدم صلاحية الشك المسببي لمانعيته عن شمول حكم العام للشك السببي.

ومحصله : ان فردية الشك المسببي لحكم العام بحيث يكون مشمولا له انما تتحقق بعد فرض رفع اليد عن حكم العام في مورد الشك السببي المفروض فرديته ، ورفع اليد عنه في هذا المورد لا وجه له بعد فرض فرديته إلا ثبوت حكم العام وشموله لمورد الشك المسببي ، وهذا دور ، فمانعية الأصل المسببي عن الأصل السببي انما تكون بوجه دائر ، فثبوت أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي واقتضائها لشمول حكم العام له لم يكن عن دعوى تعبد محض من العقلاء ، كي يقال بعدم ثبوت ذلك منهم ، بل كان من جهة ثبوت المقتضي فيه وعدم صلاحية الشك المسببي للمانعية عنه إلا على وجه دائر.

وبالجملة : أن الأصل في مورد الشك السببي يجري لثبوت مقتضى الجريان فيه ، وبجريانه لا يبقى مورد الشك المسببي قابلا لفرديته الفعلية لحكم العام وشمول الحكم له للتصرف في محموله ، وهو النقض بالشك ، ويمتنع كون الأصل المسببي مانعا عن جريان الأصل السببي إلا على وجه دائر. فلا وجه حينئذ لطرح الأصل السببي والأخذ بالأصل المسببي ، لثبوت مقتضية وعدم المانع بخلاف العكس كما عرفت. هذا محصل ما يمكن ان يستفاد من عبارة الرسائل فانها تبدو بألفاظها ومعانيها مرتبكة غير متلائمة.

الثالث : ما أفاده الشيخ رحمه اللّه بعنوان الجواب عن الإشكال الأخير على الوجه الثاني بقوله : « وان شئت قلت : ان حكم العام من قبيل لازم الوجود للشك السببي كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ... » (1) وقد حملها المحقق الخراسانيّ في

ص: 256


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /426- الطبعة القديمة.

حاشيته على الرسائل وتابعة المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1) على ما يبدو منها أولا من أن الشك المسببي باعتبار كونه معلولا للشك السببي وان حكم العام باعتبار كونه - بالنسبة إلى الشك السببي - من قبيل لوازم الوجود كانا متأخرين عن الشك السببي وفي مرتبة واحدة ، فيمتنع ان يكون الشك المسببي محكوما بحكم العام لأنه يستلزم كونه موضوعا له وذلك يقتضي تقدمه عليه ولو بالطبع وهو خلاف المفروض من كونهما في مرتبة واحدة.

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني إيرادات متعددة. والوجه الّذي اشترك به مع أستاذه الخراسانيّ هو ما قرره من ان عموم « لا تنقض » ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الموضوع ، فالحكم الّذي يقصد ترتبه على الشك المسببي غير الحكم الّذي وفرض كونه معه في مرتبة واحدة. كما لا يخفى.

ولكنه يبعد حمل كلام الشيخ قدس سره على هذا التقريب لوضوح فساده ، فالأولى ان يقال ان مراده قدس سره ان الشك المسببي لا يصلح لأن يكون مانعا عن حكم العام الثابت للشك السببي لأن المانع عن الشيء يكون سابقا عليه في المرتبة لأنه في مرتبة موضوعه وعلته ، وحكم العام والشك المسببي في مرتبة واحدة ، لأنهما معا من قبيل لوازم الوجود بالنسبة إلى الشك السببي ، فيمتنع ان يكون الشك المسببي مانعا عن الحكم الثابت في مورد الشك السببي لأن مانعيته عنه تقتضي تقدمه عليه ولو طبعا.

وعلى هذا الوجه لا يرد شيء مما أورده المحقق الأصفهاني. فلاحظ.

الرابع : ما ذكره المحقق النائيني (2) : من أن الأصل في الشك السببي رافع تشريعا لموضوع الأصل في الشك المسببي. وبما ان جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقة فلا نظر للحكم إلى وجود موضوعه وعدمه ، بل الدليل يتكفل ثبوته على تقدير وجود الموضوع.

ص: 257


1- المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 132 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 683 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي

وعليه ، فلا يصلح الأصل في الشك المسببي للمنع عن الأصل السببي ، لأن مانعيته عنه معناها المحافظة على موضوع نفسه ، لأنه يمنع عما يمنع عن موضوعه ، وقد عرفت أن الحكم لا يصلح لذلك وانما هو يثبت على تقدير ثبوت الموضوع اما انه يكون بنحو يثبت الموضوع فذلك أجنبي عن مفاد أدلة الأحكام ، فانها انما تتكفّل ثبوت الأحكام على تقدير ثبوت موضوعاتها ، ولا تتكفل ثبوت الموضوعات.

وهذا الوجه غير تام نقضا وحلا ..

أما الأول ، فانه ينتقض بالمتزاحمين ، فان الحكم في كل منهما يمنع عما يمنع عن موضوعه ، وهو الحكم الآخر الموجب لصرف القدرة إلى متعلقه المانع عن موضوع ذاك الحكم ، وهو القدرة ، نظير التزاحم بين وجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الغريق ، فان وجوب إنقاذ كل منهما يقتضي صرف القدرة إلى متعلقه وهذا يعنى المحافظة على موضوعه والمنع عن الحكم الآخر المانع عن موضوعه باقتضائه صرف القدرة إلى متعلقه.

وأما الثاني : فمجمله ان امتناع كون حكم الشك المسببي مانعا عن حكم الشك السببي ، إما لأجل ان دليل الحكم في القضايا الحقيقية يتكفل ثبوته على فرض ثبوت الموضوع ، فيمتنع حينئذ تكفله للمحافظة على موضوعه لأنه خلف. وإما لأجل ان الحكم بعد فرض كونه ثابتا على تقدير الموضوع كان متأخرا عن موضوعه ، فيمتنع ان يؤثر فيما هو في رتبة العلة لموضوعه ، وهو المانع ، لاستلزامه تقدم المتأخر على مرتبته وهو محال.

فان كان المحذور هو الأول ، فهو تام في نفسه ، إذ محافظة دليل الحكم على موضوع الحكم خلف فرض كونه متكفلا لثبوته على تقدير الموضوع ، ولكنه انما يمتنع ذلك بالمباشرة. اما إذا كان دليل الحكم مؤثرا في شيء يلزمه الموضوع ، فلا محذور فيه ، نظير تأثير الحكم المأخوذ في موضوعه القدرة في حكم العقل بعدم

ص: 258

صحة تعجيز المكلف نفسه المستلزم لتحصيل القدرة والمحافظة عليها بنفس الخطاب المتكفل لبيان الحكم. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان دليل الحكم انما يؤثر في رفع المانع المستلزم لثبوت الموضوع ، وليس تأثيره في ثبوت الموضوع بالمباشرة.

وان كان الثاني فحلّه - في نفسه - بوجهين : - وان كان ما يرتبط بما نحن فيه هو الثاني دون الأول ، إلاّ أنه ذكرناه استقصاء للحل بالنسبة إلى غير ما نحن فيه من الموارد -

الأول : ان يكون التأثير بقاء لا حدوثا بمعنى : ان الحكم الثابت لموضوعه فعلا يؤثر في المحافظة على موضوع استمرار الحكم ، فالحكم المتأخر عن الموضوع المحافظ عليه هو الحكم في مرحلة الاستمرار والبقاء.

أما الحكم المؤثر فهو الحكم في مرحلة الحدوث ، وهو غير متأخر رتبة عن موضوع الحكم في مرحلة استمراره وبقائه.

الثاني : ان يكون التأثير في مرحلة الاقتضاء ، وذلك لأن الحكم الثابت على تقدير ثبوت موضوعه انما هو الحكم الفعلي. اما الحكم في مرحلة الاقتضاء وقبل الوصول إلى حد الفعلية فهو ثابت ولو لم يثبت الموضوع ، فيمكن ان يكون المؤثر في رفع المانع عن الموضوع فيما نحن فيه إنما هو الحكم في مرحلة الاقتضاء الثابت قبل ثبوت الموضوع ، وهو غير متأخر رتبة عن مرحلة الموضوع وعلله ، وبالمحافظة على الموضوع يثبت الحكم الفعلي فتدبر جيدا.

الخامس : ما عن المحقق النائيني قدس سره من أن الأصل المسببي لا يصلح لمعارضة الأصل السببي ، لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه ، لأن الشك السببي علة للشك المسببي ، والحكم المترتب عليه - أي على المسبب - في رتبة متأخرة عنه ضرورة تأخر كل حكم عن موضوعه. والحكم في الشك السببي بما أنه رافع للشك المسببي يكون في رتبة سابقة عليه ، فمعارضة الحكم في الشك المسببي للحكم في الشك السببي يستلزم تقدم الشيء على نفسه - لأنه متأخر عنه

ص: 259

بمرحلتين - ، وهو محال (1).

وهذا الوجه كسابقه غير تام ، لأن اتحاد الرتبة بين الأصلين المتعارضين ليس شرطا في إمكان التعارض - كي تكون معارضة المتقدم للمتأخر مستلزمة للمحال من تقدم الشيء على نفسه - ، بل المعارضة تصح بين المتقدم والمتأخر زمانا فضلا عن فرض التقدم والتأخر الرتبي. نظير تعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي في الأمور التدريجية.

الجهة الثانية : في كيفية التقديم ، فهل هو بالورود أو الحكومة؟ أو غيرهما؟

الحق انه بالورود ، وبيانه يتضح بذكر وجه التقديم فانتظر.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى انه بالحكومة ، بتقريب انه حيث : تعتبر السببية الشرعية بين الشك السببي والمسببي ، بان يكون أحد المشكوكين من آثار المشكوك الآخر شرعا.

ويعتبر أيضا كون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي ، وهو الشك.

يكون الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي ، لأنه رافع لموضوعه.

والإشكال فيه : بان من مقومات الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر في مرحلة دلالته ، وهذا لا يتم في مثل الاستصحابين ، إذ الاستصحاب بجميع افراده مدلول لدليل واحد ، لأن استناد الحكم الاستصحابي في شتى موارده من دليل واحد ، فلا يتحقق فيه شرط الحكومة ، وان قلنا بانحلال الدليل العام إلى قضايا متعددة بتعدد موارده ، إذ ذلك لا يستلزم تعدد الأدلة وتحقق النّظر المقوم للحكومة ، إذ لا معنى له في القضايا الانحلالية الحاصلة بالتعمل العقلي.

مندفع : بان هذا ناشئ عن عدم التفريق بين الحكومة الظاهرية والحكومة الواقعية ، فان اعتبار نظر أحد الدليلين إلى الآخر المستلزم لتعدد الدليل خارجا انما

ص: 260


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 682 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

هو في مورد الحكومة الواقعية ، كحكومة أدلة إلغاء شك كثير الشك على أدلة أحكام الشك. دون الحكومة الظاهرية - كما فيما نحن فيه - فانه لا يعتبر فيها إلا كون الدليل الحاكم رافعا لموضوع الآخر في عالم التشريع.

ويؤخذ على هذا الكلام مؤاخذات :

الأولى : ان الحكومة بأي معنى كانت - واقعية أو ظاهرية - لا بد فيها من نظر الدليل الحاكم إلى المحكوم ، إذ لا وجه لتقدم الدليل المتكفل لنفي الموضوع على الدليل المتكفل لإثبات الحكم لموضوعه الواقعي إلا كونه ناظرا إلى نفي آثاره وأحكامه الثابتة له بالدليل المحكوم. وإلا فلا وجه لتقدمه عليه ، إذ مفاد الحاكم نفي الموضوع تشريعا لا تكوينا كي تنتفي آثاره الشرعية الثابتة له بمقتضى الدليل المحكوم.

الثانية : انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم لزوم النّظر في الحكومة الظاهرية ، فالمقام ليس من موارد الحكومة الظاهرية كما قرره قدس سره ، إذ ليس المراد من الحكومة الظاهرية كون الدليلين متكفلين للحكم الظاهري ، بل المراد أن أحد الدليلين لا يكون ناظرا إلى مدلول الآخر بحسب الواقع - وان كان ذلك الآخر دليلا ظاهريا إذ واقع كل بحسبه - بل يكون ناظرا إليه ومتصرفا فيه مع فرض الإغماض عن الواقع والجهل به - ولذلك عرفها قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح بما كان موضوع الدليل الحاكم متأخر الرتبة عن موضوع الدليل المحكوم ، كحكومة الأمارات على الأدلة الواقعية - فتمامية الحكومة الظاهرية في المورد انما تتحقق بفرض الشك في تحقق موضوع الاستصحاب المسببي ، وهو غير مفروض بل غير متحقق ، إذ موضوعه - وهو الشك واليقين - لا شك فيه مع قطع النّظر عن الاستصحاب السببي ، فالحكومة لو تمت فهي واقعية ، وهي تستلزم النّظر بلا كلام ، كما اعترف به قدس سره في صريح كلامه.

الثالثة : - وهي أهم المؤاخذات - انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكان تحقق الحكومة الواقعية بين مدلولي دليل واحد فالأصل السببي غير حاكم على الأصل

ص: 261

المسببي كما ادعى ، إذ الحكومة تتقوم بالتصرف في موضوع المحكوم توسعة وتضييقا.

والأصل السببي لا يتصرف في موضوع الأصل المسببي ، سواء قلنا بان المجعول بدليل الاستصحاب هو اليقين أو المتيقن ..

أما بناء على تكفله جعل المتيقن ، فعدم حكومته واضح ، وذلك لأن موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك ، وبجريان الأصل السببي لا يرتفع الشك بالأثر الّذي يكون مجرى الأصل المسببي تعبدا ، إذ به يثبت الموضوع وتترتب عليه آثاره ، فالتعبد انما هو بنفس الآثار لا باليقين بها.

وبعبارة أوضح : ان الّذي يتكفله الأصل السببي انما هو تنزيل الأثر منزلة الواقع ، لا تنزيل اليقين به منزلة اليقين بالواقع.

والحكومة انما تتحقق بالمفاد الثاني لا الأول ، واليقين الوجداني بالواقع التعبدي لا يجدي في رفع الموضوع ، إذ المأخوذ في الموضوع هو اليقين بالواقع بنحو التقييد لا التركيب ، والأصل لا يتكفل التعبد بالمقيد بما هو كذلك ، بل انما يتعبد بالقيد ، وهو لا يحقق ثبوت المقيد بما هو مقيد - وقد مر بيان ذلك تفصيلا في رد إمكان دعوى حكومة الأمارة على الاستصحاب بناء على جعل المؤدى فراجع -

وأما بناء على تكفله جعل اليقين بالمستصحب ، فتارة : يلتزم بأنه كما يتكفل جعل اليقين بالمشكوك يتكفل أيضا جعل اليقين بآثاره ولوازمه الشرعية. وأخرى : لا يلتزم بذلك ، بل يلتزم بأنه يتكفل جعل اليقين بنفس المشكوك فقط وتترتب عليه نفس الآثار ، فالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها.

فالكلام في البناء الأول - أعني : البناء على جعل المتيقن لا اليقين - يجري بعينه على الالتزام الثاني - أعني : الالتزام بالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها - كما هو واضح جدا.

وأما على الالتزام الأول ، فالأصل السببي وان كان يتكفل التعبد باليقين بطهارة الثوب كما يتعبد بطهارة نفس الماء - مثلا - إلا ان الاستصحاب المسببي

ص: 262

أيضا يتكفل - في نفسه - التعبد باليقين بنجاسة الثوب بقاء ، فأحد الأصلين يتكفل التعبد باليقين ببقاء المستصحب والآخر يتكفل التعبد باليقين بزواله ، فكيف يجعل أحدهما حاكما على الآخر؟ وبأي ملاك يكون ذلك؟.

ونتيجة ما ذكرناه : أن الأصل السببي لا يكون بدلالته الالتزامية الشرعية حاكما على الأصل المسببي ، إذ لا يتكفل رفع الموضوع تعبدا ، بل الأصلان متعارضان ، فالأصل المسببي بدلالته المطابقية يعارض الأصل السببي بدلالته الالتزامية - إذ دلالته المطابقية لا تتنافى بنفسها مع دلالة الأصل المسببي - وعليه فالأصل السببي ..

اما ان يكون مجراه ذا أثر آخر غير المشكوك في مورد الأصل المسببي ، كطهارة الماء ، فان لها أثر غير طهارة الثوب المشكوكة وهو حلية الشرب.

وإما ان ينحصر اثره الشرعي بالمشكوك بالشك المسببي.

فعلى الأول : يكون الأصل السببي متكفلا بالالتزام الشرعي لثبوت كلا الأثرين من حلية الشرب وطهارة الثوب في استصحاب طهارة الماء. والأصل المسببي بدلالته على نجاسة الثوب إنما ينافيه في إحدى دلالتيه الالتزاميتين ، وهي دلالته طهارة الثوب المغسول بالماء ، فالمعارضة انما تكون بين هذه الدلالة الالتزامية وبين الأصل المسببي ، فتجري قواعد التعارض بينهما بالخصوص ويبقى الأصل السببي بدلالته المطابقية والالتزامية الأخرى سالما عن المعارض فيلتزم به.

هذا إذا قلنا بان للأصل دلالات التزامية متعددة بتعدد الآثار ، ولم نقل بان دلالة الأصل السببي على ترتب آثاره المتعددة بدلالة التزامية واحدة تتكفل ترتب جميع آثاره بنحو الإطلاق ، وإلا فمع القول بذلك يكون الأصل المسببي مقيدا لإطلاق الدلالة الالتزامية وبذلك يجمع بينهما عملا.

وعلى الثاني : فالتعارض بين الدلالة الالتزامية الوحيدة للأصل السببي والدلالة المطابقية للأصل المسببي ، ومقتضى التعارض التساقط ، وبعده يبقى مجرى

ص: 263

الأصل السببي بلا أثر شرعي ، فيكون التعبد به لغوا ، فيسقط الأصل السببي باللغوية لا بالتعارض ، إذ قد عرفت عدم التنافي بين الدلالتين المطابقيتين للأصلين حتى بدوا.

والمحصل : انه في مورد المنافاة بين الأصلين يسقطان معا لتعارضهما ولا يتقدم أحدهما على الآخر. وبعد ذلك فان كان للمستصحب في مورد الأصل السببي أثر آخر غير موضوع المعارضة جرى وترتب بواسطته ذلك الأثر ، وإلا لم يجر أصلا للغوية التعبد ، فلاحظ.

ومن هنا يظهر ما في بعض كلمات الشيخ في الرسائل ، وقرره المحقق الخراسانيّ (1) في الكفاية في تقريب وجه تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي من : أنه مع الأخذ بالأصل السببي يكون رفع اليد عن الأصل المسببي بوجه بخلاف العكس فان الأخذ بالأصل المسببي يستلزم رفع اليد عن الأصل السببي بلا وجه أو على وجه دائر.

فان هذا التقرير غير وجيه بعد ما عرفت ، إذ مع الأخذ بالأصل المسببي بأي وجه كان ، فان كان لمجرى الأصل السببي أثر آخر ، لا ترفع اليد عنه بل يبقى ثابتا ويترتب بواسطته ذلك الأثر. وان لم يكن له أثر ، فرفع اليد يكون بوجه غير دوري وهو اللغوية ، لا بوجه دائر ولا بلا وجه.

ومركز الغفلة ، هو أخذهم الأصل السببي بمجراه ودلالته المطابقية طرف المعارضة مع الأصل المسببي. ومعه لا يتم الوجه الّذي ذكروه ، إذ الأصل السببي في مورد يؤخذ به ولا ترفع اليد عنه ، وفي مورد ترفع اليد عنه ولكن بوجه وهو لغوية التعبد به.

وأما ما أفاده الشيخ في الوجه الثاني - على ما وجهنا به عبارة الكتاب - من :

ص: 264


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /431- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أنه بجريان الأصل السببي يرتفع صدق النقض بالشك في مورد الشك المسببي ، إذ النقض يكون بالدليل.

ففيه : ما أشرنا إليه في مبحث تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب من أنه مع الالتزام بإرادة الشك الوجداني من الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب لا عدم الحجة ، لا وجه للالتزام بإرادة السببية من الباء في قوله : « بالشك » ، بل يكون المراد عدم نقض اليقين في مورد الشك ، سواء كان الاستناد إليه أو إلى غيره ، فكون النقض بالدليل في مورد الشك المسببي مع جريان الأصل السببي لا يجدي في خروج المورد عن عموم دليل الاستصحاب مع ثبوت الشك في مورده كما هو الفرض. فتدبر جيدا.

والّذي ينبغي ان يقال : ان الأصل السببي يتقدم على الأصل المسببي بالورود ، وذلك لما تقدم في تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب : ان المراد بالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، هو عدم الحجة والدليل لا الصفة الوجدانية الخاصة.

وعليه ، فالأصل السببي بجريانه يرفع موضوع الأصل المسببي وهو الشك - بمعنى عدم الحجة - لأنه يكون دليلا وحجة على خلاف الحالة السابقة فيه ومعه يرتفع موضوعه.

وبما ان المقتضي لجريان الأصل السببي ثابت لتمامية موضوعه ، وليس هناك ما يمنع من جريانه إلا ما يتوهم من الأصل المسببي ، ولما كان الأصل السببي - بدلالته الالتزامية - رافعا لموضوعه تكوينا ونافيا لمقتضيه ، فلا يصلح حينئذ للمانعية عن الأصل السببي ، إذ مانعيته تتوقف على ثبوته المتوقف على عدم جريان الأصل السببي ، فيمتنع ان يستند عدم جريان الأصل السببي إليه للزوم الدور. وليس الأصل المسببي ناظرا إلى نفس مجرى الأصل السببي بحيث يرتفع بجريانه موضوعه كي يحصل التمانع من الطرفين ، ويكون مقتضى كل منهما متوقفا على عدم الآخر ، فلا يصلح أحدهما بخصوصه دون الآخر للمنع عن الآخر.

ص: 265

وهذا الوجه تام في جميع الصور ، سواء كان الأصل المسببي مخالفا للأصل السببي أم موافقا ، وسواء كان مجرى الأصل السببي بنفسه أثرا شرعيا - كطهارة الماء - أم لم يكن كذلك بل كان أمرا تكوينيا يترتب عليه أثر شرعي - كالكريّة - وان كان توهم عدم تقدم الأصل السببي في الأخير أقوى والاستدلال عليه أوجه لأن المجعول في الحقيقة بالأصل السببي هو الحكم ، فيكونان متعارضان ، لأن أحد الأصلين يثبت الحكم والآخر ينفيه.

لكن ذلك لا يجدي بعد ان عرفت ان الملاك هو كون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي دون العكس إذ لا يرفع الأصل المسببي الشك في مجرى السببي - وهو الأمر التكويني - فيكون المقتضى في أحدهما منجز الثبوت وفي الآخر معلقا فلا يصلح للمانعية إلا على وجه دائر ، وليس الملاك هو كون أحدهما يثبت الموضوع والآخر الحكم كي يتأتى ما ذكر - هذا كله بالنسبة إلى الاستصحابين المتعارضين وكان أحدهما سببا والآخر مسببا.

واما لو كان الأصل السببي غير الاستصحاب كأصالة الطهارة ، فقد استشكل المحقق الأصفهاني قدس سره في تقدمها على الاستصحاب المسببي ..

ولعل الوجه فيه : ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب انما هو عدم الحجة ، وأصالة الطهارة ليست حجة على الطهارة ، بل هي قاعدة منتزعة عن ثبوت الحكم في موارد الشك ، والدليل الدال عليها وان كان في نفسه حجة إلا انه حجة على الطهارة الظاهرية لا على الواقع ، فلا يرتفع بأصالة الطهارة ولا بدليلها موضوع الاستصحاب المسببي.

وهذا الوجه مخدوش بوجهين :

الأول : انه لم يثبت ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة ، بل يمكن الالتزام بأنه عدم المستند في مقام العمل ، ولا يخفى ان الدليل على ان الطهارة

ص: 266

الظاهرية مستند في مقام العمل ، ولذلك يصح قصد القربة فيما يحتاج إلى الطهارة من الأعمال.

الثاني : انه لو سلم كون المأخوذ عدم الحجة لا مطلق عدم المستند ، فالطهارة حجة بالمعنى المأخوذ عدمه في موضوع الاستصحاب ، وهو المنجزية والمعذرية ، فان المعذر في صورة المخالفة والمنجز في صورة الموافقة ليس إلاّ هذا الحكم الظاهري وهو الطهارة ، لأنه وان كان حكما ظاهريا إلا انه حكم طريقي لتنجيز الواقع نظير وجوب الاحتياط المستفاد من الدليل الشرعي في كونه حكما طريقيا لتنجيز الواقع - ولذا يكون العقاب مع عدم الاحتياط ومخالفة الواقع ، على مخالفة الواقع لا على مخالفة وجوب الاحتياط - وعليه ، فمع الالتزام بما التزم به المحقق الخراسانيّ من كون أدلة الطهارة حاكمة بالحكومة الواقعية على أدلة الاشتراط - أعني : أدلة شرطية الطهارة للصلاة وغيرها - بمعنى انها توجب التصرف في موضوعها بجعل أحد أفراده ولو كان في مرحلة الظاهر فيثبت للطهارة الظاهرية الأثر المترتب على عنوان الطهارة بلسان الأدلة. كان للدليل الدال على ترتب الأثر على الطهارة هو الوارد على الاستصحاب ، إذ دليل الطهارة لا يتكفل سوى إثبات الموضوع ليترتب عليه الأثر المدلول لذلك الدليل ، فترتب الأثر المخالف للحالة السابقة في الشك السببي بواسطة الدليل الاجتهادي ، فهو الوارد على الاستصحاب.

وهذا الكلام [ لا يتأتى في ] الاستصحاب السببي ، لأنه انما يتكفل المتيقن على انه الواقع المشكوك ، وعرفت ان ما يتكفل إثبات الفرد الواقعي لا يكون حاكما على الدليل الآخر.

وأما مع عدم الالتزام بذلك ، بدعوى : ان موضوع الأثر بلسان الأدلة هو الطهارة الواقعية ، ودليل الطهارة انما يتكفل ثبوتها في حال الشك والجهل بالواقع فهي طهارة ظاهرية. فدليل الطهارة بنفسه يكون واردا إذ مرجعه حينئذ إلى إثبات

ص: 267

أثر الطاهر للمشكوك بنفسه لا بواسطة الدليل الآخر ، إذ ذاك انما يثبت ترتب الأثر على موضوعه وهو الطهارة الواقعية.

وبالجملة : فأصالة الطهارة تكون سببا لرفع اليد عن الاستصحاب المسببي على أي تقدير ، فتدبر.

المقام الثاني : في الشكين المسببين عن ثالث ..

كالشك في نجاسة هذا الإناء والشك في نجاسة ذاك المسببين عن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، إذ لولاه لما حصل الشك في نجاسة كل منهما بل يعلم بطهارتهما. والعلم الإجمالي تارة : يتعلق بالحكم الاقتضائي أو بما يستتبعه ، كالعلم المتعلق بنجاسة أحدهما فانه يستتبع وجوب الاجتناب عنه وهو حكم اقتضائي ، فيكون جريان الأصلين معا مستلزما للمخالفة العملية القطعية. وأخرى : يتعلق بحكم غير اقتضائي أو بما لا يستتبعه ، كالعلم المتعلق بطهارة أحدهما مع سبق نجاستيهما ، فلا يكون جريان كلا الأصلين مستلزما للمخالفة العملية القطعية. نعم ، يستلزم المخالفة الالتزامية بالبناء على نجاستيهما مع العلم بطهارة أحدهما.

فالكلام يقع في موردين :

المورد الأول : ما إذا كان يلزم من إجراء كلا الأصلين مخالفة قطعية عملية للتكليف المعلوم بالإجمال.

والكلام تارة : يكون في وجود المقتضي لجريان كل من الأصلين. وأخرى في ثبوت المانع وعدمه بعد فرض وجود المقتضي.

أما وجود المقتضي : فقد نفاه الشيخ في الرسائل وادعى قصور الأدلة عن شمول المورد ، بتقريب : تحقق المنافاة بين صدر الدليل وذيله بالنسبة إلى الفرض ، وذلك لأن مجرى كل منهما بخصوصه حيث كان متيقن الحدوث مشكوك البقاء كان مشمولا للصدر وهو : « لا تنقض اليقين بالشك » ، ومقتضاه جريان كلا الأصلين وحرمة النقض في كليهما ، وبما أن أحدهما متيقن الارتفاع كان مشمولا للذيل ، وهو :

ص: 268

« ولكن تنقضه بيقين آخر » ، ومقتضاه لزوم النقض في أحدهما وعدم جريان أحد الأصلين.

ولا يخفى ان ما يقتضيه الصدر يتنافى مع ما يقتضيه الذيل ، إذ السالبة ( الموجبة خ ل ) الكلية - وهي مدلول الصدر - تناقضها الموجبة ( السالبة خ ل ) الجزئية - وهي مقتضى الذيل - فيتعارض الصدر والذيل بالنسبة إلى المورد ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فيكون الدليل مجملا ، فيؤخذ به بما في القدر المتيقن ، والمورد ليس منه فيكون قاصرا عن شموله.

وبهذا الوجه يخرج المورد عن موارد المعارضة ، إذ ليس هو من موارد جريان الأصلين كي تتحقق المعارضة بينهما (1).

ولكن ما ذكره الشيخ لا يمكن الالتزام به لوجهين :

الأول : ان ظاهر الخبر لزوم كون اليقين الناقض المذكور في الذيل من سنخ اليقين بالحدوث - كما هو ظاهر المقابلة بين الصدر والذيل - فلا يصلح اليقين الإجمالي لنقض اليقين التفصيليّ ، فيكون المورد مشمولا للأدلة ، بلا ان يحصل التنافي فيها.

الثاني : انه لو سلم إرادة اليقين الأعم من الإجمالي والتفصيليّ من اليقين المذكور في الذيل ، وعدم ظهور الكلام في لزوم السنخية بين اليقين الناقض والمنقوض ، فلا وجه أيضا لدعوى قصور الأدلة عن شمول المورد ، إذ من الأدلة ما لا يشتمل على الذيل المزبور ، بل يقتصر فيه على الصدر ، فهو لا يقصر عن شمول المورد ، ولا يسرى إجمال غيره إليه لانفصاله عنه.

وقد أشير إلى هذين الوجهين في الكفاية (2).

ص: 269


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /429 الطبعة القديمة.
2- ويمكن الخدشة فيما أفاده قدس سره ثانيا بأنه انما يتم الرجوع إلى الروايات الخالية عن الذيل لو فرض ان الذيل المزبور كان من القرائن المتصلة فانه يستلزم إجمال ما اتصل به خاصة ، أما لو فرض انه من القرائن المنفصلة كما هو الظاهر لأن : « لكن » هنا للاستدراك ، فتكون كلاما مستقلا - فلا يتم ما أفاده لأنها تكون مقيدة لجميع النصوص حتى غير المذيلة بها لأن نسبتها إلى الجميع على حد سواء والتحقيق : انه لا ظهور لكلام الشيخ في إرادة إجمال الأدلة كما حملت عليه عبارته بل نظره قدس سره إلى أمر آخر وتوضيحه : انه قدس سره أخذ انطباق الذيل في مورد العلم الإجمالي مفروغا عنه وبنى إيراده على ذلك ، فانه بعد ان كان مقتضى الذيل لزوم نقض الحالة السابقة في المعلوم بالإجمال فلا يخلو الحال إما ان يجري الاستصحاب في كلا الطرفين أو في أحدهما المعين أو في أحدهما المخير ، والجميع باطل. أما الأول : فلأنه مناف للأمر بالنقض في أحدهما المعلوم بالإجمال المفروض ثبوته. وأما الثاني : فلأنه ترجيح بلا مرجح. وأما الثالث : فلأن الفرد المردد ليس فردا ثالثا له وجود في الواقع فيتعين سقوط الاستصحاب في كلا الموردين. هذا توضيح ما أفاده وهو أجنبي عن دعوى الإجمال في الدليل كما لا يخفى.

وأما الكلام في ثبوت المانع وعدمه ، فتحقيقه : أنه مع الالتزام - كما هو الحق - بكون العلم الإجمالي علة تامة لتنجيز الواقع بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري - سواء كان مؤدى الأصل أو الأمارة - في أطرافه يكون العلم الإجمالي بالتكليف في المقام مانعا عن جريان كل من الأصلين ، لكون الواقع المنجز محتمل الانطباق على كل من الفردين ، فيمتنع أن يجري الأصل في كل منهما - كما مر توضيح ذلك في مبحث العلم الإجمالي.

ومع هذا الالتزام يخرج المورد أيضا عن موارد المعارضة ، إذ لا يكون من موارد جريان الأصول في نفسه.

نعم ، بناء على ما اختاره المحقق النائيني ، من كونه علة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، وبنحو الاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، فتجوز المخالفة الاحتمالية - بناء على هذا - يكون المورد من موارد المعارضة ، إذ العلم

ص: 270

الإجمالي لا يمنع من جريان كل من الأصلين ، بل يكون مانعا عن أحدهما ، إذ جريانهما معا يستلزم المخالفة القطعية المحرمة ، وإذ لا مرجح لأحدهما على الآخر في نفسه يحصل التعارض بينهما - إذ الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح -.

وهل الحكم التساقط أو التخيير؟ التحقيق : انه التخيير لا التساقط كما حققناه في مباحث الاشتغال.

المورد الثاني : ما لا يلزم من إجرائهما مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فالتحقيق انه مع الالتزام بما هو ظاهر الشيخ - على ما تقدم - من قصور الأدلة عن شمول موارد العلم الإجمالي ، فلا مجال لدعوى إمكان إجرائهما أو معارضتهما ، إذ المورد مشكوك المصداقية.

إلا ان الّذي يؤخذ على الشيخ في الألسنة والتحريرات ، ما التزم به من جريان الأصلين فيما لو توضأ غفلة بمائع مردد بين البول والماء - فيجري استصحاب بقاء الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء - مع العلم بانتقاض الحالة السابقة لأحدهما كما لا يخفى.

والوجه فيه وحل الإشكال سنتعرض له قريبا إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

ومع عدم الالتزام بذلك ، والالتزام بما هو الحق - من كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري مطلقا في أطرافه - لا وجه أيضا للالتزام بجريان أحد الأصلين وإن كان المعلوم بالإجمال حكما غير اقتضائي ، لما تقرر في مبحث الاشتغال من امتناع جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي سواء تعلق بحكم اقتضائي أو بغيره.

وأما مع الالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني من كونه مقتض للتنجز فهو علة لحرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية.

أو الالتزام بأنه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، ولكن امتناع جعل الأصول في أطرافه يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما اقتضائيا تنجيزيا ، دون

ص: 271

ما كان متعلقه حكما غير اقتضائي ، إذ لا تنجيز كي يتنافى مع جعل الأصول - كما هو ظاهر الكفاية - (1).

مع الالتزام بأحد هذين الالتزامين ، فمقتضى القاعدة صحة جريان كلا الأصلين في الفرض بلا معارضة - كما التزم به في الكفاية - لثبوت المقتضي وعدم المانع من المخالفة القطعية العملية.

إلا ان المحقق النائيني قدس سره : لم يلتزم بذلك في الأصول المحرزة والتزم به في خصوص الأصول غير المحرزة.

وقرب التفصيل بينهما : - كما في مصباح الأصول (2) - انه حيث كانت الأصول المحرزة - كالاستصحاب - تتكفل جعل الشاك متيقنا ، فجريان الاستصحابين في الفرض معناه التعبد بكونه متيقنا بنجاسة هذا والتعبد بكونه متيقنا بنجاسة ذاك ، وهذان التعبدان ينافيان العلم الوجداني بطهارة أحدهما.

وأما الأصول غير المحرزة ، فحيث لا تتكفل جعل اليقين ، بل انما تتكفل تعيين الوظيفة العملية في مرحلة الظاهر ، فلا ينافي جعل نجاسة كلا الإناءين ظاهرا العلم الإجمالي بطهارة أحدهما واقعا.

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) نقضا وحلا.

أما النقض : فبما لو كان أحد جنبا وصلى وشك بعد الانتهاء من الصلاة في انه اغتسل للصلاة أو لا؟ فانه يحكم بصحة الصلاة بمقتضى قاعدة الفراغ ، وبوجوب الغسل للصلوات الآتية بمقتضى استصحاب بقاء الحدث ، مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد هذين الأصلين للواقع وكلاهما من الأصول الإحرازية.

وأما الحل : بأنه انما يتم لو كان التعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين - بنحو

ص: 272


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /432- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول /260- الطبعة الأولى.

العموم المجموعي - إذ التعبد باليقين بالمجموع ينافي العلم بانتفائه ، والأمر ليس كذلك ، إذ لا يقين بنجاسة المجموع بما هو مجموع ، بل التعبد يكون بنجاسة كل من الإناءين ، لتحقق موضوع الاستصحاب في كلا الطرفين - وهو اليقين السابق والشك اللاحق - والعلم الإجمالي لا يمنع من جريان كل واحد من الأصلين بخصوصه إذ لا يتنافى معه.

ثم انه بعد هذا تعجب من الشيخ والنائيني في التزامهما بجريان الاستصحاب في مثل ما لو توضأ بمائع مردد بين البول والماء - كما أشرنا إليه - مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع.

إلاّ ان التحقيق عدم ورود شيء مما أفاده على المحقق النائيني بعد إمكان رجوع كلامه قدس سره إلى أحد وجهين :

الأول : ان التعبد باليقين بنجاسة كل من الإناءين وان كان يغاير التعبد باليقين بنجاسة الآخر لتعدد الموضوع خارجا ، إلا انه في الحقيقة يرجع إلى تعبد واحد بنجاسة كلا الإناءين بنحو التعبد بالمجموع ، لا الجمع بين التعبدين ، وهو بهذه الجهة ينافي العلم الإجمالي بطهارة أحدهما وانتفاء المجموع.

ونظير ذلك ما يقال في منع الجمع بين طلب المهم وطلب الأهم ، بأنه يرجع في الحقيقة إلى طلب الجمع فيكون من طلب الضدين ، وان كان بحسب الظاهر من الجمع بين الأمرين ، كما أشار (1) إلى ذلك بقوله : « ان هذا وان لم يكن من طلب الجمع بحسب الظاهر في نفي إلاّ انه بحسب النتيجة والواقع مرجعه إلى ذلك » ويشهد لذلك مراجعة الوجدان في الأمور التكوينية ، فان العلم بوجود زيد والعلم بوجود عمرو يرجع في الحقيقة إلى العلم بوجودهما ويرجع إلى ذلك.

ص: 273


1- من هنا يتضح وهن ما جاء في تقريرات بحث السيد البروجردي رحمه اللّه من ان نكتة رجوع ذلك إلى طلب الجمع مما لم تدركها افهام من كان سابقا. فلاحظ.

الثاني : ان التعبد باليقين وجعل الشاك متيقنا لا ينافي بنفسه العلم الوجداني بالخلاف ، لأن التعبد لا يعدو التنزيل والجعل وهو كثيرا ما يكون على خلاف الواقع كما في سائر موارد الحكومة. وإنما المنافاة بين التعبد باليقين في كلا الطرفين والعلم الإجمالي ، ناشئة من كون التعبد باليقين بالنجاسة يقتضي ترتيب الآثار الشرعية للنجس على المشكوك المستصحب ، وذلك انما يكون بتوسط تنجيز (1) الواقع فعلا بجعل اليقين ، فالتعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين يقتضي تنجز الواقع في كلا الطرفين ، وهذا ينافي العلم بطهارة أحدهما للعلم بعدم كون الواقع في أحدهما منجزا.

وبالجملة : فالتعبد الاستصحابي في كلا الطرفين لما كان يرجع إلى جعل المنجز الفعلي للواقع في كليهما كان منافيا لمقتضى العلم الإجمالي من عدم تنجز الواقع في أحدهما.

وهذا الوجه أمتن من سابقه ، إذ الأول وجه تصوري لا برهان عليه.

وبهذا الوجه يندفع الإيراد بالنقض ، إذ قاعدة الفراغ وان كانت من الأصول المحرزة - كما اعترف بذلك المحقق المزبور قدس سره - إلا انها لا تتكفل تنجيز الواقع مع استصحاب الحدث كي تنافي العلم الإجمالي ، بل تتكفل التعذير والحكم

ص: 274


1- وبذلك تفترق الأصول المحرزة عن غيرها ، إذ غير المحرزة لا تتكفل جعل المنجز الفعلي للواقع ، وان كانت فعلا مؤداها ، بل الواقع انما ينجز بها على تقدير المصادفة. والتنجز الّذي تتكفله الأصول المحرزة هو التنجز الفعلي ، وهو واقع التنجز ، بحيث يرى المكلّف ان الواقع بقيام الأصل صار في عهدته ، كما لو تيقن وجدانا ، وهذا ينافي العلم بعدم كونه في أحد الطرفين في العهدة. واما التنجز الّذي يتكفله الأصول غير المحرزة فهو التنجز التعليقي ، وهو لا ينافي العلم الوجداني ، إذ لا يرى المكلّف ان الواقع بقيام الأصل صار منجزا في كلا الطرفين ، فلاحظ. بهذا الوجه تفترق الأصول المحرزة عن غيرها لا بلحاظ كون التقييد في المحرزة بلحاظ ترتيب الإصر ، إذ هو مشرك بين كلا الأصلين ، فلاحظ وتدبّر.

بفراغ الذّمّة فلا تنافي العلم الإجمالي.

ومنه يتضح أيضا الوجه في الحكم بجريان الأصول فيما لو توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، ونظيره مما يكون التلازم بين مجرى أحد الأصلين وعدم مجرى الآخر ، فان استصحاب الطهارة لا يتكفل التنجيز إذ الطهارة ليست حكما اقتضائيا ، فلا تنافي بين الأصلين وبين العلم الإجمالي ، فتدبر جيدا.

وأما توجيه ما ذكره الشيخ من جريان الأصلين في الفرض مع التزامه سابقا بقصور الأدلة عن شمول موارد العلم الإجمالي ، فبتقريب : أن المعلوم بالإجمال - وهو زوال أحدهما - لا يترتب عليه أثر شرعي ، إذ الواحد المردد بينهما ليس بموضوع لأثر شرعي ، فلا يكون مشمولا للذيل ، وهو وجوب النقض إذ لا يشمل إلاّ ما كان مورد الأثر.

وعليه فيبقى الصدر بلا مزاحم ، فيشمل بإطلاقه المورد ، ولا مانع منه ، إذ لا يلزم من جريانها مخالفة عملية لتكليف منجز.

وبالجملة : ما يكون مانعا عن ثبوت المقتضي لجريان الأصلين وعن تأثيره مفقود في الفرض ، فيثبت الأصلان. وقد أشار قدس سره إلى ذلك في كلامه ، فلاحظه وتأمل واللّه ولي العصمة.

انتهى تحرير مبحث تعارض الاستصحاب مع غيره من الأصول والأمارات في يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رجب في السنة الثالثة والثمانين بعد الألف والثلاثمائة ، واما تدريسه فقد انتهى في تمام من ربيع الأول من هذه السنة ، ويليه مبحث التعادل والترجيح.

ص: 275

ص: 276

التّعادل والتّرجيح

اشارة

ص: 277

ص: 278

التعادل والترجيح

تمهيد

لما كان معنى التعادل هو تساوي الأدلة في المزايا ، والترجيح هو اشتمال أحدها على مزية ليست في الآخر. كان المهم من موارده الروايات المتعارضة ، بل كان مورده تعارض الأدلة. فلا بد أولا من تعريف التعارض وبيان ضابطه كي تتميز الموارد التي تجري فيها قواعد الترجيح والتعادل من غيرها. فنقول - ومنه نستمد العصمة - الاحتمالات في ضابط التعارض ثلاثة :

الأول : انه تنافي المدلولين ، كأن يكون أحد المدلولين منافيا للآخر ، كما إذا كان أحدهما الوجوب والآخر الحرمة. وهو الّذي ينسب إلى المشهور.

الثاني : انه تنافي الدليلين بلحاظ تنافي مدلوليهما ، فالتنافي أولا وبالذات بين المدلولين أنفسهما ، وينسب إلى الدليلين بالمسامحة - لما هناك من المناسبة بين الدليل والمدلول - ولا تنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة حقيقة ، لأن كلا منهما يفيد الظن النوعيّ ، بل مورد الكلام ما كان الدليلان كذلك.

ص: 279

نعم ، لو كان دليلية الدليل من باب الظن الشخصي ، لكان التنافي الحقيقي بينهما ممكن الوقوع ، إذ لا مجال لإفادتهما معا الظن الشخصي كما لا يخفى ، لكنه خلاف الفرض.

وهذا التنافي المسامحي هو الّذي ينطبق عليه التعارض حقيقة ، فالتنافي منسوب إلى الدليلين بالمسامحة ، والتعارض منسوب إليهما حقيقة ، ولا منافاة كما لا يخفى.

الثالث : انه تنافي الدليلين لكن لا بلحاظ تنافي مدلوليهما ، بل بلحاظ مقام الإثبات والدليليّة ، فان كلا منهما يحاول إثبات ما ينافي ما يريد إثباته الآخر.

وينفي الاحتمال الأول بما أفاده بعض الأعاظم من : ان التعارض انما يتحقق بين أمرين موجودين خارجا - فيعارض أحدهما الآخر - والمدلولان بذاتيهما لا يمكن وجودهما لتنافيهما ، فلا معنى لحصول التعارض بينهما ، فتأمل (1).

فيدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين.

ويمكن ان يقال في ترجيح الاحتمال الثالث : ان المفهوم من لفظ التعارض عرفا هو المدافعة الحاصلة بين شيئين أو أشياء على شيء واحد ، بحيث تكون غاية كل منهما الحصول على ذلك الشيء.

وهذا للاحتمال الثالث اقرب منه إلى الاحتمال الثاني ، فان كلا من الدليلين - على الاحتمال الثالث - يحاول إثبات مضمونه وجعله حقيقة خارجية.

وليس على الاحتمال الثاني هذا المعنى ، إذ ليس هناك امر يدافع أحد الدليلين الآخر لغاية الحصول عليه.

هذا مع عدم تصور التنافي في مقام الدلالة والكشف بعد اعتبار الظن النوعيّ في الحجية لا الظن الشخصي ، وحمله على التنافي مسامحة وكون التنافي حقيقة بين ذات المدلولين خلاف الظاهر.

ص: 280


1- الخراسانيّ الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /437- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مضافا إلى ان هناك من لا يقول بتكفل الأمارات أحكاما شرعية ظاهرية ، بل يقول بأن مفادها الحجية أو المنجزية ونحوهما.

فالتدافع بين الأمارات انما يكون في مقام الإثبات لا مقام الدلالة ، إذ لا نظر للاعتبار إلى المدلول أصلا.

وما ذكرناه يمكن ان يكون مراد صاحب الكفاية (1) ، وان احتمل غيره والأمر سهل.

ثم ان التنافي في الدلالة على وجه التناقض غير متصور ، لأن الدلالة من الأمور الوجودية ، فالتنافي بين الدلالتين لا يكون إلاّ على وجه التضاد.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر : ان التنافي قد يكون عرضيا ، كما لو علم إجمالا بكذب أحدهما مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا.

ويبدو من المحقق النائيني الإشكال فيه ، وان مثل ذلك يكون من موارد اشتباه الحجة باللاحجة (2).

والتحقيق : ان العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين له صور ثلاث :

الأولى : ان يعلم بسقوط أحدهما من باب العلم بعدم إمكان الجمع بين الدليلين مع عدم العلم بكذب أحدهما واقعا بحيث لا يتميز ، كما في الأصلين المتعارضين في موارد العلم الإجمالي ، فان الجمع بين الحكمين الظاهريين ممتنع لاستلزامه الترخيص في المعصية ، ولا يعلم بكذب أحدهما في الواقع.

الثانية : ان يعلم بعدم صحة أحد الخبرين واقعا ، وهو المعبر عنه بالكذب الخبري ، كما لو قام أحد الخبرين على وجوب القصر والآخر على وجوب التمام ، وعلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين.

الثالثة : ان يعلم بعدم صدق أحد الخبرين بالكذب المخبري.

ص: 281


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /437- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 703 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والصورة الأخيرة هي مورد اشتباه الحجة باللاحجة دون الأولتين ، فالإشكال لو كان فإنما هو على إطلاق الكفاية على أصل مراده ، فلاحظ.

وعلى كل حال فهذا ليس بمهم في محل الكلام بعد ما عرفت تحقيق الحال.

وانما المهم من الكلام يقع فيما أفاده من خروج بعض الموارد عن التعارض ، وهي : موارد الحكومة والورود والجمع العرفي ، والخاصّ والعام والمطلق والمقيد والنص أو الأظهر والظاهر.

فالكلام في موارد :

المورد الأول : في الحكومة : والبحث فيها في جهتين :

الأولى : في وجه تقديم الدليل الحاكم على المحكوم ، وقد سبق الكلام في ذلك مفصلا ، فراجع.

الثانية : في معنى الحكومة بنظره - أي صاحب الكفاية - وانها عنده عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الآخر في مرحلة دلالته ، مطلقا بأي نحو من أنحاء النّظر.

أو انها بنظره أخص من ذلك ، بمعنى انها نظر أحد الدليلين إلى الآخر بالشرح والتفسير بكلمة : « أعني » ونحوها - كما نسب ذلك إليه المحقق النائيني قدس سره (1).

قد يقال : بان الضابط لديه هو النحو الأول ولا أساس لنسبة المحقق المذكور إليه تخصيص ضابطها بالنظر بنحو الشرح ، لظهور عبارته في المقام في الأول. ويؤيده ما أفاده في الحاشية (2) من موافقته الشيخ رحمه اللّه (3).

ولكن الإنصاف ان النسبة المذكورة غير مجازفة في القول ، بل لها أساس تبتني عليه ، وهو ما ذكره في المقام في نفي حكومة الأمارات على الأصول من : ان دليل

ص: 282


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /438- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /256- الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /432- الطبعة القديمة.

اعتبارها ليس ناظرا إلى أدلتها وشارحا لها.

ومراده بالشرح خصوص التفسير بألفاظه لا مطلق النّظر والقرينية - إذ انه شرح بالملازمة - لما يذكره بعد ذلك في وجه تقدم الأظهر على الظاهر ومنه العام والخاصّ من انه بالقرينية ، مع التزامه انه ليس بنحو الحكومة ، بل بنحو الجمع العرفي ، فانه ظاهر في ان مطلق القرينية غير موجب للحكومة ، وإلاّ لكان تقدم الأظهر على الظاهر بنحو الحكومة عنده ، ولا يلتزم به ، فتدبر.

المورد الثاني : في الجمع العرفي : والكلام فيه مع صاحب الكفاية من جهتين :

الأولى : في وجود مورد للجمع العرفي غير تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ، وهو ما كانت ملاحظة كلا الدليلين موجبة للتصرف فيهما.

قد يذكر لذلك ما إذا ورد الدليل على وجوب شيء ، وورد الآخر على وجوب غيره ، فانه بملاحظتهما معا يحملان على بيان الوجوب التخييري ، وتلغى خصوصية التعيين المستفادة بالإطلاق من كل منهما ، الموجبة لحصول التنافي بين الدليلين.

ولكن هذا في الحقيقة من باب تقديم النص على الظاهر ، لأن كلا منهما نصّ في الوجوب ، ظاهر في التعيين بواسطة الإطلاق ، فظاهر كل منهما ينافي نصّ الآخر ، فالمثال من موارد تقديم النص على الظاهر ، وما يكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر.

وقد يجعل هذا المورد من موارد تعارض الإطلاقين ، والقاعدة تقتضي التساقط ، برفع اليد عن إطلاق كل منهما المقتضي للتعيين. وعليه لا يكون المورد من موارد الجمع العرفي أصلا ، بل هو نظير تعارض العامين من وجه وتساقطهما في المجمع.

الثانية : ما ذكره من ان تقديم الأدلة المتكفلة للأحكام بعناوينها الثانوية - كأدلة نفي الضرر أو الحرج - على الأدلة المتكفلة للأحكام بعناوينها الأولية بالجمع

ص: 283

العرفي بحمل الأولى على الحكم الفعلي والثانية على الحكم الاقتضائي - فهو مثال لما تكون ملاحظة الدليلين موجبة للتصرف في أحدهما كما لا يخفى -.

وفيه تأمل لوجهين :

الأول : ان الحكم الاقتضائي بمعنى لا معنى له فيما نحن فيه ، وبمعنى آخر لا يلتزم به صاحب الكفاية.

بيان ذلك : انه (1) ، ان أريد بالحكم الاقتضائي ما هو المشهور المصطلح للوجود الاقتضائي للشيء ، وهو ان المقتضى - بالفتح - بوجود مقتضية ، وينسب إليه الوجود مسامحة وبالعرض ، فالحكم موجود لوجود مقتضية.

فهذا لا معنى له في الفرض ، لأن المقتضي الّذي يترشح عنه المعلول في الأحكام هو الجاعل وهو اللّه سبحانه وتعالى ، فالأحكام - مطلقا - موجودة منذ الأزل بوجوده الأزلي ، وهذا غير ما نحن فيه ، لأن المراد ان المحمول على الاقتضاء هو الحكم المدلول للدليل في قبال غيره لا ذات الحكم بلحاظ جاعله وموجده.

وان أريد به كونه ذا مصلحة يقتضي تحققها ، فهو ذو اقتضاء للتحقق باعتبار وجود المصلحة في متعلقه. فهو غير معقول ، لأن نفس المصلحة معادلة لمتعلقه بالوجود ومتأخرة عنه ، فلا يعقل ان تكون موجودة في رتبة الحكم ويكون للحكم بها نحو ثبوت.

وان أريد به الحكم الطبعي الّذي هو عبارة عن ثبوت الحكم لذات الموضوع بلا لحاظ عوارضها الخارجية ، فالموضوع مهمل في مقام الإثبات - إذ لا يعقل

ص: 284


1- أقول : ليس الحكم الاقتضائي ما هو الظاهر في لسان الأصوليين - وهو ما كان واجدا للملاك ، فهو ذو اقتضاء للثبوت ، لواجديته لملاكه ، ولكن هناك مانع من فعلية هذا الملاك - وقد عرضت هذا على السيد الأستاذ - دام ظله - فأقره ، وقرب واجدية الملاك بان الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام بالعنوان الثانوي ، ظاهرة في الامتنان والتسهيل ، وذلك ظاهر في ان رفع الحكم لم يكن لعدم الملاك ، بل من باب التسهيل على المكلف ، وإلاّ فالملاك موجود ، وعلى هذا فما ذكر من التفصيل لا مجال له ، فينحصر الإشكال على الآخوند بالثاني ، فتدبر.

إهماله في مرحلة الثبوت - فالدليل مهمل بالنسبة إلى الفرد الخاصّ.

ويكون الدليل الدال على نفي الحكم عن الفرد الخاصّ مخصصا للموضوع.

فهو وان كان معقولا إلاّ انه قدس سره لا يلتزم به ، لأنه يقتضي عدم ثبوت الملاك في الموضوع الخاصّ. مع انه يلتزم ببقاء الملاك ويستفيد بقاءه من إطلاق نفس الدليل الدال على الحكم ، ومع الالتزام بالإهمال فيه كيف يستفاد منه ثبوت الملاك في مورد المزاحمة؟.

الثاني : انه مع التنزل والتسليم بوجود معنى معقول للحكم الاقتضائي لا محذور فيه. فما ذكره من الحمل العرفي المذكور يحتاج إلى إقامة الدليل عليه. ولا نرى لذلك وجها ، كما انه لم يذكر الوجه فيه ، فهو يرجع إلى الجمع التبرعي غير المستند إلى وجه ، وهو غير حجة كما لا يخفى.

والتحقيق : هو التفصيل بين ما يكون دليل حكم العنوان الأولي متكفلا لحكم اقتضائي كالوجوب ، وما يكون الدليل متكفلا للإباحة ، ففي الأول يقع التعارض بين دليل الحكم الأولي ودليل الحكم الثانوي ولا وجه لحمل الأول على الحكم الاقتضائي في الثاني ، فالتفت.

المورد الثالث : في الورود ، وقد تقدم الكلام مفصلا في وجه تقديم الوارد على المورود ، وفي بطلان ما ساقه الآخوند رحمه اللّه من الوجه على التقديم وعدم تماميته فلا نعيد.

واما تقديم الأمارة على الاستصحاب ، فقد تقدم الكلام فيه مفصلا ، وتقدم بعض الإشارة إلى ما ذكره في الكفاية في هذا البحث ، فراجع.

المورد الرابع : في تقديم الخاصّ والمقيد على العام والمطلق.

وبما ان هناك من يرجع العام والخاصّ إلى المطلق والمقيد - كالمحقق النائيني (1) - لا بد من تقديم الكلام عن تقدم المقيد والمطلق.

ص: 285


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 443 - الطبعة الأولى.

وفي تحقيق الحال في ذلك لا بد من تحقيق امر له كل المساس فيما نحن فيه ، كما له المساس المهم فيما يأتي من البحث عن انقلاب النسبة (1).

ص: 286


1- تحقيق الكلام في هذا المقام ان يقال : ان تعدد الإرادة في الكلام ووجود الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية بالمعنى المذكور في المتن مما لا إشكال فيه ولا يقبل الإنكار ، كما انهما قد يختلفان - كما في موارد الاستعمالات الكنائية - وقد يتفقان. وانما الإشكال في طريق تشخيص المراد الجدي للمتكلم وكونه على طبق ظاهر كلامه أو غيره ، وانه هل هو بواسطة ظاهر اللفظ كما هو المعروف - حيث ان المعروف تشخيص المراد الجدي من طريق ظاهر اللفظ فيكون الظاهر حجة ، وهو المعبّر عنه بأصالة الظهور ومطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت - ، أو انه بطريق آخر؟. الحق هو الثاني ، وذلك لأن المراد الجدي للمتكلم يعرف بأمرين ينضم أحدهما للآخر. أحدهما : إحراز كون المتكلم في مقام الجد في كلامه وانه يريد بيان امر واقعي به في قبال الهزل أو غيره. والآخر : إحراز مدلول الكلام وما قصد به تفهيمه. فإذا حصل هذان الأمران يحصل العلم بالمراد الواقعي وانه مطابق للمراد الاستعمالي وما قصد تفهيمه. فمثلا : لو قال : « جاء زيد من مكة المكرمة » ، فلدينا أمور ثلاثة : الأمر الخارجي من مجيء زيد وعدمه ، والمراد التفهيمي ، والمراد الجدي وهو ما قصد الحكاية عنه. ولا يخفى ان الأول لا يعرف بالخبر ، وهو خارج عنه ، ولذا يتحقق الخبر مع العلم بعدم المطابقة والكذب ، فليس الأمر الخارجي وهو ذات ما أخبر عنه بمراد جدي ، وانما المراد الجدي هو ما قصد الحكاية عنه بما هو متعلق القصد ، أو فقل : ان الاخبار عن الشيء هو المراد الجدي. وهذا هو المطلوب معرفته بالكلام ، وهو يعرف - كما تقدم - بإحراز مدلول الكلام ، وإحراز قصد الحكاية به ، وان المتكلم في مقام الاخبار لا في مقام آخر. وهذا ليس من حجية الظهور في شيء ، إذ إحراز مدلول الكلام ينشأ من العلم بالوضع وملاحظة القرائن. وإحراز انه في مقام الجد ينشأ من قرينة حالية أو مقالية. وقد يقال : ان المراد الجدي قد يتخلف عن المراد الاستعمالي سعة وضيقا ، كما لو كان مراده الجدي المعنى الخاصّ وكان اللفظ المستعمل فيه مطلقا ، فإذا حصل هذا الاحتمال في الكلام فلا دافع له إلا ظهور الكلام وعدم التقييد ، وهذا معنى حجية الظهور. ويندفع هذا القول : أولا : بأنه لا يتم فيما كان المعنى الآخر مباينا للموضوع له ، إذ لا يحتمل إرادته من اللفظ بلا قرينة بعد عدم دلالة اللفظ عليه ، إذ كيف يقصد الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه؟ وثانيا : بأنه لا يتم حتى في مثل المطلق والمقيد ، لأن الجميع يلتزمون بأن إحراز كونه في مقام الجد في الجملة لا يجدي في إثبات ان مراده المطلق إذا احتمل انه ليس في مقام الجد من بعض الجهات ، بل لا بد من إحراز كونه في مقام الجد في تمام المدلول ومن جميع الجهات ، وإذا أحرز ذلك لم يحتج في إثبات مراده إلى الكشف عنه من طريق الظهور ، للعلم بأن مراده تمام المدلول ، وإذا لم يحرز ذلك لم يمكن تشخيص ان مراده المطلق من طريق اللفظ. وعمدة التحقيق : ان المراد بقصد الجد والحكاية ليس ما يساوق معنى الإرادة والنية ، بل ما يساوق معنى الداعي المترتب على الشيء. ومن الواضح انه لا يمكن ان يكون الداعي إلى الشيء ما لا يترتب عليه ، فلا يمكن ان يقصد الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه لعدم ترتبها عليه ، ومعنى إحراز الداعي إلى الحكاية يحرز ان مراده لا يتعدى مدلول اللفظ ، لأن الفرض انه قصد الحكاية عن امر بما قصد تفهيمه ، فتدبر. ومن هنا يظهر ان مجرى مقدمات الحكمة في باب المطلق والمقيد انما هو المراد الاستعمالي لا المراد الجدي ، لوضوح تبعية المراد الجدي للمراد الاستعمالي ، وما قصد تفهيمه والانتقال منه إليه ، فلا بد في تشخيص المراد الجدي من معرفة المراد الاستعمالي سعة وضيقا ، وهو يحصل بالقرينة ، والقرينة على إرادة الإطلاق هي مقدمات الحكمة - كما يبين في محله - وبدونها لا يمكن إحراز المراد الاستعمالي ، ومعه لا يمكن تشخيص المراد الجدي ، وإذا توفرت المقدمات في المراد الاستعمالي فلا حاجة حينئذ لجريانها في المراد الجدي كما هو واضح. ثم انه مما ذكرناه يظهر ان دلالة الكلام على المراد الجدي مع إحراز انه في مقام الجد تكون دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف ، لأنها تنشأ من ضم جهة وجدانية - وهي كونه في مقام الحكاية - إلى جهة عقلية ، وهي استحالة ان يكون الداعي إلى الشيء ما لا يترتب عليه. وعلى هذا الأساس يشكل الأمر في موارد تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ، فان المعروف بين الأصحاب تقديم النص - وهو ما لا يمكن إرادة غير معناه المفهوم منه - على الظاهر ، وهو ما يمكن أن يراد به غير معناه المفهوم منه ، لكنه كان ظاهرا في المعنى المعروف. وذلك فانه - على ما ذكرناه - لا فرق بين النص والظاهر في عدم احتمال إرادة غير معناه المفهوم منه. فان الظاهر وان أمكن ان يستعمل ويراد به معنى آخر ، لكنه لا يصح بلا نصب قرينة ، إذ إرادة غير الظاهر من دون قرينة غير صحيحة ، فمع عدم القرينة لا يكون المفهوم من اللفظ سوى المعنى الظاهر فيه ، والمفروض ان المدلول الاستعمالي هو ما قصد تفهيمه للمخاطب ، فينحصر ان يكون هو المعنى الظاهر لاستحالة إرادة غيره بدون قرينة ، لعدم ترتب التفهيم على حاق اللفظ ، وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي هو المعنى الظاهر ، كان هو المراد الجدي قطعا ، لما تقدم من ان قصد الحكاية انما هو بما قصد تفهيمه لا بغيره. وبالجملة : ما يمكن ان يقصد تفهيمه هو ظاهر الكلام ، فتكون دلالته على المستعمل فيه قطعية - كالنص - بمقتضى البيان المزبور ، كما ان دلالته على المراد الجدي قطعية ، لأن المفروض انه قصد الحكاية بما قصد تفهيمه ، فبمقتضى ذلك تكون دلالة الكلام على المرادين الاستعمالي والواقعي قطعية. وبذلك لا يبقى فرق بين النص والظاهر في المدلول الفعلي لكل منهما وان دلالة كل منهما عليه قطعية. فأي وجه لتقديم النص على الظاهر؟. وقد يقال : ان احتمال وجود القرينة المتصلة بالنسبة إلى الكلام الظاهر وغفلة الناقل لنا عنها في مقام السماع أو النقل ، موجود. وانما يدفع بأصالة عدم الغفلة التي عليها مبنى العقلاء في أمورهم. وهذا الأصل لا يعتنى به مع وجود النص على خلاف الظاهر ، فيسقط الظاهر عن الدلالة القطعية على مدلوله. ولكن هذا لو تم في نفسه ، فانما يتم لو كان احتمال الغفلة معتدا به ، وإلاّ فلا مجال له. هذا ، ولكن المشكلة المزبورة انما يظهر أثرها في بعض الموارد ، كما لو كان المعنى الآخر الظاهر معنى مباينا للمعنى الظاهر فيه. واما الموارد الأخرى التي تجعل من مصاديق تقديم النص على الظاهر ، فيمكن حلّ المشكلة فيها ، وهي متعددة : الأول : مورد ورود الدليل الظاهر على الوجوب أو الحرمة ، وورود النص على الترخيص في الترك أو الفعل. فان المشهور هو حمل دليل الإلزام على أصل الرجحان من استحباب أو كراهة. ويمكن البناء على ذلك بالالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره في صيغة الأمر والنهي ، من عدم دلالتهما وضعا على الإلزام ، وانما يدلان على مجرد الطلب والزجر. غاية الأمر ان العقل يحكم بلزوم الامتثال إذا لم يرد ترخيص من الشارع ، واما مع ثبوته فلا يحكم بوجوب الامتثال. وعليه ، فورود النص على الترخيص - فيما نحن فيه - يرفع موضوع حكم العقل بالإلزام ولا يصطدم مع ظهور الأمر أو النهي أصلا. الثاني : مورد المطلق والمقيد. ويمكن ان يقال في الجمع بينهما : بان أساس استفادة الإطلاق هو إحراز كون المتكلم في مقام البيان ، وهذا يستفاد غالبا من ظهور الحال وليس من طريق قطعي. وعليه ، فيمكن ان يجعل ورود الدليل المقيد رافعا لهذا الظهور ، سواء أرجع إلى التصرف في المراد الاستعمالي ، بحيث يكشف عن عدم كونه في مقام تفهيم المطلق ، أو رجع إلى التصرف في المراد الجدي ، بأن يكشف عن عدم كونه في مقام الجد بتمام المدلول. فان كلا منهما كاف في رفع التنافي وان كان الأول أولى اعتبارا ، لأن الالتزام بإفادة المطلق استعمالا مع عدم إرادته منه جدا في جميع هذه المطلقات على كثرتها مستبعد جدا ، إذ ليس في ذلك داع عقلائي واضح. وقد نبّه على هذه الجهة الفقيه الهمداني قدس سره في بعض كلماته الفقهية. ومن هنا ظهر الكلام في العام والخاصّ لو التزم برجوع العام إلى المطلق وان دلالة الأداة على العموم تتبع ما يراد من المدخول. واما لو التزم بان الدلالة على العموم وضعية ، فالكلام فيه نؤجله إلى مجال آخر خشية الإطالة. الثالث : ما إذا ورد دليل على تعلق الحكم بأمر ذي اجزاء وورد دليل آخر يدل على تعلقه ببعض اجزائه ، كما ورد في أدلة التيمم ما ظاهره لزوم مسح الوجه وورد ما ظاهره كفاية مسح الجبهة والجبينين ، فانهما متعارضان بدوا ، إذ الوجه اسم لمجموع أجزائه فلا يصدق على الجبين. وقد بنى الأصحاب على حمل مسح الوجه على مسح بعضه حملا للظاهر على النص ، وقد عرفت ما في ذلك من إشكال. ويمكن ان يقال : ان إضافة الفعل إلى الوجه تارة يراد بها تعلق الفعل ببعضه ، كما لو قال : « لمست وجهه ». وأخرى : يراد بها تعلقه بتمامه ، كما لو قال : « غسلت وجهه ». ومثله غيره من الأمور المركبة ، فانها قد تصدق على الكل وقد تصدق على البعض. وإذا ثبت اختلاف موارد الاستعمال ، فظهور مسح الوجه في إرادة مسح تمامه لا يكون إلاّ بواسطة السياق ، وهذا الظهور السياق انما يكون لو لم يكن نصّ على كفاية مسح البعض ، ومع النص لا يستظهر العرف من السياق إرادة تمام الوجه ، فتدبر واللّه سبحانه ولي التوفيق. ثم انه ذكر صاحب الكفاية في أواخر كلامه عن موارد الجمع العرفي : بأنه لا فرق فيما بين ان يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا ، فيقدم النص أو الأظهر وان كان بحسب السند ظنيا على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا. وهذا الأمر ذكره لدفع ما قد يتوهم من : عدم تقديم النص الظني السند على الظاهر القطعي السند من جهة حصول التعارض بين دليل اعتبار السند في الظني ودليل اعتبار الظاهر في القطعي ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه. ولكنه توهم فاسد المنشأ ، وذلك لأنك عرفت ان ورود النص يستلزم سقوط الظاهر عن ظهوره. وعليه فبما ان دليل الحجية يتكفل التعبد بصدور كل ما كان امرا ممكنا ولا يلزم منه محذور على تقدير ثبوته واقعا ، لم يكن مانع من التعبد بصدور النص ، إذ لا محذور على تقدير ثبوته لعدم صلاحية الظاهر لمصادمته ، بل هو ناف للظاهر ومسقط له ، فتدبر.

ص: 287

ص: 288

ص: 289

وهو ما تعرض إليه في الكفاية في مبحث المطلق والمقيد من : ان المراد من البيان المأخوذ في إحدى مقدمات الحكمة هل هو بيان المراد الاستعمالي أو بيان المراد الجدي الواقعي (1).

وتوضيح ذلك : ان كون الآمر في مقام البيان هل المراد منه كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي ، يعني ما يقصد تفهيمه من اللفظ وإحضاره في ذهن المخاطب بواسطته ، من الإطلاق أو التقييد ، فإذا لم يأت بالقيد يعلم منه انه أراد منه تفهيم المطلق لا المقيد وإلاّ لقيّد.

أو المراد منه كونه في مقام بيان المراد الواقعي لمصب الحكم من نفس الذات أو الذات المقيدة ، فإذا لم يرد المقيد في الدليل يكشف عن ان مراده الواقعي هو الذات المطلقة لا المقيدة ، وإلاّ لبينها بالإتيان بالقيد مع المطلق ، فيدلان على المقيد بنحو تعدد الدال والمدلول؟.

والثمرة في الخلاف تظهر فيما لو ورد المقيد المنفصل.

فانه على الأول لا ينثلم بوروده الإطلاق ، لأن المقيد انما يكشف عن ان المراد الواقعي هو غير المطلق ، فهو يوجب التصرف في المراد الواقعي لا في الإطلاق ، بل المطلق على حاله واستعماله في الإطلاق - إذ لا تصرف للمقيد في المطلق في مرحلة الاستعمال كما لا يخفى - فيصح التمسك به في غير مورد التقييد ، في إثبات كون المراد الواقعي غير المقيد مطلقا.

واما على الثاني : فينثلم إطلاق المطلق ، لأن ورود التقييد يكشف عن ان

ص: 290


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الآمر لم يكن في مقام بيان تمام مراده الجدي وإلاّ لبينه بالقيد حينذاك. فينتفي أساس مقدمات الحكمة ، وهو كون المتكلم في مقام البيان ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في غير مورد التقييد ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في المطلق المصححة للتمسك بإطلاقه.

وقد اختار صاحب الكفاية الأول ، وان المقصود كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي ليكون حجة وقانونا على المكلف - لكشفه عن المراد الجدي ببناء العقلاء على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي - حتى تقوم حجة أقوى على تقييد المراد الجدي فيؤخذ بها ولا ينثلم بها إطلاق المطلق.

واستدل على ذلك بتمسك أهل العرف بالمطلقات في غير مورد التقييد في نفى مشكوك القيدية. وهذا يكشف عن ان اعتبارهم للبيان بالنحو الأول لا الثاني ، لأنه على النحو الثاني لا يصح التمسك بالمطلق لانهدام أساس مقدماته - كما عرفت - فتمسك أهل العرف دليل إنّي على إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي لا الواقعي (1).

وقد أنكر المحقق النائيني قدس سره (2) وجود نحوين للإرادة ، وانه ليس للاستعمال - الّذي حقيقته إلقاء المعنى باللفظ ولحاظها ثانية في المعنى - إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، بل المستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، وإلاّ كان هازلا.

وتتضح عدم وجاهة ما أفاده بما حقق من ان للمتكلم الملتفت إرادتين :

أحدهما : إرادة تفهيم المعنى باللفظ وإحضار المعنى بواسطة اللفظ.

الثانية : إرادته نفس المعنى ، بمعنى ان المعنى الّذي قصد تفهيمه كان مرادا له

ص: 291


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- تعرض إلى ذلك في مبحث العام والخاصّ في البحث عن مجازية العام المخصص. - راجع التقرير الكاظمي -.

واقعا وانه لم يكن في التفهيم في مقام الاستهزاء ونحوه.

فالنحو الأول هو المقصود بالإرادة الاستعمالية والمراد الاستعمالي. والنحو الثاني هو المقصود بالإرادة الجدية الواقعية والمراد الواقعي.

والكلام فيما نحن فيه : ان الشرط في التمسك بالإطلاق هل هو كون المتكلم في مقام بيان مراده الاستعمالي التفهيمي ، أو كونه في مقام بيان مراده الواقعي؟

فما أفاده من عدم التفكيك بين الإرادتين غير وجيه (1).

نعم ، يمكن التنظر فيما أشار إليه صاحب الكفاية (2) من الثمرة التي بنى عليها استدلاله على ما ذهب إليه بما أفاده المحقق المزبور - وتعرض له غيره من الأعاظم - من إنكار انثلام الإطلاق بعد ورود التقييد بالنسبة إلى غير مورده على القول الثاني.

وذلك ببيان : ان ما ذكره صاحب الكفاية انما يتم فيما لو كانت المقدمة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد بلحاظ التمام بنحو العموم المجموعي ، بمعنى ان تكون هناك إرادة واحدة تتعلق ببيان امر واحد وهو تمام المراد. وذلك لأن ورود التقييد يكشف عن عدم كونه في مقام بيان التمام بنحو المجموع ، فينثلم الإطلاق لانتفاء

ص: 292


1- وقد أنكر المحقق النائيني التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، ببيان : ان المقصود بالإرادة الاستعمالية إذا كان إرادة إيجاد المعنى باللفظ ، فهي عين الإرادة الجدية وليست معنى آخر غيرها ، لتقوم الاستعمال بذلك. وان كان المقصود منها الإرادة الهزلية المنفكة عن إرادة الإيجاد - وبعبارة أخرى : كان المقصود هو الإرادة لا بداعي الجد - فذلك مما لا يتصور له معنى معقول في الإرادة الاستعمالية. ولا يخفى ان هذا الإنكار بهذا البيان ناشئ عن التعبير بالجد في قبال الإرادة الاستعمالية ، وإلاّ فهو لا يرتبط بواقع الدعوى ، إذ لا إشكال في وجود إرادتين في الاستعمال ، إرادة التفهيم وهي الإرادة الاستعمالية ، وإرادة الحكاية من الخارج بالمفهم وهي الإرادة الواقعية ، والانفكاك بينهما بديهي الحصول في بعض الاستعمالات كالاستعمالات الكنائية. فالمراد بالإرادة الجدية التي يقال انها غير الإرادة الاستعمالية ، وانها مجرى المقدمات ، أم الاستعمالية وهي الإرادة الواقعية. لا الإرادة بداعي الجد ، كي يقال ان الإرادة الاستعمالية لا تنقل عن الجد وإلاّ كان المتكلم هازلا لا مستعملا ، فالإنكار ناشئ عن التعبير فقط دون واقع المطلب.
2- أفاد - دام ظله - في مباحث العموم ما يرد هذه التنظّر.

أساس المقدمات المصححة للتمسك به في مورد الشك.

ولكن لا وجه للالتزام بذلك ، بل المقدمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده بالنسبة إلى كل خصوصية وقيد ، فالتمام ملحوظ بنحو العموم الاستغراقي ، بمعنى ان البيان متعلق بكل خصوصية ويضاعف إلى كل قيد ويلحظ فيه كل وصف بنحو الانفراد ، فورود التقييد انما يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالإضافة إلى هذا القيد بالخصوص دون غيره ، فيبقى الإطلاق سالما بالنسبة إلى باقي القيود ويصح التمسك به في مورد الشك لتمامية مقدماته بالنسبة إليها.

نعم ، ينثلم إطلاق اللفظ - على هذا القول - بالنسبة إلى مورد القيد ، لعدم تمامية المقدمات بالنسبة إليه. بخلافه على القول الآخر لتماميتها بالنسبة إلى مورد القيد أيضا ، كما عرفت. ولكنه غير ضائر في ما نحن بصدده من نفي الثمرة المذكورة.

فالتمسك بالإطلاق في غير مورد القيد بعد ورود المقيد صحيح على البناءين.

ومن هنا يظهر عدم صحة الاستدلال ببناء العرف على التمسك بالإطلاق بعد التقييد على القول الأول - وهو إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي - لعدم كشف ذلك - إنّا - عن الالتزام بهذا القول بعد ان عرفت صحة التمسك به على القولين.

ولكن قول صاحب الكفاية هو المتعين ، ولا بد من تعيين موضوع النزاع قبل تحرير الّذي ينبغي ان يقال في الاستدلال عليه ، فنقول : إن انفكاك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا إشكال فيه ، سواء في الإخباريات أو الإنشائيات.

فالأوّل : نظير الاستعمالات الكنائية ، فان المراد تفهيمه باللفظ هو اللازم ، ولكن المقصود بالأخبار هو الملزوم من دون أي قصد للاخبار عن اللازم - إذ قد يكون كذبا -.

والثاني : كإنشاء الأمر لا بداعي البعث ، فان المراد تفهيمه هو الطلب والأمر ولكن لم يكن ذلك بقصد التحريك والبعث نحو المأمور به ، بل كان بداعي آخر

ص: 293

كالامتحان.

فالمراد الجدي الواقعي الّذي هو الاخبار والكشف عن الواقع في الإخباريات والتحريك والبعث ونحوهما - بحسب المنشأ - في الإنشائيات ينفك عن المراد الاستعمالي الّذي هو تفهيم هذا المعنى الخاصّ باللفظ. وإذا ثبت إمكان انفكاكها عنها ، فان قلنا ..

بان المراد الجدي الواقعي نحو ثبوت وجود مماثل لوجود المراد الاستعمالي ، بحيث يكون الكلام كاشفا عن المرادين بنحو الطولية ، بمعنى انه ينتقل من المراد الاستعمالي وهو التفهيم إلى المراد الجدي وهو الاخبار أو البعث - كما يتصور هذا على القول بان الإنشاء إبراز لأمر نفسي موجود في النّفس كما لا يخفى - كان للنزاع في ان المراد من كونه في مقام البيان - هل كونه في مقام بيان المراد الواقعي أو المراد الاستعمالي؟ - مجال واسع.

أما لو كان المراد الواقعي متفرعا في الوجود على المراد الاستعمالي ، بمعنى انه يتعلق بما قصد تفهيمه باللفظ وانه لا وجود له في غير عالم الكلام ، لم يبق للنزاع مجال ، وذلك لأنه بعد ان كان المراد الواقعي قد تعلق بما هو المقصود بالتفهيم فلا معنى لإجراء مقدمات الحكمة فيه لإحرازه من دون إحراز المقصود تفهيمه المتعلق هو به ، إذ لا فائدة في ذلك بدون إحراز المراد بالتفهيم ، فيتعين ان يكون إجراؤها في المراد الاستعمالي ، ويثبت كون المراد الجدي على طبقه ببناء العقلاء بلا حاجة لمقدمات الحكمة.

والصحيح في المراد الواقعي هو الثاني كما عرفت في تصويره ، فانه متفرع في وجوده على المراد الاستعمالي ويتعلق بما قصد تفهيمه ، لا انه ذو وجود مستقل في النّفس يكشف عنه اللفظ بواسطة المراد الاستعمالي ، لما عرفت من انه من قبيل الداعي للتفهيم ، والداعي - بوجوده الداعوي لا الحقيقي الخارجي - متفرع عما يدعو إليه.

ص: 294

إذا تم ما عرفت ، فاعلم : ان من يلتزم بأن ظهور المطلق في الإطلاق يتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان المراد الجدي - كالمحقق النائيني - يرى ان ورود المقيد كاشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالنسبة إلى هذا القيد ، فينثلم الإطلاق في هذا المورد كما عرفت ، فلا يحصل التعارض والتنافي بين الدليل المقيد والدليل المطلق في مورد القيد ، لعدم شمول المطلق لهذا المورد بعد ورود التقييد ، لأنه يكون كالتقييد المتصل الموجب لقلب الظهور. فتقدم المقيد على المطلق على هذا القول واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

واما على القول بأن المراد من كون المتكلم في مقام البيان كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي ، فيشكل الأمر ، لأن ظهور المطلق في الإطلاق يبقى ولا ينثلم بعد ورود المقيد لنظر المقيد إلى المراد الجدي لا الاستعمالي ، فيكون كل من المطلق والمقيد كاشفا عن المراد الجدي في مورد القيد فيحصل التنافي بينهما لاختلاف مفادتيهما. فان مفاد المطلق : ان عدم دخل الخصوصية مراد جدا. ومفاد المقيد : ان دخل الخصوصية مراد واقعا. والالتزام بتعلق الإرادة بكلا الأمرين لا مجال له. وإذا ثبت التنافي بينهما مفادا فأيهما المقدم؟ وبأي وجه؟

ولا بد من التكلم في مقامين :

الأول : في ان استعمال المطلق في الإطلاق بلا ان يكون على طبقه مراد جدي وواقعي ، هل يكون استعمالا لغويا أو لا يكون كذلك بل يكون استعمالا عقلائيا عرفيا؟

الثاني : في وجه تقديم المقيد على المطلق بعد تحقق عدم لغوية استعمال المطلق في الإطلاق بلا إرادة واقعية على طبقه.

اما المقام الأول : فتحقيق الحال فيه : ان الاستعمال المذكور لا يكون لغويا بأحد وجهين :

الأول : ما أفاده صاحب الكفاية من : ان استعمال العام في العموم والمطلق في

ص: 295

الإطلاق يكون حجة وقاعدة للمكلف حتى تقوم حجة أقوى على خلافه ، فاستعمال العام في الاستغراق وان لم يكن بإرادة جدية للعموم إلاّ انه لا يكون بذلك لغوا لكونه مستتبعا لتحقق الحجية بالنسبة إلى مورد القيد ، وهو كاف في رفع اللغوية ، لأن جعل الحجية بنفسه أثر عقلائي يرفع اللغوية (1).

الثاني : ما أفاده المحقق الأصفهاني من وجود الإرادة الجدية على طبق العموم حين الاستعمال إلاّ انها محدودة لورود التخصيص ، فهي في غير مورد التخصيص مستمرة لاقتضاء مصلحتها ذلك ، وامّا فيه فمرتفعة بورود التخصيص ، فيكون ورود التخصيص بالنسبة إلى الإرادة الواقعية من قبيل الناسخ (2).

وليس المهم في المقام تحقيق أي الوجهين ، فانه متروك إلى محله ، بل المهم هو الإشارة إلى وجود ما يرفع اللغوية المتوهمة في الاستعمال.

واما المقام الثاني : فتحقيق الحال فيه : ان المطلق والمقيد تارة يكونان متفقين في الإثبات والنفي ك- : « أكرم العالم » و « أكرم العالم العادل » أو : « لا تكرم الجاهل » و : « لا تكرم الجاهل الفاسق ». وأخرى يكونان مختلفين نفيا وإثباتا نظير : « أكرم العالم » و : « لا تكرم العالم الفاسق ».

فأفاد صاحب الكفاية : انه مع الاختلاف نفيا وإثباتا ، فلا إشكال في تقديم المقيد على المطلق.

واما مع الاتفاق في النفي والإثبات ، فيدور الأمر بين التصرف في المطلق بحمله على المقيد والتصرف في المقيد بحمله على بيان أفضل الافراد. إلاّ انه بعد ان ذكر هذا اختار تقديم المقيد وحمل المطلق عليه لأنه أظهر في التعيين - بمعنى دخالة الخصوصية في الحكم لظهور القيد في كونه احترازيا ، لا التعيين مقابل التخيير حتى يقال انه يستفاد من إطلاق القيد لا وضعه وظهوره. فيدور الأمر بين الإطلاقين فلا

ص: 296


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /218- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 231 - الطبعة الأولى.

مرجح فيه - من المطلق في عدمه ونفي دخالة الخصوصية ، فيقدم عليه ببناء العرف (1).

إلاّ ان ما أفاده من أظهرية المقيد يشكل الالتزام به بناء على الالتزام بما ذهب إليه قدس سره من كون المقدمة هي الكون في مقام بيان المراد الاستعمالي.

وذلك لأن مقدمات الحكمة الجارية في تشخيص المراد الاستعمالي قطعية المفاد ، لأنها عقلية ، فجريانها يوجب القطع بإرادة الإطلاق من اللفظ. فظهور المطلق في الإطلاق قطعي بواسطة مقدمات الحكمة ، فهو نصّ في الإطلاق لعدم احتمال خلافه من الكلام.

ولا يخفى ان الأظهرية والظاهرية (2) انما هي في عالم الاستعمال والمراد من اللفظ. فان الكلام ان كان يدل على المعنى بحيث لا يحتمل خلافه منه كان نصا فيه.

وان كان يدل عليه مع احتمال خلافه فهو ظاهر فيه ، فقد يكون احتمال الخلاف ضعيفا فهو أظهر ، والآخر الّذي يكون احتمال الخلاف فيه أقوى يكون ظاهرا ، ومع نصية المطلق في الإطلاق لا وجه لدعوى أظهرية المقيد في التعيين منه في عدم التعيين.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره ان المقيد المنفصل يقدم على المطلق بالقرينية ، إذ ضابط القرينية في حال الانفصال هو ان اللفظ يكون بنحو لو كان متصلا بالكلام لأوجب التصرف في ظهوره ، والقدر المتيقن منه هو الوصف والحال ونحوهما من الفضلات في الكلام. والمقيد المنفصل بهذه المثابة ، فانه لو كان متصلا لقلب ظهور المطلق وتصرف فيه. إلاّ ان الفرق بين المقيد المتصل والمقيد المنفصل ان الأول يوجب التصرف في ظهور الكلام الكاشف عن المراد الجدي. والثاني انما

ص: 297


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /250- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- دفع لما قد يتوهم من انه يمكن ان يكون المراد بالأظهرية الأظهرية في مقام الكشف عن المراد الجدّي. كما لا يخفى.

يتصرف في المراد الجدي دون المراد الاستعمالي ، فالمطلق بعد وروده يبقى على ظهوره الإطلاقي (1).

وما أفاده قدس سره محل نظر من جهتين :

الجهة الأولى : ما ذكره من انّ تقدم المقيد على المطلق بالقرينية ، ووجه الإشكال فيه : ان القرينة لها اصطلاحان : قرينة بالمعنى الأعم. وقرينة بالمعنى الأخص.

اما القرينة بالمعنى الأخص ، فهي على نحوين :

الأول : ما يكون مقترنا بالكلام بحيث يوجب التصرف في موضوع الحجية ، وهو ظهور الكلام ، نظير : « يرمي » في قولك : « رأيت أسدا يرمي » ، فانها توجب - ببناء العرف - قلب ظهور لفظ : « الأسد » في : « الحيوان المفترس » إلى ظهوره في « الرّجل الشجاع » ، لأن الرماية بالنبل من شئون الرّجل لا الحيوان المفترس.

وملاك التقديم واضح : فانه بعد ان كان الالتزام بكلا الظهورين غير ممكن للمنافاة ، فيدور الأمر بين التصرف في ظهور لفظ : « الأسد » في معناه الحقيقي وظهور لفظ : « يرمي » في معناه.

والأول هو المتعين بعد ان سيق لفظ « يرمي » للقرينية ، فان الالتزام بظهوره يوجب قلب ظهور لفظ : « الأسد » ، فيرتفع التنافي ، بخلاف الالتزام بظهور : « الأسد » ، فانه لا يوجب التصرف في ظهور : « يرمي » لعدم كونه قرينة عليه ، فيحصل التنافي ولا ترتفع غائلته.

الثاني : ما يكون منفصلا عن الكلام إلاّ انه ناظر بدلالته اللفظية إلى المراد الجدي من الدليل الآخر ، فيوجب التصرف فيه تضييقا وتوسعة ، وهذا كالدليل الحاكم بالنسبة إلى المحكوم.

وملاك تقديمه واضح أيضا ، لأن بناء العقلاء على مطابقة المراد الجدي للمراد

ص: 298


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 535 - الطبعة الأولى.

الاستعمالي فيما لم يقم المتكلم الدليل على ان مراده غير المقدار المفهم. اما مع إقامته الدليل على ذلك ، فلا وجه لبنائهم على كون مراده الواقعي ما فهمه بالكلام.

ويجمع هذين النحوين كونهما مقدمين على ذي القرينة مطلقا ولو كانا أضعف ظهورا منه كما لا تلاحظ بينهما النسبة.

واما القرينة بالمعنى الأعم ، فهي ما تشمل الأظهر بالنسبة إلى الظاهر ، ونحوه مما كان أحد الدليلين ناظرا إلى المراد الجدي من الدليل الآخر ، ولكن لا بالدلالة العرفية بل بالدلالة الالتزامية العقلية ، نظير المخصص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق ، فانه يقال أيضا بان تقديم الخاصّ والمقيد على العام والمطلق بالقرينية ، إلاّ انها ليست كالقرينية السابقة ولذا يلاحظ فيها الأظهرية وتراعى فيها النسبة ، لعدم وجود ملاك التقدم المطلق فيها كما في تلك.

فالمقيد المنفصل بالنسبة إلى المطلق ليس كالقرينة - بالمعنى الأخص - بالنسبة إلى ذي القرينة ، إذ لا يوجب التصرف في الظهور لانفصاله عن الكلام وانعقاد الظهور قبل وروده. كما انه ليس ناظرا بدلالته اللفظية إلى المطلق ، كالحاكم بالنسبة إلى المحكوم ، بل ناظرا إليه بالالتزام العقلي باعتبار حكم العقل بعدم إمكان اجتماع الحكمين المطلق والمقيد. فالتزامه قدس سره بتقدمه على المطلق بالقرينية بالمعنى الأخص بحيث لا يلاحظ فيه الأظهرية ولا يراعى فيه النسبة كالمقيد المتصل ، مما لا يعرف له وجه أصلا.

الجهة الثانية : ما ذكره من بقاء ظهور المطلق في الإطلاق على حاله بعد ورود المقيد المنفصل ، وانما التصرف في المراد الجدي.

ووجه الإشكال فيه : ما عرفت من انه بعد البناء على جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الجدي لا المراد الاستعمالي يكون ورود المقيد مخلا بإطلاق المطلق بالنسبة إلى هذا القيد ، لأنه يكشف عن عدم كونه في مقام البيان الّذي هو أساس انعقاد الإطلاق ، فيقدم المقيد عليه بلا كلام لعدم الإطلاق المنافي له.

ص: 299

وهذا الالتزام لا يجتمع مع الالتزام ببقاء المطلق على إطلاقه. وقد عرفت التزامه قدس سره بكلا الأمرين. وهو ما لا يمكن تصور وجهه.

وحيث عرفت انه لم نلتزم بما التزم به قدس سره من جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الجدي ، بل التزمنا بما التزم به صاحب الكفاية من جريانها في المراد الاستعمالي.

فلا محيص حينئذ من الالتزام ببقاء ظهور المطلق على إطلاقه بعد ورود المقيد ، إلاّ انه من الواضح تقديم المقيد على المطلق في الحجية وتضييق حجيته بالنسبة إلى المراد الجدي ، لأقوائية ظهوره في معناه من ظهور المطلق فيه.

واما ما تقدم من الإشكال على صاحب الكفاية من : ان ظهور المطلق في الإطلاق بمقدمات عقلية فتكون دلالته عليه قطعية.

فيدفع : بان المقدمات وان كانت عقلية لكنها لا توجب القطع ، لأنها غير قطعية بمجموعها ، لأن كونه في مقام البيان انما يرجع إلى ظهور حاله في ذلك ، وظهور الحال لا يوجب القطع بما يتعلق به ويترتب عليه ، فنتيجة المقدمات غير قطعية لأنها تتبع أخسها ، فكل منهما ظاهر في معناه - وإلى ذلك يرجع تعبير القوم بالظهور الإطلاقي - إلاّ ان الظهور المستفاد من الوضع أقوى من الظهور المستفاد من ظاهر الحال ، فيكون ظهور المقيد أقوى من ظهور المطلق ، لأن الأول لفظي والأخير بظاهر الحال.

وبناء العرف والعقلاء على تقييد حجية الظاهر في الكشف عن المراد الجدي بما إذا لم يقم دليل أظهر منه ، فان الظاهر يؤخر عن مقام الحجية ويقدم الأظهر ، فلا يكون حينئذ بين المقيد والمطلق تدافع في مقام الحجية عرفا ، لأن المقيد هو المقدّم ، فلا تعارض بينهما.

هذا كله في المقيد والمطلق.

اما العام والخاصّ ، فتحقيق الكلام فيهما ، انه قد وقع الخلاف في ان دلالة العام

ص: 300

على العموم ، هل هي بالوضع أو لا ، بحيث يحتاج في العام إلى إجراء مقدمات الحكمة في مدخول الأداة؟. ثم القائلون بالوضع يختلفون في أن المخصص المنفصل هل يوجب التصرف في ظهور العام في العموم - بتقريب : ان لفظ العموم موضوع لإرادة استيعاب جميع الافراد ما لم تقم قرينة متصلة أو منفصلة على العدم - أو لا ، بل يبقى العام على ظهوره العمومي ، ويكون المخصص ناظرا إلى المراد الجدي.؟

وقد عرفت أيضا الكلام في مقدمات الحكمة ، وانها تجري في تعيين المراد الجدي أو المراد الاستعمالي ، وهو يجري أيضا فيما نحن فيه إذا قلنا بالاحتياج إلى مقدمات الحكمة في المدخول في استفادة العموم.

فالاحتمالات أربعة ، والخاصّ مقدم على العام على جميعها.

أما على القول بأن اللفظ موضوع للعموم والخاصّ المنفصل موجب للتصرف في ظهوره ، والقول بعدم الوضع وجريان مقدمات الحكمة في المراد الجدي ، فواضح ، لأن ورود الخاصّ موجب لانهدام ظهور العام في العموم فلا تنافي.

وأما على القولين الآخرين ، فالعام وان كان يبقى على ظهوره العمومي ، إلاّ ان الخاصّ مقدم عليه لأقوائية ظهوره - وجه الأظهرية : ان دلالة الخاصّ على الفرد المخصص دلالة مطابقية ، بخلاف دلالة العام عليه فانها دلالة تضمنية ، لوضوح ان العام ليس بموضوع لكل فرد فرد ، بل لمجموع الافراد.

والدلالة المطابقية أقوى من التضمنية وان كانتا لفظيتين ، فلاحظ - وقد عرفت تقييد حجية الظاهر عرفا بما إذا لم يكن دليل أظهر منه.

المورد الخامس : في تقديم النص أو الأظهر على الظاهر. والكلام فيه يتضح مما سبق من بيان ان حجية الظاهر مقيدة بما إذا لم يقم ما هو أقوى منه ظهورا ، فورود النص أو الأظهر يوجب خروج الظاهر عن موضوع الحجية فلا يكون بينهما تدافع في هذا المقام فلا تعارض.

وبذلك اتضح خروج موارد المقيد والمطلق والخاصّ والعام والظاهر والأظهر

ص: 301

عن مفهوم التعارض بالمعنى الّذي اخترناه ، لعدم التدافع بينهما في مقام الحجية والدليليّة بحسب بناء العرف والعقلاء. كما عرفت - قبل الآن - خروج موردي الحكومة والورود عن تعريفه. فلا تجري فيها جميعا أحكام التعارض فتدبر.

تتمة : فيما يتعلق بالخاص والعام والمقيد والمطلق

قد عرفت ان الخاصّ بعد وروده يدفع العام عن موضوع الحجية ، لتقييد حجية العام بما إذا لم يقم دليل أقوى منه على خلافه كالخاص. وهكذا الحال في المطلق بالنسبة إلى ورود المقيد.

فعليه ..

ان كان الخاصّ أو المقيد قطعي الورود ، كان موجبا لخروج العام أو المطلق عن الحجية بالتخصص ، لانتفاء موضوع الحجية تكوينا وحقيقة ، لأن موضوعها هو العام الّذي لم يرد دليل على خلافه أقوى ظهورا منه ، وقد ورد قطعا على خلافه في الفرض ، فلا حجية للعام بالتخصص.

وان كان ظني الورود ، كان دليل حجيته المتكفل للبناء على وروده والعمل به حاكما على دليل حجية العام أو المطلق ، لأنه ينفي القيد تعبدا وتنزيلا لا تكوينا فيكون حاكما.

وعليه ، فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني من اختصاص مورد التخصص بما إذا كان الخاصّ قطعي الدلالة والسند. وفي غيره مما كان الخاصّ ظنيهما أو ظني أحدهما يكون دليله مقدما على دليل العام بالحكومة.

بتقريب : انه ليس المأخوذ في موضوع الحجية عدم ورود الخاصّ كي تكون قطعية الورود موجبة للتخصص ، بل موضوع الحجية مقيد بالشك ، فمتى ارتفع الشك حقيقة عند ورود الخاصّ خرج العام عنها بالتخصص ، وذلك كما إذا كان الخاصّ قطعيهما ومتى لم يرتفع الشك حقيقة ، بل بالتعبد والتنزيل كما في غير هذه الصورة - لأنه مع ظنية أحدهما تكون النتيجة ظنية - كان دليل الخاصّ حاكما على أصالة

ص: 302

العموم المتكفلة لحجية العام ، لتكفله لنفي الموضوع تنزيلا.

وذلك لأن الأساس الّذي بنى عليه اختياره - وهو تقييد أصالة العموم بحال الشك - لا صحة له ، لأن أصالة العموم من الأمارات ، لأنها من الأصول اللفظية العقلائية وقد تحقق عند الكل ان الشك لم يؤخذ في موضوع الأمارة قيدا لاستلزامه كون نسبتها إلى الاستصحاب نسبة التحاكم لا الحكومة - كما عرفت بما لا مزيد عليه - مضافا إلى انه لو كانت أصالة العموم فيما نحن فيه قد قيد موضوعها بحال الشك ، لكان بين دليلي العام والخاصّ تحاكم لا حكومة ، لأن استفادة الخاصّ من الدليل الخاصّ كان أيضا بأصالة الظهور. فحجية الخاصّ مقيدة بحال الشك أيضا ، فيكون دليل العام رافعا له تعبدا ، فكل من دليل العام ودليل الخاصّ يرفع موضوع الآخر وهذا هو معنى التحاكم.

فالوجه الوجيه ما ذكرناه من اختصاص حجية العام بعدم ورود الأقوى كالخاص ، ويتفرع عليه ما عرفت من كون المناط في الحكومة والتخصص ظنية الورود وقطعيته.

وقد يتساءل : بأنه إذا كان تقديم المخصص على العام بالحكومة أو بالتخصص ، فما هو الوجه في اعتبار الأظهرية وملاحظة النسبة بعد ان تقرر ان الحاكم يتقدم على المحكوم بأي نحو كان ظهورا ونسبة بالإضافة إلى المحكوم؟. وما هو الوجه في جعل التخصيص منفردا عن الحكومة بحثا وأحكاما؟

والجواب عن هذا التساؤل يتضح من مطاوي ما ذكرناه ، فان الحاكم ليس هو نفس الخاصّ ، حتى يتأتى فيه ما ذكر للحكومة من أحكام ، وانما الحاكم دليله الّذي يتكفل التعبد به والبناء عليه باعتبار انه بذلك يتكفل رفع موضوع الحجية ، لأنه مقيد بعدم ورود الأقوى ظهورا.

ولأجل ذلك لا بد من اعتبار أظهرية الخاصّ كي تتحقق حكومة دليل

ص: 303

اعتباره ، كما انه لا بد من ملاحظة النسبة ، لانتفاء الأظهرية في صورة كون نسبتهما العموم من وجه ، فلا يكون دليل اعتباره حاكما ، لأنه لا يتكفل ورود الأقوى ظهورا.

وبالجملة : نفس الدليل الخاصّ ليس من افراد الحاكم ، وانما الحاكم دليل اعتباره وأحكام الحكومة تجري فيه دون نفس الخاصّ ، بل لا بد في الخاصّ من اعتبار الأظهرية ليكون دليله متكفلا لنفي موضوع دليل العام فيكون حاكما.

في الفرق بين التعارض والتزاحم

اخرج الأصوليون بعض موارد تنافي الحكمين الساري إلى الدليلين عن أحكام التعارض ورتبوا لها أحكاما خاصة ، واصطلحوا عليها بموارد التزاحم. فما هو ضابط هذه الموارد ، ولم لا تجري أحكام التعارض فيها؟

ذهب المحقق الخراسانيّ قدس سره إلى : انه متى ما ثبت وجود الملاك لكلا الحكمين فالمورد من موارد التزاحم. ومتى لم يثبت وجود الملاكين كان المورد من موارد التعارض. فالتزاحم عنده هو التنافي في فرض ثبوت الملاك. والتعارض هو التنافي في فرض عدم ثبوته (1).

وذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى : اختلاف موردي التزاحم والتعارض ، فكل منهما له مقام يستقل عن مقام الآخر وينفرد عنه.

وذلك ، فان التنافي بينهما ..

ان كان يرجع إلى التنافي في مرحلة الجعل والتشريع ، بحيث لا يمكن جعل كلا الحكمين. فهو التعارض - كالتنافي بين وجوب الشيء وحرمته ، فانه يستحيل جعل كلا الحكمين من المولى لتضادهما -.

وان كان يرجع إلى التنافي في عالم الامتثال ومرحلة فعلية الحكمين ، بأن كان

ص: 304


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /299- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

جعل كلا الحكمين في نفسه وبنحو القضية الحقيقة ممكنا للمولى ، فلا تنافي بينهما في عالم الجعل ، وانما التنافي بينهما في مرحلة فعليتهما ، باعتبار عدم إمكان امتثالهما معا لعدم تحقق موضوعيهما معا.

فهو التزاحم - كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الثابتين بدليليهما في زمان واحد - فان جعل كلا الحكمين لا محذور فيه ، لأن جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية وهو لا ينظر إلى ثبوت الموضوع وعدمه ، بل هو ثابت ولو لم يكن الموضوع ثابتا وموجودا ، فاجتماع الغريقين مع عدم القدرة الا على إنقاذ أحدهما لا يوجب التنافي بين الحكمين في عالم الجعل ، بل في عالم الفعلية ، لأجل التردد في صرف القدرة في هذا الطرف فيكون حكمه فعليا دون الآخر أو بالعكس.

ولا يخفى ان هذا - أعني : تعيين أحدهما - ليس من شأن المولى والجاعل ، إذ لا يرتبط بمولويته وبجعله ، بل من وظائف غيره ، وهو لا يضرّ بنفس الجعل ، لأنه ينفي موضوع الحكم الآخر ، لا انه ينفي الحكم عن موضوعه ، فلاحظ (1).

والمورد الّذي تظهر فيه ثمرة الخلاف بين المحققين ( قدست أسرارهما ) هو مورد توارد الحكمين المتنافيين على موضوع واحد ، بحيث لا يكون التنافي ناشئا من جهة العجز عن الجمع بين الامتثالين مع ثبوت الملاك لكل من الحكمين ، كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على الاتحاد والانحصار ، فانها مشمولة لدليل : « صل » ولدليل : « لا تغصب » فان مثل هذا المورد من موارد التزاحم عند المحقق الخراسانيّ لوجود الملاك - كما يلتزم به - ومن موارد التعارض عند المحقق النائيني ، لرجوع التنافي إلى عالم الجعل لا إلى مرحلة الفعلية ، لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

وفي غير هذا المورد لا تظهر الثمرة بين القولين وان اختلفا مفادا ، لثبوت الملاك في مثل مثال الإنقاذ ، مما تعدد فيه موضوع الحكمين.

ص: 305


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 704 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 270 - الطبعة الأولى.

وعلى كل ، فيقع الكلام فيما أفاده المحقق النائيني قدس سره من تفسير التزاحم بالتنافي في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل ، وان تعيين الوظيفة ليس براجع إلى المولى الجاعل بل إلى غيره.

وتحقيق الحال : ان ما ذكره لو تمّ متين جدا ، لأنه يوجب انحياز موارد التعارض عن التزاحم بالكلية ، لأن التعارض الّذي يهمنا البحث عنه وعن الفرق بينه وبين التزاحم هو التنافي بين الأدلة - كما عرفت - سواء أكان بلحاظ الدليليّة أو الدلالة.

وهذا المعنى ليس بثابت في مورد التزاحم على هذا الاختيار ، لأن التنافي في مرحلة الفعلية ان تم انفصاله عن عالم التشريع والجعل - كما هو الفرض - لم يكن مرتبطا بالأدلة كما هو ظاهر جدا ويكون أجنبيا عن التعارض بمفهومه العرفي الّذي ذكرناه ، وبه يكون محط الأحكام. إلاّ انّ تماميته والتسليم بأن مثل هذا التنافي لا يسري إلى مرحلة الجعل محل نظر.

بيان ذلك : ان المأخوذ في موضوع التكليف في مثل المثال الّذي استشهد به على كون التنافي في مرحلة الفعلية دون الجعل ، اما ان يكون هو القدرة في حد نفسها - مع قطع النّظر عن المزاحمة - أو يكون المأخوذ هو القدرة الفعلية ولو مع المزاحمة. فان كان المأخوذ هو القدرة الفعلية ، فلا تحقق لها فيما نحن فيه في كل من المتعلقين ، فيكون المورد من موارد عدم وجود الموضوع ، فلا معنى لفرض التزاحم.

وان كان المأخوذ هو القدرة في حد نفسها - كما هو الظاهر من فرض التزاحم ، بل بدونه - فهي متحققة بالنسبة إلى كل من المتعلقين ، لأن كلا من الإنقاذين مقدور بنفسه ومع قطع النّظر عن مزاحمه ، فيكون كلا منهما فعلي الحكم لتحقق شرطه ، فيحصل التدافع بين الحكمين الفعليين ، إذ لا يمكن امتثالهما معا لعدم القدرة على كلا الإنقاذين بنحو الجمع ، إذ الموجود قدرة واحدة يتردد صرفها في أحد الفردين ، وبذلك يلغو جعل كلا الحكمين معا - كما يلغو جعل الحكم على غير

ص: 306

المقدور - ، لعدم فرض الداعوية والتحريك في كليهما معا لعدم القدرة على متعلقيهما جمعا ، فيسري التنافي إلى مرحلة الجعل ، إذ يتردد المجعول بينهما بعد ان لم يمكن جعلهما معا ، ومن التنافي في مرحلة الجعل يسرى التنافي إلى الدليل المتكفل لبيان الجعل. كما اعترف بذلك قدس سره ، فانه ذكر : ان ملاك التخيير في صورة التنافي في مرحلة الجعل هو تقييد كل من الإطلاقين للآخر ، وظاهر ان الإطلاق ليس امرا غير الدليل.

وبذلك لا يظهر انحياز مفهوم التعارض عن موارد التزاحم.

والّذي ينبغي ان يقال : ان لفظ التزاحم لم يرد في آية ولا رواية ، وانما هو لفظ اصطلح به على بعض الموارد التي تشترك في جملة أحكام جعلها الأصوليون لها - كما أشرنا إليه في صدر الفصل - فلا بد من معرفة حد التزاحم من معرفة مقدار تلك الآثار.

والّذي نراه ان هذه الأحكام انما تجري في صورة تنافي الحكمين من جهة عجز المكلف وعدم قدرته على الإتيان بمتعلقيهما ، لا تنافيهما مطلقا ولو من حيث أنفسهما.

فالكلام يقع في جهات ثلاث :

الأولى : في بيان جريان جميع هذه الأحكام في هذه الصورة ، أعني صورة كون التنافي ناشئا عن العجز خاصة.

الثانية : في بيان عدم جريان أحكام التعارض التعبدية في هذه الصورة ، إذ لقائل ان يقول : انه بعد فرض ان هذا النحو من التنافي يسري إلى الدليلين فيوجب تعارضهما ، فما هو الوجه في العدول عن إجراء أحكام التعارض الثابتة بالأدلة الشرعية في هذه الصورة إلى إجراء أحكام أخرى لم يرد بها تشريع؟

الثالثة : في بيان ان موضوع الخلاف بين المحققين - الخراسانيّ والنائيني - هل يندرج تحت أحد العنوانين - التزاحم والتعارض - أم له حكم آخر؟ ومنه يظهر

ص: 307

عدم جريان أحكام التزاحم بمجموعها في غير مورد كون التنافي ناشئا عن العجز خاصة.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها : ان أحكام باب التزاحم هو ..

التخيير في صورة تساوي المتعلقين في المزايا ، اما بملاك الترتب الّذي محصله تقييد امر كل منهما بترك الآخر ، أو بحكم العقل بلزوم الإتيان بأحدهما للمحافظة على ملاكات الأحكام مهما أمكن - على القول بعدم الترتب - أو الترجيح في صورة اشتمال أحدهما على مزية من أهمية الملاك وتقييده بالقدرة العقلية مع تقييد الآخر بالقدرة الشرعية ، وعدم وجود بدل له يحصّل الملاك مع وجوده للآخر ، فان ذا المزية يقدم بحكم العقل.

ومن الظاهر جدا ان هذه الأحكام من تخيير وترجيح انما تثبت في صورة العجز عن الجمع بين الامتثالين ، إذ مع إمكانه لا تصل النوبة إليها ، بل لا بد من الإتيان بكلا المتعلقين. كما انها لا تجري بجملتها في غير صورة التنافي الناشئ عن خصوص العجز ، كما يظهر في الجهة الثالثة من جهات الكلام.

واما الجهة الثانية : فتحقيق الكلام فيها : ان الحكمين المتنافيين ، اما ان يكونا مدلولين لدليل واحد ، ك- : « أنقذ كل غريق » المنحل إلى أحكام متعددة متزاحمة في مورد الاجتماع وعدم القدرة. واما ان يكونا مدلولين لدليلين.

فعلى الأوّل : فخروج المورد موضوعا عن أحكام التعارض لا يحتاج إلى بيان ، لأن موضوع التعارض هو التنافي بين الدليلين لا في مدلول دليل واحد.

وعلى الثاني : فمحل الكلام ما كان العجز عن الامتثالين اتفاقيا - لا دائميا مثل : « لازم زيدا دائما » و : « لازم عمرا دائما » مع افتراق عمرو عن زيد ، فان مثل هذا ليس من موارد التزاحم للغوية كلا الجعلين مطلقا ، فيرجع إلى موارد التعارض قطعا - وذلك كموارد انطباق العامين من وجه على موضوع واحد أو في مورد واحد بحيث لا يمكن امتثالهما معا ، فبناء على خروج مورد العامين من وجه عن موضوع الأدلة

ص: 308

التعبدية المتكفلة لأحكام التعارض فالامر واضح ، ويكون المرجع فيه هو الأحكام العرفية من التساقط أو التخيير.

واما بناء على دخوله في موضوع الأدلة ، فمحل الكلام في هذه الجهة ما كان الحكمان المتنافيان واردين على موضوعين ، بحيث يكون منشأ التنافي هو خصوص العجز لا ما إذا كانا واردين على موضوع واحد - كالوجوب والحرمة المستفادين من مثل : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » المجتمعين على العالم الفاسق - فانه موضوع الكلام في الجهة الثالثة ، فانتظر.

وتحقيق الكلام في محل الكلام : انه اما ان يكون لأحد المتعلقين مزية على الآخر بحيث توجب قوة اقتضائه للحكم. أو يتساويان في الأهمية.

فعلى الأوّل : يتقدم الأهم وتتضيق دائرة إطلاق المهم بحكم العقل.

بيان ذلك : ان كلا من الحكمين ذو مقتضى ثبوتا ، - وهو الملاك - وإثباتا - وهو الإطلاق - إلاّ انه لما كان مقتضى الثبوت - أعني : الملاك - في أحدهما أقوى من مقتضى الآخر ، يرى العقل ان الأهم صالح للمانعية عن المهم ثبوتا لحكمه بلزوم صرف القدرة إلى متعلقه دون متعلق المهم ، فيمنع من شمول الإطلاق للفرد المهم في صورة المزاحمة ، ولا يرى ذلك - أي المانعية - في طرف المهم ، لأنه غير صالح لمنع ثبوت الأهم ، فيبقى إطلاقه سالما حال المزاحمة ، وبذلك يرتفع التنافي بين الإطلاقين ، لأن أحد الإطلاقين بضميمة حكم العقل بلزوم صرف القدرة في الفرد الأهم لا يشمل هذا الغرض لعدم القدرة على متعلقه.

ومع ارتفاع المنافاة بين الإطلاقين يخرج المورد عن التعارض موضوعا ، فلا مجال للقول بجريان أحكامه فيه.

وعلى الثاني : فالحكم هو التخيير ، إلاّ انه ..

تارة : يكون بالالتزام بالترتب ، بمعنى تقييد امر أحدهما بعدم الإتيان بالآخر. وهذا رافع للتنافي الموجود بالنظر البدوي ، لثبوت الأمر في صورة عدم امتثال الآخر

ص: 309

وعدم انثلام الإطلاق.

نعم ، يسقط في صورة امتثال الآخر ، لكنه لحصول العجز عن متعلقه ، لأنه بالإتيان بأحدهما يحصل العجز القهري عن الآخر ، فيكون تقييد أمر كل منهما بعدم الآخر من باب تقييد الحكم بالقدرة على متعلقه وليس تقييدا بأمر زائد على موضوع الحكم كي يكون ذلك تصرفا بالدليل.

نعم ، يبقى شيء ، وهو : انه يلزم حصول عصيان أحدهما بامتثال الآخر ، إذ الأمر لا يقيد بعدم العجز الاختياري ، وإلاّ لما حصل العصيان غالبا ، مع ان الالتزام بحصول العصيان في الفرض ممنوع.

والجواب : ان عدم حصول العصيان انما هو بحكم العقل ، إذ لا يستطيع التفصي عن هذا المقدار من الترك بعد ان كان لا يستطيع الجمع بين الامتثالين فلا عصيان بترك أحدهما إلى الآخر ، فالتخيير في المقام يرجع إلى الجمع بين الدليلين ، بحيث يرتفع التنافي بينهما ، فلا تصل النوبة إلى أحكام التعارض لارتفاع موضوعها.

وأخرى : لا يكون بالالتزام بالترتب - لعدم تماميته بنظر بعض والتزامهم بتساقط الدليلين - بواسطة حكم العقل بالتخيير بينهما ، بحيث لا يجوز تركهما والاشتغال بأمر ثالث من باب محافظته على تحصيل ملاكات الأحكام. وبذلك يثبت حكم تخييري للشارع على طبق حكم العقل ولا مجال له غير هذا ، فلا معنى لإجراء أحكام التعارض.

ولكن هذا يبتني على الالتزام بتحقق الملاك في كلا المتعلقين كما هو المشهور. اما مع المناقشة في ذلك ، فلا محيص عن الالتزام بدخوله في موارد التعارض وجريان أحكامه فيه ولا محذور فيه. إلاّ انه مجرد فرض. فتدبر.

واما الجهة الثالثة : فتحقيق الكلام فيها : ان المورد الّذي كان محل الخلاف وظهور الثمرة بين المحققين ليس من موارد التزاحم ولا من موارد التعارض ، بل هو برزخ بينهما.

ص: 310

وذلك لأن آثار التزاحم أجمع لا تجري فيه ، كما لا تجري فيه أحكام التعارض التعبدية.

اما عدم جريان أحكام التزاحم ، فلأن التخيير بملاكيه : ملاك الترتب وملاك حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى مهما أمكن مع الالتزام بالتساقط ، غير جار هنا مع تساوي الحكمين في الأهمية من جهة الملاك. وذلك ..

اما عدم التخيير بملاك الترتب ، فلأمرين :

الأول : ان من شروط صحة الترتب - كما يذكر في بعض تنبيهات مبحثه - ان لا يكون المتعلقان لا ثالث لهما ، إذ مع كونهما كذلك لا معنى لتعليق الأمر على عصيان الآخر ، لأن عصيان أحدهما يحصل بالإتيان بالمتعلق الآخر ، فيكون الأمر به لغوا لأنه من باب طلب تحصيل الحاصل.

وهذا المناط موجود فيما نحن فيه ، لأن عصيان الحرمة انما يكون بالإتيان بمتعلق الوجوب ، فلا معنى لتعليق الوجوب على عصيان الحرمة ، إذ لا مجال للبعث والتحريك بعد عصيان الحرمة والإتيان بمتعلق الأمر.

الثاني : ان الترتب انما يلتزم به لرفع التنافي بين الحكمين من جهة عدم القدرة والعجز عن الامتثالين معا ، لأنه يرجع إلى جعل الطولية في الامتثال الرافع لعدم القدرة.

وبذلك يصحح اجتماع الحكمين زمانا لأن محذور اجتماعهما يرتفع بالالتزام بالترتب. اما لو كانت هناك جهة أخرى موجبة للتنافي غير جهة العجز ، فلا يفيد الترتب في رفعه ، والمقام من هذا القبيل ، فان اجتماع الوجوب والحرمة لا ينحصر محذوره في مرحلة الامتثال كي يرتفع بالترتب ، بل هو ممتنع في نفسه وفي مرحلة انقداح الإرادة والكراهة ، والترتب لا ينظر إلى رفع التنافي في هذه المرحلة.

واما عدم التخيير بواسطة حكم العقل ، فلأنه مع تساوي الحكمين في الملاك يحصل الكسر والانكسار بين الملاكين ، ويكون نتيجته إباحة المتعلق ، ولا حكم

ص: 311

للعقل بلزوم أحدهما ، لعدم اقتضاء ملاكه بعد مزاحمته بالملاك الآخر ، ويتضح ذلك بملاحظة العرفيات.

واما عدم جريان أحكام التعارض ، فلأنه بعد العلم بثبوت الملاك لكل من الحكمين في المتعلق لا محيص عن الحكم بالإباحة كما عرفت ، فلا معنى لترجيح أحدهما على الآخر بملاك الأشهرية ونحوها من الأحكام التعبدية ، للعلم بعدم جعل كلا الحكمين بعد تساوي الملاك ، والترجيح انما يتم في صورة احتمال جعل أحدهما واشتباهه ، إذ للشارع جعل الطريق الأشهر مثلا طريقا إلى حكمه.

واما في صورة كون ملاك أحد الحكمين أهم من ملاك الآخر ، فذو الملاك الأهم مقدم قطعا على غيره للعلم بجعله وتشريعه دون الآخر لانعدام ملاكه بالتزاحم.

ومن هنا يتضح الوجه في كون هذا المورد برزخا بين التعارض والتزاحم وليس من أحدهما لعدم جريان أحكام كل منهما فيه.

وبذلك يظهر ان تحديد التزاحم بأنه التنافي بين الحكمين من خصوص جهة العجز عن الجمع بين الامتثالين وان سرى إلى الدليلين هو المتعين ، فان رجع هذا إلى ما أفاده المحقق النائيني قدس سره فهو ، وإلاّ فهو تعريف ثالث غيرهما ، فتدبر جيدا واللّه سبحانه العالم.

ص: 312

فصل

اشارة

هل يختص مورد التعارض بخصوص ما ثبت حجيته بالدليل اللفظي من الأدلة ، أو يعم ما ثبت بالدليل اللبي؟.

قد يتوهم الاختصاص بتقريب : انه مع الشك في حجية كل من الدليلين في مورد المعارضة ، لا دليل على حجيتهما لو كان الدليل لبيا ، للأخذ به في القدر المتيقن دون مورد الشك ، ومع انتفاء حجيتهما يخرجان عن موضوع التعارض. وهذا بخلاف ما لو كان دليلهما لفظيا ، لثبوت حجيتهما بالإطلاق.

وهو مندفع : بان الاقتصار على القدر المتيقن في الدليل اللبي انما يكون فيما لو احتمل تقييده بقيد غير ثابت ، إذ مع الشك لا إطلاق له حتى يتمسك به. وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه ، فان الدليل اللبي يتكفل إثبات حجية الخبر أو غيره بالمقدار الّذي يتكفله الدليل اللفظي لو كان.

نعم ، يقيد بعدم المانع العقلي عن حجيته كما يقيد الدليل اللفظي بذلك. فالدليل

ص: 313

لفظيا كان أو لبيان يتكفل حجية الدليل والخبر الاقتضائية ، بمعنى : حجيته في حد نفسه ومع قطع النّظر عن المحذور العقلي الثابت في مورد التعارض ، فهما في مورد المعارضة داخلان في حد ذاتيهما تحت دليل الحجية بنحويه - إذ لا يحتمل تقييد حجيتهما بغير مورد المعارضة ، بل حجيتهما اقتضائية كما عرفت - فيتحقق بهما موضوعه.

وبعد كل هذا مما عرفته يقع الكلام في مقامات :

المقام الأول : في تأسيس الأصل والقاعدة في الدليلين المتعارضين كي يكون هو المرجع في صورة عدم ثبوت الأحكام الشرعية لمورد ما.

فهل هو التساقط ، أو التخيير ، أو الاحتياط ، أو التوقف؟. - والمراد بالتوقف هو التوقف عن الرجوع إلى ثالث يخالفهما ، كالرجوع إلى أصالة الإباحة عند ورود الدليلين على الحرمة والوجوب ، بل لا يخرج في مقام العمل عن أحدهما على حسب ما تقتضيه الأصول والقواعد الموافقة لأحدهما.

وبذلك يتضح الفرق بينه وبين الاحتياط ، فانه العمل بنحو يدرك الواقع مع الإمكان بالجمع بين الدليلين عملا ، كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على الاستحباب أو الإباحة. كما يتضح الفرق بينه وبين التساقط والتخيير ، لأن الأول هو عدم العمل بكلا الدليلين والرجوع إلى الأصول العملية ، سواء وافقت أحدهما أم خالفت.

والثاني هو العمل بأحد الدليلين ، سواء كانت القاعدة على طبقه أم على خلافه.

وتحقيق الحال : انه اما ان يلتزم في باب الأمارات بالسببية أو يلتزم بالطريقية.

فعلى القول بالسببية. أفاد الشيخ قدس سره ان الأصل التخيير ، لدخول المورد في موارد التزاحم ، لأنه بقيام الأمارة تحدث مصلحة في متعلقها ، فيكون ملاكا

ص: 314

الحكمين ثابتين ، فالحكم - في مثل الحال - هو التخيير (1).

وللمناقشة في ما ذكره مجال ، لأن التنافي اما ان يكون منشؤه خصوص العجز وعدم قدرة المكلف على الجمع بين الامتثالين ، كما في فرض الحكمين المتواردين على موضوع معين. واما ان يكون منشؤه تنافي الحكمين في أنفسهما كما في فرض اجتماع الوجوب والحرمة على موضوع واحد.

فما يكون من موارد التخيير والتزاحم هو النحو الأول ، لاجتماع ملاكي الحكمين في الموضوعية ، إلاّ انه لا يختلف الحال على القول بالسببية والطريقية ، لوجود الملاكين على التقديرين.

واما النحو الثاني ، فهو خارج عن موارد التزاحم والتخيير وان قيل بالسببية ، إذ يعلم عدم جعل كلا الحكمين بعد فرض تحقق ملاكيهما ، لحصول الكسر والانكسار فيتساوى الفعل والترك ، فلا وجه للتخيير اللزومي الثابت بحكم العقل ، بل الحكم هو الإباحة كما تقدم.

مضافا إلى ان التخيير في الفعل الواحد مما لا يمكن تحققه في بعض الأحيان وهو ما إذا لم يكن الوجوب أو الحرمة المدلولين للدليلين تعبديا ، إذ معه لا يكون أحدهما قهري الحصول ، بل يمكن تركهما معا كما لا يخفى - لأن الترك أو الفعل قهري الحصول ، ولا يمكن تعديهما كي يحكم بلزوم أحدهما.

نعم ، التخيير بمعنى الإباحة الّذي يرجع إلى التخويل في أحد الأمرين لا مانع منه ، إلاّ انه غير التخيير المصطلح في باب التزاحم.

واما بناء على الطريقية : فالذي التزم به الشيخ (2) ، وصاحب الكفاية (3) هو التوقف وان اختلفا بحسب الطريق. ولا بد في تحقيق الحال من بيان امرين :

ص: 315


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /439- الطبعة القديمة.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /439- الطبعة القديمة.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /439- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : ان التعارض من حيث السند الّذي هو مورد أحكام التعارض انما يتحقق فيما كان الدليلان قطعيي الدلالة أو ظنييها ، ولكن لم يمكن التوفيق عرفا بين دلالتيهما ، فانه حينئذ يعلم بعدم شمول دليل الحجية لكل منهما ، لعدم إمكان الأخذ بهما معا اما مع كونهما ظني الدلالة وأمكن التوفيق بينهما عرفا بحيث يرتفع التنافي الظاهري البدوي ، فلا تعارض بينهما لإمكان شمول دليل الحجية لكل منهما بعد الجمع ورفع التنافي.

الثاني : ان الالتزام بالتساقط في مورد المعارضة انما هو لأجل عدم إمكان التخيير ، وإلاّ فمع إمكانه فلا وجه للالتزام به لأنه في الجملة جمع بين الدليلين فيرتفع التنافي.

وحينئذ فنقول : ان التخيير ..

تارة : يطلق ويراد به التخويل في الفعل والترك أو في أحد الفعلين وعدم الحرج والمانع من الأخذ بكل منهما ، وهو معنى الإباحة.

وأخرى : يطلق ويراد به الوجوب التخييري بمعنى لزوم أحدهما وعدم جواز تركهما معا ، بل لا بد من الأخذ بأحدهما. والتخيير الّذي هو محل الكلام هو التخيير بالمعنى الثاني لا الأول.

لأن التخيير بالمعنى الأول انما يكون بعد تساقط الدليلين والرجوع إلى الأصول ، ومحل الكلام ما كان قسيما للتساقط ومعترضا لوقوعه ، وهو المعنى الثاني منه. وهو ..

تارة : يكون في الحكم الفرعي ، فيكون تخييرا عمليا في المسألة الفرعية ، بمعنى وجوب الإتيان بأحد الفعلين ، كالتخيير بين خصال الكفارة.

وأخرى : يكون في المسألة الأصولية ، يعني في الدليل على الحكم ، فيكون بمعنى وجوب الأخذ بأحد الدليلين. وهو ..

تارة : يكون بين الدليلين على الحكم كالخبرين.

ص: 316

وأخرى : بين دليلهما المتكفل للتعبد بهما.

فهو يكون في مقامات ثلاثة.

ثم ان التخيير ثبوتا يتصور على أنحاء ثلاثة :

الأول : تعلق الأمر والوجوب بكل من الفردين مقيدا بترك الآخر.

الثاني : انه سنخ وجوب متعلق بكل من الفردين مشوب بجواز الترك ، كما يختاره صاحب الكفاية في ماهية الوجوب التخييري (1).

الثالث : انه وجوب أحدهما ، كما يختاره المحقق النائيني (2).

والكلام في التخيير في المسألة الفرعية إثباتا انما يكون بناء على الالتزام بأن التخيير هو النحو الأول ، لا على الالتزام بأنه على النحوين الآخرين.

وذلك ، لأن الدليلين المتنافيين إما ان يكونا عامين من وجه بحيث يكون التنافي بحسب المجمع ، أو يكونا جزئيين دالين على وجوب شيئين.

فان كان عامين من وجه ، فالالتزام في موضع التنافي بوجوب أحدهما ، أو بوجوب كل منهما ، سنخ خاص يستلزم التفكيك في مدلول دليل واحد بالنسبة إلى افراده.

وان كانا جزئيين ، فظاهرهما الدلالة على وجوب كل منهما بخصوصه بالمعنى المعروف للوجوب ، فلا يتفق مع كون الواجب أحدهما أو مدلولهما الوجوب بنحو خاص منه ، لأنه طرح للدليلين لا جمع بينهما عرفا.

وبعد هذا فاعلم : انه قد يمكن التخيير في المسألة الفرعية ، كما لو دل أحد الدليلين على وجوب صلاة الظهر ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة. أو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمة شيء آخر. وعلم بعدم جعل كلا الحكمين بخصوصه بنحو الجمع ، فانه يمكن إلغاء خصوصية التعيين في كل من

ص: 317


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /140- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 182 - الطبعة الأولى.

الحكمين وجعل وجوبهما تخييريا ، بمعنى ان يكون وجوب كل منهما مقيدا بترك الآخر ، إذ يمكن ان يكون الأمر في الواقع كذلك ، لأنه لا مانع من جعل وجوب الجمعة والظهر تخييريا. ومع إمكانه فيجمع بين الدليلين بذلك فيرتفع التنافي بينهما ويكون كل منهما مشمولا لدليل الحجية.

نعم ، لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يعلم بعدم جعل أحد الحكمين أصلا ، بل علم بعدم لزوم الإتيان بهما معا ، إذ مع العلم بعدم جعل أحد الحكمين بالمرة ، لا يرتفع التنافي والتكاذب بالجمع بالوجوب التخييري بهذا النحو ، لأن مقتضاه هو اجتماع الوجوبين لو لم يأت بكل منهما لحصول شرطيهما معا ، وهو يتنافى مع عدم جعل أحدهما بالمرة.

اما مع عدم العلم بعدم جعل أحد الحكمين من أساسه ، بل كان العلم متعلقا بعد لزوم الإتيان بكل منهما ، فهو متعلق بعدم الجمع عملا لا جعلا وتشريعا ، فالجمع التخييري يرفع التنافي كما عرفت.

وقد يستشكل : بأن كلا من الدليلين له دلالتان : دلالة مطابقية ، وهي دلالته على الوجوب التعييني - ودلالة التزامية ، وهي دلالته على نفي أصل وجوب الآخر. إذ بعد فرض العلم بعدم جعل كلا الحكمين بنحو التعيين ، كان الدليل الدال على وجوب أحدهما تعيينا دالا بالالتزام على نفي وجوب الآخر ، لأن مقتضى الوجوب التعييني لأحدهما عدم جعل الآخر من رأس. وعليه فالتصرف في المدلول المطابقي لكل منهما بإلغاء خصوصية التعيين ، لا يرفع التنافي الحاصل من جهة الدلالة الالتزامية ، لعدم تبعيتها للدلالة المطابقية في الحجية وان تبعتها في الوجود.

والجواب عن هذا الإشكال : ان الدلالة الالتزامية ..

تارة : تكون عرفية كما لو كان التلازم عرفيا.

وأخرى : تكون غير عرفية ، بل عقلية أو اتفاقية كما لو كان التلازم عقليا أو اتفاقيا.

ص: 318

والحجة من الدلالات الالتزامية هي العرفية ، لأنها موجبة للظهور العرفي للكلام ، دون غير العرفية.

ودلالة كل من الدليلين بالالتزام على نفي وجوب المتعلق الآخر ليست دلالة عرفية ، لأن التلازم بين وجوب أحدهما تعيينا ، وعدم وجوب الآخر اتفاقي ، إذ لا محذور في اجتماع الوجوبين التعيينيين في نفسه ، فلا حجية لهذه الدلالة كي توجب التوقف في الجمع بالتخيير ، فلاحظ.

ولو لم يمكن التخيير في المسألة الفرعية - كما لو دل أحد الدليلين على الحرمة والآخر على الوجوب ، أو دل أحدهما على إباحة شيء والآخر على وجوب شيء آخر - ، وعلم بعدم جعل أحد الحكمين - فانه لا معنى للتخيير اللزومي بين الإباحة والوجوب ولو في شيئين. أو الحرمة والوجوب في شيء واحد. أو دل أحد الدليلين على وجوب شيء والآخر على وجوب آخر أو حرمته ، وعلم من الخارج بعدم جعل أحد الحكمين من رأس ، فانه لا يمكن التخيير بالنحو الأول كما عرفته - فيقع الكلام في إمكان التخيير في المسألة الأصولية ، يعنى بين الدليلين في الحجية ، بمعنى لزوم العمل بأحدهما وترتيب الآثار عليه ، بحيث يحكم بمؤداه ويعمل بمقتضاه - كما هو المشهور عند تعارض المجتهدين المتساويين في المميّزات في الفتوى -

وقد عرفت ان الوجوب التخييري يتصور على أنحاء ثلاثة. فالكلام يقع في إمكان كل نحو من الأنحاء فيما نحن فيه بالنسبة إلى الحجية ثبوتا فتحقيقه : ان التخيير بأنحائه الثلاثة في المسألة الأصولية لا يتصور له معنى معقول.

اما التخيير بمعنى وجوب أحدهما - كما التزم به المحقق النائيني على ما عرفت ، بتقريب : ان عنوان أحدهما جامع انتزاعي ينطبق على كل من المتعلقين ، فكما يمكن تعلق الحكم بالجامع الحقيقي بين شيئين أو أشياء فيكون التخيير عقليا ، كذلك يمكن تعلق الحكم بالجامع الانتزاعي العنواني ، ويكون التخيير شرعيا. فملخص الفرق بين التخيير العقلي والشرعي هو ان الحكم في الأول متعلق بجامع حقيقي. وفي الثاني

ص: 319

متعلق بجامع انتزاعي (1) - ، بان يقال : انه كما يلتزم في باب الواجب بهذا الأمر كذلك يلتزم به في باب الحجية ، فيقال ان موضوع الحجية هو أحد الدليلين ، وهو جامع انتزاعي ينطبق على كل من الدليلين ، وهو معنى التخيير الشرعي في باب الحجية والدليليّة ، فلأن الفرق بين المقامين موجود. لأن التخيير في الوجوب في متعلق الحكم الّذي يكون الحكم محركا إليه وباعثا نحوه ، والمتعلق لا بد من فرضه غير موجود خارجا حال الحكم ، بل يتعلق به الحكم ليحصل الانبعاث نحوه. فيمكن ان يتعلق الحكم بالطبيعي أو الجامع الانتزاعي ، فيوجد بوجود أحد فرديه.

اما الدليلان ، فهما موضوعا الحجية لا متعلقا لها. والموضوع لا بد من فرض وجوده سابقا على الحكم ، كنفس المكلف بالنسبة إلى أحكامه. فلو وجد الدليلان فكل منهما ينطبق عليه عنوان : « أحدهما » ، فيدور الأمر حينئذ بين ان يكون كلاهما موضوعين للحجية ، أو أحدهما المعين. أو أحدهما على البدل.

وكل من الاحتمالات باطل ..

اما الأول : فلأنه خلاف الفرض ، لأن الفرض هو التخيير في الحجية لا ان كلا منهما حجة.

واما الثاني : فلأنه ترجيح بلا مرجح.

واما الثالث : فلأن أحدهما على البدل لا وجود له خارجا ، لأن كل فرد عبارة عن نفسه لا عبارة عنه أو غيره. فالموجود خارجا هو الفرد نفسه لا الفرد أو غيره.

وعليه ، فالالتزام بهذا النحو من التخيير مشكل ثبوتا. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكانه في عالم الثبوت ، ففيه :

أولا : انه لا يجدي في إجراء آثار التخيير المفروضة ، وهي صحة الالتزام بمؤدى أحدهما والحكم والفتوى بمقتضاه ، أو العمل على طبقه بقصد التقرب لو كان متوقفا عليه ، ونحو ذلك.

ص: 320


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 184 - الطبعة الأولى.

وذلك لأن موضوع الحجية - على الفرض - هو أحدهما ، فالجائز ترتيب آثار هذا العنوان فقط. ولا يخفى ان ما يتكفل لإثبات خصوص وجوب الظهر أو الجمعة مثلا هو الفرد بخصوصه لا بما انه أحدهما ، فلا يصح الالتزام بما يؤديه الفرد عملا إذ ما قامت عليه الحجة هو الجامع ، كالوجوب مثلا. اما خصوصية وجوب الظهر أو غيرها فلم تقم عليه الحجة.

وبالجملة : فالجائز هو ترتيب آثار ما يشترك في بيانه كلا الدليلين ، كأصل الوجوب. اما خصوصياته التي يختلف الدليلان في بيانها ، فهي ليست من مؤديات الجامع ، بل من خصوصيات الافراد ، فلا وجه للالتزام بها في مقام العمل لخروجها عن مقتضى الحجية.

وثانيا : انه لا معنى للتخيير بهذا المعنى في بعض الموارد ، كما لو دل أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة ، فانه لا معنى للالتزام بأن الحجة هو الجامع بين الدليلين المذكورين ، إذ لا جامع بين مدلوليهما كي يلتزم به مقتضى حجية الجامع ، فلاحظ.

وأما التخيير بمعنى سنخ وجوب مشوب بجواز الترك ، بأن يقال فيما نحن فيه :

ان الحجية ثابتة لكل من الدليلين لكنها سنخ حجية ضعيفة متوسطة بين الحجية واللاحجية.

فلأنه - مع قطع النّظر عن عدم تعقل ذلك في نفسه ، إذ الكلام فيه يحتاج إلى بسط مقال لا يسعه المجال - يقال : ان المقصود من الحجية أو معناها - بأي معنى كانت من ان المجعول هو المؤدى فيترتب عليه المنجزية والمعذرية ، أو الطريقية ، أو نفس الحجية - هو ترتب المنجزية والمعذرية على الحجة ، فمع اجتماع الدليلين وحجيتهما في أنفسهما بهذا السنخ من الحجية الضعيفة يدور الأمر بين ان تترتب المنجزية على كلا الدليلين مطلقا ، أو لا تترتب مطلقا ، أو تترتب على تقدير دون آخر.

ص: 321

فعلى الأول : يلزم المحذور لاجتماع المنجزين على امرين متضادين ذاتا أو عرضا.

والثاني : خلف فرض الحجية.

والثالث : يقع الكلام فيه في النحو الثالث لرجوعه إليه.

واما التخيير : بمعنى الوجوب المشروط بأن يكون وجوب كل منهما مقيدا بترك الآخر ، فالمراد منه في باب الحجية أحد احتمالات ثلاثة :

الأول : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم حجية الآخر ، وهو باطل لأنه يستلزم ان تكون حجية كل منهما مانعة عن حجية الآخر ، فتكون حجيتاهما متمانعتين. فلا يمكن اجتماعهما أصلا ، لأن إحداهما تمنع عن الأخرى ، فينتفي موضوع التخيير.

الثاني : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم العمل على طبق مؤدى الآخر ، وهو باطل أيضا ، إذ يمكن ان يكون مؤدى أحدهما وجوب الشيء والآخر حرمته ، فمع ترك العمل على طبق الدليل الدال على الحرمة بالإتيان بالفعل ، لا معنى لحجية الدال على الفعل والأمر بالعمل به ، إذ لا معنى للأمر بالفعل مع الإتيان به. مع ان هذا الفرض يقتضيه.

الثالث : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم الاستناد إلى الآخر ، وهو فاسد ، لاستلزامه شمول الحجية لكل منهما ، مع عدم الاستناد إلى كل منهما ، لحصول شرط حجية كل منهما ، فيرجع التنافي.

وهذا المحذور يتأتى في الفرض الثاني أيضا ، إذ مع ترك العمل بمؤدى كل منهما يكون دليل الحجية شاملا لكل منهما ، فيرجع المحذور لحصول التنافي.

والمتحصل : ان التخيير في باب الحجية بأنحائه الثلاثة في باب الأحكام لا يتصور له معنى معقول ، فتدبر جيدا.

نعم ، هناك نحو آخر يتصور ثبوتا للتخيير في مقام الحجية ، وهو ان تكون

ص: 322

حجية كل منهما مقيدة بالبناء على الالتزام بمؤداه ، فمع عدم البناء على الالتزام بمقتضاه لا يكون مشمولا للحجية.

وهذا معنى معقول ثبوتا فيمكن ان يحمل عليه ما ورد من أدلة التخيير بين الدليلين في بعض الموارد ، بلا حاجة إلى تكلف تأويل له بالحمل على التخيير في المسألة الفرعية ، كما هو الحال لو لم يثبت تعقل التخيير في المسألة الأصولية.

إلاّ ان هذا النحو لا يجدي فيما نحن فيه ، إذ لا يرفع التنافي بين الدليلين عرفا - كما في التخيير في المسألة الفرعية - ، إذ لا يستلزم التصرف بمؤدى كل منهما بنحو يرتفع التنافي ، بل كل باق على مؤداه ، فلا وجه للالتزام به في المورد الّذي نحن فيه.

ومع عدم تعقل تلك الأنحاء ثبوتا ، وعدم إمكان الالتزام بهذا النحو إثباتا ، فلا محيص عن الالتزام بأحد الاحتمالات الأخرى ، من التساقط أو التوقف أو غيرهما.

وقد عرفت ان الشيخ التزم بالتوقف وتساقط الدليلين في الدلالة المطابقية لهما وبقائهما على الحجية في نفي الثالث - وهو معنى التوقف - وبنتيجة ذلك التزم صاحب الكفاية قدس سره إلاّ انه بغير الطريق الّذي سلكه الشيخ ، بل ذهب إلى ان الدليلين لا يتساقطان ، بل يسقط أحدهما عن الحجية ويبقى الآخر تحت دليل الحجية ، غاية الأمر انه لا تترتب آثار العلم الإجمالي على ذلك - كما في مسألة اشتباه الحجة باللاحجة - بل هما بالنسبة إلى الدلالة المطابقية كالمتساقطين ، نعم ، يظهر الأثر في شيء آخر أجنبي عن محل الكلام وهو نفي الثالث.

وبيان ذلك (1) : ان دليل الحجية لا يشمل ما يعلم كذبه من الأدلة كما لا يخفى.

ص: 323


1- قد يبدو الالتزام بسقوط أحدهما وبقاء أحدهما - بهذا المقدار من العنوان - مشكلا ، لكن القوم يلتزمون بنظيره في بعض الموارد : فمن ذلك : مورد تعلق الأمر بفردين من طبيعة واحدة بلا ان يكون لأحدهما خصوصية يمتاز بها على الآخر ، كموارد قضاء الصوم إذا كان الفائت يومين - مثلا - وموارد الدين الثابت في الذّمّة كدينارين. فانه يلتزم فيما إذا أتى المكلّف بأحد الفردين بلا تعيين سقوط أحد الأمرين وبقاء الآخر بلا تعيين الساقط والباقي منهما ، فلو أعطاه دينارا بعنوان الوفاء التزم ببقاء دينار في الذّمّة بلا تعيين كونه أي الدينارين. ومن ذلك : مورد الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي لا بعينه ، بناء على الالتزام بالتوسط في التنجيز - كما عليه الشيخ «ره» - فانه يلتزم بوجوب الاجتناب عن أحدهما بلا تعيينه ، لكون الاضطرار إلى أحدهما بلا تعيين. ثم ان الالتزام ببقاء أحدهما على الحجية بنحو لا يترتب عليه أثر إحدى الخصوصيّتين ، لا بد وان يوجّه بكون موضوع الحجية هو العنوان الانتزاعي الجامع بين الخبرين - وهو عنوان أحدهما - وليس المراد به أحدهما المعين في الواقع ، لأنه مضافا إلى كونه ترجيحا بلا مرجح ، يترتب عليه آثار العلم الإجمالي ، وهو مما لا يقصده صاحب الكفاية ، كما انه ليس المراد به أحدهما المردد كي يرد عليه انه لا خارجية له ، بل المراد به ما عرفت من أحدهما الجامع بين الخبرين ، ولأجل ذلك لا يثبت به سوى الجامع بين المدلولين. وقد عرفت ان لمثل هذا نظائر ، كمثال الدين والاضطرار. وهذه الموارد تختلف ، فتارة : يترتب على بقاء أحدهما أثر الفرد الخاصّ ، كما في موارد الأمر المتعدد كالدين. وأخرى : لا يترتب عليه أي أثر كأخبار خمسة متعارضة في الدلالة على الأحكام الخمسة. وثالثة : يترتب عليه أثر الجامع ، كما لو لم يكن تعارض الخبرين في الوجوب والحرمة. هذا غاية ما يمكن توجيه كلام الكفاية به ، وبه تندفع بعض الإيرادات عليه. ولكن يرد عليه : أولا : انا لم نلتزم في محله - ( يلاحظ مبحث النية من كتاب الصوم ) - بأساس هذا الالتزام ، وبيّنا عدم معقولية سقوط أحد الأمرين وبقاء الآخر ، وانما يسقط الأمران معا ويحدث امر آخر ناش من غرض واحد. وهذا لا يتأتى في ما نحن فيه ، فإنا إذا التزمنا بسقوط كلا الخبرين عن الحجية ، فأي مقتض لحدوث حكم جديد يتعلق بأحدهما؟ وثانيا : مع عدم تعقل ما ذكر ، ان ثبوت الجامع بين المدلولين .. ان كان بأحدهما الانتزاعي ، فهو ليس فردا خارجيا غير الفردين الساقطين عن الحجية ، فمقام الإثبات قاصر عن شموله. ولعله إلى ذلك يرجع إشكال الشيخ على التخيير : بأن أحدهما ليس فردا ثالثا كي يشمله دليل الحجية الثابت لافراد الخبر. وان كان بكلا الخبرين ، فهو راجع إلى حجيتهما معا ، وهو خلاف مدعاه من سقوط أحدهما عن الحجية. هذا مع ان الجامع مدلول ضمني للخبرين ، والأخذ بالمدلول التضمني مع سقوط المطابقي عن الحجية لا وجه له للتلازم بينهما في الحجية ، فتدبر جيدا.

ص: 324

وحيث ان أحد الدليلين معلوم الكذب كان خارجا عن دليل الحجية بلا كلام.

واما الآخر ، فهو محتمل الإصابة وغير معلوم المخالفة للواقع فيبقى مشمولا لدليل الحجية.

وبما ان خروج أحدهما عن الحجية وبقاء الآخر ليس إلاّ بعنوان أحدهما لا أكثر ، إذ لا تعين للمعلوم بالإجمال ظاهرا في الواقع بحيث لو انكشف كان الآخر غير معلوم الكذب وكان هو معلومه ، فكل واحد منهما ليس بمعلوم الكذب واقعا دون الآخر ، فالمعلوم كذبه لا تعين له الا بهذا المقدار - أعني : أحدهما - ومثله غير معلومه ، فالحجة وغير الحجة هو أحدهما بلا عنوان.

بذلك خرج المورد عن اشتباه مورد الحجة باللاحجة - كاشتباه خبر العادل بخبر الفاسق - إذ المعلوم بالإجمال في ذاك المورد له تعين في الواقع يمتاز به عن غيره ، بحيث إذا انكشف كان هو دون غيره ، كخبر زيد مثلا ، فكانت إحدى الخصوصيّتين اللتين يتكفل الدليلان بيانهما ثابتة في الواقع ومنجزة للعلم بها إجمالا ، فلا بد من الاحتياط - في مورده - وهذا بخلاف ما نحن فيه ، لأن الحجة ليس إلاّ الخبر بعنوان أحدهما ، فكلتا الخصوصيّتين لا منجز عليهما كي يتعين الاحتياط ، لأن كلا منهما غير معلوم الحجية بعنوانه الّذي يكون متعلق العلم الإجمالي.

نعم ، يترتب على الخبر الّذي يكون حجة واقعا نفي الثالث. فنفي الثالث يكون بأحدهما بلا عنوان ، لا بكليهما ، لأن أحدهما ساقط عن الحجية.

وبهذا يتفق مع الشيخ في النتيجة (1).

وللنظر فيما أفاده مجال من وجوه :

ص: 325


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - 439 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

الأول : ان شرط الحجية هو احتمال الإصابة ، وهو متحقق في كل من الدليلين في نفسه ، فكل منهما بنفسه يشتمل على شرط الحجية فيكون موضوعا للحجية ، فلا وجه للالتزام بخروج أحدهما عن الحجية بالعلم الإجمالي ، إذ العلم الإجمالي لا يكفى في رفع الموضوع بعد تحقق الشرط في كل منهما في حد ذاته.

الثاني : انه لو سلمنا خروج أحدهما عن الحجية وبقاء أحدهما على الحجية ، فكون أحدهما على البدل وبلا عنوان موضوعا للحجية غير وجيه ، إذ لا تعين ل- : « أحدهما على سبيل البدل » في الواقع ولا وجود له كي يكون قابلا لشمول الحجية له - كما تقدم - الثالث : انه لو سلمنا بإمكان تصور الفرد على البدل ، إلاّ ان إثبات حجيته يحتاج إلى دليل آخر يتكفل ذلك ، لأن دليل الحجية يتكفل إثبات الحجية لكل فرد بخصوصه ، فهو قاصر عن شمول الواحد على سبيل البدل ، فلاحظ.

وعلى كل ، فهل الوجه هو التساقط مطلقا ، أو الاحتياط ، أو التوقف؟

اما الاحتياط فلا أصل له الا رواية (1) مخدوش في سندها وراويها حتى ممّن يتساهل في العمل بالأخبار - كصاحب الحدائق - واما التوقف في العمل الّذي يرجع إلى الاحتياط بملاك أدلته المذكورة في مورد البراءة فكالأول ، لاختصاص رواياتها بموارد ليس ما نحن فيه منها.

فالمتعين هو التوقف ، بمعنى نفي الثالث ، كما التزم بها الشيخ ، لما تحقق في محله (2) من عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية في مثل ما نحن فيه ، مما لم يعلم بانتفاء المدلول المطابقي واقعا بل يحتمل ثبوته ، وحيث ان الدليلين متصادمان في دلالتهما الالتزامية عن الحجية لخروجهما عن مورد المعارضة ، فكل من الدليلين ينفي الثالث بالالتزام. ومنه يظهر منع الالتزام بالتساقط مطلقا.

ص: 326


1- هي مرفوعة زرارة ، المروية في غوالي اللئالي 4 / 133 ، حديث : 229.
2- راجع الكلام في ذلك في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده.

ثم انه لا يخفى ان الأصل المذكور غير ذي أثر عملي بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين لأنهما مورد الاخبار العلاجية ، فهما خارجان عن الأصل كيف كان ، فلاحظ.

تذييل : هل الجمع مهما أمكن أولى بحيث انه مع إمكانه ولو بضرب من التأويل لا يرجع إلى الأصول الأولي ولا الأصل الثانوي - وهو مفاد الاخبار العلاجية -؟

وقع الكلام في ذلك ، وقد أطنب في الكلام عن هذه القاعدة بعض (1). وغاية ما يمكن الاستدلال به على هذه الدعوى وجهان :

الأول : ان دليل الاعتبار والحجية يتكفل لزوم العمل بالدليل الا في فرض لزوم محذور عقلي في العمل به ، فإذا أمكن العمل بنحو يرتفع المحذور العقلي كان مقتضى دليل الحجية لزوم العمل به.

وعليه ، فبما ان كلا من الدليلين موضوع للحجية ، فدليلها يتكفل لزوم العمل بهما بالمقدار الّذي لا يلزم منه المحذور العقلي ، فإذا أمكن تأويلهما بنحو يرتفع بينهما التنافي الظاهر المانع عن العمل بهما عقلا فهو المتعين ، لأنه مقتضى دليل الاعتبار.

الثاني : انه كما يرتكب التأويل في مقطوعي الصدور لرفع التنافي بينهما ، كذلك مقتضى دليل الحجية ذلك في مظنوني الصدور ، لأنه يتكفل الإلزام بمعاملتهما معاملة مقطوعي الصدور ، فيترتب عليهما آثار المقطوعين صدورا.

وقد أنكر الشيخ رحمه اللّه هذين الدليلين ، باعتبار اختلاف المورد الّذي نحن فيه عن مورد القاعدة بأدلتها المذكورة.

ببيان : ان الأمر فيما نحن فيه يدور بين الالتزام بدليل حجية الظهور والالتزام بدليل حجية السند. وذلك فان كلا من الخبرين موضوع لدليلين :

أحدهما : دليل حجية السند واعتباره.

ص: 327


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /433- الطبعة القديمة.

والآخر : دليل اعتبار الظهور وحجيته.

والقدر المشترك بين الالتزام بالقاعدة والالتزام بالأخبار العلاجية هو الأخذ بدليل اعتبار السند وتصديق الخبر في أحدهما. ويبقى الأمر بعد هذا دائرا بين العمل بدليل اعتبار الظهور في هذا الخبر أو طرحه والعمل بدليل اعتبار السند للخبر الآخر ، فالمورد خارج عن مورد القاعدة ، لأنها تبتني على ثبوت الاعتبار ، كي يقال بأن مقتضاه لزوم العمل بالمقدار الممكن ، وهذا في ما نحن فيه محل الإشكال والكلام.

ومنه يظهر : انه لا وجه لقياس المقام بالدليلين القطعيي الصدور ، لثبوت دليلي اعتبار السند في كل منهما ويبقى دليلا اعتبار الظهور متعارضين ، فيجمع بينهما بالمقدار الممكن الرافع للتنافي ويؤخذ بالدليلين بالنحو الميسور.

وعلى هذا فلا دليل على هذه القاعدة ، بل الدليل على خلافها وهو الاخبار العلاجية ، إذ بالالتزام بهذه القاعدة لا يبقى مورد لهذه الاخبار الا ما شذ ، فتكون لغوا.

وقد يستشكل : بأنه قد تقدم انه لو ورد دليلان يدلان على وجوب شيئين مع العلم بعدم وجوبهما تعيينا يتصرف فيهما بتقييد إطلاق كل منهما الدال على التعيين بترك العمل بمتعلق الآخر ، فيكون وجوبهما تخييريا ، وبه يرتفع التنافي ويكون كلا الدليلين مشمولين لدليل الحجية. فكما يرفع التنافي هناك بالتقييد فليرفع فيما نحن فيه به أيضا فيحمل - مثلا - : « ثمن العذرة سحت » (1) ، على عذرة الإنسان ، ويحمل : « لا بأس ببيع العذرة » (2) على عذرة غيره ، فيرتفع التنافي فيكون دليل الحجية شاملا لكلا الدليلين.

والجواب : ان بين المقامين فرقا فارقا ، فان المورد السابق لما كان التنافي فيه بحسب بعض المدلول - وهو التعيينية - التزم برفع اليد عن ذلك البعض في كلا

ص: 328


1- وسائل الشيعة 12 / 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به ، حديث : 1.
2- وسائل الشيعة 12 / 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به ، حديث : 2 و 3.

الدليلين بالتقييد الّذي هو حقيقة الوجوب التخييري ، فيبقى الباقي - وهو أصل الوجوب - مطابقا للمتفاهم العرفي للدليل ، إذ هو بعض المدلول لا انه غيره.

بخلاف هذا المورد ، فان التنافي في كل المدلول ومجموعه كما لا يخفى ، وليس هناك مورد يفترق فيه أحد الدليلين عن الآخر ، فالالتزام برفع اليد عن مورد التنافي التزام بتساقط الدليلين. والالتزام بالنحو المذكور من التقييد التزام بجمع تبرعي لا يتفق مع التفاهم العرفي للكلام فيحتاج إلى الدليل.

والمحصل : ان الجمع بين الدليل إذا لم يكن عرفيا موافقا لمتفاهم الكلام بحيث يكون للكلام ظهور فيه - وان لم يكن بدويا - فلا دليل عليه.

ثم انه قد تقدم (1) ذكر بعض موارد الجمع العرفي ، وكان منها تقديم الأظهر على الظاهر.

ولكن تشخيص الأظهر على الظاهر قد يشكل باعتبار اختلاف الإفهام.

وقد ذكر الاعلام بعض الموارد شخصوا فيها ذلك وجعلوها مطردة في جميع مصاديقها :

فمنها : لو اجتمع المطلق الشمولي والمطلق البدلي وكانا متنافيين ، مثل « أكرم

ص: 329


1- لا بأس قبل التعرض إلى تحقيق بعض صغريات الجمع العرفي من التنبيه على امر ، وهو : ان الاخبار العلاجية لو تمت بأي نحو من أنحائها من تخيير أو ترجيح ، هل تشمل موارد الجمع العرفي ، كموارد العام والخاصّ والمطلق والمقيد ، أو لا تشمل تلك الموارد ، بل تختص بموارد التعارض المستحكم عرفا بين الدليلين؟ وقد تعرض صاحب الكفاية إلى ذلك وبيّن وجه الشمول كما بيّن دفعه. وتحقيق ذلك بإجمال : انه لا يمكن فرض كون هذه الاخبار العلاجية رادعة عن السيرة المستمرة على تقديم النص على الظاهر في الموارد الثابتة فيها ، وذلك للعلم بصدور المخصصات للعمومات والمقيدات للمطلقات من قبل الشارع قبل صدور الاخبار العلاجية ، ومن الواضح ان صدورها يكون لغوا لو فرض عدم إقرار الشارع لطريقة العقلاء القائمة على الجمع بينهما ، إذ بناء العرف عند صدورها وقبل ورود الرادع على الجمع العرفي ، والمفروض ان الشارع لا يقرّ ذلك فيكون صدورها لغوا ، إذ لا يترتب عليه المقصود ، فتدبر.

عالما » و : « لا تكرم الفاسق » فانه ادعي أظهرية الأول من الثاني.

وقد قرب المحقق النائيني قدس سره ذلك بوجهين :

الأول : انه مع الالتزام بالإطلاق الشمولي في مورد الاجتماع والتنافي لا يلزم التصرف بالإطلاق البدلي ، فان مفاد الإطلاق البدلي ثبوت الحكم إلى أحد الافراد ، فإخراج بعض الافراد عنه لا يوجب التصرف بمدلوله المذكور ، فان الحكم ثابت لأحد الافراد كما لا يخفى. نعم ، يوجب تضييق دائرة متعلقه.

والالتزام بمدلول الإطلاق الشمولي ، لأن مدلوله ثبوت الحكم لكل فرد فرد ، فرفع اليد عن الحكم في بعض الافراد يستلزم التصرف في مدلوله فالتنافي من جهة الإطلاق الشمولي يرجع إلى مدلول الكلام. ومن جهة الإطلاق البدلي ليس كذلك. فيتعين رفع اليد عن الإطلاق البدلي ، لأنه ليس فيه رفع لليد عن مدلول الكلام وتصرف في ظاهر الدليل.

الثاني : ان عموم المطلق البدلي لجميع افراده باعتبار حكم العقل بتساوي الافراد وعدم المميز لأحدها على الآخر. ومع وجود الإطلاق الشمولي يرتفع حكم العقل المذكور ، إذ مقتضاه وجود الميزة لهذا الفرد ، فيخرج عن دائرة المطلق البدلي ، فتكون نسبة الإطلاق الشمولي إلى البدلي نسبة الوارد إلى المورود ، كما لا يخفى (1).

وقد أورد على الأول :

أولا : بأنه وجه استحساني لا عبرة به في الترجيح في باب الألفاظ في مقام التفهيم ، ولا يقوم دليلا على تعيين مراد المتكلم وحجة عليه يستند إليه في مقام الفتوى واستنباط المسألة الأصولية ، فان شأن الأصولي إيصال دليله إلى العلم أو العلمي ، وليس الوجه موجبا للعلم كما انه لا دليل على ثبوته والالتزام به شرعا ولو بتوسط سيرة العقلاء ، فلاحظ.

وثانيا : بان كل إطلاق بدلي يشتمل على إطلاق شمولي ، وهو جواز التطبيق

ص: 330


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 519 - الطبعة الأولى.

بالنسبة إلى كل فرد ، فيحصل التعارض بينهما. فيلزم من تقدم الإطلاق الشمولي التصرف في مدلول الإطلاق البدلي بلحاظ اشتماله على الشمولية.

وعلى الثاني : بأن حكم العقل بتساوي الافراد لم يكن مأخوذا في موضوع الإطلاق البدلي كي يكون الدليل الشمولي الدال على المزية رافعا لموضوعه وواردا عليه ، بل هو مستفاد من نفس الإطلاق ومقدمات الحكمة الجارية فيه فلا تكون نسبة الإطلاق الشمولي إليه نسبة الوارد إلى المورود (1).

هذا ، ولكن يمكن توجيه كلام المحقق النائيني بنحو لا يتوجه عليه أي إيراد ، ويتضح ذلك ببيان أمور ثلاثة :

الأول : ان ظهور المطلق في الإطلاق لما كان بمقدمات الحكمة فيقدم عليه كل ما « يصادم الإطلاق خ ل » يصلح للدلالة على التقييد لفظيا كان أم عقليا ، وذلك :

اما لانهدام الإطلاق بورود ما يصلح للمقيدية - لو قلنا بجريان مقدمات الحكمة في المراد الجدي - لانتفاء إحدى مقدمات انعقاده وهي عدم البيان ، لأن المراد به على هذا عدم البيان إلى الأبد ، وقد انتفى بالدليل على الشمول.

أو لأجل قيام الحجة الأقوى ظهورا على خلافه مع بقائه على إطلاقه - لو قيل بجريانها في المراد الاستعمالي ، إذ عليه لا يكون المقيد المنفصل رافعا للإطلاق - وهذا واضح لا غبار عليه وقد تقدم بيانه مفصلا.

الثاني : ان استفادة البدلية والشمولية انما هي بقرينة خارجية وليست من نفس مدلول الكلام ، إذ المطلق بمقدمات الحكمة لا يدل إلاّ على نفس الطبيعة مجردة عن كل قيد ووصف.

اما إرادة الطبيعة كذلك الموجودة بوجود أحد افرادها - كما هو مقتضى البدلية - أو جميعها - كما هو مقتضى الشمول - فذلك يعلم من دليل آخر خارجي.

كما استفيدت البدلية من : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) لعدم إمكان الجمع بين جميع

ص: 331


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 334 - الطبعة الأولى.

الوجودات فلا يصح الأمر بها واستفيدت الشمولية من : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) للغوية تعلق الحلية ببيع واحد من جميع البيوع كلها.

الثالث : (1) - وهو عمدة الأمور - ان التنافي في الإطلاق البدلي والشمولي انما هو بين نفس الشمولية والإطلاق ، فان دلالة الإطلاق في المطلق البدلي على الطبيعة من دون أي قيد ينافيه شمول الإطلاق الآخر لبعض الافراد. وإلاّ فبين الإطلاقين لا يوجد أي تناف. ويدلّ على ذلك انه لو كان كلا الإطلاقين بدليين لم يكن هناك أي تناف نظير : « أكرم عالما » و : « لا تكرم فاسقا ».

وهذا كاشف عن انه لا تنافي بين الإطلاقين بما هما بل من ناحية أخرى. كما

ص: 332


1- هذا ما بنينا عليه سابقا ، لكن الإنصاف حصول التنافي بين الإطلاقين بحيث لا يمكن اجتماعهما وإرادتهما في آن واحد. نعم ، منشأ التنافي هو إرادة الشمول في أحد الإطلاقين ، ولكن ليس نتيجة ذلك حصول التنافي بين الشمولية والإطلاق الآخر ، بل نتيجته حصول التنافي بين الإطلاقين ، نظير التنافي الحاصل بين الإطلاقين الناشئ من تنافي الحكمين ، بحيث لو لم يكن الحكمان متنافيين لم يكن تناف بين الإطلاقين بتاتا ، فالتفت. هذا ولكن الإنصاف ان تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي مما عليه السيرة العرفية ، وأمر ثابت لا يقبل الإنكار ، ولذا لا نجد أحدا يتوقف في تقديم دليل : « لا تغصب » على دليل وجوب الصلاة بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي. ولعل السر في هذا الأمر المسلم هو عدم التضاد بين هذين الحكمين فلا منافاة بين الدليلين. اما بناء على عدم التضاد بين الأحكام الا في مرحلة الامتثال فواضح ، إذ يمكن امتثال هذين الحكمين بلا تزاحم ولا تناف بينهما ، فلا مانع من الالتزام بكلا الإطلاقين ، غاية الأمر يحكم العقل بلزوم اختيار الفرد غير المحرم في مقام امتثال الأمر جمعا بين الامتثالين. واما بناء على التضاد بين الأحكام في أنفسها ، فلأن دليل التضاد لا إطلاق له حتى يشمل هذه الصورة ، بل ملاك التضاد بين الأحكام في أنفسهما ، فلأن دليل التضاد لا إطلاق له حتى يشمل هذه الصورة ، بل ملاك التضاد المذكور في محله لا يشمل ما نحن فيه ، لتعلق الأمر بالطبيعة على نحو البدلية وتلعق النهي بكل فرد ، فلا مجمع للحكمين. ولو سلم التضاد أمكن ان يعالج بملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فيقدم دليل الإطلاق الشمولي ، لأنه مقدم على الإطلاق البدلي في مقام التزاحم ، لإمكان امتثال البدلي في غير الفرد المحرم ، فتدبر.

أنه ليس التنافي بين شمولية أحد الإطلاقين وبدلية الآخر ، لما عرفت من ان الالتزام بالشمول لا يوجب التصرف في البدلية ، بل التصرف في متعلقها وهو الطبيعة المرسلة ، ولذا يرتفع التنافي بمجرد تقييد الطبيعة مع المحافظة على أصل البدلية وكون الموضوع أحد الافراد ، فالتنافي انما هو بين الشمول والإطلاق ، والشمولية هي الموجبة لحصول التنافي.

إذا عرفت ذلك يتضح الوجه في تقدم المطلق الشمولي على البدلي ، لأن دلالة الإطلاق البدلي على الشمولي بمقدمات الحكمة.

وقد عرفت - بالمقدمة الأولى - انها انما تقتضي الشمول والعموم مع عدم الدليل أو ما يصلح للدليلية على الخلاف.

وعرفت - بالمقدمة الثانية - ان الشمولية التي هي منشأ التنافي والتصادم - كما هو مقتضى المقدمة الثالثة - تعلم بقرينة خارجية ودليل أجنبي عن مدلول الكلام. وهو صالح لتقييد الإطلاق البدلي ، فيكون متقدما عليه لا محالة ، اما لانهدام الإطلاق البدلي أو لقيام الحجة الأقوى على خلافه.

ويمكن استظهار هذا من كلامه قدس سره بما أفاده من : انه بتقديم الإطلاق الشمولي لا يتصرف في البدلي ، فانه ظاهر في ان البدلية ليست محل التنافي ، فتقديم الشمولية لا يوجب التصرف فيها ، فلاحظ.

وبهذا لا وجه حينئذ للإيراد عليه بأنه وجه استحساني ، أو ان الإطلاق الشمولي معارض بإطلاق شمولي آخر.

إذ قد عرفت ان تقدمه عليه ليس لمحض الاستحسان ، بل لانهدام إطلاقه أو عدم شمول دليل الحجية له.

كما ان الإطلاق الشمولي الآخر ثابت من مقدمات الحكمة بالدلالة الالتزامية ، وهي منهدمة أو معارضة بما هو أقوى منها دلالة. وهي القرينة العقلية على الشمول.

ص: 333

والمتحصل : انه لا مانع من الالتزام بأظهرية الإطلاق الشمولي من الإطلاق البدلي وتقدمه عليه مطلقا ، بل لا بد من الالتزام به مطردا ، فتدبر جيدا فيما ذكرناه فانه لا يخلو عن دقة.

ومنها : ما لو تعارض العام مع المطلق الشمولي ، فقد ذكر : ان العام مقدم على المطلق بتقريب ، ان ظهور العام في العموم لما كان بالوضع كان تنجيزيا. بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق فانه معلق على تمامية مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان ، ومع صلاحية العام للبيانية تنتفي هذه المقدمة فينهدم الإطلاق من أساسه ويتقدم العام عليه (1).

وقد أورد عليه صاحب الكفاية : بان عدم البيان المأخوذ في مقدمات الحكمة انما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا. لفرض كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي لا الواقعي - والعام ليس بيانا في مقام التخاطب لانفصاله عن المطلق ، فيكون ظهور المطلق في الإطلاق تاما فيتعارض الظهوران ، فلا بد في ترجيح أحدهما على الآخر من ملاحظة خصوصيات كل منهما بحسب الموارد ، ولا يمكن الجزم والحكم بتقدم أحدهما على الآخر بقول مطلق (2).

وقد اختار المحقق النائيني (3) تقدم العام على المطلق ولم يتعرض مقررو بحثه إلى بيان السر في ذلك بعد إشكال الكفاية.

والسر فيه ما عرفته سابقا من اختياره كون مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الجدي الواقعي ، وهذا يقتضي كون ورود ما يصلح للبيانية - ولو كان منفصلا - هادما للإطلاق لارتفاع مقدمات انعقاده.

ص: 334


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /457- الطبعة القديمة.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /450- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 729 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فالذي ينبغي ان يقال (1): انه لا بد من التفصيل على البناءين في مجرى

ص: 335


1- تحقيق الكلام : ان تقديم المقيد على المطلق قد عرفت انه من باب كشف المقيد عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، الّذي هو الأساس في ثبوت الإطلاق ، وعرفت انه يخلّ بالمراد الاستعمالي. وهذا انما يتم في مورد يمكن ان يلتزم بذلك - أعني : عدم كونه في مقام البيان ، اما ما لا يمكن الالتزام به - كما لو كان الموضوع المقيد موضوع السؤال في المطلق ، أو كان الإطلاق واردا لبيان حكم عمل المكلف بحيث لا يتصور انه يسمع التقييد بعد ذلك - كما أشرنا إليه في مبحث المطلق والمقيد فراجع - فلا يقدم المقيد على المطلق ، بل يحصل التعارض بينهما. والكلام فيما نحن فيه انما هو في غير هاتين الصورتين ، بل في مورد لو كان بدل العام دليلا مقيدا لقيد المطلق ، فيتكلم في ان العام هل يؤدي مهمة الدليل المقيد فيقيد به المطلق ويكون كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان ، أو ليس له هذه المهمة؟ والتحقيق : ان تقديم العام على المطلق يتوقف على الالتزام بأن دلالة العام على العموم وضعية بواسطة الأداة لا إطلاقية بواسطة مقدمات الحكمة ، وكون دلالة الأداة تتبع إطلاق المدخول. فانه على الأول يصلح العام لأن يكون كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، فيتصرف في المطلق ولا يصلح المطلق للتصرف في العموم ، لأن دلالة العام غير منوطة بمقدمات الحكمة بل هي بالوضع. واما على الثاني ، فلا يصلح العام للتصرف في المطلق ، لأنه يتوقف على مقدمات الحكمة ، فيكون المورد من موارد تعارض الإطلاقين. والبحث في كون العموم في العام هو مدلول الأداة أو انه مقتضى مقدمات الحكمة ، والأداة لا تتكفل الا بيان خصوصية العموم من استغراقية أو بدلية ، قد أشرنا إليه في مبحث العام والخاصّ ، وقد قربنا الثاني ، ونزيد هنا توضيحا لما تقدم. أولا : ان مدخول الأداة قد لا يكون في بعض الأحيان مما له عموم افرادي ، بحيث يكون له افراد متعددة ، كقول القائل : « سهوت في كل الصلاة » أو : « وقع كل الصلاة في النجس » ، فان الصلاة هنا ليس لها افراد متعددة يقصد بيان إرادتها بواسطة : « كل » ، بل لا يقصد إلاّ بيان استغراق حالة السهو لجميع حالات وآنات الصلاة ، فهي لا تفيد سوى الاستغراق ، والالتزام بتعدد المعنى لها غير صحيح ، لأن الملحوظ انها تستعمل في مثل : « أكرم كل عالم » ، ومثل المثال السابق في معنى واحد ، لا معنيين. وثانيا : ان مدلول قول المولى : « أكرم كل عالم » إذا حلّلناه نجده بمعنى : « أكرم كل فرد من افراد العالم » ، وهنا يصح ان يسأل ان المراد بالعالم خصوص الفقيه أو الأعم ، وهذا يكشف عن عدم إفادة لفظ : « كل » التعميم من حيث أنواع العالم ، فلا بد من دليل آخر يدل على التوسعة ، وهو ليس إلاّ مقدمات الحكمة. ثالثا : انه لو فرض كون الدلالة على العموم بواسطة الأداة ، لأشكل الأمر في تقديم الخاصّ على العام ، بل كانا متعارضين ، بناء على ما عرفت من ان دلالة اللفظ على المعنى دلالة قطعية ، فلا وجه حينئذ لتقديم الخاصّ على العام الّذي هو مبنى السيرة العقلائية العرفية. ووجه ذلك منحصر بالالتزام بكون دلالة الأداة على العموم يتبع سعة المدخول المستفاد من جريان مقدمات الحكمة فيه. وبالجملة : فلفظ : « كل » يفيد شمول الحكم لجميع الأفراد ، في قبال العموم البدلي الّذي لا يكون الحكم متعلقا الا بفرد على البدل ، اما تعلق الحكم بكل فرد فرد أو بالمجموع ، فهو خارج عن مفاد لفظة : « كل » ، بل يستفاد من قرائن أخرى ، فتدبر.

مقدمات الحكمة.

فعلى البناء على كون مجراها هو المراد الجدي - كما عليه النائيني - يكون العام مقدما على المطلق بلا كلام ، لأنه رافع لمقدماته فيختل الإطلاق - لكن الأمر الّذي لم يعلم وجهه هو التزام المحقق النائيني بذلك مع التزامه بأن دلالة العام على العموم بالإطلاق لا بالوضع ، إذ يكون التعارض على هذا بين الإطلاقين - وعلى البناء على كون مجراها هو المراد الاستعمالي - كما عليه الآخوند - لا وجه لتقدم العام على المطلق ، لانعقاد ظهور المطلق في الإطلاق قبل ورود العام ، لتمامية مقدمات الحكمة ، فتكون المعارضة بين شمول كل منهما وإطلاق الآخر فترجع المعارضة إلى الشمولين.

وكون شمول العام بالوضع وشمول المطلق بالقرينة العقلية ، لا يوجب تقدم العام على المطلق ، إذ لم يعلم أقوائيتها من الدلالة العقلية.

نعم ، لو كان الشمول في المراد الجدي - بمعنى ان مقتضى المقدمات العقلية هو العموم في المراد الجدي - كان العام مقدما عليه ، لأن ملاك الشمول في الإطلاق هو تساوي الإقدام وعدم الميزة لبعض الافراد على بعض ، فيكون تخصيص بعضها

ص: 336

بالحكم ترجيحا بلا مرجح ، ومع ورود العام يخرج بعض الافراد لوجود المقيد ، ولا يجري هذا في العام لكون دلالته بالوضع لا بهذا الملاك ، فالتفت.

ومنها : ما لو تعارض مفهوم الشرط مع مفهوم الغاية. فقد التزم المحقق النائيني بتقدم الثاني على الأول ، لأن دلالة الكلام على مفهوم الغاية بالوضع ودلالته على مفهوم الشرط بالإطلاق ، وهو متوقف على تمامية المقدمات المختلفة بورود ما يصلح للتقييد (1).

والكلام فيه كبرويا ، ما عرفت من التفصيل بين البناءين في مجرى مقدمات الحكمة.

وصغرويا ، ما تقدم منه قدس سره في محله من : ان دلالة الكلام المغيا على المفهوم بالإطلاق لا بالوضع ، بعين ما ثبت في مفهوم الشرط ، فليراجع.

ومنها (2) : ما لو دار الأمر بين التخصيص والنسخ. كما لو ورد خاص أولا ثم ورد بعد حضور وقت العمل به عام ، ودار الأمر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ الخاصّ بالعامّ.

أو ورد عام أولا ثم ورد بعد حضور وقت العمل به خاص ودار امره بين ان يكون ناسخا للعام - بمعنى انه رافع لحكم العام من حين وروده لا من أول ورود العام - أو مخصصا له - بمعنى انه كاشف عن عدم إرادة الخاصّ من العام أولا - ولا ثمرة في هذا القسم ، إذ لا إشكال في ارتفاع حكم العام عند ورود الخاصّ ، سواء كان مخصصا أو ناسخا.

نعم ، تظهر الثمرة فيما لو كان أثر عملي لثبوت حكم العام في المدة بين ورود

ص: 337


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 733 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- هذا البحث يمكن ان يقال انه علمي بحت ، إذ لا مورد له في الخارج ، لأن مفاد الدليل المتأخر سواء كان عاما أو خاصا انما هو بيان ثبوت الحكم من الأول لا من حين وروده. وعليه فلا يحتمل ان يكون ناسخا ، بل يتعين ان يكون مخصصا ، وبعبارة أخرى : لا اختلاف في زمن المنقول والمبيّن من الحكم ، بل في زمن النقل والبيان.

العام والخاصّ من قضاء أو كفارة أو نحوهما.

وعلى كل حال ، فقد حكم بتقديم التخصيص على النسخ ، بمعنى تقديم ظهور الدليل في الدوام والاستمرار على أصالة العموم ، فيخصص العام ، وذلك لندرة النسخ وشيوع التخصيص وكثرته ، فانه يوجب ضعف ظهور أصالة العموم في مدلولها.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان هذا مناف لما التزم به في تقديم العام على المطلق من أقوائية ظهور العام لأنه تنجيزي وظهور الإطلاق تعليقي. لأن ظهور الكلام في الدوام والاستمرار انما هو بالإطلاق ، بخلاف ظهوره بالعموم فانه بالوضع ، فمقتضى ذلك الوجه لا بد من تقديم أصالة العموم على الإطلاق فيما نحن فيه لا العكس.

واما شيوع التخصيص ، فهو انما يوجب أقوائية الظهور الإطلاقي لو كان من قبيل القرائن المكتنفة للكلام ، بحيث يوجب تبدل ظهور العام. وإلاّ فهو لا يقتضي الأقوائية وان أوجب الظن بالتخصيص ، فلاحظ.

فالذي يظهر منه قدس سره هو التوقف في ترجيح أحد الظهورين بنفسه.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره ان الدوام والاستمرار ليس بثابت بالإطلاق حتى يقع الكلام في ترجيح أحد الظهورين. بل هو ثابت بالاستصحاب.

توضيح ذلك : ان الدوام والاستمرار.

تارة : يلحظ وصفا وعارضا على الجعل ، نظير الحكم بوجوب الحج على المستطيع ، فانه قد لا تحصل الاستطاعة أصلا فلا ثبوت للحكم الفعلي مع استمرار هذا الجعل ودوامه مطلقا.

وأخرى : يكون وصفا للمجعول دون الجعل. نظير جعل وجوب التسبيح ساعة عند الدخول إلى البلد ، فإن الاستمرار ساعة من شئون المجعول وهو الوجوب دون الجعل إذ الجعل واحد كما لا يخفى.

والنسخ الّذي يرجع إلى قطع الاستمرار ورفع الدوام انما يرتبط باستمرار

ص: 338

الجعل لا المجعول ، فان الاستمرار وعدمه في المجعول لا يرتبط بالنسخ أصلا.

وإذا كان الاستمرار من صفات الجعل ويتوقف عليه توقف العارض على معروضه لم يصلح الدليل المتكفل لإنشاء الجعل لبيان الاستمرار ، لأنه متأخر عن وجود الجعل ، والدليل الإنشائي انما يتكفل إيجاد الجعل ، فيمتنع ان يتكفل بنفسه إثبات استمراره ، بل لا بد من دليل آخر يتكفل بيان الاستمرار.

وليس من الأدلة الاجتهادية ما يصلح لبيان ذلك الا ما يتوهم من قوله : « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة ... » ، وهذا الدليل ظاهر في بيان دوام الشريعة المحمدية بما لها من الأحكام والمجموع بما هو مجموع ، لا دوام كل حكم من أحكامه.

وعليه ، فالدليل الّذي يتكفل الاستمرار هو الاستصحاب ، فباستصحاب الحكم يثبت بقاؤه ودوامه واستمراره.

وإذا كان الاستمرار ثابتا بالاستصحاب لم يصلح لمعارضة أصالة العموم في ما نحن فيه ، لأنها دليل اجتهادي حاكم أو وارد عليه بلا كلام.

مع امتناع جريان الاستصحاب في بعض الصور ، وهو صورة تأخر الخاصّ ، فانه مع احتمال كون الدليل مخصصا وان حكم العام لم يكن ثابتا للخاص من حينه ، لا مجال لاستصحاب الحكم لأن الشك في أصل الحدوث ، فيبتني جريانه على قاعدة اليقين وهي غير تامة.

وبالجملة : ليس في المقام ظهوران يعارض أحدهما الآخر ، بل المعارضة البدوية بين الاستصحاب وأصالة العموم ، ولا كلام في تقدمها عليه. فالالتزام بالنسخ - بحسب قواعد المعارضة - متعين.

إلاّ انه لما كان بناء العقلاء منعقدا على عدم العمل بأصالة العموم لو كان هناك خاص ولو كان سابقا أو لاحقا ، لأنه يكون قرينة عليه ، لم يمكن الالتزام بأصالة العموم فيما نحن فيه.

ص: 339

فعدم الالتزام بالعموم انما كان لهذا الأمر ، لا لأقوائية ظهور دليل الاستمرار ، إذ دليله الأصل ولا ظهور فيه ، فتدبر جيدا (1).

والّذي يتخلص من كلامه امران :

الأول : ان استمرار الجعل لا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لبيان الجعل. لأنه متأخر عن وجود الجعل ، فلا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لإيجاد الجعل. فالدليل عليه هو الاستصحاب ، إذ لا دليل اجتهاديا يتكفل بيانه.

الثاني : ان الخاصّ المتقدم والمتأخر يكون قرينة على العام ، بحيث يسلم ظهوره - كما في أحد تقريرات بحثه (2) - أو يكون حاكما عليه لأقوائية ظهوره من ظهور العام - كما في التقرير الآخر (3) - والكلام معه يقع في كلا الأمرين :

اما الأمر الأول (4) : فتحقيقه : ان الدليل بدلالته على نفس الجعل وان كان

ص: 340


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1. 733 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2. 513 - الطبعة الأولى.
3- الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 4 - 733 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- هذا ما ذكرناه سابقا. والتحقيق ان الجعل ليس مدلولا للكلام كي يبحث عن كون استمراره مما يؤدى بإطلاقه أو لا يؤدى ، لأنه فرع أصل الثبوت. وذلك لما أشرنا إليه في مبحث دوران الأمر بين العموم واستصحاب حكم المخصص ، من كون الجعل عبارة عن نفس الفعل الخارجي الصادر من المولى ، نظير الاخبار والإنشاء والاستعمال ، بل هو نفس الإنشاء بداعي تحقق المنشأ في ظرفه ، أو لإبراز الاعتبار النفسيّ. ومن الواضح ان الاستعمال والاخبار والإنشاء ليست من مداليل اللفظ المستعمل في ذلك المقام ، بل هي تتحقق بإلقاء الكلام وإرادة المعنى به ، فهي مسببة عنه لا محكية به. هذا ، مع انه ليس من سنخ المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، بل هو من سنخ الوجودات ، نظير المعنى الحر في على ما حقق في محله. ومن الواضح انه يعتبر في الإطلاق ان يكون المعنى مدلولا للفظ ، وان يكون من المفاهيم القابلة للسعة والضيق. وكلا الأمرين مفقودان في الجعل ونحوه مما عرفت. هذا كله مضافا إلى ما حققناه في مباحث الخيارات من : انه لا بقاء للعقد الإنشائي ، لأن الإنشاء يتصرم بتصرم الاستعمال. وإذا فرض ان الجعل بمعنى الإنشاء كما بيّنّاه في مبحث القطع ، كان متصرم الوجود فلا بقاء له. نعم ، الأثر يترتب عليه لمجرد حدوثه ، فإذا حصل الإنشاء في ظرف يتحقق المنشأ في ظرفه ولو كان بعيدا عن ظرف الإنشاء ، بل ولو لم يكن المنشأ في ذلك الظرف قابلا للاعتبار ، كما في الوصية بوقف داره بعد موته بسنة. وعلى هذا ، فلا يتصور الشك في بقاء الجعل كي يرجع فيه إلى الإطلاق أو غير ذلك. نعم ، هنا شيء ، وهو : ان المنشأ انما يترتب في ظرفه اللاحق على الإنشاء السابق إذا لم يرفع المنشئ اليد عن المنشأ ، أو أنشأ ما أنشأه أولا ، وهذا الشرط اما هو مأخوذ بوجوده الواقعي أو مأخوذ بوجوده العلمي ، بأن يكون عدم العلم وعدم وصول الجعل المخالف كافيا في تحقق المنشأ في ظرفه لدى العقلاء ، فالشك في النسخ يرجع إلى الشك في تحقق إنشاء مخالف للإنشاء السابق ، فيمكن ان يرجع في نفيه إلى الاستصحاب. لكن الاستصحاب لا يقاوم العموم ، فإذا تأخر العام عن الخاصّ كان حاكما أو واردا على الاستصحاب ، وكان متكفلا لبيان تحقق الإنشاء المخالف. واما ما ذكره المحقق النائيني من الرجوع إلى الخاصّ والحكم بالتخصيص في هذه الحال. فهو غريب كما أوضحناه في المتن. فلاحظ.

يمتنع ان يتكفل بيان استمراره لتأخره عن وجود الجعل ، إلاّ انه بالدلالة الالتزامية يمكن ان يتكفل بيان الاستمرار.

بيان ذلك : ان فعلية الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية لا تتحقق الا مع بقاء الجعل إلى زمان فعليته ، فمثلا : لو علق الحكم على امر لم يكن حال الجعل بحاصل ثم حصل ، فالحكم انما يكون فعليا في هذا الفرض - أعني : فرض حصول الشرط - لو كان الجعل مستمرا إلى هذا الزمان ، وإلاّ فلو رفع الجعل لم يصر الحكم فعليا كما هو واضح جدا. كما انه يلغو الجعل لأمر متأخر إذا فرض رفع اليد عنه ، لأن الجعل إنما هو بلحاظ تحقق المجعول وهو لا يتحقق مع رفع الجعل ، ففعلية الحكم تستلزم استمرار الجعل ودوامه.

وعليه ، فالدليل المتكفل لجعل الحكم في زمان وفعليته في وقت يدل بالالتزام على استمرار الجعل إلى ذلك الوقت ، فالدليل يتكفل بيان استمرار الجعل بالالتزام

ص: 341

بمقدار ثبوت فعلية الحكم المجعول.

فمع ثبوت استمرار المجعول بالإطلاق - كما فيما نحن فيه ، حيث ان ثبوت الحكم للافراد الطولية بواسطة الإطلاق - يكون الدليل المتكفل للجعل دالا بالالتزام على استمرار الإطلاق المجعول ، فهو مفاد الإطلاق التزاما. ولعله إلى هذا يرجع ما يذكره الاعلام من ان ظهور الدليل في الاستمرار بالإطلاق.

وبذلك لا يحتاج إلى إثبات الاستمرار بالاستصحاب ، إذ هو مفاد نفس الدليل بالالتزام.

واما الأمر الثاني : فهو موضع العجب من كلامه بالنسبة إلى الخاصّ المتقدم. وذلك لأن مفاد العام ..

ان كان هو ثبوت الحكم من الزمان الأول - أعني : زمان النبي صلی اللّه علیه و آله ، كما هو الظاهر من النصوص الواردة عن أهل البيت علیهم السلام - فلا كلام في تقدم الخاصّ عليه ، إذ لا يحتمل حينئذ كونه ناسخا للخاص ، لأن الخاصّ يكون قرينة عليه موجبة للتصرف اما في ظهوره أو في حجيته. ولكنه خلاف الفرض ، إذ المفروض ان الأمر يدور بين التخصيص والنسخ ، وعلى الفرض المذكور يتعين التخصيص.

وان كان مفاده ثبوت الحكم من حين ورود الدليل - كما هو الفرض ، إذ عليه يتأتى احتمال النسخ - فلا تنافي بين العام والخاصّ حدوثا ، إذ لا منافاة بين الحكم على فرد في زمان والحكم عليه في زمان آخر. وانما التنافي بين حكم العام وبقاء حكم الخاصّ ، إذ يلزم اجتماع الحكمين المتنافيين على موضوع واحد.

وقد عرفت انه قدس سره يرى : ان بقاء جعل حكم الخاصّ انما يكون بالاستصحاب لا بنفس الدليل. فكيف يكون الاستصحاب قرينة على العام وموجبا للتصرف في ظهوره أو في حجيته؟! كما انه لا معنى لجعل الخاصّ قرينة بعد عدم تكفله بمدلوله لحال البقاء. هذا هو موضع العجب والّذي لا نعرف له حلا

ص: 342

يتوافق مع القواعد الصناعية ، إذ ليس من يدعي مصادمة الاستصحاب لأصالة العموم فضلا عن كونه موجبا لإلغائها في مورده.

واما السيرة العقلائية ، فلم يثبت قيامها في مفروض البحث. نعم ، هي قائمة على تقديم الخاصّ من الروايات على العام ، لكن أشرنا إلى انه لا احتمال للنسخ في النصوص لأنها جميعها تتكفل بيان الحكم من الأول ، فلا يتصور فيها النسخ ، فتكون خارجة عن مورد البحث.

ولم يتعرض أحد من الاعلام إلى هذه الجهة من كلامه ، بل من تعرض لكلامه ركز مناقشته على أصل الدعوى من إيجاب الخاصّ التصرف في العام ظهورا أو حجية.

ومما ذكرنا يتضح عدم صحة ما أفاده السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته - في حل التردد من : ان الخاصّ المقدم يكون قرينة عرفية على العام ينافي ظهوره. ومن : ان مفاد العمومات ثبوت الأحكام العامة في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله لا من حين صدورها ، لأن الأئمة علیهم السلام مبينون للأحكام لا مشرعون ، فلا احتمال للنسخ (1).

إذ الأخير وان كان تاما في نفسه لكنه خروج عن موضع الدعوى إذ المفروض فيه تردد الأمر بين النحوين.

والأول محل الكلام ، لأن ثبوت حكم الخاصّ في زمان العام على مذهبه وان كان بالإطلاق ، إلاّ انه لم يظهر بعد كون الإطلاق قرينة عرفية على العام ، فتدبر.

والتحقيق ان يقال : اما في صورة تقدم الخاصّ ان مفاد العام ..

ان كان ثبوت الحكم من الزمان الأول لا من حين وروده ، فلا إشكال في تقدم الخاصّ على العام إذ لا احتمال للنسخ حينئذ ، بل التخصيص متعين ، اما لانهدام ظهور العام أو لعدم حجيته على الكلام في ظهوره في العموم بالوضع أو بالإطلاق.

ص: 343


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 385 - الطبعة الأولى.

وجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي أو الجدي على الأخير -

وان كان مفاده ثبوت حكم العام من حين وروده - كما هو المفروض - فيدور الأمر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ الخاصّ بالعامّ ، وحيث ان ثبوت الاستمرار والدوام كان بالإطلاق - إذ دلالة الدليل عليه بالالتزام من جهة الإطلاق فهو من ملازمات الإطلاق - فمن يلتزم بتقديم ظهور العام الوضعي على الظهور الإطلاقي لاختلال الإطلاق الحاصل من الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي لأنه مسبب عن ظهور الوضع فيتعين عليه فيما نحن فيه الالتزام بالنسخ وتقديم أصالة العموم.

ومن لا يلتزم بذلك - كما تقدم منا - فليس لديه ما يرجح به أحد الظهورين على الآخر فلا بد من ملاحظة كل مورد بنفسه وخصوصياته ، والحكم بترجيح أحدهما على طبقها.

اللّهم إلاّ ان يدعى ان كثرة التخصيص وندرة النسخ وان لم تكن من القرائن العرفية المكتنفة للكلام بحيث توجب عدم انعقاد ظهور للعام في العموم من أول الأمر ، إلاّ انها موجبة لتضعيف ظهوره في العموم بحيث يكون الظهور الإطلاقي في الفرض أقوى من ظهور العام ، فيتعين التخصيص دون النسخ ولكن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات كما لا يخفى.

واما في صورة تأخر الخاصّ ، فالامر لا يدور بين النحوين على التقديرين ، لأنه على تقدير كون مفاد الخاصّ هو ثبوت الحكم من أول الأمر ، فالتخصيص متعين ، إذ لا يحتمل كونه ناسخا على هذا الفرض ، لأن مفاده نفي الجعل لا نفى استمراره.

وعلى تقدير كون مفاده ثبوت الحكم من حين وروده ، فالنسخ متعين ، ولا يحتمل التخصيص إذ لا تنافي بين مفاد الخاصّ والعام حدوثا ، بل التنافي بين مفاد الخاصّ واستمرار جعل حكم العام ، فتقدم الخاصّ معناه الالتزام بالنسخ كما لا

ص: 344

يخفى.

وتوهم تأتي الاحتمالين لو تردد مفاد الخاصّ بين ان يكون ثبوت الحكم من الأول أو من الحين ، إذ عليه يحتمل كونه ناسخا أو مخصصا.

واضح الفساد : إذ مع إجمال الخاصّ بالنسبة إلى ثبوت حكمه من أول الأمر يؤخذ بالقدر المتيقن منه ، وهو ثبوت الحكم من حين وروده ، فتبقى أصالة العموم إلى حين وروده سالمة عن المعارض ، فيتعين الالتزام بالنسخ أيضا ، فلاحظ.

وللمحقق العراقي كلام في المقام ينافي جميع ما تقدم ، محصله : ان دوران الأمر بين النسخ والتخصيص لا يرجع إلى التصادم بين الظهورين كي تصل النوبة إلى الجمع الدلالي وترجيح الأقوى ظهورا ، بل التصادم بين أصالة الجهة وأصالة الظهور.

وذلك لأن النسخ تصرف في جهة الكلام ، إذ مرجعه إلى ان الكلام لم يكن صادرا عن واقع بحيث يجب على المكلف الأخذ به ، بل كان بداع آخر مع حفظ ظهوره ودلالته على مدلوله ، فيكون نظير صدور الكلام عن تقية.

وعليه فاحتمال النسخ لا يرجع إلى مقام الظهور والدلالة ، بل يرجع إلى مرحلة جهة صدور الكلام ، فيكون التعارض فيما نحن فيه بين أصالة الجهة وأصالة الظهور ، فلا معنى للبحث عن ترجيح أحدهما على الآخر في مقام الدلالة والظهور.

وما أفاده قدس سره لا يرجع إلى محصل ، وحيث انه ربط مورد النسخ بمورد التقية لا بد من معرفة حقيقة التقية في تحقيق مناقشة ما أفاده ، فنقول : ان التقية على نحوين :

الأول : التقية في مقام العمل ، وذلك بأن يكون الدليل الدال على الحكم دالا عليه واقعا وجدا ، بحيث يجب على المكلف امتثاله ويأثم بمخالفته ، غاية الأمر يكون الملاك لجعل الحكم ملاكا ثانويا محدودا واقعيا ، وهو التقية وحفظ النّفس من الهلاك.

الثاني : التقية في مقام الحكم ، وذلك بأن لا يكون مراد واقعي على طبق

ص: 345

الإنشاء ، بل كان الإنشاء بداع آخر غير الواقع وهو الاحتراز عن الضرر ، فالغرض متمحض في الإظهار لا غير ، فلا يجب على المكلف الأخذ بذلك.

وتشبيه مورد النسخ بمورد التقية - بتقريب كونه يرجع إلى بيان ان صدور الحكم لم يكن عن إرادة واقعية بحيث يتحتم على المكلف الالتزام به ، بل كان هناك غرض آخر - يتناسب مع إرادة المعنى الثاني من التقية ، إذ على الأول يجب على المكلف الأخذ بالحكم للإرادة الجدية على طبقه ، ويكون ارتفاعه عند ارتفاع ملاكه من باب تبدل الموضوع كالمسافر والحاضر.

وعليه ، يكون النسخ والتخصيص في مرحلة واحدة ، إذ التخصيص يكشف أيضا عن عدم الإرادة الحقيقية على طبق العام. فالدليل الناسخ والمخصص يشتركان في ان مفادهما نفي ظهور الدليل في مفاده جدا وحقيقة ، فالتصادم يرجع إلى مرحلة الدلالة والكشف عن المراد الجدي :

فتتجه حينئذ مراعاة المرجحات الدلالية.

هذا إذا كان مراده بالتقية في مقام الحكم ذلك ، كما هو المشهور. واما إذا كان مراده منها معنى يجتمع مع الإرادة الحقيقية للحكم ، وذلك بأن تكون التقية هي صدور الحكم وإرادته جدا ، ولكن لا بداعي الجد بل بداعي حفظ النّفس - مثلا - وهو أيضا لا يجب امتثاله ، لأنه وان كان مرادا جدا لكن إرادته الجدية لم تكن بداعي الجد ، فيكون معنى النسخ حينئذ غير ما ذكر من رجوعه إلى بيان عدم القصد الحقيقي على طبق المنسوخ.

بل هو : ان يكون الكلام على طبقه مراد حقيقي ، إلاّ ان هذا لم يكن عن داعي الجد في الواقع على حد تعبيره ، بل كان بداع آخر ، فالنسخ بيان لعدم كون المراد الواقعي عن داعي الجد ، فيختلف حينئذ عن التخصيص مرحلة ، لأن التخصيص بيان لعدم كون العموم مرادا جدا ، فهو في مرحلة المراد الحقيقي ، والنسخ بيان لعدم كون المراد الجدي بداعي الجد وبملاك واقعي بل كان بداع آخر ، فهو في مرحلة

ص: 346

الداعي للإرادة الجدية ، وهو المعبر عنه بجهة الصدور.

فهذا المعنى - على تقدير تسليم صحته وعدم الخدشة فيه بعدم تصور عدم كون الإرادة الجدية بداعي الجد - لا يجدي في كون التعارض بين أصالة الجهة وأصالة الظهور ، بل لا تصل النوبة في المعارضة إلى أصالة الجهة.

وذلك ، لأن شأن أصالة الجهة شأن أصالة الصدور في لزوم فرض تماميتها في كلا الدليلين ابتداء وملاحظة مدلوليهما ، فان أمكن الجمع بينهما عرفا بنحو يرتفع التنافي بها فهو ، وإلاّ سرى التنافي بينهما إلى السندين ، إذ لا يمكن صدور المتنافيين معا.

ففي ما نحن فيه ، وان كان احتمال النسخ يرجع إلى التصرف في الجهة بهذا المعنى - إلاّ انه يفرض تمامية الجهة في كل من الدليلين ابتداء وتلحظ المعارضة بين المدلولين ، فان أمكن الجمع بينهما لا تصل النوبة إلى تعارض أصالتي الجهة أو الصدور ، وإلاّ سرى التنافي إلى المرتبة السابقة على الدلالة من الجهة أو الصدور ، إذ لا تنافي بين أصالتي السند أو الجهة في كل من المدلولين لو لا تنافي مدلوليهما ، فمع إمكان الجمع لا تصل النوبة إلى التنافي بين السندين أو الجهتين وإلاّ سرى إليهما.

وعليه ، فالتعارض بين ظهوري العام والإطلاق لما كان حاصلا فيما نحن فيه ، إذ يمتنع العمل بأصالة الظهور في كل منهما لمنافاة المراد الجدي في أحدهما له في الآخر ، فلا بد من ملاحظتهما وملاحظة مرجحات أحدهما على الآخر ، ولا نحتاج إلى أكثر من هذا.

واما عدم صحة تسمية هذه المعارضة بالدوران بين النسخ والتخصيص - لأن النسخ لا يرتبط بمرحلة الظهور - فهو لا يضر بواقع المطلب من حصول المعارضة بينهما وترتب الأثر الشرعي عليه ، وعدم وصول النوبة إلى المعارضة بين أصالة الجهة وأصالة الظهور.

فمحصل الإشكال : ان النسخ بمعنى لا يرجع إلى التصرف بأصالة الجهة ،

ص: 347

وبمعنى آخر وان كان يرجع إليها إلاّ ان المعارضة في مرحلة الظهور.

انقلاب النسبة

هذا كله في الجمع العرفي الدلالي فيما كان التعارض بين دليلين. واما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، فهل يلاحظ الجمع والعلاج بين كل منهما وغيره دفعة واحدة ، أم يصح الترتيب في العلاج ويلزمه انقلاب النسبة بين بعض المتعارضات والآخر ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم فساق العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » ، فانه مع الالتزام بالترتيب في العلاج لو خصص العام أولا : بدليل « لا تكرم الفساق » انقلبت نسبته مع دليل : « لا تكرم النحويين » إلى العموم من وجه بعد ما كانت العموم المطلق. بخلاف ما لو لوحظ العلاج دفعة واحدة ، فانه يخصص العام بكلا الخاصّين ويبقى الباقي؟

فمحل الكلام : انه مع التعارض بين أكثر من دليلين هل يلزم الترتيب في العلاج بين المتعارضات فتنقلب النسبة بين المتعارضات الأخرى ، أو لا يلاحظ الترتيب ، بل تلاحظ المتعارضات دفعة واحدة؟

وقد فصل الشيخ الأعظم قدس سره بين صور التعارض.

فحكم في بعضها بعدم صحة الترتيب في العلاج ، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات إلى الدليل نسبة واحدة ، كما لو كانت نسبتها نسبة الخاصّ إلى العام ، نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » و : « لا تكرم الصرفيين ».

وحكم في البعض الآخر بملاحظة الترتيب في العلاج ، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات مختلفة ، كما لو ورد عام ثم ورد عام آخر نسبته مع الأول نسبة العموم من وجه ثم ورد مخصص لأحدهما ، نظير : « أكرم العلماء » و : « لا تكرم فساق العلماء » و : « يستحب إكرام العدول » ، فانه حكم بتخصيص : « أكرم العلماء »

ص: 348

بدليل : « لا تكرم فساقهم » ، فتنقلب نسبته إلى دليل : « يستحب إكرام العدول » إلى نسبة الأخص مطلقا فيخصص به.

وتكون النتيجة : حرمة إكرام فساق العلماء ووجوب إكرام عدولهم واستحباب إكرام العدول من غير العلماء.

وقد استدل على عدم صحة الترتيب في الأول :

أولا : بان تقديم أحد الخاصّين المعين على العام ثم ملاحظة نسبة العام مع الخاصّ الآخر ترجيح بلا مرجح ، فيتعين ملاحظتهما معا بالنسبة إلى العام.

وثانيا : بأنه مع تخصيص العام بأحد المخصصين لا ينعقد له ظهور في الباقي الا مع إحراز عدم المخصص ، ومع وجود الخاصّ الآخر لا مجال لإحراز عدم المخصص حتى بالأصل.

وعليه ، فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاصّ الآخر ، وملاحظة النسبة بينهما.

وبالجملة : انعقاد ظهور العام في الباقي حتى يكون صالحا للمعارضة يتوقف على العلاج بالنسبة إلى الخاصّ الآخر ونفي مخصصيته ، والعلاج بالنسبة إليه يتوقف على انعقاد ظهوره كي تلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر.

وبهذا الدليل دفع توهم صحة الترتيب في العلاج ، مع كون أحد الخاصّين ثابتا بالإجماع أو العقل. فانه وان أقره في نفس الترتيب ، لأنه يكون كالمخصص المتصل الّذي لا إشكال في تقدمه على العام ، لكنه لم يقره في دعوى انقلاب النسبة به - كما ادعاه المتوهم -.

واستدل على ملاحظة الترتيب في الثاني : باستلزام عدم الترتيب لمحذور طرح النص ، أو طرح الظاهر في مدلوله أجمع.

وذلك : لأنه لو لم يرتب في العلاج وقدم العام الآخر وخصص به العام ، كما لو خصص : « أكرم العلماء » ب- « يستحب إكرام العدول » فاما ان يخصص العام بالخاص

ص: 349

وهو : « لا تكرم فساق العلماء » أولا.

فعلى الثاني يلزم طرح النص ، لأن الخاصّ نصّ في مدلوله والعام ظاهر فيه ، وعلى الأول يلزم طرح الظاهر مطلقا ، وهو ممنوع ، لأن العام نصّ في منتهى التخصيص ، فيلزم من طرحه طرح النص.

وبالجملة يلزم من عدم الترتيب طرح أحد النصين ، وهو محذور كما لا يخفى (1).

وقد يورد على ما أفاده الشيخ قدس سره أخيرا من ملاحظة الترتيب وانقلاب النسبة في القسم الثاني بوجهين :

الأول : في ما ذكره في نفي توهم صحة الترتيب وانقلاب النسبة من عدم انعقاد ظهور للعام في الباقي الا بعد العلاج ونفي المخصص ، ومع وجوده لا يتم له ظهور ، فيخرج عن موضوع المعارضة لأنه يكون مجملا.

فانه جار في هذا القسم - على ما يظهر منه - إذ مع فرض وجود المزاحم للعام المخصص وهو العام الآخر ، لا ينعقد للعام ظهور في الباقي بعد التخصيص الا بعد العلاج ونفي مزاحمة العام الآخر له ، وإلاّ كان مجملا ، فلا يصلح للتخصيص ، فالكلام المتقدم في تلك الصورة يجري بعينه في هذه الصورة.

الثاني : فيما ساقه من الدليل على لا بدية الترتيب وانقلاب النسبة به في الصورة الثانية.

فانه يمكن الخدشة فيه : بان الأمر لا ينحصر بين الترتيب في العلاج ولزوم المحذور الّذي ذكره ، كي يتعين الالتزام بالترتيب وانقلاب النسبة فرارا عن المحذور ، بل يمكن الالتزام بشق ثالث ، وهو تساقط الأدلة بمجموعها بالمعارضة ، فانه إذا كان تخصيص : « أكرم العلماء » بدليل : « يستحب إكرام العدول » يلزم منه المحذور المزبور ، يقع التعارض بين مجموع : « لا تكرم فساق العلماء » و : « يستحب إكرام العدول »

ص: 350


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /458- الطبعة القديمة.

و : « أكرم العلماء ».

والنتيجة هي التساقط - نظير الخاصّين الموجبين لخلو العام عن المورد - فالمحذور لا يوجب الالتزام بانقلاب النسبة ، بل يمكن الالتزام بالتساقط لأجله.

ولكن الإنصاف ان كلا الوجهين غير تامين.

اما الثاني : فلأنه يمكن ان يكون مراد الشيخ امرا غير ما ذكر لا يتوجه عليه الإشكال المذكور.

وقبل التعرض لبيانه لا بد لنا من الإشارة إلى شيء وهو : ان المعارضة بين الدليلين المتساويين في النسبة لا تتحقق مع كون حجية أحد الدليلين الفعلية تستلزم وقوع محذور غير محذور المعارضة ، فانه مع هذا لا يكون الدليل المستلزم للمحذور صالحا للمانعية عن الدليل الآخر ، فيبقى الدليل الآخر بلا معارض.

إذا عرفت هذا فنقول : انه حيث كان الالتزام بالعامّ الآخر غير المنافي للخاص - وهو : « يستحب إكرام العدول » - وحجيته الفعلية في المجمع مستلزما لوقوع محذور طرح أحد النصين - كما عرفت - كان غير صالح للمانعية عن العام الآخر ، وهو : « أكرم العلماء » في المجمع. وعليه فيكون العام ثابتا في هذا المجمع ويخصص بالخاص حينئذ.

وذلك نتيجة انقلاب النسبة ، فلا تمكن حينئذ دعوى التساقط لأنها فرع ثبوت المعارضة الفعلية ، وقد عرفت عدمها بعد كون الالتزام بأحد العامين مستلزما للمحذور.

ومن هنا يتضح الجواب عن الإيراد الأول ، وهو إيراد المهافتة. فانه (1) ، يبتني

ص: 351


1- فان ما ذكره هناك يبتني على القول بانقلاب النسبة ، فانه ادعى عدم انعقاد الظهور له في الباقي كي يقال بانقلاب النسبة ، وفي المقام لم يلتزم بالانقلاب ، بل التزم بما هو نتيجة الانقلاب ، وهو حجية العام المخصص في المجمع ، دون الآخر ، فلا مهافتة.

على كون العام الآخر صالحا للمانعية ، إذ يجري حينئذ الكلام المتقدم.

وقد عرفت عدم صلاحيته للمانعية والمعارضة بعد فرض كون الالتزام به مستلزما للمحذور.

كما انه يمكن دفعه بوجهين آخرين ، وهما :

الأول : ان المانع من انعقاد الظهور في الباقي ليس هو مطلق وجود المعارض كي يكون عدمه شرطا في انعقاد الظهور ، بل هو وجود الأظهر المتقدم عليه ، فعدم الأظهر هو الشرط في انعقاد الظهور في الباقي ، وليس العام الآخر فيما نحن فيه أظهر من العام المخصص بالخاص ، إذ المفروض كون النسبة بينهما عموما من وجه ، ولم تفرض أظهريته حتى يكون صالحا للتقدم عليه وتخصيصه بغير المجمع.

وهذا بخلاف القسم الأول ، فان المفروض فيه وجود الأظهر المانع من انعقاد ظهور العام في الباقي وهو الخاصّ.

الثاني : ان العام المخصص ، وهو : « أكرم العلماء » نصّ في منتهى التخصيص.

وعليه ، فهو متقدم على العام الآخر ومخصص له بهذا المقدار ولو كان مجملا غير معين وتكون رتبته سابقا في العام الآخر ، لأسبقية رتبة الخاصّ على العام ، فلا يصلح العام الآخر لمعارضته في المقدار الزائد على منتهى التخصيص.

ومعه يتمسك بإطلاقه في إثبات إرادة جميع الباقي ويخصص العام الآخر به حينئذ بهذا المقدار ، كما هو الحال في كل خاص بالنسبة إلى العام ، فلاحظ.

والمتحصل مما أفاده الشيخ قدس سره : انه يلتزم بأن للعموم ظهورا ثانويا في الباقي بعد التخصيص وبه تنقلب النسبة ، إلاّ انه غير تام ولا ينعقد في صورة لوجود المعارض الصالح للتخصيص ، فلا يقيد الترتيب في العلاج في انقلاب النسبة ، وتام في بعض الصور الأخرى لعدم المانع ، فيكون الترتيب في العلاج سببا لانقلاب النسبة.

وعلى هذه الجهة يتركز كلام صاحب الكفاية رحمه اللّه وإليها ينظر في

ص: 352

تحقيقه. فقد أفاد قدس سره في الكفاية : بأن النسبة الملحوظة بين الأدلة المتعارضة انما هي بملاحظة ظهور الكلام في مدلوله ، ومع ورود المخصص المنفصل لا ينثلم ظهور العام في العموم كي يدعى انقلاب النسبة ، إذ المخصص المنفصل انما يقتضي تضييق المراد الجدي من العام مع بقاء العام على عمومه ، فتبقى نسبته مع غيره بعد التخصيص هي عينها التي كانت قبل ملاحظة المخصص.

وإلاّ لم يكن وجه لانعقاد ظهور له في الباقي دون غيره من المراتب ، لعدم الوضع وعدم القرينة المعينة ، وانعقاد الظهور في الباقي يتوقف على أحدهما كما لا يخفى (1).

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره وجها لتقريب انقلاب النسبة ، وتوضيحه : ان للكلام دلالات ثلاث :

دلالة تصورية ، وهي انتقال المعنى من اللفظ عند إبرازه وهي لا تتوقف على صدور اللفظ عن إرادة وقصد ، بل هي تحصل ولو لم يكن صدور اللفظ عن اختيار ، وهي نفس الدلالة الوضعيّة عند بعض.

ودلالة تصديقية ، وهي الحاصلة من ضم بعض اجزاء الكلام إلى بعض وملاحظة القرائن المحفوف بها الكلام فقد يكون دالا على غير المعنى الوضعي الأولي ، لوجود القرائن المغيرة لظهوره الأولي ، ويسند المجموع إلى المتكلم ويحكم بأنه قصد تفهيم هذا المعنى المستفاد من الكلام ، وهذه الدلالة تتوقف على صدور الكلام عن إرادة وقصد.

ودلالة ثالثة ، على كون المعنى المقصود تفهيمه هو المراد للمتكلم جدا وواقعا ، ويعبر عنها بالدلالة التصديقية في الكشف عن المراد الجدي. وموضوع الحجية هي القسم الثالث من الدلالات المذكورة ، فان الكشف النوعيّ للكلام عن المراد الجدي هو الّذي يكون موضوع الحجية والاعتبار عند العقلاء.

ص: 353


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية /452- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والمعارضة بين الأدلة انما هي باعتبار الكشف النوعيّ لكل منهما عن المراد الجدي المنافي للآخر بحيث لا يمكن الالتزام بكل منها - وإلاّ فمع الغض عنه لا تعارض بين الأدلة بلحاظ المستعمل فيه في كل منها ، إذ مع العلم بأنه لا مراد جديا على طبق المستعمل فيه والمقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلة -

ولأجل ذلك تلاحظ النسبة في باب المعارضة بلحاظ مقدار الكشف النوعيّ للدليل عن المراد الجدي فمع تخصيص أحد الدليلين بالمخصص المنفصل تتضيق دائرة كشفه عن المراد الجدي ، إذ يعلم ان المراد الجدي أضيق مما يتوهم ، فيتضيق موضوع الحجية قهرا.

ومعه تنقلب النسبة بالضرورة ، إذ بعد فرض تضييق دائرة كشف العام عن المراد الجدي ، وكون الملحوظ في باب المعارضة هو كشف الدليلين عن المراد الجدي ، كانت نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاصّ إلى العام ، لأن ما يلحظ في مقام المعارضة أخص فيه منه في العام الآخر.

ولا وجه لملاحظة مجموع مدلول العام بعد ان لم يكن كاشفا بمجموعه عن المراد الجدي.

وبالجملة : فموضوع أصالة الظهور هو الكشف عن المراد الجدي الواقعي ويثبت بها نفس المراد الجدي ومطابقته لظاهر الكلام ومدلوله الاستعمالي وبذلك تفترق عن أصالة الجهة ، فانها تجري في تعيين كون الكلام مسوقا لبيان المراد الواقعي ، وانه صادر عن الإرادة الحقيقية الجدية لا عن تقية أو امتحان أو نحوهما فأصالة الجهة تجري في إثبات الإرادة الجدية وأصالة الظهور تجري لإثبات المراد الجدي وما تعلقت به الإرادة الجدية بعد فرض ثبوتها وتحققها.

ومن هنا يظهر ما في كلام السيد الخوئي - كما في بعض تقريرات بحثه (1) -

ص: 354


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 387 - الطبعة الأولى.

من المسامحة والغفلة في عدّ أصالة الظهور وأصالة الجهة أصلا واحدا يختلف التعبير عنه - وهو يتضيق بعد ورود المخصص فتتضيق الحجية قهرا ، وتنقلب النسبة.

ولكن ما أفاده قدس سره - وان كان قد استوضحه بحيث جعل انقلاب النسبة بملاحظته من القضايا التي قياساتها معها - لا تمكن الموافقة عليه. وذلك لأن مراده ..

ان كان ان موضوع المعارضة هو الكشف عن المراد الجدي لأنه موضوع الحجية ، فمع تخصيص الدليل بالمنفصل تتضيق دائرة كشفه فتنقلب النسبة حينئذ.

ففيه :

أولا : ان الكشف الّذي يكون موضوع الحجية ليس هو الكشف الشخصي الفعلي الظني أو العلمي ، كي يكون قيام الدليل الآخر المنافي له رافعا له ، إذ لا يبقى معه علم أو ظن بثبوت المراد الجدي على طبق الكلام.

وانما هو الكشف النوعيّ الطبيعي الثابت مع الظن بالخلاف ، بل مع العلم به - وان لم يكن موضوع الحجية في هذا الحال - إذ معناه ان الدليل لو خلي ونفسه كاشف وموجب للظن بالمراد الجدي نوعا ، ولا يخفى اجتماع هذا المعنى مع الظن الشخصي بالخلاف.

وقيام الدليل المخصص لا يوجب تضييق دائرة كشفه النوعيّ كي تنقلب النسبة في مقام المعارضة ، بل يبقى الدليل على ما هو عليه من الكشف وان لم يكن حجة فيه.

وثانيا : ان الكشف النوعيّ ليس هو موضوع الحجية ، بل موضوعها امر آخر وهو الظهور ، بمعنى ان الدلالة الاستعمالية للكلام الظاهرة في المعنى هي التي تكون موضوع الحجية على المراد الجدي عند العقلاء ، نعم ، منشأ ذلك هو ما يقتضيه الظهور من الكشف النوعيّ عن المراد الجدي.

والدليل على ذلك ما هو المتداول على الألسنة والمرتكز في الأذهان من :

ص: 355

« حجية الظاهر » و « ان الظاهر حجة عند العقلاء » ، ونحو ذلك من التعبيرات ، وظاهر انه ليس المراد من الظهور هو نفس الكشف النوعيّ ، بل ما هو من صفات الكلام المساوق للوضوح وعدم الإبهام والخفاء.

اما نفس الكشف النوعيّ ، فهو ليس موضوع الحجية وانما هو ملاكها ، نظير الطريقية التي تكون منشأ لحجية نفس الخبر ، لا ان الطريقية بنفسها حجة عند الشارع أو عند العقلاء.

وان كان مراده ان الملحوظ في مقام المعارضة هو الحجية ، إذ مع فرض عدم حجية أحد الدليلين في مدلوله لا تعارض ، فمع تضييق دائرة الحجية بورود المخصص تنقلب النسبة قهرا ويكون العام المخصص أخص مطلقا من العام الآخر.

ففيه - مضافا إلى انه لا يستدعي مثل هذا التطويل والإسهاب وبيان ان الكشف النوعيّ هو موضوع الحجية ، إذ الحجية تتضيق دائرتها بورود المخصص أيا كان موضوعها ، فيكفي ان يقال بنحو الإيجاز انه بقيام الدليل تتضيق دائرة الحجية ، ومعه تنقلب النسبة ولا داعي إلى هذا التطويل - انه :

ان أريد بذلك ان طرفي المعارضة هما الظهوران بما انهما حجة بحيث يكون وصف الحجية مقوما لموضوع التعارض.

فهو ممنوع ، إذ من البديهي ان الملحوظ في المعارضة وأقوائية الدلالة وضعفها انما هو ذات الدليلين بلا لحاظ اتصافهما بالحجية ، بل الاتصاف انما يكون بعد العلاج ، فقد يتكافأ الدليلان فيسقطان معا عن الحجية ، وقد يتقدم أحدهما لكونه أقوى فيتصف بها دون الآخر ، فالحجية في طول التعارض والعلاج ، لأنها مأخوذة في موضوع التعارض ، فلاحظ.

وان أريد ان طرفي المعارضة هو ذات الظهورين ولكن بالمقدار الّذي يكونان به موضوعا للحجية ، فحيث انه بورود المخصص يكون الظهور الموضوع للحجية أضيق دائرة من ظهور العام الآخر فتنقلب النسبة قهرا.

ص: 356

ففيه : انه ...

ان أريد بالحجية الحجية الفعلية. فقد عرفت انها في طول التعارض والعلاج ، إذ مع المعارضة لا معنى لفرض الحجية الفعلية لكلا الظهورين ، لأنها مركز المعارضة وما عليه التدافع.

وان أريد بها الحجية الشأنية الاقتضائية. فهي لا تتضيق بالتخصيص ، إذ الظهور يبقى على ما كان من قابليته للحجية لو لا المعارض الأقوى.

ولو تنزلنا عن ذلك ، فما قرره قدس سره لا يفيد في إثبات المدعي من ترتب آثار انقلاب النسبة وتقدم العام المخصص على غيره من العمومات المعارضة له.

لأن تقدم الخاصّ على العام انما هو باعتبار أقوائية دلالته وظهوره في الخاصّ من العام - كما أشرنا إليه سابقا - ولا يخفى انه بورود الدليل الخاصّ لا تتضيق دائرة دلالة العام بحيث تقتصر على الباقي الّذي هو موضع التنافي ، بل هو على ظهوره العمومي - كما هو الفرض - وانما المتضيق هو دائرة الحجية ، فالباقي مدلول للعام في ضمن دلالته على العموم فلا يكون العام المخصص أقوى ظهورا في الباقي من العام الآخر ، إذ كل منهما يدل عليه ضمنا بلحاظ دلالته على العموم ، وان كان أحدهما أضيق دائرة في مقام الحجية من الآخر ، إلاّ انه لا يجدي في التقدم ، فتدبر جيدا.

هذا كله فيما يتعلق بكلام هؤلاء الاعلام. وتحقيق الحال ، ان يقال (1) : ان من

ص: 357


1- لا يخفى انه ينبغي ان يبحث عن : ان أحد العامين من وجه إذا خصص بمخصص ، هل يتحقق فيه ملاك تقديم الخاصّ على العام أو لا؟ وهكذا لو خصص العام بأحد الخاصّين ، هل يفقد الخاصّ الآخر ملاك التقديم على العام أو لا؟ ولا أهمية لبيان انقلاب النسبة وعدمه ، فان هذا العنوان لم يؤخذ في موضوع دليل بل المدار على ما عرفت ، فانه هو محط الأثر العملي في تقديم دليل على آخر وعدم تقديمه ، ولو بقيت النسبة على حالها بين الدليلين. وتمهيدا لذلك لا بد من الإشارة إلى الآراء في تقديم الخاصّ على العام ، وهي وجوه : منها : ما قربناه من ان دلالة العام على العموم تتبع جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، فيكون الخاصّ منافيا لإطلاق المدخول ، فيتأتى فيه الوجه في تقديم المقيد على المطلق ، وهو كشفه عن عدم كون المتكلم في مقام البيان من جهة المقيد فلا إطلاق له. ومنها : ما ذهب إليه المحقق النائيني - في بعض كلماته - من انه لأجل قرينية الخاصّ على العام ، والقرينة مقدمة عرفا على ذي القرينة بلا كلام ، وعلى هذا بني تقديم الخاصّ على العام ولو كان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العام. ومنها : ما يظهر من صاحب الكفاية وغيره ، من انه لأجل كون الخاصّ أظهر من العام ، والأظهر يقدّم على الظاهر عرفا. إذا عرفت ذلك فلنبدأ في الكلام بالصورة الثانية ، وهي : ما إذا ورد عامين بينهما العموم من وجه ، ثم ورد خاص لأحدهما يخصصه في مورد الافتراق ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم النجفيين » ، وورد : « لا تكرم العالم غير النجفي ». وليعلم ان البحث يقع في : ان الخاصّ بمجرد ثبوته ووجوده هل يؤثر في قلب النسبة بين : « لا تكرم النجفيين » و : « أكرم العلماء » بالمعنى الّذي عرفته لانقلاب النسبة أو لا يؤثر؟ وليس البحث في انه بعد إعمال الخاصّ وتقديمه هل تنقلب النسبة أو لا؟ كي يرد عليه : بأنه ما الوجه في ملاحظة الخاصّ أوّلا قبل العام الآخر. يبقى في المقام شيء لا بد من التنبيه عليه فيما نحن فيه ، وان تعرض له الاعلام في مجال آخر ، وهو : انه على القول بانقلاب النسبة ولزوم الترتيب في العلاج في بعض الموارد ، قد نعين لزوم الترتيب في العلاج بين الخاصّين الصادرين عن إمامين ، فيخصص العام بالأول ، فمع ورود الثاني تكون نسبته مع العام نسبة العموم من وجه لا نسبة العموم المطلق. وأورد عليه في مصباح الأصول : بأنه قد مرّ مرارا بأن الكلام الصادر عن المعصومين بمنزلة كأنه كلام واحد ، لأنهم في مقام بيان الأحكام لا تأسيسها ، فلا وجه حينئذ لملاحظة الخاصّ الأسبق زمانا ثم يلاحظ المتأخر ، بل يخصص العام بهما دفعة واحدة كما تقدم. والتحقيق ان يقال : ان القائل بانقلاب النسبة اما لأجل ان المخصص المنفصل يهدم ظهور العام في العموم كالمخصص المتصل ، باعتبار ان ظهور العام في العموم بالإطلاق ، واعتبار جواز المقدمات في المراد الجدي كما تقدم ، أو لأجل انه يضيق دائرة حجيته ، وموضوع المعارضة هو الدليل بلحاظ حجيتهما - مع بقاء ظهور العام في العموم اما لأن ظهوره بالوضع أو بالإطلاق ، ولكن المقدمات تجري في المراد الاستعمالي. وعلى كلا التقريبين يتعين الترتيب في الملاحظة مع السبق الزماني ولو من امام واحد. اما على الأول ، فواضح ، لأنه بعد ورود الخاصّ الأول ينهدم ظهور العام في الباقي ، فتكون نسبة الثاني حين وروده نسبة العموم من وجه ، كما لا يخفى. واما على الثاني ، فظهور العام وان كان بعد ورود الخاصّ الأول على حاله ، إلاّ ان حجيته - التي هي مناط المعارضة لا ظهوره - تتضيق قطعا ، فيكون العام حجة في غير مورد الخاصّ الأول ، ويبقى هكذا حتى ورود الخاصّ الثاني ، ومعارضة الخاصّ الآخر انما هي بمقدار حجيته لا بمقدار ظهوره كما هو الفرض. وهما بهذا اللحاظ عامّان من وجه ، وان كان بينهما بلحاظ الظهور عموم وخصوص مطلق. ومن هنا يظهر ما في كلام مصباح الأصول من الابتعاد عن موضع الكلام ونكتته ، فان كون كلام الكل بمنزلة كلام واحد لا ينافي ما ذكرنا ، إذ تعدد الصادر منه الكلام ووحدته لا ترتبط بنكتة المطلب التي بيّناها ، المتقومة بالسبق الزماني وان صدر الكلامان عن امام واحد. نعم ، هذا - أعني : ما ذكرناه - انما يجدي بالنسبة إلى من أدرك الإمامين وسمع من الأول الخاصّ الأول ومن الآخر الثاني. اما بالنسبة إلى من تأخر عن زمان الأئمة عليهم السلام ، وعثر على العام والمخصصين المترتبين زمانا ، فلا يجدي ما ذكر ، لأن ما ذكرناه متقوم بكون العام حجة لديه في غير مورد الخاصّ الأول ثم يرد الخاصّ الآخر ، والحجية انما تكون بالوصول ، ومع وصول المجموع دفعة واحدة لم يكن العام قبل ورود أحد الخاصّين حجة بالنسبة إليه كي تنقلب نسبته مع وروده ، بل هو في هذه الحال حجة في غير مورد الخاصّين. فلاحظ.

ص: 358

يلتزم بأن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق ليست بالوضع وبنفسها ، بل بتبع ما يراد من مدخولها بحسب جريان مقدمات الحكمة فيه.

ويلتزم أيضا بأن مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الجدي بحيث يكون الدليل المنفصل موجبا لتضييق دائرة ظهوره الإطلاقي كالمتصل ، وكاشفا عن انه لم يكن في مقام البيان من جهة المقيد ، فينهدم إطلاقه من هذه الجهة وينعقد في غيرها.

من يلتزم بهذين الالتزامين ، لا محيص له عن الالتزام بانقلاب النسبة ، إذ مع ورود الدليل الخاصّ المنافي لأحد العامين ينهدم إطلاقه وينعقد في غير مورد القيد ، فيكون بالنسبة للعام الآخر خاصا.

وبما ان المحقق النائيني يلتزم بكلام الالتزامين فانقلاب النسبة لديه ضرورة واضحة.

ص: 359

واما من يلتزم بدلالة ألفاظ العموم عليه بنفسها لا بتبع ما يراد من مدخولها. أو يلتزم بجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي بحيث لا يكون المخصص المنفصل هادما لظهوره الإطلاقي بل رافعا لحجيته على المراد الجدي.

فلا وجه لالتزامه بانقلاب النسبة ، إذ ظهور العام في الاستغراق لا ينهدم بورود المخصص ، فتبقى نسبته مع العام الآخر كما كانت قبل التخصيص.

نعم ، بناء على ان ورود الخاصّ المنفصل يكون هادما لظهور المطلق في المراد الاستعمالي أيضا ، بحيث يكشف عن انه ليس في مقام البيان لمراده الاستعمالي ، يتجه القول بانقلاب النسبة وان كانت مقدمات الحكمة جارية في المراد الاستعمالي كما لا يخفى.

فمجمل القول : ان انقلاب النسبة لا محيص عن القول به على بعض الالتزامات في باب العام والمطلق ، ولا وجه له على الالتزامات الأخرى.

هذا كله في بيان انه بعد التخصيص هل ينقلب ظهور العام وينعقد له ظهور ثانوي في الباقي فتنقلب النسبة ، أو لا ينقلب ظهوره وبقي على ما كان عليه فلا تنقلب النسبة (1)؟

ص: 360


1- اما بناء على المسلك المختار ، فلأن العام نصّ في بعض افراده بنحو الجملة ، يعني لا يمكن ان يفرض انه ليس في مقام البيان في بعض الافراد بنحو الموجبة الجزئية. نعم ، إثبات الحكم للجميع انما هو بالإطلاق ، فإذا ورد المخصص للعام ، كشف عن عدم كونه في مقام البيان من جهته ، ودل بالملازمة على ان العام في مقام البيان من جهة غيره من الافراد ، فكان العام بمقتضى دلالة الخاصّ التزاما نصا في بعض الافراد غير الخاصّ ، ومقتضى ذلك ان يكون مقدما على العام الآخر غير المخصص ، لأنه نصّ في مورد الاجتماع ، فيكون كما لو فرض ان مورد الاجتماع كان موردا لأحد العامين ، بحيث لا يمكن حمله على غيره لأن تخصيص المورد مستهجن. ولا يقال : ان هذا انما يتم إذا لوحظ الخاصّ أولا ، ولم يقدم الخاصّ على العام الآخر. وذلك ، لأن ملاحظة العامين أولا تستلزم التصرف في التخصيص ، لأن عدم حجية العام في المجمع من باب التساقط ، وهو لا يستلزم كونه نصا في غير المجمع كي تنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر. وعليه ، فلا بد من تقديم الخاصّ في مقام العلاج ، لأنه بوجوده يتصرف في ظهور العام ويوجب قلب النسبة بدلالته الالتزامية ، فيكون المورد من قبيل تقديم الوارد على المورود ، فالتخصيص رافع لموضوع التساقط ، لكن التساقط لا يرفع موضوع التخصيص لأنه لا يوجب الانقلاب. واما صورة كون أحد الخاصّين قطعيا ، فالانقلاب أيضا متعين ، لأنه مع القطع بخروج بعض الافراد ، لا مجال لجريان أصالة العموم في العام ، فيعلم ان مورد العموم غير الخاصّ ، فتكون النسبة بين العام والخاصّ الآخر هي العموم من وجه. ولا مجال لدعوى تقديم الخاصّ الآخر ، للعلم بخروج الخاصّ القطعي ، سواء قدم الخاصّ الآخر ، أو لوحظ في عرض واحد ، أو لا؟ فلاحظ. واما صورة الخاصّ الأخص ، فلا وجه لتقديمه أولا بدعوى العلم بخروجه على كل تقدير ، لأن أحد تقديري العلم هو التخصيص بالأعم ، بل يخصص العام بهما معا ، فلاحظ. هذا تقريب الانقلاب على المختار. واما على مختار صاحب الكفاية ، فالامر كذلك ، لأنه بعد ملاحظة الدلالة الالتزامية للخاص يكون وروده موجبا خصوصية العام المخصص في غير مورده ، فيكون أظهر في الجمع من العام الآخر ، وكذلك على مختار القرينية ، فلاحظ. هذا تحقيق الكلام. واما كلمات الاعلام ففيها كلام. اما مطلب صاحب الكفاية ، فيرده : ان أساس تقديم العام المخصص على العام الآخر لم يكن على انقلاب الظهور وتبدله وعدمه ، بل على نصوصية في المجمع بملاحظة الدلالة الالتزامية للخاص ، سواء بقي على ظهوره في العموم أو لم يبق ، فهو كما عرفت نظير العام الّذي يكون مورد الاجتماع موردا له ، فانه لا يخرج عن ظهوره في العموم بذلك ، ولكنه يقدم على العام الآخر ، فكأنه قدس سره لاحظ لفظ : « انقلاب النسبة » وناقش ذلك على هذا الأساس ، والحال انه لا وجه لذلك ، بعد عدم ورود هذا التعبير في لسان دليل. واما مطلب النائيني ، فقد حققنا رده في المتن بنحو التفصيل ، والعمدة ان موضوع النسبة ليس هو الظهور الحجة ، بل الظهور بنفسه الّذي له مقتضى الحجية ، وان لم يكن حجة فعلا للمعارضة أو لغيره. واما كلام الشيخ ، فهو لا يخلو عن إجمال. هذا ، ولكن الّذي يبدو لنا ان هذا المبحث لا نفع فيه كثير كما كنا نتخيل سابقا ، إذ في هذه الصورة لا بد من الالتزام بنتيجة انقلاب النسبة ، سواء قلنا به أم لم نقل به ، وذلك. اما في صورة العامين من وجه وتخصيص أحدهما المخصص ، فلا بد من تقديم العام المخصص ، اما للانقلاب ، واما لعدم المورد له واستلزامه لغويته ، كما أشار إليه الشيخ. واما في صورة المخصصين اللذين أحدهما قطعي ، فلا بد من تقديم الخاصّ الآخر على العام لعدم الانقلاب. واما لأن تقديم العام في المجمع يستلزم لغوية الخاصّ الآخر وعدم ثبوت الحكم لعنوانه مع انه نصّ فيه ، فمثلا لو ورد : « أكرم العالم » وورد : « لا تكرم النحويين » وكان قطعيا ، وورد : « لا تكرم العالم النجفي » ، ففي الفقيه النجفي يتعارض الخاصّ مع العام. فان قدم العام واقتصر في التخصيص على النجفي النحوي بقي الخاصّ الآخر ، ولم يبق مورد بعنوانه. واما في صورة الخاصّ الأخص ، فلو قدم الخاصّ الأخص ، فلا بد من تقديم الخاصّ الآخر الأعم اما لعدم الانقلاب واما لاستلزامه اللغوية أيضا كما تقدم ، وقس على هذا البيان سائر الصور ، فلاحظ جيدا. يقع الكلام في نصوص ضمان العارية واختلافها ، وتحقيق الحال فيها : اما نصوص الاشتراط ، فالاستثناء فيها أشبه بالمنقطع ، بناء على ما تقرر في محله من الجمع بين أدلة الشروط وأدلة الأحكام الأولية بحملها على ثبوت الحكم في نفسه ، فدليل نفي الضمان راجع إلى بيان عدم الاقتضاء في العارية بما هي ، ودليل الثبوت مع الشرط راجع إلى بيان الاقتضاء بلحاظ الشرط ، ولا منافاة أصلا بين الحكمين. ولو سلم انه من التخصيص ، فلا ينافي سائر الروايات ، لأنها واردة مورد الشرط وعدمه كما أشير إلى ذلك في المتن. واما نصوص الدرهم والدينار ، فهي : أولا : غير ظاهرة في خصوصية الدرهم والدينار بما هما ، بل بلحاظ جهة جامعة ، كما يقال : « ان فلانا يحب الدينار » فانه لا ظهور له في انه يحبه لنفسه ، بل بما هو نقد أو غير ذلك. وثانيا : ان خصوصيتها ملغاة بمقتضى ما تقرر من ان ترتيب الحكم الواحد على موارد متعددة يكشف عن إلغاء الخصوصية ، كما في دم الطير والأرنب ونحو ذلك. وعليه فلا بد من ملاحظة الجهة الجامعة ، وهي مرددة بين أمور ، فتكون مجملة ، ولكن روايات الذهب تبين الجامع ، ولا أقل من ارتفاع التنافي فيها. وثالثا : انه لا عقد سلبي للروايات المزبورة مطلقا ، لأنها في مقام بيان ان عدم الضمان ينتفي في هذه الموارد ، لا انها في مقام نفي الضمان مطلقا وثبوته هنا ، فلا دلالة لها على الحصر حينئذ ، ومقتضى ذلك ثبوت الضمان في جميع هذه المذكورات لعدم التنافي. ولو سلم التنافي بملاحظة وجود العقد السلبي وغض النّظر عما ذكرناه ، فيقع التعارض بين العقد السلبي لكل منها والعقد الإيجابي للآخر ، لكن روايات الدرهم والدينار تقيد إحداهما الأخرى. واما النسبة بينها وبين روايات الذهب والفضة ، فهي العموم من وجه. وقد يقال : بتقديم العقد السلبي ، لأن دلالته بالعموم والعقد الإيجابي دلالته بالإطلاق. ولكن لو سلم كبرى هذا المطلب فهي هنا غير مسلمة ، لأن تقديم العام هاهنا يقتضي إلقاء المطلق بالمرة أو تخصيصه بالفرد النادر جدا وهو مستهجن. هذا مع عدم العموم لتقييد كل منهما بالآخر في الدينار والدرهم ، مما يكشف عن عدم إرادة العموم قطعا. ثم انه لو تحقق التعارض ، فقد يقال بالرجوع إلى العموم الفوقاني الدال على عدم الضمان ، ولكن ذلك يشكل : بأنه يبتني على عدم انقلاب النسبة ، وإلاّ فالعموم الفوقاني يتضيق أيضا لتقيده جزما بروايات الدرهم والدينار ، فيكون حاله حال العقد السلبي في تلك الروايات ، ومن هنا يعلم ارتباط هذا الفرع بمسألة انقلاب النسبة ، فلاحظ. نعم ، يتعرض لصورة تعارض العام مع الخاصّين المستغرقين وكيفية معالجة التعارض ، كما يتعرض لصورة تعارض أحد العامين من وجه مع العام الآخر والخاصّ المخصص له. واما شمول الاخبار العلاجية للعامين من وجه ، فعلى القول بتعدد التعبد في المقامات الثلاثة - كما أشير إليه في المتن ، وهو المذهب الصحيح - فلا وجه للقول بالشمول ، لأن الاخبار العلاجية تتكفل الترجيح من جانب الصدور ، وواردة في مورد لا يمكن البناء على صدور الخبرين معا ، ففي المورد الممكن التزام صدورهما لا إشكال حينئذ. وما نحن فيه كذلك ، لإمكان الالتزام بصدورهما والتساقط في الدلالة وحجية الظهور في بعض المدلول. نعم ، في المورد الّذي يكون التساقط في جميع المدلول تسري المعارضة للصدور ، إذ لا معنى للتعبد بصدور ما لا يؤخذ به أصلا ، فيقع التعارض في أدلة اعتبار السند. وقد يقال : بان الخبر العام منحل إلى اخبار متعددة بتعدد الافراد ، فالخبر بمورد الاجتماع غير الخبر بمورد الافتراق ، فيكون التعارض بين الخبرين الضمنيين ، ونتيجته الترجيح أو التخيير في أحدهما. والجواب : ان الخبر الضمني في المقام خبر تحليلي لا خبر عرفي ، وإلاّ فالحكاية أو الإنشاء واحد لا يقبل التعدد ، وانما التعدد في مقام التطبيق والفعلية. وتوضيح ذلك. أولا : ان التعارض في النقلين وهما ينقلان قول المعصوم وهو واحد لا متعدد ، والانحلال على تقدير في المنقول لا في النقل. وثانيا : ان الانحلال المتعقل انما هو في القضايا الخارجية ، كبيع الصفقة ، والاخبار بفسق هؤلاء ، ونحو ذلك ، فيكذب من جهة دون أخرى. ولا يتعقل في القضايا الحقيقية ، فلو قال : « السم قاتل » وتخلف ذلك في بعض الافراد لم يكن الا كاذبا لا صادقا وكاذبا ، وذلك لأن القضية الحقيقية اخبار بالملازمة بين المحمول والموضوع بلا نظر إلى وجود الموضوع خارجا والانحلال في مقام التطبيق. والأحكام الشرعية كلها منشأة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، فلاحظ. واما على القول بوحدة التعبد في المقامات الثلاثة ، وان مرجع التعبد بالصدور إلى التعبد ، بالمضمون أيضا ، فقد يتصور سراية التعارض الدلالي إلى التعارض السندي ، لعدم إمكان الجمع بين التعبدين بصدورهما معا. ولكنه مبنى فاسد أولا. وثانيا : لا تساعده اخبار العلاج إثباتا ، موضوع التعارض المطلق ومن جميع الجهات لا من جهة دون أخرى ، فلاحظ. واما ما أفاده السيد الخوئي في المقام ، فالكلام معه في جهات : في تحديده محل الكلام. وفي تفصيله بين العام والمطلق. فان غاية تقريبه : ان الإطلاق حيث انه بمقدمات الحكمة ، وهي تجري من قبل المكلف نفسه والسامع للخبر ، فمع تضاد الحكمين يعلم إجمالا بعدم كونه في مقام البيان في أحد الإطلاقين ، فلا تتم مقدمات الحكمة في أحدهما ، فلا ينعقد لأحدهما ظهور كي تتحقق المعارضة ، بخلاف العموم فان دلالته وضعية. والإشكال عليه : بأن مجرى المقدمات هو المراد الاستعمالي لا الجدي ، وهو غير معلوم العدم في أحدهما. يمكن ردّه : بأن بيان المراد الاستعمالي بنحو الإطلاق مع عدم كونه مرادا جدا ، انما يقرب على أساس كون الإطلاق يكون قاعدة ظاهرية يرجع إليها عند الشك ما لم يثبت التقييد ، ومثل هذا مفقود فيما نحن فيه ، لأنه بعد ورود الإطلاق الأول ، فلا محصل لإرادة القاعدة الظاهرية من الإطلاق الثاني ، فكيف بين الإطلاق استعمالا ولا يراد جدا؟ فانه لغو محض. اذن فالتفكيك موجود بين العام والمطلق بما بيناه. ولكن هذا لو تم لأشكل الأمر في مطلق التعارض ، إذ التعارض يتوقف على تمامية مقتضى الحجية في كل الدليلين في نفسه ، فقد يقال : ان الظهور انما يكون حجة إذا لم يكن له معارض ، فعدم المعارض أخذ في موضوع الحجية. وعليه فكل من المتعارضين ساقط عن الحجية ، فلا تعارض أصلا لعدم حجية الظهور في كل منهما ، فيكونان كالمجملين ، فلا فرق فيما ذكره بين العامين من وجه وبين المتباينين ، فتدبر.

ص: 361

ص: 362

ص: 363

ص: 364

ثم انه على القول بانقلاب الظهور بالتخصيص وانقلاب النسبة ، لا بد من التكلم في انه هل يلزم الترتيب في العلاج بحيث تنقلب النسبة بينه وبين الطرف الآخر غير الملحوظ ابتداء أو لا؟

والتحقيق : انه لا بد من التفصيل بين صورتي ما إذا ورد عام وورد خاصان ينافيانه. وما إذا كان هناك عامان وخاص ينافي أحدهما.

ففي الصورة الأولى لا وجه للالتزام بالترتيب وتقديم أحد الخاصّين ثم ملاحظة العام والخاصّ الآخر ، لأن تقديم أحدهما بخصوصه ترجيح بلا مرجح ، فلا بد من الالتزام بتخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة.

نعم ، يستثنى من ذلك صورة ما إذا كان أحد الخاصّين قطعيا والآخر ظنيا ، فانه يقدم الخاصّ القطعي على الظني ، ثم تلاحظ النسبة بين العام والخاصّ الظني.

والوجه في ذلك : ان الدليل الخاصّ الظني انما يتقدم على العام ببناء العقلاء لكونه صالحا للبيانية ، وهذا إنما يتم بعد فرض انعقاد ظهور العام في العموم ، ومع وجود الدليل القطعي على عدم إرادة بعض الافراد تتضيق دائرة العام تكوينا للعلم بعدم كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة ، فتنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ الظني قهرا.

وهذا بخلاف الخاصّ القطعي ، فان تقدمه على العام لا يتوقف على بناء العقلاء ، وظهور العام في العموم ليقينيته ، فهو متقدم عليه سواء خصص العام بذلك الخاصّ أم لم يخصص. وبعبارة أخرى : تقدمه عليه ليس من باب التخصيص كي تكون ملاحظته ابتداء من الترجيح بلا مرجح ، بل للعلم به وبعدم إرادة العموم.

وبالجملة : تقدم الخاصّ الظني على العلم وصلاحيته للبيانية انما يفرض عند ثبوت العموم ، ومع العلم بعدم ثبوته وانه لم يكن في مقام البيان من بعض الجهات لا

ص: 365

مجال لتقدمه على العام لانقلاب النسبة إلى العموم من وجه.

واما الصورة الثانية - نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم فساقهم » ثم ورد : « يستحب إكرام العدول » - فلا يخلو الحال فيها من إحدى ثلاث :

الأولى : ان يكون العام المخالف للخاص أظهر من العام غير المخالف له.

الثانية : ان يكون العام غير المخالف أظهر من العام المخالف.

الثالثة : ان يكونا متساوي الظهور.

ففي الحال الأولى : لا ثمرة عملية للكلام في صحة تقديم الخاصّ ثم مراعاة النسبة بين العامين ، لأن العام المخالف للخاص يتقدم على العام الآخر سواء قلنا بتقديم الخاصّ وانقلاب النسبة أو لم نقل ، لأظهريته.

واما في الحال الثانية : فالثمرة العملية موجودة ، لأنه إذا قدم الخاصّ وصارت نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاصّ إلى العام ، كان أظهر منه فيتقدم عليه ، بخلاف ما إذا لم يقدم ، فان العام الآخر يقدم عليه في الجمع لأنه أظهر فيه منه.

وعليه ، فللكلام في لزوم تقديم الخاصّ في مقام العلاج أو عدم لزومه مجال.

والتحقيق : انه ..

ان قلنا بأن تقدم الخاصّ على العام ليس من جهة الأظهرية ، بل من جهة كون عدمه مأخوذا في موضوع أصالة العموم ، فيكون عدمه جزء المقتضي ويتقدم عليه مطلقا ولو لم يكن بأظهر ، ويكون وجود الأظهر غير الخاصّ من قبيل وجود المانع - ان قلنا بهذا - كان الوجه ملاحظة الخاصّ ابتداء ، إذ ملاحظة المقتضي بشئونه أسبق من ملاحظة عدم المانع وباقي اجزاء العلة.

وعليه ، فلا وجه لملاحظة العام الآخر قبل لحاظ الخاصّ أو معه لأن نسبته إلى العام المخالف للخاص نسبة المانع ، ولا وجه لملاحظته قبل تمامية مقتضية ولحاظ حده ، فلا بد من ملاحظة الخاصّ أولا ثم يلاحظ العام الآخر.

واما ان قلنا - كما هو الحق - بأن تقدم الخاصّ للأظهرية ، فلا يتجه تقديم

ص: 366

لحاظه على لحاظ العام الآخر ، بل الوجه انهما يلحظان معا ويخصص بهما العام لتساويهما في مقام المعارضة بالنسبة إلى العام ، فلاحظ.

واما في الحال الثالثة : فقد يقال بلزوم ملاحظة الخاصّ أولا ثم ملاحظة العام المخصص مع العام الآخر.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه : ان المعارضة بين الطرفين انما تتحقق بعد فرض تمامية موضوع الحجية ومقتضيها في كلا الطرفين. ولما كان تقدم الخاصّ وملاحظته ابتداء موجبا للتصرف في موضوع المعارضة ظهورا أو حجية أو كشفا - على الخلاف - بحيث تنقلب النسبة بين العامين بملاحظته. بخلاف تقدم العام ، فانه ليس من باب التصرف ولا يوجبه ، بل العام المطروح يبقى على ما هو عليه من الحجية والظهور في المجمع ولو لم تكن حجيته فعلية ، فلم توجب ملاحظته انقلاب النسبة بين العام والخاصّ إلى التباين أو غيره. لما كان الأمر كذلك كانت نسبة ملاحظة الخاصّ إلى معارضة العام الآخر نسبة الوارد والمورود ، لأن ملاحظته ابتداء ترفع موضوع المعارضة فيتقدم عليه قهرا بملاك تقدم الوارد على المورود.

ولكن هذا الوجه وان كان تاما في نفسه إلاّ انه لا يجدي فيما نحن فيه ، لأن مثل هذا الوجه انما يجدي في مورد يكون فيه الدليل ثابتا في مقام الإثبات بحيث يكفي الوجه في رفع بعض المحاذير التي تذكر ، نظير الترتب المجدي في رفع استحالة اجتماع الحكمين ، فان تصوره في مقام الثبوت مساوق لتحققه إثباتا ، لتمامية الدليل في مرحلة الإثبات. امّا في ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، لأن تقدم الدليل الخاصّ وملاحظته أولا في مقام المعارضة ليس أمرا مفروضا عنه إثباتا ، والكلام في وجهه الثبوتي. بل هو محل الإشكال. فلا يجدي ما ذكر من ان ملاحظة الدليل أولا رافعة لموضوع المعارضة بين العامين ، لأنه وان كان كما ذكر ، إلاّ ان الملاحظة الابتدائية للخاص هي محل الإشكال والكلام ولا دليل عليها.

وليس هذا نظير الوارد والمورود ، فان الوارد بمدلوله رافع لموضوع الدليل

ص: 367

الآخر ، وحيث انه موضوع الحجية فيتقدم لثبوت مقتضية وعدم المانع. وفي المقام ليس المدلول كذلك ، بل البناء عليه والأخذ به وملاحظته أولا كذلك ، وهي لا دليل عليها ولم يثبت مقتضيها.

هذا ، ولكن الإنصاف ثبوت الدعوى المذكورة ، وذلك لأن انقلاب النسبة ..

ان قرب بدعوى : ان المخصص بوروده يتصرف في ظهور العام ويقبله عما كان عليه ، كانت مرتبة الخاصّ فيما نحن فيه أسبق من مرتبة العام المعارض ، فانه في مرتبة المقتضي لأنه مانع عن ثبوته ، والعام المعارض في مرتبة المانع ، لأنه مانع عن تأثير المقتضي لا عن ثبوته ، إذ هو لا يتصرف في الظهور الّذي يكون موضوعا لأصالة العموم. وعليه فلا بد من ملاحظة الخاصّ أولا إذ لا وجه لملاحظة أحد العامين مع الآخر قبل تمامية المقتضي في أحدهما وثبوت عمومه - كما عرفت قبل قليل -

وان قرب انقلاب النسبة : بأن موضوع المعارضة ما كان موضوع الحجية من الأدلة ، أو بان المعارضة بلحاظ الكشف النوعيّ ، فمعارضة أحد العامين للآخر لا تثبت الا بعد فرض تمامية حجيتهما أو كشفهما في مدلولهما ، ومع وجود المخصص لأحدهما تتضيق حجيته أو كشفه قهرا ، فلا يكون معارضا للعام الآخر ، بل يكون مخصصا.

وبالجملة : تحقق المعارضة بين الدليلين لا يتم إلاّ بتمامية ما به التعارض في كلا الدليلين ، وثبوت الخاصّ يضيق ما به التعارض في أحدهما ، فتنقلب النسبة قهرا.

هذا تمام الكلام في مرحلة ثبوت المسألة.

ويقع الكلام بعد ذلك في تحقيق صور المسألة وبيان حكمها من انقلاب النسبة - على القول به - وعدمه. وغير ذلك مما ينبغي تحقيقه ، وهي متعددة.

الصورة الأولى : ما إذا ورد عام وخاصان. وهي تتفرع إلى فروع.

الأول : ان يكون الخاصان متباينين.

ص: 368

الثاني : ان يكون بين الخاصّين عموم من وجه.

الثالث : ان يكون بينهما عموم مطلق.

اما الفرع الأول : فان لم يلزم من تخصيص العام بكلا الخاصّين محذور الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقاؤه بلا مورد - نظير : « أكرم العلماء » و : « لا تكرم النحويين ، ولا تكرم الأصوليين » - فلا إشكال في تخصيص العام بهما دفعة واحدة ، إذ لا وجه لملاحظة أحدهما ابتداء ، فانه ترجيح بلا مرجح كما عرفت آنفا.

واما ان لزم من تخصيصه بهما المحذور - نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام العدول منهم » ، فلا يخصص العام بهما ، بل يقع التعارض بينهما وبين العام وتكون نسبتهما إليه نسبة التباين.

وقد ذكر لهذا النحو أحوال ستة :

الأول : ان يكون الخاصان أرجح من العام.

الثاني : ان يكون العام أرجح منهما.

الثالث : ان يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

الرابع : ان يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للآخر.

الخامس : ان يكون مساويا لأحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

السادس : ان يكون مساويا لهما.

اما في الحال الأول ، فلا إشكال في تقدم الخاصّين وطرح العام من رأس.

واما في الثاني ، فلا إشكال أيضا في الأخذ بالعامّ. وانما الإشكال في انه هل يطرح كلا الخاصّين ، أو لا يطرح إلاّ أحدهما ، فيقع التعارض العرضي بينهما ويقدم الراجح منهما ، أو يتخير بينهما ويخصص به العام؟

وقد اختار صاحب الكفاية الثاني (1) ، ووافقه الاعلام من بعده.

ومركز الخلاف يرجع إلى ان طرف المعارضة هل هو مجموع الخاصّين فلا

ص: 369


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /452- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يطرح إلاّ أحدهما ، أو جميعهما فيطرحان معا؟

ولا بد من توضيح الحال ببيان الفرق بين الجميع والمجموع ، مع غض النّظر عن نفس التعبير ، إذ لا يخلو التعبير بهما عن غموض.

فنقول : ان طرف المعارضة تارة يؤخذ ذات الدليلين ، وأخرى يؤخذ وصف اجتماعهما وانضمامهما.

والمراد بالمجموع هو هذا المعنى ، يعني ان المأخوذ في طرف المعارضة وصف الاجتماع فلا يستلزم تقديم العام الا إلغاء هذا الوصف ، وهو لا يقتضي إلاّ طرح أحدهما لا كليهما. والمراد بالجميع هو المعنى الأول.

والالتزام بأن طرف المعارضة هو المجموع بهذا المعنى الّذي عرفته غير وجيه لوجهين :

الأول : ان طرف المعارضة لا بد وان يكون دليلا فيه جهة الدلالة والحجية ، كي تكون معارضته للدليل الآخر من إحدى الجهتين. وليس وصف الاجتماع دليلا أخذ موضوعا للحجية ويشتمل على جهة الدلالة ، فلا يصلح لأن يكون طرف المعارضة.

الثاني : لو سلم إمكان كونه طرف المعارضة - بالتنزل عن اعتبار جهة الدلالة أو الدليليّة في المعارض - فليس هذا النحو من المعارضة مشمولا للاخبار العلاجية المتضمنة لتقديم الراجح وطرح المرجوح ، إذ معنى الطرح جعل المانع من حجية أحد الطرفين ، وقد عرفت ان وصف الاجتماع لم يؤخذ في موضوع الحجية كي يكون قابلا للطرح والأخذ.

وعليه ، فالمتعين ان يكون طرف المعارضة هو ذات الدليلين ، بمعنى ان يكون كل منهما معارضا للعام في ظرف انضمام الآخر إليه ، نظير وجوب المركبات ، فان الواجب هو كل واحد من الاجزاء ، لكن عند انضمام الآخر إليه لا مجموعها ولا كل واحد بنفسه ، ومعروض الوجوب هو نفس الجزء لا بقيد الانضمام ، بل عند الانضمام.

ص: 370

ثم انه لو قيل بإمكان التبعيض في حجية العام ، بمعنى إمكان كون العام حجة في بعض مدلوله دون الآخر في بعض موارد المعارضة - كما ستأتي الإشارة إليه - ففي المقام تتشكل حينئذ معارضتان متعددة الأطراف ، إذ كل من الخاصّين يعارض ما ينافيه من مدلول العام وظهوره في مقام الحجية.

ومع فرض أرجحية العام من الخاصّين يطرح الخاصان معا ، لأرجحية كل قسم من العام من الخاصّ المعارض له ، فتقدم العام مع رجحانه على هذا القول واضح لا غبار عليه.

واما على القول بعدم إمكان التبعيض وان مصب الحجية في العام واحد لا يتبعض ، فطرف المعارضة مع كلا الخاصّين هو مجموع العام ، فالعام معارض لكل من الخاصّين في حال انضمام الآخر إليه ، ففي المقام معارضتان إلاّ ان أحد الطرفين فيهما واحد وهو العام - نظير ما لو كان هناك ثلاث أوان شرقي وغربي ووسط ، ووقعت في حين واحد نجاستان ترددت إحداهما بين الإناء الوسط والغربي ، والأخرى بين الإناء الوسط والشرقي ، فان أحد الطرفين في العلمين الإجماليين واحد وهو الإناء الوسط ، ويكون الأصل فيه معارضا لكل من الأصلين في الطرفين الآخرين ، لو قيل بالمعارضة بين الأصول في أطراف العلم الإجمالي - ففي فرض أرجحيته من كلا الخاصّين يتقدم عليهما في المعارضتين لرجحانه عليهما ويطرحان معا.

ويمكن ان يقال : انهما معا يكونان طرف المعارضة لأنهما بمنزلة دليل واحد ، فلا تكون الا معارضة واحدة طرفاها العام وكلا الخاصّين ، يتقدم عليهما العام في فرض رجحانه ويسقطان معا ، لأنهما بمنزلة دليل واحد وظهور واحد ، كما يسقط الدليل الواحد بمعارضة ما هو أرجح منه ، فكذلك الخاصان.

والمحصل : انه إذا كان طرف المعارضة ذات الدليلين يسقطان معا عند أرجحية العام منهما.

ص: 371

ولا وجه لما ذكره السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - من : انه بعد ان كان العلم الإجمالي متعلقا بكذب أحد الأدلة الثلاثة ، فلا وجه لطرح كلا الخاصّين عند تقديم العام ، إذ بعد تقديمه لا يعلم إلاّ بكذب أحدهما فيحصل التعارض عرضا بينهما ، وتجري فيهما أحكام المعارضة من ترجيح أو تغيير.

وذلك لأن مجرد العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يجدي في تحقيق المعارضة (1) بين الدليلين ، بل لا بد من انضمام امر آخر إليه ، وهو اشتمال كل من الدليلين على مقتضى الحجية وقابليتهما لها ، بحيث تكون حجيتهما فعلية لو لا المعارضة العرضية الحاصلة بالعلم الإجمالي بكذب أحدهما ، فالعلم الإجمالي بنفسه كاحتمال المصادفة للواقع ، فكما ان احتمال مصادفة الخبر للواقع لا يكون بنفسه مناطا لشمول دليل الحجية للخبر ما لم يكن في الخبر اقتضاء للحجية ، كذلك العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين لا يكون بنفسه مناطا للمعارضة بين الدليلين ما لم يكن في الدليلين اقتضاء الحجية.

وهذا غير موجود فيما نحن فيه ، إذ بعد ترجيح العام وتقدمه يلزم طرح الخاصّين كلاهما ، لأنهما طرفا المعارضة - كما عرفت - ومعنى الطرح جعل المانع عن حجية كل منهما بتقديم الطرف الآخر ، فالعلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يوجب تشكيل معارضة أخرى عرضية بينهما ، لكون حجية كل منهما مقرونة بالمانع من غير جهة المعارضة.

نعم ، لو كان طرف المعارضة وصف الاجتماع ، كان ما ذكر في محله ، لأن المطروح هو وصف الاجتماع من دون تعرض لنفس الدليلين ، وهما في أنفسهما حاويان لمقتضى الحجية. لكنك عرفت بطلان هذا الالتزام ، فلاحظ.

واما لو تساوى العام والخاصان ، فيختلف الحال على القولين : القول بإمكان التبعيض في حجية العام. والقول بعدمه.

ص: 372


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 390 - الطبعة الأولى.

فعلى الأوّل : فحيث قد عرفت انه تتشكل معارضتان طرف كل منهما أحد قسمي العام والخاصّ المنافي له.

فله الأخذ - في هذا الفرض - بطرف العام - أي ببعضه - في إحدى المعارضتين ، وبالخاص في الأخرى ، لأنه مخير مع التساوي في الأخذ بأي طرف من المعارضة.

وعلى الثاني : فالمعارضة وان كانت متعددة ، إلاّ ان أحد الطرفين فيها واحد وهو مجموع العام ، فيتعين اما الأخذ بالعامّ بمجموعه وطرح الخاصّين معا ، أو الأخذ بالخاصين وطرح العام - واما على الاحتمال الآخر من ان المعارضة واحدة طرفها كلا الخاصّين والعام ، فالتخيير المذكور بين أخذ العام وطرح الخاصّين وأخذ الخاصّين وطرح العام يكون واضحا جدا -

واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للآخر.

فعلى القول بإمكان التبعيض وتعدد المعارضة وطرفاها ، فالحكم واضح ، إذ يؤخذ بالشق الراجح من العام ويتخير في الشق الآخر المساوي للخاص الآخر بين الأخذ به وطرح الخاصّ المقابل له ، وطرحه والعمل بالخاص.

واما على القول بعدم إمكانه ، فقد يقال : بأنه بعد ان كان العام راجحا من أحد الخاصّين ، فيمكن ان يطرح الخاصّ المرجوح بالاخذ بالعامّ ثم يتخير في المعارضة الأخرى بين العام والخاصّ الآخر المساوي ، فله طرح العام والأخذ بالخاص وبالعكس. وبذلك قد تكون النتيجة هي العمل بأحد الخاصّين فقط.

ولكن هذا القول غير وجيه ، لأن تقديم العام على الخاصّ المرجوح انما يصح بعد فرض حجيته الفعلية التعيينية ، ومع وجود المعارض الآخر للعام لا يصلح العام لإلغاء الخاصّ المرجوح ما لم يؤخذ به ، ويتعين في الأخذ دون الخاصّ المساوي. وعليه فمع الأخذ به يطرح الخاصّ المرجوح. واما مع طرحه والعمل بمعارضة الخاصّ المساوي ، فيبقى المرجوح بلا معارض فيعمل به.

ص: 373

ونتيجة ذلك : انه اما ان يؤخذ بالعامّ ويطرح كلا الخاصّين ، أو يؤخذ بالخاصين ويطرح العام ، فتدبر.

واما على الاحتمال الآخر من وحدة المعارضة بكون طرف المعارضة مع العام هو كلا الخاصّين ، فيشكل شمول الاخبار العلاجية لمثل الفرض مما يتفاوت فيه سند الخاصّين من جهة الرجحان ، إذ الظاهر منها كون موضوعها معارضة الدليلين بنحو يكون لكل منهما سند واحد فيلاحظ الأرجح منهما.

وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، لتعدد السند واختلافه ، فليس هناك سند واحد للدليلين الخاصّين يلاحظ الترجيح بينه وبين سند العام.

فالمتعين هو الرجوع إلى القاعدة الأولية ، وهي التساقط كما عرفت.

اللّهم إلاّ ان يقال - توسعا في الخيال - ان الظاهر من أدلة العلاج كون المرجحات المذكورة انما هي لترجيح مضمون أحد المتعارضين على الآخر بلا اعتبار وحدة السند ولا نظر إليها ، بمعنى ان طرف المعارضة إذا اشتمل على بعض هذه المرجحات دون الطرف الآخر فقدم عليه وطرح الآخر.

وعليه ، ففي المقام يلاحظ سند مجموع الخاصّين يحصل الكسر والانكسار بين سنديهما ، ثم يلاحظ بالنسبة إلى سند العام ، والمتعين هو العام لأرجحية سنده من سند الخاصّين.

واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

فعلى الالتزام بإمكان التبعيض ونتيجته ، فالحكم ظاهر ، إذ اللازم الأخذ بالقسم الراجح من العام وطرح الخاصّ المقابل له وطرح القسم المرجوح منه والعمل بالخاص منه المعارض له.

واما على الالتزام بعدم إمكانه وتعدد المعارضة ولكن أحد الطرفين فيهما واحد وهو العام ، فالعام لا يصلح لأن يكون مانعا عن الخاصّ المرجوح في معارضته له ، لأنه انما يصلح ان يكون كذلك بعد فرض تعينه وعدم وجود ما يصلح

ص: 374

لمانعية حجيته ، ومع فرض وجود الخاصّ الأرجح يسقط العام عن الحجية لاقتران مقتضيها بالمانع ، فيبقى الخاصّ المرجوح بلا مانع. ونتيجة ذلك هو تعين الأخذ بالخاصين.

واما على الاحتمال الآخر وإمكان كون المقام مشمولا للاخبار العلاجية - بالتقريب الّذي عرفته - فالحكم هو التخيير لحصول التساوي بين سند العام وسند الخاصّين بعد الكسر والانكسار ، فيتخير بين الأخذ بالعامّ وطرح الخاصّين ، والأخذ بهما وطرح العام.

واما لو كان العام مرجوحا بالنسبة لأحدهما مساويا للآخر.

فالحكم على القول بتعدد المعارضة وتعدد طرفيهما - كما هو الحال على القول بإمكان التبعيض في حجية العام - واضح أيضا ، إذ يؤخذ بالخاص الراجح على معارضه من قسمي العام ، ويتخير في المعارضة الأخرى بين الأخذ بالعامّ - أعني : ببعضه المعارض للخاص المساوي - والأخذ بالخاص.

واما على القول الآخر - أعني : تعدد المعارضة واتحاد أحد طرفيها - فالمتعين هو الأخذ بالخاصين ، إذ العام مع وجود الخاصّ الأرجح لا يصلح لمعارضة الخاصّ المساوي ومانعيته عنه لاحتفاف حجيته بالمانع ، فهو مطروح بلا إشكال ، فيؤخذ بالخاص المساوي مع تعين الأخذ بالخاص الراجح ، وبذلك تكون النتيجة هي الأخذ بالخاصين وطرح العام.

واما على الاحتمال الأخير الّذي عرفت تقريبه ، فالمتعين هو الأخذ بالخاصين أيضا ، لأرجحية سندهما بعد الكسر والانكسار من سند العام فيطرح ، فلاحظ وتدبر.

يبقى الكلام فيما أفاده السيد الخوئي من : ان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصّين فقط ، بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة والآخرين ، إذ العلم الإجمالي انما هو بكذب أحدها فقط ، ولذلك فما ذكره لهذا الفرض من أحكام بحسب صوره

ص: 375

الستة جار في مطلق موارد التعارض بين أكثر من دليلين مما كان العلم الإجمالي متعلقا بكذب أحدها ، كما لو قام الدليل على وجوب شيء وآخر على حرمة شيء آخر وثالث على كراهة امر ثالث وعلم إجمالا بكذب أحد هذه الأدلة (1).

ولا بد في بيان عدم نهوض ما ذكره من التكلم في جهتين :

الأولى : ان مفهوم التعارض المأخوذ في أدلة العلاج هل يشمل موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين مع عدم تنافيهما ذاتا ، بحيث يكون السبب في التنافي هو العلم الإجمالي فقط ، أو يختص بموارد تنافي الدليلين ذاتا وبحسب مدلوليهما أنفسهما؟

الثانية : انه مع الالتزام بشمول التعارض لموارد العلم الإجمالي ، فهل يشمل موارد تنافي أكثر من دليلين أو لا؟

اما الجهة الأولى : فلمدع أن يدعي اختصاص التعارض في مدلول الاخبار العلاجية بموارد التنافي الذاتي بين الدليلين بحيث يكون كل منهما بمدلوله وظهوره ينافي الآخر ، دون موارد التنافي العرضي الناشئ من العلم الإجمالي الثابت من الخارج بعدم اعتبار مضمون أحدهما مع التلاؤم بين الدليلين بحسب مدلوليهما وعدم المنافاة بينهما من ناحيتهما أنفسهما. وإلى هذا يشير كلام المحقق النائيني قدس سره (2).

ويمكن تقريبها : بأن التنافي المقوم لمعنى التعارض لا بد ان يكون عرفيا يدركه العرف ، وهو انما يتحقق مع كون كل من الدليلين بذاته وبمدلوله وظهوره ينافى الآخر ، بحيث يرى العرف التنافي بينهما عند ملاحظتهما ، كالتنافي بين الدليل الدال على وجوب شيء والدليل الدال على جوازه.

اما مع عدم تنافيهما ذاتا ، بل علم خارجا بكذب أحدهما ، فنفي كل منهما

ص: 376


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 390 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 702 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

للآخر ليس بحسب فهم العرف والملازمة العرفية ، بل بالملازمة العقلية الحاصلة من العلم الإجمالي ، فلا يصدق عليه التعارض بما له من المفهوم العرفي.

ويمكن الاستشهاد له بما تقرر في محله من تساقط الأصول المتعارضة عرضا بواسطة العلم الإجمالي - كما لو علم إجمالا بأنه مدين بدينار مثلا إما لزيد أو لعمرو ، وكان عدم الدين لعمرو له حالة سابقة دون زيد ، فان استصحاب عدم وجوب أداء هذا المال لعمرو - يعارض أصالة البراءة من وجوبه لزيد - مع الالتزام بشمول أدلة العلاج لموارد العامين من وجه.

فانه لو لا انه من المرتكز عدم المعارضة في موارد العلم الإجمالي ، لما صح القول بالتساقط ، لحصول التعارض حينئذ بين إطلاق كل من الأصلين وإطلاق الآخر ، للعلم الإجمالي بعدم صحة أحدهما ، ومقتضاه الترجيح أو التخيير لا التساقط.

وبهذا المورد ونحوه ينقض على من يلتزم بالمعارضة مع العلم الإجمالي.

ولو تنزلنا وقلنا ان التعارض بمفهومه العرفي هو مطلق التنافي أعم من العرفي والدقي ، فلا عبرة في خروج المورد عن التعارض بعدم التنافي العرفي ، فيشمل موارد العلم الإجمالي.

فيقع الكلام في الجهة الثانية ، فنقول : ان ذلك ينحصر في موارد التنافي بين الدليلين فقط ، إذ مع العلم بكذب أحدهما نافيا للآخر فيحصل التنافي.

اما في فرض التنافي العرضي أكثر من دليلين فلا يتحقق مصداق التعارض ، لأن كلا من الأدلة لا يتكفل نفي غيره من الدليلين أو الأدلة - لأن المعلوم كذبه أحدهما لا غير - بل مفاده إثبات مدلوله وان الكاذب في الدليلين الآخرين - وبذلك تحصل المعارضة العرضية بين الآخرين عند ثبوته - وهذا ليس من مفهوم التعارض في شيء ، لأن مفهومه التنافي المتقوم بنفي كل منهما للآخر ، وقد عرفت ان كلا من الأدلة لا يتكفل إلاّ إثبات ذاته ، اما نفي غيره فليس من مقتضاه أصلا ،

ص: 377

فيخرج عن مورد المعارضة.

ومن هنا يتبين بطلان ما أفاده أولا من : ان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصّين فقط ، بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة وأخويه ، لأن المعلوم بالإجمال هو كذب أحدهما فقط ، فلاحظ وتأمل واللّه ولي العصمة.

وأما الفرع الثاني : وهو ما إذا كان بين الخاصّين عموم من وجه - فله صورتان :

الأولى : ان لا يكون بينهما تناف في المجمع ، كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم فساق العلماء ، ولا تكرم النحويين ».

الثانية : ان يكون بينهما تناف في المجمع ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام النحويين » فانهما متنافيان في المجمع وهو النحوي الفاسق ، إذ أحدهما يقتضي حرمة إكرامه والآخر يقتضي استحبابه.

اما الصورة الأولى : فالكلام فيها عين الكلام المتقدم في الفرع الأول :

من لزوم تخصيص العام بهما دفعة واحدة بلا تقديم أحدهما وملاحظة النسبة بين العام بعد تخصيصه والخاصّ الآخر ، لأنه ترجيح بلا مرجح ، فيما لم يلزم من تخصيصه بهما محذور الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقائه بلا مورد.

ومن معاملتهما مع العام معاملة المتباينين ، وفرض الأحوال الست المتقدمة فيما لزم المحذور المذكور ، فراجع.

واما الصورة الثانية : فلا تصل النوبة فيها إلى الكلام في صحة تقديم أحدهما على الآخر في مقام العلاج ، إذ كل منهما لا يصلح لأن يكون مخصصا مع وجود المعارض له ، فلا بد من إجراء أحكام التعارض فيما بينهما في مورد المنافاة.

فان التزم بالتساقط ، كان العام في مورد المنافاة سالما عن المخصص فيعمل به ، ويخصص بكلا الخاصّين في غير هذا المورد دفعة واحدة ، إذ يكونان كالمتباينين بلا مرجح لأحدهما على الآخر. وان التزم بالتخيير أو الترجيح ، خصص بما أخذ به

ص: 378

منهما ، فلاحظ.

واما الفرع الثالث : وهو ما إذا كان بين الخاصّين عموم مطلق ، وهما ..

تارة : غير متنافيين كما لو كانا متحدي الحكم ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم النحويين ، ولا تكرم فساق النحويين ».

وأخرى : متنافيان كما لو كانا مختلفي الحكم ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم النحويين ، ويستحب إكرام عدول النحويين ».

ففي الحال الأولى : لا وجه لملاحظة أحدهما قبل الآخر مع العام ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فالوجه ملاحظتهما معا وتخصيص العام بهما دفعة لتساوي نسبتهما إلى العام.

واما ما أفاده المحقق العراقي في لزوم تقديم الخاصّ الأخص على الآخر. فتنقلب النسبة بين العام وبين الخاصّ الأعم إلى العموم من وجه ، من : ان الخاصّ الأخص معلوم التخصيص فهو خارج يقينا عن العام ، ويبقى غيره مشكوكا ، فيتمسك بأصالة العموم ، وتنقلب النسبة بين العام والخاصّ الأخص (1).

ففيه : أنه ..

ان كان المفروض في الترديد هو تخصيص العام بمقدار الأخص ، اما به استقلالا ، أو في ضمن تخصيصه بالأعم.

فهو لا يجدي في المطلوب ، لأن تردد المخصص بين عنوانين الأخص والأعم ، يرجع إلى التردد بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر - كي يؤخذ بالقدر المتيقن - نعم ، هو افرادا كذلك لا عنوانا - كما هو الفرض - وان كان المفروض في الترديد هو تخصيص العام بالخاص الأخص اما وحده أو مع تخصيصه بالأعم ، بحيث يكون المخصص على كلا التقديرين هو الدليل الأخص ، إلاّ انه تارة وحده. وأخرى مع غيره - بخلاف الفرض الأول ، فان إخراج

ص: 379


1- العراقي المحقق آغا ضياء الدين. حاشية فوائد الأصول3/ 442 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الفرد الأخص اما بالدليل الأخص أو بواسطة الدليل الأعم -

ففيه :

أولا : ان القدر المتيقن انما يفرض بعد فرض الترديد بين الأمرين ، والترديد انما يكون بالعلم الإجمالي بأحد الطرفين ، وهو انما يكون فعلي التأثير مع عدم فرض الدليل المعين لأحد الطرفين ، والمفروض ان مقتضى القواعد الأصولية هو تعيين الطرف الآخر - أعني : تخصيص العام بهما دفعة واحدة - فيرتفع الترديد وينحل العلم الإجمالي حكما ، فلا مجال للأخذ بالقدر المتيقن بلحاظ تردد التخصيص بين الأقل والأكثر.

وثانيا : ان أحد فروض تخصيص العام بالأخص تخصيصه مع الأعم ، وفي هذا الفرض لا ينعقد للعام ظهور في غير مورد الأخص ، فكيف يجعل تخصيص العام بالخاص الأخص على جميع تقاديره موجبا لانعقاد ظهور له في الباقي - أي في غير مورد الأخص -؟ ونظيره يرد على الفرض الأوّل ، فانه بعد فرض كون أحد تقادير خروج مورد الأخص تقدير تخصيصه بالأعم ، فلا وجه لجعل خروجه على جميع تقاديره موجبا لانقلاب النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر الأعم.

هذا ان أريد بالقدر المتيقن في مقام التخصيص. واما ان أريد به في مقام المراد الجدي والواقع وان المتيقن خروج مورد الأخص عنه. ففيه : انه ليس متيقنا في نفسه لإمكان كون الخاصّ في الواقع كاذبا ، وانما هو بحسب الأدلة اللفظية والقواعد المقتضية لتقديمها ، فيرجع إلى التردد باعتبار التخصيص لا باعتبار الواقع ، فتدبر.

وعلى كل ، فلا وجه لتقديم الخاصّ الأخص على الخاصّ الأعم كي تنقلب النسبة بين العام وغيره ، بل اللازم تخصيص العام بهما دفعة واحدة.

نعم ، يبقى في المقام سؤال فائدة التخصيص بالخاص الأخص بعد إمكان إخراج الفرد بالأعم.

وجوابه ما تقرر في محله في حل محذور لغوية ورود العام والخاصّ المتوافقين ،

ص: 380

من إمكان وجود خصوصية للخاص يكون بها ذا أهمية ، أو كونه مورد السؤال ، أو نحو ذلك.

واما في الأخرى ، فالوجه هو تخصيص الخاصّ الأعم بالخاص الأخص ثم تخصيص العام بالباقي ، إذ لا يصلح الخاصّ الأعم لتخصيص العام بمدلوله أجمع لوجود المانع عن حجيته في بعض افراده ، وهو الخاصّ الأخص ، فيخصص به ويبقى حجة في غير مورد الأخص فيخصص به العام ، كما يخصص بالأخص أيضا ويكونان حينئذ كالمتباينين حكما وافرادا.

هذا كله فيما إذا كان كلا الخاصّين - الأعم والأخص - منفصلين عن العام.

اما لو كان الأخص متصلا ، كما لو قال الآمر : « أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين » ثم قال : « لا تكرم النحويين » ، فهل تنقلب النسبة بين العام والخاصّ المنفصل أو لا؟. التزم الاعلام بانقلاب النسبة باعتبار انعقاد ظهور العام في غير مورد الخاصّ المتصل من أول الأمر ، فتكون نسبته إلى الخاصّ المنفصل نسبة العموم من وجه.

والّذي ينبغي ان يقال : ان من لا يلتزم بانقلاب النسبة بملاك كون المعارضة والنسبة انما هي بين الظهورات وعدم اختلال الظهور التصديقي بالمخصص المنفصل - كما عليه صاحب الكفاية - لا بد في الفرض من ان يلتزم بانقلابها.

لاختلال المقدمة الثانية التي بنى عليها مذهبه - وهي عدم اختلال الظهور بالمخصص المنفصل - ، إذ الظهور التصديقي يختل بالمخصص المتصل وينعقد ظهور ثانوي في غير مورد الخاصّ ، فتنقلب نسبة العام إلى الخاصّ المنفصل قهرا لتضيق دائرة ظهوره الّذي هو الملحوظ في باب المعارضة.

واما من يلتزم بانقلاب النسبة اما لأجل كون المخصص وان كان منفصلا يهدم ظهور العام في العموم ، أو من جهة تضييق دائرة حجيته وهي الملاك في المعارضة وملاحظة النسبة ، فلا بد له من التفصيل فيما نحن فيه بين صورة ورود

ص: 381

المخصص المنفصل الأعم قبل حضور وقت العمل ، وصورة وروده بعده.

ففي الصورة الأولى : لا وجه لانقلاب النسبة ، لأن ظهور العام في الباقي بعد تخصيصه بالمتصل انما ينعقد بتمامية مقدمات الحكمة ، وهي انما تنعقد بناء على هذا القول إلى حين زمان العمل لا حين الكلام ، والخاصّ المنفصل حكمه حكم المتصل في كونه بيانا للعام وهادما لظهوره ، فمع وروده قبل زمان العمل لا ينعقد للعام ظهور في الباقي لفقدان إحدى مقدمات ظهوره فيه وهي عدم البيان.

وكذلك حجيته في الباقي لا تتم قبل زمان العمل مع ورود المخصص ، لأنه مانع عن الحجية ، إذ العام لا يكون حجة في العموم الا حين زمان العمل وعدم المخصص.

وفي الصورة الثانية : فحيث انه حين زمان العمل انعقد ظهور العام في الباقي لتمامية مقدماته ، كما انه كان حجة فيه لعدم المانع ، فلا تكون نسبة الخاصّ الوارد بعد ذلك نسبة الخاصّ إلى العام ، بل نسبة العموم من وجه.

وبالجملة : فحيث انه على الالتزام بانقلاب النسبة بلحاظ كون الخاصّ المنفصل كالمتصل في هدمه الظهور ، لم يكن فرق بين كون الخاصّ الأخص متصلا أو منفصلا في عدم انقلاب النسبة إلى حكم الأعم ، وان كان منفصلا كحكم الأخص ، وان كان متصلا في هدمه للظهور ، ففي صورة وروده قبل تمامية مقدمات الحكمة وانعقاد ظهور للعام في الباقي يكون مخصصا للعام بلا كلام.

والحكم في زماننا كذلك ، إذ مع فرض إمكان العثور على المخصص المنفصل بالفحص لا يكون العام حجة في خصوص الباقي ولا ظاهرا فيه ، إذ زمان العمل بالنسبة إلينا يكون بعد الفحص ، فلاحظ. وقد مرت الإشارة إلى هذا الكلام فيما تقدم من مباحث انقلاب النسبة ، فراجعه.

ثم ان المحقق النائيني قدس سره بعد ان اختار انقلاب النسبة في الفرض المذكور ، ألحق به فرضا آخر ، وهو : ما إذا ورد مضافا إلى العام المخصص بالمتصل وإلى الخاصّ المنفصل ، عام آخر مجرد عن الخاصّ المتصل ، نظير : « أكرم العلماء ،

ص: 382

وأكرم العلماء الا فساق النحويين ولا تكرم النحويين » ، فاختار فيه انقلاب النسبة بين العام المجرد وهو : « أكرم العلماء » ، وبين الخاصّ المنفصل وهو « لا تكرم النحويين » (1).

ونسب إليه السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - في توجيهه وجهين :

الأول : ان العام الأول قد تخصص بالمخصص المتصل بالعامّ الثاني يقينا ، فيكون مفاد العام الأول عين مفاد العام الثاني المخصص بالمتصل ، ومن الظاهر ان النسبة بينه وبين الخاصّ المنفصل هي العموم من وجه.

الثاني : ان الخاصّ المنفصل مبتلى بالمعارض ، وهو العام المتصل به أخص الخاصّين ، فلا يكون صالحا لتخصيص العام الأول.

ثم أورد على الأول : بأنه لا وجه له بعد ما تقدم من عدم الوجه من تخصيص العام بأحد المخصصين أولا ثم ملاحظة نسبته مع الخاصّ الآخر.

وعلى الثاني : بأنه وان كان تاما في نفسه ، لكنه لا يصلح دليلا لانقلاب النسبة وحصول المعارضة بين العام المجرد وبين الخاصّ المنفصل ، لأنه بعد ابتلاء الخاصّ المنفصل بالمعارض لا بد من معالجة التعارض بينهما ، ثم ملاحظة العام المجرد.

فان التزم بالتساقط ، كان العام بلا معارض في مورد المنافاة فيكون هو المحكم. وان لم يلتزم بالتساقط ، فان أخذ بالعامّ المتصل به أخص الخاصّين ترجيحا أو تخييرا يطرح الخاصّ المنفصل ، فيبقى العام المجرد بلا معارض. وان أخذ بالمخصص المنفصل كذلك يخصص به العام ، لكون نسبته إليه نسبة الخاصّ والعام لا العموم من وجه. فلا تعارض بين العام المجرد والمخصص المنفصل أصلا ، انتهى (2).

إلاّ انه بعد ملاحظة ما تقدم من المحقق النائيني قدس سره من عدم الالتزام بتخصيص العام بأخص الخاصّين أولا ، ثم ملاحظة النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر

ص: 383


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 744 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 39 - الطبعة الأولى.

للأعم - فيما لو كانا منفصلين - يحصل الاطمئنان بأن نظره في الفرض إلى وجود نكتة يفترق بها عن الفرض السابق. فالإيراد عليه بما تقدم من عدم الوجه في تقديم أحدهما على الآخر لتساوي نسبتهما إلى العام في غير محله ، بل كان اللازم معرفة نكتة الفرق والكلام فيها نفيا أو إثباتا.

ويمكن توجيه الفرق : بأن الخاصّ الآخر المتصل بالعامّ حيث انه بمدلوله المطابقي اللفظي يدل على نفي حكم العام عن مورده ، وبمفهومه اللفظي يدل على تخصيص حكم العام والمراد الجدي منه بغير مورده ، فيعلم بواسطة ذلك ان المراد الجدي في العام المجرد لا يزيد على ذلك ، كما لو كان ذلك مفاد دليل آخر ، إذ لا إشكال مع ورود دليل خارجي يدل على ان المراد الجدي من العام هو المقدار الكذائي في تضييق دائرة العام بالإضافة إلى المراد الجدي.

فالسر فيما يستفاد من العام المتصل به الخاصّ الأخص ، ليس نفي الحكم عن مورد الخاصّ وإثبات الحكم لغير مورده فقط ، إذ الخاصّ المتصل - على هذا - انما يخصص العام المتصل به ولا يرتبط بالعامّ المجرد ، ولا يكون بين العام المجرد والمحفوف بالخاص تناف لتوافقهما في الحكم ، وان كان أحدهما أضيق دائرة فلا يقتضي انقلاب النسبة.

بل السر ، هو : ان ما يستفاد منه بالمفهوم اللفظي انما هو تخصيص المراد الجدي بغير مورده فيضيق قهرا حجية العام المجرد ويحصر دائرة المراد الجدي فيه فتنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ المنفصل قهرا - وبهذا الاعتبار الحق قدس سره هذا الفرض بفرض اتصال الخاصّ الأخص في انقلاب النسبة -

وهذا بخلاف ما إذا كان الخاصّ الأخص منفصلا ومستقلا في الكلام ، إذ بتقديمه لا يدل على تخصيص حكم العام بغير مورده ، بل لا يتكفل سوى نفي حكمه عن مورده ، واختصاص حكم العام بغير مورده يكون بواسطة تمامية مقدمات الحكمة ، ومع صلاحية الخاصّ الأعم في نفسه للتخصيص لكون نسبته نسبة

ص: 384

الخصوص المطلق كان مانعا عن انعقادها. وقد أشير إلى هذه النكتة في أجود التقريرات (1) ، فلاحظ.

واما الإيراد الثاني ، فهو تام لو كان المحقق النائيني قد ساق الوجه دليلا على المعارضة وانقلاب النسبة في الفرض ، إلاّ ان سوقه بنحو الدليل انفرد به السيد الخوئي في تقريره دون المرحوم الكاظمي ، فانه ذكره دفعا لتوهم قد يذكر (2) ، فلاحظ والأمر سهل.

الكلام في روايات ضمان العارية

وقد تعرض الاعلام بعد هذا المبحث إلى الكلام في روايات ضمان العارية ، وتكلموا في الجمع بينها ، وفي انقلاب النسبة بين بعضها.

والّذي ذكره السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - ان الروايات على أصناف خمسة.

الأول : ما يدل على نفي ضمان العارية مطلقا (3).

الثاني : ما يدل على نفي ضمان العارية في غير الدرهم ، وإثباته فيه (4).

الثالث : ما يدل على نفي ضمان العارية في غير الدينار ، وإثباته فيه (5).

الرابع : ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة ، وإثباته في عاريتهما (6).

الخامس : ما يدل على نفي الضمان في غير مورد الاشتراط ، وإثباته في

ص: 385


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 519 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 744 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- وسائل الشيعة 13 / 237 باب 1 ، من أبواب أحكام العارية الحديث : 10.
4- وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 3.
5- وسائل الشيعة 13 / 239 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 1.
6- وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 4.

مورده (1).

ثم ذكر بعد ذلك : ان نسبة ما يدل على ثبوت الضمان مع الشرط مع سائر المخصصات نسبة العموم من وجه - لإمكان ان يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم أو الدينار أو الذهب أو الفضة ، وإمكان ان تكون عارية أحدهما بلا اشتراط - ومقتضى القاعدة - كما عرفت - تخصيص العام بجميع هذه المخصصات.

واما ما دل على نفي الضمان في غير الدرهم وإثباته فيه ، وما دل على نفى الضمان في غير الدينار وإثباته فيه ، فهما بمنزلة دليل واحد ، لأن العقد الإيجابي من كل منهما يقيد العقد السلبي من الآخر ، لأنه ينافيه وأخص منه ، فيجمع بينهما كذلك ويكونان بمنزلة دليل واحد ، وتقع المعارضة بعد ذلك بينه وبين ما دل على نفى الضمان في غير عارية الذهب والفضة وإثباته فيهما ، لأن النسبة بين العقد السلبي لهذا الدليل وبين العقد الإيجابي لما دل على نفي ضمان غير عارية الذهب والفضة هي العموم من وجه - لأن العقد السلبي لهذا الدليل مفاده نفي الضمان عن غير عارية الدرهم والدينار سواء كان ذهبا أو فضة أو غيرهما.

والعقد الإيجابي لذاك مفاده إثبات ضمان عارية الذهب والفضة سواء كان درهما أو دينارا أو غيرهما من غير المسكوك - ويدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ، ومقتضى القاعدة هو التساقط ، إلاّ انها غير تامة هاهنا ، لأن رفع اليد عن إطلاق دليل ثبوت ضمان عارية الذهب والفضة في مورد المعارضة بالتساقط - يلزم تخصيصه بالفرد النادر - لأن إعارة الدينار والدرهم نادرة لعدم الانتفاع بها مع بقاء عينها غالبا وهو مستهجن.

هذا محصل ما أفاده السيد الخوئي في المقام (2) ، وهو بعينه ما أفاده الشيخ ، الا

ص: 386


1- وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 3.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 396 - الطبعة الأولى.

انه قدس سره لم يتعرض لذكر أدلة نفي الضمان في غير مورد الاشتراط أصلا (1).

إلاّ انه لا بد من التعرض إلى جهات أغفلها السيد الخوئي في كلامه :

الجهة الأولى : الجمع بين المخصصات أنفسها ، لأنها - على النحو الّذي ذكره متنافية في مفادها. فان المدلول الإيجابي لما دل على نفي الضمان في غير عارية الاشتراط ينافي المدلول السلبي لباقي الأدلة المخصصة ، وهي ما دل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم ، وما دل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة ، وما دل على نفي الضمان في غير عارية الدينار. وهكذا المدلول السلبي لأدلة ضمان العارية مع الاشتراط ، فانه ينافي المدلول الإيجابي للأدلة الأخرى المذكورة.

وذلك لأن أدلة ضمان العارية مع الاشتراط تقتضي بمدلولها الإيجابي ضمان العارية مع الاشتراط ، سواء كانت العارية درهما أو غير درهم ، دينارا أو غير دينار ، ذهبا وفضة أو غيرهما ، وذلك ينافي المدلول السلبي لأدلة نفي ضمان غير عارية الدرهم ، لأنها تقتضي بمدلولها السلبي نفي ضمان غير عارية الدرهم ، سواء اشترط الضمان أم لم يشترط ، فيتنافيان في عارية غير الدرهم مع الاشتراط ، فان أحدهما يثبت الضمان فيه والآخر ينفيه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المدلول السلبي لأدلة نفي ضمان غير عارية الدينار ، ولأدلة نفي ضمان غير عارية الذهب والفضة.

وتقتضي أيضا بمدلولها السلبي نفي الضمان مع عدم الاشتراط ، سواء كانت العارية درهما أو غير درهم ، دينارا أو غيره ، ذهبا أو فضة أو غيرها.

وذلك ينافي المدلول الإيجابي لما دل على ثبوت الضمان في هذه الموارد ، إذ هو بإطلاقه يدل على ثبوته ولو مع عدم الاشتراط ، فيحصل التنافي في عارية الدرهم أو الدينار أو غيرهما من أنواع الذهب والفضة مع عدم الاشتراط.

ومع وجود التنافي بين نفس المخصصات لا يتجه تخصيص العام الفوق بها

ص: 387


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /460- الطبعة القديمة.

أجمع - حكم به في مصباح الأصول (1) - ، لما أشرنا إليه من عدم صلاحية الخاصّ للتخصيص مع ثبوت المعارض له في بعض مدلوله ، بل لا بد من علاج التعارض بينها ثم يخصص العام بها بعد العلاج.

وعليه ، فهي صالحة للتخصيص في مورد عدم التنافي ، إذ هي متساقطة في الجمع ومورد التنافي ، فلا حجية لها فيه.

فالمقدار الخارج من العام هو موارد عارية الدرهم والدينار والذهب والفضة مع الاشتراط ، إذ هذا المقدار هو المتفق عليه في دلالة المخصصات المزبورة ، وغيره موضع التنافي.

إلاّ ان ما ذكرناه من الجمع والنتيجة انما يتم بناء على ما أفاده من تصنيف الروايات إلى هذه الأصناف الخمسة بالنحو المذكور سلبا وإيجابا.

واما على ما هو الصحيح في مفادها ، فلا يتم ذلك ، إذ مفادها ليس كما قرره ( حفظه اللّه ) ، فان ما دل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم أو الدينار أو الذهب والفضة وإثباته فيها صرح فيه بأن ثبوت الضمان فيها أعم من صورة الاشتراط وعدمه.

وعليه ، فلا معارضة بين مدلولها الإيجابي والمدلول السلبي ، لما دل على نفى الضمان في غير صورة الاشتراط ، إذ يكون المدلول الإيجابي لهذه الأدلة أخص مطلقا من المدلول السلبي لذلك الدليل - للتصريح بثبوت الحكم في مورد المنافاة والنص عليه ، فلا تكون دلالته على ثبوت الحكم فيه بالإطلاق أو العموم كي يتعارض الإطلاقان أو العمومان ، بل بالنص والتعيين ، وقد تقرر في محله ان نسبة الدليل العام مع ذكر الافراد تعيينا تكون أخص من العام الآخر - ، فيخصص به عموم المدلول السلبي لدليل اعتبار الشرط في ثبوت الضمان ، وترتفع المنافاة حينئذ.

واما المنافاة بين المدلول السلبي لهذه الأدلة والمدلول الإيجابي لذلك الدليل

ص: 388


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 398 - الطبعة الأولى.

والمعارضة بينهما ، فهي منتفية أيضا ، لأن استثناء ضمان عارية الدراهم والدنانير كان بعد استثناء صورة الاشتراط من العام ، فيكون استثناء عارية الدراهم والدنانير من اختصاص الضمان بصورة الاشتراط ، المستفاد من العام واستثناء صورة الاشتراط ، فالاستثناء كان من مفاد المجموع من المستثنى والمستثنى منه ، وهو اختصاص الضمان بصورة الاشتراط.

ويشهد له - مضافا إلى الظهور العرفي للكلام - نفي الفرق في عدم الضمان بين صورتي الاشتراط وعدمه ، فانه تأكيد لمفاد الاستثناء من المجموع.

وعليه ، فلا مدلول لأدلة ضمان عارية الدرهم والدينار كي ينافي ويعارض المدلول الإيجابي لدليل الضمان في صورة الاشتراط. وهكذا الحال لو قلنا بأن استثناء عارية الدرهم والدينار من أصل العام لا المجموع ، فانه وان ثبت المدلول السلبي - وهو المستثنى منه - إلاّ انه ورد عليه استثناء ان أحدهما المدلول الإيجابي للضمان في صورة الاشتراط ، فلا تتجه دعوى المعارضة ، لأن المدلول السلبي ضيق الدائرة من أول الأمر بواسطة المدلول الإيجابي ، فلا يصلح للمعارضة لعدم شموله لمورد المدلول الإيجابي. وبعبارة أخرى : ان ذلك يكون من قبيل استثناء الأمرين معا ، ولا يعقل في هذا الحال تنافي المستثنى منه مع المستثنى وتعارضه معه ، فلاحظ.

واما عارية الذهب والفضة ، فاستثناؤها وان كان مستقلا ومن العموم رأسا بلا استثناء لصورة الاشتراط أصلا ، إلاّ انه حيث ينفي الفرق بعد الاستثناء بين صورتي الاشتراط وعدمه ، يستظهر منه بأن ثبوت الضمان مع الاشتراط في غيرهما من المفروغ عنه ، فالمدلول السلبي - وهو العموم - وان كان عاما لغيرهما مع الاشتراط ، إلاّ انه بقرينة نفي الفرق بعد استثنائهما بين صورة الاشتراط وصورة عدمه يعلم بأن المراد منه غير صورة الاشتراط ، وان الضمان في صورة الاشتراط مفروغ الثبوت ، فتدبر.

وعليه ، فيكون المقدار الخارج من العام الفوق بواسطة هذه المخصصات هو

ص: 389

موارد عارية الدرهم وعارية الدينار وعارية الذهب أو الفضة ولو مع عدم الاشتراط ، ومورد عارية غيرها مع الاشتراط.

وهذا وان كان يوافق مقتضى ما أفاده السيد الخوئي في الجمع من تخصيص العام الفوق بجميع هذه المخصصات. إلاّ انه لا يتأتى إلاّ بناء على ما عرفت من مفاد الأدلة ، لا بناء على ما ذكره من مفادها ، فان الجمع بناء على ما أفاده كما سبق لا كما أفاده.

الجهة الثانية : دفع التفصي المذكور عن استلزام رفع اليد عن إطلاق المدلول الإيجابي - لما دل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة بواسطة التساقط ، لمعارضته بالمدلول السلبي لما دل على ضمان عارية الدرهم والدينار ، لتخصيص المطلق بالفرد النادر المستهجن عرفا - : بأنه لا استهجان في ذلك بعد فرض كون المتكلم أثبت الحكم بدليل منفصل لهذا الفرد النادر ، فلا يستهجن ان يكون ذلك الدليل المنفصل قرينة على إرادة الفرد النادر من المطلق.

إذ لم يتعرض - في مصباح الأصول - إلى ذلك مع سبق التفصي ، وكان الأنسب التعرض لدفع التفصي لا ذكر ما ذكره الشيخ وإهمال ما ذكر من التفصي عنه.

وحاصل الإشكال على ما ذكر : ان الإشكال ليس من جهة استهجان ترتيب الحكم على الفرد النادر كي يتفصى عنه بما ذكر ، بل من جهة استعمال المطلق وإرادة الفرد النادر منه ، واستهجانه يرتبط بالقواعد العربية ، فلا ينتقض بثبوت الحكم للفرد النادر بدليل منفصل مع كون إرادته بلفظه لا بواسطة المطلق.

الجهة الثالثة : في بيان مناسبة التعرض لهذه المسألة في ذيل صورة وجود عام فوق وعام آخر متصل بأخص الخاصّين وخاص أعم منفصل - فانه أهمل ذكر هذه الجهة مع لزوم التعرض إليها ، لوضوح كون المسألة فقهية ، فلا بد من ذكر مناسبة ذكرها في مثل هذا المجال من مجالات علم الأصول -

ص: 390

والوجه في ذكرها هاهنا هو : وجود عام فوق ، وهو ما دل على نفي ضمان العارية مطلقا. وخاص أخص متصل بعام آخر ، وهو ما دل على نفي الضمان الا في الدراهم والدنانير. وخاص أعم ، وهو ما دل على ثبوت الضمان في الذهب والفضة.

إلاّ ان الكلام في تلك الصورة لا يجري هاهنا ، إذ مع الالتزام في تلك الصورة بما التزم به المحقق النائيني من انقلاب النسبة بلحاظ دلالة الخاصّ الأخص على تخصيص المراد الجدي بغير مورده ، لا يمكن الالتزام به هنا ، لأن ذلك انما يتم لو كان الخاصّ الأعم منفصلا. وفي المقام ليس كذلك ، إذ هو أيضا متصل بالعامّ ، فان الدليل لم يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة فقط ، بل دل على نفي الضمان في العارية إلاّ فيهما.

وعليه ، فكلاهما - أي الخاصّ الأخص والخاصّ الأعم - يدلان على تخصيص حكم العام الفوق بغير موردهما في مرتبة واحدة ، بلا وجه لتقدم لحاظ أحدهما على الآخر ، لكونهما بنحو واحد بالإضافة إلى العام الفوق.

وهكذا الكلام فيما دل على نفي الضمان الا مع الاشتراط.

فذكر هذه المسألة عقيب تلك الصورة ليس إلاّ لأجل المشابهة ، لا لأجل الاشتراك في الحكم ، فلاحظ وتدبر.

الصورة الثانية - من صور المسألة - : ما إذا ورد عامان ومخصص ، وذلك على أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون المخصص واردا على مورد الاجتماع والتنافي بين العامين ، فيكون مخصصا لهما ، لكونه أخص مطلقا منهما ، ويرتفع التعارض بينهما ، وذلك نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم الفساق » ثم ورد : « يكره إكرام فساق العلماء » فان الخاصّ يخصص كلا من العامين بغير مورده ، وبذلك يرتفع التعارض بينهما ، إذ تعارضهما في مورد الخاصّ - أعني : فساق العلماء - فلاحظ.

الثاني : ان يكون المخصص واردا على مورد الافتراق من أحدهما ، كما لو ورد :

ص: 391

« يستحب إكرام العلماء » ، و « لا تكرم الفساق » ، ثم ورد : « يجب إكرام عدول العلماء ».

وقد تقدم الكلام في هذا النحو في أوائل هذا البحث ، فراجع.

هذا إذا كان المخصص مخرجا لتمام مورد الافتراق ، كما في المثال المتقدم.

اما لو كان مخرجا لبعضه ، كما لو كان المخصص في المثال : « يجب إكرام عدول الفقهاء » فانه بتقديم الخاصّ لا تنقلب النسبة بين العامين - في مورد الالتزام بانقلابها في هذا النحو -

الثالث : ان يكون المخصص واردا على مورد الافتراق لكل من العامين ومخرجا له ، كما لو ورد : « يستحب إكرام العلماء » ، و : « يكره إكرام الفساق » ، ثم ورد : « يجب إكرام عدول العلماء » ، و : « يحرم إكرام فساق الجهال ». والوجه هو تقديم كلا الخاصّين وتخصيص العامين بهما ، فتنقلب النسبة بينهما إلى التباين ، لاختصاص كل منهما بعد تخصيصه بالعلماء الفساق ، وأحدهما يدل على استحباب إكرامه والآخر يدل على كراهته.

ولا بد حينئذ من إجراء قواعد التعارض فيما بينهما بالخصوص.

إلاّ ان السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - ذهب إلى وقوع التعارض بين الأدلة الأربعة العامين والخاصّين ، لأن العلم الإجمالي الّذي هو منشأ التعارض يتعلق بكذب أحد الأربعة لا بكذب أحد العامين فقط (1).

وفيه : ما تقدم منا من الإشكال عليه من : ان العلم الإجمالي بنفسه لا يكون منشأ للتعارض ما لم يكن في الأدلة اقتضاء الحجية ، ونفي كون التعارض يكون بين أكثر من دليلين لأن معناه التنافي الراجع إلى نفي أحدها للباقي ، وهذا ليس بثابت فيما نحن فيه كما سبق فراجع تعرف.

الصورة الثالثة : ما إذا تعارض دليلان بالتباين وورد مخصص ، وهو على أنحاء ثلاثة أيضا :

ص: 392


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 400 - الطبعة الأولى.

الأوّل : ما إذا كان المخصص مخصصا لأحدهما ، فانه يتقدم عليه وتنقلب النسبة حينئذ بين العام المخصص والعام الآخر من التباين إلى العموم والخصوص المطلق ، فيخصص العام الآخر به ، وذلك كما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم العلماء العدول » ، فان الأخير يخصص دليل : « لا تكرم العلماء » بغير مورده ، وهو العلماء الفساق ، وحينئذ يكون أخص مطلقا من دليل : « أكرم العلماء » فيخصصه أيضا بغير مورده.

ومن هذا الباب أدلة إرث الزوجة من العقار ، فان منها ما يدل على إرثها منه مطلقا (1) ، ومنها ما يدل على عدم إرثها منه مطلقا (2) ، ومنها ما يدل على إرث خصوص أم الولد (3) ، فانه يخصص ما يدل على عدم إرثها مطلقا ، فتنقلب النسبة بين هذا الدليل وبين ما يدل على إرثها مطلقا ، فيخصص به.

الثاني : ان يكون المخصص واردا على كل واحد منهما ، مع عدم التنافي بين المخصصين أنفسهما ، فيخصص بهما كلا العامين وتنقلب النسبة بينهما إلى العموم من وجه ويقع التعارض بينهما في مورد الاجتماع ، نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم النحويين » وورد : « لا تكرم الأطباء » ، فان دليل : « لا تكرم الأطباء » يخصص دليل : « أكرم العلماء » بغير الأطباء ، ودليل : « أكرم النحويين » يخصص دليل : « لا تكرم العلماء » بغير النحويين ، فتكون النسبة بين العامين بعد التخصيص العموم من وجه ، إذ يفترقان في الطبيب غير النحوي وفي النحوي غير الطبيب - إذ الأول مورد افتراق : « لا تكرم العلماء » والثاني مورد افتراق « أكرم العلماء » - ويجتمعان في غير الطبيب وغير النحوي كالفقيه ، فان أحدهما يدل على حرمة إكرامه والآخر يدل على وجوبه.

ص: 393


1- وسائل الشيعة 17 / 522 باب : 7 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : 1.
2- وسائل الشيعة 17 / 517 باب : 6 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : 1 و 8.
3- وسائل الشيعة 17 / 523 باب : 7 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : 2.

الثالث : ان يرد المخصص على كل منهما ويكون بين المخصصين تناف. كما لو دل دليل على وجوب إكرام العلماء ، ودل آخر على حرمة إكرامهم ، ودل ثالث على وجوب إكرام عدولهم ، ودل رابع على حرمة إكرام النحويين.

والموجود في مصباح الأصول : انه لا أثر للقول بانقلاب النسبة والقول بعدمه في هذه الصورة ، إذ على القول بانقلابها تكون النسبة بين دليل وجوب إكرام العلماء ودليل عدم وجوب إكرامهم بعد خروج العالم النحوي من الأول وخروج العالم العادل من الثاني هي العموم من وجه ، حيث يجتمعان في العالم العادل النحوي ، ويفترقان في العالم العادل غير النحوي وفي العالم الفاسق النحوي ، فيحكم بوجوب إكرام العالم العادل غير النحوي وبعدم وجوب إكرام العالم الفاسق النحوي ، ويرجع إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في إكرام العالم العادل النحوي.

واما على القول بإنكار الانقلاب ، يسقط العامان من الاعتبار رأسا ويؤخذ بالخاصين ، وحيث ان بينهما العموم من وجه يعمل بهما في مورد افتراقهما ويرجع إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في مورد الاجتماع - وهو العالم العادل النحوي - فتكون النتيجة عين نتيجة القول بانقلاب النسبة انتهى (1).

ولا يخفى ما فيه ، إذ يرد عليه :

أولا : ما تقدم من انه مع التنافي بين المخصصات بالعموم من وجه ، لا وجه لتخصيص العام بها قبل علاج التعارض الحاصل فيما بينها ، كما ارتكبه هاهنا في مصباح الأصول.

وثانيا : انه مع تخصيص العامين بالخاصين بلا لحاظ تعارضهما قبلا ، فلا يكون مورد التنافي والاجتماع هو « العادل النحوي » في المثال المذكور كما ذكره ، كي ينتفي الفرق بين القولين القول بالانقلاب والقول بعدمه ، إذ العادل والنحوي خارجان عن كلا العامين بعد التخصيص ، بل المجمع ومورد التنافي يكون هو الفاسق

ص: 394


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 402 - الطبعة الأولى.

غير النحوي.

وعليه ، فلا ينتفي الفرق بين القولين ، إذ مورد الرجوع إلى الأصول العملية أو الترجيح والتخيير على القول بالانقلاب يكون الفاسق غير النحوي. وعلى القول بعدمه يكون العادل النحوي. وذلك كاف في الفرق ، فلاحظ.

نعم ، على ما قررناه من لزوم معالجة المعارضة بين الخاصّين قبل تخصيص العام بهما ، لا يكون هناك فرق عملي بين القولين.

وذلك لأنه بعد لحاظ المعارضة بين الخاصّين يتساقطان (1) ، في المجمع وهو « العادل النحوي » ، فيكون مدلول أحدهما : « لا تكرم فساق النحويين » والآخر : « أكرم عدول غير النحويين من العلماء » ، وبعد ذلك يخصص بهما العامان بهذا المقدار ، فيكون مدلول أحد العامين : « أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين » ومدلول الآخر : « لا تكرم العلماء الا عدول غير النحويين » ، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه ، ومورد الاجتماع هو : « العادل النحوي والفاسق غير النحوي » ، ومورد افتراق دليل الوجوب : « العادل غير النحوي » فانه غير مشمول لدليل الحرمة ، ومورد افتراق دليل الحرمة : « الفاسق النحوي » فانه غير مشمول لدليل الوجوب.

ولا يخفى ان مورد افتراق كل منهما مشمول لمخصص الدليل الآخر ، فان « العادل غير النحوي » مشمول لدليل : « أكرم العدول غير النحويين » المخصص لدليل : « لا تكرم العلماء » ، وكذلك : « الفاسق النحوي » ، فانه مشمول لدليل : « لا تكرم فساق النحويين » المخصص لدليل : « أكرم العلماء ».

فبالنسبة إلى موارد الافتراق لا يختلف الحال على القولين ، لثبوت الحكم فيها اما بواسطة العامين لو قلنا بانقلاب النسبة وحصول التعارض في المجمع فقط. أو

ص: 395


1- هذا أحد فرض المسألة ومثله الكلام في الفرض الآخر - أعني فرض جريان الترجيح أو التخيير بينهما - فانه لا يفرق الحال بالنسبة إلى ثبوت الحكم في مورد الافتراق أو الاجتماع على القولين وان تضيق مورد الاجتماع على هذا الفرض. فلاحظ تعرف. ( المقرر ).

بواسطة الخاصّين لو لم نقل به وأخذنا بأحد العامين ترجيحا أو تخييرا ، بلحاظ حصول المعارضة في مجموع المدلول ، إذ مورد افتراق العام الآخر المطروح يثبت له الحكم بواسطة الخاصّ المخصص للعام المأخوذ به.

واما مورد الاجتماع ، فالحال كذلك لا يختلف على القولين ، لأن الحكم في المجمع على القول بانقلاب النسبة هو ترجيح أحد العامين مع وجود المرجح أو التخيير بينهما ، فيثبت فيه حكم أحد العامين ، وكذلك على القول بعدم الانقلاب ، إذ يثبت في المجمع حكم أحد العامين تخييرا أو ترجيحا ، فتدبر.

هذا بناء على شمول الاخبار العلاجية الدالة على لزوم الأخذ بأحد المتعارضين ترجيحا أو تخييرا لمورد العامين من وجه.

واما بناء على ما هو المشهور من عدم شمولها لموردها ، فالفرق بين القولين موجود فيما نحن فيه ، إذ على القول بانقلاب النسبة يكون حكم العامين التساقط في المجمع ، فلا يثبت فيه حكم أحدهما. وعلى القول بعدم الانقلاب لا يكون الحكم التساقط ، لأنهما يكونان متباينين لا عامين من وجه ، فتشملهما الاخبار العلاجية فيكون المجمع مشمولا لأحد العامين ، فلاحظ جيدا.

هذا تمام الكلام في صور انقلاب النسبة ، ومنه يتضح الحكم فيما قد يفرض من الصور.

ويقع الكلام بعد ذلك في حكم المتعارضين بحسب الأدلة الشرعية.

ولا بد من بيان مورد المعارضة ، فنقول : انه بعد ان عرفت ان التعارض عبارة عن التنافي الحاصل بين الدليلين في مقام الحجية ، بمعنى ان يكون كل منهما مزاحما للآخر في كسب الحجية لجانبه.

وهذا انما يتم في فرض ثبوت مقتضى الحجية في كل منهما ، بمعنى ان يكون كلا منهما موضوعا للحجية لو لا المانع ، وهو الدليل الآخر.

ومن هنا يظهر : انه يمتنع حصول التعارض في مورد يكون موضوع الحجية

ص: 396

ومقتضيها هو القطع أو الظن الفعلي ، بمعنى انه في المورد الّذي يكون ثبوت الحجية لكلا الدليلين موجبا للتعارض لعدم إمكان اجتماع حجيتهما اما ذاتا أو عرضا ، يمتنع حصول التعارض لو كان ملاك الحجية فيهما هو القطع أو الظن الشخصي بالمفاد ، لامتناع حصول اليقين بمفاد كلا الدليلين ، أو الظن الفعلي به لفرض التنافي بينهما ، اما الذاتي أو العرضي فيكون من اليقين بالضدين أو الظن بهما وهو محال ، مع لزوم ثبوت مقتضى الحجية في نفسه ومع قطع النّظر عن المعارض.

وعليه ، فمورد المعارضة ما كان موضوع الحجية فيه هو الظن النوعيّ ، إذ لا يمتنع قيام الدليلين المقتضيين للظن النوعيّ على متنافيين ، فيحصل التعارض بينهما ، لامتناع حجية كلا الدليلين بعد تنافي مدلوليهما.

وإذا حصل التعارض بين المدلولين - بمعنى التعارض بين أصالتي الظهور فيهما - يسري إلى السند - فيحصل التعارض بين دليل حجية سند كل منهما ودليل حجية سند الآخر - لو كان قابلا للتعارض ، كالسندين الظنيين - إذ بعد كون مفاد الخبرين متنافيين يمتنع التعبد بسند كل منهما وصدوره ، إذ مرجعه إلى التعبد بمؤدى الخبر ، والمفروض تنافيهما في المؤدى ، إذ لا معنى للتعبد بخصوص الصدور بلا رجوع ذلك إلى إيجاب العمل على طبق مؤداه ، كما لا يخفى - دون القطعيين ، إذ القطع بالصدور لا يترتب عليه تعبد به كي يقال بامتناع التعبد بصدورهما مع تنافي مدلوليهما ، لرجوع التعبد بالصدور إلى إيجاب العمل على طبق مفاده ومؤداه ، بخلاف الظن بالصدور فانه موضوع التعبد.

وحيث تصل النوبة إلى التعارض بين السندين ، كان ذلك محل الكلام في المقام. فيقع الكلام في تمامية دلالة النصوص الواردة في هذا المورد على أي حكم من الأحكام من ترجيح ، وتخيير ، وتوقف واحتياط.

- وقد عرفت فيما سبق ان الّذي تقتضيه القاعدة الأولية في المتعارضين هو التوقف ، بمعنى نفي الثالث ، لتساقط الدليلين في دلالتيهما المطابقيتين دون الالتزاميتين

ص: 397

لعدم التنافي فيها بينها - ولا بد لنا قبل الخوض في تحقيق الحال من تأسيس الأصل عند دوران الأمر بين الترجيح والتخيير ، بمعنى انه بعد فرض استفادة لزوم العمل بأحدهما - المتعارضين - وعدم جواز طرحهما معا ، ولكن لم يتعين بالأدلة أحد الأمرين من الترجيح والتخيير ، وشك في ذلك ، فهل مقتضى القواعد هو تعين الأخذ بما فيه المزية والمرجح ، أو لا بل مقتضاها التخيير بينهما؟

وثمرته : بأنه لو تم قيام القاعدة على الترجيح ، كفى ذلك دليلا عليه بمجرد الشك في ثبوت أدلة التخيير بلا حاجة إلى إقامة الدليل الخاصّ عليه.

والتحقيق : ان مقتضى القاعدة تعيين الأخذ بذي المزية والمرجح ، لأنه معلوم الحجية على التقديرين دون الآخر ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وكون المسألة في موردها محل خلاف ، للمناقشة في كون الأصل هو التعيين بأن القدر المتيقن من التكليف ، هو التكليف بالجامع ، وغيره الزائد عليه مشكوك فيه ، فأصالة البراءة تنفيه وهي معذرة ، فيثبت التخيير دون التعيين.

لا يضر فيما نحن فيه - ولذا التزم بأن الأصل فيما نحن فيه يقتضي الترجيح ، من لا يلتزم بالتعيين في مسألة الاشتغال - وذلك لأن دوران الأمر بين التعيين والتخيير هناك انما هو بالنسبة إلى الحكم الشرعي الفرعي ، فأصالة البراءة يمكن دعوى جريانها في نفي التعيين.

واما في ما نحن فيه ، فالدوران بين التعيين والتخيير بالنسبة إلى الحجية ، والمفروض ان الأصل في باب الحجية مع الشك هو عدم الحجية ، وذلك ينتهي بنا فيما نحن فيه إلى الترجيح. بعكس أصالة البراءة في مسألة الاشتغال ، وذلك لأنه مع احتمال لزوم الترجيح يكون غير ذي المزية مشكوك الحجية ، والأصل عدمها ، فالامر يدور حينئذ بين ما هو مقطوع الحجية ومشكوكها ، ولا إشكال في لزوم الأخذ بما هو مقطوع الحجية ، إذ مشكوك الحجية مساوق لمقطوع عدم الحجية.

ص: 398

إلاّ ان هذا التقريب يتم لو قلنا بأن الحجية التخييرية فعلية كما لو كان مرجع الحجية التخييرية إلى حجية العنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما ، فان كلا منهما منطبق هذا العنوان. أو قلنا انها معلقة على ترك الأخذ بالآخر. ولكن عرفت التشكيك في صحة هذين التصويرين للحجية التخييرية ، وان الوجه المعقول لها هو تعليق الحجية على الأخذ بالخبر نفسه ، فيكون حجة على تقدير الأخذ به ، وقد أشار إلى هذا الوجه غير واحد من الاعلام.

وعليه فلا مجال بناء على هذا القول - للتقريب المذكور - لعدم حجية كل منهما قبل الأخذ به بناء على التخيير ، فقبل الأخذ بكل منهما لا يدور الأمر بين ما هو مقطوع الحجية ومشكوكها ، لأن ذا المزية لا يكون حجة قطعا الا على القول بالترجيح أو بعد الأخذ به ، وكلاهما غير متحقق. لكنه مع هذا يتعين الأخذ بذي المزية (1) ، بتقريب : انه بعد فرض وجوب الأخذ بأحدهما من باب حكم العقل

ص: 399


1- تحقيق الكلام في المقام ان يقال : انه لا دليل من الخارج على لزوم الأخذ بإحدى الحجتين المتعارضتين من خبرين أو فتويين أو غيرهما مما يعلم بعدم سقوطهما معا عن الحجية. نعم ، قد يجب الأخذ بإحداهما مقدمة لتحصيل الحجة في بعض الموارد. توضيح ذلك : ان لتعارض الحجتين صورا : إحداها : ان يكون مفادهما حكما خاصا مع وجود دليل عام يتكفل حكم جميع الافراد ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ، ثم ورد : « لا تكرم النحويين » وورد : « أكرم النحويين ». الأخرى : ان يكون هناك علم إجمالي بالتكليف ويتعارض الدليلان في تعيينه. الثالثة : ان لا يكون هناك دليل عام ولا علم إجمالي ، بل التكليف محتمل بدوا ويتعارض الدليلان في إثباته ونفيه. اما الصورة الأولى ، فالأثر العملي لإثبات لزوم الأخذ بأحد الدليلين الخاصّين انما يظهر لو فرض ان محتمل الترجيح هو الدليل الخاصّ المخالف للعام ، وهو قوله : « لا تكرم النحويين » في المثال المتقدم. واما لو فرض انه هو الدليل الموافق للعام ، فلا أثر للزوم الأخذ بأحدهما ، لأن نتيجته هو الأخذ بالموافق ، وهو يتفق عملا مع طرحهما والرجوع إلى العام الفوقاني. وكيف كان : فلا دليل في مثل ذلك على لزوم الأخذ بأحدهما ، سوى ما قد يقال : من لزوم الفحص عن المخصص عند إرادة العمل بالعامّ ، والمفروض إمكان تحصيل الدليل المخصص بواسطة الأخذ به. ولكنه غير سديد ، لأن الثابت في بناء العقلاء إناطة العمل بالعامّ بالفحص عن المخصص المحتمل الوجود ، وانه مع التمكن من استكشافه لا يجوز العمل بالعامّ. واما لزوم إيجاد المخصص ، فهذا مما لم يثبت من بنائهم وما نحن فيه كذلك ، لأن الأخذ بالدليل محقق لحجيته فيكون مخصصا ، وبدونه لا يكون حجة ، ولا دليل على لزوم إيجاد الحجة على التخصيص ، وانما الثابت هو لزوم الفحص عما هو حجة على التخصيص ، فانتبه. واما الصورة الثانية ، فهي مما نلتزم فيها بلزوم الأخذ بأحد الدليلين لمن لا يريد الاحتياط ، بل يريد الاقتصار على بعض المحتملات ، إذ لا بد في تعيينه أحد المحتملات من استناده إلى حجة تستلزم انحلال العلم الإجمالي حكما ، فيلزمه الأخذ بأحد الدليلين. ولكن لا يمكن الاستناد إلى هذا البيان في باب التقليد إذا دار امر المجتهدين بين التعيين والتخيير ، والحكم بلزوم تقليد محتمل التعيين ، كما لو كان أحدهما أورع واحتمل تعين تقليده ، وذلك بأن يقال ان المكلّف قبل تقليده يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة ، فلا بد في الخروج عن عهدتها - مع عدم الاحتياط - من الاستناد في عمله إلى حجة ، فيلزمه الأخذ بفتوى أحد المجتهدين ، ويتعين عليه قول محتمل الترجيح للجزم بحجيته على تقدير الأخذ به بخلاف قول الآخر. والسر في عدم صحة هذا القول ، هو : ان الدوران المزبور بين القولين انما هو في موارد الاختلاف. اما مع الاتفاق ، فلا تعارض كي يدور الأمر بينهما فيكون كل منهما حجة. وبما ان موارد الاتفاق كثيرة بحد ينحل العلم الإجمالي بها ، ففي مورد الاختلاف لا يكون هناك علم إجمالي ، بل ليس إلاّ احتمال التكليف احتمالا بدويا ، فيكون المورد من موارد الصورة الثالثة. وقد يدعي فيها عدم جريان البراءة للزوم الفحص عن الحجة ، ومع إمكان تحصيلها - كما في المقام بواسطة الأخذ بأحدهما - لا يمكن التمسك بالبراءة العقلية. ولكن هذا الكلام ممنوع ، بأن اللازم هو الفحص عن الحجة المحتملة الوجود لا إيجاد الحجة ، وما نحن فيه من الثاني لا الأول ، كما عرفت في الصورة الأولى ، فما نحن فيه نظير وعظ الراوي الفاسق ليصير عادلا فيصير خبره حجة ، فانه مما لا يتوهم انه واجب من باب لزوم تحصيل الحجة. اذن فقبل الأخذ بأحدهما لا حجة شرعا على التكليف لعدم الجزم بالتعيين ، فيكون المورد من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجج والأدلة على الطريقية. واما على السببية ، فقد عرفت رجوع التعارض إلى التزاحم ، وقد عرفت تحقيق الحال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم في مباحث اجتماع الأمر والنهي ، فراجع. ولكن الّذي ذكرناه هناك يرتبط بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في المتزاحمين بناء على كون التزاحم هو التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال مع وجود الإطلاق لكلا الحكمين ، بحيث يرجع التخيير إلى تقييد إطلاق كل منهما بترك امتثال الآخر. وبناء على ما نسب إلى الكفاية من كون التزاحم هو التنافي في المقتضيين مع عدم تكفل الدليلين للحكم الفعلي ، بحيث يكون الأمر بأحدهما المعين أو التخيير بينهما بحكم العقل من باب لزوم تحصيل الفرض الملزم. واما بناء على كون التخيير بينهما بحكم الشارع ، بدعوى سقوط كلا الدليلين واستكشاف حكم شرعي آخر بالتخيير بينهما. فلم نتكلم فيه ، ولا بأس بتحقيقه بنحو الإجمال فنقول : ان مرجع دوران الأمر بين التعيين والتخيير على هذا المبنى إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحكم الشرعي في المسألة الفرعية. وقد تقدم في مباحث الأقل والأكثر تحقيقه مفصلا. وقد قربنا هناك الالتزام بالبراءة على جميع محتملات الوجوب التخييري. لكن التحقيق انه لو التزمنا في حقيقة الوجوب التخييري انه سنخ وجوب وسط بين الوجوب التعييني والاستحباب. والتزمنا بأن الاختلاف بين الوجوب والاستحباب لا يرجع إلى الاختلاف في البعث والإرادة شدة وضعفا ، بل هما ينتزعان عقلا عن ترخيص المولى في الترك وعدمه ، لأن كل طلب يجب موافقته عقلا إذا لم يرخص المولى في الترك - كما عليه المحقق النائيني - كان المتعين فيما نحن فيه هو الاحتياط ، وذلك لأن مرجع الوجوب التخييري على هذا المبنى إلى الطلب الّذي حكم الشارع بالترخيص في عدم امتثاله إلى بدل ، فمن ملاحظة ذلك ينتزع العقل الوجوب التخييري للشيء في قبال التعييني المنتزع من الطلب مع عدم الترخيص في الترك مطلقا ، والاستحباب المنتزع عن الطلب مع الترخيص في الترك مطلقا ، فإذا تعلق الطلب بشيء وشك في التخيير بينه وبين غيره ، فمرجع ذلك إلى الشك في ترخيص الشارع في تركه إلى بدل وعدمه. ومن الواضح ان العقل - على هذا المبنى - يحكم بلزوم الامتثال والإتيان بمتعلق الطلب ما لم يحرز الترخيص ، فمع عدم إحرازه يتعين موافقته وعدم جواز مخالفته ، فتدبر تعرف.

ص: 400

بوجوب تحصيل الحجة على الحكم للعلم الإجمالي ، فمع الأخذ بذي المزية يعلم بحصول الحجة على الواقع ، اما من جهة انه حجة في نفسه لو ثبت الترجيح ثبوتا ، أو

ص: 401

من جهة الأخذ به لو ثبت التخيير.

واما مع الأخذ بغير ذي المزية ، فلا يعلم بتحصيل الحجة لاحتمال لزوم الترجيح ، فالأخذ بذي المزية متعين بحكم العقل ، فلاحظ.

وبعد هذا لا بد في تحقيق الحال في حكم المتعارضين بحسب المستفاد من النصوص.

وقد التزم الشيخ قدس سره بلزوم الترجيح بمقتضى الطائفة الأولى (1).

وأنكر لزومه صاحب الكفاية قدس سره والتزم باستحبابه ، وان الوظيفة في الخبرين المتعارضين هي التخيير.

بدعوى : ان اخبار الترجيح قاصرة الشمول للمورد لخروجه موضوعا عنها ، ولو تنزل عن ذلك ، فلا بد من الالتزام بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما دل على التخيير مطلقا.

توضيح ذلك : ان الخبر الجامع لمزايا الترجيح هو المقبولة (2) ، والمرفوعة (3) ، وهما - مع غض النّظر عما بينهما من الاختلاف في المفاد ، لتقديم الترجيح بصفات الراوي على الشهرة في الأولى وتأخيره عنها في الثانية - يختصان بمورد التحاكم وفصل الخصومة. ودلالتها على لزوم الترجيح في مقام الإفتاء محل إشكال ، خصوصا بملاحظة ان ارتفاع الخصومة مع التعارض لا يكون إلاّ بالترجيح ، لأن التخيير لا يحل النزاع كما لا يخفى.

ولا يبقى معها مجال دعوى دلالتها على الترجيح في مقام الفتوى بوحدة الملاك لوجود الفرق الفارق بين المقامين.

ومع التنزل عن ذلك بادعاء عدم الخصوصية لمورد التحاكم ، وان التعرض

ص: 402


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /450- الطبعة القديمة.
2- وسائل الشيعة 18 / 75 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
3- غوالي اللئالي 4 / 133 ، الحديث : 299.

إليه لأنه مورد السؤال ، فهي ظاهرة في مورد التمكن من لقاء الإمام علیه السلام ، ولأجله لم يرجع إلى التخيير مع فقد المرجح. فلا تصلح لتقييد إطلاقات التخيير في زمان عدم التمكن من لقائه علیه السلام كزماننا الّذي نحن فيه.

واما الاخبار الأخرى الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فكونها من اخبار ترجيح أحد المتعارضين على الآخر محل إشكال ، بل الظاهر انها من باب تمييز الحجة عن اللاحجة - فيخرج عن باب التعارض ، لاشتراط اشتمال كلا الخبرين على مقتضى الحجية في تحققه - بدعوى : ان الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للعامة بنفسه لا يكون حجة ، كما تشير إلى ذلك هذه الاخبار المتضمنة لكون مثل هذا الخبر زخرفا وباطلا ونحوهما ، لا انه لا يكون حجة فعلا بواسطة المعارض الأقوى.

والّذي تحتمله عبارة الكتاب في تقريب هذه الدعوى أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للعامة بملاحظة وجود الخبر الموافق للكتاب أو الخبر المخالف للعامة الموثوق بصدوره ، يحصل الاطمئنان بوجود خلل ، اما في صدوره ، أو جهته ، أو ظهوره ، فيحصل العلم بعدم حجيته في مورد المعارضة ، هذا امر ارتكازي أرشدت إليه الروايات الدالة على ان مثل هذا الخبر زخرف ، أو انه لم نقله ، ونحو ذلك ، مما يدل على عدم حجية الخبر في نفسه في هذا المورد.

الثاني : ان عدم حجية مثل هذا الخبر انما هو باعتبار دلالة هذه الاخبار على ذلك بلحاظ لسانها المذكور ، لا باعتبار الاطمئنان الخارجي ، لعدم حجيته كي تكون دلالتها إرشادية ولا يختص ذلك بمورد المعارضة ، لظهورها في ان مجرد المخالفة للكتاب والموافقة للعامة هي الموجبة لعدم حجية الخبر وكونه باطلا وزخرفا بلا خصوصية لمورد المعارضة.

الثالث : انه يحصل الاطمئنان بواسطة هذه الاخبار بعدم حجية الخبر المخالف

ص: 403

للكتاب أو الموافق للعامة في مورد المعارضة ، فالاطمئنان يحصل من هذه الاخبار ، لا انه حاصل من الخارج والاخبار مرشدة إليه.

والّذي تحصل : ان اخبار الترجيح لا تشمل موضوعا مورد الخبرين المتعارضين الّذي نحن فيه. ولو تنزل عن ذلك وقيل بشمولها لما نحن فيه ، فلا بد من التصرف فيها بحملها على الاستحباب ، إذ تقييد مطلقات التخيير بها يستلزم تخصيصه بالفرد النادر - لندرة كون الخبرين متساويين في جميع المزايا - وهو مستهجن ، فطريق الجمع هو حمل اخبار الترجيح على الاستحباب لا اللزوم. هذا محصل ما ذكره صاحب الكفاية رحمه اللّه (1).

وقد نوقش في كلامه بجهاته ..

اما ما ذكره في كون المقبولة واردة في مورد التحاكم فلا تشمل غيره من الموارد ..

فوجه المناقشة فيه : ان صدر الرواية في المقبولة وان كان ظاهرا في كون الترجيح في مقام الحكومة ، إلاّ ان ما بعده ظاهر في كون الترجيح بين الروايتين بلا لحاظ هذا المقام بل مطلقا.

واما ما ذكره من ظهورها في مورد التمكن من لقاء الإمام علیه السلام فيختص الحكم بذلك ..

فوجه المناقشة فيه (2) : انه بمناسبة الحكم والموضوع يعلم بعدم الفرق في الترجيح بين زمان الحضور وغيره ، إذ من المعلوم انه لا وجه لكون الشهرة أو غيرها مرجحا في زمان دون آخر كما لا يخفى.

واما ما ذكره في غيرها من اخبار الترجيح وانها من باب تمييز الحجة عن

ص: 404


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /443- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- سيأتي في تحقيقه - دام ظله - عدم صحة هذه المناقشة ورجوع جميع نصوص المقام إلى تمييز الحجة عن اللاحجة. فراجع.

اللاحجة.

فقد نوقش فيه : بأن بعض الاخبار وان كانت ظاهرة في التمييز ، إلاّ ان هناك غيرها مما هو ظاهر في مقام ترجيح الحجة على الحجة ، لا في مقام التمييز.

فلا بد ان تحمل هذه الاخبار على إرادة المخالفة لنص الكتاب كالمخالفة بنحو التباين الكلي ، إذ من المعلوم وجدانا تخصيص كثير من عمومات الكتاب بالأخبار ، فيكون هذا العلم قرينة على هذا الحمل وتحمل الاخبار الأخرى الظاهرة في الترجيح على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب ، كالمخالفة بنحو العموم والخصوص ونحوه ، فدلالة هذه الاخبار تامة ، بعد الجمع المذكور.

وهذا الجواب هو المناسب للاحتمال الثاني لكلامه رحمه اللّه ، لا ما أجيب به من : بطلان دعوى حصول الاطمئنان ، لوجود خلل في الخبر الموافق للعامة لموافقتنا لهم في كثير من الأحكام ، فلعل ما يؤديه الخبر من موارد الموافقة (1) ، فان هذا الجواب انما يتناسب مع الاحتمال الأول والثالث كما لا يخفى ، فلاحظ.

واما ما ذكره من انه مع الالتزام بشمول هذه الاخبار موضوعا لما نحن فيه ، لا بد من حملها على الاستحباب لاستلزام تقييد مطلقات التخيير بها إرادة الفرد النادر من المطلق ..

فوجه المناقشة فيه : ان ذلك انما يلزم مع الالتزام بالترجيح بغير موافقة الكتاب ومخالفة العامة من المرجحات المنصوصة وغيرها. اما مع الالتزام بالترجيح بخصوصهما دون غيرهما ، فموارد التخيير كثيرة لكثرة موارد التساوي في الخصوصيات ، فلاحظ.

هذا مجمل المناقشة المذكورة في كلمات الاعلام (قدس سرهم) لكلام صاحب الكفاية رحمه اللّه ، إلاّ ان المقام يستدعي زيادة في التحقيق والدقة ، فلا كفاية بالنحو الّذي أنهى به صاحب الكفاية ومجيبوه الكلام ، فلا بد من تحقيقه من

ص: 405


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 408 - الطبعة الأولى.

استعراض الاخبار الواردة في المورد والانتهاء بما يقتضيه الذوق والصناعة منها ، فنقول - وبه الاعتصام - : الاخبار على طوائف خمس :

الأولى : ما ظاهره لزوم الترجيح ببعض المزايا ، كالشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة (1).

الثانية : ما ظاهره جواز التخيير والأخذ بأيهما شاء (2).

الثالثة : ما ظاهره لزوم الاحتياط ، يعني الأخذ بالأحوط (3).

الرابعة : ما ظاهره لزوم التوقف (4).

الخامسة : ما ظاهره لزوم الترجيح بأحدث الخبرين (5).

اما طائفة الترجيح بالشهرة ونحوها ، فهي اخبار كثيرة ..

والجامع منها للمرجحات خبران : مقبولة عمر بن حنظلة ، ومرفوعة زرارة المروية في غوالي اللئالي.

اما مقبولة ابن حنظلة (6) ، فمع الغض عن سندها - وان عبر عنها بالمقبولة (7) - لا تصلح للدلالة على الترجيح في مورد تعارض الخبرين لجهات :

الأولى : ان الجري العرفي في حل المخاصمات لا يتناسب والتحاكم عند رجلين يرتضيهما كلا المتداعيين ، إذ لا تنحل الخصوصة مع اختلافهما ، ففرض التحاكم عند

ص: 406


1- وسائل الشيعة 18 / 84 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 29.
2- وسائل الشيعة 18 / 87 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 40.
3- وسائل الشيعة 18 / 111 باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
4- وسائل الشيعة 18 / 75 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
5- وسائل الشيعة 18 / 79 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 17.
6- وسائل الشيعة 18 / 75 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
7- وذلك لأنه لو كان المراد بها ثبوتها عند الأصحاب يعني انجبار ضعف سندها بالشهرة والاعتبار ، لكان ذلك وجها لاعتبارها سندا. ولكن مقبوليتها انما كانت باعتبار صفوان بن يحيى وهو كما قيل من الأصحاب الإجماط. أي الّذي أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم وذلك غير مسلم عند الكل حتى من يلتزم بانجبار ضعف الرواية بالشهرة. ( المقرر ).

رجلين في الرواية لا يعلم له وجه بحسب المجرى العرفي. ولو أريد - كما هو الظاهر من النص - الرجوع إلى ما يتفقان عليه ، فمع الاختلاف لا يكون كل منهما حجة في حكمه ، فلا معنى للسؤال عن الترجيح.

الثانية : ان المفروض في الرواية (1) ، والمسلم عند الفقهاء ، انه لا حق لمجتهد الحكم على خلاف ما حكم به مجتهد آخر ، فكيف يتصور ثبوت حكمين منهما مختلفين؟! ، بل لا بد لأحدهما من إمضاء حكم الآخر الّذي قد حكم أولا.

الثالثة : انه مع صلاحية كل منهما لفصل الخصومة ، لا يتصور عدم عثوره على الرواية المعارضة لما استند إليه ، مع فرض كون الحاكم الآخر من الرّواة ، كما هو الشأن في المجتهدين في زمان الحضور ، إذ عدم عثوره عليها يعني تقصيره في الفحص ، ومعه لا يجوز له القضاء والحكم ، ومع عثوره عليها كيف يحكم على إحداهما بلا ملاحظة ما هو الحكم عند التعارض؟!.

الرابعة : انه من المتسالم عند الفقهاء انه لا حق للمتخاصمين الفحص عن مستند حكم الحاكم ، بل لا بد من التعبد به كيف ما كان ، فكيف يفرض امر الإمام علیه السلام لهما بالفحص عن المستند؟!.

الخامسة : ان الرواية أولا وآخرا انما تدل على ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، لا إحدى الروايتين على الأخرى ، كما يدل عليه قوله علیه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما .. » وقوله علیه السلام : « فيؤخذ به ( يعني بالمجمع عليه ) من حكمهما ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور » ، وقوله علیه السلام : « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب .. ».

السادسة : انه لو سلم كونها في مقام ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى ، فهي ظاهرة في مقام عدم كون التعارض بين السندين - كما هو مفروض البحث - ، بل التعارض في مقام آخر.

ص: 407


1- بقوله علیه السلام : الرادّ عليه كالرادّ على اللّه.

وقد تمسك السيد الخوئي لذلك بإطلاق المشهور على أحد الخبرين ، فان لفظ الشهرة لغة بمعنى الوضوح المساوق للاطمئنان والعلم العادي.

وهذا يعني : ان المشهور مقطوع الصدور وغيره مقطوع عدم الصدور ، واستشهد لذلك بقوله علیه السلام : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » ، فان نفي الريب ظاهر في حصول العلم بالمجمع عليه ، وقوله هذا ظاهر في كونه إشارة إلى امر ارتكازي عرفي ، وبقوله : « امر بيّن رشده وامر بيّن غيّه .. » ، فان تطبيق بيّن الرشد على المجمع عليه ظاهر في كونه مجزوم الحجية ، ومعه فإذا كان كلا الخبرين مشهورين كانا مقطوعي السند فلا تعارض بين السندين (1).

إلاّ انه يشكل : بان المراد بالشهرة لو كان هو الشهرة في روايته عن شخص الإمام علیه السلام بحيث يكون الراوي عن الإمام متعددا ، كان ما ذكر في محله ، لأنه يكون من قبيل المتواتر.

وان كان هو الشهرة عن شخص راو عن الإمام علیه السلام بحيث يتحد الراوي عن شخص الإمام مباشرة ويتعدد الرواية عن هذا الراوي ، لم يتم ما ذكر ، إذ لا يحصل الاطمئنان بصدور الخبر بل يكون كغيره من الاخبار. ولا دليل (2) على إرادة الأول ، إذ إطلاق الشهرة على النحو الثاني متعارف.

واما قوله : « لا ريب فيه » ، فلا يصلح شاهدا لما ذكر ، إذ يمكن ان يكون المراد

ص: 408


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 412 - الطبعة الأولى.
2- قرّب دام ظله في الدورة الثانية إرادة الشهرة بالمعنى الأول أعني الشهرة في الطبقة الأولى الرواية عن الإمام علیه السلام ببيان انه مضافا إلى كونه ظاهر النص لظهور قوله « قد رواهما الثقات عنكم » في ذلك ان الشهرة في الطبقات اللاحقة المتوسطة مع وحدة الراوي عن الإمام علیه السلام لا يستلزم ترجيحا في جانب السند إذ هو لا يزيد على السماع من الراوي عن الإمام علیه السلام مباشرة فغاية الأمر يقطع برواية زرارة مثلا عن الإمام علیه السلام اما صدور الحديث عنه علیه السلام فلا يرتبط بالشهرة مع ان النقل عن الإمام علیه السلام بوسائط كان قليلا في تلك العصور ، ولذا إن ثبت إرادة الشهرة عن الإمام علیه السلام مباشرة كان ذلك مستلزما للقطع بصدور النص فلا يرتبط بترجيح جانب السند بالشهرة فتدبر.

به نفي الريب عنه بالنسبة إلى غير المشهور لا في نفسه ، وذلك بقرينة تثليث الأقسام فيما بعد وإطلاق المشتبه على غير المشهور ، فانه يقتضي كونه مشكوك الصدور لأنه مما يعلم عدم صدوره.

فالأولى في الاستدلال على المدعى بما يفرضه الراوي من معرفة كلا الحكمين حكميهما من الكتاب والسنة ، فانه ظاهر في ان مستنديهما هما الكتاب والسنة - وهما امران قطعيان بلا إشكال - ، وانه لا إشكال من ناحية الصدور ومنشأ الحكمين ، وانما الاختلاف نشأ من جهة الاختلاف في الاستظهار من الكتاب والسنة. فالترجيح (1) ، بعد هذا لا يكون في مقام السندين ، بل في مقام آخر غيرهما ، إذ لا شك في السندين.

ثم انه (2) بعد ان لم يعين إرادة النحو الثاني من لفظ المشهور ، بل كان اللفظ مطلقا ، استفيد من إطلاقه إمكان إرادة كلا النحوين ، ومع هذا - أعني : إرادة كلا النحوين من المشهور بمقتضى الإطلاق - لا بد من ان لا يفرض الترجيح في مقام السند وبلحاظ التعارض فيه ، إذ بعض افراد المشهور لا تعارض فيه في مقام السند للقطع بصدور أحدهما.

وبالجملة : فالمقبولة لا تصلح للتمسك بها على المدعى لا بلحاظ سندها ولا دلالتها.

والعجب ان الشيخ رحمه اللّه ، قد أشار إلى بعض جهات الإشكال فيها ، ثم التزم بصراحتها في لزوم الترجيح بين الروايتين ، وأتعب نفسه الزكية في الجمع الدلالي بينها وبين المرفوعة (3).

واما مرفوعة زرارة ، فالكلام حول دلالتها لا يغني ولا يسمن من جوع.

ص: 409


1- هذا بالنسبة إلى الترجيح بما بعد الشهرة.
2- هذا بالنسبة إلى الترجيح بالشهرة.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /447- الطبعة القديمة.

لضعف سندها ، حتى انه ضعّفها سندا من لا عادة له بتضعيف الاخبار والقدح بسندها ، وهو صاحب الحدائق.

واما الاخبار الأخرى ..

فاما ما يتكفل الترجيح بخصوص مخالفة العامة وطرح الموافق لهم ، فهو وان كان متعددا وتام الدلالة إلاّ انه مخدوش السند ، لروايته عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح ، إلاّ انه نقل عن النراقي التشكيك في صحة نسبة هذه الرسالة إلى شخص الراوندي ولم تثبت شهادة غيره بصحة نسبتها إليه بمستند قطعي ، - حتى صاحب الوسائل ، فانه يذكر طرقا أربعة يتوصل بها إلى إثبات نسبة الكتاب إلى صاحبه -.

ومن هنا يظهر الوجه في ما نقل عن المحقق الحلي من : انه لا وجه للترجيح بمخالفة العامة - وثبوت مسألة علمية كهذه - برواية رويت عن الإمام الصادق علیه السلام ، إذ بعد ان عرفت الشك في ثبوت الروايات المنسوبة إلى القطب ، فلا يبقى ما يصلح للدلالة على الترجيح بمخالفة العامة الا المقبولة ، وقد عرفت ما فيها وما في الاستدلال ، بها ، فكيف يستند إليها في مثل هذه المسألة المهمة ، فلا وجه لما أنكر عليه المتأخرون بدعوى : وجود الروايات على ذلك البالغة حد الاستفاضة المعتبرة سندا ودلالة. وقد أناط اللثام عن ذلك المحقق الأصفهاني (1).

واما ما يتكفل الترجيح بموافقة الكتاب وطرح المخالف له.

فمنه ما هو ظاهر في عدم حجية المخالف للكتاب في نفسه ، إلاّ انه قد عرفت حمله على إرادة المخالفة لنص الكتاب ، كالمخالفة بنحو التباين الكلي ، بقرينة العلم بثبوت تخصيص وتقييد بعض عمومات ومطلقات الكتاب بالأخبار.

ومنه ما قد يظهر - كما ادعي - في مقام الترجيح في مورد أصول الدين لا فروعه.

ص: 410


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 167 - الطبعة الأولى.

واما ما يظهر منه الترجيح - لا تمييز الحجة عن اللاحجة - في مورد الفروع - لا الأصول - المحمول على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب ، كالمخالفة بالعموم والخصوص ، فهو (1) أربع روايات : المقبولة ، والمرفوعة ، ورواية عن رسالة القطب ، ورواية عيون الاخبار عن الإمام الرضا علیه السلام . اما الأوليان ، فعدم صحة الاعتماد عليهما ظاهر مما تقدم وكذلك الثالثة. واما رواية عيون الاخبار ، فهي وان كانت بالمقدار الّذي يذكر منها شاهدا وافية الدلالة ، إلاّ انه بملاحظة صدرها (2) ، يتضح عدم كونها واردة في مقام تعارض الخبرين بل في مقام آخر ، فلا تصلح للاستدلال.

وبذلك يتحصل : انه لا يمكن التمسك بشيء من الاخبار على الترجيح ، فتدبر.

واما التوقف ، فالذي يتمسك به له روايتان : أحدهما : المقبولة.

والأخرى : رواية سماعة بن مهران المروية في الاحتجاج : « قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ والآخر ينهانا؟.

قال : لا يعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل. قلت : لا بد ان نعمل بواحد منهما؟ قال : خذ بما فيه خلاف العامة » (3).

والأولى : مع ما عرفت ما فيها ، وان موردها الحكمان لا الروايتان ، حدد فيها

ص: 411


1- بل التحقيق انه لا بد من حمل النص الوارد في ترجيح الموافق على المخالف للكتاب على تمييز الحجة من اللاحجة ، لا ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى ، وذلك أولا لما تقرر في محله من ان لفظ المخالفة لا يظهر منه المخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه ، اما المخالفة بنحو الإطلاق أو التقييد أو العموم والخصوص فهو مما لا يعد مخالفة عرفا. وثانيا ان الغالب في الروايات المتعارضة هو ما يرد منها في أبواب العبادات ، وليس في الكتاب الكريم عمومات أو إطلاقات بالنسبة إليها ، فلا يتصور المخالفة من هذه الجهة لعدم الموضوع ، فلا معنى لحمل الاخبار المتكفلة للترجيح عليها. بل لا بد من حملها على المخالفة بالتباين ومثله يكون الخبر ساقطا عن الحجية في نفسه فتدبر.
2- وسائل الشيعة 18 / 81 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 21.
3- وسائل الشيعة 18 / 88 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 42.

التوقف بلقيا الإمام علیه السلام ، فهي تختص بزمان الحضور لا الغيبة كزماننا.

والثانية : ضعيفة السند ، مع معارضتها بالمقبولة ، لكون الحكم فيها بالتوقف من أول الأمر والحكم بالترجيح بعد عدم إمكانه ، والحكم في المقبولة بالتوقف ، بعد فقد المرجح. مضافا إلى تحديد التوقف بلقيا الإمام علیه السلام ، فهي مختصة أيضا بزمان الحضور.

واما الاحتياط ، فروايته مرفوعة زرارة ، وقد عرفت ما في الاستدلال بها ، فلا نعيد.

واما ما ظاهره لزوم الترجيح بالأحدثية ، فهو روايات :

الأولى : رواية الحسين بن مختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « قال : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيها كنت تأخذ؟. قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك اللّه تعالى » (1).

الثانية : رواية أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، وهي توافق في المضمون الرواية الأولى ، لكن زيد فيها : « أبى اللّه إلاّ ان يعبد سرا اما واللّه لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم أبى اللّه لنا في دينه الا التقية » (2).

الثالثة : رواية محمد بن مسلم قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟. قال : ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » (3).

الرابعة : رواية المعلى بن خنيس : « قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟. قال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ، فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد اللّه ( عليه

ص: 412


1- وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 7.
2- وسائل الشيعة 18 / 79 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 17.
3- وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 4.

السلام ) : انا واللّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم » (1).

وهذه الروايات لا تصلح للدلالة على المدعي.

اما الأوليان (2) ، فالمفروض فيهما هو القطع بصدور كلام الحديثين ، لأن

ص: 413


1- وسائل الشيعة 18 / 78 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 8.
2- تحقيق الكلام في هاتين الروايتين من حيث مدلولهما ، ان يقال : أن ظاهرهما - كما أشير إليه في المتن - كون الحكمين المختلفين صادرين من نفس الإمام علیه السلام مشافهة ، فالالتزام بالاخذ بالمتأخر لا يرتبط بترجيح سند إحدى الروايتين المتعارضتين على الأخرى وتعيين صدورها. فهما أجنبيتان عن محط الكلام ، لكن لو تم مدلولهما وسندهما ، أشكل الأخذ بهما على ظاهرهما ، وذلك لأن مرجع مفادهما إلى بيان ان الحكم السابق ليس حكما واقعيا يلزم الأخذ به ، وانما هو حكم صوري اقتضت المصلحة بيانه موقتا. وبما ان مطلق الروايات المتكفلة للحكمين المختلفين في زمان الصدور ، إذ لا تصدر الروايتان منهما في آن واحد عادة ، بل تكون أحدهما متقدمة زمانا على الأخرى ، فمقتضى هذه النصوص ان إحدى هاتين الروايتين - وهي السابقة - صدرت لغير الحكم الواقعي ، فإذا علم بالسابقة من الروايتين كانت معلومة البطلان ، وان اشتبه الحال كما في الروايتين الصادرتين من امام واحد ، كان المورد من اشتباه الحجة باللاحجة ، لأن أحدهما الواقعية المعينة معلومة البطلان ولكنها غير مميزة. وعلى هذا لا يبقى للتعارض مورد أصلا ، وهو خلاف النصوص الأخرى التي تفرض للتعارض موضوعا ، وخلاف الضرورة من الصدر الأول إلى الآن ، فان وجود التعارض بين الروايات هو من الأمور المفروغ عنها بين الكل ، فمدلول هذه النصوص مما يصطدم مع الضرورة فلا يمكن الركون إليه. ومع الغض عن هذا الإشكال ، نقول : ان لزوم الأخذ بالأحدث لا وجه له الا التقية .. اما في الحكم السابق وارتفاعها فعلا ، فيتعين الأخذ باللاحق لارتفاع العارض. واما في الحكم اللاحق لاقتضاء التقية رفع اليد عن الحكم الواقعي. ومن الواضح اختصاص هذا بما إذا كان أحد الحكمين موافقا للتقية ، دون ما إذا لم يكن أحدهما كذلك ، فإطلاق الحكم بلزوم الأخذ بالأحدث في الروايتين مما لا يظهر له وجه. هذا ، مضافا إلى ان التشريع الناسخ للتشريع السابق وان كان للإمام عليه السلام ومن صلاحياته ، إلاّ انه لم يكن يتصدى خارجا إليه ، بل كان بيانه الحكم من باب انه الحكم الواصل إليهم عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، كما يشير إليه التعبير في الروايتين المزبورتين ب- : « حدثتك بحديث » ، كما انه لا يحتمل في حقهم عليهم السلام فلا بد وان يكون ناشئا عن ملاحظة ظروف التقية التي تحيط بهم أو بالسائل. وعلى هذا الأساس يكون مقتضى القاعدة هو الأخذ بالحكم الأحدث ولو لم يبيّن ذلك في النصوص ، وذلك لأنه اما ان يكون الحكم السابق موافقا للتقية ، فبيان خلافه متأخرا يكشف عن زوال التقية ، فيلزم الأخذ به. واما ان يكون اللاحق هو الموافق للتقية ، فيلزم الأخذ به للتقية. فالحكم اللاحق يلزم الأخذ به ، اما للتقية أو لأنه الحكم الواقعي ، لكن لا يخفى ان هذا هو حكم من كان في زمن التقية ، فلا يشمل من كان في غير زمن التقية ، كزماننا الّذي نحن فيه ، بل المستفاد من هذه النصوص هو لزوم الأخذ بما يخالف العامة بالنسبة إلى من هو في هذه الأزمنة لأنه هو الحكم الواقعي ، فلا يستفاد من هذه النصوص امر زائد على اخبار الترجيح بمخالفة العامة. وهذا البيان أولى مما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره من اختصاص هذه النصوص بزمن التقية وهو زمن الحضور ، فلا تتكفل حكم زمن الغيبة ، فالمرجع فيه الاخبار العلاجية الأخرى. فانه يرد عليه : ان الاخبار العلاجية نصّ بالنسبة إلى زمن الحضور فانه القدر المتيقن منها ، إذ لا يحتمل انها تتكفل بيان حكم زمن الغيبة خاصة. وعليه فتكون معارضة لهذه الاخبار ، وهذا بخلاف ما بيناه من استفادة الأخذ بمخالف العامة في غير زمن الغيبة من نفس الاخبار بلا احتياج إلى الرجوع إلى الاخبار العلاجية في ذلك ، ولعل مراده ما ذكرناه.

المفروض انه هو الّذي يحدث المخاطب لا انه يروى عنه فالمخاطب يسمع الحديث مباشرة منه ، فليس التنافي بين السندين بل يكون بحسب الظهور ، فيحمل الأول السابق على التقية كما يشير إليه ذيل رواية الكناني ، وهذا هو الّذي يفهمه المخاطب بالحديثين بحسب المتعارف.

واما الثالثة ، فهي أيضا ظاهرة في كون الخبرين مقطوعي الصدور للتعبير : « بأنه يجيء منكم خلافه » ، فمجيء خلاف ما حدث به عن الرسول صلی اللّه علیه و آله منسوب إليهم مباشرة ، وهو لا يتناسب مع عدم الجزم بصدوره منهم ، كما ان ظاهر السؤال هو المفروغية عن صدورهما معا لا التشكيك في أحدهما ، وانما الإشكال في مخالفتهم علیهم السلام للرسول صلی اللّه علیه و آله مع ما صدر منهم من انهم لا يفتون بما يخالف سنة الرسول ، ويؤيده تقرير الإمام علیه السلام

ص: 414

له ورفع ما في ذهنه بأن الحديث ينسخ ، مشيرا إلى انهم علیهم السلام اطلع من غيرهم بنسخ أحاديث الرسول في زمانه صلی اللّه علیه و آله فيبينونه الآن.

واما الرابعة ، فعدم صلاحيتها للدلالة على المدعى من جهة ظهورها في لزوم الأخذ بالحديث حتى يبلغ عن الحي خلافه ، فانه ظاهر في اختصاص لزوم الأخذ بالأحدث بزمان الحضور بلحاظ معرفة الأئمة علیهم السلام ما يقتضيه أحوال زمانهم من التقية وعدمها ، ويشهد له قوله بعد ذلك : « انا واللّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم » الظاهر في كون اختلاف الحكم باعتبار اقتضاء حال زمان الحكم له ، وهذا يختص في زمان الحضور وان ما يقوله الإمام الحي لا بد من الأخذ به وان خالف حكمه حكم الإمام السابق ، لأن تفاوت حكمهم علیهم السلام بتفاوت حال الزمان الّذي هم فيه من حيث لزوم التقية وعدمها ، ولأنهم علیهم السلام يلحظون في أحكامهم ما يقتضيه الحال ، فلاحظ.

واما ما ظاهره ان الوظيفة هي التخيير ، فسيأتي الكلام فيه بعد التكلم في مقامين :

المقام الأول : انه مع التنزل عن المناقشات في سند بعض روايات الترجيح (1) ، فالقدر المتيقن هو لزوم الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، لدلالة الاخبار المروية عن رسالة القطب عليه.

واما الترجيح بغيرهما من الشهرة أو صفات الراوي ، فلم يرد ذلك الا في المقبولة والمرفوعة ، وقد عرفت عدم نهوض الأولى دلالة والثانية سندا ، ومع التنزل والالتزام بدلالة الأولى وانجبار ضعف سند الثانية بعمل الأصحاب - كما ادعاه الشيخ - فلا بد من الالتزام بلزوم الترجيح بالشهرة وصفات الراوي من الأعدلية والأوثقية وغيرهما مما ذكره لكنه يقع الكلام في الجمع بين الروايتين المذكورتين للتنافي الحاصل بينهما ، إذ قدم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة في المقبولة ،

ص: 415


1- وهي روايات رسالة القطب الراوندي.

وأخر في المرفوعة ، فيحصل التعارض بينهما في مورد تعارض الخبرين ، وكان أحدهما مشهورا والآخر راويه أعدل ، إذ مقتضى المرفوعة تقديم المشهور منهما ، ومقتضى المقبولة تقديم المروي عن الأعدل.

وقد ذكر الشيخ رحمه اللّه وجوها ثلاثة للجمع :

الأول : ان الترجيح بالصفات في المقبولة انما كان في مورد تعارض الحكمين لا الروايتين ، فهي غير ناظرة فيه إلى تعارض الروايتين بخلاف المرفوعة ، فالمقدم يكون هو الخبر المشهور بمقتضى المرفوعة ولا تعارضها المقبولة أصلا.

الثاني : ان مقتضى دلالة المرفوعة على لزوم الأخذ بالمشهور عند معارضته للشاذ هو الأخذ في المورد بالمقبولة لأنها أشهر من المرفوعة ، ومعه يكون المقدم هو الخبر المروي عن الأعدل دون المشهور.

الثالث : انه لم يثبت من المشهور تقديم الخبر المشهور على غيره ولو كان أصح منه سندا ، فلم يثبت عمل الأصحاب بالمرفوعة في الفرض كي يحصل التعارض بينها وبين المقبولة ، فالمحكم يكون هو المقبولة ويقدم الخبر الأصح سندا على المشهور (1).

ولا يخفى اختلاف النتيجة على الوجوه ، إذ هي على الوجه الأول غيرها على الوجهين الآخرين.

اما الوجه الأول ، فهو تام بلا إشكال.

واما الثالث ، فهو عجيب بعد دعوى انجبار ضعف سند المرفوعة بعمل الأصحاب بها ، إذ عمل الأصحاب بها انما يثبت بعملهم بها في المورد الّذي تفترق به عن المقبولة - إذ في مورد اتفاقها معها لا يعلم كون عملهم بمضمونها ، إذ قد يكون بمضمون غيرها الموافق لها - ، والمورد الّذي تفترق به المرفوعة عن المقبولة هو هذا بالخصوص ، فمنع عمل المشهور بها فيه لا يتناسب مع دعوى عمل المشهور بها.

ص: 416


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /447- الطبعة القديمة.

واما الثاني ، فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من جهات :

الأولى : انه لم يثبت شهرة المقبولة رواية ، إذ يمكن ان يكون التعبير عنها بالمقبولة من جهة كون راويها صفوان بن يحيى ، وهو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما صح عنهم - كما أشرنا إليه - لا من جهة شهرتها رواية.

الثانية : ان الحكم بترجيح المقبولة استنادا إلى المرفوعة يتوقف على كون جعل الحكم في المرفوعة بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية ، وتنقيح الملاك بحيث يكون الحكم الّذي تتكفله شاملا لها.

الثالثة : ان الالتزام بترجيح المقبولة بواسطة المرفوعة وطرح المرفوعة يستلزم المحال ، لأن الالتزام بالمرفوعة في ترجيح المقبولة يستلزم طرح المرفوعة كما لا يخفى ، فيلزم من الأخذ بالمرفوعة طرحها ، وهو محال لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال (1).

إلاّ ان ما ذكره أخيرا لا نعرف له وجها ، وذلك لأن المرفوعة بإطلاقها تقتضي الأخذ بالمشهور سواء كان المعارض له الشاذ أصح منه سندا أو لم يكن كذلك ، فهي تشمل المقبولة وتشمل الخبر المعارض بالأصح سندا ، فشمولها للمقبولة يستلزم طرحها بالنسبة إلى الخبر المعارض بالأصح ، فالأخذ بها في بعض مدلولها يستلزم طرحها في البعض الآخر لمدلولها ، فلا يكون ذلك مما يلزم من وجوده عدمه ، لاختلاف مورد الأخذ والطرح ، فتدبر.

نعم ، الوجه الّذي يؤخذ على الشيخ ، هو عدم التزامه بترجيح المقبولة بمقتضى مدلولها أيضا ، لأنها أيضا تقتضي ترجيح المشهور على الشاذ ، والمفروض أيضا ان جعل الحكم فيها بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية ، ولكن سريان الحكم إليها بتنقيح الملاك ، إذ هو الملاك في ترجيح المقبولة بمدلول المرفوعة

ص: 417


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 165 - الطبعة الأولى.

كما عرفت ، فلاحظ.

والمتحصل مما ذكرناه : انه يلتزم بالترجيح بالشهرة والصفات بلا تعارض.

المقام الثاني : انه بناء على الترجيح ، هل يجوز التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها في مقام الترجيح ، أو لا يجوز ذلك ، بل يلزم الاقتصار على المنصوص منها؟. التزم الشيخ بلزوم التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة مما يوجب أقربية ذي المزية إلى الواقع من معارضه ، واستند في ذلك إلى وجوه أربعة :

الأول : ظهور الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة ، في انه باعتبار ما فيهما من الطريقية إلى الواقع وإيجابهما أقربية الخبر إليه بلا مدخلية لخصوصيتهما في الترجيح أصلا.

وأيد ذلك : بأن الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن وجود بعضها ، وانما سأل عن حكم صورة تساوي الروايتين في جميع المزايا المنصوصة وغيرها ، حتى قال : « لا يفضل أحدهما على الآخر » ، وهذا كاشف عن فهمه كون كل من هذه الصفات وما شابهها مزية مستقلة توجب الترجيح.

الثاني : تعليله علیه السلام في المقبولة الأخذ بالمشهور بأن : « المجمع عليه لا ريب فيه » ، إذ المراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذ - لا النفي مطلقا بحيث يكون قطعيا من جميع الجهات ، إذ لا معنى معه لفرضهما مشهورين لامتناع القطع بهما بجميع جهاتهما - فيكون المعنى : ان الريب والاحتمال الموجود في الخبر الشاذ غير موجود في المشهور. ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة ان كل خبرين كان في أحدهما احتمالا لا يوجد في الآخر ، بحيث يكون اقرب من ذلك بعدم هذا الاحتمال كان الآخر مقدما.

الثالث : تعليلهم علیهم السلام لتقديم الخبر المخالف للعامة بأن : « الحق والرشد في خلافهم » ونحوه ، إذ من المعلوم ان هذه القضايا غالبية لا دائمة - لاتفاقنا معهم في بعض الأحكام - فكأن التعليل ناظر إلى ان ما يخالفهم اقرب إلى الواقع من

ص: 418

موافقتهم لغلبة مخالفتهم ، فيتعدى إلى كل مزية توجب أقربية ذيها من غيره بمقتضى التعليل.

الرابع : قوله علیه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ، فانه يدل بإطلاقه على انه إذا دار الأمر بين امرين في أحدهما ريب وليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب بل نفيه بالإضافة (1).

وقد ناقشه المحقق الخراسانيّ في الوجوه الثلاثة الأول دون الرابع - ولعله لوضوح المناقشة فيه ، إذ لم يرد هذا التعبير في اخبار الترجيح ، بل هو وارد في اخبار البراءة والاحتياط ، فلا يصلح للاستشهاد به على المدعى فيما نحن فيه - اما المناقشة في الوجه الأول : فبأنه لم يعلم كون تمام الملاك في الترجيح بالأصدقية والأوثقية هو ما فيها من جهة الطريقية والكشف عن الواقع ، لاحتمال دخالة خصوصية في الترجيح خصوصا بملاحظة الترجيح بما لا يحتمل الترجيح به إلاّ تعبدا ، كالأفقهية لعدم جهة الطريقية فيها.

واما المناقشة في الوجه الثاني : فبأن المشهور في الصدر الأول يكون مما لا ريب فيه في نفسه لحصول الاطمئنان بصدوره ، ولا بأس بالتعدي إلى غير الشهرة من كل ما يوجب الاطمئنان بالصدور دون كل مزية.

ونظيرها المناقشة في الوجه الثالث ، بدعوى : ان الخبر الموافق يحصل الاطمئنان والوثوق بوجود خلل في جهة من جهاته فتنتفي حجيته ، ولا بأس بالتعدي إلى كل ما كان كذلك دون كل مزية وان لم توجب الاطمئنان (2).

والتحقيق : ان ما ذكره في مناقشته الوجه الأول وجيه ، إلاّ انه ترك المناقشة فيما ساقه الشيخ تأييدا لكلامه ، وهو عدم سؤال السائل عن صورة انتفاء بعض الصفات دون بعض.

ص: 419


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /450- الطبعة القديمة.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /447- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ووجه المناقشة في ذلك : انه لم يعلم ان السائل فهم مرجحية هذه الصفات وغيرها ، واما قوله : « لا يفضل أحدهما على الآخر » فلعله يكون ناظرا إلى عدم التفاضل في هذه الصفات المذكورة دون كل مزية.

واما مناقشته في الوجهين الآخرين فلا تمكن الموافقة عليها.

اما المناقشة في الوجه الثاني : فلأن إرادة عدم الريب في نفسه المساوق لحصول الاطمئنان والوثوق بالصدور ممنوعة ، لأن المفروض هو الحكم بلزوم الأخذ الفعلي بالمشهور للعلة المذكورة ، ولا يخفى ان مجرد القطع بالسند لا يوجب لزوم الأخذ فعلا بالخبر قبل تمامية جهاته الأخرى من جهة الصدور والدلالة.

ومع فرض تماميتها فيهما فعلا يأتي محذور فرض الخبرين مشهورين كما لا يخفى.

فلا بد من إرادة عدم الريب بالإضافة إلى الخبر المعارض - إذ إرادة عدم الريب في نفسه من جميع الجهات غير ممكنة ، لفرضهما بعد ذلك مشهورين ويمتنع العلم بمطابقتهما كليهما للواقع - فيكون المعنى - كما عرفت - ان الريب الثابت في ذلك الخبر ليس موجودا في هذا الخبر ، وهو لا يلازم الاطمئنان بموافقة الخبر الواقع ، بل قد يقارنه أحيانا ، إذ قد يكون مما فيه الريب في نفسه كشأن كل خبر.

واما المناقشة في الوجه الثالث : فلأنك قد عرفت ان المخالفة في نفسها لا توجب الوثوق بالرشد دائما - لكثرة الاتفاق بيننا وبين العامة - ولذلك كانت هذه الاخبار من اخبار الترجيح ، وانما هي أمارة غالبية توجب أقربية المخالف للواقع من الموافق. ومن هنا يندفع ما ذكره من احتمال إرادة رجحان نفس المخالفة وان لها موضوعية وخصوصية في نفسها.

هذا كله مع ان بعض هذه المناقشات ترجع إلى بيان عدم دلالة الاخبار على الترجيح من حيث الصدور ، لاستلزام المرجح المذكور فيها الوثوق بالصدور وهذا خلف المفروض ، إذ المفروض الكلام في التعدي بعد الالتزام بكون هذه الروايات

ص: 420

تتكفل الترجيح من حيث الصدور للروايتين المتعارضتين الواجدتين لمقتضى الحجية في حد أنفسهما ، فتدبر.

واما ما أورده السيد الخوئي من : ان نفس المخالفة - على هذا - تكون أمارة توجب الظن بنفس الخبر المخالف مع قطع النّظر عن المعارض ، فالتعدي يقتصر فيه على مثل ذلك ولا بأس به (1).

فهو غير وجيه ، لأن كون الرشد في خلافهم ، انما يكون أمارة ظنية على كون الحق في ما خالف العامة ، لا كون الحق هو الخبر المخالف ، لأن المخالف للعامة أعم من مفاد خصوص هذا الخبر وغيره لتنوع الأحكام ، فالمخالفة لا تكون أمارة على صحة خصوص هذا الخبر ، لعدم انحصار المخالفة بمفاده ، فتعليل الأخذ بالمخالف بها انما يتجه باعتبار إيجابها كون المخالف أقرب إلى الحقيقة والواقع من الموافق - لكونه أحد مصاديق المخالفة - لا باعتبار أنه بنفسه قريب إلى الواقع ، فلا بد من التعدي إلى كل مورد يكون أحد الخبرين اقرب إلى الواقع من معارضه ، وان لم تقم أمارة على قربه في نفسه.

والّذي يتحصل : ان الوجه هو الالتزام بما التزم الشيخ من التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة على القول بالترجيح.

هذا ، ولكن الإنصاف عدم صحة ما أفاده قدس سره ، وذلك لأن نفس اخبار الترجيح تصدت للحكم بالتخيير مع تساوي الخبرين في المرجحات المفروضة واحدا بعد واحد ، ولو فهم السائل عموم الترجيح بأيّ مزية لكان ينبغي ان يسأل عن صورة التساوي في مطلق المزايا - بهذا العنوان - لا التساوي في المرجحات المذكورة في صدر النص ، بل لا معنى لسؤاله عن المرجحات واحدا بعد آخر لو فرض دلالة قوله : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » على الترجيح بكل مزية ، لأنه يفهم منه ذلك فيأخذ بإطلاقه ، فلا موضوع للسؤال حينئذ عن صورة تساويهما

ص: 421


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 422 - الطبعة الأولى.

من حيث الشهرة ونحو ذلك. وقد نسب هذا الإشكال إلى صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (1).

يقع الكلام بعد ذلك في اخبار التخيير ، وهي ثمان روايات :

الأولى : ما عن فقه الإمام الرضا علیه السلام في حديث : « ... وقد روى ثمانية عشر يوما ، وروى ثلاث وعشرين يوما » ، وبأي هذه الأحاديث أخذ من جهة التسليم جاز » (2).

الثانية : ما في ذيل مرفوعة زرارة من قوله علیه السلام بعد فرض السائل كون الخبرين موافقين للاحتياط أو مخالفين له : « إذا فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » (3).

الثالثة : رواية الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا علیه السلام : « قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟. قال علیه السلام : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت » (4).

الرابعة : مرسلة الكافي حيث قال : « وفي رواية أخرى : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك » (5).

الخامسة : رواية الحرث بن المغيرة عن أبي عبد اللّه علیه السلام : قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه » (6).

السادسة : رواية سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « سألته عن رجل

ص: 422


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /237- الطبعة الأولى.
2- مستدرك وسائل الشيعة 3 / باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 12 - الطبعة الأولى.
3- الأصول الكافي 1 / 67 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث : 10.
4- وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 40.
5- وسائل الشيعة 18 / 80 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 19.
6- وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 41.

اختلف عليه رجلان من أهل دينه في امر كلاهما يرويه : أحدهما يأمره بالاخذ والآخر ينهاه ، كيف يصنع؟ قال علیه السلام : يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه » (1).

السابعة : ما روى عن علي بن مهزيار ، قال : « قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن علیه السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه علیه السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : صلهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلهما الا على الأرض. فوقع علیه السلام موسع عليك بأية عملت (2).

الثامنة : مكاتبة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عجل اللّه تعالى فرجه وقد سئل فيها عن استحباب التكبير بعد التشهد الأول ... إلى ان قال علیه السلام في الجواب : ان في ذلك حديثين : اما أحدهما : فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير.

واما الآخر : فانه روي : انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ، فأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » (3).

وقد نوقش في الاستدلال بالأربع الأولى بضعف سندها - مع تمامية دلالتها - إذ لم يثبت كتاب فقه الرضا كي يصح الاعتماد عليه ، وشذوذ المرفوعة وإرسالها ، وإرسال رواية الحسن بن الجهم ورواية الكافي.

وقد شكك في كون مرسلة الكافي رواية مستقلة غير الروايات الأخرى ، واحتمل انها إشارة إلى بعض هذه الروايات المذكورة.

ص: 423


1- وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 5.
2- وسائل الشيعة 18 / 88 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 44.
3- وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 39.

ولكنه (1) ، تشكيك لا أساس له ، يدفعه ظهور كلام الكافي في انه رواية مستقلة وعدم ثبوت هذا التعبير في رواية غيرها. فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بها إرسالها ، مع إمكان التشكيك في دلالة رواية الحسن بن الجهم ، فان فرض وثاقة كلا الرجلين ظاهر في فرض اطمئنانه بصدور الخبرين ، ولكن يجهل الواقع منهما ، فتكون أجنبية عن التخيير في مقام الحجية.

واما الرواية الخامسة - أعني : رواية الحرث - فقد نوقش الاستدلال بها بضعف سندها بالإرسال ، وعدم دلالتها على المدعي - أعني : التخيير في مقام التعارض ، كما فهمه الأصحاب - بدعوى (2) ظهورها في حجية اخبار الثقة وجواز العمل بها في نفسها مع قطع النّظر عن مقام المعارضة.

إلاّ انه يدفع هذه الدعوى ويمنع الاستظهار المذكور من الرواية جهات فيها :

الأولى : تعليق الحكم بالوسعة على وثاقة الكل ، فانه لا يتناسب مع كون المنظور إليه تعدد الواقعة وتعدد الاخبار وان كل خبر يكون مرويا عن ثقة ، إذ لا ترتبط حجية أحدها بوثاقة الراوي للآخر ، بل ملاك الحجية وثاقة الراوي لنفس الخبر سواء كان الراوي لغيره ثقة أو لم يكن كذلك. كما انه لا يمكن ان يحمل على إرادة الحديث الّذي سلسلته ثقات كلهم ، إذ تعدد الواسطة في الخبر في زمان الإمام نادر جدا ، بل الغالب هو الرواية عن الإمام علیه السلام رأسا.

مضافا إلى انه لا يتناسب مع فرض السماع من الكل ، إذ هو ظاهر في تعدد الرّواة عرضيا لا طوليا ، إذ لا يصدق على المخبر بذي الواسطة بأنه سمع من افراد السلسلة كما لا يخفى.

وعليه ، فتعليق الحكم على وثاقة الكل ظاهر في تعدد الخبر في الواقعة

ص: 424


1- ارتضى هذا التشكيك في الدورة الثانية وشبه قول الكليني المزبور بحكاية أي مجتهد لمدلول النصوص بقوله « روى كذا ».
2- أشار إلى ذلك المحقق العراقي والتزم به السيد الخوئي.

الواحدة ووثاقة الرّواة فيكون من موارد التعارض.

الثانية : ان الظاهر من الرواية كون منشأ الترديد والمشكلة هو وثاقة الكل ، وانه مع عدم وثاقة البعض لا تكون هناك مشكلة ، وهذا انما يتناسب مع موارد التعارض دون غيره ، إذ لا مشكلة في وثاقة الكل في غير مورده ، بل يؤخذ بالجميع.

الثالثة : ظهور قوله علیه السلام : « فموسع عليك » في عدم الإلزام بالاخذ بالخبر ، وهذا لا يتناسب مع كون المقصود بيان حجية خبر الثقة ، إذ المناسب لها هو الإلزام بالاخذ والحكم بوجوبه ، ولا معنى لجواز الأخذ بعد عدم وجود المعذر والمنجز في مطلق مواردها غيرها.

ويضاف إلى هذه الجهات الثلاث في الإشكال : انه لم يرد في غير هذا الخبر في لسان رواية الإلزام بالعمل بخبر الواحد ابتداء ، بلحاظ كونه امرا ارتكازيا لا يحتاج إلى بيان ، وانما المسئول عنه غالبا هو مصداق الثقة ، وذلك يضعف حمل الرواية على ما ذكر.

هذا ولكن لا يمكن البناء على دلالتها لوجهين :

أحدهما : انها غير ظاهرة في التخيير بين الخبرين ، بل هي ظاهرة في السعة ، ولعل ذلك يرجع إلى تساقط الاخبار والرجوع إلى الأصل المبيح ، فمدلول هذه الرواية نظير مدلول قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا ».

والآخر : انها واردة في حكم زمان الحضور والتمكن من الوصول إلى الإمام علیه السلام ، فلا تنفع في إثبات حكم مثل زماننا.

واما الرواية السادسة - أعني : رواية سماعة ، فقد نوقش فيها : بأن موردها حيث كان من موارد دوران الأمر بين محذورين - للترديد بين الحرمة والوجوب - وكان الحكم فيها عقلا هو التخيير ، فقوله علیه السلام : « فهو في سعة » بيان وتقرير لهذا الحكم العقلي لا أكثر ، وليس هو حكم بالتخيير بالاخذ بإحدى الروايتين في مقام التعارض.

ص: 425

إلاّ انه يشكل :

أولا : بأن ما ذكره السائل من ان أحدهما يأمره والآخر ينهاه انما كان على سبيل المثال لمورد الاختلاف بين الروايتين ، لا ان المسئول عنه هو هذا النحو من الاختلاف.

وثانيا : بأنه لو سلم ذلك ، فليس المورد من موارد دوران الأمر بين محذورين ، لأنه انما يكون كذلك مع العلم بأصل الإلزام ، ولم يثبت ذلك للشك في حجية كل من الخبرين ، فيمكن ان يكون الحكم غير الوجوب والحرمة كالإباحة.

فالتحقيق ان يقال : ان السؤال في الرواية ان كان عن العمل ، وانه الفعل والترك ، كان قوله علیه السلام : « فهو في سعة » ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام العمل ويكون مرجع ذلك إلى الحكم بالبراءة. وان كان السؤال عن الأخذ بإحدى الروايتين ، كان المزبور ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام الأخذ بإحدى الروايتين فيرجع ذلك إلى التخيير.

وتعيين أحد المعنيين من قوله علیه السلام انما يتم بتعيين جهة السؤال ، وحيث انه لم يظهر من الأمر والنهي المفروضين في الخبر إرادة الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي منهما - كي يصلح الكلام ، لكون المسئول عنه هو العمل لحصول التحير معه - فيمكن حملهما على الأعم من الأمر الوجوبيّ والاستحبابي والنهي التحريمي والتنزيهي ، بقرينة إطلاق الجواب وعدم تقييده بصورة الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي ، ومعه يتعين كون المسئول عنه هو الأخذ بالرواية وكون المراد بالسعة التخيير ، كعدم التحير والضيق في مقام العمل مع دوران الأمر بين الوجوب والكراهة أو الحرمة والاستحباب أو الاستحباب والكراهة كي يحكم بالسعة ، فلاحظ.

هذا ، ولكن الإنصاف انها غير تامة الدلالة ، لورودها في مورد التمكن من لقاء المعصوم علیه السلام ، مع ان قوله : « فهو في سعة ... » متفرع على قوله : « يرجئه » ،

ص: 426

ظاهر في عدم العمل بكلا الخبرين والرجوع إلى الأصل العملي ، لا لزوم العمل بأحد الخبرين. واما لفظ الأمر والنهي فهما ظاهران في الإلزاميين كما حقق في محله ، بل يمكن جعل قوله : « فهو في سعة » قرينة على ذلك.

واما الرواية السابعة - أعنى : رواية علي بن مهزيار - فقد ناقش السيد الخوئي الاستدلال بها : بأن مورد الرواية والتخيير في نافلة الفجر بين الإتيان بها في المحمل والإتيان بها على الأرض ، وظاهر حكم الإمام علیه السلام بجواز الإتيان بها في المحمل وعلى الأرض والتخيير بين الصورتين ، ان التخيير واقعي ، لأنه لو لم يكن الحكم الواقعي هو التخيير لكان الأنسب للإمام علیه السلام - بمقتضى مقامه - بيان الحكم الواقعي لا التخيير بين الحديثين.

وعليه ، فالحكم بالتخيير ليس ناظرا إلى التخيير بين الحديثين ، بل لأن الحكم الواقعي هو التخيير ، فلا دلالة للرواية على المدعى (1).

ولكن الخدشة في هذه المناقشة ظاهرة ، فان المورد ليس من موارد التخيير ، للعلم بجواز الصلاة على الأرض ، وانما المشكوك جوازها في المحمل ، فلا يظهر الأمر في : « صلهما في المحمل » في تعينه ، بل في الإباحة لأنه في مقام توهم الحظر ، فالامر دائر بين جواز الصلاة فيه وعدم جوازها ولا يكون مثل هذا من موارد التخيير ، وليس دائرا بين جوازها في المحمل فقط وجوازها على الأرض فقط كي يظهر الحكم بالتخيير في كونه بيانا للحكم الواقعي ، فظاهر الحكم بالتخيير هو التخيير في المسألة الأصولية والأخذ بإحدى الروايتين.

ويؤيده قوله علیه السلام : « موسع عليك بأية عملت » ، فانه ظاهر في الحكم بالتوسعة في مقام العمل بالرواية ، وان السائل في سعة بأي رواية عمل لا في الإتيان بأي الكيفيتين شاء.

وأما دعوى : كون الأنسب مع هذا السؤال هو بيان الحكم الواقعي لو كان

ص: 427


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 425 - الطبعة الأولى.

غير التخيير لا الحكم بالتخيير بين الحديثين.

فمندفعة : بأن إغماض الإمام علیه السلام عن بيان الحكم الواقعي في المسألة الخاصة ببيان حكم كلي في المسألة الأصولية الكثيرة الابتلاء ، يمكن ان يكون لمصلحة هناك في نفسه كالمصلحة في عدم الابتداء ببيان الحكم.

مضافا إلى إمكان دعوى (1) ، عدم كون المسئول عنه هو الوظيفة الواقعية بالنسبة إلى الصلاة ، وانما هو حكم الاختلاف بين الاخبار في المورد. فالجواب المناسب هو بيان الحكم لمقام المعارضة لا بيان الوظيفة العملية الفرعية.

واما الرواية الثامنة - أعني : مكاتبة الحميري - فقد ناقش السيد الخوئي الاستدلال بها أيضا : بأنه لا تعارض بين الحديثين المفروضين في الرواية ، إذ بينهما عموم مطلق ، ومقتضى القاعدة هو الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد الّذي مقتضاه عدم استحباب التكبير بعد التشهد الأول ، وانما حكم الإمام علیه السلام باستحباب التكبير والتخيير بين الإتيان به وعدمه ، لأنه ذكر في نفسه ، والذّكر مستحب في الصلاة في جميع أحوالها (2).

إلاّ ان ما ذكره من ان حكم الإمام علیه السلام بالتخيير واستحباب التكبير باعتبار انه ذكر في نفسه غير وجيه ..

اما على القول بأن للصلاة اجزاء مستحبة كما لها اجزاء واجبة - فالقنوت ، مثلا جزء للصلاة إلاّ انه مستحب - فواضح ، لأن سؤال السائل عن كون التكبير بعد التشهد الأول في نفسه وبعنوانه الخاصّ من اجزاء الصلاة المستحبة ، فالحكم بالتخيير من باب استحباب الذّكر في نفسه لا تتلاءم مع السؤال ، إذ ليس الذّكر من اجزاء الصلاة المستحبة حتى على هذا القول ، لعدم ثبوت المحل الخاصّ له.

واما على القول بأن المستحبات في الصلاة ليست اجزاء لها ، بل هي

ص: 428


1- هذه الدعوى خلاف الظاهر كما لا يخفى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 425 - الطبعة الأولى.

مستحبات استقلالية ظرفها الصلاة - كما يلتزم به السيد الخوئي بلحاظ ان فرض الجزء المستحب للواجب خلاف فرض كونه واجبا - فلان المسئول عنه هو استحباب التكبير بعنوانه في هذا المحل الخاصّ بحيث يؤتى به في ذلك المحل بداعي أمره المختص به - نظير الإتيان بالقنوت في محله الخاصّ بداعي أمره ، وعدم صحة الإتيان به بداعي الأمر بالقنوت في غير ذلك المحل - فالحكم باستحبابه من باب انه ذكر لا يجدي في الإتيان به بداعي الأمر بخصوصية محله ، إذ لا محل للذكر بخصوصه.

وعليه ، فلا إشكال في كون التخيير بين الأخذ بالحديثين انما هو بلحاظ استحباب التكبير في نفسه وعدمه.

واما عدم مناسبة ذلك لكون النسبة بينهما العموم المطلق ، فيمكن توجيهه : بحمل الرواية العامة المطلقة على كون موردها التكبير بعد التشهد الأول ، بحيث تكون نصا في استحبابه بعده - كما هو الحال في كل عام ومطلق بالنسبة إلى مورده - فيحصل التعارض بينهما وان كانت النسبة العموم من وجه ، لتساويهما من حيث الظهور بالنسبة إلى مورد التنافي.

ويشهد لذلك الحكم المذكور من الإمام علیه السلام مع التفاته علیه السلام إلى ان مقتضى الجمع العرفي هو التقييد وانه لا تنافي بينهما عرفا ، وعدم سؤال السائل عن ذلك وتقبله الجواب.

ويمكن الاستشهاد لذلك من نفس الرواية ، حيث عبر علیه السلام : « ان في ذلك حديثين اما أولهما ... » ، والمشار إليه هو التكبير بعد التشهد الأول ، وهو ظاهر في ان المطلق وارد فيه ، فتأمل (1).

والمتحصل : ان هذه الرواية لا إشكال فيها من جهة دلالتها. نعم ، المناقشة

ص: 429


1- إشارة إلى المناقشة في هذا الاستظهار ، لإمكان إرادة ان ما ورد مما تتكفل حكم هذا المورد حديثان ، فلا دلالة له على كون مورد المطلق مورد السؤال.

التي يمكن فرضها فيها وفي سابقتها ما ذكره المحقق الأصفهاني (1) ، من عدم الإطلاق فيها ، لاختصاصها بمورد المستحبات - لا خصوص موردها كما قد يظهر من السيد الخوئي لعدم احتمال الخصوصية بهذا المقدار وإلاّ لأشكل الأمر في كثير من الأحكام ، لاستفادة كثير من الأحكام من المطلقات التي يرد كثير منها في مورد خاص - فلا يمكن التعدي منها إلى مورد كون مدلول الخبرين المتنافيين إلزاميا لعدم الجزم بعدم الخصوصية ، خصوصا بملاحظة ذهاب المشهور إلى حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات ، كما بيّن في مسألة قاعدة التسامح في أدلة السنن.

واما ما ذكره السيد الخوئي بعد كل هذا من : عدم الدليل للتخيير في مقام الإفتاء ، مع عدم المرجح في كلام العلماء ، مما يضعف الاعتماد على الاخبار المسوقة له (2).

فهو ليس بوجه ، إذ أكثر القدماء التزموا بالتعدي إلى غير المرجحات المنصوصة من المزايا ، وهذا يعني - كما أشرنا إليه - عدم وجود مورد يتكافأ فيه الخبران في المزايا والقرب إلى الواقع ، فلعل عدم حكمهم بالتخيير من جهة فقدان المورد له.

واما الحكم بالتساقط لو كان ، فلم يظهر كونه في مورد التعارض بنحو التباين ، بل يمكن ان يكون في مورد التعارض بالعموم من وجه ، وسيأتي الكلام فيه ، وان المشهور على عدم جريان الاخبار العلاجية في مورده.

والّذي يتحصل : انه يمكن الجزم بثبوت التخيير بين الروايتين المتعارضتين ، وبملاحظة الروايات الخمس الأولى مع ضعف سندها لبلوغها حد الاستفاضة.

وبملاحظة ما ورد في ديباجة الكافي من اسناد التخيير إلى الإمام علیه السلام رأسا بعنوان انه من مقوله لا بنحو الرواية ، بعنوان انه مما روى عنه - كي

ص: 430


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 338 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 426 - الطبعة الأولى.

يشكل بإرسالها - فإنه ظاهر في ثبوت التخيير لديه بواسطة الخبر الموثوق لديه ، بحيث يصحح نسبة القول إلى الإمام علیه السلام ، بل حتى مع فرض حصول الجزم بصدوره لديه يكون ذلك قرينة على المدعى لقرب العهد من الإمام علیه السلام ، ودقة الكليني في الحديث بحيث يعلم بان أسباب حصول الجزم لديه من الأسباب المتعارف حصول القطع بها أو الوثوق.

وبملاحظة ما يستفاد من الاخبار الثلاثة الأخيرة ، وان نوقش في دلالة بعضها ، وباختصاص الآخر في المستحبات.

وبثبوت الحكم بالتخيير من الصدر الأول إلى الآن.

فانه بملاحظ مجموع ذلك يحصل الجزم بأن التخيير بين المتعارضين ثابت في الجملة ، وانه مما له الأساس في الأدلة ، لكن قد عرفت المناقشة في أكثر هذه النصوص من حيث الدلالة والسند ، وبذلك لا يظهر للتخيير وجه صحيح يمكن الاعتماد عليه (1).

ص: 431


1- وجملة القول في المقام : انه لم يثبت لدينا ما دل على الترجيح بالشهرة أو بموافقة الكتاب أو غير ذلك ، كما لم يثبت لدينا ما دل على التخيير ، فلا بد من الرجوع إلى القاعدة. وتحقيق الحال بإجمال : انه قد عرفت منّا في مبحث حجية خبر الواحد التوقف في حجية الخبر إلاّ إذا كان مفيدا للاطمئنان والوثوق. وعليه ، فإذا كان ملاك الحجية هو حصول الاطمئنان الشخصي لم يتصور تحقق التعارض بين الخبرين ، لأن التعارض لا يكون إلاّ إذا كان كل من الخبرين جامعا لشرائط الحجية في نفسه ومع قطع النّظر عن المعارضة ، ومن الواضح استحالة تحقق الاطمئنان بأمرين مختلفين متباينين. فلا موضوع لبحث الترجيح والتخيير على ما سلكناه في حجيّة خبر الواحد. نعم ، إذا كان أحد الخبرين موافقا للعامة يمكن دعوى حصول الوثوق بالخبر الآخر ، لما عرفت من ان الدلالة قطعية وكذا الجهة لفقدان احتمال التقية ، واما السند فيتحقق الوثوق به بلحاظ وثاقة الراوي. ومعه لا يحصل الوثوق في الرواية الأخرى ، لعدم جريان أصالة الجهة فيها بعد ملاحظة وجود الرواية المخالفة. وبذلك يمكن ان يقال : ان الترجيح بمخالفة العامة الوارد في بعض النصوص انما هو على القاعدة ، فلا مانع من الالتزام به. ثم انه بناء على الالتزام بالتخيير في مورد التعارض يقع الكلام في جهتين : الجهة الأولى : في ما يفتي به المجتهد الّذي ورد لديه الخبران المتعارضان. وقد ذهب صاحب الكفاية إلى : انه يصح له ان يفتي بما اختاره من الخبرين ، لأن اختياره يستلزم قيام الحجة على الحكم ، فيصح له الإفتاء به استنادا إلى الحجة. كما ان له ان يفتي بالتخيير في المسألة الأصولية ، بأن يسوّغ للمقلد الأخذ بأحد الخبرين ويعمل بما يأخذ به منهما ولو كان على خلاف ما اختاره المجتهد. واما التخيير في المسألة الفرعية فلا وجه للإفتاء به ، لعدم الدليل على التخيير في المسألة الفرعية ، لأن كل حجة تقوم على ثبوت مدلولها بنحو التعيين. فالحكم الظاهري الثابت في حق المقلد هو أحدهما المعين بحسب ما يختاره من الحجة ، فلا منشأ للتخيير فيها ، فان التخيير الثابت تخيير في الحكم لا في العمل. وما ذكره قدس سره واضح لا كلام لنا فيه. الجهة الثانية : في ان التخيير بدوي أو استمراري؟ ذهب صاحب الكفاية إلى : انه استمراري تمسكا بالاستصحاب ، لو لم نقل بأنه قضية الإطلاقات. ودعوى : ان موضوع التخيير هو المتحير ، ولا تحير بعد اختيار أحدهما ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق أو الاستصحاب لاختلاف الموضوع. مندفعة : بان التحير بمعنى تعارض الخبرين والتردد فيهما باق على حاله ولم يزل بالاختيار ، وبمعنى آخر من الحيرة في مقام الوظيفة العملية لم يؤخذ في موضوع الأدلة الدالة على التخيير. هذا ما أفاده في الكفاية في هذا المقام. والتحقيق : ان متعلق الشك قبل الاختيار يختلف عنه بعد الاختيار ، فان متعلق الشك قبل الاختيار هو حجية كل من الخبرين تعيينا أو تخييرا أو عدم حجية أحدهما ، فأخبار التخيير تثبت حجية كل منهما بنحو التخيير والبدلية. وبعد اختيار أحدهما يعلم انه حجة عليه ولا يحتمل زوالها ، بل يقطع بأن ما أخذ به حجة إمّا تعيينا أو تخييرا. وانما يشك في انه هل له إلغاء حجية ما أخذ به بترك الأخذ به والأخذ بغيره ، أو لا؟ ومن الواضح ان هذا الشك يختلف عن الشك الأول ، بل هو في طول الحكم بالتخيير الثابت للشك الأول ، فلا يمكن التمسك بالإطلاقات لأن موضوعها الشك الأول ، كما لا معنى للتمسك بالاستصحاب لأن الحكم المشكوك غير الأول. ولعل هذا هو مراد من ذهب إلى ان موضوع التخيير هو التحير والمفروض زواله. وبالجملة : التخيير على هذا بدوي لا استمراري ، ولا حاجة إلى التطويل بعد الإشارة إلى نكتة المنع ، فتدبرها فانها لا تخلو عن دقة.

ص: 432

ثم انه مع احتمال الترجيح بذي المزية يتمسك بإطلاقات التخيير في إثبات حجية غير ذي المزية ، وبذلك ينفي ما يقتضيه الأصل من تعيين الأخذ بذي المزية ، كما عرفت في ما سبق.

نعم ، الاحتياط يقتضي الأخذ بذي المزية لو لم يكن مخالفا للاحتياط في المسألة الفرعية ، لاحتمال تعينه دون غيره ، خصوصا إذا كان موافقا لحجة أخرى من عام ونحوه.

نعم ، لو كان مخالفا للاحتياط في المسألة الفرعية ، كما لو كان مدلوله الإباحة ومدلول الآخر الوجوب ، كان الأحوط الأخذ بالآخر لموافقته للاحتياط عملا كما لا يخفى.

يبقى الكلام في امر وهو : انه على القول بالترجيح هل يلتزم بالترتيب بين المرجحات وتقديم بعضها على الآخر في مقام التزاحم أو لا؟

توضيح ذلك : ان ..

من المرجحات : ما يرجع إلى مقام أصل الصدور ، بمعنى انه يوجب تقوية صدور الخبر في قبال الآخر ، وذلك كالأوثقية والأصدقية ونحوهما ، فان مجيء الخبر عن الموثق انما يقوي أصل صدوره عن المعصوم علیه السلام . اما كون صدوره لغير تقية وغيرها ، فلا يرتبط بوثاقة الراوي وصدقه كما لا يخفى.

ومنها : ما يرجع إلى مقام جهة الصدور ، بمعنى انه على تقدير الصدور يبقى احتمال صدوره لغير بيان الحكم الواقعي وهو التقية ، كمخالفة العامة فانها ترتبط بجهة الصدور لا بأصله ، إذ المخالفة للعامة لا تقتضي صدوره ، بل تقتضي انتفاء

ص: 433

احتمال الصدور للتقية الموجود في غيره المعارض له.

ومنها : ما يرجع إلى المضمون ومفاد الخبر ، كالشهرة في الفتوى - وهو واضح -.

فيقع الكلام في : انه مع التزاحم بين المرجح الصدوري وغيره ، هل يقدم الخبر ذو المرجح الصدوري. أو غيره ، أو لا يقدم أحدهما على الآخر ، فيرجع إلى التخيير أو التساقط؟

ذهب الشيخ قدس سره إلى تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي (1).

وذهب الميرزا حبيب اللّه الرشتي قدس سره - تبعا للوحيد البهبهاني قدس سره (2) - إلى تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري (3).

وذهب المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه إلى عدم تقديم أحدهما على الآخر ولزوم الرجوع مع التزاحم إلى مطلقات التخيير (4).

اما تقريب الشيخ لمدعاه : فهو : ان الرجوع إلى المرجح الجهتي انما يكون بعد فرض العلم بصدور كلا الخبرين كالمتواترين ، أو تكافؤ احتمال الصدور فيهما معا ، وذلك لتفرع مقام الجهة على مقام الصدور ، فان الصدور لتقية انما يفرض بعد فرض أصل الصدور كما لا يخفى.

وعليه ، فمع وجود المرجح الصدوري لأحد الخبرين لا يكون احتمال الصدور في كل منهما متكافئا ، والمفروض عدم العلم بصدورهما ، فلا يبقى مجال لتحكيم المرجح الجهتي.

ص: 434


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /468- الطبعة القديمة.
2- الوحيد البهبهاني المحقق محمد باقر. الفوائد الحائرية /215- الفائدة : 21.
3- الرشتي المحقق ميرزا حبيب اللّه. بدائع الأفكار /455- المقام الرابع في ترتيب المرجّحات.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /454- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وناقش في ذلك صاحب الكفاية مدعيا قصور الأدلة عن الالتزام بالترتيب وتقديم بعض المرجحات على بعض مع التزاحم ، بيان ذلك : انه بناء على الالتزام بالتعدي لغير المرجحات المنصوصة - كما عليه الشيخ - فالمرجح هو الأقربية إلى الواقع أو الظن بالصدور - على الخلاف في ملاك التعدي - وهذه المرجحات ليست مرجحات بعنوانها الخاصّ ، بل بعنوان إيجابها الأقربية أو الظن.

وعليه ، فمع تزاحم المرجحين يلاحظ الأقرب إلى الواقع أو المظنون صدوره فيؤخذ به ان كان وإلاّ فالمرجع مطلقات التخيير. واما بناء على عدم التعدي والاقتصار فيه على المنصوص من المرجحات ، فما قد يستدل به على الترتيب هو المقبولة ونحوها ، إلاّ انه لكثرة إطلاقات الترجيح الخالية عن الترتيب والواردة مورد البيان ، لا بد ان تحمل المقبولة على عدم كونها واردة لبيان حكم تزاحم المرجحات وعدم كونها ناظرة إلى ذلك المقام ، بل هي لبيان ان هذا مرجح وذلك مرجح لا أكثر ، لعدم صلاحيتها لتقييد المطلقات. وعليه فمع التزاحم لا دليل على الترتيب في تقديم أحدهما على الآخر فالمرجع هو مطلقات التخيير.

واما ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة عن مقام الصدور ، فقد ناقش فيه : بأنه انما يتم ويجري في الترتيب المدعى لو التزم بكون المرجح الجهتي مرجحا للخبر في ذلك المقام بخصوصه - أعني : مقام جهة الصدور - ولكنه غير صحيح ، بل هو راجع إلى مقام الصدور وترجيح صدور أحد الخبرين على الآخر - وان لم يوجب تقوية احتمال صدوره - وذلك لامتناع التعبد بالصدور مع الالتزام بصدوره عن تقية ، فلا يمكن الالتزام بأن الموافقة للعامة تدل على كون صدور المتعبد به لتقية ، للغوية التعبد حينئذ لعدم ترتب الأثر المرغوب. فالمرجحات كلها ترجع إلى مقام واحد ، وهو مقام الصدور ، فلا تفرع لبعضها على بعض.

لكن الإنصاف يقضي بعدم ورود ما ذكره صاحب الكفاية على الشيخ ، وان نظر الشيخ إلى جهة أغفلها صاحب الكفاية في مقام الإيراد. توضيح ذلك : ان احتمال

ص: 435

التقية وعدمه متفرع على أصل الصدور ، بمعنى انه انما يثبت بعد فرض الصدور ، فمحتمل التقية وغيره انما هو الكلام الصادر واقعا دون غيره ، وموضوع الترجيح الجهتي هو عدم احتمال التقية. فالترجيح انما يترتب على غير محتمل التقية على تقدير صدوره ، فمع وجود ما يرفع موضوع هذا المرجح ، وهو أصل الصدور تعبدا ، ينفي الترجيح به ، لارتفاع موضوعه بالحكومة ، والمرجح الصدوري في الخبر الموافق للعامة بتحكيمه يرفع موضوع المرجح الجهتي في الخبر المخالف - وهو أصل صدوره - دون العكس ، لأن المرجح الجهتي في الخبر المخالف وان كان يرجع إلى مقام الصدور - يعني يرجح صدور ذيه من غيره - إلاّ انه بتحكيمه لا يرتفع موضوع المرجح الصدوري في الخبر الموافق ، لعدم كون موضوعه أصل الصدور كما لا يخفى. فتقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي لأجل حكومته عليه.

وهذا الوجه وان كان يتلاءم مع ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة على مقام الصدور ، إلاّ انه لا يرتبط بما ذكره في صدر كلامه من اختصاص الترجيح بالمرجح الجهتي بالمتكافئين في الصدور علما أو تعبدا ، لجريانه ولو مع عدم التكافؤ كما لا يخفى. ولذلك فهو لا يصلح لأن يكون تقريبا لكلام الشيخ ، وان كان تاما في نفسه ووجها للتقديم المدعى.

والّذي يمكن تقريب عبارة الشيخ به هو : ان احتمال التقية في الخبر الموافق للعامة ، لا يكون في نفسه موجبا لطرح الخبر ، بل انما يطرح به الخبر مع قيام الأمارة المعتبرة على تأييده ، والخبر المخالف يكون أمارة على التقية في الخبر الموافق ، فان الظن بصدوره ظن بالتقية في مقابله ، إلاّ انه لا يجدي في طرحه ما لم يثبت التعبد به.

وحينئذ ، فاما ان تغلب الأمارة المخالفة ، أو تغلب الموافقة ، أو لا يغلب إحداهما على الأخرى. فمع غلبة المخالفة لا يبقى مجال لاحتمال التقية في الموافقة ، لنفي الصدور من أصله ، فلا مجال للترجيح بعدم وجود هذا الاحتمال. ومع غلبة الموافقة تنتفي أمارية المخالفة ، فلا يكون احتمال التقية في نفسه موجبا للطرح. واما مع

ص: 436

تساويهما وتكافئهما في السند ، فتصل النوبة حينئذ إلى الترجيح بمخالفة العامة ، فالمرجح الجهتي انما يفرض مع التكافؤ ، لأنه مع عدمه لا مجال للترجيح به ، اما لغلبة ذي المرجح أو لغلبة معارضه. ومع وجود المرجح الصدوري في إحداهما يرتفع التكافؤ فلا مجال للمرجح الجهتي ، وهو : أي : المرجح الجهتي - وان رجع إلى مقام الصدور ، بمعنى انه موجب لترجيح التعبد بصدور ذيه دون غيره ، إلاّ انه في وجوده لما كان متفرعا على أصل الصدور كان المرجح الصدوري رافعا لموضوعه ، فيكون حاكما عليه كما تقدم تقريبه.

وهذا الوجه وان لم تحرز تماميته ، إلاّ انه يتلاءم مع عبارة الشيخ أولا وآخرا ، ولا تهمنا مناقشته بعد ما عرفت ان أساس التقديم الّذي ينظر إليه الشيخ - وهو الحكومة - تام في نفسه ، فلا يتجه عليه ما أورده المحقق الخراسانيّ ، إذ ذلك لا يتوقف على رجوع المرجح الجهتي إلى مقام الجهة ترجيحا ، بل هو تام على الالتزام برجوعه إلى مقام الصدور - كما يلتزم به الشيخ - لأنه يبتني على تفرع المرجح الجهتي على مقام الصدور موضوعا لا ترجيحا ولا محذور فيه.

كما انه لا يبتني على استظهار الترتيب من المقبولة ونحوها ، كي يقال بأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة ، وانها ليست ناظرة إلى صورة التزاحم بين المرجحات ، فانه لا تزاحم بينهما بناء على الحكومة أصلا. كما انه لا يتنافى على القول بالتعدي ، لأن مخالفة العامة انما توجب الأقربية أو الظن بفرض عدم احتمال التقية على فرض الصدور ، والمرجح الصدوري ينفيه كما عرفت فلا مجال له.

واما ما ادعاه الميرزا الرشتي قدس سره خلافا للشيخ وجزم به بنحو عجيب وأنكر على الشيخ بتعبير غريب ، فمحصله : انه يستفاد من الروايات ان المرجح الجهتي انما يكون في مقطوعي الصدور ، وذلك يستلزم بالبداهة تحكيمه في ظنيهما ، وذلك لأن ظنية الصدور واحتمال عدمه ان لم يكن موجبا لطرح الخبر فلا يكون موجبا للتعبد به ، فتقديم ذي المزية الجهتية على غيره في فرض القطع

ص: 437

بالصدور وانسداد باب احتمال عدم الصدور ، يستلزم لا محالة تقديمه على ما يكون ظنيا في صدوره.

وتقريب ما ادعاه يتضح ببيان شيء ، وهو : ان كل خبر وان كان يشتمل على مقامات ثلاثة : مقام الصدور وجهته والدلالة ، إلاّ ان التعبد مع احتمال المخالفة للواقع من هذه الجهات الثلاث تعبد واحد مفاده لزوم الأخذ به ، والبناء على انه الواقع ، وعدم الاعتناء بما يوجب الخلل فيه صدورا أو جهة أو دلالة ، وليس التعبد يتعدد بتعدد المقامات ويستلزم كل منها إلغاء احتمال الخلل في مقام معين بخصوصه ، ومع كون الخبر قطعيا من بعض الجهات فالتعبد به يرجع إلى إلغاء احتمال الخلل في غيرها.

وعليه ، فان كان الخبر مقطوع الصدور كان احتمال الخلل فيه أقل لأنه يكون من جهتين فقط ، فتقديم ذي المزية الجهتية على الآخر مع قلة احتمال المخالفة فيه يستلزم بالبداهة تقديمه على الآخر مع كثرة احتمال الخلاف فيه ، كما إذا كان ظني الصدور لكون احتمال الخلاف فيه من جهاته الثلاث. ثم انه قدس سره أضاف إلى ذلك : ان الموافق للعامة يدور امره بين عدم الصدور رأسا ، كما لو كان ظنيا ، لدلالة الاخبار على إلغائه وعدم صدقه ، وبين الصدور للتقية ، كما لو كان قطعي الصدور ، لدلالة الاخبار على ان ما سمع منهم يشبه قول العامة فهو تقية.

ويشكل هذا الأخير - بما ذكره المحقق الخراسانيّ - بامتناع الدوران المذكور ، لاحتمال ان يكون الخبر الموافق صادرا لبيان الحكم الواقعي - كما لو كان الحكم الواقعي موافقا لقول العامة - والمخالف ليس بصادر أصلا ، أو انه صادر لكنه لم يرد به ظاهره ، ولزوم حمله على التقية أو البناء على عدم صدوره انما يتم في فرض كون المعارض المخالف قطعيا بجميع جهاته ، إذ يتعين معه كون الموافق اما غير صادر أو صادرا للتقية ، ومع عدم قطعيته بجهاته كلها - كما هو الفرض - لا دليل على دوران

ص: 438

الموافق للعامة بين عدم صدوره أو صدوره للتقية (1).

واما ما ذكره أولا من الملازمة البديهية ، فالمناقشة فيه واضحة ، وذلك لأنه مع القطع بصدور كلا الخبرين يكون احتمال المخالفة للواقع في الخبر الموافق للعامة أقوى من المخالف ، لانتفاء احتمال التقية فيه ووجوده في الموافق ، فاحتمال المخالفة في المخالف أضعف منها في الموافق ، لانحصاره فيه في مورد الدلالة وجهة الصدور من غير احتمال التقية ، بخلاف الموافق فانه في مورد الدلالة وجهة الصدور مع احتمال التقية ، واما مع عدم القطع بصدورهما ، فيزيد في الخبر المخالف احتمال المخالفة في الصدور ، والخبر الموافق وان كان كذلك أيضا ، إلاّ انه مع وجود المرجح الصدوري فيه يكون احتمال المخالفة في الصدور أضعف منه في الخبر المخالف. فلعل جهة تقديم المخالف على الموافق مع القطع بالصدور لأجل أضعفيّة احتمال المخالفة فيه من الموافق ، وذلك ليس موجودا مع الظن بالصدور ، لعدم أقوائية احتمال المخالفة في الموافق لضعف احتمالها فيه في جانب الصدور بوجود المرجح وقوته في المخالف ، فلا يستلزم تقديم المخالف من القطعيين تقديمه من الظنيين ، وليس هو من الأمور البديهية كما ادعاه.

وللميرزا المذكور كلام آخر ذكره في الكفاية وأورد عليه ، لكن لا يهمنا ذكره.

والمتحصل هو : لزوم الالتزام بما التزم به الشيخ من تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي ، فتدبر.

هذا كله في صورة ما إذا كانت النسبة بين الخبرين المتعارضين هما التباين.

واما لو كان بينهما العموم من وجه ، فهل تشملهما الاخبار العلاجية الدالة على الترجيح أو التخيير أو لا ، فيرجع فيهما إلى الأصل الأولي وهو التساقط؟

والتحقيق في المقام ان يقال : انه ..

تارة : يلتزم بأن لكل خبر تعبد واحد يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف فيه في

ص: 439


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /456- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مقاماته الثلاثة : الصدور وجهته والمدلول ، ومعناه هو التعبد بمفاد هذا الخبر ومضمونه والإلزام بالاخذ به.

وأخرى : يلتزم - كما عليه الأكثر - بثبوت تعبدات ثلاثة في كل مقام تعبد ، فهناك تعبد بصدور الخبر ، وتعبد بأنه لبيان الحكم الواقعي ، وتعبد بمدلوله وظاهره ، وهذه التعبدات عرضية ويترتب عليها جمعا الأثر ، لا طولية ، لعدم الأثر لكل منها بخصوصه.

فان قلنا بالثاني ، فلا يتصور التبعيض في حجية السند في الصدور ، لأن المتعبد به في هذا المقام - وهو الصدور - امر واحد بسيط غير قابل للتعدد لوحدة متعلقه وهو الكلام.

نعم ، التبعيض في حجية المدلول ممكنة بتعدد المدلول ، فيمكن صدور التعبد ببعضه دون الآخر.

إلاّ انه قد عرفت فيما تقدم ان التعارض في مقام الصدور انما يحصل مع عدم إمكان العمل بمدلول كل من المتعارضين ، بحيث يكون التعبد بصدور كل منهما لغوا فيحصل التعارض بينهما.

ومع كون التعارض في المقام - الفرض - في بعض المدلول دون الآخر ، فلا يحصل التعارض في مقام الصدور بينهما ، لإمكان العمل بمدلول كل منهما ببعضه ، وهو كاف في رفع لغوية التعبد بصدور كل منهما ، لوجود العمل على طبقه ولو بلحاظ بعضه.

وبالجملة : فعلى هذا الالتزام لا يمكن تصور التبعيض في حجية الصدور مع عدم ثبوت التعارض في هذا المقام الّذي هو موضوع الأحكام ، فلا تصل النوبة إلى الكلام في شمول الاخبار العلاجية وعدمها.

وبهذا البيان تعرف ما في دعوى السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - كما في مصباح الأصول - ، لإمكان التبعيض في حجية الصدور - مع التزامه بهذا الالتزام - منظّرا

ص: 440

له بقيام البينة على ملكية زيد لعشرة دراهم وقيام أخرى على نفي ملكيته لخمسة ، فانه يؤخذ بالبينة الأولى في إثبات ملكيته لخمسة دراهم ، وهو معنى التبعيض (1).

ولكن التنظير المذكور ليس بشيء ، فان التبعيض في مورد البينة انما هو في المدلول - وهو الملكية - وقد عرفت انه قابل للتبعيض لتعدده ، لا الصدور للقطع به ، بل لا معنى له ، لأن مفادها ليس الحكاية عن الإمام علیه السلام . وموضوع الكلام في الخبر هو التبعيض في حجية الصدور ، فلا يتجه القياس المذكور.

ثم انه فرض أولا احتمال القول بالتساقط في المجمع ، والأخذ بكل من العامين في مورد افتراقه عن الآخر ، مستدلا على ذلك : بأن طرحهما في مورد افتراقهما طرح للحجيّة بلا معارض ، وهو ممنوع. ثم فرض احتمال الرجوع في المجمع إلى الاخبار العلاجية ، وبنى صحة هذا الاحتمال وتنجزه على ثبوت معقولية التبعيض في الحجية وعدمها ، ثم جزم بمعقولية التبعيض بعد ذلك.

ولا يخفى على النبيه ان الالتزام بالتساقط في خصوص المجمع والالتزام بهما في مورد الافتراق ، التزام بالتبعيض في الحجية المفروض كونه محل الإشكال ، فكيف يفرض الكلام في معقولية التبعيض وعدمها متأخرا عن فرضه ، وانه يكون بناء على الاحتمال الآخر ، بحيث انه مع عدم معقوليتها ينتهي إلى عدم الرجوع إلى الاخبار العلاجية ، وتعين الالتزام بالتساقط في خصوص المجمع ، مع انه يستلزم تساقطهما في مجموع مدلولهما ، كما لا يخفى على المتدبّر؟. كما انه على هذا - أعني : فرض التبعيض على القول بالتساقط - لا يصح الانتهاء إلى الرجوع إلى الاخبار العلاجية بفرض معقولية التبعيض ، كيف؟ والمفروض انه لازم كلا القولين!.

وان قلنا بالأول ..

فتارة : يلتزم بأن مفاد هذا التعبد الواحد إلغاء احتمال الخلاف في المقامات الثلاثة للخبر ، فهو يتكفل إلغاء احتمال الخلاف في كل مقام ضمنا.

ص: 441


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 428 - الطبعة الأولى.

وأخرى : يلتزم بأن مفاده ليس ذلك ، بل مفاده رأسا الإلزام بمضمون الخبر ، ولازم ذلك هو إلغاء احتمال الخلاف في مقاماته الثلاثة ، لأن ان مفاده رأسا ذلك.

فعلى الأوّل : يكون الكلام فيه عين الكلام على القول الأول من امتناع التبعيض في الحجية في مقام الصدور ثبوتا ، لعدم معقولية التبعيض فيه ، كي ينفى احتمال الخلاف ضمنا في بعضه دون الآخر. وعدم شمول الاخبار العلاجية له إثباتا ، لعدم انتهاء المعارضة إلى مقام السند والصدور.

وعلى الثاني : فلما كان التعبد بالخبر يرجع إلى الإلزام بالاخذ بمضمونه ومفاده والبناء على انه حكم اللّه ، كان التبعيض في حجيته ممكن التحقق بلا إشكال ، لتعدد المدلول وإمكان التفكيك بين افراده في الحجية والتعبد. فشمول الاخبار العلاجية ثبوتا ممكن على هذا الالتزام ، إلاّ ان الكلام في شمولها إثباتا ، بمعنى ان مقتضى الاخبار العلاجية ومفادها بنحو يشمل مورد العامين من وجه أو لا يشمل ، بل يختص بمورد المتباينين.

والحق : عدم شمولها ، لعدم سريان التعارض إلى مقام السند والصدور كما عرفت ، واختصاص الاخبار في المتعارضين في هذا المقام كما عرفت مرارا. والسر فيه : ان موضوع الأحكام في الاخبار المزبورة هو الخبران المتعارضان ، وظاهر ان المخبر به انما هو قول المعصوم وصدور هذا الدال منه علیه السلام ، وليس هو نفس المدلول والمضمون.

وبعبارة أخرى : ان الإخبار بقوله علیه السلام لا بمقول القول. وعليه فالتعارض بين الخبرين معناه التعارض بينهما في هذا المقام ومن هذه الجهة - أعني جهة الخبر - لأن معناه التنافي بينهما في مدلوليهما المخبر به ، وذلك يكون لو كان التنافي مقام الصدور ، بمعنى انه لا يمكن الالتزام بصدور هذين الكلامين ، فلاحظ.

والمتحصل : انه لا وجه للالتزام بشمول أدلة العلاج في مورد التعارض بالعموم من وجه ، لأنه ممتنع إثباتا على بعض التقادير ، وإثباتا وثبوتا على بعض

ص: 442

آخر.

ولو تنزلنا عن الالتزام بتعدد التعبد أو رجوعه إلى المتعدد ، والتزمنا بوحدته حقيقة وحكما. وتنزلنا عن الالتزام باختصاص الاخبار العلاجية بمورد التعارض في مقام السند والصدور ، والتزمنا بعمومها لجميع الموارد. كان اللازم مراعاة الترجيح والتخيير بين الخبرين بمجموع مدلوليهما لا بخصوص مورد الاجتماع ، لأن التعارض انما هو بين هذا الخبر وذاك وان كان منشؤه التنافي في بعض المدلول ، إلاّ ان يلتزم بشمول الاخبار لمورد التعارض بين الخبرين الضمنيين أيضا ، فتختص ملاحظة المرجحات في مورد الاجتماع لصدق الخبر الضمني على بعض المدلول ، لأن الاخبار بالمجموع استقلالا اخبار بالبعض ضمنا.

إلاّ ان إثبات ذلك من الاخبار مشكل جدا ، بل ممنوع ، لظهورها في إرادة الخبرين بالاستقلال ، فلاحظ وتدبر.

يبقى الكلام فيما أفاده السيد الخوئي في ما لو كان التعارض بين الإطلاقين من :

سقوط الروايتين في مورد الاجتماع من الأول بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات ، وذلك لأن الإطلاق بمعنى اللابشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول اللفظ ، إذ اللفظ موضوع للماهية المهملة المعبر عنها باللابشرط المقسمي فلا يروي الراوي عن الإمام علیه السلام إلاّ ثبوت الحكم للطبيعة المهملة ، واما إطلاقه فهو خارج عن مدلول اللفظ ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة ، وعلى هذا فلا تعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما ، إذ لا تنافي بين ثبوت الحكم بوجوب إكرام العالم على نحو الإهمال وحرمة إكرام الفاسق على هذا النحو أيضا ، فلا تنافي بين الخبرين أيضا ، ولا سبيل للعقل إلى الحكم بأن المراد منهما وجوب إكرام العالم مطلقا ولو كان فاسقا وحرمة إكرام الفاسق مطلقا ولو كان عالما ، لأنه حكم بالجمع بين الضدين ، والحكم بالإطلاق في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا

ص: 443

مرجح ، فيسقط الدليلان معا في مادة الاجتماع (1).

وتحقيق الحال فيما ذكره - بعد ظهور ان نظره في ذلك إلى ان إجراء مقدمات الحكمة انما هو بيد المكلف لا الراوي ، بل الراوي لا ينقل سوى ثبوت الحكم للطبيعة المهملة ، والعقل يستظهر بمقدمات الحكمة إرادة العموم ، وهي غير تامة فيما نحن فيه - ان الراوي اما ان ينقل المعنى أو اللفظ ، والمراد بنقل المعنى واسناده إلى المعصوم علیه السلام هو الاخبار بصدور الدال على هذا المعنى من المعصوم لا صدور نفس المعنى ، إذ الصادر منه علیه السلام هو اللفظ لا المدلول كما لا يخفى.

فان كان الراوي ناقلا بالمعنى ، فمعناه انه ينقل صدور الدال على المعنى الإطلاقي ، وهو العموم من الإمام علیه السلام ، وهذا يعني إجراؤه بشخصه مقدمات الحكمة في كلام الإمام علیه السلام لا المكلف. نعم ، المكلف يجري مقدمات الحكمة في كلام الراوي كي يستظهر صدور المطلق من المعصوم ، باعتبار ان الراوي يخبر بصدور الدال على هذا المعنى الّذي يبديه من الإمام علیه السلام .

ولو كان النقل باللفظ ، فمقدمات الحكمة من الأمور الواقعية المستفادة من الراوي وروايته ، فان عدم نصب القرينة انما يعلم من الراوي ، وهكذا كونه في مقام البيان ، فانه يعرف من ملاحظة خصوصيات الحديث وشئونه ، وهو ما يرتبط بالراوي. وعليه فالمعنى الإطلاقي يكون مدلولا لكلام الراوي ، وليس هو خصوص الطبيعة المهملة ، والإطلاق يحكم به العقل بواسطة مقدمات الحكمة ، ومعه يحصل التعارض بين الروايتين باعتبار مدلوليهما ، فلاحظ.

ولو أغمضنا النّظر عن هذا كله ، والتزمنا بأن إجراء مقدمات الحكمة بيد المكلف ، فما رتبه على ذلك من سقوط الدليلين في مورد الاجتماع لعدم تمامية المقدمات ، لاستلزامه الإطلاق فيها الحكم بالجمع بين الضدين ، والالتزام بإطلاق أحدهما ترجيح بلا مرجح انما يتم لو كان مجرى المقدمات المذكورة هو المراد

ص: 444


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 429 - الطبعة الأولى.

الجدي ، وقد عرفت في صدر المبحث خلاف ذلك وان مجراها المراد الاستعمالي ، ومعه لا محذور في انعقاد الإطلاق في كل منهما ، نظير العامين بالوضع ويلتزم بتعارضهما في مورد الاجتماع كالعامين بلا فرق أصلا لا موضوعا ولا حكما ، فتدبر.

هذا تمام الكلام في مبحث التعادل والترجيح ، وبه تمت الدورة الأصولية ، والحمد لله أولا وآخرا وهو ولي التوفيق. وكان ذلك في صباح الاثنين الموافق للثامن عشر من شهر شوال سنة ( 1383 ه ) ، وقد تم تسجيله مساء الاثنين في اليوم نفسه ، نسأله جلت عظمته ان يوفقنا للعلم والعمل الصالح ليكون ذلك ذخرا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى اللّه بقلب سليم ، انه سميع مجيب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

عبد الصاحب الحكيم

ص: 445

ص: 446

الفهرس

قاعدة اليد

الجهة الأولى : في حجية اليد على الملكية... 7

الأولى : موثقة حفص بن غياث... 8

الثانية : ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث فدك... 10

الثالثة : رواية حمزة بن حمران... 11

الرابعة موثقة يونس بن يعقوب... 12

الاستدلال ببناء العقلاء... 13

الجهة الثانية : في ان اليد هل تكون امارة أو أصلا... 14

ما يمكن ان يقال في تقريب امارية اليد ثبوتا... 16

الجهة الثالثة : هل ان اليد حجة مطلقا ولو علم حال اليد سابقا في أنها غير مالكية. أو تختص حجيتها في صورة الجهل 17

توجيه المحقق الأصفهاني لاختصاص الحجية بصورة جهل العنوان والمناقشة فيه... 17

توجيه المحقق النائيني للاختصاص والمناقشة فيه... 20

توجيه المحقق العراقي للاختصاص والمناقشة فيه... 24

الجهة الرابعة : هل الاقرار بالملكية السابقة تشكل دعوى أخرى أم لا... 26

ص: 447

كلام المحقق الأصفهاني في عدم تشكيل دعوى أخرى ومعه عدم الانقلاب والمناقشة فيه 27

تشكل الدعوى الثانية وحصول الانقلاب فيما إذا كان المدعي منكرا... 32

فتوى المشهور بالانقلاب لا تنافي اعتراض الامام (عليه السلام) على أبي بكر... 32

ما افاده المحقق النائيني في دفع الاشكال المذكور على المشهور والمناقشة فيه... 33

دعوى المحقق العراقي بان مقتضى القاعدة هو عدم الانقلاب... 36

الجهة الخامسة : هل اليد حجة على الملكية ولو شك في قابلية ما عليه اليد للملكية أم لا؟... 37

اعتبار عدم العلم بعدم القابلية في موضوع حجية اليد... 43

الجهة السادسة : ان اليد كما انها دليل على الملكية دليل على المنفعة أم لا؟... 45

دعوى النراقي في تخصيص حجية اليد بالأعيان وايراد السيد الطباطبائي عليه... 46

دعوى صاحب البلغة في المقام... 48

الجهة السابعة : جواز الشهادة على الملك استنادا إلى اليد... 49

كلام المشهور في المنع عن الشهادة وما يقتضي التحقيق فيه... 50

ايراد المحقق الأصفهاني على الشرايع وبيان عدم تماميته... 56

الاستدلال برواية حفص ورواية وهب على جواز الشهادة... 59

الجهة الثامنة : في الأيدي المتعددة على العين الواحدة... 60

تحقق الاستيلاء واليد على الحصة المشاعة ثبوتا وإثباتا... 60

الوجوه الحاكمة بالتنصيف والملكية الشاعة... 63

الجهة التاسعة : في حجية اليد مع شك ذيها في الملكية... 68

خبران يستدل بهما على اختصاص حجية اليد بصورة العلم... 68

الجهة العاشرة : في حجية يد المسلم على التذكية... 72

امارية سوق المسلمين على التذكية... 73

الجهة الحادية عشرة : في امارية يد الكافر على عدم التذكية... 75

ص: 448

ما يستدل بها على امارية يد الكافر والمناقشة فيها... 76

الجهة الثانية عشرة : في ان يد المسلم هل هي حجة على التذكية مطلقا أو تختص بغير المستقل للميتة بالدباغ؟ 80

الجهة الثالثة عشرة : في امارية اليد على الزوجية والنسب... 82

الجهة الرابعة عشرة : في قبول قول ذي اليد واخباره بطهارة ما في يده أو نجاسته... 83

الروايات المستدلة بها على القبول والمناقشة فيها ... 84

أصالة الصحة

والكلام فيها في مواقع... 91

ما يستدل بها من الكتاب على اعتبار أصالة الصحة والمناقشة فيه... 93

ما يستدل بها من السنة على اعتبار أصالة الصحة والمناقشة فيه... 94

ما يستدل بها من السنة على الفعل هل هو الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل... 97

المقام الثاني في جريان أصالة الصحة في العقود... 99

مناقشة الشيخ مع المحقق الثاني في عدم جريان أصالة الصحة في القصد قبل استكمال أركانه 100

تحرير النزاع علم نحو الذي حرره الاعلام المتأخرون... 102

كلام المحقق النائيني في المقام ومناقشة المحقق الأصفهاني وتوجيه كلام النائيني... 102

كلام المحقق العراقي في المقام والاستدلال بالسيرة... 104

مناقشة السيد الخوئي في الاستدلال بالسيرة والمناقشة فيها... 105

المقام الثالث : في اختلاف الصحة بحسب مواردها... 109

توضيح وبيان لكلام الشيخ في المقام... 111

المقام الرابع : في وجوب احراز عنوان موضوع الأثر... 112

توجيه كلام الشيخ في تعيين صغرى للمقام... 116

تفريق الشيخ في جريان أصالة الصحة بين الصلاة على الميت والصلاة عنه وتمامية ذلك 116

المقام الخامس : فيما يثبت بأصالة الصحة من الآثار... 119

المقام السادس : في معارضة أصالة الصحة مع غيرها من الأصول... 121

ص: 449

نسبتها مع الأصل الحكمي... 121

نسبتها مع الأصول الموضوعي واضطراب كلمات الشيخ في المقام وتحقيق القول فيه 123

قاعدة الفراغ والتّجاوز

الكلام فيها في جهات... 129

الجهة الأولى : في انها قاعدة أصولية أو قاعدة فقهية... 129

الجهة الثانية : هل هما قاعدة واحدة أم قاعدتان... 130

وجوه سبعة لعدم امكان كونهما قاعدة واحدة ومناقشة الاعلام فيها... 130

مقام الاثبات لا يتكفل كونهما قاعدة واحدة... 140

اجمال النصوص بالنسبة إلى استفادة رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ... 141

الروايات المثبتة لقاعدة التجاوز لا يمكن الاعتماد عليها... 142

الجهة الثالثة : في عموم قاعدة التجاوز وعدم اختصاصها بالصلاة... 144

الجهة الرابعة : عموم قاعدة التجاوز للشك في جزء الجزء... 145

وجوه التقريب اختصاصها بجزء العمل... 146

مقتضى التحقيق في المقام... 148

الجهة الخامسة في عموم قاعدة التجاوز للشك في الشرط في اثناء المشروط... 149

ما افاده المحقق الأصفهاني لمنع العموم... 149

شروط التي تكون بنفسها متعلقا للأمر... 152

تحقيق الكلام في الشروط وأحكامها... 154

الجهة السادسة : في عموم قاعدة الفراغ للاجزاء... 156

الجهة السابعة : عموم قاعدة الفراغ ما إذا كان منشأ شك في الصحة هو الشك في الشرط 156

ما يمكن ان يقال في المقام التصحيح كلام الشيخ الجهة الثانية : فيما يعتبر في قاعدة التجاوز 159

اعتبار التجاوز عن المحل وتعيينه... 159

ص: 450

التجاوز عن المحل العقلي والعادي... 160

اعتبار الدخول في الغير وتعيينه... 161

ما يستفاد منه اعتبار الدخول في المترتب شرعا... 163

فتوى صاحب المدارك وما قيل حولها... 165

تقريب المحقق النائيني في عدم التنافي بين رواية إسماعيل ورواية عبد الرحمن... 167

مناقشة النائيني والسيد الخوئي في المقام... 168

مقتضى التحقيق في المقام... 172

تذنيب : في الشك في الجزء الأخير من العمل... 175

وجوه المسألة... 178

اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا يلزم عدم جريان القاعدة في جزء الجزء... 184

الجهة التاسعة : في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ... 185

كلام المحقق النائيني في اعتبار الدخول مطلقا في الوضوء في غيره والمناقشة فيه... 188

ما إذا كان الشك في صحة العلم ناشئا عن الشك في الجزء الأخير... 190

الجهة العاشرة : جريان قاعدة الفراغ لو كان منشأ الشك هو الشك في الشرط... 194

كلام المحقق العراقي في بيان اقسام الشروط... 198

مناقشة مع المحقق العراقي... 200

الجهة الحادية عشرة : في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث... 203

تخلص الشيخ عن منافاة دلالة الاخبار على خروج أفعال الوضوء عن عموم القاعدة مع رواية ابن أبي يعفور 204

ايراد المحقق العراقي على الشيخ والجواب عنه... 206

مقتضى التحقيق في المقام... 209

الجهة الثانية عشرة : في جريان قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة... 212

الاستدلال على جريان القاعدة برواية الحسين بن العلاء... 215

الجهة الثالثة عشرة : في جريان القاعدة مع الشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة 216

ص: 451

ما يقتضيه التحقيق بناء على أصلية القاعدة واماريتها... 217

الجهة الرابعة عشرة : فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشبهة الحكمية... 218

الجهة الخامسة عشرة : هل يعتبر في جريان قاعدة الفراغ ان يكون الشك حادثا بعد العمل أو لا؟ 219

الجهة السادسة عشرة : في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان منشأ الشك احتمال عدم صدور الأمر من المولى 223

الجهة السابعة عشرة : في كون القاعدة من الأصول أو الأمارات... 225

عدم تمامية ما ذكر من الملاكات لأمارية القاعدة... 226

الجهة الثامنة عشرة : في شمول القاعدة لصورة احتمال الاخلال العمدي... 229

الجهة التاسعة عشرة : في نسبتها مع الاستصحاب... 230

القرعة

ما افاده المحقق العراقي في دليل القرعة... 233

والذي لا بد ان يقال في القرعة... 234

تعارض الاستصحاب مع الأصول

تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة... 239

وجوه ثلاثة ذكرها الشيخ لعدم المعارضة وتمام الكلام فيها... 240

تحقيق الحال يحتاج إلى تحقيق المجعول في الاستصحاب... 242

تحقيق في روايات البراءة... 246

مقتضى المعارضة بعد القول بعدم ورود الاستصحاب... 247

تعارض الاستصحاب مع أصالة الاشتغال... 249

تعارض الاستصحابين... 250

الشك السببي والشك المسببي والكلام في جهتين... 250

وجوه خمسة لتقديم الشك السببي على المسببي... 251

تمامية ما افاده الشيخ في الوجه الثالث وعدم ورود ما أورده الأصفهاني... 256

ص: 452

عدم تمامية ما أفاده المحقق النائيني في الوجه الرابع والخامس... 257

الحق تقديم الشك السببي بالورود... 260

مؤاخذات ثلاث على كلام المحقق النائيني للتقديم بالحكومة... 261

ما إذا كان الأصل السببي غير الاستصحاب... 266

الشكين المسببين عن ثالث... 268

ما إذا كان يلزم من اجراء كلا الأصلين مخالفة قطعية عملية... 268

العلم الاجمالي بالتكليف في المقام مانع عن جريان كل من الأصلين... 270

ما إذا كان لم يلزم من اجراء الأصلين مخالفة عملية... 271

التعادل والترجيح

تمهيد

تعريف التعارض وبيان ضابطة... 279

ايراد النائيني على صاحب الكفاية فيما إذا كان التنافي عرضيا... 281

الموارد الخارجة عن التعارض... 282

معنى الحكومة عند صاحب الكفاية... 282

وجود مورد للجمع العرفي غير تقديم النص أو الأظهر على الظاهر... 283

ما يرد على صاحب الكفاية في وجه تقديم الأدلة المتكلفة للأحكام بعناوينها الثانوية على المتكفلة بعناوينها الأولية 284

تقديم الخاص والمقيد على العام والمطلق... 285

توضيح كلام الكفاية في المراد من البيان المأخوذ في أحدي مقدمات الحكمة... 290

انكار المحقق النائيني وجود نحوين من الإرادة والمناقشة فيه... 291

انفكاك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية... 293

حصول التعارض فيما إذا كان المراد من البيان هو بيان مراد الاستعمالي... 295

كلام النائيني في ان القيد المنفصل يقدم على المطلق بالقرينة والمناقشة فيه... 297

مناقشة مع المحقق النائيني في التزامه ببقاء ظهور المطلق

ص: 453

في الإطلاق بعد ورود القيد المنفصل... 299

الخاص مقدم على العام على جميع الاحتمالات... 300

خروج مورد تقديم النص على الأظهر أو الظاهر عن التعارض... 301

تتمة : فيما يتعلق بالخاص والعام والمقيد والمطلق... 302

الفرق بين التعارض والتزاحم... 306

تفسير المحقق النائيني التزاحم بالتنافي في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل... 306

احكام باب التزاحم انما تجري في صورة العجز بين الامتثالين... 308

عدم جريان احكام التعارض في صورة العجز... 308

موضوع الخلاف بين المحققين الخراساني والنائيني لا يندرج تحت عنوان التزاحم ولا التعارض 310

فصل : لا يختص مورد التعارض بما ثبت حجيته بالدليل اللفظي... 313

الأصل في الدليلين المتعارضين... 314

التزام الشيخ بالتمييز على القول بالسببية في الأمارات والمناقشة فيه... 314

التزام الشيخ والخراساني بالتوقف بناء على الطريقية وتحقيق الحال فيه... 315

التخيير بأنحائه الثلاثة لا يتصور له معنى في المسألة الأصولية... 319

المتعين في المقام هو التوقف بمعنى نفي الثالث... 323

تذييل : هل الجمع مهما أمكن أولى؟... 327

من موارد تقديم الأظهر على الظاهر ما لو اجتمع المطلق الشمولي والمطلق البدلي وكانا متنافيين 329

توجيه كلام النائيني في المقام... 331

من موارده ما لو تعارض العام مع المطلق الشمولي... 334

من موارده ما لو دار الأمر بين التخصيص والنسخ... 337

توضيح كلام المحقق النائيني في عدم ثبوت الدوام والاستمرار بالإطلاق... 338

مناقشة مع المحقق النائيني في مقامين من كلامه... 340

مناقشة مع السيد الخوئي في المقام... 343

ص: 454

بيان كلام المحقق العراقي في المقام والمناقشة فيه... 345

انقلاب النسبة... 348

تفصيل الشيخ بين صور التعارض... 348

دفع ما أورد على الشيخ في المقام... 350

تقريب المحقق النائيني لانقلاب النسبة... 353

مناقشة مع المحقق النائيني فيما افاده في المقام... 355

تحقيق الحال في المقام... 357

تفصيل للزوم الترتيب في العلاج بين صورتي ما إذا ورد عام وورد خاصان ينافيانه وما إذا كان هناك عامان وخاص ينافي أحدهما 365

الصورة الأولى : إذا ورد عام وخاصان... 368

حكم ما إذا ورد عام كان والخاصان متباينين... 369

رجوع مركز الخلاف إلى ان طرف المعارضة هو الجميع أو المجموع وبيان صور المسألة بناء على كل منهما 369

مناقشة مع السيد الخوئي في التزامه بان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصين فقط 375

حكم ما إذا أورد عام وكان بين الخاصين عموم من وجه... 378

حكم ما إذا ورد عام وكان بين الخاصين عموم مطلق... 379

حكم إذا كان الخاص الأخص متصلا... 381

الكلام في روايات ضمان العارية... 385

أصناف خمسة ذكرها السيد الخوئي للروايات... 385

جهات ثلاث يلزم التكلم عنها... 387

الجهة الأولى : في بيان الجمع بين المخصصات أنفسها... 387

الجهة الثانية : دفع التفصي المذكور عن استلزام رفع اليد عن اطلاق المدلول الإيجابي 390

الجهة الثالثة : مناسبة التعرض لهذه المسألة في المقام... 390

ص: 455

الصورة الثانية : ما إذا ورد عامان ومخصص... 391

حكم المتعارضين بحسب الأدلة الشرعية... 396

بيان مورد المعارضة... 397

تأسيس الأصل عند دوران الأمر بين الترجيح والتخيير... 398

التزام الشيخ بلزوم الترجيح بمقتضى الطائفة الأولى من الأخبار... 402

مناقشة الأعلام مع الكفاية في عدم لزوم الترجيح... 404

استعراض الأخبار الواردة في المورد والانتهاء بما تقتضيه الذوق والصناعة فيها... 406

عدم صلاحية مقبولة ابن حنظلة للدلالة على الترجيح... 406

الأخبار الأخرى لا يكن التمسك بشئ منها على الترجيح... 410

روايات ظاهرها لزوم الترجيح بالأحدثية... 412

مناقشة في الاستدلال بها على المراد... 413

الالتزام بلزوم الترجيح بالشهرة وصفات الراوي... 415

هل يلزم الجمود على المرجحات المنصوصة أم يجوز التعدي إلى غيرها... 418

روايات ثمان يستدل بها على التخيير... 422

استظهار عدم دلالة رواية الحرث على المطلوب وبيان منعه... 424

مناقشة في الاستدلال برواية سماعه على التخيير... 425

خدشة في مناقشة السيد الخوئي في الاستدلال برواية علي بن مهزيار... 427

مكاتبة الحميري وتمام الكلام فيها... 428

على القول بالترجيح هل يلتزم بالترتيب بين المرجحات... 433

تقريب دعوى تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي... 434

مناقشة الميرزا الرشتي مع الشيخ وبيان مراد الشيخ... 437

عدم شمول الأخبار العلاجية لمورد ما إذا كان بين الخبرين العموم من وجه... 439

التعارض بين الإطلاقين... 443

الفهرس... 447

ص: 456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.