الشقشقية : دراسة موضوعية لشخصيات تصدت للخلافة الإسلامية

هوية الکتاب

الشقشقية

(دراسة موضوعية لشخصيات تصدّت للخلافة الإسلامية)

الناشر: العتبة العلوية المقدسة

تأليف د. الشيخ عبدالرسول الغفاري

إخراج فني: نصیر شکر

عدد النسخ: 1000 نسخة

السنة: 1432 ه_ / 2011 م

العتبة العلوية المقدسة العراق. النجف الأشرف

هاتف: 07802337277 (00964)

لإبداء ملاحظاتكم يرجى مراسلتنا على البريد الالكتروني

info@haydarya.com

محرر رقمي: روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

مقدمة المكتبة

مازالت مسألة الخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مثاراً لكثير من التساؤلات والجدل رغم مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة عليها، وهي وإن كانت في البداية فلتة، ولكن تمّ التنظير لها من قبل المتكلّمين فيما بعد، فاختلفت أقوالهم في كيفية انعقادها إلا مدرسة أهل البيت الاسلام علیهم السلام حيث بقوا وتمسّكوا بمن نصّ عليه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بالنصّ الجلي والخفي على لزوم اتّباعه ألا وهو أمير المؤمنين علیه السلام.

وهذا هو الفارق الجوهري بين أتباع مدرسة أهل البيت علیهم السلام وأتباع مدرسة الخلفاء، وباقي الخلافات العقائدية والفقهية تنشأ منه وبسبيه.

وممّا حفظه لنا التراث عن هذا الجدل الخطبة الشقشقية، حيث يشرح لنا أمير المؤمنين علیه السلام بصورة موجزة و بعبارات مقتضبة ما حدث، كما يتمّ فيها تقييم لنفسية كلّ من تصدّى للخلافة قبله، ويشرح موقفه منهم.

وقد تصدّى لشرحها والتعليق عليها وتوثيق صدورها بذكر

ص: 5

المصادر والشواهد الأخرى التي تؤيّد محتواها، سماحة الدكتور الشيخ عبدالرسول الغفاري، وقد آثرنا نشرها ضمن (سلسلة في رحاب نهج البلاغة) تعميماً للفائدة.

مكتبة الروضة الحيدرية

5 ذو القعدة 1432ه_

***

ص: 6

الفصل الأول

اشارة

خطبة أمير المؤمنين علیه السلام وهي المعروفة بالشقشقية

أما والله لقد تقمّصها (1) فلانٌ - ابن أبي قحافة - وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى (2)، ينحدر عنّي السّيل (3)، ولا يرقى إلىّ الطّير (4)، فسدلت دونها ثوباً (5)، وطويت عنها كشحاً (6)، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء (7)، أو أصبر على طخيةٍ عمياء (8)، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصّغير، ويكدح فيها مؤمنٌ حتّى يلقى ربِّه (9).

فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى (10)، فصبرت وفي العين قذىً، وفي الحلق شجاً (11)، أرى تراثي نهباً، حتّى مضى الأول (12) لسبيله، فأدلى بها إلى فلانٍ (13) بعده.

ثمّ تمثّل بقول الأعشى:

شتّان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر (14)

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها (15) في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (16)! فصيّرها في حوزةٍ خشناء، يغلظ

ص: 7

كلمها (17)، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها و الاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصّعبة (18)، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم فمني النّاس - لعمر الله - بخيطٍ و شماسٍ (19) وتلوّنٍ واعتراضٍ؛ فصبرت على طول المدّة، وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله (20) جعلها في جماعةٍ زعم أني أحدهم فيالله وللشّورى! متى اعترض الرّيب في مع الأوّل منهم، حتّی صرت أقرن إلى هذه النّظائر (21) لكنّي أسففت إذ أسفّوا (22)، وطرت إذ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه ومال الآخر لصهره (23)، مع هنٍ وهنٍ (24)، إلى أن

القوم (25) نافجاً حضنيه (26) بين نثيله (27) ومعتلفه (28)، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع (29)، إلى أن قام ٹالٹ انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته (30).

فما راعني إلا والنّاس كعرف الضّبع إليّ (31)، ينثالون عليّ من كلّ جانبٍ، حتّی لقد وطى الحسنان، وشقّ عطفاي (32)، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (33).

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفةٌ و مرقت أخرى، وفسق [وقسط] آخرون (34) كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: (تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الارض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) (1)، بلى! والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في83

ص: 8


1- سورة القصص الآية: 83

أعينهم، وراقهم زبرجها (35).

أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة (36)، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر (37)، وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كفّة ظالم (38)، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها (39)، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ!

قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد (40) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه، فلمّا فرغ من قراءته قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، لو اطّردت خطبتك من حيث أفضيت!

فقال علیه السلام هيهات يابن عباس! تلك شقشقةٌ هدرت ثمّ قرّت (41).

قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلامٍ قطّ كأسفي على هذا الكلام ألّا يكون أمير المؤمنين علیه السلام بلغ منه حيث أراد.

شرح مفردات الخطبة:

(1) تقمّصها: أي تلبّس بها؛ وهي الخلافة، وفلان أراد به علیه السلام: أبا بكر بن أبي قحافة.

(2) محل القطب من الرّحى: إشارة إلى كون موقعه من بين المسلمين كموقع القطب الذي تدور عليها الرّحى، وأنه المركز الذي

ص: 9

تأوي إليه الجموع وتلوذ به الفرسان.

(3) ينحدر عنّي السيل: تشبيهاً لنفسه بذروة الجبل المرتفع، فهو منبع العلم والمعرفة، وهذا تمثيل لسمو قدره علیه السلام وقربه من مهبط الوحي، وأنّ علمه ينحدر من ذلك النبع الإلهي فيصيب منه ما شاء الله، لذا فإنّ الخلافة ممتنعة على غيره، لا يصلح أحد لها ولا يتمكن منها.

(4) ولا يرقى إلي الطير: لا يصل إلى مقامه من الفضل والعلم أحد، والعبارة في غاية البلاغة في الدلالة على الرفعة.

عبارته هذه أعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها؛ لأنّ السيل ينحدر عن الربية والهضبة، وأما تعذّر رقي الطير بما يكون للقلال الشاهقة جداً، بل ما هو أعلى من قلال الجبال، كأنّه يقول: لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها.

قال حبيب الطائي:

مکارم لجّت في علوٍ كأنّما *** تحاول ثاراً عند بعض الكواكب

(5) فسدلت دونها ثوباً: كناية عن إعراضه عن الخلافة، وسدل الثوب إرخاؤه.

(6) الكشح: ما بين الجنب و الخاصرة، والكاشح المعرض عنك حين يوليك كشحه أي جنبه، وهو مثل لأنّ من جاع فقد طوى كشحه، ومن شبع فقد ملأه، فجوعه عن الخلافة أي لم يلتقمها.

(7) طفقت: جعلت.

ص: 10

أرتاي: أُفكّر.

يد جذّاء: أي مقطوعة، ويقولون: رحم جذاء أي لم توصل، وسن جذاء أي متهمة.

والمراد هنا ليس ما يؤيدها، كأنه قال: تفكرت في الأمر فرأيت قلة الناصر أو عدمه، لذا وجدت الصبر أولى، وهذا بيان لعلة الإغضاء.

(8) طخية عمياء: الظلمة الشديدة: والغم والحزن، ونسبة العمى إلى الظلمة مجاز عقلي، وإنّما يعمى القائمون فيها إذ لا يهتدون إلى الحق، وهو تأكيد الظلام الحال واسودادها.

(9) يكدح: يدأب ويسعى ويجد فلا يعطى حقّه.

(10) أحجى: أولى، يقال: هذا أحجى من هذا، أي أولى وأحرى وأوجب وألزم، لذا أولع بالصبر ولزمه.

ومنه: هو حجي بكذا، أي جدير به، وأصله من الحجى بمعنى العقل، فهو أحجى أي أقرب إلى العقل.

وهاتا بمعنى هذه.

والمعنى الذي تجسده العبارة هو: أنه رأى الصبر على هذه الحالة التي وصفها أولى بالعقل من الصولة بلا نصير.

(11) القذى: ما يقع في العين من عود وتراب ونحوه.

والشجا: ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه.

والتراث: حقه المغتصب أي الخلافة.

ص: 11

والنهب: أخذ المال وغيره بالغلبة والاعتداء والقهر.

(12) الأوّل: هو أبو بكر بن أبي قحافة.

أدلى بها: أي بالخلافة أدلى إليه بالمال دفعه إليه، حيث صيّر أبو بكر الخلافة من بعده إلى قرينه ابن الخطاب.

(13) الثاني: أبو حفص عمر بن الخطاب.

(14) الكور: الرحل، والمعنى المراد يقول علیه السلام: هناك فرق بين يوم بويعت فيه بالخلافة مع ما فيه من الاختلاف، ويوم بويع فيه عمر إذ وجد الأمور أمامه ممهدة.

ما الذي يعنيه البيت المذكور آنفاً؟

حيّان كان سيداً في بني حنيفة، مطاعاً فيهم، وكان ذا حظوة عند ملوك فارس، وله نعمة واسعة ورفاهية وافرة، وكان الأعشى ينادمه. والأعشى هذا اعشى قيس أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل، وجابر أخو حيان اصغر منه ومعنى البيت: أنّ فرقاً بعيداً بين يومه في سفره وهو على كور ناقته وبين يوم حيّان في رفاهيته، فإنّ الأوّل كثير العناء شديد الشقاء، والثاني وافر النعيم وافي الراحة.

(15) الاستقالة: طلب الإعفاء من الأمر. وروى بعض علماء الجمهور أنّ أبا بكر قال بعد البيعة: أقيلوني فلست بخيركم.

(16) لشدّ ما: أي شديداً جداً.

تشطّرا: اقتسما والضمير في ضرعيها يعود على الخلافة. قالوا: إنّ

ص: 12

للناقة في ضرعيها شطرين كلّ خلفين شطر ويقال: شطر بناقته تشطيراً صرّ خلفين وترك خلفين والشطر أيضاً: أن تحلب شطراً وتترك شطراً.

فتشطّرا أي أخذ كلّ منهما شطراً. سمّى شطري الضرع ضرعين مجازاً، وهو هنا من أبلغ أنواعه حيث أنّ من ولّي الخلافة لا ينال الأمر إلّا تاماً ولا يجوز أن يترك منه لغيره سهماً، فأطلق على تناول الأمر واحداً بعد واحد اسم التشطير والاقتسام، كأنّ أحدهما ترك منه شيئاً للآخر. وأطلق على كلّ شطر اسم الضرع نظراً الحقيقة ما نال كلّ واحد من أمر الخلافة.

(17) الحوزة الجهة.

الكلم - بفتح الكاف وسكون اللام - الجرح، كأنّها عنى بقوله هذا: إنّ خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.

(18) الصعبة من الإبل: التي لم تروّض، إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها، وإن أسلس زمامها - أي أطلق لها الزمام - تقحّم في المهالك فألقته في مهواة.

(19) منى الناس: ابتلوا واصيبوا. الخبط: السير على غير جادة. والشماس - بالكسر - النفار. التلوّن: التبدّل. الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنّه يسير عرضاً في حال سيره طولاً.

(20) الضمير في (لسبيله) يعود إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

ص: 13

(21) النظائر: الذي يشبه بعضهم بعضاً دونه.

(22) أسفّ الرجل: إذا دخل في الأمر الدني، من أسفّ الطائر إذا دنا من الأرض. وأراد علیه السلام بذلك أنّه لم يخالفهم في شيء.

(23) صغی: مال. الضغن من الضغينة، يريد به سعد بن أبي وقّاص؛ لأنّ علياً علیه السلام قتل أخواله من بني أميّة. أو طلحة؛ لأنّه تيمي. والذي مال إلى صهره عبد الرحمن بن عوف؛ لأنّه زوج أم كلثوم بنت أبي معيط أخت عثمان لأمّه.

(24) هن: بوزن أخ، كناية عمّا لا يريد التصريح به، إذ يشير إلى أغراض أخر يكره ذكرها.

(25) ثالث القوم: يشير إلى عثمان بن عفّان، وكان ثالثاً بعد انضمام كلّ من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه.

(26) الحضن: ما بين الإبط والكشح، يقال للمتكبّر: جاء نافجاً حضنيه. ويقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاماً.

(27) النثيل الروث.

(28) المعتلف: موضع العلف. ومعنى ما تقدم أنّه لا همّ له إلّا ما ذكر.

(29) الخضم: الأكل بجميع الفم أو بكلّ الأصابع. والقضم الأكل بأطراف الأسنان، فهو أخف من الخضم.

(30) انتكث فتله: انتقض. وأجهز عليه: أتم قتله. والبطنة:

ص: 14

امتلاء البطن من الطعام. وكبت به: من كبا الجواد إذا سقط لوجهه.

(31) عرف الضبع: شبّه كثرتهم بكثرة الشعر. و العرف: الشعر النابت على عنق الفرس، فاستعاره للضبع وهو ثخين يضرب به المثل في الكثرة و الازدحام وانثالوا: أي انصبّوا وتتابعوا مزدحمين.

(32) شق عطفاي: العطف - بكسر العين - الجانب. وتروى عطافي: أي ردائي، وذلك أنّ كثرة الزحام عليه وشدة اصطكاك الناس من حوله خدش جانباه. وكان الازدحام لأجل البيعة.

(33) ربيضة الغنم: الطائفة من الغنم. يصف ازدحامهم وجئومهم بين يديه.

(34) الناكثون: أصحاب الجمل، لأنّهم بايعوه فنكثوا بيعته. وهم: طلحة، والزبير، وعائشة، وأصحابهم.

والمارقون: الخوارج أصحاب النهروان.

والقاسطون: معاوية، وعمرو بن العاص، وأهل الشام أصحاب واقعة صفين.

والقاسط: الجائر.

(35) راقهم زبرجها: أي أعجبهم من زينة الدنيا حسنها وزينتها وما فيها من متعٍ ولذّات. وأصل الزبرج: النقش والزينة من وشي أم جوهر.

(36) فلق الحبّة: شقّها. برأ النسمة خلقها. والنسمة - محركة -

ص: 15

النفس، وكان كثيراً ما يقسم بهذا القسم، وهو من أقسامه الجميلة.

(37) الحاضر: من حضر لبيعته. الناصر: الجيش الذي يستعين به.

(38) الكظة: امتلاء البطن من الطعام، يريد أنّهم لا يقارّوا الظالم على استثثاره وأكله الحرام. السغب. شدة الجوع، والمراد منه هضم حقّه الواجب له.

(39) الغارب: الكاهل، والكلام تمثيل للترك وإرسال الأمر.

(40) أهل السواد: سواد الكوفة، أي ضواحيها، وسمّي بالسواد لكثرة زرعه وخضرته.

(41) الشقشقة: شيء يخرجه البعير من فيه إذا هاج. والهدير: صوتها.

ما نقله ابن أبي الحديد في شأن الخطبة

قال: حدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي محمّد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشّاب هذه الخطبة، فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع (يعني قول ابن عباس: ما أسفت ... إلى آخره)، قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمّك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألّا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟

ص: 16

والله، ما رجع عن الأوّلين ولا عن الآخرين، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

قال مصدّق: وكان ابن الخشّاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت: أتقول: إنّها منحولة؟ فقال: لا والله، وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق.

فقلت له: إنّ كثيراً من الناس يقولون: إنّها من كلام الرضيّ رحمه الله تعالى؟

فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب، فقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع في هذا الكلام في خلِّ ولا خمر.

ثمّ قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتبٍ صنّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي (1).

* * *

ص: 17


1- شرح النهج 69:1

مصادر الخطبة الشقشقية (1)

1 - الغارت/ ابن هلال الثقفي، المتوفّى (283) ه_).

2 - المحاسن و الآداب / البرقي، المتوفّى (280 ه_).

3 - المواعظ و الزواجر / ابن سعيد العسكري، المتوفّى (291 ه_) عن الغدير 7: 82.

4 - نقل ابن الخشاب بعد أن أقسم أنّه رأى هذه الخطبة في كتاب قد أولّف قبل الشريف ب_ (200) سنة. انظر: ما هو نهج البلاغة للشهرستاني: 98.

5 - العقد الفريد/ ابن عبد ربه الأندلسي، المتوفى (328 ه_) نقلاً عن البحار المجلد 160/8 الطبعة الحجرية.

6 - عبد الله بن محمد بن محمود المعروف بابن كعب البلخي المعتزلي، وفاته قبل مولد الرضي، توفي (317ه_) بنقل ابن أبي الحديد 1: 69.

7 - الإنصاف في الإمامة / أبو جعفر بن قبة، المتوفى (380ه_)

ص: 18

(المعتزلي) تلميذ ابن كعب المتقدم.

8 - معاني الأخبار / الصدوق، المتوفّى (381ه_)، ص 343.

9 - علل الشرائع / الصدوق، المتوفّى (381ه_)، ص 144.

10 - تحف العقول / ابن شعبة الحرّاني، المتوفى (380ه_)، ص 313.

11 - كتاب الجمل / المفيد، المتوفّى (413 ه_) ص 92 و 62.

12 - الإرشاد / المفيد، المتوفّى (413 ه_) 1: 130 و 284 و 286

13 - المغني / القاضي عبد الجبار، المتوفّى (415ه_) بنقل الغدير 7: 83.

14 - الأمالي / أبو الفتح هلال بن محمّد الحفار، المتوفّى (414 ه_)، بنقل الطوسي في أماليه 1: 392.

15 - الإفصاح في الإمامة / المفيد، المتوفّى (413 ه_).

16 - نثر الدرر / الوزير منصور بن الحسين أبو سعيد الآبي المتوفى (422 ه_) بنقل أعيان الشيعة للأمين 8: 107.

17 - نزهة الأديب / الوزير منصور بن الحسين أبو سعيد الآبي.

18 - الفهرست / ابن النديم، المتوفى (438 ه_)، ص 224.

19 - الشافي / للسيد المرتضى، المتوفّى (436 ه_)، ص 203.

20 - شرح الخطبة الشقشقية / المرتضى المتوفّى (436 ه_).

21 - الأوائل / أبو هلال العسكري، المتوفى (395 ه_).

ص: 19

22 - الرسائل العشر / الطوسي، المتوفى (460 ه_)، ص 124.

23 - الفهرست / النجاشي، المتوفّى (450 ه_)، ص 92.

24 - الأمالي / للشيخ الطوسي، المتوفّى (460 ه_)، 1: 392.

25 - مجمع الأمثال / الميداني المتوفى (518 ه_)، 1: 197.

26 - المستصفي / الزمخشري المتوفّى 538 ه_)، 1: 393.

27 - شرح نهج البلاغة / القطب الراوندي، المتوفى (573 ه_).

28 - خطب علي علیه السلام لإبراهيم بن الحكم الفزاري.

29 - غرر الحكم / الآمدي المتوفى (588 ه_)، 3: 46 و 6: 232 و 256.

30 - الاحتجاج / الطبرسي، المتوفى (588 ه_)، 1:191 و 281.

31 - المناقب / ابن الجوزي، المتوفى (654 ه_).

32 - تذكرة الخواص، يوسف بن خزعلي سبط بن الجوزي الحنفي، المتوفى (654 ه_)، ص 133.

33 - الفرقة الناجية / القفطى، المتوفى (945 ه_).

34 - المجلى / ابن أبي جمهور الأحسائي، المتوفى (909 ه_)، ص 393.

35 - البحار / المجلسي، المتوفى (1110 ه_) قديم 8:160.

36 - ما كتبه الوزير أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات، كان

ص: 20

وزير المعتمد بالله، كتب الخطبة في نسخة وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة، وأنّ الخطبة قد كانت مكتوبة قبل ابن الفرات بمدّة. الغدير 7: 74.

37 - النهاية / لابن الأثير، 2: 294.

وقد شرح جملة من ألفاظ الخطبة ك_ (جذذ)، (ملأ)، (خضم)، (ابض)، (زبرج)، (شنق)، (عطف).

وقد روى بعض هذه الكلمات غير ما أثبته الرضي، فيعلم أنّ لابن الأثير مصادر عثر عليها غير (نهج البلاغة) جمع الرضي.

38 - لسان العرب / لابن منظور مادة شقشق.

39 - القاموس / الفيروز آبادي، 3: 251.

تسمية الخطبة:

سمّيت هذه الخطبة ب_ (الشقشقية) وب_ (المقمّصة) من حيث اشتمالها على لفظ النقمّص في أوّلها. ومن حيث عبارة الإمام علیه السلام التي وردت في آخر الخطبة جواباً لابن عبّاس لمّا سأله بقوله: يا أمير المؤمنين، لو اطّردت خطبتك من حيث أفضيت!

فقال علیه السلام: هيهات يا بن عباس، تلك شقشقة هدرت ...

تكاد أن تكون هذه الخطبة هي السبب الرئيسي في إثارة القوم الشبهات الواهية حول (نهج البلاغة) و التشكيك فيه، ورمي جامعه

ص: 21

الشريف الرضي بالكذب والتزوير وما رغاء أولئك إلّا مكابرة للحق والعناد الذي أمات قلبهم وأصمّ أسماعهم.

ثمّ إنّ المعركة حول (نهج البلاغة) منذ أن نشبت إلى يومنا هذا وإن اصطبغت بصبغة أدبية في ظاهرها لكنّها مذهبية سياسية في باطنها.

الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في هذه الخطبة يرى نفسه أنه أحق بمقام رسول الله من منافسيه ومنافسوه يعلمون ذلك حقاً. لكن ماذا يعمل حين لم يجد من يناصره على المطالبة بحقّه؟ لهذا صبر على مضض وأعرض عن غير رضا. وأمير المؤمنين علیه السلام لابدّ من أن يحاجج خصمه ويدافع عن حقّه، ويدلي بأدلّته، وفي كون الإمام أحق بهذا الأمر من غيره أمر مستفيض عنه، من ذلك قوله علیه السلام لأبي بكر لمّا طلبوه ليبايع فقال علیه السلام: «أنا أحق بهذا الأمر منكم، وأنتم أولى بالبيعة لي».

وقوله لأبي عبيدة بن الجرّاح لمّا طلب إليه أن يبايع لأبي بكر: «الله الله يا معشر المهاجرين لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وعقر بيته ... ولا تدفعوا أهله عن مقامه، فوالله لنحن أحق الناس به» (1).

و أمّا كتابه إلى معاوية فهو أكثر صراحة من قبل، إذ جاء فيه: «وذكرت حسدي الخلفاء، وإبطائي عنهم ... والكراهية لأمرهم،1.

ص: 22


1- انظر: الإمامة والسياسة 1: 11.

فلست أعتذر إلى الناس من ذلك ...» إلى أن يقول: «بل عرفت أن حقّي هو المأخوذ وقد تركته لهم» (1).

بل اعتراف عمر بن الخطاب أكبر دليل على أحقيّة الإمام علي بالخلافة، من ذلك ما رواه ابن عبّاس قال: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس، فقال: أم والله يا بني عبد المطلب، لقد كان عليّ ٌ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر. فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلته فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين

وأنت وصاحبك وثبتما عليه، وافترعتما الأمر منه دون الناس؟!

فقال: إليكم يا بني عبد المطلب، أما إنّكم أصحاب عمر بن الخطاب فتأخرت عنه وتقدم هنيهة، فقال: سر لا سرت. وقال: أعد علىّ كلامك فقلت: إنّما ذكرت شيئاً فرددت عليك جوابه، ولو سكت سكتنا. فقال: إنا والله ما فعلنا عن عداوة، ولكن استصغرناه وخشينا الا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.

قال: فأردت أن أقول: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يبعثه فينطح كبشها، أفتستصغره أنت وصاحبك؟ فقال: لا جرم، فكيف ترى؟ والله لا نقطع أمراً دونه، ولا نعمل شيئاً حتّى نستأذنه (2).13

ص: 23


1- جمهرة رسائل العرب 1: 424/389
2- محاضرات الراغب 2: 213

وبمثل هذا نقل ابن أبي الحديد المعتزلي فقال: قال عمر لابن عباس: یا بن عباس، أم والله، إن كان صاحبك - يعني علياً علیه السلام - أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلّا أنا خفناه على اثنتين قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بداً من مسألته عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هما؟ قال: حداثة سنّه، وحبّه بني عبد المطلب (1).

أقول: فأي ضير من الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في الدفاع عن حقّه والقوم يعترفون له بهذا الحق المغتصب؟! وهل الدفاع عن الحق والتعرّض للغاصبين أمر منكر؟!

إليك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود قال: قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت لأنا ولهم اختلجوا دوني، فأقول: ربّي أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك» (2).

وروى مثله عن سهل بن سعد وزاد فيه: «فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي» (3).تن

ص: 24


1- شرح النهج: 1 / 134.
2- صحيح البخاري 9: 83/ كتاب الفتن.
3- صحيح البخاري 9: 84/ كتاب الفتن

الأبعاد الحسية للخطبة:

اشتملت الخطبة على الشكوى و التظلّم من القوم والشيخين بالذات في أمر الإمامة و الخلافة، وقد عرفت أنّها محل خلاف بين الشيعة وبين بعض مناوئيهم في نسبة الخطبة للإمام علیه السلام أو للرضي، وقد ثبت أنّها وجدت في مصادر قبل أن يولد الرضي بقرن من الزمان، كما هو عن مصدّق بن شبيب النحوي قرأها على أستاذه أبي محمّد ابن الخشّاب إذ قال: أنا وجدتها قبل أن يخلق أبو الرضي فضلاً عن الرضي.

وكذا توجد في كتاب (الإنصاف) لأبي جعفر ابن قية تلميذ أبي القاسم الكعبي أحد شيوخ المعتزلة كانت وفاته قبل أن يولد الرضي. وكذا وجدها بنسخة عليها خط الوزير أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات وزير المقتدر بالله وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة.

ثمّ اشتملت الخطبة على بعد حسّى آخر، وهو موقف أمير المؤمنين علیه السلام من القوم، إذ التزم الصمت، و تجرّع الغصص، وركن إلى الصبر حفاظاً على روح الإسلام وحقناً لدماء المسلمين.

ثمّ في الخطبة التصريح بأنّ الخليفة الأوّل رغب بالاستقالة لعدم أحقيّته بالخلافة.

ثمّ التذكير بسيرة الخليفة الثاني لمّا حصر أمر الخلافة في الشورى؛ فالأعضاء الناخبون هم ستة لا غير، ثلاثة يمثّلون جبهة وفاق واتحاد كلمتهم على عثمان، وواحد غائب عن الشورى مع ميوله لعثمان واثنان

ص: 25

- عليّ والزبير - تكاد تنعدم الألفة بينهما، فالغلبة للثلاثة - أي لصالح عثمان - دون الاثنين، وقد تنبّأ الخليفة الثاني لهذه النتيجة الحتمية من قبل. والبعد الآخر ما رسمه لنا أمير المؤمنين علیه السلام في سير الأحداث أثناء خلافته.

الأوجه البلاغية في الخطبة:

أولاً: قوله علیه السلام: «محلّي منها محل القطب من الرحى» (1) فيه ثلاث صور من التشبيهات:

أ - تشبيه محلّه بمحل القطب من الرحى: تشبيه المعقول بالمعقول، كونه نظام الدولة.

ب_ - تشبيه نفسه بالقطب: تشبيه للمحسوس بالمحسوس.

ج - تشبيه الخلافة بالرحى: تشبيه المعقول بالمحسوس

لمّا كانت حاجة الرحى إلى القطب ضرورية قصد أنّ غيره لا يقوم مقامه في أمر الإمامة.

(إنّ محلّي منها محل القطب من الرحى) تشبيه محض، يقول علیه السلام:

ص: 26


1- الرحى: الحجر العظيم. وهي عند الفرّاء تكتب بالياء والألف، وقال ابن سيدة: الحجر العظيم، والرحى معروفة التي يطحن بها. لسان العرب 5: 175 - 176 - رحا.

كما أنّ الرحى لا تدور إلّا على القطب ودورانها بغير قطب لا ثمرة له ولا فائدة فيه، كذلك نسبتي إلى الخلافة، فإنّها لا تقوم إلّا بي ولا يدور أمرها إلّا علىّ، هكذا وربّما أنه أراد: إنّي من الخلافة في الصميم وفي وسطها كما أنّ القطب وسط دائرة الرحى.

ثانياً: قوله علیه السلام: «ينحدر عنّي السيل» استعار لنفسه وصفين:

أ - الانحدار، شبه العلم بالماء ولا يصدق الانحدار في الماء إلّا إذا كان في مرتفعٍ كالجبل.

ب - كنّى عن علوّه وشرفه وعلمه بالسيل إذ تفيض منه العلوم والتدبيرات السياسية والفقهية.

ثالثاً: قوله علیه السلام: «ولا يرقى إلى الطير» كناية عن غاية أخرى من العلو.

رابعاً: قوله علیه السلام: «فسدلت» كناية عن احتجابه عن طلب الخلافة والإعراض عنها. استعار لذلك الاحتجاب لفظ الثوب، استعارة المحسوس للمعقول.

خامساً: قوله علیه السلام: «طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء».

أجيل الفكر في تدبير أمر الخلافة و أردّه بين طرفي نقيض. استعار وصف الجذّاء لعدم الناصر، ووجه الشبه أنّ قطع اليد يستلزم عدم القدرة على التصرف، وهكذا في عدم الناصر.

سادساً: قوله علیه السلام: «طخية عمياء».

ص: 27

لمّا كان هناك الالتباس والحيرة استعار لفظ الطخية لذلك الالتباس (استعارة المحسوس للمعقول)، ووجه الشبه أنّ الظلمة كما لا يهتدى فيها للمطلوب كذلك اختلاط الأمور. وهكذا وصف الطخية بالعمى على وجه الاستعارة؛ لأنّ الأعمى لا يهتدي إلى مطلبه، وكذا في هذه الظلمة.

سابعاً: ثمّ كناية عن تلك الشدّة وما فيها من آثار:

أ - «يهرم فيها الكبير».

ب - يشيب فيها الصغير.

(يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير) يمكن حمل ذلك على الحقيقة و يمكن حمله على المجاز و الاستعارة، وعليه فقد أراد علیه السلام على معنى الحقيقة: طول المدة، أي طول مدة ولاية المتقدّمين عليه، فانّها مرّة يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير.

وأمّا على المجاز فإنّه أراد بذلك صعوبة تلك الأيام حتّی أنّ الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها و الصغير يشيب من أهوالها، كقولهم هذا أمر يشيب له الوليد وإن لم يشب على الحقيقة.

وفي الكلام تقديم و تأخير، وتقديره: ولا يرقى اليّ الطير، و طفقت ارتئي ... فرأيت أنّ الصبر على هاتا،أحجى فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، ثمّ صبرت وفي العين قذى.

ج - المؤمن يقاسي الشدّة.

ثامناً: أشار - في قوله علیه السلام - إلى أنّه اتخذ طريق الصبر، فهو أليق

ص: 28

بنظام الإسلام؛ لأنّ مقاومته ومناهضته للغاصبين الإمامة بغير ناصر لاتثمر.

تاسعاً: «فصبرت وفي العين قذىّ، وفي الحلق شجاً».

الواو للحال، والجملتان كنايتان عن شدّة ما أضمره من الأذى والغبن الذي لحقه.

عاشراً: «أرى تراثي نهباً». وفيها مقاصد:

أ - قد يكون مقصده فدكاً وما للزوجة بحكم ملك الزوج.

ب - وقد يكون مقصده الخلافة المغتصبة.

ج - في العبارة تلويح إلى زمن الرسول وما كان يحضى فيه بالتقدير.

د - كما في العبارة تلويح إلى ما كان يعانيه علیه السلام بعد وفاة الرسول وما حصل له من متاعب.

ثمّ شبه حاله بيومين: أحدهما في زمن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وما كان يحضى به من التقدير، واليوم الآخر هو بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وما حصل له من المتاعب ثمّ الإشارة إلى تناقض كلام الخليفة الأول، فهو يستعفي من الخلافة ولكن عقدها قبل وفاته إلى عمر.

الحادي عشر: «لشدّ ما تشطّرا ضرعيها» استعار علیه السلام لفظ الضرع للخلافة استعارة مستلزمة لتشبيهها بالناقة، ووجه الشبه المشابهة في الانتفاع الحاصل منها.

الثاني عشر: الحوزة خشناء، كناية عن طباع عمر الخشنة:

ص: 29

أ - غلظة كلامه. ب - خشونة طبعه.

الثالث عشر: «يكثر العثار فيها والاعتذار منها» كناية إلى تسرّع عمر في الأحكام.

ثمّ وصف حال الثالث من الخلفاء وهو يقرّب بطانته من بني أمية. (يخضمون في مال الله)؛ الخضم كناية عن كثرة توسّعهم وتصرّفهم مال المسلمين على يد عثمان.

ثمّ أقسم بالحبّة والنسمة؛ خصهما بالتعظيم بالنسبة إلى الله تعالى لما يشتملان عليه من لطف الخلقة وصغر الحجم من أسرار الحكمة وبدائع الصنع الدالة على وجود الصانع الحكيم.

يكثر الإمام علیه السلام من تشبيه المعقول بالمحسوس، فيقول علیه السلام: «مجتمعين حولي كربيضة الغنم» شبهّهم بالغنم لغفلتهم عن وضع الأشياء في مواضعها، وقلّة فطانتهم.

«فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة و ...».

الأصناف الثلاثة الذين خالفوه هم:

أ - أهل الجمل.

ب - أهل صفّين.

ج - أهل النهروان.

وأوصاف هؤلاء ذكرها النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم.

***

ص: 30

الفصل الثاني

اشارة

تفصيل بعد إجمال

قوله علیه السلام: «القد تقمّصها فلان ... حتّى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده».

تقمّصها: الخلافة، جعلها كالقميص، أنّها مأخوذة من قوله تعالى:

(ولباس التقوى) (1).

وقول النابغة:

تسربل سربالاً من النصر وارتدى *** عليه بغصب في الكريهة فاصل

أراد علیه السلام بكلمة (فلان) الأولى أبا بكر بن أبي قحافة، وبكلمة (فلان) الثانية عمر بن الخطاب (2). وقد عرفت من كلمة تقمّصها

ص: 31


1- الأعراف: 26.
2- صرّح ابن أبي الحديد - في شرحه عندما نقل الخطبة - باسم الأول فقال: ابن أبي قحافة، بينما في (نهج البلاغة) المطبوع وردت (فلان) بدلاً من التصريح بالاسم. أبو قحافة هو والد الخليفة، وقد عمّر إلى سبع وتسعين عاماً، ومات في خلافة الثاني في سنة 14ه_.

تصدّي أبي بكر للخلافة، فإنّه علیه السلام يشير ابتداءً إلى الأحداث التي جرت بعد وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأنّها وقائع مريرة، ويجدر بنا أن نشير إلى مجمل تلك الأحداث ابتداءً من السقيفة إلى الشورى وما تمخّض من ذلك من أحداث جسام.

أجمعت كتب التاريخ والسيرة بأنّ عمر بن الخطاب أنكر وفاة النبيّ، بل توعّد الناس وهدّدهم بالقتل إن قالوا بوفاته صلی الله علیه و آله و سلم! أمر عجيب! وتحار عنده العقول! قال زيني دحلان: قال عمر: من قال إنّ محمداً قد مات ضربته بسيفي (1).

وعن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، قال: لمّا توفّي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قام عمر بن الخطاب فقال: إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله توفّى إنّ رسول الله و الله ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلةً ثمّ رجع بعد أن قيل: قد مات والله. ليرجعنّ رسول الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنّ رسول الله مات (2).5.

ص: 32


1- السيرة النبويّة للعلّامة زيني دحلان، المطبوع بهامش السيرة الحلبية 3:390.
2- هذا الخبر والذي سبقه تجده في عشرات المصادر وبألفاظ متقاربة نذكر بعضها: تاريخ الطبري:2: 422. تاريخ اليعقوبي 2: 114. البداية والنهاية 242:5. تاريخ أبي الفداء 1: 164. تاريخ الخميس 2: 185. مسند أحمد 6: 219، نهاية الأرب 18: 385 أنساب الأشراف 1: 565.

من هؤلاء الرجال المنافقون الذين يزعمهم عمر بن الخطّاب؟

هل صرّح النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنه ذاهب إلى ميقات ربّه كما كان موسى بن عمران؟ وهل علم عمر بن الخطّاب أنّ الميقات للنبيّ محمد صلی الله علیه و آله و سلم أربعون يوماً؟ وهل كفّر عمر عن قسمه، أم أنّه قد استعمل التورية في كلامه؟

وإذا كان النبيّ سيرجع ويقطّع أيدي رجالٍ وأرجلهم فعلام یتبرّع عمر في قتل أولئك؟ وهل تبقى باقية من أولئك - المنافقين على حدّ زعم عمر - الذين قالوا بوفاة النبي إلى زمان رجوعه حتّى يقطع أرجلهم وأيديهم؟

يبدو أنّها فوضى، وقد سادت الجاهلية من جديد، وأصبحت الشريعة الحاكمة هي شريعة الغاب! وذلك واضح جدّاً؛ لتأمين مصالح سياسية قد اتّفق عليها القوم قبل رحيل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم عنهم.

وابن أبي الحديد أشار إلى ذلك فقال: إنّ عمر لمّا علم أنّ رسول الله قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتغلّب أقوام عليها إمّا من الأنصار أو غيرهم، وخاف أيضاً من حدوث ردّة ورجوع عن الإسلام. ثمّ قال: فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأن أظهر ما أظهر من كون الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لم يمت، وأوقع تلك الشبهة في قلوبهم (1).وت

ص: 33


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 129، ط بيروت

لماذا سقيفة بني ساعدة؟

اتّضح ممّا سبق أنّ عمر بن الخطاب كان يماطل المسلمين ويتهدّدهم بالقتل ويحملهم على حياة النبيّ و ... كلّ ذلك يريد أن يصل أبو بكر حتّی تكتمل إرادة الجميع، ويبدأ تنفيذ ما بيّتوه في الأمس.

هذا الموقف قد انكشف للأنصار؛ لذا بادروا إلى حسم الموقف قبل مجيء أبي بكر وعمر إليهم، ثمّ إنّ جمعاً غفيراً من الأنصار كان إلى جنب عليّ بن أبي طالب علیه السلام ممّن رفضوا مبايعة أبي بكر.

قال ابن جرير الطبري: (وكان عمر يقول: لم يمت، وكان يتوعّد الناس بالقتل في ذلك. فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجرّاح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء (1).

أنظر إلى موقف أبي بكر، حيث أدرك أنّ القوم يطلبون الرئاسة، ولا مفرّ من ذلك، ممّا جعل الإمارة له والوزارة لسعد وقومه، غير أنّ عمر بن الخطاب تدارك الموقف لحسم النزاع بالمرّة في صالح رفيقه وصاحبه. فقال لأبي بكر: مدّ يدك لأبايعك، فمدّ يده فبايعه، وتابعه أبو عبيدة الجرّاح وبعض الناس. أما الأنصار فامتنعت، وادّخرت الأمر إلى عليّ بن أبي طالب.

ص: 34


1- تاريخ الطبري 2: 443.

قال الطبري: ( ... فقام عمر فقال: أيّكم تطيب نفسه أن يخلف قدمين قدّمهما النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم؟ فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار - أو بعض الأنصار - لا نبايع إلّا عليا) (1)

إذاً بيعة أبي بكر لم تحصل إلّا من عمر وأبي عبيدة بن الجرّاح، وبعض الناس.

أمّا سعد بن عبادة فلم يبايع (2). وأمّا الأنصار فلم يبايعوا. ثمّ بنو هاشم كذلك لم يبايعوا، وهكذا علّيّة الصحابة لم يبايعوا، ومنهم: أبو ذرّ، وعمّار، والمقداد، وسلمان الفارسي، و ... ثمّ العبّاس وطلحة والزبير كذلك لم يبايعوا. ثمّ عليّ بن أبي طالب كذلك لم يبايع. ثمّ بقيّة المسلمين من المهاجرين كذلك لم يبايعوا والبعض منهم كان مع عليّ بن أبي طالب في تجهيز الرسول وتغسيله (3).ل.

ص: 35


1- تاريخ الطبري 2: 443.
2- مات في خلافة عمر بن الخطاب ولم يبايع أبا بكر ولا عمر، حتّی مات وهو ساخط عليهما. انظر الإمامة والسياسة: 17.
3- عن عبد الله بن عباس قال: إنّ علىّ بن أبي طالب والعبّاس بن عبد المطلّب والفضل بن عبّاس وقثمّ بن العبّاس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله الذين تولّوا غسله، وإنّ أوس بن خوليّ أحد بني عوف بن الخزرج قال لعليّ بن أبي طالب أنشدك الله يا علىّ وحظّنا من رسول الله. وكان أوس من بدر وقال: أدخل فدخل.

وعليه، فإنّ كبار الأمّة كانت في شغلٍ شاغلٍ عن موت الرسول، أمّا بنو هاشم فقد كانوا في عزاء ومصيبة، فهم مشغولون في النبي، في تغسيله و تجهيزه؛ لأنّ الكلّ كان يطمع في الخلافة إلّا بني هاشم الذين تولّوا شأن الرسول في تجهيزه وتكفينه، بل إنّ البعض كان لا يدري حتّى دفن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم.

عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّی سمعنا صوت المساحي من جوف الليل، ليلة الأربعاء (1). فالجميع كان يمنّي نفسه بالخلافة و الجميع - في بادئ الأمر - امتنع عن بيعة أبي بكر إلاّ عصابةً منهم والحجر الذي يقف أمام عمر وأبي بكر هم الأنصار قاطبة.

أقول: قاطبةً، وذلك باعتراف من عمر بن الخطاب، كما في تأريخ الطبريّ: قال عمر: ( ... وإنّه كان من خيرنا حين توفى الله نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم. إنّ عليّاً والزبير ومن معهما تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة، وتخلّف عنا الأنصار بأسرها) (2) ولا عجب عندما تسمع أن أبا بكر وعمر لشدّة تكالبهما على الخلافة أنّهما تركا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ولم يشهدا دفنه (3).0.

ص: 36


1- مسند أحمد 6: 274. سيرة ابن هشام 4: 344. تاريخ ابن كثير 5: 270. تاريخ الطبري 2: 452 و 455. طبقات ابن سعد 2: 824 ط ليدن. القسم الثاني ص 78.
2- تاريخ الطبري 2: 446.
3- أخرجه ابن أبي شيبة، انظر: كنز العمال 3: 140.

كيف تمت البيعة لأبي بكر؟

دخل عمر بن الخطّاب حلبة الصراع، وأخذ يجول بين أطراف القوم والجهات التي اشرأبّت أعناقها للسلطة، وأوّل شخصيّة تتصدر المجابهة عمر هو الحباب بن المنذر بن الجموح، حيث أدلى برأيه وقال: منّا أمير ومنهم أمير.

آنذاك قال عمر: هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم، ولكنّ العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبي من العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمّد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلّا مدلٍ بباطلٍ أو متجانف لإثمّ أو متورطٍ في هلكة (1).

هذا أوّل تهديد ... أو متورّطٍ في هلكة.

هذا التهديد ردّه الحباب بن المنذر، فقال: (يا معشر الأنصار، أملكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولّوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحقّ بهذا الأمر منهم، فإنّه بأسيافكم كان لهذا الدين من دان ممّن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكّك،

ص: 37


1- تاريخ الطبري 2: 457.

وعذيقها المرجّب، أما والله لئن شئتم لنعيدتّها جذعة) (1).

اتّضح لعمر أنّ الموقف من الأنصار - والذي يمثّله الحباب - شديد، وربّما ينفجر بالاشتباك الصارخ، ومع هذا الاعتقاد أجاب عمر فقال: إذا يقتلك الله قال الحباب: بل إيّاك يقتل (2)

عرفت التهديد الأوّل من قبل عمر وكان لعامة الأنصار والتهديد الثاني كان للحباب بن المنذر وأمّا التهديد الثالث من عمر فكان لسعد بن عبادة. قال عبد الله بن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كلّ جانبٍ يبايعون أبا بكر وكادوا يطؤون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتّقوا سعداً لا تطؤوه، فقال عمر: اقتلوه قتله الله.

ثمّ قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتّى تندر عضدك، فأخذ سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة فقال أبو بكر: مهلاً يا عمر الرفق هاهنا أبلغ. فأعرض عنه عمر (3).

هذا التهديد أوجع قلب أبي بكر ممّا عاتب عليه، فقال لعمر:39

ص: 38


1- تاريخ الطبري 4: 458. البيان والتبيين 3: 181. الإمامة والسياسة: 9. مسند أحمد 1: 56، السيرة الحلبيّة 3: 387 شرح النهج 1: 128 و 2: 4.
2- تاريخ الطبري 2: 457.
3- تاريخ الطبري 2: 459. مسند أحمد 1: 56. العقد الفريد 2: 249. سيرة ابن هشام 4: 339

الرّفق هاهنا أبلغ؛ لأنّ الأمر أخذ بالقوة، والناس اتّقت الفتنة. وأمّا الهمج الرعاع فاتّجهوا نحو أبي بكر. إذاً لا داعي لهذا التهديد الجديد وفي سقيفة بني ساعدة!

التهديد الرابع: هذا التهديد استعمله عمر لبعض المهاجرين، وبالخصوص للزبير.

عن المغيرة، عن زياد بن كليب، قال: أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مصلتا بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه (1).

وفي رواية أخرى: أنّهم أخذوا سيفه فضربوا به الجدار ورواية ثالثة: أنّهم ضربوا به صخرة وكيفما كان أرادوا إبطال سيفه عن الضرب حتّى لا ينهض بوجوههم، ولا يقوى على مجابهتهم، وقد حصل لهم ذلك.

التهديد الخامس: استعمله عمر لإجبار علىّ بن أبي طالب، ولم يبق من وجوه المهاجرين والأنصار إلّا بني هاشم، وعلى رأسهم الإمام على علیه السلام.5.

ص: 39


1- تاريخ الطبري 2: 443. الإمامة و السياسة: 11 الرياض النضرة 1: 167 شرح النهج 1: 58 و 2: 195.

وإليك تفاصيل الحادث برواية ابن قتيبة، قال: (وإنّ أبا بكر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علىًّ (كرّم الله وجهه)، فبعث إليه عمر، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة؟ فقال: وإن، فخرجوا فبايعوا إلّا عليّاً، فإنّه زعم أنّه قال: حلفت ألّا أخرج ولا أضع ثوبي على عائقي حتّی أجمع القرآن، فوقفت فاطمة علیها السلام الجل على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله جنازةً بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردّوا لنا حقّاً.

فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولىّ له: اذهب فادع لي علياً. قال: فذهب إلى علىًّ فقال له: ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول الله، فقال عليّ: لسريع ما كذبتم على رسول الله فرجع فأبلغ الرسالة. قال: فبكى أبو بكر طويلاً، فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقنفذ: عد إليه فقل له: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فأدّى ما أمر به، فرفع عليّ صوته فقال: سبحان الله! لقد ادّعى ما ليس له.

فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلاً، ثمّ قام عمر، فمشى معه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة، فدقّوا الباب، فلمّا سمعت

ص: 40

أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة.

فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا علياً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟

قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أمّا عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق عليّ بقبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصيح ويبكي وينادي: يا ابن أمّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.

فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة، فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلّماه، فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّمها عليها، فلم تردّ عليهما السلام.

فتكلّم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله، والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله، إلا أنّي سمعت أباك

ص: 41

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: لا نورّث ما تركنا (1) فهو صدقة.

فقالت: أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تعرفانه و تفعلان به؟ قالا: نعم فقالت: نشدتكها الله، ألم تسمعا رسول الله يقول: «رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟».

قالا: نعم، سمعناه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قالت: فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه.

فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة؛ ثمّ انتحب أبو بكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لادعونّ الله عليك في كلّ صلاة أصلّيها، ثمّ خرج باكياً، فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كلّ رجل منكم معانقاً حليلته، مسروراً بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي.

قالوا: يا خليفة رسول الله إنّ هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنّه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بتّ ليلة ولي في عنق مسلمٍ بيعة بعدما سمعت ورأيت من فاطمة.ه.

ص: 42


1- في بعض النسخ: ما تركناه.

قال: فلم يبايع عليّ (كرم الله وجهه) حتّی ماتت فاطمة علیها السلام، ولم تمكث بعد أبيها إلّا خمساً وسبعين ليلة) (1).

هكذا تمّ الأمر لأبي بكر، وكان بطل المسرح عمر بن الخطاب، الذي استخدم سيفه وسيلةً لأخذ البيعة من المسلمين، فمرةً يهدّد بالسيف، وثانيةً ينذر الأنصار والحباب بن المنذر بالهلاك، وثالثةً يأمر بقتل سعد بن عبادة، ورابعةً يضع الحطب على باب فاطمة بنت الرسول ليحرقها ومن فيها، وخامسةً يهدّد الإمام عليّ بالقتل إن لم يبايع.

فلا نجد موقفاً من مواقف عمر بن الخطاب يوافق الشريعة الغرّاء؛ فجميع مواقفه خلاف القرآن والسنّة. وقد عرفت في ما ذكرناه من نصوص كيف تحرّك عمر لحسم النزاع بين المهاجرين والأنصار.

فبورك من خليفةٍ يضع السيف على عاتقه والحطب إلى جنبه ليأخذ البيعة لغيره، ومن ثمّ لنفسها بأسلوبٍ صارخ قلّ نظيره في تاريخ الأديان، ممّا أعقب هذا الأسلوب الفجائع و الويلات، ولا زالت الأمّة الإسلاميّة مثقلة بالفجائع إلى يومنا هذا بسبب انحراف رجالها المتنفّذين وعدم لياقتهم للسلطة، ممّا قاله أبو بكر بعدما استتبّ له الأمر: ( ... ولقد قلّدت أمراً عظيماً، مالي به طاقة ولا يد، ولوددت أنّي وجدت64

ص: 43


1- الإمامة والسياسة 19 - 20، والعقد الفريد 2: 250. ومروج الذهب 1: 414. وتأريخ اليعقوبي 2: 105 وشرح ابن أبي الحديد 1: 134 و 2: 19. وتأريخ ابن شحنة في هامش الكامل 7: 164

أقوى الناس عليه مكاني، فأطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم، ثمّ بكى.

وقال: اعلموا أيّها الناس، إنّي لم أجعل لهذا المكان أن أكون خيّركم، ولوددت أنّ بعضكم كفانيه، ولئن أخذتموني بما كان الله يقيم به رسوله من الوحي ما كان ذلك عندي، وما أنا إلّا كأحدكم، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتّبعوني، وإن زغت فقوّموني، واعلموا: أنّ لي شيطاناً يعتريني أحياناً، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني. لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم ...) (1).

هذا هو الواقع، و التأريخ هو الشاهد، فما عسى أن نقول ...!

إنّها حلقة من سلسلة طويلة ابتدأت ببيعة أبي بكر، والذي قال عنها عمر بن الخطّاب: ( ... فلا يغرّنّ امرءاً أن يقول: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً، فقد كانت كذلك، غير أنّ الله وقى شرّها، وليس منكم من تقطّع إليه الأعناق مثل أبي بكر ...) (2).

خليفة يصرّح بأنّ له شيطاناً يعتريه، فإذا غضب فعليهم أن يجتنبوه، وإذا ... ثمّ يأتي الخليفة الثاني فيقول: إنّ بيعة أبي بكر فلتة وقى6.

ص: 44


1- الإمامة والسياسة: 22. طبقات ابن سعد 3: 151. كنز العمال 3: 126. وشرح النهج 3: 8 و 4: 167. سيرة ابن هشام 4: 34.
2- تاريخ الطبري 2: 446. وشرح النهج 1: 123. والصواعق المحرقة: 21. و التمهيد للباقلاني: 196.

الله المسلمين شرّها ... إذاً علام ذاك التهديد أيّها المنصفون؟ فهل يبقى لمقياس الصحبة أثر؟! وهل لا زلتم تقولون بعدالة كلّ الصحابة؟! إنّها مكابرة وضلال.

نلفت القارئ إلى النقاط التالية:

أوّلاً: مجيء القوم بالحطب على باب دار فاطمة علیها السلام لحرقه.

ثانياً: جرأة عمر بن الخطّاب وإقدامه لحرق الباب وإن كانت فيه فاطمة.

ثالثاً: ادّعاء أبي بكر منصب الخلافة وعليّ يردّ عليهم (لسريع ما كذبتم على رسول الله).

رابعاً: ادّعائه إمرة المؤمنين، وعلي علیه السلام يؤنّبه: (لقد ادّعى ما ليس له).

خامساً: مجيء عمر وقنفذ وخالد بن الوليد وجماعة وهجومهم على الدار و ... و ... واستخراج عليّ علیه السلام من بيته قهراً.

سادساً: تهديد الإمام عليّ بالقتل إن لم يبايع.

نتائج ما تقدم:

1 - انّ القوم جميعاً - السنّة - والخلفاء الثلاثة في مقدّمتهم يزعمون أنّ رسول الله مات ولم يستخلف أحداً، وهم في تنصيب أبي بكر يضفون عليه لقب (خليفة رسول الله)، فكيف يصبح خليفة و الرسول - كما تزعمون - لم يخلّف؟!

ص: 45

ثمّ بعدها صيّر نفسه (أمير المؤمنين)، وهذا ادّعاء كبير ليس له أبداً.

2 - علام هذا البكاء الطويل من الخليفة أبي بكر؟! إنّه بكى مرتين.

لا شك أنّ قول عليّ بن أبي طالب علیه السلام هو الحق، و أنّ اعتراضه على مدّعى الخلافة كان في محلّه، وأنّ الرجل قد زيّنت له الحياة الدنيا و افتتن بها، قال تعالى: (الم * أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين)(1).

3 - ما المسوّغ في هجوم القوم على دار الزهراء علیها السلام؟ ألم يوصي النبي صلی الله علیه و آله و سلم المسلمين؟ إذ أنّ المرء يحفظ في ولده، فهل رعوا حرمة النبي؟

وهل حفظوا ذريته من بعده وهو القائل صلی الله علیه و آله و سلم لفاطمة علیها السلام «إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك؟» (2). قال الحاكم في (المستدرك على الصحيحين): هذا حديث صحيح الإسناد (3).2.

ص: 46


1- العنكبوت: 1 - 3.
2- المستدرك للحاكم النيسابوري 3: 153
3- انظر: أسد الغابة لابن الأثير 5: 522. الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر 8: 159. تهذيب التهذيب 12: 441. كنز العمال للمتقي الهندي 7: 111. ميزان الاعتدال للذهبي 2: 72.

والنصّ المتقدم يكشف عن منزلة فاطمة عند الله وعند رسوله وهناك أحاديث كثيرة تفصح عن مقام الزهراء علیها السلام وقد سمعها جميع الصحابة، منها:

قال صلی الله علیه و آله و سلم: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني» (1).

وقال صلی الله علیه و آله و سلم: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها» (2)

أقول: استدل السهيلي من حديث: «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة» على أنّ من سبّها كفر؛ لأنّه يغضبه، وأنّها أفضل من الشيخين (3).

أمّا الأخبار فقد تواترت في أنّ أبا بكر وعمر قد أغضبا فاطمة علیها السلام فهجرتهما حتّی توفيت، وإليك بعض تلك الأخبار من كتب الصحاح:

روى البخاري في كتاب الخمس بسنده عن عروة بن الزبير: أنّ1.

ص: 47


1- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق في باب مناقب قرابة رسول الله، رواه البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة. وكنز العمال 6: 220، أخرجه ابن أبي شيبة، وفيض القدير 4: 421. وخصائص النسائي: 35.
2- صحيح البخاري، كتاب النكاح في باب ذب الرجل عن ابنته، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، والترمذي في صحيحه، والحنبلي في مسنده والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه.
3- انظر: فيض القدير 4: 421.

عائشة أم المؤمنين أخبرته أنّ فاطمة علیها السلام ابنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنّ يقسم لها ميراثها ممّا ترك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ممّا أفاء الله عليه، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: لا نورّث، ما تركناه صدقة.

فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فهجرت أبا بكر، فلم تزل هاجرة له حتّی توفّيت، وعاشت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم السنة أشهر.

قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من خيبر وفدك وصدقة بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك (1).

ومثله رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب غزوة خیبر، بسنده عن عروه عن عائشة:

وفي كتاب الفرائض من (صحيح البخاري) روى بسنده عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة علیها السلام و العباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله و هما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: لا نورّث ما تركناه صدقة ... إلى أن قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتّی

ماتت (2).9.

ص: 48


1- صحيح البخاري، كتاب الخمس، الحديث الثاني، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده 1: 6، ورواه البيهقي في سننه 6: 300. ورواه ابن سعد في طبقاته 8: 18.
2- رواه أحمد بن حنبل في مسنده 1: 9.

ربما تسأل عن سبب غضب فاطمة على أبي بكر و عمر.

والجواب كما مرّ عليك قبل قليل، هو أنّ الخليفة منع فاطمة من إرثها من خيبر وفدك وما أفاء الله على نبيّه، وقد جاء أبو بكر وعمر لعيادة فاطمة فلم تأذن لهما، ثمّ دخلا بإذن من علي علیه السلام فحوّلت فاطمة وجهها إلى الحائط، ثمّ سمعت مناشدتها إياهما فاعترفا بأنّهما أغضبا فاطمة، لذا هجرتهما ولم تكلّمهما حتّی ماتت.

وقد أوصت أن تدفن ليلاً وأ لا يحضر تشييع جنازتها كل من أغضبها؛ وذلك لشدة تأذّيها.

ثمّ ماذا تفسّر أنّ فاطمة لم تردّ السلام على أبي بكر وعمر، أليس صريح القرآن يوجب ردّ السلام على المسلم؟! إنّها عملت بتكليفها الشرعي وهي ابنت الرسول الصادع بالرسالة من السماء ثمّ ماذا تفسّر قولها لأبي بكر وعمر لئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه، ولادعونّ الله عليكما في كلّ صلاة أصلّيها؟!

كيف كانت بيعة عمر بن الخطاب؟

إنّ كل الويلات التي أصابت الأمة الإسلاميّة وجرّعتها مرارة الحياة وغصصها كان سببها النزاع الدائر بين شيوخ المهاجرين والأنصار، كما أنّ الذي مهّد السبيل لغصب الخلافة، وأمات كبرياء العرب، وأطاح بهيبة قريش، وأذل كبار المؤمنين من الصحابة إنّما هو

ص: 49

موقف عمر بن الخطّاب من وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وتهديده للمسلمين، وإكراه الناس على مبايعة أبي بكر.

أمّا حلية الصراع - فكما تقدّم - كانت في سقيفة بني ساعدة، ثمّ توالت الأحداث بسرعة فائقة؛ ولم ينفضّ القوم عن اجتماعهم ذاك إلّا وسيف الإكراه فوق رؤوسهم يلاحقهم حتّی بايعوا.

كما أنّ حمل الحطب وإضرام النار في باب فاطمة (1) كان أشدّ المواقف خزياً و أجرأها، وهي وصمة عارٍ في جبين التاريخ، ومن أبرز العورات في مسيرة أبي بكر وعمر.

عن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه؛ أنّه دخل على أبي بكر في مرضه الذي توفّي فيه، فأصابه مهتّماً، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً فقال أبو بكر: أتراه؟ قال: نعم قال: إنّي ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت.

ثمّ قال أبو بكر: أجل، إنّي لا آسى على شيءٍ من الدنيا إلّا على ثلاث فعلتهنّ وددّت أنّي تركتهنّ، وثلاث تركتهنّ وددّت أنّي فعلتهن، وثلاث وددّت أنّي سألت عنهنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. فأمّا الثلاث اللاتي6.

ص: 50


1- انظر: أعلام النساء 3: 1207. العقد الفريد:2: 250 تاريخ أبي الفداء 1: 156.

وددّت أنّي تركتهنّ: فوددّت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ...) (1).

لقد ندم ابن أبي قحافة لمّا أمرهم على أن يحملوا الحطب ويضرموا النار على الزهراء فاطمة وبعلها عليّ بن أبي طالب.

إنّها الدنيا، الرئاسة، الملك العضوض، لقد ندم، ولات ساعة مندم.

بضعة المصطفى، إنّها روح النبيّ التي بين جنبيه، يغضب لغضبها، ويفرح لفرحها، ومع كلّ الذي جرى، واعتراف أبي بكر بما جنته يداه، فيأتي بمؤامرة أخرى حين وفاته فيقدم على تنصيب عمر بن الخطّاب دون مشورة المسلمين في ذلك.

عن يونس بن عمرو، عن أبي السّفر، قال: أشرف أبو بكر على الناس من كنيفه وأسماء ابنة عميس ممسكته موشومة اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإنّي والله ما ألوت من جهد الرأي ولا ولّيت ذا قرابة وإنّي قد استخلفت عمر بن الخطّاب فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا: سمعنا وأطعنا (2).

ما هو المقياس الشرعيّ الذي اعتمده أبو بكر في تعيين عمر واستخلافه؟! ألم يقل أبو بكر: ألا وإنّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا أتاني.

ص: 51


1- تاريخ الطبري 2: 619. وأخرجه أبو عبيدة في الأموال: 131. والعقد الفريد 2: 254، ومروج الذهب 1: 414.
2- تاريخ الطبري 2: 618.

فاجتنبوني؟! ألم يقل أبو بكر: وددّت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء (1)؟! ألم يقل: وددّت أنّي لم أكن حرقت الفجاءة السّلمي، وأنّي كنت قتلته سريحاً أو خلّيته نجيحاً؟!

ألم يقل: وددّت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً؟!

ألم يكن هو وصاحبه ممّن نزلت فيهما وفي تسعة آخرين آية تحريم الخمر؟! حيث شربها القوم إلى سنة ثمان للهجرة وهي عام فتح مكّة وقد شربوها في الجاهلية، وآخر شراب لهم في الإسلام كان عام ثمان للهجرة في دار أبي طلحة زيد بن سهل، وكان ساقيهم أنس بن مالك كما في (صحيح البخاري)، كتاب التفسير، آية الخمر في سورة المائدة.

كما أورد الخبر مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر والسيوطيّ في تفسيره (الدرّ المنثور:2: 321) أخرجه عن عبد بن حميد، وابن المنذر وابن مردويه، عن أنس وأخرجه الطبري في تفسيره:7: 24، وأحمد بن حنبل في مسنده:3: 181 و 227، والبيهقي في سننه 8: 286 و 290.

لقد ذكر ابن حجر في (فتح الباري) (2) عشرة أشخاص ممّن كانواة.

ص: 52


1- الإمامة و السياسة: 24
2- فتح الباري 10: 37 وما بعدها، ط بيروت، دار المعرفة.

في بيت أبي طلحة زيد بن سهل، وهم:

1 - أبو بكر ابن أبي قحافة وكان عمره آنذاك 58 سنة. 2 - عمر بن الخطّاب، وكان عمره آنذاك 45 سنة. 3 - أبو عبيدة بن الجرّاح، وکان عمره 48 سنة 4 - أبو طلحة زيد بن سهل صاحب الدار الذي اجتمع فيه القوم المدرجة أسماؤهم، وبيته نادي شرابهم، وكان له من العمر 44 سنة. 5 - سهيل بن بيضاء، توفي عام 9 للهجرة وهو طاعن في السنّ. 6 - أبي بن كعب. 7 - أبو دجانة، سماك بن خراشة. 8 - أبو بكر بن شغوب. 9 - أنس بن مالك، حيث قال كما في (سنن البيهقي): إنّي لقائم أسقيهم وأنا أصغر القوم (1). 10 - معاذ بن جبل (2)، وكان له من العمر 23 سنة، وتوفّي في خلافة عمر سنة (18 ه_)، عن عمرٍ ناهز الثلاثين.

هل يصلح أحد هؤلاء القوم للخلافة وبين ظهراني المسلمين والصحابة من لم يعرفها - الخمر - ولم يشربها طيلة عمره؟! هل يصلح أحد هؤلاء ومن بين المسلمين من هو أعلم منهم، ومن هو بالزهد والورع والتقوى والإيمان أشهر من أن يذكر؟!

فأوّل من آمن بالله وبالرسول وأسلم وجهه للدين الحنيف هو عليّ بن أبي طالب وقد أجمعت المصادر على أنّه لم يسجد لصنم ولم

ص: 53


1- سنن البيهقي 8: 29.
2- مجمع الزوائد 5: 52 تفسير الطبري 7: 24. شرح النوويّ على هامش إرشاد الساري للقسطلاني 8: 232

يشرك بالله طرفة عين!

إذاً لم أقصوه عن الخلافة؟ ولم تركوا النبيّ مسجّىّ في بيته وبعد لم يباشر بتجهيزه ومن حوله بنو هاشم في عزاءٍ وثكل؟ ولم حملوا الحطب إلى دار فاطمة ليحرقوه على من فيه من أهل البيت؟

عشرات الأسئلة تختلج في الصدر، وإنّ قلوب المؤمنين لتعتصر ألماً وحزناً لما قام به الشيخان، حيث أوقعا الامّة في صراع دمويّ إلى يومنا هذا ...

لقد عرفت مما سبق أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها، وقد حكم عمر بقتل من عاد إلى مثل تلك البيعة (1). وهو الذي قال يوم السقيفة: (من بايع أميراً عن غير مشورة فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرّة أن يقتلا) (2). وهو الذي قال لابن عبّاس: يا بن عبّاس، ما أظنّ صاحبك إلّا مظلوماً! وقد أجابه ابن عبّاس: والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (3).

وهو الذي قال لابن عبّاس: لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر (4). وهو القائل: إنّا والله ما فعلناه عن عداوة ولكن4.

ص: 54


1- شرح النهج 1: 123. التمهيد للباقلاني: 196.
2- مسند أحمد بن حنبل 56:1. صحيح البخاري 44:10، باب رجم الحبلى من الزنا. وأنساب البلاذري 5: 15.
3- شرح النهج 2: 18.
4- شرح النهج 1: 134.

استصغرناه، وحسبنا ألّا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها. فردّ عليه ابن عبّاس إذ قال لعمر: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره، أفتستصغره أنت وصاحبك (1).

وهو القائل - لمّا طعن - : إن ولّوها الأجلح سلك الطريق الأجلح المستقيم، يعني: عليّاً، فقال له ابن عمر: ما يمنعك أن تقدّم علياً؟ قال: أكره أن أحملها حيّاً وميّتاً (2).

لو تجاوزنا هذه الأقاويل فماذا نصادف في استخلاف أبي بكر؟

فإنّ لدينا روايات صحيحة، منها ما في (تاريخ الطبري) بإسناده عن إسماعيل عن قيس، قال: رأيت عمر بن الخطّاب وهو يجلس والناس معه وبيده جريدة وهو يقول: أيّها الناس، اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، إنّه يقول: إنّي لم الكم نصحاً. قال ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر (3).

لا تعرف متى كتبت الصحيفة؟ ومتى استخلف الأول الثاني؟ ومن هم الشهود على هذا الاستخلاف؟ وربّما يكون الأمر مدبّراً من الثاني كما عرفت حيال بيعة أبي بكر.

وعن الواقدي بسنده قال: دعا أبو بكر عثمان خالياً، فقال له:8.

ص: 55


1- كنز العمال 6: 391.
2- أنساب البلاذري 5: 16 الاستيعاب 2: 419
3- تاريخ الطبري 2: 618.

اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أما بعد قال: ثمّ أغمي عليه فذهب عنه فكتب عثمان: أمّا بعد، فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب، ولم آلكم خيراً منه ثمّ أفاق أبو بكر، فقال اقرأ علىّ فقرأ عليه فكبّر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي؟ قال: غشيني؟ قال: نعم قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرّها أبو بكر (1).

هذا مجمل بيعة الخليفة الثاني، ولا يعذر أحد فيها؛ لأنّ الرواية الأخيرة - المذكورة آنفاً - إنّما اختاره عثمان، ولمّا كتب الكتاب أفاق أبو بكر فلم يجرؤ على تغيير ما كتبه عثمان، بل أقره كما هو حتّى ينجو من المشكلة.

وكيفما كان، فلم تكن البيعة وفق المقاييس الشرعيّة، وقبل أسطر قد أثبتنا جملةً من أقوال عمر في شأن الخلافة والمشورة فيها!

فكيف يرضى بصنع عثمان وإقرار أبي بكر دون أن يشاوروا المسلمين فيها؟ يجيب على ذلك الإمام عليّ علیه السلام يوم حمّلوه على مبايعة الأول، وإلّا تضرب عنقه، وهو يقول لهم: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله. وهو القائل لهم: أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا ابايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي. فقال له عمر: إنك لست متروكاً حتّی تبايع. فقال له عليّ: احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك/2

ص: 56


1- تاريخ ابن جرير 619/2

غداً (1).

وإلى هذا وذاك أشار علیه السلام في خطبته الشقشقيّة، فقال:

«أما والله لقد تقمّصها فلان - ابن أبي قحافة - وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إلىّ الطير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً، وطفقت أرتني بين أن أصول بیدٍ جذّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّی يلقى ربّه.

فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً، حتّی مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده ... فياعجباً! بيناهو يستقبلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدّما تشطّرا ضرعيها - ! فصيّرها في حوزةٍ خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن اشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحّم فمني الناس - لعمر الله - بخبطٍ و شماس، و تلوّنِ واعتراض، فصبرت على طول المدّة، وشدّة المحنة، حتّی إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ زعم أنّي أحدهم. فيا لله و للشورى! ...» (2)

(1) أي: افعل فعلاً يكون لك منه نصيب، فأنت تبايعه اليوم وغداً يحوّلها لك، فبنصرتك اليوم له يردّها إليك غداً مضمونة.

(2) نهج البلاغة: الخطبة الشقشقيّة.

ص: 57

تنبئك هذه الخطبة عن خلاصة الأحداث وسير الخلافة والأسلوب الذي اتّبعه القوم، فيتقمّصها الأول بالقوّة والقهر والغلبة ويدلي بها إلى الثاني فيستخلفه رغم أنف المسلمين، ويصيّرها الثاني شورى في ستّةٍ منهم علي بن أبي طالب.

وعليه، يشكو الإمام عليّ من هذا التصرف ويستاء منه، فيقول: «متى اعترض الريب في مع الأوّل منهم حتّی صرت أقرن إلى هذه النظائر؟»

أراد ابن أبي الحديد أن يعتذر عن القوم في شأن غصب الخلافة، فأورد مثالاً لا طعم فيه، مع اعترافه أن، أمير المؤمنين علیه السلام هو الأفضل والأحق، وعدل عنه إلى من لا يساويه في فضل، ولا يوازيه في جهاد وعلم، ولا يماثله في سؤدد و شرف، قال: ألا ترى أنّ البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السلطان الأنقص علماً منهما قاضياً فيتوجّد الأعظم ويتألم وينفث أحياناً بالشكوى ولا يكون ذلك طعناً في القاضي وتفسيقه، ولا حكماً منه بأنّه غير صالح، بل العدول عن الأحق والأولى.

يقول: هذا أمر مركوز في طباع البشر، ومجعول في أصل الغريزة والفطرة.

أقول: والرد على ابن أبي الحديد من عدّة وجوه:

أولاً: كيف قاس بين السلطان وما يأمره، وبين الخالق الواحد الذي أمره الصواب، وطاعته فرض والمخالف له هالك لا محال؟!

ص: 58

ثانياً: من أين جاء الارتكاز في طباع البشر على تقديم المفضول على الفاضل؟!

ثالثاً: لو جاءنا بمثال يؤيّد أنّ تقديم المفضول من أصل الفطرة. على أنّ الأمر على العكس تماماً.

رابعاً: أنّ ابن أبي الحديد أشار إلى قول الإمامية في النصّ على أمير المؤمنين علیه السلام من قبل النبيّ ولم يأت بما يخالفهم، وهذا اعتراف ضمني بأحقيّة الإمام بالخلافة فهو المنصوص بها ولا مبرّر لغيره أن يتصدّى.

خامساً: ادعى أنّ مصلحة الإسلام اقتضت تنصيب الأول. عجباً! من الذي يعيّن هذه المصلحة، إجماع الأمة، أم نفر هم بمعزل عن كبار الصحابة وأسرة النبيّ؟

سادساً: وأية فتنة بعد تلك التي كانت في السقيفة وما تلاها من ويلات ومحن؟!

قوله علیه السلام: «حتّی مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان - ابن الخطاب - بعده»، مضى الأوّل أي أبي بكر كما عرفت لسبيله أي على سبيله. فأدلى بها من قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام) (1)، أي تدفعوها إليهم رشوة. وأصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها، وأراد علیه السلام بالإدلاء أي دفع الخلافة88

ص: 59


1- البقرة: 88

وتسليمها إلى من لا يستحقّها، كمن يدفع ماله إلى الحاكم فإنّه إخراج للمال إلى غير وجهةٍ، فكان ذلك من باب الاستعارة.

بوادر الشورى والبيعة لعثمان:

أدرك الخليفة الثاني أنّ بيعة أبي بكر لم تنل رضا المسلمين ولم يجتمعوا إليه إلّا بالقهر والغلبة، وقد بان التحزّب، وظهرت الأضغان، وكادت الجاهلية تحلّ بين القوم.

ثمّ إنّ استخلاف أبي بكر لعمر كان واضحاً في أذهان المسلمين إنّها المغامرة الثانية التي أثارت حفيظة المسلمين، وبالخصوص بلاد الشام (1)، إذ - مسبقاً - كانوا على اطلاع من غلظة الخليفة وقسوته وخشونته مع المسلمين، لا لشيء وإنّما هكذا كان فظّا غليظاً.

ومهما يكن من أمر فإنّ الخليفة الثاني لم يرغب في أن يصرّح بالذي يضمره في قلبه، وهو محاباته لعثمان بن عفّان الذي له أيادٍ بيضاء في صنع المعروف، حيث ذكرنا آنفاً كيف تمت وصيّة أبي بكر، وكيف أدلى عثمان برأيه في الخلافة، وباقتراح منه دون أن يملي عليه الأوّل. إنّه معروف وجميل كبير لابدّ أن يشكر عليه فهل ترى يغفل الثاني ترك الحبل على الغارب دون أن يجعل لعثمان فيه نصيباً؟

ص: 60


1- الإمامة والسياسة: 25.

ومع ذلك فهو أمر دبّر في ليل، فاتّفقوا أن يجعلوها - أي الخلافة - شورىّ حتّی يغيّب الأمر على الناس، ويظهر الخليفة أمامهم بوجه مرضيَّ جميل. علماً بأن في بادئ ذي بدء أظهر الخليفة تردّده في الاستخلاف ممّا استكشف ابن عمر أن أباه غير مستخلف.

روى البيهقي وابن كثير وأحمد بن حنبل: أن عمر لمّا طعن قيل له: لو استخلفت؟ فقال: أتحمّل أمركم حيّاً وميّتاً؟ إن أستخلف فقد استخلف من هو خيرٌ منّي أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال عبد الله: فعلمت أنّه غير مستخلف (1)

وفي موقف آخر يتمنّى عمر بن الخطّاب لو أنّ أبا عبيدة بن الجرّاح كان حيّاً حتّی يقلّده الخلافة، بل أكثر من هذا تمنّى سالماً مولى أبي حذيفة حيّاً حتّی يستخلفه هكذا وصل به أن يقلّد الخلافة العبيد وحفّاري القبور في المدينة، متنكّراً لكبار الصحابة كالمقداد وعمّار وسلمان وأبي ذرّ والعبّاس ومعاذ وأبي أيّوب وعلي بن أبي طالب الذي يعدّ على رأس هؤلاء الصحابة!

نقل ابن جریر بسنده عن عمرو بن ميمون الأوديّ: أنّ عمر بن الخطّاب لمّا طعن قيل له: يا أمير المؤمنين، لو استخلفت؟

قال: من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيّاً استخلفته،م.

ص: 61


1- سنن البيهقي 8: 148. وتاريخ ابن كثير 5: 50 مسند أحمد 1: 43 و 46. كما أخرجه البخاري ومسلم.

فإن سألني ربّي قلت: سمعت نبيّك يقول: إنّه أمين هذه الأمّة. ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته، فإن سألني ربّي قلت: سمعت نبيّك يقول: إنّ سالماً شديد الحبّ لله فقال له رجل: أدلّك عليه؟ عبدالله بن عمر.

فقال: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا. ويحك، كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟! لا أرب لنا في أموركم ما حمدتها، فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شرّاً فشرعنا إلى عمر بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمدٍ.

أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إنّي لسعيد، وأنظر فإن استخلفت فقد استخلف من هو خير

منّي، وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي، ولن يضيّع الله دينه.

فخرجوا، ثمّ راحوا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهداً؟ فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولي رجلاً أمركم، هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ - وأشار إلى عليّ - ورهقتني غشية، فرأيت رجلاً دخل جنّةً قد غرسها، فجعل يقطف كلّ غضة ويانعة فيضمّه إليه ويصيّره تحته، فعلمت أنّ الله غالب أمره، ومتوف عمر، فما أريد أن اتحمّلها حيّاً وميّتاً. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّهم من أهل الجنّة: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم، ولست

ص: 62

مدخله، ولكن السنّة: عليّ وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمن وسعد خالا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والزبير بن العوّام حواري رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وابن عمّته، وطلحة الخير بن عبيد الله (1).

أقول: عجباً لعمر بن الخطّاب أن يتمنّى حياة حفّار القبور أبي عبيدة ابن الجرّاح ليقلّده الخلافة؛ لأنّه سمع فيه حديثاً واحداً من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم! بل أعجب من ذلك أنّه يتمنّى حياة سالم مولى أبي حذيفة ليقلّده الخلافة؛ لأنّه سمع فيه - أيضاً - حديثاً واحداً من الرسول الله!

عجباً للخليفة أن يتمنّى وجود هذين حييّن لأنّه سمع فيهما حديثاً واحداً، وقد سمع في عليّ بن أبي طالب عشرات بل مئات الأحاديث قد خصّها الرسول به وكلّها تنصّ على فضائل الإمام ومنزلته عند الله!

ألم تكن تلك الأحاديث الصادرة من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كافيةً كي تؤهّل الإمام للخلافة؟ فعلام يتمنّى عمر حياة أمثال سالم وأبي عبيدة

الجرّاح؟!

فهل غاب عن ذهن عمر منزلة عليّ بن أبي طالب وقربه من الرسول، أو أنّه لم يسمع تلك الأحاديث من صاحب الرسالة؟

أما الشورى التي حصرها الخليفة الثاني في سنّة، فهم:56

ص: 63


1- تاريخ الطبري 3: 292. العقد الفريد 2: 256

1 - عليّ بن أبي طالب علیه السلام، ابن عمّ الرسول وأخوه وصهره على ابنته فاطمة علیها السلام، ويمثّل ثقل بني هاشم.

2 - عثمان بن عفان، ويمثّل بني أمية.

3 - عبد الرحمن بن عوف، وهو صهر عثمان.

4 - سعد بن أبي وقّاص، وهو ابن عمّ عبد الرحمن.

5 - الزبير بن العوّام، وهو ابن صفية بنت عبد المطّلب عمة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

6 - طلحة بن عبيد الله، أحد الصحابة.

ولو ألقينا نظرةً فاحصةً على هؤلاء فنجدهم في ميولهم السياسي يشكّلون فريقين:

الفريق الأول: يضم عثمان بن عفّان، وصهره عبد الرحمن بن عوف، وسعد ابن أبي وقّاص الذي هو وعبد الرحمن من فرع واحد. وهؤلاء الثلاثة قد اجتمعت كلمتهم على مبايعة عثمان.

الفريق الثاني: وتكاد الألفة تنعدم بينهم، بل إنّ ميول طلحة لا غبار عليه فهو إلى عثمان وإن لم يكن حاضراً، لذا جعل الخليفة الثاني غاية التشاور إلى ثلاثة أيّام، وكأنّها اطمأنّوا في عدم حضور طلحة في الشورى، لذا رجّحت كفّة الفريق الأوّل بغياب طلحة. وعليه، فلم يبق من الفريق الثاني إلّا عليّ والزبير، فكيفما دارت المشورة فهي من صالح عثمان وجماعته؛ لأنّ عبد الرحمن خلع نفسه

ص: 64

وتركها لصاحبيه، وأمّا عثمان فقبلها، ثمّ تنازل سعد لعثمان لمّا وجد ابن عمّه - عبد الرحمن - قد خلعها من نفسه وأدلى بها لعثمان.

فمن الطبيعيّ أن يتمّ الأمر قهراً لابن عفّان فلو فارق عليّ والزبير الجماعة مع فرض أنّهما يشكّلان جبهة معارضةٍ، فإنّ الغلبة الثلاثة دون الاثنين. كما أنّ سيف صهيب المسلول مأذون بإطاحة رؤوس المعارضة بإيعاز من عمر بن الخطّاب.

وقد تنبّأ الخليفة الثاني للنتيجة الحتميّة، إن لم نقل إنّ الأمر دبر ليلاً.

ثمّ إنّ تقييمه للستّة يكشف عن خيوط المؤامرة.

قال: وما أظنّ أن يلي إلّا أحد هذين الرجلين؛ عليّ أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي عليّ فقيه دعابة (1) وأحرى به أن يحملهم على طريق الحقّ. وإن ولّوا سعداً فأهلها هو، وإلّا فليستعن به الوالي، فإنّي لم أعزله عن خيانة ولا ضعف (2). ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه (3)ف.

ص: 65


1- وفي الأنساب للبلاذري 16:5. فيه بطالة وفكاهة.
2- وفي رواية ابن عبّاس: ذلك صاحب مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. الأنساب 5: 16
3- تاريخ الطبري 3: 294، وفي الأنساب 5: 16 قال: هو رجل صالح على ضعف.

وفي رواية البلاذري كما عن ابن عبّاس، وقد أشار إلى طلحة، قال: فأين الزهو والنخوة؟ قلت فالزبير؟ قال: لقيس مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيحٌ. إنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لقويًّ في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه (1).

وعليه - بعد هذا التقييم - فلابدّ من تنفيذ الأمر. فما هي الأدوار في الشورى؟ ومن هم أبطالها؟ الشاهد على مسيرة القوم في المشاورة هو عبد الرحمن بن عمر. السيّاف الذي يتولّى قتل من يخالف هو صهيب مولى عمر. المشورة تتمّ صورتها النهائيّة بطرف ثالث وهو عبد الله بن عمر الذي لا يحسن طلاق امرأته كما صرّح به والده عمر.

مكان الشورى دار المسوّر بن مخرمة، وهو ابن أخت عبد الرحمن بن عوف بطل الموقف في التحرّك السياسيّ والمنسّق بين هؤلاء عبد الرحمن بن عوف، وهو صهر عثمان.

قرار الشورى يصنعه الخليفة الثاني:

قال عمر للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتّی يختاروا رجلاً منهم.

ص: 66


1- الأنساب 5: 16

وقال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيّام، وأدخل عليّاً وعثمان و الزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم، وأحضر عبد الله بن عمر، ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف. وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رأسيهما.

فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبدالله ان عمر، فأيّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم.

فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس (1)

لم يتأخّر صهيب في تنفيذ قرارات سيّده، كما أنّ عبد الرحمن بن عوف قام بالمهمّة في أحسن دور، فأوّل عملٍ قام به هو خلع نفسه من هذه الخلافة وأدلى برأيه إلى عثمان، وبعد هذا أخذ يلعب دور السفير بين الأطراف، فاتصل أوّلاً بالزبير، ثمّ يسعد، ثمّ بعلي، ثمّ بعثمان، وأخيراً اتّصل بجميع الأنصار والمهاجرين وخطب فيهم، وحاول أن يكشف عن رغبات كبار الصحابة، فاستشارهم، فأشاروا عليه.

فهذا عمّار يصرّح أنّ عليّاً أولى القوم بالخلافة، ويقوم المقداد ليؤكّد ذلك، ثمّ ينهض ابن أبي سرح فيشير إلى عثمان، ويقوم عبدالله بن أبي ربيعة ليقف إلى صف ابن أبي سرح. ثمّ ينفجر الموقف بتشاجر بين94

ص: 67


1- تاريخ الطبري 3:294

شيوخ بني هاشم وكبار بني أمية، ويحسم الموقف سعد بن أبي وقّاص فيشير إلى عبد الرحمن بقوله: أفرغ قبل أن يفتتن الناس.

فما هي إلّا دقائق حتّی يرقى ابن عفّان، وسيف صهيب يبرق على رؤوس الآخرين من أعضاء الشورى، وكادت أن تقع الفتنة لولا أن

بايع الإمام، وكانت بيعته هنا كبيعته للأوّل (1).

هكذا تمّت البيعة لعثمان بسيف عمر بن الخطّاب الذي سلّه مولاه صهيب على رؤوس الخمسة من أهل الشورى والمعني في التهديد هو علي لا غير.

وهذه هي البيعة الثالثة التي تؤخذ بالقوة والغلبة، وكما اتّضح كسوابقها لم تكن بنصّ من القرآن ولا من سنّة النبيّ، إذاً هي خلاف

الموازين الشرعيّة.

ثمّ لا يخفى عليك وأنت جدّ عليم أنّ الموازين الشرعيّة عندما تغيب عن الساحة السياسية، وتلعب الأهواء والميولات في عقول أهل الحلّ والعقد، وينطق السيف في كلّ وادٍ ونادٍ، فلا عجب أن تخلق تلك الأجواء الموبوءة رجال سوءٍ وساسة لهم في السلطة أطماع ومصالح والذي حصل أن يتصدى لإدارة شؤون المسلمين جملة من الولاةة.

ص: 68


1- لم ترد في مصادرنا الخاصة كيفية هذه البيعة، بل أجمعت مصادر الشيعة على أنّ الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لم يبايع لأبي بكر وعمر وعثمان طوعاً، بل حاججهم ونصحهم زمناً طويلا ثمّ بايعهم وهو مكره حفاظاً على وحدة الأمة وتلافياً للفتنة، وما ورد إنّما هو من مصادر أهل السنّة.

والأمراء الفسقة المنحرفين، الذين عرفوا بظلمهم وجحودهم وفسقهم و تجرّئهم على الله والرسول والمؤمنين.

ونحن لا نريد التعرّض لمساوئ وأفعال الخلفاء والقادة السياسيّين والقضاة وجباة،الأموال، لكن يكفي أن نذكر سيّئةً واحدةً في المقام، وهي تولية معاوية قيادة فلسطين والأردن ثمّ الشام منذ عهد عمر بن الخطّاب سنة (13 هجرية) إلى وفاة معاوية سنة (60 للهجرة).

و جرائم معاوية كثيرة لا تعدّ ولا تحصى وعلى رأسها:

1 - مواجهته للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام وامتناعه من بيعته، وعصيانه في إمارة الشام، ثمّ إشعاله الفتنة، وحربه للإمام في صفّين والخدعة التي استعملها في رفع المصاحف.

2 - سبّه لأمير المؤمنين على منابر المسلمين في الشام ومصر والحجاز وبقيّة الأمصار.

3 - سمّه للإمام الحسن السبط علیه السلام.

4 - قتله لحواريّ رسول الله وأمير المؤمنين، أمثال: الصحابي عمّار بن ياسر ورشيد الهجري، وميثمّ التمّار وحجر بن عديّ الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي، وصيفي بن غسيل وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وعبد الله بن خليفة الطائي، والأرقم بن عبدالله، وشريك بن شدّاد، وكريم بن عفيف وعاصم بن عوف، وورقاء بن سمّي، وكدام بن حيّان وعبد الرحمن بن حسّان ومحرز بن شهاب، وعبد الله بن

ص: 69

حويّة، ومالك الأشتر النخعي، ومحمد بن أبي بكر، وغيرهم.

5 - بعثه بسر بن أرطاة في جيش إلى المدينة واليمن وأمره بأن يقتل من يوالي علياًّ، ويروّع النساء ويخيفهم، حتّی قتل ابني عبيد الله بن عبّاس، وهما عبد الرحمن وقثم، وكانا طفلين صغيرين، فذهلت امّهما لمّا خبّروها بقتلهما حتّی أخذت تطوف بين الناس في الحجيج وهي تقول:

يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما *** كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف

يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما *** سمعي وقلبي فقلبي اليوم مزدهف

يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما *** مخّ العظام فمخّي اليوم مختطف

نبّئت بسراً وما صدّقت ما زعموا *** من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا

أنحى على ودجي ابنيّ مرهفة *** مشحودة وكذاك الإفك يقترف

حتّی لقيت رجالاً من أرومته *** شمّ الأنوف لهم في قومهم شرف

فالآن ألعن يسراً حقّ لعنته *** هذا لعمر أبي بسرٍ هو السرف

من دلّ والهةً حرّى مولّهَةً *** على صبيّين ضلاً إذ غدا السلف (1)

***20

ص: 70


1- انظر هذه الحادثة في: الأغاني لأبي الفرج 44:15. النزاع والتخاصم: 13. الكامل لابن الأثير 3: 162. تاريخ ابن كثير 319:7 الاستيعاب 1: 65. تاریخ ابن عساکر 3: 220

الفصل الثالث

اشارة

قوله علیه السلام فى خطبته: «يستقيلها في حياته ...» مشيراً إلى أبي بكر

خير ما نستدل به على سيرة الخليفة أبي بكر هو كلامه الصادر في مناسبات عديدة، من ذلك:

1 - نقل ابن سعد بسنده عن الحسن قال: لمّا بويع أبو بكر قام خطيباً فقال: ( ... أمّا بعد فإنّي ولّيت هذا الأمر وأنا له كاره ... وإنّما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم،فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتّبعوني، وإن رأيتموني زغت فقوّموني، واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني) (1).

2 - روى المتقي الهندي بسنده عن الحسن: أنّ أبا بكر خطب فقال: ( ... افتظنّون أنّي أعمل فيكم بسنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟ إذاً لا أقوم

ص: 71


1- طبقات ابن سعد ج 3، القسم 1، ص 129. الإمامة والسياسة لابن قتيبة: 6 مجمع الزوائد للهيثمي 5: 183.

بها، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإنّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا غضبت فاجتنبوني) (1).

وفي خطبة أبي بكر عدّة أمور:

أوّلاً: انّه كان كارهاً للخلافة (ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً).

ثانياً: له يتنكّب عن النهج النبوي (أفتظنون أنّي اعمل فيكم بسنة رسول الله؛ إذاً لا أقوم بها ...)

ثالثاً: إنّ الرسول كان مسدّداً من الله وأنّه معصوم بالوحي والملك.

رابعاً: انّ لأبي بكر شيطاناً يعتريه (وإن لي شيطاناً يعتريني). خامساً: انّ الخليفة تعتريه حالات من الغضب، فعلى المسلمين أن يتجنّبونه. إنّها أمور مهمة جداً، حيث إنّه اعتراف من الخليفة بعصمة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، أما هو فغير معصوم أي يخطأ ويعصي ويرتكب المحرّم ويظلم وإلى ما شابه ذلك.

ثمّ إنّ له شيطاناً، وهذا ما لا يمكن ستره أو التغاضي عنه، والقرآن فيه تصريح قال تعالى: (ومن يكن الشّيطان له قريناً فساء قريناً) (2)، وقال تعالى: (وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم) (3).21

ص: 72


1- كنز العمال 3: 136.
2- النساء: 38
3- الأنعام 121

ثمّ الشياطين على قسمين قال تعالى: (شياطين الإنس والجنّ) (1). وقال تعالى في وصف شياطين الإنس: (يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً) (2).

فماذا يعني كلّ ذلك؟ فهل نطق الخليفة بما هو الواقع؟

إذاً لا بدّ من التسليم بما يصفه القرآن، قال تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرّحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرينٌ) (3)، وإلّا فقوله تعالى: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلّا من أتّبعك من الغاوين وإنّ جهنّم لموعدهم أجمعين) (4).

وقال تعالى: (إنّه ليس له سلطانٌ على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكَّلون إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشرکون) (5).

أبو قحافة يرد خلافة ولده أبي بكر:

كتب أبو بكر إلى أبيه (أبي قحافة) يدعوه لأن يبايعه:

(من خليفة رسول الله إلى أبي قحافة، أمّا بعد فإنّ الناس قد تراضوا بي، فأنا اليوم خليفة الله، فلو قدمت علينا لكان أحسن بك).

ص: 73


1- الأنعام: 112
2- الأنعام: 112.
3- الزخرف: 36
4- الحجر: 42.
5- النحل: 99.

لمّا ورد الكتاب على أبي قحافة كتب في جوابه: من أبي قحافة إلى أبي بكر، أمّا بعد، فقد أتاني كتابك فوجدته كتاب أحمق، ينقض بعضه بعضاً؛ مرة تقول: خليفة الله ومرة تقول: خليفة رسول الله، ومرة تقول: تراضوا بي الناس! وهو أمر ملتبس، فلا تدخلن في أمر يصعب عليك الخروج منه، ويكون عقباك منه إلى الندامة وملامة النفس اللوامة لدى الحساب يوم القيامة، فإنّ للأمور مداخل ومخارج، وأنت تعرف من هو أولى منك بها، فراقب الله فإنّك تراه وتدعنّ صاحبها، فإنّ تركها اليوم أحق عليك وأسلم لك (1).

الفرار من الزحف:

عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكي، وكان يقول: (أنا أوّل من فرّ من الحرب)، ثمّ كان يحدّث فيقول: (أنا أوّل من فاء يوم أحد) (2).

والفيء: الرجوع من بعد فرار.

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار) (3).

ص: 74


1- الاحتجاج للطبرسي 1: 41. منهاج البراعة 3: 36 - 40.
2- كنز العمال، الحدیث: 30025
3- الأنفال: 15.

أخرج الحديث بألفاظ متشابة أو متقاربة كلّ من: الطيالسي، وابن سعد وابن حبّان والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط،

وأبي نعيم في المعرفة، وابن عساكر.

أقول: ذكر المناوي في (فيض القدير): أنّ الفرار من الزحف هو من الذنوب التي لا كفّارة لها كالشرك (1).

وفي (شرح الجامع الصغير) للسيوطي جاء في المتن: خمس ليس لهنّ كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق ... إلى أن قال: والفرار من الزحف.

* * *8.

ص: 75


1- فيض القدير 3: 458.

ص: 76

الفصل الرابع

اشارة

قوله علیه السلام: «يغلظ كلمها ويخشن مسنها ...»

في عبارة الإمام علي علیه السلام كنایة عن سيرة عمر بن الخطّاب، وما في سلوكه من خشونة وغلظة، لذا ارتأينا أن نذكر طرفاً من سيرته وصفاته الخاصة.

أخلاق عمر بن الخطاب:

تحدّثت لنا المصادر - وبشكل مسهب - عن أخلاق الخليفة عمر بن الخطّاب، سواء كان ذلك قبل خلافته أو بعدها.

قال الدميري: قال عمر: إنّ الناس قد هابوا شدّتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين أظهرنا، ثمّ اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه؟! ولعمري: من قال ذلك فقد صدق (1).

ص: 77


1- حياة الحيوان الكبرى للدميري 49:1

وقال أبو عمرو: وروي عن عمر أنّه قال في انصرافه من حجّته التي لم يحجّ بعدها: الحمد لله، ولا إله إلا الله يعطي من يشاء ما يشاء، لقد كنت بهذا الوادي - وادي ضنجان (1) - أرعى إبلاً للخطاب، وكان فظاً غليظاً يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت، وأصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه (2).

روى الديار بكري، عن جامع بن شداد عن أبيه أنه قال: كان أوّل الكلام تكلّم به عمر حين صعد المنبر أن قال: اللهمّ إنّي شديد فليّنيّ وإني ضعيف فقوّني، وإني بخيل فسخّني (3).

وقال ابن أبي الحديد: كان عمر شديد الغلظة، وعر الجانب، خشن الملمس دائم العبوس ...

قال ابن أبي الحديد: وكان في اخلاق عمر وألفاظه جفاء ومنجهية ظاهرة (4).ر.

ص: 78


1- ضنجان: جبل على بريد من مكة. وفي تاريخ المدينة لابن شبة: ضنجان بناحية مكة على طريق المدينة.
2- الاستيعاب في معرفة الأصحاب بهامش الإصابة:2: 472 وتاريخ الخميس للديار بكري 2: 248، ومثله في نور الأبصار للشبلنجي: 74. تاريخ الأمم والملوك 5: 95 شرح النهج 108/3، الكامل في التاريخ 161/3، طبقات ابن سعد 3/ 191.
3- تاريخ الخميس 2/ 241
4- شرح النهج 1 / 61 ط مصر و العنجهبي: الجفاء والكبر.

وقال: إنّ ابا بكر لما نزل به دعا عبدالرحمن بن عوف فقال: إخبرني عن عمر؟ فقال: إن فيه غلظة (1).

وقال ايضاً: كان عمر شديد الغلظة (2) وعر الجانب، خشن الملمس (3) دائم العبوس. كان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة، وإن اخلاقه نقص (4). وقال ايضا: وكان عمر سريعاً الى المساءة، كثير الجبة(5) والشتم والسب (6)

صحابة الرسول يشهدون على عمر بغلظته:

قال الديار بكري، قال طلحة والزبير [لأبي بكر لما حضرته الوفاة] ما كنت قائلاً لربك إذا وليته مع غلظته؟ وفي رواية: قال طلحة: اتولي علينا فظاً غليظاً، ما تقول لربك اذا لقيته (7).

وقال ابن قتيبة: وكان اهل الشام قد بلغهم مرض أبي بكر

ص: 79


1- شرح النهج 1/ 55.
2- الغلظة: الشدة والاستطالة والعداوة: والغليظ: الفظ، ذو القساوة
3- الوعر: القاسي. والخشن: من الخشونة ضد اللين وهو يطلق على الصفات النفسية والخارجية كاللمس.
4- شرح النهج 2 / 115.
5- جبهه جبهاً: صك جبهته وضربه عليها، فاجأه بالمكروه.
6- شرح النهج 4: 457.
7- تاريخ الخميس 1/ 241.

واستبطأوا الخبر، فقالوا: إنا لنخاف أن يكون خليفة رسول الله قدمات وولي بعده عمر، فإن كان عمر هو الوالي فليس لنا بصاحب وانا لنرى خلعه (1).

وعن أسماء بنت عميس قالت: دخل رجل من المهاجرين على أبي بكر وهو يشتكي في مرضه فقال له: أستخلف علينا عمر، وقد عنا علينا، ولا سلطان له، فكيف لو ملكنا كان أعنى واعتى، فكيف تقول لله اذا لقيته؟ فقال ابوبكر أجلسوني، فلما أجلسوه قال: أنا لله تعرفوني فاني اقول اذا لقيته، استخلفت عليهم خير أهلك (2).

واخرج ابو جعفر الطبري، عن اسماء ابنة عميس أنها قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقي الناس منه، وأنت معه فكيف إذا خلا بهم، وأنت لاق ربك، فسائلك عن رعيتك؟

فقال ابو بكر: - وكان مضطجعاً - أجلسون، فأجلسوه فقال لطلحة: أبالله تخوفني، اذا لقيت الله ربي فسألني قلت: استخلفت

على أهلك خير اهلك (3).

وقال محمد يوسف الكاندهلوي: وأخرج ابن أبي شيبة، عن زيد82

ص: 80


1- الامامة والسياسة 1 / 20، طبعة مصر 1969
2- الشرف المؤید لآل محمد للنبهاني ص 123 طبعة بيروت 1903.
3- تاريخ الطبري 4 / 54 تاريخ الخلفاء ص 82

بن الحارث: أنّ أبا بكر (رض) حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه الناس، فقال: تستخلف علينا فظّاً غليظاً، فلو قد ولّينا لكان أفظ وأغلظ، فيما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟ فقال أبو بكر: أبربي تخوّفونني؟ أقول له: استخلفت عليهم خير أهلك (1).

خشونة عمر وغلظته حتّی مع الحيوان:

أخرج المتقي الهندي عن أنس بن مالك أنّه قال: إنّ أعرابياً جاء بابل له يبيعها، فجعل عمر ينخس بعيراً بعيراً يضربه برجله ليبعث البعير لينظر كيف قواده. فجعل الأعرابي يقول: خلّ إبلى لا أباً لك، فجعل عمر لا ينهاه قول الأعرابي أن يفعل ذلك ببعير بعير.

فقال الأعرابي لعمر: إني لأظنك رجل سوء، فلمّا فرغ منها اشتراها فقال: سقها وخذ أثمانها فقال الأعرابي: حتّی أضع عنها أحلاسها وأقتابها فقال عمر: اشتريتها وهي عليها، فهي لي كما اشتريتها.

فقال الأعرابي: إنّك رجل سوء فبينما هما يتنازعان إذ أقبل عليّ، فقال عمر: ترضى بهذا الرجل بيني وبينك؟ فقال الأعرابي: نعم.

فقصّا على علىّ قصّنهما، فقال علیه السلام: يا أمير المؤمنين، إن كنت اشترطت عليه أحلاسها وأقتابها فهي لك كما اشترطت، وإلّا فالرجل يزين سلعته بأكثر من ثمنها. فوضع عنها أحلاسها وأقتابها، فساقها

ص: 81


1- كنز العمال 3: 146. تاريخ المدينة المنورة 2: 678

الأعرابي فدفع إليه عمر الثمن (1).

أخرج ابن سعد عن سالم بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب كان يدخل يده في دبر البعير ويقول: إني لخائف أن أسأل عما بك (2). قال ابن الأثير الجزري وخطب - عمر - أم كلثوم ابنة أبي بكر إلى عائشة، فقالت أم كلثوم: لا حاجة لي فيه، إنّه خشن العيش، شديد على النساء.

وقال: خطب أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فكرهته وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابساً، ويخرج عابساً (3)

خشونته مع الرسول صلی الله علیه و آله و سلم:

أخرج البخاري عن أبي مليكة أنه قال: كاد الخيّران أن يهلكا: ابا بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالاقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل لا أحفظ إسمه، فقال ابو بكر لعمر: ما اردت إلا خلافي، قال: ما اردت

ص: 82


1- کنز العمال 221:2 ط 1 حیدر آباد، الحدیث 4781
2- طبقات ابن سعد 3/ 205 ط ليدن، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 139 الفتوحات الإسلامية لزيني دحلان، طبعة مصر.
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير 3: 54 و 55. تاريخ الطبري 17:5 عيون الأخبار لابن قتيبه 4: 17.

إلا خلافك. فارتفعت أصواتهما فانزل الله: (يا أيّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم ...).

وقد جاء مثل هذا الخبر في الصحيح في تفسير سورة الحجرات (1) اخرج مسلم بن حجاج القشيري عن نافع عن ابن عمر أنه قال: لما توفي عبد الله بن أبي سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثمّ سأله أن يصلي عليه.

فقام رسول الله ليصلي عليه، فقام عمر فاخذ بثوب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال يا رسول الله! أتصلى عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟!

عليه؟

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنما خبّرني الله ... إلى آخر الخبر (2).

قال ابن ابي الحديد: لمّا توفي عبدالله بن أبي رأس المنافقين في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جاء ابنه وأهله فسألوا رسول الله أن يصلي عليه فقام بين يدي الصف يريد ذلك فجاء عمر فجذبه من خلفه وقال: ألم ينهك3.

ص: 83


1- صحيح البخاري 3 / 190 تفسير سورة الحجرات طبعة بولاق مصر 1314 ه_. تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة 2 / 523، طبعة جدّة والنهاية في غريب الحديث لابن الاثير الجزري 4 / 322 انظر مادة المراء والتماري والمماراة.
2- صحیح مسلم 4 / 2141، كنز العمال 2 / 418 ط بيروت وتاريخ المدينة لا بن شبّة 3 / 865، وشرح النهج 1 / 60 والرياض النضرة 1 / 299 طبعة بيروت، وصحيح البخاري 1 / 163.

الله أن تصلي على المنافقين ... فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله (1)

مشاكسة عمر للنبي والرد عليه:

لقد كثرت اعتراضات عمر بن الخطاب على النبي صلی الله علیه و آله و سلم حتى مع انه جابهه بحركات مشينة وبكلمات غير مؤدّبة، حتّی كان في كلامه من رفع الصوت والزجرة بوجه النبي صلی الله علیه و آله و سلم ما ذكرته كتب الحديث والتاريخ والسيرة.

قال السيد احمد زيني دحلان: و جعل [عمر ] يردّ على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الكلام، حتّی قال له ابو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول ما يقول، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم حتى قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يا عمر: إني رضيت وتأبى أنت (2).

ص: 84


1- ينظر شرح النهج لابن ابي الحديد 3 / 107 ومسند احمد بن حنبل 1 / 16، صححي البخاري بحاشية السندي 4 / 25، صحیح مسلم 4 / 2141، تاريخ المدينة لابن شبّة 3 / 865، اسباب النزول للواحدي ص 141، سنن ابن ماجه 1 / 487، سنن النسائي 4 / 67، السنن الكبرى للبيهقي 3 / 402 ط حیدر آباد، كنز العمال للمتقي الهندي 2 / 418، السيرة النبوية لابن هشام 4 / 197، الرياض النضرة لمحب الدين الطبري 1 / 292 ط القاهرة.
2- السيرة الحلبية 19/3 طبعة مصر.

ما اعترضه على النبي في مرضه قوله: (النبي يهجر):

أخرج الامام احمد عن جابر: أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتاباً لا يضلون بعده. قال: فخالف عمر بن الخطاب حتّی رفضها (1).

قال ابن الاثير: الهجر: بالضم هو الخنا والقبيح من القول، ولا تقولوا هجرا: أي فحشا. وهجر يهجر هجراً بالفتح اذا اختلط في كلامه، وإذا هذى ... ومنه حديث مرض النبي صلی الله علیه و آله و سلم قالوا: ما شأنه أهجر ... والقائل كان عمر (2).

واخرج الامام احمد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس ثمّ نظرت الى دموعه على خذيه تحدر كأنها نظام اللؤلؤ قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنتوني باللوح والدواة، أو الكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبدا فقالوا: رسول الله یهجر (3) قال الامام احمد في مسنده ... فقالوا ما شأنه هجر. قال سفيان يعني: هذى فذهبوا يعيدون عليه، فقال: دعوني أنا فيه خير مما تدعوني إليه.

وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس ثمّ بكى حتّی خضب دمعه الحصباء

ص: 85


1- مسند احمد بن حنبل 3 / 346 طبعة مصر، طبقات ابن سعد 2 / 36
2- مسند احمد 1 / 355

فقال: إشتدّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وجعه يوم الخميس، فقال: إنتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: هجر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... الحديث (1).

وأخرج مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس! ثمّ جعل تسيل دموعه، حتّی رأيت خديه نظام اللؤلؤ قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم انتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم یهجر (2).

ومثله اخرجه ابن سعد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وحذف من العبارة قول عمر وانما نسب قول الهجر للجميع: (فقالوا إنما يهجر رسول الله) (3)

واخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: لما حضر رسول الله الا صلی الله علیه و آله و سلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلی الله علیه و آله و سلم هلمّ اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده. فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله فاختلف اهل البيت فاختصموا.37

ص: 86


1- صحيح البخاري 2/ 178 بحاشية السندي و 6 / 9 باب مرضى النبي و صحیح مسلم 11/ 89 بشرح النووي، ومسند احمد 1 / 222
2- صحیح مسلم 3/ 1259 تحقیق محمد فؤاد.
3- الطبقات 2 / 37

منهم من يقول: ما قال عمر. فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قوموا.

قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزيّه ما حال بين رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم

ولغطهم (1).

قال سبط ابن الجوزي: ولما مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال قبل وفاته بيسير إنتوني بدواة وبياض لاكتب لكم كتاباً لا تختلفوا فيه بعدي فقال عمر: دعوا الرجل فإنه ليهجر (2).

عمر ينكر وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم ويهدد بالقتل من يقول بوفاته ...وت

ص: 87


1- صحيح البخاري 4 / 7 كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عنّي، وباب كراهية الخلاف 4 / 271
2- تذكرة الخواص: ص 65 طبعة بيروت وفي روايات عديدة ان الذي تصدّى لمنع النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الكتابة هو عمر بن الخطاب، وقد ذكروا له عدّة كلمات منها أنه قال: إن النبي يهجر. ومنها: إنه ليهجر. ومنها: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله. ومنها قوله: إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. ينظر: كتاب الملل والنحل 1 / 22 ط مصر صحيح البخاري 1 / 32 - 33 باب كتاب العلم طبعة بولاق. مسند احمد بن حنبل 1 / 324 - 326 صحيح البخاري بحاشية السندي 3/ 91 باب مرض النبي صلی الله علیه و آله و سلم منتخب كنز العمال 3 / 114 طبعة بيروت تذكرة الخواص: ص 65 طبعة بيروت

قال ابن ابي الحديد: وروى جميع اصحاب السيرة أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لما توفي كان ابو بكر بالسنح فقام عمر بن الخطاب فقال: ما مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ولا يموت حتّی يظهر دينه على الدين كلّه، وليرجعن فليقطعن ايدي رجال وأرجلهم ممن ارجف بموته لا أسمع رجلاً يقول: مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلا ضربته بسيفي ... إلى آخر الخبر (1)

تعرضه لزوجات النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

اخرج البخاري عن ابن شهاب أنه قال: اخبرني عروة بن الزبير أن عائشة (رض) زوج النبي صلی الله علیه و آله و سلم، قالت: كان عمر بن الخطاب يقول

لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إحجب نساءك قالت: فلم يفعل.

وكان أزواج النبي صلی الله علیه و آله و سلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع.

خرجت سودة بنت زمعة - وكانت امرأة طويلة - فلما رآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفتك يا سودة (2).

عمر بن الخطاب يتطاول على صفية عمة النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

أخرج الهيثمي عن ابن عباس أنه قال: توفي ابن لصفية عمة

ص: 88


1- شرح النهج 1 / 128.
2- صحيح البخاري 4 / 61 و 1 / 28 - 40 باب خروج النساء ط مصر 1932، وتاريخ المدينة لابن شبّة 3 / 860، والاتقان في علوم القرآن للسيوطى 1 / 21

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فبكت عليه، وصاحت فأتاها النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال لها: يا عمة ما يبكيك؟ قالت: توفي ابني قال صلی الله علیه و آله و سلم: يا عمة من توفي له ولد في الاسلام فصبر بنى الله له بيتاً في الجنة فسكتت. ثمّ خرجت من عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاستقبلها عمر بن الخطاب فقال: يا صفية قد سمعت صراخك، اين قرابتك من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا تغني عنك من الله شيئاً فبكت. فسمعها النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وكان يكرمها ويحبها.

فقال: يعمة أتبكين وقد قلت لك ما قلت؟! قالت ليس ذلك أبكاني يا رسول الله، استقبلني عمر بن الخطاب فقال: إن قرابتك من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لن تغني عنك من الله شيئاً.

قال: فغضب النبي صلی الله علیه و آله و سلم وقال: يا بلال هجّر بالصلاة فهجّر بلال بالصلاة فصعد المنبر النبي صلی الله علیه و آله و سلم فحمد الله وأثني عليه ثمّ قال: ما بال قوم يزعمون أن قرابتي لا تنفع. كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي فإنه موصولة في الدنيا والآخرة (1).

قساوته مع رحمه:

عن أنس بن مالك أنه قال: خرج عمر متقلّداً السيف فلقيه رجل من بني زهرة قال: أين تعمد يا عمر؟ قال: اريد ان أقتل محمداً.

ص: 89


1- مجمع الزوائد 8 / 216 طبعة مصر.

قال الرجل: وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة، وقد قتلت محمداً؟ قال: فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي انت عليه. قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن ختنك وأختك قد صبوا، وتركوا دينك الذي أنت عليه.

قال: فمشى عمر ذامراً حتّی أتاهما، وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خباب قال: فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت فدخل عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال: وكانوا يقرؤن (طه) فقالا: ما عدا حديثاً تحدّثناه بيننا.

قال عمر: فلعلّكما قد صبوتما؟ قال: فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك قال: فوتب عمر على ختنه فوطأه وطئاً شديداً فجاءت اخته فاطمة بنت الخطاب فدفعته عن زوجها. فنفحها بیده نفحة قدمى وجهها فقالت وهي غضبى:

يا عمر إن كان الحق في غير دينك: أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً رسول الله فلما يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فاقرأه، إلى آخر الخبر (1). وقريب منه ما اخرجه ابن الاثير (2) انظر الى شدة قساوة ابن الخطاب حيث وطأ ختنه وطأ شديداً4.

ص: 90


1- طبقات ابن سعد 3،191، صفة الصفوة لابن الجوزي 1 / 269
2- الكامل في التاريخ 2 / 84 - 87، نور الابصار ص 54 الرياض النضرة 1/ 272 أسد الغابة 54/4.

وادمى اخته التي هي من رحمه.

خشونته مع نسائه:

اخرج ابن ماجه القزويني، عن الاشعث بن قيس أنه قال: ضفت [عند] عمر ليلة، فلما كان في جوف اليل قام الى امرأته يضربها فحجزت بينهما، فلما آوى الى فراشه قال لي: يا اشعث: احفظ عني شيئاً سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لا يسأل الرجل فيم يضرب امرأته و ... (1).

مع ولده:

قال السيوطي: واخرج عبدالرزاق في مصنّفه عن عكرمة بن خالد أنه قال: دخل ابنٌ لعمر بن الخطاب عليه، وقد ترجّل، ولبس ثياباً حساناً، فضربه عمر بالدرّة حتّی ابكاه، فقالت له حفصته: لم ضربته؟ قال: رأيته قد اعجبته نفسه، فأحببت أن أصغرها إليه (2).

حتى النساء يعرفن خشونة عمر:

قال ابن الاثير: خطب (عمر) ام كلثوم ابنة أبي بكر الى عائشة

ص: 91


1- سنن ابن ماجه 1 / 693، مسند احمد بن حنبل 1 / 20
2- تاريخ الخلفاء ص 142.

فقالت ام كلثوم: لا حاجة لي فيه، إنه خشن العيش شديد على النساء (1).

وقال ابن الاثير بسنده عن الحسن: إن عمر بن الخطاب خطب الى قوم من قريش بالمدينة فردوه، وخطب اليهم المغيرة بن شعبة فزوّجوه (2). ومثله في العقد الفريد (3).

وقال ابن الاثير: خطب [عمر] أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره ويدخل عابساً، ويخرج عابساً (4)، ومثله عن ابن قتيبة (5).

اخرج البخاري، عن محمد بن سعد عن أبيه، أنه قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه. عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب. فاذن له النبي صلی الله علیه و آله و سلم فدخل والنبي صلی الله علیه و آله و سلم يضحك. فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي. فقال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب. فقال أنت احق أن يهبن یا رسول الله، ثمّ أقبل عليهن فقال: يا عدوات انفسهن،ر.

ص: 92


1- الكامل في التاريخ 54/3.
2- أسد الغابة 4 / 65 طبعة مصر.
3- العقد الفريد 2/ 209 طبعة مصر، لجنة من المحققين.
4- الكامل في التاريخ 3/ 55 وتاريخ الطبري 5 / 17
5- عيون الأخبار للدينوري 4 / 17 طبعة مصر.

أتهبنني، ولم تهبن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟

فقلن: إنك أفظ، وأغلظ من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (1).

اخرج المتقي الهندي عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم وبيننا وبين النسوة حجاب، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: اغسلوني بسبع قرب، وأتوني بصحيفة ودواة اكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. فقالت النسوة: إنتوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بحاجته. فقلت: اسكتن فإنكن صواحبه، إذا مرض عصرتن اعينكن، فاذا صحّ أخذتن بعنقه، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: هنّ خير منكم (2)

الدرة آلة التأديب:

تحدّثنا كتب السيرة أن عمر بن الخطّاب اتخذ الدرّة في تأديب الرعيّة، وقد اغلظ وقسى في تأديبه مما هو خارج عن أصول الشريعة. قال ابن شبّة في تاريخه: حدّثنا موسى بن اسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة، عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كان عمر إذا بعثني الى أحد من ولده قال لي: لا تخبره لم بعثتك إليه فلعل الشيطان يعلمه كذبةً!

فجاءت ام ولد لعبد الرحمن فقالت: إن أبا عيسى لا ينفق علي ولا يكسوني قال ويحك من أبو عيسى؟ قالت ابنك عبدالرحمن فقال:

ص: 93


1- كنز العمال 2 / 308 طبعة بيروت
2- منتخب كنز العمال 3 / 114

وهل لعيسى من أب؟ قال: فارسلني إليه وقال: قل له أجب ولا تخبره لأي شيء دعوته قال فأتيته وعنده ديك ودجاجة هنديان فقلت

له: أجب أباك امير المؤمنين قال: وما يريد منّي؟ قلت: لا ادري.

قال: إني أعطيك هذا الديك والدجاجة على أن تخبرني ما يريد مني فاشترط أن لا يخبر عمر واخبرته واعطاني الديك والدجاجة فلما جئت عمر قال لي اخبرته؟ فوالله ما استطعت أن اقول لا فقلت: نعم قال: أرشاك شيئاً؟ قلت: نعم قال: مارشاك؟ قلت: ديكا ودجاجة فقبض بيده اليسرى على يدي فجعل يضربني بالدرّة، وجعلت أندو، وجعل يضربني وأنا أندو، فقال: انك الجدير (1)

خشونة عمر وغلظته مع اصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

ذكر الطبري فى تاريخه احداث السقيفه، منها عن عبد الرحمن قال: فقال ناس من اصحاب سعد إتقوا سعداً لاتطؤه فقال عمر: اقتلوه قتله الله. ثمّ قام على رأسه فقال: لقد هممت أن اطأك حتّی تندر عضوك. فاخذ سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ... الخبر (2).

ص: 94


1- تاريخ المدينة لابن شبّه 2 / 752.
2- تاريخ الطبري 3/ 210، والنهاية لابن الاثير 4 / 13، السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود ص 11 طبعة مصر.

مع ابي بكر بن ابي قحافة:

أخرج ابن أبي الحديد عن الهيثمّ بن عدي، عن عبدالله بن عباس الهمداني، عن سعيد بن جبير أنه قال: ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل: كانا والله شمس هذه الامّة ونورها. فقال ابن عمر: وما يدريك؟ فقال الرجل: أو ليس قد التلفنا؟ قال ابن عمر: بل اختلفا لو كنتم تعلمون أشهد أني كنت عند أبي يوماً، وقد أمرني أن أحبس الناس عنه، فاستأذنه عليه عبدالرحمن بن أبي بكر فقال عمر: دويبة سوء، وهو خير من أبيه، فأوحشني ذلك منه فقلت: يا أبت: عبدالرحمن خير من أبيه؟ فقال: ومن ليس بخير من أبيه، لا ام لك ... (1)

السؤال والتعلم ممنوع والسياط هي الجواب:

عن سعيد بن المسيب قال: جاء صبيغ التميمي الى عمر بن الخطاب فقال: يا امير المؤمنين: أخبرتي عن الذاريات ذرواً، فقال هي الدياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقوله ما قلته.

قال: فاخبرني عن الحاملات وقراً قال: هي السحاب، ولو لا أني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقوله ما قلته قال: فاخبرني عن الجاريات يسراً قال: هي السفن، ولو لا أني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقوله ما قلته.

قال: فاخبرني عن المقسمات امرا قال: هي الملائكة، ولو لا أتي

ص: 95


1- شرح النهج 1 / 124.

سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقوله ما قلته ثمّ امر به قضرب مائة وجعل في بيتٍ فلما برأ دعاه فضربه مائة اخرى، وحمله على قتب وكتب الى ابي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته، فلم يزالوا كذلك حتّی أتى أبا موسى فحلف له بالايمان المغلظة ما يجد في نفسه شيئاً فكتب في ذلك الى عمر ... فامر ان يخلّى سبيله (1).

اخرج المتقي الهندي عن مولى ابن عمر أن صبيغاً العراقي جعل يسأل عن اشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتّی قدم مصر فبعث به عمرو بن العاص الى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب، فقرأه، فقال أبن الرجل؟

قال: في الرحل، قال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الموجعة، فأناه، فقال له عمر: عم تسأل؟ فحدّثه، فأرسل عمر إليّ يطلب الجريد، فضربه بها حتّی ترك ظهره،دبرة، ثمّ تركه حتّی برأ، ثمّ عاد له، ثمّ تركه حتّی برأ، ثمّ دعا به ليعود له، فقال صبيغ يا امير المؤمنين: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً ... الخ (2)

عمر يضرب أبا هريرة ويتطاول على الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فينهاه:

أخرج مسلم عن أبي هريرة في خبر طويل ... قال ابو هريرة

(1) كنز العمال 2 / 331 ط بيروت حديث 4161 و 4169 و 4170.

(2) المصدر السابق.

ص: 96

دخلت على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، [فناداه] فقلت نعم يا رسول الله قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين اظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقطتع دوننا، فزعنا، فكنت اول من فزع فأتيت هذا الحائط، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي.

قال يا أبا هريرة - واعطاني نعليه - اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشّره بالجنة. فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟

فقلت: هاتان النعلان نعلا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشّرته بالجنة. فضرب عمر بيده بين ثديبي خررت لإستي فقال: ارجع يا أبا هريرة. فرجعت الى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأجهشت بكاءً، وركبني عمر فإذا هو على أثرى فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: مالك يا أبا هريرة؟

قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثني به فضرب [عمر] بين ثديي ضربة خررت لإسني قال: ارجع قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أبعثت ابا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشّره بالجنة؟ قال: نعم قال عمر: فلا تفعل ... إلى آخر الخبر (1).

(1) صحیح مسلم 1 / 44 باب من لقي الله تعالى بالايمان وهو غير شاك فيه وشرح النهج 3/ 103، والرياض النضرة 1 / 334 طبعة بيروت.

ص: 97

اقول: انظر الى جرأة ابن الخطاب وتطاوله على النبي صلی الله علیه و آله و سلم انه من جانب قد ضرب ابا هريرة، ألانه حمله نعلي رسول الله؟ أم ماذا؟ ومن جانب آخر أنه ينهى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفي نهيه ذاك تطاول على ساحة النبى وقدسيته.

عقوبة بلا ذنب:

من ذلك تغريب نصر بن الحجاج أبي ذويب من غير ذنب، غرّبه عن المدينة زماناً، روى ابن أبي الحديد عن محمد بن سعيد قال: بينا عمر يطوف في بعض سكك المدينة إذ سمع امرأة تهتف من خدرها:

هل من سبيل الى خمر أشربها

ام هل سبيل الى نصر بن حجّاج؟

الی فتى ماجد الاعراق مقتبل

سهل المحيّا كريم غير ملجاج

نمیه اعراق صدق حين تنسبه

اخي قداح عن المكروب فرّاج

سامي النواظر من بهر له قدم

تضئ صورته في الحالك الدّاجي

فقال [عمر]: ألا أرى معي رجلاً تهتف به العوائق في خدورهن!

ص: 98

عليّ بنصر بن حجاج، فأتى به واذا هو احسن الناس وجهاً وعيناً وشعراً، فأمر بشعره فجزّ فخرجت هو جنتان كأنّهما قمر، فأمره أن

يعتمّ، ففتن النساء بعينيه، فقال عمر: لا والله لا تساكنني بارض أنا بها.

فقال: ولم يا امير المؤمنين؟ قال: هو ما اقول لك فسيّره الى البصرة، وخافت المرأة التي تسمّع عمر منها ما سمع ان يبدر اليها من

شيء فدست اليه ابياتاً:

قل للامير الذي تخشى بوادره

مالي و للخمر أو نصر بن حجاج

اني بليت أبا حفص بغير هما

شرب الحليب وطرف فاتر ساج

لا تجعل الظنّ حقّاً أو تبينه

ان السبيل سبيل الخائف الرّاجي

مامنية قلتها عرضاً بضائرة

والناس من هالك قدما ومن ناج

ان الهوى رعية التقوى تقيّده

حتی اقرّ بالجام واسراج

وكان لنصر ام فاتى عليه حين، واشتدّ عليها غيبة ابنها،

ص: 99

فتعرّضت لعمر بين الاذان والاقامة فقعدت له على الطريق، فلمّا خرج يريده الصلاة هتفت به، وقالت: یا امیر المؤمنين لاجا ثينّك غدا بين يدي الله عزجل ولا خاصمنّك اليه أجلست عاصماً وعبد الله الى جانبيك وبيني وبين ابني الفيافي والقفار، والمفاوز والاميال!

قال: من هذه؟ قيل: امّ نصر بن الحجاج ...

وقد روي عن الاصمعي ان نصر بن الحجاج كتب الى عمر كتاباً هذه صورته: لعبد الله عمر امير المؤمنين من نصر بن حجّاج، سلام عليك اما بعد يا امير المؤمنين:

لعمري لئن سيرتني أو حرمتني *** لما نلت من عرضي عليك حرام

أئن غنّت الدلفاء يوماً بمنية *** وبعض امانّي النساء غرام

ظننت بي الظن الذي ليس بعده *** بقاء فمالي في الندى كلام

و اصبحت منفيّا على غير ريبة *** وقد كان لي بالمكّثين مقام

سيمنعني عما تظنّ تكرمي *** و آباء صدق صالحون كرام

ويمنعها من ما تمنّت صلانها *** وحال لها فيدينها وصيام

فهاتان حالانا فهل أنت راجع *** فقد جَبّ مني كاهل وسنام

وفي مثل ذلك جرى لأبي ذؤيب؛ روى عبدالله بن يزيد أن عمر خرج ليلة يعسّ فاذا نسوة يتحدّثن، وإذا هن يقلن اي فتيان المدينة أصبح؟ فقالت امرأة منهن: ابو ذؤيب والله فلمّا نظر اليه [عمر] قال:

ص: 100

أئنت والله ذئبهن - ويكرّرها ويرددّها - لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض ابداً فقال: يا امير المؤمنين ان كنت لابد مسيري فسيّرني حيث سيّرت ابن عمي نصر بن الحجاج فامر بتسييره الى البصرة، فاشخص اليها (1).

أقول: ان الحادثتين قد روتها جل ارباب السير. ولا يخفى عليك ان هذا التصرّف من قبل الخليفة هو بدعة، وتحميل البرىء وزر غيره وهذا مما نهى عنه القرآن الكريم، قال تعالى: (ألّا تزر وازرةٌ وزر أخرى) النجم: 38.

وان اقدام عمر على تغريب نصر بن الحجاج وأبي ذؤيب مخالف الضرورة الدين؛ ثمّ أيّ ذنب لنصر بن الحجاج الذي منحه الله جمالاً وكرماً ونسباً رفيعاً، وقد عرفته نساء المدينة بعفته ونزاهته حتّی هوينه وعشقنه، ألهذا يستحق التغريب والنفي من قبل الخليفة عمر؟!

ولا ريب ان التغريب تعذيب عنيف وعقوبة عظيمة ولم يجعل الله تعالى في دين من الاديان حسن الوجه ولا قبحه منشأ العذاب، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ثمّ ليت شعري ما الفائدة في تسيير نصر الى البصرة؟ فهل كانت نساء البصرة أعف و اتقى من نساء المدينة؟7.

ص: 101


1- شرح النهج 12 / 27.

الرعية وبغضها لابن الخطاب:

قال ابن شبة: قال عبدالله بن جعفر بن برقان قال: قال رجل لعمر ادنو منك فإن لي اليك حاجة؟ قال: لا، قال: إذن اذهب فيغنني الله عنك. فولّى ذاهباً، فاتبعه عمر فاخذ بثوبه، فقال: حاجتك؟

فقال الرجل: أبغضك الناس كرهك الناس، قالها ثلاثاً، قال عمر له: مم، ويحك؟ قال: لسانك وعصاك (1).

قال ابن ابي الحديد: قال ابو جعفر: وروي عن عامر الشعبي أنه قال: ما قتل عمر بن الخطاب حتّی ملّته قريش، واستطالت خلافته (2).

اقول: هذا نزر قليل في شأن غلظة الخليفة عمر بن الخطاب وشدّته وقساوته في سيرته وسلوكه وأخلاقه ومعاشرته ومن طلب المزيد فعليه بما سطّرته الكتب التاريخية والموسوعات الحديثية وكتب التفسير.

قوله علیه السلام: «ويكثر العثار فيها ...».

كشف الإمام علیه السلام القناع عن سير خلافتي أبي بكر وعمر وما صاحب خلافتهما من عثرات وأخطاء وفتيا لا تنسجم مع أصول الشريعة، فقد منيت الأمّة بآراء ومواقف لا يمكن السكوت عليها.

ص: 102


1- الامامة والسياسة 1 / 20ط الحلبي بمصر
2- شرح النهج 1 / 58.

من فتاوى الخليفة عمر المخالفة لنص القرآن:

روى علماء الجمهور قضايا كثيرة صدرت عن الخليفة عمر بن الخطاب قد افتى فيها بخلاف النص، منها، قال ابن ابي الحديد: قال عمر: لا يبلغني ان امرأة تجاوز صداقها نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها. فقالت له:امرأة ما جعل الله لك ذلك إنه تعالى يقول: (وإن ... آتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً) النساء: 20.

فقال: [عمر ]: كل الناس افقه من عمر، حتّی ربات الحجال ألا تعجبون من امام أخطأ وامرأة أصابت، فأضلت إمامكم ففضلته (1)، ومثله في تفسير الزمخشري وابن كثير والسيوطي فراجع.

اخرج الحافظ ابن كثير الدمشقي، عن عبد الرحمن بن أبزي عن ابيه ان رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماءً، فقال عمر: لا تصلي قال عمّار: أما تذكر يا امير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأما انت فلم تصل، وأما أنا فتمحكت في التراب فصلّيت. فلما أتينا النبي صلی الله علیه و آله و سلم ذكرت ذلك له فقال: إنما يكفيك، وضرب النبي صلی الله علیه و آله و سلم بيده الارض، ثمّ نفخ فيها، ومسح بها وجهه وكفّيه (2).

ص: 103


1- شرح النهج 1/ 61، تفسير الكشاف للزمخشري 1 / 514، تفسير ابن كثير الدمشقي 1 / 466 طبعة بيروت، الدر المنثور للسيوطي 2 / 133 طبعة مصر.
2- تفسير ابن كثير 4 / 505، السنن الكبرى للبيهقي 209/1، طبعة الهند 1352ه_.

ومثله أخرجه النسائي والبخاري ومسلم من أوجه عن الاعمش واحمد في مسنده (1).

قال الفخر الرازي: روى ابو سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: صلى بنا عمر بن الخطاب المغرب فترك القراءة فلما انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة، قال: كيف كان الركوع والسجود؟ قال: حسناً، قال: لا بأس (2).

اخرج أبو نصر عبدالوهاب السبكي عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).

واخرج السبكي عن أبي هريرة: أنه قال: أمرني رسول الله علیه السلام أن أنادي بالمدينة أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب (3).

اخرج المحب الطبري عن أبي ظبيان أنه قال: شهدت عمر بن الخطاب أتى بامرأة [مجنونة بني فلان ] قد زنت فأمر عمر برجمها فانتزعها علي من ايديهم فردّهم فرجعوا إلى عمر فقالوا: ردّنا على، قال: ما فعل هذا على إلا بشيء. فارسل اليه فجاءه، فقال: مالك رددت هؤلاء؟ قال: أما سمعت النبي صلی الله علیه و آله و سلم يقول: (رفع القلم عن ثلاثة): عن55

ص: 104


1- سننا لنسائي 1 / 169 باب نوع آخر من التيمم، صحيح البخاري 1 / 72، مسند احمد 4 / 320 وسنن ابي داود 1 / 81 كتاب الطهارة باب التيمّم.
2- التفسير الكبير للفخر الرازي 1 / 222
3- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3 / 355

النائم حتّی يستيقظ، وعن الصغير حتّی يكبر، وعن المبتلى حتّی يعقل قال: بلى فقال: هذه مبتلاة بني فلان، فلعله أتاها وهواها فقال عمر: لا أدري قال علي: أنا ادري، فترك رجمها (1).

اخرج ابن عبدالبر عن سعيد بن المسيب أنه قال: كان عمر يتعوّذ من معضلة ليس لها ابو حسن، وقال في المجنونة التي أمر عمر برجمها، وفي التي وضعت لسةة أشهر فاراد عمر رجمها فقال له علي:

إن الله تعالى يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) وقال له: إن الله رفع القلم عن المجنون ... الحديث فكان عمر يقول: لولا علي لهلك عمر (2).

واخرج المتقي الهندي، عن ذهل بن كعب أنه قال: اراد عمر أن يرجم المرأة التي فجرت وهي حامل فقال له معاذ: إذاً تظلم أرأيت الذي في بطنها ما ذنبه؟ على ما تقتل نفسين بنفس واحدة فتركها حتّی وضعت حملها فرجمها (3).

اقول: وهناك العشرات من الفتاوى التي افتى بها الخليفة وهي مخالفة للقرآن والسنّة، فتدبّر.31

ص: 105


1- ذخائر العقبى ص 81 طبعة مصر، مكتبة القدسي
2- الاستيعاب 3/ 1103
3- كنز العمال 5 / 431

ما أدخله من بدعة ليس من الدين:

روى اليعقوبي في تاريخه في سنة الثالثة عشر قال: سنّ عمر بن الخطاب قيام شهر رمضان وكتب بذلك الى البلدان وأمر أبي بن كعب، وتميماً الدار مى أن يصليا بالناس فقيل له في ذلك: إن رسول الله لم يفعله فقال: إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة (1).

ومثله اخرجه ابن شبة عن أبي سلمة، والبخاري عن عروة بن الزبير (2).

ومن فتاوى الخليفة عمر المخالفة لنص القرآن: انه كان يتلوّن في الاحكام حتّی روي انه قضى في الجدّ سبعين قضية (3).

وهذا يدلّ على قلّة علمه، وأنه كان يحكم بمجرد الظن والتخمين والحدس من غير ثبت ودليل ... وهكذا افتى في الكلالة فكان فيه تناقض فاحش ... وسئل عن معنى الآية (فاكهة وأبّى) فلم يدر ما هو.

تجسّسه على بيوت الناس:

كان عمر بن الخطاب في زمن خلافته يعسّ بالمدينة فسمع رجلاً

ص: 106


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 1400.
2- تاريخ المدينة 2 / 713، صحيح البخاري 342/1، الرياض النضرة 1 / 309، شرح النهج للمعتزلي 3 / 179.
3- شرح النهج 112 / 246.

في بيت يتغنّى، فتسوّر عليه فوجد عنده امرأة ودنّاً من خمر، فقال يا عدو الله: ظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟

فقال الرجل: وأنت يا امير المؤمنين فلا تعجل، فإني إن كنت عصيت الله في واحدة، فقد عصيت الله ثلاثاً، قال الله تعالى: (ولا تجسّسوا)، وقد تجسست، و قال تعالى: (وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها). وقد تسوّرت علي.

وقال تعالى: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّی تستأنسوا وتسلّموا على أهلها). وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام (1).

وفي مثل هذا التجسّس عدّة أخبار نقلها ابن الأثير والكاندهلوي وابن عبد ربه وغيرهم فراجع (2).

هذه بعض فتاوى الخليفة عمر بن الخطاب، ولو تصفّحت كتب الجمهور الفقهية والحديثية والتاريخية وكتب السيرة لوجدت مئات الفتاوى والاحكام التي صدرت من الخليفة على هذه الشاكلة، ولولا امير المؤمنين علي بن ابي طالب علیه السلام لا وقع ابن الخطاب الناس في هرج ومرج من امور دينهم.1.

ص: 107


1- الفتوحات الاسلامية 2 / 447، شرح ابن ابي الحديد 1 / 61.
2- الكامل في التاريخ 3/ 57 ط بيروت، حياة الصحابة 2 / 406، الكاندهلوي الرياض النضرة 1 / 375، ط بيروت، العقد الفريد 1 / 341 ط مصر، كنز العمال 2 / 141.

بل هناك من المسائل العويصة ما لا سبيل إلى حلّها إلّا علي بن أبي طالب علیه السلام، من ذلك: قدوم الجاثليق مع مائة من النصارى بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وسؤاله أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها، فجاؤوا علياً فأجابهم.

ومنها: ما أخبر خالد بن الوليد أبا بكر أنّه قد وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فاستشار أبو بكر أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال عليّ: إنّ هذا ذنب لم يعص الله به أمّة من الأمم إلا امة واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقه بالنار.

ومنها: قضية شارب الخمر الذي ادّعى أنّه أسلم ومنزله كان بين قوم يستحلّونها ولم يعلم أنّها حرام فيجتنبها، فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال ما تقول يا أبا حفص في أمر هذا الرجل؟ فقال: معضلة وأبو الحسن لها. فأتوا أمير المؤمنين علیه السلام فأشار إلى أبي بكر أن ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار، فإن قرأت عليه آية التحريم فليشهد عليه وإلّا فلا شيء عليه.

ومنها: أراد قوم على عهد أبي بكر أن يبنوا مسجداً بساحل عدن، فكان كلّما فرغوا من بنائه سقط، فعادوا إلى أبي بكر فسألوه فلم يحر جواباً، فقال أمير المؤمنين علیه السلام: احتفروا في ميمنته وميسرته في القبلة فإنّه يظهر لكم قبران مكتوب عليهما أنا (رضوى) وأختي (حبا) متنا لا نشرك بالله العزيز الجبار، وهما مجردتان فاغسلوهما وكفّنوهما.

ص: 108

ومنها ما سأل رسول ملك الروم أبا بكر عن رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار ولا يخاف الله، ولا يركع ولا يسجد، ويأكل الميتة والدم، وشهد بما لم ير، يحبّ الفتنة ويبغض الحق، فلم يجبه أبو بكر فقال عمر لرسول ملك الروم ازددت كفراً إلى كفرك، فاخبر بذلك علىّ علیه السلام فقال: هذا رجل من أولياء الله ...

ومنها: ما سئل عنه أبو بكر عن الكلالة. فقال: أقول فيها برأي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، فبلغ ذلك أمير المؤمنين علیه السلام فقال: ما أغناه عن الرأي في هذا المكان؟! أما علم أنّ الكلالة هم الأخوة والأخوات من قبل الأب و الأم، ومن قبل الأب على الانفراد ومن قبل الأم على انفرادها، فإنّ الله عز وجل يقول (يستفتونك قل الله يفتيكم ...) (1).

ومنها: خبر اليهودي الذي جاء إلى أبي بكر يسأله أين الله؟ فقال: هو في السماء على العرش، فقال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه على هذا القول في مكان دون مكان. فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة، اعزب عني وإلا قتلتك. فولّى الحبر اليهودي متعجّباً يستهزىء بالإسلام، فاستقبله عليّ علیه السلام فقال: يا يهودي، قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنّا نقول: إنّ الله عز وجل أيّن الأين فلا أين له، جلّ أن يحويه مكان، فهو في كلّ مكان، بغير مماسة ولا مجاورة ...5.

ص: 109


1- النساء: 175.

ومنها: أنّ رجلاً على عهد أبي بكر جاء يشكوه في رجل زعم أنّه احتلم بأمّه، فلم يعرف حكم هذه المسألة ودهش لها، فقال أمير المؤمنين علیه السلام اذهب به فأقمه بالشمس وحد ظلّه، فإنّ الحلم مثل الظل، ولكنّا سنضر به حتّی لا يعود يؤذي المسلمين.

ومنها: ما جرى بعد موت عقبة بن أبي عقبة إذ حضر جنازته جمع من الصحابة فيهم الإمام عليّ علیه السلام وعمر وآخرون، فقال عليّ لرجل كان حاضراً: إنّ عقبة لمّا توفّي حرمت امرأتك فاحذر أن تقربها.

فقال عمر: كلّ قضاياك يا أبا الحسن عجيبة، وهذه من أعجبها! بموت إنسان تحرم على آخر امرأته؟!

فقال: نعم، إن هذا عبد كان لعقبة، تزوّج امرأة حرّة، وهي اليوم ترث بعض ميراث عقبة، فقد صار بعض زوجها رقّاً لها، وبضع المرأة حرام على عبدها حتّی تعتقه ويتزوّجها.

فقال عمر: لمثل هذا نسألك عمّا اختلفنا فيه.

ومنها: أنّ رجلين من قريش أودعا امرأة مائة دينار وقالا لها: لاتدفعيها إلى أحدنا حتّی يحضر الآخر، وغايا مدة، ثمّ جاء أحدهما فقال: إنّ صاحبي قد هلك وأريد المال، فدفعته إليه، ثمّ جاء الآخر فطلبه، فقالت أخذه صاحبك. فقال: أما كان الشرط كذا، فارتفعا إلى عمر، فقال للرجل: ألك بينة؟

قال: هي فقال عمر: ما أراك إلّا ضامنة فقالت: أنشدك الله،

ص: 110

ارفعنا إلى عليّ بن أبي طالب، فرفعها إليه، فقصّت المرأة القصة عليه، فقال للرجل: ألست القائل لا تسلّميها إلى أحدنا دون صاحبه؟ فقال: بلی.

فقال: مالك عندنا أحضر صاحبك وخذ المال، فانقطع الرجل، وكان محتالاً، فبلغ ذلك عمر، فقال: لا أبقاني الله بعد ابن أبي طالب.

وفي هذا يقول الصاحب بن عبّاد:

هل مثل قولك إذ قالوا مجاهرة *** لو لا عليّ هلكنا في فتاوينا

والشواهد على فتاوى القوم كثيرة جداً تنبؤك على قلة علمهم وبعدهم عن الفهم، في الوقت نفسه تكشف مراجعتهم للإمام عليّ علیه السلام مدى غزارة علم الإمام وكونه أقضاهم وأعلمهم.

في هذا المعنى أذكّر القارئ الكريم بأنّ المناسبات التي دعت الخليفة عمر ابن الخطاب أن يعترف بمكانة أمير المؤمنين وعلمه وإيمانه و فقاهته هي عديدة، لذا كانت تصريحاته - أيضاً - عديدة، فهي وإن اختلفت في اللفظ إلّا أنّها تشابهت في المعنى، وإليك عزيزي القارئ، جملة من تصريحات الخليفة الثاني بحق أمير المؤمنين عليّ بن أبي ظالب علیه السلام.

منها قوله:

1 - أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن. (مستدرك الحاكم النيسابوري 1: 457، كنز العمال 3: 35، ذخائر

ص: 111

العقبي: 72).

2 - لا خير في عيش قوم لست فيهم يا أبا الحسن. (الجامع اللطيف، ط مصر).

3 - لا أحياني الله لمعضلة لا يكون فيها ابن أبي طالب حياً. (الجامع اللطيف).

4 - لا أبقاني الله بأرضٍ لست بها يا أبا الحسن (شرح نهج البلاغة 3: 122).

5 - كاد يهلك ابن الخطاب لولا عليّ بن أبي طالب (كفاية الطالب: 96).

6 - أعوذ بالله من معظلة لا عليّ لها، أو ليس لها أبو الحسن. (فرائد السمطين 1، الباب 64 و 65).

7 - اللهم لا تبقني لمعظلة ليس فيها أبو الحسن، أو ليس لها ابن أبي طالب (ينابيع المودّة 1: 75، تذكرة الخواص لابن الجوزي: 87).

8 - لا أبقاني الله بعدك يا عليّ. (كما في ذخائر العقبى: 82، فرائد السمطين 1، الباب 65. ومناقب الخوارزمي: 61، الرياض النضرة 2: 197).

9 - أعوذ بالله أن أعيش في يومٍ لست فيه يا أبا الحسن. (ذخائر العقبي لمحب الدين: 82).

10 - عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب. (فرائد

ص: 112

السمطين للحمويني، ينابيع المودّة: 75).

11 - يا بن أبي طالب، فمازلت كاشف كلّ شبهة وموضع كلّ حكم. (كنز العمال 3: 179)

12 - بأبي أنت وأمي، بكم هدانا الله وبكم أخرجنا من الظلمات إلى النور. (مناقب الخوارزمي: 58 من الفصل 14).

13 - في مسألة الرجل أنه يحب الفتنة ويكره الحق بيّن الإمام علیه السلام ما قصده الرجل، فقال عمر بن الخطّاب لعلي: الله يعلم حيث يجعل رسالته. (الطرق الحكمية لابن القيم الجوزية: 45).

14 - وفي حادثة أنّ علياً لطم وجه رجل كان ينظر إلى نساء المؤمنين في الطواف، فاستعدي الرجل عند عمر، فقال له: ضربك بحق، أصابته عين من عيون الله، أراد خاصة من خواص الله وولياً من أوليائه. (نهاية ابن الاثير 3: 163)

15 - لا أبقاني الله بعد ابن أبي طالب، أو بعدك يا عليّ. (ذخائر العقبي: 82)

16 - لا عشت في أمة لست فيها يا أبا الحسن (أمالي الطوسي: 303، مناقب ابن شهر آشوب 1: 493).

17 - اللهم لا تنزلن بي شدة الا و أبو الحسن إلى جنبي (كنز العمال 3: 53، ذخائر العقبى: 82).

و أصرح عبارة قالها عمر بن الخطاب قوله:

ص: 113

18 - لو لا علىّ لهلك عمر.

عزيزي القارئ، كان بودّي أن أضع بين يديك مصادر علماء أخواننا السنّة التي روت النص المذكور آنفاً، لكن وجدتها كثيرة جداً قد لايسع الباحث أن يستقرأها جميعاً، لذا سوف اكتفي ببعضها تاركاً التفصيل إلى مناسبة أخرى.

أهم مصادر علماء الجمهور التي صرحت بهلاك عمر لولا علي.

مصادر (لولا علي لهلك عمر) من كتب الجمهور:

أوّلاً: تفسير الفخر الرازي 7: 484.

ثانياً: تفسير الدر المنثور للسيوطي 1: 288

ثالثاً: تفسير النيسابوري 3: سورة الأحقاف.

رابعاً: تذكرة سبط بن الجوزي: 87.

خامساً: مناقب الخوارزمي: 47 و 57 و 60.

سادساً: أسد الغابة لابن الأثير 4: 22.

سابعاً: الصواعق المحرقة لابن حجر: 78.

ثامناً: الاستيعاب لابن عبد البر 2: 474.

تاسعاً: تهذيب التهذيب لابن حجر 7: 337 و 2: 509، ط حیدر آباد.

عاشراً: السنن الكبرى للبيهقي 7: 442.

الحادي عشر: كنز العمال للمتقي الهندي 3: 96 و 228

ص: 114

الثاني عشر: الإصابة لابن حجر 2: 509، ط مصر.

الثالث عشر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة الدينوري: 201 و 202.

الرابع عشر: هداية المرتاب للحاج أحمد أفندي: 146 - 152.

الخامس عشر: تاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي: 66.

السادس عشر: نور الأبصار للسيد مؤمن الشبلنجي: 73.

السابع عشر: ذخيرة المآل لشهاب الدين أحمد بن عبد القادر العجيلي.

الثامن عشر: إسعاف الراغبين لمحمّد بن علي الصبّان: 152.

التاسع عشر: جواهر العقدين لنور الدين عليّ بن عبد الله السمهودي المتوفى (911 ه_).

العشرون: شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي، المتوفّى (655 ه_) 1: 6.

الحادي والعشرون: شرح التجريد للعلامة القوشجي: 407.

الثاني والعشرون: حلية الأولياء للحافظ أبي نعيم.

الثالث والعشرون: شرح الفتح المبين لمحمّد بن عليّ الترمذي.

الرابع والعشرون: تفسير كشف البيان للإمام الثعالبي.

الخامس و العشرون: إيطال الباطل للقاضي فضل الله بن روزبهان.

ص: 115

السادس والعشرون ينابيع المودة للشيخ سليمان الحنفي القندوزي: 70 و 75.

السابع والعشرون: كفاية الطالب للكنجي: 105.

الثامن والعشرون: مختصر جامع العلم: 105.

التاسع والعشرون: ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 82.

الثلاثون: الرياض النضرة لمحب الدين الطبري: 2: 194.

الحادي والثلاثون: مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: 13 و 29 من الفصل السادس.

الثاني والثلاثون: أربعين الرازي: 466.

الثالث والثلاثون: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، الفصل 1، ص 18.

الرابع والثلاثون: الطرق الحكمية لابن القيم الجوزية 47 و 53.

الخامس والثلاثون: الفاتحة السابعة من شرح الميبدي.

أقول: وهناك عبارات مدح وشكر وثناء صدرت من عمر بن الخطاب لعلي لمّا فرّج الله عنه في مواقف عديدة، وكان الفرج والخلاص على يد عليّ بن أبي طالب علیه السلام، من ذلك:

أوّلاً: قوله: بكم هدانا الله وبكم أخرجنا من الظلمات إلى النور. (نزهة المجالس 2: 88 و 171).

ثانياً: قوله: منكم أخذنا العلم وإليكم يعود. (البحار 9:492).

ص: 116

ثالثاً: قوله: كاد أن يهلك ابن الخطاب لولا عليّ بن أبي طالب.

رابعاً: قوله: الحمد لله، أنتم أهل بيت الرحمة يا أبا الحسن. (البحار 9: 479 و 506)

خامساً:قوله: أنت والله نصحتني من بينهم (البحار 9:560)

سادساً:قوله: [يا عليّ] يدٌ لك مع الأيادي لم أجزك بها. (البحار 9: 497).

سابعاً: قوله: فرج الله عنك، لقد كدت أن أهلك. (مناقب ابن شهر آشوب 1: 497).

ثامناً: قوله: فرّج الله عنك، قد تصدّع قلبي. (البحار: 6:492).

تاسعاً: قوله: إذا لم يكن الإمام عليّ موجوداً - أين أبو الحسن مفرّج الكرب. (البحار 9: 492)

عاشراً: قوله: شعرة من آل أبي طالب أفقه من عديّ. (البحاره 9: 478)

الحادي عشر: قوله: يا عليّ، كلّ قضاياك عجيبة وهذه أعجبها. (البحار 9: 477)

الثاني عشر: قوله: ما زلت كاشف كلّ كرب وموضح كلّ حكم. (كنز العمال).

الثالث عشر: قوله لأصحابه: لا تعصو ا لعليّ أمراً. (البحار 9: 496)

ص: 117

الرابع عشر: قوله إذا اشتد به الأمر وضاقت عليه المسالك التجا إلى علي علیه السلام، وإذا حلّها أمير المؤمنين علیه السلام قال عمر: لهذا أمرنا أن نسألك. (البحار 9: 479)

***

ص: 118

الفصل الخامس

اشارة

نتابع قول أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته « ... والاعتذار منها»

بعد ما عرفت أيّها القارئ الكريم طرفاً من أخبار القوم والأخطاء التي مارسوها على مرأىً ومسمعٍ من المسلمين في شتّى الميادين، الفقهية، والسياسية ... أنّها كانت عثرات صارخة لا تصدر من أدنى مسلم، وإذا بها تصدر من أعلى قيادة في الحكومة، وإنّ أبرز عمل إجرامي قاموا به هو هتك حرمة ابنة الرسول فاطمة علیها السلام، إذ هجموا على دارها، وروّعها بحرق بابها، وكسر ضلعها، ولطم خدّها، وعصرها بين الحائط و الباب، وإسقاط جنينها، وقود بعلها بحمائل سيفه إلى المسجد، وتهديده بالقتل إن لم يبايع، وإلى ما هنالك من مصائب ومحن وجرأة في مخالفة النصوص الصريحة من القرآن والسنّة.

أقول: في هذه وفي غيرها من المواقف تجد عشرات المصادر قد روت لك تلك الأحداث ونقلتها نقلاً أميناً، ورواتها هم كبار الصحابة الثقات، ومنابعها كتب الجمهور الصحاح.

إذاً صدق أمير المؤمنين علیه السلام عندما قال: «يكثر العثار فيها».

ص: 119

ثمّ اردف قوله ذاك: «والاعتذار منها»، أي ويكثر الاعتذار من تلك الممارسات الخاطئة التي أوّل ما صدرت من أبي بكر، إذ أسّس قاعدة سار عليها القوم من بعده، فأصبحت مقياساً ومسلكاً للأجيال المتعاقبة.

إنّها قاعدة الاجتهاد، (تأوّل فأخطأ)، يا لها من قاعدة كمّت الأفواه، وأغمدت فيها السيوف! وبسببها أسدلت الستائر على المجرمين الطامعين، فتعطّلت الحدود، وغصبت الحقوق! إنّها القاعدة التي شاء صانعوها أن يغلقوا الأبواب أمام كلّ غيور على دينه وعرضه وشرفه ...

اجتهادات عمر بن الخطاب:

لا يسع المقام أن نذكر اجتهادات الخليفة عمر التي تعددت في جميع الأبواب، أنّها اجتهادات خالفت نصوص القرآن في أكثر من أربعين مورداً، نذكر منها بعض الموارد:

المورد الأول: قوله تعالى: (الطّلاق مرّتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ... فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره) (1). وهذا يعني أنّ التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة.

ص: 120


1- البقرة: 229

وإذا كان الطلاق رجعياً فيعني الرجوع مرتين؛ مرة بعد مرة؛ لأنّه لا رجعة بعد الثلاثة.

عن ابن عبّاس - من عدة طرق كلها صحيحة - قال: كان الطلاق علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطّاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1).

في ذلك قال الأستاذ خالد محمّد خالد المصري: ترك عمر بن الخطّاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة عندما دعته المصلحة لذلك، فبينا يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظاً من الزكاة ويؤديه الرسول وأبو بكر يأتي عمر فيقول: لا نعطى على الإسلام شيئاً، وبينا يجيز الرسول وأبو بكر بيع أمهات الأولاد يأتي عمر فيحرم بيعهن، وبينا الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنة والإجماع جاء عمر فترك السنة وحطّم الإجماع (2).

المورد الثاني: سأل عمر بن الخطّاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم عن ميراث الجدّ مع الأخوة فقال له: ما سؤالك عن هذا يا عمر؟ إنّي أظنّك تموت قبل أن تعلمه، قال راوي هذا الحديث - سعيد بن المسيب - فمات عمر قبل0.

ص: 121


1- صحیح مسلم، ج 1، باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق، ومسند أحمد 1: 314.
2- الديمقراطية للأستاد خالد محمد خالد: 150.

أن يعلمه (1).

قال عبيدة السلماني: لقد حفظت لعمر بن الخطاب في الجدّ مائة قضية مختلفة (2)، وعن عمر قال: إنّي قضيت في الجدّ قضيات لم آل فيها، عن الحق (3)، قال طارق بن شهاب الزهري كان عمر بن الخطّاب قضى في ميراث الجدّ مع الأخوة قضايا مختلفة (4).

المورد الثالث: وجوب التيمّم للصلاة: قال تعالى: (يا أيّها الذّين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطّهّروا وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لا مستم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيّباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) (5).

وقوله سبحانه في سورة النساء: (يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتّی تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلّا عابري سبيلٍ حتّی تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لا مستم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيّباً فامسحوا6.

ص: 122


1- أخرجه البيهقي في سننه في شعب الإيمان، ونقله المتقي الهندي في الكنز 6: 15
2- أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي في سننهما، ونقله المتقي في الكنز 6: 15.
3- أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، ونقله المتقي في الكنز 6: 15
4- انظر: حياة الحيوان للدميري في مادة الحيّة.
5- المائدة: 6.

بوجوهكم وأيديكم إنّ الله كان عفوّاً غفوراً) (1).

أجمعت الأمة على أنّ فاقد الماء يتيمّم للفريضة، وهكذا المريض الذي يضره الماء أو المسافر الذي لم يجد ماءً. ولم يخالف في هذا الحكم إلّا الخطّاب، فإنّ المشهور عنه سقوط الفريضة عمّن فقد الماء حتّی یجده.

نقل هذه الشهرة القسطلاني في مباحث التيمّم من (إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 2: 131).

أخرج البخاري ومسلم في التيمّم من صحيحهما عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: أنّ رجلاً أتى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً، فقال: لا تصلّ.

وكان عمّار بن ياسر إذ ذاك حاضراً، فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأما أنت فلم تصلّ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصلّيت، فقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثمّ تنفخ ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك. فقال عمر: اتّق الله يا عمّار، قال: إذاً لم أحدّث به! فقال عمر: نوليك ما تولّيت.

المورد الرابع: قال الله عزّ وجلّ: (للرّجال نصيبٌ ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنّساء نصيبٌ تما ترك الوالدان والأقربون ممّا قلّ3.

ص: 123


1- سورة النساء: 43.

منه أو كثر نصيباً مفروضاً) (1).

وقال سبحانه: (يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظٌ الأنثيين) (2).

إنّ المواريث والفرائض كما سنّها الله سبحانه، فلا فرق بين أعجمي وعربي، غير أنّ مالكاً روى في (الموطأ) عن سعيد بن المسيب أنّه قال: أبي عمر بن الخطّاب أن يورّث أحداً من الأعاجم، إلّا أحداً ولد في العرب. قال مالك: وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدو فوضعته في أرض العرب فهو ولدها يرثها إن ماتت وترثه إن مات، ميراثها في كتاب الله (3).

هذه بعض الموارد التي أفتى بها عمر بن الخطّاب والحديث يطول، تاركين التفصيل في مناسبة أخرى إن شاء الله.

وعليه إنّ قوله علیه السلام: ويكثر العثار فيها والاعتذار منها، إنّ أبا بكر وعمر كانا كثيراً ما يحكمان بالأمر ثمّ ينقضائه، وبالخصوص أنّ ذلك كان بارزاً في فتاوى عمر بن الخطاب، حيث كان يفتي بالفتيا ثمّ يرجع عنها ويعتذر مما أفتى به أولاً.

أقول: هل يوجد مسوّغ للاجتهاد مع وجود النصّ؟ ثمّ ماذا11

ص: 124


1- النساء: 7
2- النساء: 11
3- انظر: كتاب الفرائض من الموطأ 2: 11

نفهم من كلمة اجتهاد؟ وماذا تعني كلمة نص؟ أسئلة تتبادر إلى الأذهان في كلّ حين وعند كلّ باحث، فما علينا إلّا أن نفهم - ولو بصورة مجملة - معاني المصطلحات المذكورة آنفا.

الكل منّا يعلم أنّ الإسلام هو خاتم الأديان، وأنّ القرآن الكريم خاتم الشرائع السماوية، وهذا يعني سبحانه و تعالى أودع في كتابه العزيز ما يحتاجه البشر من أحكام في العبادات والمعاملات والسلوك والسنن وما يصلح دنياهم وآخرتهم، فكان من الميسور على المسلم أن يبحث عن الحكم الشرعي في النصّ القرآني، ولما كان القرآن قد نزل بلغة العرب فإنّ ظهور القرآن حجّة لا محالة من ذلك.

ثمّ إنّ العرب بكل شرائحهم قد عرفوا أساليب الخطاب والبيان، فما كان يحمل على الحقيقة واضح بيّن، وما كان يحمل على المجاز كذلك يفهمه الجميع.

وإذا لم يتطرق القرآن الكريم إلى حكم شرعيّ ما التجأ المسلمون إلى البحث عنه في قول المعصوم علیه السلام، فكانت سيرة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته الكرام هي المنبع الثاني للأحكام الشرعية، وبهذا يتضح معنى الكتاب والعترة وأنّهما لن يفترقا حتّی يردا عليه الحوض.

إذاً المراد من النص هو ما صّرح فيه بالحكم الشرعي، سواء كان الحكم في الأمور العبادية أو في الأمور الحياتية أي المعاملات والعقود، أمّا الاجتهاد هنا فهو مأخوذ في مقابل النصّ، أي الحكم بالرأي، وقد

ص: 125

عرّفوه بالذوق الشخصي والنظر، وعرّفه ابن القيّم: (ما يراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصواب) (1). وهذا يعني أنّ المفتي يجنح إلى مذاقه الخاص ليصدر فتوى في المسألة الكذائية دون أن يعمد إلى النصّ الصريح من القرآن والسنّة.

وهذا اتجاه جديد حصل بعد وفاة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم مباشرة على يد الخليفة أبي بكر، إنّه اتجاه جديد في الحكم والقضاء بين المسلمين، وكان له الأثر السيّء في تاريخ الحياة العقلية الإسلامية.

والحكم بالرأي على قسمين:

الأول: هو الذي عرضناه آنفاً.

والثاني: هو ما يصطلح عليه بالاجتهاد الشخصي أو العملي، وهو استفراغ وسع الفقيه الجامع للشرائط لاستنباط المسائل الشرعية من الكتاب والسنة بعد الجمع والترجيح بالطرق الواردة بعد العرض على القرآن والأصول الإجماعية.

وفي هذا يقول ثقة الإسلام الشيخ الكليني: والشرط من الله في ما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة إلى أن قال: و من أراد الله خذلانه وأن يكون إيمانه معاراً مستودعاً سبّب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل بغير علم وبصيرة (2).ة.

ص: 126


1- إعلام الموقعين 1: 66. دار الجبل - بيروت 1973 تحقيق طه عبد الرزاق سعد.
2- الكافي: المقدمة.

وقال النعماني في كتاب (الغيبة) القرآن مع العترة والعترة مع القرآن، ومن التمس علم القرآن والتأويل والتنزيل والحلال والحرام والخاص والعام من عند غير من فرض الله طاعتهم وجعلهم ولاة الأمر بعد نبيه فقد تاه وضل وهلك وأهلك ... إلى أن قال: وأعجب من هذا ادّعى هؤلاء أن ليس في القرآن علم كلّ شيء وأنّهم لمّا لم يجدوا فيه احتاجوا إلى القياس والاجتهاد والرأي وافتروا على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم الكذب والزور بأنّه أباح لهم الاجتهاد وأطلقه لهم، وغفلوا أمر الله في قوله: (ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (1)، وفي قوله (فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون) (2) نعم، لو ردّوا الأمر إلى أهل الذكر وهم أهل البيت علیهم السلام لأوصلهم الله إلى نور الهدى، وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأغناهم عن القياس والاجتهاد و الرأي ...

هذا الاجتهاد الذي لم يتخذ من القرآن والسنة منبعاً للتفكير والاستنباط فهو باطل، وصاحبه يعتمد رأيه الشخصي الذي يورده الهلاك كما ورد في الحديث.

نعم، يبقى المعنى الأخصّ، وذلك هو عمل الفقيه في النصوص الشرعية من القرآن والسنة وأخبار أهل البيت علیهم السلام فيجمع بين 7

ص: 127


1- النساء: 83
2- الأنبياء: 7

النصوص والأخبار ليستنبط منها حكماً شرعياً في مسألة ما بعد أن يرجّح ضمن مرجحات علمية.

وربما اعترضنا قائل فقال: ماذا تصنع بحديث معاذ بن جبل لمّا بعثه النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم إلى اليمن، قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو قال: فضرب رسول الله صدره، وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول الله لما يرضاه رسول الله. رواه أحمد وأبو داود والترمذي (1).

أقول: هذا الحديث لم يصح عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بطريق معتبر، وقد أورده الجوزقاني في الموضوعات، ولم يجد له طريقاً معتبراً (2).

وشكّ باحثون آخرون في صحة إسناد هذا الحديث إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم من حيث المتن، حيث اشتملت الرواية على اصطلاحات دقيقة تعتبر وليدة عصر ما بعد الصحابة، وهذا ما دعاهم إلى التشكيك في قيمة إسناد هذه الرواية إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم.

وكيف كان، إنّ مدرسة الرأي تميّزت منذ أول يوم بعد وفاة9.

ص: 128


1- انظر: إرشاد الفحول
2- للاطلاع انظر: الأصول العامة للفقه المقارن (العلامة السيد محمّد تقي الحكيم): 339.

الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بشيء كثير من الجرأة في إعطاء الحكم والفتوى. واستمر الحال طيلة فترة الخلفاء الثلاثة حتّی تبلورت مدرسة الرأي على يد أبي حنيفة النعمان، والباحث يجد في تأريخ صاحب هذا المذهب أنّه قليل العناية بالحديث، فلم يصحّ لديه أكثر من سبعة عشر حديثاً كما صرّح به ابن خلدون في مقدّمته، علماً أنّ أبا حنيفة كان كثير الاعتداد برأيه في

قبال الحديث.

إذا عرفنا هذا المجمل من تعريف النصّ والاجتهاد بالرأي سوف تتضح لك - عزيزي القارئ - جميع فتاوى الخلفاء الثلاثة، إذ إنّها لم تعتمد النص القرآني، بل اعرضوا عن ذكر الله واتخذوا الاجتهاد بالرأي مسلكاً جديداً، وإليك واحدة من تلك المواقف التي اجتهد فيها الخليفة فأصبحت عاراً في جبين التاريخ.

من اجتهادات الخليفة أبي بكر ما حصل (يوم البطاح) أو قل عنه: يو يوم مالك ابن نويرة وقومه من بني تميم، حيث تجاوز عن جرائم خالد بن الوليد التي لا تعدّ ومنها: إنّه قتل جمعاً غفيراً من المسلمين مالك بن نويرة، ثمّ بنى بزوجة مالك من ليلته ... إلى آخره. وقد مرّ الكلام في الصفحات المتقدمة فراجع، وما عذر أبي بكر في خالد إلّا عبارته المشهورة: إنه اجتهد فأخطأ.

* * *

ص: 129

ص: 130

الفصل السادس

اشارة

الإمام والشورى وحديث المناشدة

روى العلّامة السيد هاشم البحراني بسنده عن أبي ذر رضی الله عنه: أنّ عليا علیه السلام وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص أمرهم عمر بن الخطّاب أن يدخلوا بيتاً ويغلقوا عليهم بابه ويتشاوروا في أمرهم وأجّلهم ثلاثة أيام فإن توافق خمسة على قول واحد وأبى رجل منهم قتل ذلك الرجل، وإن توافق أربعة وأبى اثنان قتل الاثنان، فلمّا توافقوا جميعاً على رأي واحد قال لهم عليّ بن أبي طالب: إنّي أحبّ أن تسمعوا منّي ما أقول لكم، فإن يكن حقاً فاقبلوه، وإن يكن باطلاً فانكروه». قالوا: قل.

قال: «أنشدكم بالله - أو قال: أسألكم بالله - الذي يعلم سرائركم ويعلم صدقكم إن صدقتم، ويعلم كذبكم إن كذبتم هل فيكم أحد من قبلي آمن بالله ورسوله وصلّى القبلتين قبلي؟» قالوا: اللهم لا.

قال: فهل فيكم من يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) سواي؟»، قالوا: اللهم

ص: 131

لا. قال: فهل فيكم أحد نصر أبوه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكفاه غيري؟».

قالوا: اللهم لا. قال: فهل فيكم أحد زيّن أخوه بالجناحين في الجنة غيري؟». قالوا: اللهم لا. قال: «فهل فيكم أحد وحّد الله قبلي ولم يشرك بالله شيئاً؟»، قالوا: اللهم لا. قال: «فهل فيكم أحد عمّه حمزة سيد الشهداء غيري؟» قالوا: اللهم لا. قال: فهل فيكم أحد زوجته سيدة نساء أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فهل فيكم أحد ابناه سيّدا شباب أهل الجنة غيري؟» قالوا: اللهم لا.

قال: «فهل فيكم أحد اعلم بناسخ القرآن ومنسوخه والسنّة مني؟». قالوا: اللّهم لا قال: فهل فيكم أحد سمّاه الله عز وجل في عشر آيات مؤمناً غيري؟ قالوا: اللهم لا.

قال: «فهل فيكم أحد ناجى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عشر مرات يقدّم بين يدي نجواه صدقة غيري؟» قالوا: اللهم لا. قال: «فهل فيكم أحد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، ليبلّغ الشاهد هذا الغائب ذلك»، غيري؟». قالوا: لا.

قال: «فهل فيكم رجل قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لاعطينّ الراية رجلاً غداً يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرّار غير فرار، لا يولّي الدبر، يفتح الله على يديه»، وذلك حيث رجع أبو بكر وعمر منهزمين فدعاني وأنا أرمد فتفل في عيني، وقال: «اللهم أذهب عنه الحرّ والبرد»، فما وجدت بعدها حرّاً ولا برداً يؤذياني، ثمّ أعطاني الراية فخرجت بها

ص: 132

ففتح الله على يدي خيبر فقتلت مقاتليهم وفيهم مرحب، وسبيت ذراريهم، فهل كان ذلك غيري؟». قالوا: لا.

قال: «فهل فيكم أحد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «اللهم ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ، وأشدّهم حباً لي ولك، يأكل معي من هذا الطائر»، فأتيت فأكلت معه غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم احد قال ر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «لتنتهنّ يا بني وليعة أو لأبعثن عليكم رجلاً كنفسي، طاعته كطاعتي، ومعصيته كمعصيتي، بعصاكم - أو يقصعكم - بالسيف» غيري؟». قالوا: لا. قال: «فهل فيكم من سلّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف ملك من الملائكة - وفيهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل - ليلة القليب لمّا جئت بالماء إلى

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد قال له جبرئيل علیه السلام: هذه هي المواساة، وذلك یوم أحد، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «إنّه مني وأنا منه»، فقال جبرئيل: «وأنا منكما» غيري؟» قالوا: لا قال: فهل فيكم أحد نودي من السماء: «لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علىّ» غيري؟ قالوا: لا. قال: فهل فيكم من يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين على لسان النبيّ غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد غسّل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: مع الملائكة المقرّبين بالروح والريحان، تقلّبه لي الملائكة وأنا أسمع قولهم وهم يقولون:

ص: 133

استروا عورة نبيكم ستركم الله»، غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد بعث الله عزّوجل إليه بالتعزية حيث قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وفاطمة علیها السلام تبكيه، إذ سمعنا حسّاً على الباب، وقائلاً يقول نسمع صوته ولا نرى شخصه، وهو يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، ربّكم عز وجل يقرئكم السلام ويقول لكم: إنّ في الله خلفاً من كلّ مصيبة، وعزاءً من كل هالك، ودركاً من كلّ فوت، فتعزّوا بعزاء الله، واعلموا أنّ أهل الأرض يموتون، وأنّ أهل السماء لا يبقون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنا في البيت والحسن والحسين أربعة لا خامس لنا إلا رسول الله مسجّىّ بيننا

غيرنا؟» قالوا: لا.

قال: «فهل فيكم أحد ردّت عليه الشمس بعد ما غربت أو كادت حتّی صلّى العصر في وقتها غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد أمره رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يأخذ براءة من أبي بكر بعد ما انطلق أبو بكر بها فقبضها منه، فقال أبو بكر بعد ما رجع يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقال: «لا، إلّا أنّه لا يؤدّي عني إلّا عليّ غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم من قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي، ولو كان نبيّ بعدي لكنته يا علىّ غيري؟ قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّه لا يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا كافر

ص: 134

غيري؟ قالوا: لا.

قال: أتعلمون أنّه أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي، فقلتم في ذلك، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ما أنا سددت أبوابكم، ولا أنا فتحت بابه، بل الله سدّ أبوابكم وفتح بابه؟» قالوا: نعم. قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ناجاني يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك، فقال بعضكم: يا رسول الله، إنّك أنتجيت علياً دوننا، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ما أنا انتجيته، بل الله عز وجل أنتجاه؟» قالوا: نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: الحق بعدي مع عليّ و علي مع الحق يزول الحق معه حيث زال؟ قالوا: نعم. قال: فهل تعلمون أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّی يردا علىّ الحوض، وإنّكم لن تضلّوا ما اتّبعتموهما واستمسكتم بهما؟ قالوا: نعم.

قال: فهل فيكم أحد وقى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بنفسه، وردّ به مكر المشركين واضطجع مضجعه، وشرى بذلك من الله نفسه غیری؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم حيث آخا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين أصحابه أحد كان له أخاً غيري؟». قالوا: لا.

قال: «فهل فيكم أحد ذكره الله عز وجل بما ذكرني إذ قال: (والسّابقون السّابقون أولئك المقرّبون) (1)، غيري؟ فهل سبقني11

ص: 135


1- الواقعة: 10 - 11

فيكم أحدٌ إلى الله ورسوله؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد أتى الزكاة وهو راكع فنزلت فيه (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون) (1)، غيري؟. قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد برز لعمرو بن عبد ودّ حيث عبر خندقكم وحده ودعا جمعكم إلى البراز فنكصتم عنه، وخرجت إليه فقتلته وفتّ الله بذلك في أعضاد المشركين والأحزاب، غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد ترك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بابه مفتوحاً في المسجد، يحلّ له ما يحلّ لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ويحرم له ما يحرم على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيه غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير حيث يقول الله تعالى: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً) (2) غيري وزوجتي وابنيّ؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ما سألت الله عزّ و جل لي شيئاً إلّا سألت لك مثله» غيري؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد كان صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في المواطن كلها غيري؟». قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد ناول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من قبضة من تراب من تحت3.

ص: 136


1- المائدة: 55.
2- الأحزاب: 33.

قدمیه فرمى بها في وجوه الكفّار فانهزموا غيري؟» قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد قضى دين رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وانجز عداته غيري؟ قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد اشتاقت الملائكة إلى رؤيته فاستأذنت الله تعالى في زيارته غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد ورث سلاح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأداته غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد استخلفه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أهله، وجعل أمر أزواجه إليه من بعده غيري؟ قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد حمله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على كتفه حتّی كسّر الأصنام التي كانت على الكعبة غيري؟ قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد اضطجع هو ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في لحاف واحد إذ كفلني غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنت صاحب رايتي ولوائي في الدنيا والآخرة»، غيري؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد كان أوّل داخل على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وآخر خارج من عنده لا يحجب عنه غيري؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد نزلت فيه وفي زوجته وولده: (ويطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) (1)، إلى سائر ما اقتص الله تعالى من ذكرنا في هذه السورة غيري؟» قالوا: لا.ن.

ص: 137


1- الإنسان.

قال: فهل فيكم أحد نزلت عليه هذه الآية: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) (1)، غيري؟». قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد أنزل الله تعالى من خبر المؤمنين (2) غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد أنزل الله عز وجل فيه وفي زوجته وولديه آية المباهلة، وجعل الله عز وجل نفسه نفس رسول الله، غيري؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية: (ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) (3) لمّا وقيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ليلة الفراش غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد سقى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من المهراس (4) لمّا اشتدّ ظمأه وأحجم عن ذلك اصحابه غيري؟» قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اللهم إنّي أقول كما قال عبدك «موسى»: (قال ربّ اشرح لي صدري * ويسّر لي أمري * واحلل عقدةً مّن لّساني * يفقهوا قولي * واجعل لّي وزيراً مّن أهلي*2.

ص: 138


1- التوبة: 19.
2- إشارة إلى قوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون). السجدة: 18.
3- البقرة: 207
4- المهراس: ماء بجبل أحد، ما عطش النبي صلی الله علیه و آله و سلم جاءه عليّ وفي درقته ماء من المهراس، معجم البلدان 5: 232.

هارون أخي * اشدد به أزري) (1)، إلى آخر دعوة موسى صلی الله علیه و آله و سلم إلّا النبوة، غيري؟. قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد أدنى الخلائق لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم القيامة، وأقرب إليه منّي كما أخبركم بذلك صلی الله علیه و آله و سلم، غيري؟ قالوا: لا. قال: فهل فيكم من قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنت وشيعتك هم الفائزون تردون يوم القيامة رواء مرويّين، ويرد عدوّك ظماءً مقبحين، غيري؟ قالوا: لا.

قال: «فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: من أحبّ هذه الشعرات فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى، ومن أبغضها وآذاها فقد أبغضني وآذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله وأعدّ له جهنم وساءت مصيراً». فقال أصحابه وما شعراتك هذه يا رسول الله قال: عليّ وفاطمة والحسن والحسين»، غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين، وأنت الصدّيق الأكبر، وأنت الفاروق الأعظم الذي يفرق بين الحق والباطل، غيري؟» قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد طرح عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثوبه وأنا تحت الثوب وفاطمة والحسن والحسين، ثمّ قال: «اللهم أنا وأهل بيتي31

ص: 139


1- سورة طه 25 - 31

هؤلاء، إليك لا إلى النار»، غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالجحفة بالشجيرات من خمّ: من أطاعك فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع ومن عصاك فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله تعالى غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بينه وبين زوجته وجلس بين رسول الله وزوجته وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: الا ستر دونك يا علىّ غيري؟» قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد احتمل باب خيبر يوم فتح حصنها، ثمّ مشى به ساعة، ثمّ ألقاه فعالجه بعد ذلك أربعون رجلاً فلم يقلوه من الأرض غيري؟» قالوا: لا.

قال: فهل فيكم من قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أنت معي في قصري ومنزلك تجاه منزلي في الجنة، غيري؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنت أولى الناس بأمّتي من بعدي والى الله من والاك وعادى من عاداك وقاتل من قاتلك بعدي غيري؟ قالوا: لا.

قال: «فهل فيكم أحد صلّى مع رسول الله قبل الناس سبع سنين وأشهراً غيري؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّك عن يمين العرش يا عليّ يوم القيامة، يكسوك الله عز

ص: 140

وجل بردين أحدهما الأحمر والآخر الأخضر»، غيري؟». قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد أطعمه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من فاكهة الجنة لمّا هبط بها جبرئيل وقال: لا ينبغي أن يأكلها في الدنيا الّا نبيّ أو وصيّ غيري؟» قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنت اقومهم بأمر الله، وأوفاهم بعهد الله وأعلمهم بالقضية وأقسمهم بالسوية، وأفقههم بالرعيّة»، غيري؟». قالوا: لا.

قال: «فهل فيكم أحد قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنت قسيم النار تخرج منها من آمن وأقرّ، وتدع فيها من كفر»، غيري؟». قالوا: لا. قال: فهل فيكم أحد قال للعين وقد غاضت انفجري)، فانفجرت فشرب منها القوم، وأقبل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والمسلمين معه فشرب وشربوا و شربت خيلهم وملأوا رواياهم، غيري؟ قالوا: لا.

قال: فهل فيكم أحد أعطاه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حنوطاً من حنوط الجنة، فقال: اقسم هذا أثلاثاً: ثلثاً حنّطني به، وثلثاً لابنتي، وثلثاً لك» غيري؟ قالوا: لا.

قال: فما زال يناشدهم ويذكر لهم ما أكرمه الله تعالى وأنعم عليه به حتّی قام قائم الظهيرة ودنت الصلاة، ثمّ أقبل عليهم فقال: «أمّا إذا أقررتم على أنفسكم، وبان لكم من سببي الذي ذكرت فعليكم بتقوى الله وحده، وأنهاكم عن سخط الله، فلا تعرضوا ولا تضيعوا أمري وردّوا الحق إلى أهله، واتبعوا سنة نبيكم صلی الله علیه و آله و سلم وسنّتي من بعده، فإنّكم

ص: 141

إن خالفتموني خالفتم نبيكم صلی الله علیه و آله و سلم، فقد سمع ذلك منه جميعكم وسلّموها إلى من هو لها أهل وهي له أهل. أما والله ما أنا بالرّاغب في دنياكم، ولا قلت ما قلت لكم افتخاراً ولا تزكية لنفسي، ولكن حدّثت بنعمة ربّي، وأخذت عليكم بالحجة»، ثمّ نهض إلى الصلاة.

قال: فتآمر القوم فيما بينهم وتشاوروا، فقالوا: قد فضّل الله عليّ بن أبي طالب بما ذكر لكم، ولكنّه رجل لا يفضّل أحداً على أحدٍ ويجعلكم ومواليكم سواءً، وإن ولّيتموه إيّاها ساوى بين أسودكم وأبيضكم ولو وضع السيف على عنقه، ولكن ولّوها عثمان، فهو أقدمكم ميلاداً، وألينكم عريكةً، وأجدر أن يتبع مسرّتكم والله غفور رحیم (1).

أقول: هذه المناشدة غير التي ذكرها علیه السلام لأبي بكر بعد حادثة السقيفة. وقد ذكر علیه السلام لأصحاب الشورى من فضائله وما نزل في حقّه من آيات وما قال فيه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم من الأحاديث الشيء الكثير خلال الأيام الثلاثة التي كانوا يجتمعون فيها، إلّا أنّ الشيخ الطوسي لم يعدّد تلك المآثر والفضائل إلّا (72) منقبة وفضيلة، وكل هذه التي ذكرت قد روتها كتب علماء الجمهور وبأسانيد صحيحة معتبرة قد بلغت من التواتر والشهرة ما لا يخفى على أدنى باحث.م.

ص: 142


1- أمالي الطوسي: 545 - 554، المجلس 20، الحديث 4 التحفة البهية في إثبات الوصية 1: 284 - 295، الحديث 2، ط 1، قم، 2004م.

قوله علیه السلام: فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره، مع هن وهن.

عرفت أنّ أعضاء الشورى الذين عيّنهم عمر بن الخطّاب هم ستة: عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وعثمان، وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.

وكان سعد من بني عم عبد الرحمن؛ كلاهما من بني زهرة وكان في نفسه شيء من علي علیه السلام من قبل أخواله؛ لأن أمّه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، ولعلي علیه السلام في قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور.

أمّا عبد الرحمن بن عوف كان صهراً لعثمان؛ لأن زوجته (أم كلثوم) بنت عقبة بن أبي معيط كانت أختاً لعثمان من أمه.

أمّا طلحة بن عبيد الله فكان ميّالاً لعثمان لصلاتٍ بينهما، وقد يكفي في ميله إلى عثمان انحرافه عن علي علیه السلام؛ لأنه تيميّ، وقد كان بين تيم وبني هاشم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر.

بعد موت عمر بن الخطّاب اجتمع الستة وتشاوروا فاختلفوا، فانضمّ طلحة في الرأي إلى عثمان، والزبير إلى عليّ، وسعد إلى عبد الرحمن، وكان عمر قد أوصى بألا تطول مدة الشورى على ثلاثة أيام، وقال: إذا كان الخلاف فكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن.

فأقبل عبد الرحمن على علي علیه السلام وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال عليّ:

ص: 143

أرجو أن أفعل وأعمل على مبلغ علمي وطاقتي. ثمّ دعا عثمان وقال له مثل ذلك فأجابه بنعم.

فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد حيث كانت المشورة، وقال: اللهم اسمع واشهد اللهم إنّي جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وصفق بيده في يد عثمان وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وبايعه.

قالوا: وخرج الإمام عليّ علیه السلام واجداً، فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن: والله لقد تركت علياً و أنّه من الذين يقضون بالحق و به يعدلون. فقال: يا مقداد، لقد تقصيت الجهد للمسلمين. فقال المقداد: والله إنّي لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أنّ رجلاً أقضى بالحق ولا أعلم به منه. فقال عبد الرحمن: يا مقداد، إنّي أخشى عليك الفتنة، فاتق الله.

ثمّ لمّا حدث في عهد عثمان ما حدث من قيام الأحداث من أقاربه على ولاية الأنصار و وجد عليه كبار الصحابة، قيل لعبد الرحمن: هذا عمل يديك. فقال: ما كنت أظن هذا به، ولكن لله عليّ الّا اكلّمه أبداً. ثمّ مات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان.

أعضاء الشورى:

تزداد أواصر المحبّة والولاء بين عمر وعثمان منذ كتابة العهد لعمر، وذلك يوم أغمي على أبي بكر وقبل أن يدلي بأمر الخلافة إلى آخر

ص: 144

من بعده، فهذا عثمان كاتب عهد أبي بكر كتب بعد البسملة: هذا ما أوصى به أبو بكر، أما بعد ... ثمّ أغمي ثمّ أغمي عليه، فكتب عثمان - من عند نفسه - عمر بن الخطّاب. فأفاق أبو بكر فقال: اقرأ، فقرأه فكبّر أبو بكر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي؟ قال: نعم. قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله. ثمّ أتم العهد وأمره أن يقرأه على الناس (1) (1)، ووفاءً لهذا الموقف واعترافاً لذاك الجميل الذي لولا عثمان وما كتبه في الصحيفة من تولية عمر الخلافة لما نالها ابن الخطاب أبداً.

أقول: وفاءً لكل ذلك صيّر عمر أمر الخلافة من بعده في شورى تتألّف من ستة أشخاص من كبار الصحابة، ولكن الهدف - كلّ الهدف - هو عثمان بن عفان وذوو لحمته من بني أميّة، وقد حذّر عمر بن الخطّاب هذه الزمرة من مغبّة الاختلاف في الشورى بعد أن ربط عثمان بعبد الرحمن بن عوف فهو صهره، كما لا يخفى ميل سعد بن أبي وقاص إلى صهره عبد الرحمن، وفي ذلك أوصاهم عمر بن الخطاب بكلمتين:

أوّلهما: قال: لا تختلفوا فإنّ معاوية وعمرو بن العاص لكم بالمرصاد.

والثانية: قوله: إذا تساوت الآراء في الشورى فمن معه عبد الرحمن هو الفائز، ومن خالف فاضربوا عنقه.ع.

ص: 145


1- شرح ابن أبي الحديد 1: 165 ط، دار إحياء التراث العربي، وفي ص 163 ورد عهد أبي بكر بصيغة أخرى، فراجع.

وبديهي أنّ الفائز مع عبد الرحمن هو عثمان، وأنّ المخالف لا يشك في كونه أمير المؤمنين علي علیه السلام، لذا أمرهم بقتله.

من هم أعضاء الشورى؟

أجمعت المصادر على أنّ الأعضاء هم:

1 - طلحة بن عبد الله التيمي. 2 - سعد بن أبي وقاص. 3 - عبد الرحمن بن عوف. 4 - الزبير بن العوام. 5 - عثمان بن عفان 6 عليّ بن أبي طالب.

آراء الخليفة عمر بن الخطاب فيهم:

قال عمر بن الخطاب في طلحة وكان مبغضاً له منذ أن أشار على ابن عمّه أبي بكر أن يعرض عن عمر في عهده له، حيث قال: (ماذا تقول إذا سألك الله كيف خلّفت على أمة محمّد هذا الفظّ الغليظ؟).

فتوجّه إليه أبو بكر فقال: أقول أم أسكت؟ أجابه طلحة: قل فإنّك لا تقول من الخير شيئاً. قال أبو بكر: أمّا إنّي أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أحد والبأو (1) الذي حدث لك ولقد مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب.

وقال فيه عمر: (أنّ طلحة رجل متكبر جشع).

(1) البأو: أي بأواً عليهم: فخر، تكبّر.

ص: 146

قال الجاحظ: الكلمة المذكورة: إنّ طلحة لمّا نزلت آية الحجاب قال بمحضر ممّن نقل عنه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ما الذي يغنيه حجابهن اليوم وسيموت غداً فننكحهنّ.

وقال الجاحظ: لو قال لعمر قائل: أنت قلت إنّ رسول الله مات وهو راضٍ عن الستة، فكيف تقول الآن لطلحة إنّه مات ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها، لكان قد رماه بمشاقصه. ولكن من الذي يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا؟

ولا يخفى على اللبيب أنّ عمر صاغ الشورى بشكل أن تؤدي الآراء إلى انتخاب عثمان بدون تردّد وما الشورى إلا مكيدة للإيقاع بعلي وبني هاشم، وقد نقلت لك كيف هدّد عمر أعضاء الشورى بمعاوية وعمرو بن العاص، وهو الذي قال في عثمان:

(وعثمان تقلّده قريش هذا الأمر فيحمل بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس ويؤثرهم بالفيء، فيسير إليه عصابة من ذوبان العرب فيذبحونه على فراشه ذبحاً).

وفي عبارة أخرى قال: (إن وليها سلّط بني معيط على رقاب المسلمين، فيتخذون عباد الله خولاً، ومال الله دولاً ...).

وأكّد قوله هذا بقوله الأخير: كأنّي بك قد قلّدتك قريش هذا الأمر لحبّها إياك ثمّ اعطف والله لئن فعلوا لتفعلن ولئن فعلت ليفعلن، ثمّ أخذ بناصية عثمان وقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنّه كائن.

ص: 147

هذا تصريح واضح من الخليفة الراحل وهو على فراش الموت، فهل تعتقد أنّها فراسة منه أم تدبير محكم في إقصاء الإمام عليّ من الخلافة وتقليدها لعثمان ابن عفان؟!

وفي سعد بن أبي وقاص قال عمر: (إنّه رجل لا يصلح إلا للقوس و النشاب - يقصد بذلك الحرب - ولا رأي له في الإدارة).

وفي عبد الرحمن بن عوف قال: (لا يصلح إلّا للعبادة).

وفي الزبير بن العوام قال: (إنّه يوم شيطان رجيم ويوم برّ رحیم).

وفي عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: (لله أنت لولا دعابة فيك، أما والله لئن ولّيتهم لتحملنّهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء).

هذه تصريحات دقيقة أدلى بها عمر بن الخطّاب وهو في سياق الموت. وقد عرفت عزيزي القارئ أنّ كلّ واحد من أصحاب الشورى متلبّس بخطايا وسلوك غير مرضٍ إلّا عليّ بن أبي طالب، وقد فتّش فيه أعداؤه ومبغضوه فلم يجدوا فيه إلّا خلة حسنة وهي الدعابة. ترى هل ذلك نقص في عليّ أو جميل وحسنٌ؟ وهل يجب على المؤمن أن يكون فظاً غليظاً أو يكون هشاً بشاً رؤوفاً بالمؤمنين عطوفاً عليهم؟

إذاً عليّ لا يقاس بأحد سواء من أعضاء الشورى الستة أم من غيرهم من الصحابة.

* * *

ص: 148

الفصل السابع

اشارة

قوله علیه السلام: «إلى أن قام ثالث القوم ...» وأراد به عثمان

سيرة عثمان بن عفان:

عثمان هو أحد الستة من أصحاب الشورى الذين عيّنهم عمر بعد أن طعن، ورشّحه عبد الرحمن بن عوف للخلافة، ثمّ ندم على ذلك، وأوصمه عثمان بالنفاق واعتزله عبد الرحمن؛ لأنّه لم يوف بالعهد من اتباع حدود الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.

بويع بالخلافة يوم السبت أول محرم سنة (24 ه_)، وقتل في المدينة يوم الجمعة في ذي الحجة سنة (35 ه_) عن عمر ناهز التسعين (1)، ودفن في (حش كوكب) وهو ملك لبعض اليهود.

لم يبلغ عثمان درجة أبي بكر ولا عمر ولا جميعاً في الحزم والعمل ولم يعرف عنه إلا دون أبي بكر في سبقته، ولم يعرف عنه شيء يذكر في الحروب والغزوات سوى هجرته للحبشة والمدينة.

وسوف نتطرق إلى شيء من أعماله وسلوكه واجتهاداته، وكيف

ص: 149


1- وقيل: ناهز الثمانين، على اختلاف في الروايات.

كان يعامل الصحابة معاملة خارجة عن المنطق السليم، وكيف كان يقرّب عشيرته وأبناء جلدته من بني أميّة حتّی صيّر الخلافة ملكاً عضوضاً لهم ...

اجتهادات عثمان وما فيها من مخالفات للنص القرآني:

روى الطبري، عن الواقدي، عن عمر بن صالح بن نافع، عن صالح مولى الثوامة، عن ابن عبّاس قال: أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين طبق الآية الكريمة، وعمل بما كان يعمله رسول الله والشيخان بها، وعمله نفسه لستّ سنوات، والآية هي: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة) (1) (2).

غير أنّ عثمان اتمّها بعد السنة السادسة في خلافته، فعابه على ذلك صحابة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وتكلّم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتّی جاءه علىّ في من جاءه فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت نبيّك يصلّي ركعتين، ثمّ أبا بكر ثمّ عمر، وأنت صدراً في ولايتك، فما أدري ما رجعك إليه؟ قال عثمان: رأي رأيته.

كما أخرجه مسلم في صحيحه، کتاب صلاة المسافر وقصرها 1: 258، عن يعلى بن أمية جاء فيه تأكيد للقصر.

ص: 150


1- النساء: 101
2- انظر: حوادث سنة 29 للهجرة من تاريخ الطبري 3: 322

وفي (صحيح مسلم) ايضاً عن ابن عمر جاء فيه التأكيد على قصر الصلاة في السفر زمن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وأبي بكر وعمر.

وفي (صحيح البخاري) عن ابن عبّاس 1: 131: قام النبي (19 يوماً) في مكة يقصر.

انظر تفصيل هذا الحدث في: الكامل لابن الاثير 3: 49. مسند أحمد 4: 94 و 2: 44. الموطأ لمالك 1: 282 سنن النسائي 3: 120. مسند أحمد بن حنبل 1: 378. كتاب الأم للشافعي 1: 159 و 7: 175 سنن البيهقي 3: 144 و 153. المحلّى لابن حزم 4: 270.

وهناك عشرات المصادر نقلت هذا التصرف من عثمان، وهو خلاف النصّ القرآني وسيرة النبي صلی الله علیه و آله و سلم وسيرة أبي بكر وعمر.

وقد أراد البعض أن يدافع عن عثمان فالتمس له عذراً، فذلك ابن قيّم الجوزية ادّعى أنّ لعثمان في ذلك المكان مالاً وأهلاً وقد تزوّج هناك.

غير أنّ أهل العلم والفقه والرواية من السنّة ردّوا هذا الادعاء وابطلوه، وعلى رأسهم ابن حجر في (فتح الباري) عمّا أخرجه أحمد البيهقي، قال: وقد كان عثمان محرماً ولا يجوز للمحرم أن يخطب أو ينكح.

وهذا ما روي عن عثمان نفسه عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأخرجه مالك في (الموطأ)، والشافعي في (الأم)، وأحمد بن حنبل في (المسند) ومسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، وأبو داود في سننه، وابن ماجه

ص: 151

في سننه، وفي ذلك قال ابن حزم في (المحلّى) 7: 197: لا يجوز نكاح المحرم، إن نكح نزع منه امرأته.

كان هذا التغيير والتلاعب بالنصوص والسنّة الشريفة هو في مقدّمة الطعون التي وجّهت إلى عثمان وعدّوها مهمة جداً.

تعطيل الحدود التي فرضها الله سبحانه:

من الملاحظات على عثمان في خلافته تعطيل الحدّ في القصاص وذلك لمّا وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله لا شيء إلّا لكونه صديقاً لأبي لؤلؤة.

أخرج البيهقي في (السنن الكبرى) 8: 61 مسنداً لعبيد الله بن عمر: أنّه لمّا طعن عمر بن الخطّاب بيد أبي لؤلؤة وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله، فقيل لعمر: إنّ عبيد الله - ولدك - قتل الهرمزان.

قال: ولم قتله؟ قال: إنّه قتل أبي. قال: وكيف ذلك؟ قال: رأيته قبل ذلك مستخلياً بأبي لؤلؤة، وهو أمره بقتل أبي قال عمر: ما أدري ما هذا، انظروا إذا أنا متّ فاسألوا عبيد الله البيّنة على الهرمزان هو قتلني؟ فإنّ أقام البينة قدمي بدمه، وإن لم يقم البينة فأقيدوا عبيد الله بالهرمزان.

فلمّا ولّي عثمان قيل له: ألا تمضي وصية عمر في عبيد الله بن عمر؟ قال: ومن ولي الهرمزان؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين. فقال: قد عفوت عن عبيد الله بن عمر.

وفي (تاريخ اليعقوبي): إن الناس أكثروا اللغط في دم الهرمزان

ص: 152

و امساك عثمان عن عبيد الله بن عمر، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ثمّ قال: ألا إنّي ولي دم الهرمزان وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر.

فقام المقداد بن عمرو فقال: إنّ الهرمزان مولى لله ولرسوله وليس لك أن تهب ما كان الله ولرسوله.

قال: فننظر وتنظرون: ثمّ اخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة وأنزله داراً، فنسب الموضع إليه (كويفة ابن عمر) (1).

وذكر ابن سعد حادثة الهرمزان وأنّ عبيد الله قتله وقتل معه ابنة أبي لؤلؤة وهي مسلمة، وأراد عبيد الله ألّا يترك سبياً في المدينة إلّا قتله، وأقسم على ذلك، فزجروه واشتدوا عليه، كما عرض بقتل بعض المهاجرين، فأخذوا سيفه وحبسوه.

وعن أبي وجزة، عن أبيه، قال: رأيت عبيد الله آنذاك وهو يناجي عثمان، وعثمان يقول له: قاتلك الله، قتلت رجلاً يصلّى وصبيّة صغيرة وآخر في ذمة رسول الله ما في الحق تركك، قال: فعجبت لعثمان حين ولّي كيف تركه. وكان رأي عليّ والصحابة قتله بمن قتل (2). كان عمل عثمان هذا خلافاً لصريح القرآن الكريم والسنة الشريفة، قال تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ...) (3).8.

ص: 153


1- تاريخ الیعقوبي 2: 141
2- انظر: تفصيل الحادثة في الطبقات الكبرى لابن سعده: 8، ط ليدن.
3- البقرة: 178.

وقال تعالى: (ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الالباب لعلّكم تتّقون) (1).

وقال تعالى: (الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ ...) (2)

حكم الجنابة عند عثمان:

جاء في (صحيح مسلم): أنّ زيد بن خالد الجهني أخبر عطاء بن يسار أنّه سأل عثمان بن عفان: أرأيت إذا جامع الرجل أمرأته ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضّأ كما يتوضّأ للصلاة ويغسل ذكره قال عثمان: سمعته من رسول الله (3).

بينما سئلت عائشة فقالت بوجوب الغسل باعتباره جنابة. وهذا يعني ما أسند إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فهو مكذوب عليه.

وفي (صحيح البخاري): سئل عثمان بن عفان عن الرجل يجامع فلا ينزل؟ فقال: ليس عليه غسل ثمّ قال: سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ونسب القول أيضاً إلى الإمام عليّ وطلحة والزبير وأبي بن كعب (4).

وقد وقع عمر بن الخطّاب في نفس المأزق، وقد ردّه الإمام علي علیه السلام ومنعه عن رأيه ذاك.

ص: 154


1- البقرة: 179
2- البقرة: 194.
3- صحیح مسلم 1: 142
4- صحيح البخاري 1: 109

إذاً ما نسبه عثمان إلى علي علیه السلام فهو مكذوب عليه. وقد شهد الجميع على أنّ الإمام علياً علیه السلام أفقه الصحابة وأقضاهم وأكثرهم علماً وإيماناً. وصريح الآية الكريمة: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتّی تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلّا عابري سبيلٍ حتّى تغتسلوا) (1).

ثمّ إنّ كتب الفقه عند فرق المسلمين تنصّ على الغسل من الجنابة وإن لم يكن فيه إنزال، بل يكفي التقاء الختانين (2).

أكله الصيد وهو محرم:

تكرّر من عثمان أكل الصيد وهو محرم، وهو عمل يخالف صريح القرآن المجيد، قال تعالى: (وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً) (3) ۔

أخرج سعيد بن منصور - كما ذكره ابن حزم من طريق بسر بن سعيد - قال: إنّ عثمان بن عفان كان يصاد له الوحش على الجنادل ثمّ يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته. ثمّ إنّ الزبير كلّمه فقال: ما أدري ما هذا يصاد لنا ومن أجلنا، لو تركناه، فتركه.

وهكذا تجد قريباً منه عند الإمام الشافعي والبيهقي والطبري

ص: 155


1- النساء: 43.
2- انظر: كتاب الأم للشافعي 1: 311، وهامشه ص 34. تفسير القرطبي 204:5 قال: الجنابة مخالطة الرجل المرأة. وصحيح البخاري 1: 108. صحيح مسلم 142:1. مسند أحمد 234:2 و 347. موطأ مالك:1: 51. الترمذي 1: 161.
3- المائدة: 96.

وأحمد بن حنبل، وممؤن شهد عثمان يأكل وهو حرم الإمام عليؤ صلی الله علیه و آله و سلم وقد نهاه عن أكله فلم يمتنع، وقد رفض عليّ أن يأكل من ذلك الصيد.

وأغرب من ذلك اعتراض عثمان على الإمام علیه السلام، كان يقول له: إنّك كثير الخلاف علينا. أمّا حرمة أكل لحم الصيد فهو متفق عليه عند فقهاء أهل السنة. راجع: أحكام القرآن للجصّاص 2: 586. تفسير الطبري 7: 48 المحلّى لابن حزم 7: 249 و 250. تفسير القرطبي 6: 322 الموطّأ لمالك 1: 257، وهكذا الصحاح والمسانيد فذكرها يطول.

ما أفتى به عثمان خلافاً للنص:

من اجتهادات عثمان بن عفان إنّه أفتى بحلّية الجمع بين الأختين وقد جاء النصّ القرآني صريحاً بالتحريم، قال تعالى: (حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم ... وأن تجمعوا بين الأختين ...) (1). فالآية تشمل الحرّة والأمة على حدٍّ سواء، والتحريم عليه إجماع الصحابة والمسلمين.

انظر: تفسير ابن كثير 1: 473. تفسير الشوكاني 1: 411. أحكام القرآن للجصّاص 2: 158. وتفسير الدر المنثور للسيوطي 2: 137. وتفصيل القصة في (الموطأ) لمالك 2: 10.

***

ص: 156


1- النساء: 23

الفصل الثامن

اشارة

قوله علیه السلام: «قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته ...»

أشار علیه السلام إلى عمل عثمان في احتضانه بني أميّة وبني أبي معيط ونهب الأموال والصدقات والتلاعب بأرزاق الناس، حتّی أثري عدد وافتقر الآخرون، وما ذاك إلّا للتصريح الذي أولى به عثمان في تقسيم الأموال، حيث قال: (هذا مال الله أعطيه من شئت، وأمنعه عمّن شئت، فأرغم الله انف من رغم).

إنّها الصدقات والأخماس والفيء والزكوات وكافة الأموال من الذهب والفضة التي تجبى من أقصى الشرق والغرب، إنّها أموال المسلمين، وإذا تقسّم بين صفوة الخليفة وبطانته من آل أميّة وآل أبي معيط ونسائه وخدمه، إنّها أموال المسلمين وهبها عثمان لنفرٍ من أقربائه ليعيشوا بها عيشة الملوك والسلاطين الجبابرة.

ص: 157

حاشية عثمان وبطانته وأركان دولته:

اشارة

من أهم الأمور التي ارتكبها عثمان في خلافته بعد مخالفاته العديدة لصريح القرآن والسنة الشريفة وسيرة أبي بكر وعمر هي:

أوّلاً: استعمال الفسقة من بني أميّة وبني آل معيط وقد حملهم على رقاب المسلمين.

ثانياً: اقتطاع أموال الصدقات والفيء والخمس من بيت المال وإعطائها إلى شيوخ بني أميّة، كأبي سفيان، ومروان، والحكم، وأمثالهم.

ثالثاً: تعطيل الحدود كما مرّ في قصة عبيد الله بن عمر والهرمزان.

رابعاً: إهانته لجملة من كبار الصحابة كابن مسعود، وعمّار، والإمام علي علیه السلام، وأبي ذر بل ونفى بعضهم (1) وضرب آخرين.

خامساً: إهانته لزوجات النبيّ ممّا دفع بعائشة أن تحرّض على قتله إذ قالت: اقتلوا نعثلاً فإنّه قد كفر.

وسوف نقتصر على بعض الشواهد لما أجملناه في الأمر الأول والثاني فحسب.

أولاً: استعمال عثمان الفسقة من بني أمية:

من الدواعي المهمة في نقمة المسلمين على عثمان هو اتخاذه فسقة

ص: 158


1- الفتنة الكبرى عثمان د. طه حسين ص 164 و 165 و 198، ط 9، دار المعارف بمصر.

بني أمية عمّالاً وجباة وولاة وتسليطهم على رقاب الناس، نذكر منهم نموذجين:

النموذج الأول: الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي وهو أخو عثمان من أمّه، كان أبوه عقبة - وأبو جهل وأبو لهب والحكم بن أبي العاص - من أشدّ وألد أعداء رسول الله في الجاهلية وهكذا في الإسلام.

وقد أغرى عقبة صديقه وخليله ألا وهو أبي بن خلف أن يبصق في وجه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ففعل (1)، فنزلت فيه الآيات (ويوم يعضّ الظّالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتّخذ فلانا خليلاً * لقد أضلّني عن الذّكر بعد إذ جاءني وكان الشّيطان للإنسان خذولا) (2)

انظر: تفسير الطبري 19: 6. تفسير الزمخشري 2: 326. تفسير الخازن 3: 365 تفسير الرازي 6: 369 تفسير ابن كثير 3: 317. تفسير القرطبي 13: 25. الدر المنثور 5: 68.

كان عقبة - اللعين - وأبو لهب والحكم بن أبي العاص ممّن يؤذون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بيته (3)، فكان أحدهم يطرح على الرسول صلی الله علیه و آله و سلم رحم الشاة وهو يصلّي.16

ص: 159


1- انظر: سيرة ابن هشام 1: 361، ط دار المعرفة بيروت.
2- الفرقان: 27 - 29
3- سيرة ابن هشام 2: 416

وفي (طبقات) ابن سعد: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: (كنت بين شرّ جارين؛ أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، وإذ كانا يأتيان بالروث فيطرحانه على بابي) (1).

هذا عقبة بن أبي معيط الذي بصق في وجه النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فتوعّده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إن ظفر به، وقد منّ الله على رسوله أن ظفر بعدو الله في أسرى بدر، ولم يكن ممّن قبل منه الفداء، فسلّمه النبيّ إلى عليّ ليضرب عنقه ففعل، ونزلت الآيات المتقدمة في حقّه. هذا شأن عقبة بن أبي معيط.

أمّا الوليد بن عقبة فهو الوليد الفاسق، كان على سرّ أبيه في العداء والفجور والكفر، وأسلم كرهاً، وبطن البغضاء والعداوة للإمام عليّ علیه السلام قاتل أبيه، وفي الوليد نزلت الآية الكريمة (2): (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) (3). وفي حق الوليد أيضاً نزلت الآية: (إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبيّنوا) (4).

فسق الوليد بن عقبة:

روى أبو الفرج الأصبهاني بسنده عن قتادة الدوسي في قوله

ص: 160


1- طبقات ابن سعد 186:1، ط مصر.
2- الاستيعاب لابن عبد البر 2: 62 أسد الغابة لابن الأثير الأثير ه: 90
3- السجدة: 18.
4- الحجرات: 6.

تعالى: (إن جاءكم فاسقٌ بنباٍ ...)، قال: هذا ابن أبي معيط الوليد بن عقبة، بعثه النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم إلى بني المصطلق مصدّقاً، فلمّا رأوه أقبلوا نحوه فهابهم، فرجع إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فأخبره أنّهم قد ارتدّوا عن الإسلام، فبعث النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبّت ولا يعجل، فانطلق حتّی أتاهم ليلاً فبعث عيونه، فلمّا جاؤوه أخبروه بأنّهم متمسّكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلمّا أصبحوا أتاهم خالد فرأى ما يعجبه فرجع إلى النبيّ علیه السلام فأخبره (1).

ويسند عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب علیه السلام: أنا أحدّ منك سناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ للكتيبة طعناً. فقال له عليّ علیه السلام: اسكت فإنّما أنت فاسق، فنزل القرآن: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) (2) (3).

وروى أبو الفرج بسنده عن أبي مريم الثقفي عن عليّ علیه السلام: إن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم تشتكي الوليد، وقالت: إنّه يضربها؛ فقال لها: ارجعي وقولي: إنّ رسول الله قد أجارني، فانطلقت فمكثت ساعةً ثمّ رجعت فقالت: ما أقلع عنّي، فقطع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هدبة من ثوبه ثمّ قال: امضي بهذا ثمّ قولي: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أجارني،

(1) الأغاني 5: 141

(2) السجدة: 18

(3) الأغاني 5: 140

ص: 161

فانطلقت فمكثت ساعةً ثمّ رجعت فقالت: يا رسول الله، ما زادني إلّا ضرباً، فرفع يديه صلی الله علیه و آله و سلم وقال: اللهم عليك الوليد، مرّتين أو ثلاثاً (1).

وروى أبو الفرج بسنده عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه، قال: لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلّا العبّاس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب والحكم بن أبي العاصي والوليد بن عقبة فأقبل الوليد يوماً فجلس، ثمّ أقبل الحكم فلمّا رآه عثمان زحل له عن مجلسه، فلمّا قام الحكم قال له الوليد: والله يا أمير المؤمنين، لقد تلجلج في صدري بيتان حين رأيتك آثرت عمّك على ابن أمّك.

فقال له عثمان: إنّه شيخ قريش فما البيتان اللذان قلتهما؟

قال: قلت:

رأيت لعمّ المرء زلفى قرابةٍ *** دوين أخيه حادثاً لم يكن قدما

فأمّلت عمراً أن يشبّ وخالدا *** لكي يدعواني يوم نائبةٍ عمّا

يعني عمراً وخالداً ابني عثمان.

قال: فرقّ له عثمان وقال له: قد ولّيتك العراق يعني الكوفة.

ولّما ولّى عثمان الوليد بن عقبة الكوفة، قدمها وعليها سعد بن أبي وقّاص، فأخبر بقدومه، فقال: وما صنع؟

قال: وقف في السوق فهو يحدّث الناس هناك ولسنا ننكر شيئاً41

ص: 162


1- الأغاني 5: 141

من شأنه، فلم يلبث أن جاءه نصف النهار فاستأذن على سعد فأذن له، فسلّم عليه بالإمرة وجلس معه، فقال له سعد ما أقدمك أبا وهب؟ قال: أحببت زيارتك. قال: وعلى ذلك، أجنت بريداً؟

قال: أنا أرزن من ذلك، ولكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرّحوني إليه، وقد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة، فمكث طويلاً ثمّ قال: لا والله، ما أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك! ثمّ قال:

خذيني فجرّيني جهاراً وأنشدي *** بلحم أمرىءٍ لم يشهد اليوم ناصره

فقال: أما والله لأنا أقّول للشعر وأروى له منك، ولو شئت لأجبتك، ولكنّي أدع ذلك لما تعلم. نعم، والله قد أمرت بمحاسبتك والنظر في إمر عمّالك، ثمّ بعث الى عمّاله فحبسهم وضيّق عليهم، فكتبوا إلى سعد يستغيثون، فكلّمه فيهم.

فقال: له أو للمعروف عندك موضع؟ قال: نعم والله. فخلّى سبيلهم. قال العوّام بن حوشب: إنّه لمّا قدم على سعد قال له سعد: ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعنّ أبا إسحاق، فإنّها هو الملك يتغذّاه قوم ويتعشاه آخرون. فقال له سعد: أراكم والله ستجعلونه ملكاً (1).

هذا هو الوليد الذي نزل فيه،قرآن، وقد ولّاه عثمان ابتداءٍ24

ص: 163


1- الأغاني 5: 124

صدقات بني تغلب، ثمّ يولّيه أكبر مصر في العالم الإسلامي، ألا وهي الكوفة، فيكون أميراً وحاكماً وإليه تجى الأموال من شرق البلاد وغربها، وإماماً يقتدى به في الصلاة، وإليه يرجع الناس في فتاواهم وأمورهم الدينية والدنيوية.

جرائم الوليد بن عقبة

وهي كثيرة نذكر منها:

1 - انّه سلب بيت مال المسلمين في الكوفة مرّات عديده، أوّلها أخذ منه مائة ألف دينار، فيعترضه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود القائم على بيت مال الكوفة، ويصرخ بالمسلمين ويذهب إلى عثمان في المدينة فيشتكي عنده.

ولكن ليس له إذن صاغية، بل يرى عثمان أنّ هذا تحدّياً وتجاوزاً على شرف بيت آل معيط وآل أمية، وعلى ابن مسعود أن يؤدّب؛ لأنّه تجاوز حدود السلطة، بل إنّ توبيخه وتعنيفه بات أمراً مسلّماً من الخليفة، فقال له: وما أنت والمطالبة؟ وهل أنت إلّا خازن لنا؟!

فما كان من الصحابي عبد الله بن مسعود إلّا أن يطرح المفاتيح قائلاً: كنت أظن أنّي خازن للمسلمين، وأمّا أنا خازن لآل أمية وآل بني معيط فلا حاجة لي إلى ذلك (1).

ص: 164


1- العقد الفريد 2: 272. الأنساب للبلاذري 30:5

2 - من جرائم الوليد أنه تجاهر بشرب الخمر بكرة وقبل صلاة الصبح، ثمّ أتى مسجد الكوفة وأمّ المسلمين وصلّى بهم والخمر تفوح من فمه وتدور برأسه، وقد صلّى بهم الصبح أربعاً، وتلا عليهم في القنوت هذا البيت:

ملك القلب الربابا *** بعد ما شابت وشابا

حتّى إذا فرغ من صلاته خاطبهم: هل أزيدكم؟

ثمّ تقيأ في المحراب ممّا حمل عليه المسلمون يرمونه بالحصا، فلم يجد بداً من الفرار حتّی هرع فارّاً والحصباء تلاحقه إلى بيته.

في ذلك يقول الحطيئة الشاعر جرول بن أوس العبسى:

تكلّم في الصلاة وزاد فيها *** علانيةً وجاهر بالنفاق

و مجّ الخمر في سنن المصلّى *** ونادى والجميع إلى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني *** فمالكم ومالي من خلاقي (1)

وذكر بعض المؤرخين أنِه كان يقول الوليد في ركوعه ذاك و سجوده: اشرب واسقني (2).

ونقل بعضهم أنّه قال: أزيدكم؟ بعد أن صلّى صلاة الصبح أربعاً، فقال له ابن مسعود: لا زادك الله خيراً ولا من بعثك إلينا.76

ص: 165


1- الأغاني 5: 125.
2- تاريخ أبي الفداء: 176

وأخذ فردة خفّه وضرب به وجه الوليد، وحصبه الناس فهرب وهو مترنح إلى القصر والحصباء تأخذه.

وفي هذا نقرأ الأبيات الآتية للحطيئة:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه *** أنّ الوليد أحق بالغدر

نادى وقد نفدت صلاتهم *** أ أزيدكم ثملا وما يدري

ليزيدهم خيراً ولو قبلوا *** منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهبٍ ولو فعلوا *** لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك أن جريت ولو *** خلّوا عنانك لم تزل تجري

أمّا المسلمون فيستشيطوا غضباً، فتقدم الوفود إلى المدينة شاكية تطلب من عثمان عزل واليه ابن عقبة، غير أنّ عثمان يضرب الشكاة وينكّل بالشهود، فتعلو الصرخات من كلّ زاوية، بل وحتّى زوجات النبي والصحابة الذين هم إلى عثمان أقرب قد اعترضوا على عثمان أشدّ الاعتراض، فهذا طلحة والزبير وعائشة وغيرهم يواجهون الخليفة بشدّة كي يعاقب الوليد، فيضطر إلى عزله ... لكن يحاول أن يصرف عنه الحد، إلّا أنّ الصحابة - وفي مقدّمتهم الإمام علي علیه السلام - يصرّون على إقامة الحد على الوليد، ولم يتصدّ لهذا إلّا أمير المؤمنين علي علیه السلام (1).42

ص: 166


1- انظر: تفصيل الحادثة في العقد الفريد 2: 273. الأغاني 5: 125 فتح الباري 44:7 مسند أحمد 144:1. سنن البيهقي 8: 318. تاريخ اليعقوبي 2: 142

قال أبو الفرج: أخبرني محمّد بن خلف وكيع، قال: قال حمّاد بن إسحاق: حدّثني أبي قال: ذكر أبو عبيدة وهشام بن الكلبي والأصمعي، قالوا: كان الوليد ابن عقبة زانياً شرّيب خمر فشرب الخمر وقام ليصلّي بهم الصبح في المسجد الجامع، فصلّى بهم أربع ركعات، ثمّ التفت إليهم وقال لهم: أزيدكم؟

وتقيّأ في المحراب وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته: علق القلب الرّبابا.

فشخص أهل الكوفة إلى عثمان، فأخبروه وشهدوا عليه بشربه الخمر، فأتي به فأمر رجلاً بضربه الحدّ، فلمّا دنا منه قال له: نشدتك الله وقرابتي من أمير المؤمنين فتركه فخاف عليّ بن أبي طالب علیه السلام أن يعطّل الحدّ، فقام إليه فحدّه، فقال له الوليد نشدتك بالله وبالقرابة، قال له علىّ: اسكت أبا وهب فإنّما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود، فضربه وقال: لتدعونّي قريش بعد هذا جلّادها (1).

فهل ينتهي عثمان عن محاباة الوليد؟ كلاً، فإنّ الرحم والعصبية الجاهلية فوق كلّ شيء عند الخليفة عثمان، فبعد هذا كلّه يستعمله على صدقات كلب وبلقين، وكأن الإسلام خلا من الصحابة الغيارى والمؤمنين الأمناء غير هذا الفاجر فيستعمله على الصدقات!

وفي الوليد بن عقبة - لمّا تشاجر مع علي علیه السلام نزلت فيه الآيات26

ص: 167


1- الأغاني 5: 126

تصّرح بفسقه وإيمان على علیه السلام - أنشد حسان بن ثابت شعراً قال فيه:

أنزل الله والكتاب عزيز *** في عليّ وفي الوليد قرانا

فتبوّا الوليد إذ ذاك فسقاً *** وعلي مبوّأٌ إيمانا

ليس من كان مؤمناً عمرك ال_ *** _له كمن كان فاسقاً خوّانا

سوف يدعى الوليد بعد قليل *** وعلي إلى الحساب عيانا

فعلي يجزى بذاك جناناً *** ووليد يجزي بذاك هوانا

وربّ جدٍ لعقبة بن أبان *** لا بسٌ في بلادنا تبّانا

النموذج الثاني: من ولاة عثمان أخوه من الرضاعة:

ولّى أخاه ابن أبي سرح الفاسق المرتد مصراً، وهو عبد الله بن أبي أخو سرح عثمان من الرضاعة ارضعتهما الأشعرية فكان السبب في قربه إلى عثمان.

نشأ هذا نشأة أموية، فهو في خلقه وسلوكه وسيرته وعدائه للنبي وللإسلام ولأهل البيت لا يختلف قيد أنملة عن آل أبي معيط وبني أمية.

سيرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح:

1 - أسلم قبل الفتح.

2 - هاجر إلى المدينة.

ص: 168

3 - ارتدّ وعاد إلى أحضان الشرك في زمن النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

4 - عاد إلى مكة وهو أشد بغضاً وعداءً على الإسلام ونبيه الأكرم.

5 - افترى على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و على المسلمين.

6 - أهدر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم دمه - لمّا فتح مكة - ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.

7 - نزلت في هذا اللعين آيات من الذكر الحكيم، منها قوله تعالى: (ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيءٌ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) (1).

أجمعت المصادر التاريخية وكتب التفاسير على أنّ هذه الآية نزلت في شأن (عبد الله بن سعد بن أبي سرح) لمّا كانت له من سابقة الكفر ثمّ إسلامه ثمّ ارتداده وافتراءاته على الله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم.

انظر: تفسير الرازي 4: 96 تفسير القرطبي 7: 40 تفسير البيضاوي 1: 391 تفسير الخازن 2: 37. تفسير الزمخشري 1: 461 تفسير الشوكاني 2: 33 تفسير النسفي على هامش تفسير

الخازن 2: 37.

انظر إلى هذا المرتد الكافر الذي نزل فيه قرآن وقد هدر النبي دمه غير أنّ عثمان - أخاه في الرضاعة - يستأمنه ويستوهبه من النبي، والنبي لم يجبه حتّی كرّر ذلك مرّات عديدة، إذ كان النبي صلی الله علیه و آله و سلم ينتظر من93

ص: 169


1- الأنعام: 93

يقوم إليه فيقتله، لكن جبن الذين من حواليه حتّی قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّما صمتّ كي تكون الحجّة لمن ينفذ أمري في هدر دمه قبل ائتمانه، فقال رجل من الأنصار: لو أومأت إليّ يا رسول الله، فقال: «إنّ النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين.

وعليك بالتفصيل من مصادر القوم: أنساب البلاذري 5: 49 سنن أبي داود 2: 220 الاستيعاب: لابن عبد البر 1: 381 أسد الغابة 3: 173 تفسير الشوكاني 2: 134. الإصابة 2: 317.

ولم يكتف ابن عفّان بهذا المقدار من جرائم هذا الفاسق المرتد، بل يدنيه ويقرّبه فيولّيه ثغراً من ثغور المسلمين وهو مصر أفريقيا العظيمة، ويقدّم له في ما قدّمه من الهدايا والمنح الكثيرة وجميع الصدقات والزكوات وما أفاء الله عليه من فتح أفريقيا من مصر وطرابلس وتونس والجزائر والمغرب دون أن يشاركه أحد، بل هي طعمة سائغة قدّمها عثمان لأخيه المرتد، وهي تربو على خمسمائة ألف دينار، ويحرم من هذه الأموال العظيمة كافة الفقراء والمساكين ومن له حق فيها!

وإذا جاءه معترض ليعترض قال له: هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه عمّن شئت رغم أنف من أبى واعترض (1).3.

ص: 170


1- انظر: أنساب الأشراف للبلاذري 5: 26 تاريخ ابن كثير 7: 152. شرح نهج البلاغة 67:1. وأسد الغابة لابن الأثير الأثير 3: 173.

كان هذا التصرّف السمج والتلاعب بأموال المسلمين من الأسباب المهمة في نقمة أهل مصر على ابن أبي سرح وعثمان الذي ولّاه فلم يجد أهل مصر مخرجاً من هذا المأزق إلّا الشكوى لعلّها تصلح من شأن تلك الأوضاع الفاسدة، فجاؤوا إلى عثمان يشكونه ممّا فرّط به ابن أبي سرح فأرسل عثمان كتاباً إلى واليه ظاهره فيه التوبيخ ولكن سرعان ما ألحقه بكتاب خلاف ذلك ينشد فيه التعذيب والتنكيل بأولئك النفر الذين قدموا إلى المدينة يحملون شكوى أخوانهم المصريين إلى عثمان.

وتكرّرت هذه الحالة، وفي المرة الأخيرة أخذ ابن أبي سرح الشكاة فأوسعهم ضرباً وتنكيلاً، ونال بعضهم حتفه على يد هذا الفاسق، ممّا توجّه عدد غفير من الشكاة يربو عددهم على السبعمائة شخص إلى عثمان والصحابة في المدينة وأرغموا عثمان على عزل واليه وإلّا يقتل.

هذا يسير من كثير في محاباة عثمان لبني أميّة واستعمال الفسقة منهم.

ثانيا: اقتطاع أموال بيت المسلمين لأقربائه:

السبب الثاني في الإجهاز على عثمان وقتله على يد المسلمين هو تلاعبه بالأموال والصدقات وما يرد عليه من الفيء وتقسيمه بين بطانته وأبناء عمومته والمقرّبين له من بني أميّة وآل معيط، نذكر منهم عدة نماذج:

ص: 171

النموذج الأول: الحكم بن أبي العاص:

الحكم هو عمّ عثمان، كان من ألد أعداء النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في مكة قبل الهجرة، وكان أحد الذين يؤذون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وممّن يعيبه ويستهزئ منه ويغمزه، حتّی دعى عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مرة حينما كان يغمزه وقال صلی الله علیه و آله و سلم: «اللهم اجعل به وزعاً»، فرجف مكانه وارتعش وظلت هذه الرعشة معه إلى آخر يوم من حياته.

قدم المدينة بعد فتح مكة واستمر في غمزه للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وقد هدّده النبيّ على سلوكه ذلك فلم يمتنع حتّی قال صلی الله علیه و آله و سلم: من عذيري من هذا الوزغ اللعين ونفاه وولده جميعاً إلى الطائف.

كان يتظاهر بالإسلام ويبطن الكفر والفسق والنفاق، ويحاول أن يلعب دوراً مع المشركين والمنافقين للوقيعة بالإسلام، ولطالما كاد للإسلام وللنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وما كان ذلك ليخفى على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم حتّی لعنه وطرده ونفاه إلى الطائف مع ولده.

انظر: اسد الغابة لابن الأثير 2: 34 وفي الأنساب للبلاذري 5: 27 ورد أنّ الحكم كان يؤذي النبي في مكة وهو أحد جيرانه.

أمّا اللعن: ورد لعن الحكم وولده على لسان النبي صلی الله علیه و آله و سلم في مصادر عديدة منها: المستدرك للحاكم النيسابوري 4: 481، وجاء فيه: أنّ رسول الله لعن الحكم وولده، وفي كنز العمال للمتقي الهندي 6:90 ورد فيه: عن عبد الله بن الزبير، شهد أنّ الرسول لعن الحكم وما

ص: 172

ولد.

وممن أکّد لعن النبيّ للحكم وولده جملة من أصحاب التفاسير والسير.

انظر: تفسير القرطبي 16: 197. شرح ابن أبي الحديد 2: 55 نهاية ابن الأثير 3: 23. اسد الغابة 2: 34 تفسير الكشّاف للزمخشري 3: 99. تفسير الرازي 7: 491.

و ممّن روى اللعن: ابن حجر في تطهير الجنان على هامش الصواعق ص 144، عن عمرو بن مرّة، قال: استأذن الحكم على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فعرف صوته، فقال: «إنذنوا له، لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلّا المؤمنين منهم وقليل ما هم ذو مكر وخديعة، يعطون الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق.

أخرجه البلاذري في الأنساب 5: 156، ونقله في السيرة الحلبية عن الواقدي 1: 337.

وفي الحكم قالت عائشة لمروان: سمعت رسول الله يقول لأبيك وجدّك أبي العاص بن أمية: «إنكم الشجرة الملعونة في القرآن».

تفسير الآلوسي 15: 107 تفسير الشوكاني 2: 231 السيرة الحلبية 1: 337 الدر المنثور للسيوطي 191:4.

وفي تفسر القرطبي 10:286 أنّ عائشة قالت لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه، وأنت بعض من لعنه الله، ثمّ اردفت قائلة: والشجرة الملعونة في القرآن.

ص: 173

النموذج الثاني: عطايا عثمان لمروان:

اتّضح قبل قليل أنّ مروان كان أحد الملعونين على لسان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فهو ابن الحكم بن أبي العاص، وهو طريد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

لكن العجب من عثمان أن يطلب من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أن يشفع له! فأبى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم واستمر على طلبه ذاك من أبي بكر وعمر فرفضا طلبه.

وإذا بعثمان في خلافته يتعدّى كلّ هذه الحدود غير آبه بالقرآن الكريم، ولا بالسنة ولا بسيرة الشيخين، إذ يستجيب للعصبيّة القبلية فيأتي بعمّه الحكم بن أبي العاص وبنيه الذين لعنهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وطردهم من المدينة، بل وقدّم لهم الأموال وسلّطهم على رقاب المسلمين، وقدّم ابنته زوجة لألد خصوم الإسلام، الطريد ابن الطريد مروان بن الحكم.

من هبات عثمان لابن عمه مروان:

1 - أقطع فدكاً لمروان بن الحكم، وكانت فدك صدقة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم منحها لابنته فاطمة علیها السلام. انظر: كتاب المعارف لابن قتيبة، ص 84. تاريخ أبي الفداء 1: 168.

2 - أخرج ابن عبد ربّه في العقد الفريد 2: 261 وافتتح عثمان أفريقيا وأخذ خمسها ووهبه لمروان. وانظر: شرح النهج للمعتزلي 1: 67

ص: 174

3 - وهب صدقات أفريقيا وما جبي له من الفيء والزكوات إلى مروان بن الحكم.

4 - إعطاؤه استحقاق قضاعة كلها لمروان.

موقف مروان في يوم الجمل:

عن أبي مخنف لمّا تضعضع أهل الجمل قال مروان: لا أطلب ثار عثمان من طلحة بعد اليوم، فانتحى له بسهم فأصاب ساقه فقطع أكحله، فجعل الدم يبضّ فاستدعى من مولى له بغلة فركبها وأدبر وقال لمولاه أما من مكان أقدر فيه على النزول، فقد قتلني الدم، فقال له مولاه: انج وإلّا لحقك القوم، فقال: بالله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا حتّی انتهى إلى دارٍ من دور البصرة فنزلها ومات بها.

ولا تعجب في مصرع طلحة أنّه أخذ بدعاء أمير المؤمنين علیه السلام، قال علیه السلام: في خطبته يوم الجمل: واعجباً لطلحة، ألبّ الناس على ابن عفان حتّی إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعاً ثمّ نكث بيعته، اللهم خذه ولا تمهله ... (1).

النموذج الثالث: هبات عثمان لسعد بن أبي وقاص:

كان سعد بن أبي وقاص والي عمر بن الخطّاب على الكوفة إذ هو

ص: 175


1- سفينة البحار 5: 325

الذي مصّرها، وهو أحد أعضاء الشورى الستة، وصهر عبد الرحمن بن عوف. أثرى سعد من الأموال والإبل ما لا يعدّ، يقول فيه صاحب (الطبقات) ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين مات مائتي ألف وخمسين ألفاً من النقود. وأشاد المسعودي بداره بالعقيق.

روى سعد بن أبي وقاص وأبناؤه عن أبيهم حديث المنزلة، بل روى في فضائل أمير المؤمنين علیه السلام أحاديث كثيرة، وهذا يعني أنّ سعداً كان يعرف مكانة الإمام علي علیه السلام عند الله وعند رسوله، وما له من سابقة في الإسلام ومناقب ما لا يمكن إحصاؤها و مع ذلك كان منحرفاً عن أمير المؤمنين علیه السلام سواء في سقيفة بني ساعدة أو يوم الشورى، أو عند بيعة الناس لأمير المؤمنين علیه السلام بعد مقتل عثمان. وهو الذي سأل أمير المؤمنين علیه السلام في مسجد الكوفة أمام الناس: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟

فأجابه علیه السلام: أنّ تحت كل شعرة شيطاناً.

وسعد هذا الذي روى عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قوله لعلى علیه السلام: ثلاث فضائل: حديث المنزلة، والراية والمباهلة ثمّ قال سعد: فلئن يكون لي منهن أحبّ إليّ من حمر النعم.

ذکر مسلم: أنّ معاوية أمر سعد بن أبي وقاص أن يسبّ علياً - أبا تراب - فذكر قول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لعلي: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى»، وقوله صلی الله علیه و آله و سلم: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّه الله، وقوله تعالى: ( ... ندع أبناءنا وأبناءكم).

ص: 176

كلّ هذه الفضائل وغيرها يرويها سعد بن أبي وقاص، ولكنه اعتزل أمير المؤمنين علیه السلام ولم يبايعه

النموذج الرابع: هبات عثمان للزبير:

كان الزبير زوج أسماء بنت أبي بكر، وله حظوة عند عائشة؛ لأنّها أخت زوجته والحانية على أولاده كعبد الله، حيث استطاعت عائشة أن تغذّيه البغض لعلي علیه السلام فجعلته مثلها من ألد الخصوم.

والزبير بن صفية بنت عبد المطلب وكان مع عليّ في يوم الشورى، ثمّ انقلب عليه وركن إلى عثمان الهباته وعطاياه ثمّ غدر به فكان هو وطلحة من المؤلّبين على عثمان حتّی قتل، ثمّ كانا في مقدّمة الذين بايعوا علياً بالخلافة لكنّهما نكثا بيعته وجهّزا الجيوش لحربه، فكانت واقعة الجمل.

إنّ أمير المؤمنين علياً علیه السلام دعا الزبير يوم البصرة وذكّره بكلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حيث قال له: تحاربه وأنت له ظالم ...، فيتذكر الزبير ويترك الحرب، فيعود ابنه - ربيب عائشة في سلوكه وعنصره - عبد الله يعيّره بأنه إنها خاف علياً.

إنّه الزبير ابن عمة عليّ وعلي ابن خال الزبير، ترى كيف عاقبة كلّ منهما؟!

هذا الزبير استحوذ على أموال وفيرة وعطايا جمة ابتزّها من بيت مال المسلمين وهبها له عثمان، لكن ليس من ماله الخاص بل هي

ص: 177

أموال الفقراء والمساكين من المسلمين حتّی بلغت نقوده عشرات الملايين، ودوره العشرات، وضياعه هنا وهناك في شرق البلاد وغربها.

قال البخاري: كان عنده - الزبير - من المال خمسون ألف ألف ومائتا ألف أي خمسون مليوناً ومائتا ألف.

وجاء في كتاب الجهاد: خلّف إحدى عشرة داراً بالمدينة، ودارين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر (1).

وفي (شرح البخاري) و (فتح الباري)، و(إرشاد الساري) و (عمدة القارىء): أنّ الصواب إنّ ما يملكه الزبير من المال كان تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف (2).

وأضاف ابن سعد في طبقاته: كان يملك الزبير في مصر بالإسكندرية وفي الكوفة في كلّ منهما خططاً، وله دور في البصرة، وله ضياع تفيض عليه الغلاة في اعراض المدينة (3).

وأخرج المسعودي: أنّ الزبير خلّف ألف فرس، وألف عبد، وألف أمة، وخططاً (4).

وهل اكتفى الزبير بهذا المال الوفير؟ كلا، بل كان يتمنّى الولاية والتسلط على رقاب الناس. فهل يروق للزبير أن يسمع كلام34

ص: 178


1- صحيح البخاري 5: 21
2- شذرات الذهب 43:1
3- طبقات ابن سعد 3: 77
4- مروج الذهب 1: 434

أمير المؤمنين عليّ علیه السلام لمّا ولّي الخلافة، حيث قال: إنّ من ابتز مالاً من بيت مال المسلمين أو منحه إياه عثمان أكثر من حقّه عليه أن يعيده ويحاسب عليه.

لهذا نرى الزبير يتّفق مع طلحة فينكثان البيعة، ويخرجان على حكومة أمير المؤمنين علیه السلام ويؤلّبان الناس على وصي رسول الله وخليفته بالحقّ.

فكانت حرب الجمل، وقد أصبح فيها الزبير مدجّجاً بالسلاح فناداه أمير المؤمنين: «يا زبير، أخرج إليّ»، فخرج شاكّاً في سلاحه، فقال له علي علیه السلام «و یحک یا زبير، ما الذي أخرجك؟». قال: دم عثمان.

قال علیه السلام: «قتل الله أولانا بدم عثمان، أمّا تذكر يوم لقيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بني بياضة وهو راكب حماره فضحك إلىّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وضحكت أنت معه فقلت أنت يا رسول الله، ما يدع عليّ زهوه فقال لك: ليس به زهو أتحبّه يا زبير؟ فقلت: إنّي والله لأحبّه. فقال لك: إنّك والله ستقائله وأنت له ظالم؟».

فقال الزبير: استغفر الله لو ذكرتها ما خرجت. فقال علیه السلام: يا زبير ارجع. فقال: وكيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان، هذا والله العار الذي لا يغسل. فقال علیه السلام: «ارجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار»، فرجع الزبير قائلاً:

اخترت عاراً على نار مؤججة *** ما إن يقوم لها خلقٌ من الطين

ص: 179

إلى آخر الأبيات.

فقال ابنه عبد الله: أين تدعنا؟ فقال يا بني: أذكرني أبو الحسن بأمر كنت قد أنسيته. فقال: لا والله، ولكنك فررت من سيوف بني عبد المطلب فإنّها طوال حداد تحملها فتية أنجاد.

قال: لا والله، ولكنّي ذكرت ما أنسانيه الدهر، أبالجبن تعيّرني لا أبا لك، ثمّ أمال سنانه وشدّ في الميمنة، فقال علي علیه السلام: «افرجوا له»، ثمّ رجع فشدّ في الميسرة، ثمّ رجع فشدّ في القلب، ثمّ عاد إلى ابنه فقال: أيفعل هذا جبان؟

ثمّ مضى منصرفاً حتّی أتى وادي السباع والأحنف بن قيس معتزل في قومه من بني تميم فلحق الزبير نفر من بني تميم فسبقهم إليه عمرو بن جرموز وقد نزل الزبير إلى الصلاة، فقال: أتؤمّني أو أؤمّك؟

فأمّه الزبير، فقتله عمرو في الصلاة، وكان له من العمر خمس وسبعون سنة.

أقول: وعاقبة الزبير كانت على إثر دعاء أمير المؤمنين علیه السلام حيث قال فيه: وإن الزبير نكث بيعتي وقطع رحمي وظاهر على عدوّي فاكفنيه اليوم بما شئت (1).م.

ص: 180


1- سفينة البحار 5: 325 ط دار الأسوة قم.

النموذج الخامس: هبات عثمان لطلحة:

هو طلحة بن عبيد الله التيمي ابن عم عائشة بنت أبي بكر وأقرب الناس إليها.

كانت رغبة عائشة في طلحة أن يتم أمر الخلافة إليه بعد عمر، وقد عاضدته على الانتقام من عثمان فجاء تأليبهما للإطاحة بحكمه والثورة عليه حتّی قتل.

وقد حاول طلحة أن يستولي على بيت مال المسلمين في المدينة وعثمان في الحصار حتّی توسّل عثمان بعلي، فقال: إذا كنت مأكولاً فكن أنت آكلي. فجاء عليّ وفتح بيت المال وقسّمه على مستحقّيه.

وفي طلحة يقول عثمان حينما كان يحرّض على قتله وهو محاصر في بيته: ويلي على ابن الحضرمية - يعني طلحة - أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً وهو يروم دمي ويحرّض على قتلي.

عن البلاذري: أنّ عثمان أوصل طلحة مائتي ألف دينار، وأخرج ابن الجوزي: أنّ طلحة خلّف ثلاثمائة جمل ذهباً، وكان لطلحة ما لا يحصى من الدور والضياع في مختلف البلاد. وقال ابن عبد ربّه: إنّهم وجدوا في تركة طلحة ثلاثمائة بهار من ذهب وفضة.

وقد ورد عن سفيان بن عيينة وإبراهيم بن محمد بن طلحة وسعدى أم يحيى ابن طلحة عمّا تركه طلحة من النقود من الذهب والفضة ما يفوق الملايين.

ص: 181

انظر تفصيل هذا وغيره في: أنساب البلاذري 75 مروج الذهب 1: 434. العقد الفريد 2: 279 طبقات ابن سعد 3: 158، ط ليدن. الرياض النضرة 2: 258.

روي أنّه لمّا كتب أبو بكر وصيّته في عمر وأرسلها بيد رجلين ليقرأها على الناس، قالا للناس هذا ما كتبه أبو بكر، فإن قبلتموه نقرأه والّا نردّه. فقال طلحة: اقرآه وإن كان فيه عمر. فقال له عمر: من أين عرفت ذكري فيه؟

فقال طلحة: ولّيته بالأمس وولّاك اليوم (1)!

النموذج السادس: هبات عثمان للحارث بن الحكم:

الحارث بن الحكم بن أبي العاص أخو مروان، وهو وأبوه وأخوته كانوا مطرودين من قبل النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى الطائف، وهو من تلك الشجرة الملعونة.

عاد من الطائف إلى المدينة مع أبيه وأصبح صهراً لعثمان على ابنته عائشة، ونال من عطاياه ما كان لجميع المسلمين الحق فيه. وهب له عثمان من بيت مال المسلمين ثلاثمائة ألف درهم. انظر: أنساب الأشراف للبلاذري 5: 52 ووهب له إبل الصدقات وهي حقوق المسلمين من الفقراء و المساكين كما في الأنساب للبلاذري 5: 28.

ووهب له ما تصدّق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من سوق جهروز على15

ص: 182


1- شرح المقاصد 2: 215

كافة المسلمين كما في (المعارف) لابن قتيبة ص 84، وشرح ابن ابي الحديد:1 67، ومحاضرات الراغب 2: 212.

النموذج السابع: هبات عثمان لعبد الله بن خالد الأموي:

عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، وهو صهر عثمان على ابنته. كتب له عثمان بستمائة ألف درهم يأخذها من مال المسلمين، وكان على بيت المال عبد الله بن عامر خازنه في البصرة (1).

وقيل: إنّ عبد الله بن خالد قدم على عثمان ومعه ناس غزاة، فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف درهم ولكل رجل ممّن معه بمائة ألف درهم بصك إلى خازن بيت المال في المدينة وهو عبد الله بن الأرقم فأبى هذا إعطاءهم ذلك من بيت المال واستكثر المبلغ لهم وامتنع أن يدفع لهم المال فوبّخه عثمان بقوله: فما منع أن تدفع ذلك لهم، وما أنت إلا خازن لنا؟

فأجابه ابن الأرقم: إنّما كنت أحسب نفسي خازناً للمسلمين لا خازنك أنت وما خازنك سوى غلامك، والله لا ألي لك بيت المال أبداً، وأتى بالمفاتيح وعلّقها على المنبر.

وقيل: أوكل بيت المال إلى معيقيب بن فاطمة وبعث إلى ابن الأرقم بثلاثمائة ألف درهم فأبى أخذها (2).58

ص: 183


1- تاريخ اليعقوبي 2: 145
2- الأنساب للبلاذري 5: 58

النموذج الثامن: عبد الرحمن بن عوف الزهري واستحواذه على المال:

كان عبد الرحمن الزهري صهر عثمان، وهو أحد الستة من الشورى، والذي هدّد علياً بالقتل إن لم يبايع لعثمان، وهو الذي أشار إليه عمر بن الخطّاب قبل موته، قال: إذا اجتمع ثلاثة وخالف ثلاثة فالخليفة من كان فيه رأي عبد الرحمن. وهو الذي صفق على يدي عثمان وخاطبه: السلام عليك يا أمير المؤمنين. إنّه كان مبغضاً للإمام عليّ علیه السلام، وهكذا صهره سعد بن أبي وقاص. اقتنى عبد الرحمن الزهري أمولاً طائلة فأثرى ثراءً واسعاً، فكان له من الإبل والغنائم والخيل والأراضي والذهب والفضة ما لا يطيق أحد عدّها أو إحصاءها.

قال اليعقوبي: إنّه طلّق إحدى نساءه الأربع، وبعد موته ادّعته بالإرث فورّثها عثمان من ربع الثمن ما يساوي مائة ألف دينار، وهذا يعنى أنّه كان يملك من النقد فقط ما يناهز ثلاثة ملايين دينار.

وقال المسعودي: إنّ عبد الرحمن ابتنى داراً ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً (1).

ص: 184


1- انظر: مروج الذهب 1: 434. تاريخ اليعقوبي 146:2. الرياض النضرة لمحب الدين الطبري 2: 291. صفوة الصفوة لابن الجوري 1: 138 طبقات ابن سعد 3: 96.

عرفت في ما سبق كيف حابي عبد الرحمن الخليفة عثمان وما ذاك إلّا للسببين:

الأول: البغض لعلي علیه السلام وبني هاشم.

الثاني: الطمع بعرض الدنيا وما يقدّمه عثمان له ولصهره سعد بن أبي وقاص من العطاء الجزيل والهبات، حتّی قيل: إنّ الذهب الذي تجمع عند عبد الرحمن بعد مماته كان يكسّر بالفؤوس.

بل إنّه كان يحابيه اليوم أن يحابيه عثمان بالخلافة، لكن سبحان الله لم تدم هذه المحاباة حتّی كانت بينهما البغضاء والخشونة والاعتراض والنقد، حتّی تعكّر الصفو بين عبد الرحمن وعثمان، فكان كلّما عاد إلى عثمان بلائمة غضب عليه وإذا به يتّهمه بالنفاق، وإذا به يطرده، وإذا به يمنع التحدث إليه، ويهجره.

ثمّ تصير الأمور أن يأتي عبد الرحمن إلى الإمام عليّ فيطلب منه أن يجرّد سيفه، وهو أول تابع له على عثمان. ولكن هيهات هيهات، فقد وصل السيل الزبى.

وقد أصبح عبد الرحمن أكثر ندماً لمّا نفي أبو ذر إلى الربذة وقد مات هناك وحيداً غريباً، فتذاكر مع عليّ في فعل عثمان، فقال له عليّ علیه السلام: هذا عملك، فيجيبه عبد الرحمن: إذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي، إنّه خالف ما أعطاني ...

قال الواقدي: ما كان من أصحاب محمد صلی الله علیه و آله و سلم أشدّ على عثمان من عبد الرحمن بن عوف حتّی مات، ومن سعد بن أبي وقاص حتّی مات عثمان.

ص: 185

وروي أنه ضجّ الناس يوماً حين صلّوا الفجر في خلافة عثمان، فنادوا بعبد الرحمن بن عوف فحوّل وجهه إليهم واستدبر القبلة ثمّ خلع قميصه من جيبه فقال: يا معشر أصحاب محمد، يا معشر المسلمين، اشهد الله واشهدكم أنّي قد خلعت عثمان من الخلافة كما خلعت سربالي هذا.

فأجابه مجيب من الصف الأول: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) (1). فنظروا من الرجل فإذا هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام.

تركة عثمان بن عفان:

لنختتم هذه الأرقام من سيرة بني أميّة بزعيم القوم عثمان بن عفان، تقول المصادر: يوم قتل عثمان خلّف ضياعاً كثيرة و دوراً وحليّاً وأبنية ونقوداً - من الذهب و الفضة - والإبل والمواشي والإماء والمماليك ما لا يعدّ!

وقد نقل أنّ ما نهب من أمواله التي كانت عند خازنه ثلاثون ألف ألف درهم وخمسون ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار، وألف بعير، وما يساوي من الصدقات في براديس وخيبر ووادي القرى بقيمة مائتي ألف دينار، وكان له ألف مملوك.

ص: 186


1- یونس: 91.

وقد عرفت الهبات والعطايا التي منحها لقومه، فقد بلغ ما أعطاه لخمسة عشر نفراً فقط: أربعة ملايين ونصف المليون دينار ومائة وسبعة عشر مليون درهماً، فهي بعض النقود التي اقتطعها من بيت مال المسلمين ثمّ وهبها للحكم وأولاده وابن أبي سرح وأبي سفيان، والوليد، ويعلى وزيد بن ثابت وطلحة و الزبير، وسعد بن أبي وقاص.

هذا وغيره من السلب والنهب دعا أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب علیه السلام لما بويع بالخلافة أن يبتدئ سيرته وعمله السياسي بقوله: ألا إنّ كلّ قطيعة اقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحق القديم لا يبطله شيء ...».

كان هذا إنذاراً خطيراً لأمثال طلحة بن عبيد الله، ويعلى بن أميّة والوليد بن عقبة و عبد الرحمن بن عوف، وأبي سفيان، وعبد الله خالد بن أسيد بن أبي العاص، وسعيد بن العاص، والحارث بن الحكم بن أبي العاص، وأمثالهم من بني أميّة وبني أبي معيط. ثمّ بدأ علیه السلام يسترجع أموال المسلمين إلى بيت المال غير أنّ هذه العدالة لا يرتضيها أرباب الأطماع، فجميع بني أميّة وآل معيط وجدوا أنّ الأمر يعنيهم وهذا الخطر محدق بهم، وأنّ يد العدالة لابد من أن تلاحقهم، لذا وجدوا خير سبيل لهم هو إثارة الفتن بين الناس وشنّ الحرب على وصي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وخليفته بالحقّ، فكانت حرب الجمل، ثمّ تبعتها حرب صفين، وأخيراً حرب النهروان ولم يمهلوه في تطبيق تلك العدالة

ص: 187

المنشودة حتّى فجعوا المسلمين بقتله في ليلة القدر من سنة (40 ه_).

ثالثا: تعطيل الحدود

لقد ذكرنا بعض الموارد منها: قصة عبيد الله بن عمر ومقتل (الهرمزان) فكان ينبغي على عثمان بن عفان أن يأخذ عبيد الله بدم الهرمزان إلّا أنّه لم يفعل، وقد مرّ الكلام في الصفحات المتقدمة فراجع.

وأمّا الأمر الرابع (1) والخامس (2) فقد مرّت الإشارة إليهما في الصفحات السابقة فراجع.

***

ص: 188


1- إهانة عثمان لكبار الصحابة.
2- إهانة عثمان لبعض زوجات النبيّ كعائشة.

الفصل التاسع

اشارة

قوله علیه السلام: «فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ ينثالون عليّ من كلّ جانب»

في بيعة أمير المؤمنين علیه السلام:

جاء في كتاب (الجمل): انّ الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لينظروا من يولّونه أمرهم حتّی غصّ المسجد بأهله فاتفق رأي عمّار وأبي الهيثم ابن التيهان ورفاعة بن رافع وسالك بن عجلان وأبي أيوب على إقعاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام في الخلافة، وكان أشدّهم تهالكاً عليه عمّار، فقال لهم: أيّها الأنصار، قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه وأنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم، وأنّ علياً علیه السلام أولى الناس بهذا الأمر؛ لفضله وسابقته.

فقالوا حينئذٍ بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار والمهاجرين: أيّها الناس، إنّا لن نألوكم خيراً وأنفسنا إن شاء الله، وإنّ علياً علیه السلام من قد علمتم، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه ولا أولى به.

ص: 189

فقال الناس بأجمعهم: قد رضينا وهو عندنا على ما ذكرتم وأفضل.

وقاموا كلهم فأتوا علياً علیه السلام فاستخرجوه من داره وسألوه بسط يده فقبضها، فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على ورودها حتّی كاد بعضهم يقتل بعضاً، فلمّا رأى ما رأى سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس، وقال علیه السلام: إن كرهني رجل واحد لم أدخل في هذا الأمر.

فنهض الناس معه حتّی دخل المسجد، فكان أول من بايعه طلحة. فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي: تخوّفت ألّا يتمّ أمره؛ لأنّ أول يد بايعته شلّاء.

ثمّ بايعه الزبير وبايعه المسلمون بالمدينة إلّا محمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقّاص، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت وعبد الله بن سلّام.

فأمر بإحضار عبد الله بن عمر فقال: بايع. قال: لا أبايع حتّی يبايع جميع الناس. فقال له عليّ علیه السلام: فاعطني حميلاً ألا تبرح. قال: لا أعطيك. فقال الأشتر له علیه السلام: إنّ هذا قد أمن سوطك وسيفك فدعني أضرب عنقه، فقال علیه السلام: لست أريد ذلك منه على كره، خلّوا سبيله، لقد كان صغيراً وهو سيء الخلق وهو في كبره أسوء خلقا.

ثمّ أتى بسعد بن أبي وقّاص فقال له بايع. فقال سعد: خلّني

ص: 190

فإذا لم يبق غيري بايعتك، فوالله لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبداً. فقال علیه السلام صدق خلوا سبيله.

ثمّ بعث على محمّد بن مسلمة، فلمّا أتاه قال له: بايع. قال: إنّ النبيّ أمرني إذا اختلف الناس وصاروا هكذا - وشبك بين أصابعه - أن أخرج بسيفي فاضرب عرض أحد، فإذا تقطع أتيت منزلي فكنت فيه لا أبرحه حتّی تأتيني يد خاطفة أو منية قاضية. فقال علیه السلام له: فانطلق إذاً فكن كما أمرت به.

ثمّ بعث إلى أسامة بن زيد فلمّا جاء قال له: بايع. فقال له: إنّي مولاك ولا خلاف منّي عليك، وستأتيك بيعتي إذا سكن الناس، فأمره بالانصراف. ولم يبعث إلى أحد غيرهم.

وقيل له: ألا تبعث إلى حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن سلام؟ فقال علیه السلام: لا حاجة لنا في من لا حاجة له فينا.

أقول: والذين تخلّفوا عن بيعة أمير المؤمنين علیه السلام هم: 1 - سعد بن أبي وقّاص 2 - عبد الله بن عمر 3 - أسامة بن زيد 4 - محمد بن مسلمة. - 5 - زيد بن ثابت 6 - حسان بن ثابت (الشاعر) 7 - مروان بن الحكم بن أبي العاص. 8 - عبد الله بن الزبير بن العوام. 9 - ولد عثمان بن عفان 10 مسلمة بن مخلد 11 - سعيد بن العاص 12 - الوليد بن عقبة بن أبي معيط. 13 - جماعة كانوا في دار عثمان يوم الحصار 14 - سفهاء بني أميّة وما أكثرهم. 15 - أبو سعيد الخدري.

ص: 191

عن زيد بن أسلم قال: جاء طلحة والزبير إلى عليّ وهو متعوّذ بحيطان المدينة فدخلا عليه وقالا: ابسط يدك نبايعك، فإن الناس لا يرضون إلّا بك.

فقال لهما: لا حاجة لي في ذلك لأن أكون لكما وزيراً خير من أن أكون لكما أميراً، فليبسط من شاء منكما يده أبايعه.

فقالا: إنّ الناس لا يؤثرون غيرك، ولا يعدلون عنك إلى سواك، فابسط يدك نبايعك أول الناس، فامتنع عليهم، إلّا بحضور الجميع في المسجد.

فقالا: بل نبايعك هاهنا ثمّ نبايعك في المسجد، فبايعاه أوّل الناس، ثمّ بايعه الناس على المنبر أوّلهم طلحة بن عبد الله وكانت يده شلّاء، فصعد المنبر فصفق على يده. ثمّ نزل طلحة والزبير وبايعه الناس بعدهما (1).

في كلام لأمير المؤمنين علیه السلام يعني به الزبير: يزعم أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه، فقد أقرّ بالبيعة وادعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف وإلّا فليدخل في ما خرج عنه» (2). 8

ص: 192


1- انظر: أنساب الأشراف ص 205. تاريخ الطبري 4: 428. العقد الفريد 4: 310. تذكرة الخواص: 57. الكامل في التاريخ 3:190 تاریخ مختصر الدول: 105. المغني 20: ق 2، ص 66. الفتوح لابن أعثمّ 12: 432.
2- نهج البلاغة: الخطبة رقم 8

والمقصود من العبارة هو الزبير بن العوام، وهو ابن صفيّة، وصفية عمّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعمّة أمير المؤمنين علیه السلام، وكان الزبير صهراً لأبي بكر، وأسماء بنت أبي بكر كانت زوجته.

لمّا قتل عثمان وبايع الناس لأمير المؤمنين علیه السلام كان طلحة والزبير أوّل من بايع، وكان الإمام علي علیه السلام يقول للزبير: أنّي الخائف أن تغدر بي وتنكث بيعتي قال: لا تخافن، فإنّ ذلك لا يكون منّي أبداً. فقال أمير المؤمنين علیه السلام: فلي الله عليك بذلك راعٍ وكفيل. قال: نعم، الله لك علي راع وكفيل.

فلمّا كان بعد أيام ندم من ذلك لما حدثت ذلك لما حدثت نفسه بالخلافة، وكان يقول: بايعت علياً بيدي لا بقلبي، وتارة يقول: أكرهت على البيعة، وتارة يقول: واريت تورية.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: هذا إقرار منه بالبيعة، وادعاء إنّه لم يبايع بقلبه لم يقم عليه دليلاً، فأمّا أن يقيم دليلاً على ما ادّعى أو يعود إلى طاعتي؛ لأنّ من بايع لغيره لا يجوز أن يأخذ لنفسه البيعة. والزبير بايع علياً ثمّ أعرض وعرّض نفسه في معرض الخلافة وكتب إلى معاوية: (أمّا بعد فإنّ الناس قد قتلوا عثمان وبايعوني، فإذا أتاك كتابي فبايع لي أنت وأشراف أهل الشام).

فلمّا قرأ معاوية كتب في جوابه:

بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية

ص: 193

بن أبي سفيان، سلام عليك، أما بعد فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوثقوا، فدونك الكوفة والبصرة وبها كنوز الرجال وعين الخلافة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، وقد بايعت لطلحة بن عبد الله من بعدك، وطلحة هو ابن عم لأبي بكر، فاظهر الطلب بدم عثمان وادع الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجدّ والتشمير.

فلمّا وصل الكتاب إلى الزبير أعلم به طلحة وأقرأه إياه، فلم يشكّا في النصح لهما من قبل معاوية وأجمعا على خلاف عليّ علیه السلام بعدما بايعا له.

وأوّل خلافهما أن جاءا إلى عليّ علیه السلام وطلبا منه أن يولّيهما المصرين البصرة والكوفة. فقال علیه السلام: ارضيا بقسم الله تعالى لكما واعلما إنّي لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه وأمانته، فدخلهما اليأس فاستأذناه للخروج إلى مكة للعمرة.

فقال علیه السلام: ما العمرة تريدان وإنّما تريدان الغدرة، ونكث البيعة. فحلفا له بالله أنّهما ما يريدان غير العمرة.

فقال لها: أعيدا البيعة لي ثانية، فاعاداها بأشدّ ما يكون من الأيمان والمواثيق، فأذن لهما، فلمّا خرجا من عنده قال علیه السلام لمن كان حاضراً: والله لا ترونهما إلّا في فتنة يقتتلان فيها.

قالوا: يا أمير المؤمنين أأمر بردّهما. قال علیه السلام: ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولمّا خرجا من المدينة لم يلقيا أحداً إلّا وقالا له: ليس لعلي

ص: 194

في أعناقنا بيعة، وإنّما بايعناه مكرهين.

فبلغ علياً علیه السلام قولهما، فقال: أبعدهما الله وأغرب دارهما، أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم. والله لا يلقيانني بعد اليوم إلّا في كتيبة خشناء يقتلان فيهما أنفسهما، فبعداً لهما وسحقاً.

فكان كما قال؛ لأنّ علياً هاجر إلى الكوفة وبايع أهل الكوفة له، وما مضت إلّا أيام قلائل حتّی سارت عائشة من مكة إلى البصرة ومعها الزبير وطلحة وهم يطلبون بدم عثمان. وخرج علي علیه السلام إليهم مع أصحابه فكانت وقعة الجمل.

حرية الانتخاب:

لم يمارس المسلمون عملية الانتخاب الحرّ في تعيين الخليفة الحاكم إلّا في عهد أمير المؤمنين علیه السلام وإن كان النص على خلافته لا يشك فيه إلّا المتخرّصون، ومع كل ذلك فلم يستطع المسلمون أن يدلوا بأصواتهم اتجاه الخليفة الأول والثاني والثالث، بل إنّها جاءت على رغم الأنوف.

فأمير المؤمنين علیه السلام أعاد الحريات المصادرة والمغتصبة إلى المسلمين بعد أن سلبها القوم بعيد رحيل النبيّ، وفي مقدمة تلك الحريات:

1 - حرية الرأي والتعبير.

ص: 195

2 - حرية الامتناع عن البيعة.

3 - حرية نقد الحكومة.

4 - حرية نقد الحاكم.

5 - حرية السؤال والمحاورة.

6 - حرية التعلم والرواية.

7 - حرية التنقل والهجرة من بلد إلى آخر.

فلم يستعمل علیه السلام القوة ولا السيف ولا الضرب ولا القيود ولا حرق البيوت في من امتنع عن بيعته، فهذا عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقّاص، وأسامة بن زيد ومحمّد بن مسلمة، قد تخلّفوا عن بيعته، واستأذنه عمار بن ياسر أن يأتي بهم ليجبرهم على البيعة كما جرت سنّة الخلفاء الثلاثة من قبل، فقال الله لعمّار: دع عنك هؤلاء الرهط الثلاثة؛ أما ابن عمر فضعيف في دينه، وأما سعد ابن أبي وقّاص فحسود، وأمّا محمّد بن مسلمة فذنبي إليه أنّي قتلت قاتل أخيه مرحباً يوم خيبر (1).ل.

ص: 196


1- المعيار والموازنه للأسكافي: 108 أقول: عبارة أمير المؤمنين واضحة البيان، فليس هناك ذنب، وهذا في علم البلاغة يسمى (مدح بما يشبه الذم) فكان ينبغي على محمّد بن مسلمة أن يقابل صنيع الإمام بالإحسان، وأقله كان عليه أن يبايع أمير المؤمنين كسائر المسلمين ومع ذلك لم يفعل.

ولم يمنع عطاء أحد ممّن خالفه في رأي أو في سياسة، بل كان يجري التقسيم بين المسلمين على السويّة ولا يفرّق في العطاء بين من هو محب له أو مبغض.

كما انّه علیه السلام لم يجبر أحداً من المسلمين على الحرب معه، بل ندبهم إلى نصرته، فخفّ إليه من استجاب له دعوته، وترك من تخلف عنه، وقد عاتبهم على سوء فعلهم ذلك ليس إلّا.

في من نكث بيعته علیه السلام:

أجمعت كتب التاريخ على أنّ طلحة والزبير هما أوّل من بايع الإمام علياً أمير المؤمنين علیه السلام في مسجد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، وكانا يطمحان بالإمارة، إلّا أن أمير المؤمنين علیه السلام لم يولّهما شيئاً من ذلك، فنكثا بيعتهما وخرجا عليه وقادا عائشة في حرب الجمل التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين.

وفي ذلك قال علیه السلام: اللهم إنّهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألبّا الناس عليّ فاحلل ما عقدا ولا تحكم لهما ما أبرما».

روى المدائني عن عبد الله بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي علیه السلام، فمررت بمكة فاعتمرت ثمّ قدمت المدينة فدخلت مسجد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم إذ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس وخرج عليّ علیه السلام متقلّداً سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمد

ص: 197

الله وصلّى على رسول الله ثمّ قال: «أمّا بعد، فإنّ الله تعالى لمّا قبض نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقّنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا فعصبونا سلطان نبیّنا، فصارت الإمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف، ويتعزّز علينا الذليل فبكت الأعين منّا لذلك، وخشنت الصدور، وجزعت النفوس. وأيم الله لو لا مخافة فرقة المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه، فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيراً، ثمّ استخرجتموني - أيها الناس - من بيتي فبايعتموني على شنآن منّي لأمركم، وفراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم، وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع - تعلمون ذلك وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرّقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم. اللّهم فخذهما بما عملا أخذة رابية، ولا تنعش لهما صرعة، ولا تقل لهما عثرة، ولا تمهلهما فواقاً، فإنّها يطلبان حقاً تركاه و دماً سفكاه. اللّهم إنّي اقتضيك وعدك فانّك قلت وقولك الحق: ولمن بغى عليه لينصرنه الله. اللّهم فأنجز لي موعدك ولا تكلني إلى نفسي، إنّك على كلّ شيء قدير» (1).

وفي طلحة والزبير لما نقضا البيعة، قال أبو جعفر الأسكاني ثمّ بعث عليّ علیه السلام بعمّار بن ياسر إلى طلحة والزبير وهما في ناحية المسجد08

ص: 198


1- شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد المعتزلي) 307:1 - 308

فأتاهما فدعاهما، حتّی جلسا إلى عليّ علیه السلام فقال لهما: نشدتكهما الله هل جئتماني طائعين لبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها؟!

قالا: نعم. فقال علیه السلام: غير مجبرين ولا مقسورين فاسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما؟! قالا: نعم. قال: فما دعاكما بعد إلى ما أرى؟!

قالا: أعطيناك بيعتنا على الّا تقضى الأمور ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كلّ أمر، ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت وأنت تقسم القسم وتقطع الأمر وتمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا.

فقال عليّ علیه السلام: لقد نقمتما يسيراً وأرجأتما كثيراً، فاستغفرا الله يغفر لكما. ألا تخبر اننى أدفعتكما عن حقّ واجب لكما فظلمتكما إيّاه؟ قالا: معاذ الله.

قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله. قال: أفوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟ قالا معاذ الله. قال: فما الذي كرهتما من أمري حتّی رأيتها خلافي؟

قالا: خلافك عمر بن الخطّاب في القسم، إنّك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا وسوّيت بيننا وبين ما لا يماثلنا في ما أفاء الله تعالى بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسراً ممّن لا يرى الإسلام إلّا كرها.

ص: 199

فقال: أمّا ما ذكرتموه من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة، ولكنّكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها فخفت أن أردّكم فتختلف الأمة، فلمّا أفضت إليّ نظرت في كتاب الله وسنّة رسوله فأمضيت ما دلّاني عليه واتبعته ولم احتج إلى رأيكما فيه ولا رأي غيركما ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنّة برهانه واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما.

وأمّا القسم والأسوة فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادىء بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

وأمّا قولكما: جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا، فقديماً سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بأسيافهم ورماحهم فلا فضّلهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في القسمة ولا اثرهم بالسبق، والله سبحانه موفٍ السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما - والله - عندي ولا لغيركما إلّا هذا. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر (1).2.

ص: 200


1- رواه ابن عقده، ونقله الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي في أواخر أماليه، وأبو جعفر الأسكاني في المعيار والموازنة: 112.

قوله علیه السلام: فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ...

قال أبو جعفر الأسكاني المعتزلي: فلمّا بلغه علیه السلام مسير طلحة و الزبير و عائشة إلى البصرة صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه وصلّى على محمّد النبي، فقال: قد سارت عائشة والزبير وطلحة، وكلّ يدّعي الأمر دون صاحبه، يطلبه طلحة؛ لأنّه ابن عمّ عائشة، ولا يرى الزبير إلّا أنّه أحق بالخلافة؛ لأنّه ختن عائشة!

فو الله لئن ظفروا بما يريدون - ولا يرون ذلك أبداً - ليضربنّ طلحة عنق الزبير، والزبير عنق طلحة. تنازعا شديداً على الملك.

والله إن راكبة الجمل لا تصعد عقبة ولا تنزل منزلاً إلّا إلى معصية الله وسخطه حتّی تورد نفسها ومن معها متالف الهلكة يقتل ثلثهم، ويهزم ثلثهم، ويتوب ثلثهم. والله لتنبحها كلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبر أو يتفكّر متفكر؟!

والله، إنّ طلحة والزبير ليعلمان أنّهما مخطئان وما يجهلان، ولربّ عالم قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه.

فتدبّروا - رحمكم الله - هذه الأنباء، ففيها التبيان والشفاء وتفهّموا ما يرد عليكم من الهدى، ولا يذهبنّ عنكم صفحاً لتعلموا أنّ أموره مبنيّة على يقين متقدّم، وعلم ثاقب، وحجّة بالغة، لا يهن عند الشدائد ولا يفتر عند النوازل، أمره في التقدم والبصيرة أمر واحد، لا يضجع في القول، ولا يفتر عند الإقدام ولا يفرّق بين حاله أيام

ص: 201

النبي صلی الله علیه و آله و سلم وبين هذه الحال في الجهد و الاجتهاد، والقوّة والعزم والبصيرة في جميع أموره، فلاحظوا أحواله لتعلموا أنّ أعماله مبنيّة على أساس اليقين، وأموره ماضية على البصيرة في الدين وأنّ هذه الأفعال لا يبيّنها إلّا علم نافذ، وأن أموره لا تتسق ولا تتفق إلّا لمن اعتمد على الثقة والمعرفة، وأيّد بالنصر من الله والملائكة.

ثمّ يعقّب الأسكافي فيقول: هذه روايتكم ظاهرة مكشوفة في ماء الحوأب بأسانيدكم عن الشّعبي، عن ابن عبّاس قال: طرقت عائشة وطلحة والزبير ماء الحوأب ومن معهم ليلاً - وهو ماء لبني عامر بن صعصعة - فنبحتهم كلاب الحوأب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال: قائل لعن الله أهل الحوأب ما أكثر كلابهم.

قالت عائشة: أي ماء هذا؟ فقال محمّد بن طلحة وعبد الله بن الزبير: هذا ماء الحوأب.

فقالت عائشة: والله لا صحبتكم، ردّوني ردّوني، إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: كأنّي بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت على امرأة من نسائي وهي في فئة باغية، ثمّ قال: «لعلّك أنت يا حميراء»، قالت: ثمّ دعا علياً فناجاه بما شاء ردّوني.

فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله يراك الناس والمسلمون فيصلح الله ذات بينهم. وقال طلحة: ليس هذا بحين رجوع ثمّ جاء عبد الله بن الزبير فقال: ليس هذا ماء الحوأب، وحلف لها على ذلك. قالت: وهل

ص: 202

من شاهد يشهد على أنّ هذا ليس ماء الحوأب؟

فأقاموا خمسين رجلاً من الأعراب يشهدون أنّه ليس ماء الحواب، وجعلوا لهم جعلاً، وكانت أوّل شهادة زور أقيمت في الإسلام (1).

بيان بعض الحقائق تخص الناكثين:

يطالعنا في هذه الخطبة المباركة ما رسمه الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في إبلاغه الناس حقائق كانت قد خفيت على الكثير منهم من تلك الحقائق:

أولاً: أنّ طلحة والزبير كلّ منهما يطلب الأمر والرئاسة لنفسه، فهما مجتمعان في الظاهر مختلفان في الباطن.

ثانياً: أنّهما إن ظفرا بالسلطة - ولا يظفران بها - فسوف يضرب أحدهما عنق الآخر، وسوف يتسابقان إلى الغدر.

ثالثاً: صرّح أنّ خروج عائشة خروج معصية، وفي ذلك معصية لله والرسول.

رابعاً: انّ مسير عائشة مع طلحة و الزبير سوف يوردهم الهلكة.

خامساً: انّ القوم يفلت منهم ثلثهم، ويقتل مثلهم، ويتوب

ص: 203


1- المعيار والموازنة: 53 - 56، تحقيق: محمد باقر المحمودي، ط 1، 1981

آخرون و هو الثلث الناجي.

ولمّا علم الناس أنّ الحرب واقعة وأمير المؤمنين خارج لقتال الناكثين لا محالة قال عقبة بن عمر يستعطف الإمام بأبيات فيها من الرقة والعاطفة ما لا يخفى:

بكت الأرض والسماء على الشّا *** خص منّا يريد أهل العراق

يا وزير النبيّ قد عظم الخط_ *** _ب وطعم الفراق مرّ المذاق

وإذا القوم خاصموك فقومٌ *** ناكسو الطرف خاضعو الأعناق

لا يقولون إذ تقول وإن قل_ *** _ت فقول المبرّز السّباق

فعيون الحجاز تذرف بالدّم_ *** _مع و تلك القلوب عند التّراقي

فعليك السّلام ما ذرّت الشم_ *** _ش ولاح السّراب بالرّقراق (1)

وفي هذا الجو المضطرب ينصح الإمام أمير المؤمنين علیه السلام الناكثين ويحذّرهم هول المطّلع، ويبعث برسائله إلى طلحة والزبير وعائشة، وقد أرّخ حكيم بن مناف هذه الصور، إذ كان يواكبها بنفسه فقال:

أبا حسن أيقظت من كان نائماً وما كلّ من يدعى إلى الحق يسمع وماكلّ من يعطى الرضا يقبل الرضا وما كل من أعطيته الحقّ يقنع وأنت أمرؤ اعطيت من كلّ وجهة محاسنها والله يعطي ويمنع6.

ص: 204


1- أمالي الطوسي: 716.

وما منك بالأمر المؤلّم غلظةٌ *** وما فيك للمرء المخالف مطمع

وإنّ رجالاً بايعوك وخالفوا *** هداك وأجروا في الضلال فضيّعوا

لأهلٌ لتجريد الصوارم فيهم *** وشمر العوالي والقنا تتزعزع

فإنّي لأرجو أن تدور عليهم *** رحى الموت حتّی يسكنوا ويصرّعوا

وطلحة فيها والزبير قرينه *** وليس لما لا يدفع الله مدفع

فإن يمضيا فالحرب أضيق حلقةً *** وإن يرجعا عن تلك فالسلم أوسع

وما بايعوه كارهين لبيعة *** وما بسطت منهم إلى الكره إصبع

ولا بطيا عنها فراقاً ولا بدا *** لهم أحدٌ بعد الذين تجمّعوا

على نقضها ممّن له شدّ عقدها *** فقصراهما منه أصابع أربع

خروج بامّ المؤمنين وغدرهم *** وعيب على من كان في القلب أشجع

وذكر هم قتل ابن عفّان خدعةً *** وهم قتلوه والمخادع يخدع

فعود عليًّ نبعة هاشمية *** وعودهما في ما هما فيه خروع (1)

حرب الجمل:

قال ابن أبي الحديد في (شرح النهج): برز علي علیه السلام يوم الجمل ونادى بالزبير: يا أبا عبد الله مراراً، فخرج الزبير، فتقاربا حتّی

ص: 205


1- انظر: الجمل: 177 مناقب ابن شهر آشوب 3: 179

اختلفت أعناق خيلهما، فقال له علي علیه السلام: إنّما دعوتك لأذكّرك حديثاً قاله لي ولك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأتذكر يوم راك وأنت معتنقي، فقال لك: أتحبّه؟ قلت: وما لي لا أحبّه وهو أخي وابن خالي! فقال: أما إنّك ستحاربه وأنت ظالم له. فاسترجع الزبير وقال: أذكرتني ما أنسانيه الدهر. ورجع إلى صفوفه.

فقال له عبد الله ابنه: لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به. فقال: أذكرني عليّ حديثاً أنسانيه الدهر، فلا أحاربه أبداً، وإني لراجع و تارككم منذ اليوم.

فقال له عبد الله: ما أراك إلاّ جبنت عن سيوف بني عبد المطلب، إنّها لسيوف حداد تحملها فتية أنجاد. فقال الزبير: ويلك أنهيجني على حربه؟ أما أنّي قد حلفت ألّا أحاربه. قال: كفّر عن يمينك، لا تتحدث نساء قريش أنّك جبنت وما كنت جباناً.

فقال الزبير: غلامي مكحول حرّ كفارة عن يميني، ثمّ أنصل سنان رمحه - أي انتزعها - و حمل على عسكر علي علیه السلام برمح لا سنان له. فقال علي علیه السلام: أفرجوا له، فإنّه محرج، ثمّ عاد إلى أصحابه، ثمّ حمل ثانية، ثمّ ثالثة، ثمّ قال لابنه أجبناً ويلك ترى؟ فقال: لقد أعذرت.

وفي شأن الزبير وحديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي ذكّره أمير المؤمنين قال ابن العوام أبياتاً وهو راجع ومصمّم على ترك القتال:

ص: 206

نادی عليّ بأمر لست أنكره *** وكان عمر أبيك الخير مذحين

فقلت حسبك من عذلٍ أبا حسنٍ *** بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني

ترك الأمور التي تخشى مغبّتها *** والله أمثل في الدنيا وفي الدين

فاخترت عاراً على نارٍ مؤجّجة ** أنّى يقوم لها خلقٌ من الطين (1)

و لما اعتزل الزبير الحرب وادبر عن الجيش سالكاً وادي السباع إذ مرّ بعسكر الأحنف بن قيس وهو يومئذ معتزل الفريقين، فأخبر الأحنف بمرور الزبير، فقال رافعاً صوته: ما أصنع بالزبير؟! لفّ غارين - جيشين - من المسلمين حتّی أخذت السيوف منهما مأخذها انسل وتركهم، أما إنّه لخليق بالقتل قتله الله فلحقه عمرو ابن جرمو وكان فاتكاً حتّى سايره بعض الطريق إلى أن حضرتهم الصلاة، فقام خلفه ثمّ شدّ عليه فقتله وأخذ سيفه وخاتمه ورجع بهما إلى الأحنف فأخبره، فقال: والله ما أدري أسأت أم أحسنت؟ اذهب إلى علي علیه السلام فاخبره، فجاء عمرو ابن جرموز إلى أمير المؤمنين علیه السلام وناوله سيف الزبير، فقال فيه الإمام علیه السلام: سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

فقال ابن جرموز: الجائزة يا أمير المؤمنين. فقال: أما إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار، وكان كما قال صلی الله علیه و آله و سلم إذ خرج ابن جرموز مع المارقين في النهروان فقتل معهم.33

ص: 207


1- شرح النهج (ابن أبي الحديد) 1: 233

أمّا الزبير فقد عرفت عاقبته؛ فهو في الأمس يؤلّب الناس على عثمان بن عفان مع صاحبه طلحة وعائشة واليوم يقف بصف الناكثين ضد الإمام أمير المؤمنين علیه السلام.

وقال ابن جرموز لمّا بشّر بالنار:

أتيت علياً برأس الزبي_ *** _ر أبغي به عنده الزّلفه

فبشّر بالنار يوم الحساب *** فبئست بشارةٌ ذي التحفه

فقلت له إنّ قتل الزبي_ *** _ر لولا رضاك من الكلفه

فإن ترض ذاك فمنك الرّضا *** وإلا فدونك لي حلفه

ورب المحلّين والمحرمين *** وربّ الجماعة والألفه

لسیّان عندي قتل الزبیر *** وضرطة عنزٍ بذي الجحفه

قوله علیه السلام: وقسط آخرون:

القاسطون هم: معاوية وعمرو بن العاص، وبسر بن أرطاة، وأبو العادية الفزاري، وأبو جوني السكسكي، وذو الكلاع، ومن والاهم، وأهل الشام.

اجتمعت كلمة هؤلاء على حرب أمير المؤمنين علیه السلام، فساروا حتّى نزلوا صفّين؛ موضع على الفرات من الجانب الغربي بطرف الشام وكان مسير أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام إليهم من الكوفة إلى صفّين لخمس خلون من شهر شوال سنة ستّ وثلاثين من الهجرة،

ص: 208

وكان معه من الجيش سبعون ألفاً، وعدة جيش أهل الشام خمسة وثمانين ألفاً، وقيل: غير ذلك.

وكانت الحرب في يوم الأربعاء أول صفر سنة سبع وثلاثين، وقد قتل بصفّين من أهل الشام سبعون ألفاً، ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً.

و ممّن قتل واستشهد مع أمير المؤمنين علیه السلام في يوم صفين: عمّار بن ياسر، وكان صحابياً وقد جاوز التسعين من عمره، وقبره بصفّين. كان شجاعاً سخياً جواداً وأديباً شاعراً مفلقا. اشترك في قتله أبو العادية الفزاري إذ طعنه برمحه، وقام عنده أبو جوني السكسكي ليحتز رأسه. ولما سقط عمّار على الأرض استسقى فأتي بلبن في قدح فلمّا رآه كبّر ثمّ شربه وقال: إنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن، وتقتلك الفئة الباغية، فهذا آخر أيّامي.

وكان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعمّار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية. وذو الكلاع هذا كان من رؤساء عسكر أهل الشام، وكان ستون ألفاً من الفرسان تحت إمرته، فقال لعمرو بن العاص: ويحك نحن الفئة الباغية، وكان في شك من ذلك، فيقول عمرو: إنّه سيرجع إلينا.

واتفق أنّه أصيب ذو الكلاع يوم أصيب عمّار، فقال عمرو بن العاص: لو بقي ذو الكلاع لمال بعامّة قومه ولأفسد علينا جندنا.

ص: 209

واحتج رجلان في صفّين في سلب عمّار وفي قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص يتحاكمان إليه، فقال: ويحكما اخرجا عنّي فإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: أولعت فريش بعمّار، وعمّار يدعوهم إلى الجنّة وهم يدعونه إلى النار.

ولما كثر القتل بين الصفّين قال أمير المؤمنين علیه السلام لكميل بن زياد: سر إلى معاوية وقل له: دعوناك إلى الطاعة والجماعة فأبيت وعندت، وقد كثر القتل بين المسلمين أبرز إلي حتّی تخلص الناس مما هم فيه فلمّا أدّى كميل رسالة عليّ علیه السلام قال معاوية لقومه: ما تقولون؟ فنهوه عن ذلك إلا عمرو بن العاص فإنّه قال: قد أنصفك، وإنّه بشر مثلك، فعيّره معاوية وقال: ما هذه العداوة أتظن أنّي إن قتلت تنال الخلافة والسلطنة؟

فقال عمرو: مازحتك. فقال معاوية:

ولقد رجعت وقلت مزحة مازح *** والمزح يحمله مقال الهازي

فأنشد عمرو بن العاص في جواب معاوية:

معاوي إن نكلت عن البراز *** لك الويلات فانظر في المخازي

معاوي ما اجترمت إليك ذنباً *** وما انا بالذي حدثت هازي

وما ذنبي بأن نادى عليّ *** وكبش القوم يدعى للبراز

فلو بارزته بارزت ليثاً *** حديد الناب يخطف كلّ باز

أضبعٌ في العجاجة يا بن هند *** وعند الباه كالتيس الحجازي

ص: 210

فانصرف كميل وأخبر علياً علیه السلام بما جرى، فتبسم عليّ علیه السلام وضحك الأشتر.

وفي (مناقب الخوارزمي): كان معاوية على تل مع وجوه قريش ينظر إلى عليّ علیه السلام يقتل كلّ من بارزه، فقال معاوية: لقد دعاني عليّ إلى البراز حتّی استحييت من قريش.

فقال أخوه عتبة بن أبي سفيان: دع عنك هذا كأن لم تسمعه، فقد علمت أنّه قتل حريثاً وفضح عمراً وقتل كلّ من برز إليه، وإنّما يقوم مقامك بسر بن أرطاة.

فقال بسر: ما كان أحد أحق بمبارزته من ابن حرب، فأمّا إذا أبيتموه فأنا له. وكان لبسر ابن عم فقال:

فأنت یا بسر إن كنت مثله *** وإلّا فإن الليث للضبع آكل

كأنّك يا بسر بن أرطاة جاهل *** بشدّاته في الحرب أو متجاهل

متى تلقه فالموت في رأس رمحه *** وفي سيفه شغل لنفسك شاغل

ومن بعده في آخر الخيل عاطف *** وما قبله في اول الخيل حامل

فقال بسر: خرج مني شيء فإنّي استحي أن أرجع عما قلت، فغدا سر إلى المعركة فرأى علياً علیه السلام في أول الخيل منقطعاً عن خيله مع الأشتر وهو يريد التل ويقول:

أنا عليّ فاسألوني تخبروا *** ثمّ ابرزوا لي في الوغى وأبدروا

سيفي حسام وسناني أزهر *** منا النبي الطاهر المطهر

ص: 211

فاستقبله بسر قريباً من التل فطعنه علىّ علیه السلام وهو لا يعرفه إنّه بسر، فانحنی سیفه بيده فصرعه عليّ علیه السلام على وجهه فانكشفت عورته، فانصرف عنه عليّ علیه السلام، فناداه الأشتر: يا أمير المؤمنين، إنّه بسر بن أرطاة، فقال علیه السلام: دعه. فحمل ابن عم بسر على عليّ علیه السلام فحمل الأشتر عليه وهو يقول:

أكلّ يومٍ رجل شيخ شاغره *** وعورة وسط العجاج ظاهره

وطعنه الأشتر فكسر صلبه، وقام بسر من ضربة علىّ علیه السلام وولّى فرسه، وناداه أمير المؤمنين علیه السلام: يا بسر، كان معاوية بهذا أحق منك.

وفي ذلك يقول النضر بن حارث:

أفي كلّ يوم فارس تندبونه *** له عورة وسط العجاجة باديه

یکف بها عنه على سنانه *** ويضحك منها في الخلاء معاويه

بدت أمس من عمر و فقنع رأسه *** وعورة بسر مثلها حذو حاذيه

فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا *** سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه

أقول: إنّ وقائع صفّين كثيرة وسردها يطول، وليس نحن بصددها، وقد ذكرنا مقتطفات منها في كتابنا (الأدب السياسي في صدر الإسلام)، فراجع (1)44

ص: 212


1- الأدب السياسه: 211 - 244

قوله علیه السلام: ومرقت أخرى ...

المارقون هم الذين مرقوا من دين الله واستحلّوا القتال من خليفة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وسمّوا بالخوارج لأنّهم كانوا في جند العراق مع أمير المؤمنين ولمّا كانت وقعة صفّين وكاد معاوية ينهزم أشار عمرو بن العاص برفع المصاحف، وهي الحيلة التي انخدع بها قوم من جند العراق واصرّوا على قبول التحكيم وأمير المؤمنين علیه السلام يحذّرهم من هذه الخدعة فلم يقبلوا نصيحته، وكادوا يقتلونه أو يسلمونه إلى معاوية إن لم يقبل التحكيم، فقبله مكرها والسيوف مشهورة عليه، ثمّ اختاروا أبا موسى الأشعري للتحكيم وأمير المؤمنين علیه السلام اختار لهم ابن العبّاس فلم يرضوا به.

ولمّا رجع جند العراق من صفّين شعر القوم بالخذلان والخسران فخرج من بينهم اثنا عشر ألفاً وهم الذين أناخوا في موضع اسمه النهروان من أرض العراق على بعد أربعة فراسخ من بغداد

وكان على رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية.

لمّا قسم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غنائم حنين - وقيل: غنائم هوازن - أقبل رجل طويل من آدم بين عينيه أثر السجود فسلّم ولم يخصّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، ثمّ قال: قد رأيتك وما صنعت في هذه الغنائم.

فقال صلی الله علیه و آله و سلم: وكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت فغضب رسول

ص: 213

الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: ويلك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال المسلمون: ألا نقتله؟

فقال صلی الله علیه و آله و سلم: دعوه فإنّه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقتلهم الله على يد أحبّ الخلق إليه من بعدي. فقتله أمير المؤمنين علیه السلام في من قتل يوم النهروان من الخوارج (1).

وعن شريك بن شهاب قال: كنت أتمنّى أن ألقى رجلاً من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يحدّثني عن الخوارج، فلقيت أبا برزة في يوم عرفة في نفر من أصحابه فقلت: يا أبا برزة، حدّثنا بشيء سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقوله في الخوارج.

قال: أحدّثك بما سمعت أذناي ورأت عيناي: أتي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بدنانير فكان يقسّمها وعنده رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان بين عينيه أثر السجود، فتعرّض لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأتاه من قبل وجهه فلم يعطه شيئاً، فأتاه من قبل يمينه فلم يعطه شيئاً، ثمّ أتاه من خلفه فلم يعطه شيئاً.

فقال: والله يا محمد ما عدلت في القسمة منذ اليوم. فغضب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غضباً شديداً ثمّ قال: والله لا تجدون بعدي أحداً أعدل عليكم منّي، قالها ثلاثاً.79

ص: 214


1- انظر تفصيل ذلك في صحيح البخاري 4: 179

ثمّ قال: يخرج من قبل المشرق رجال كأنّ هذا منهم، هديهم هكذا، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يرجعون إليه. ووضع يده على صدره. سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتّی يخرج آخرهم فإذا رأيتموهم فاقتلوهم! قالها ثلاثاً شر الخلق والخليقة، قالها ثلاثاً. وقال حماد: لا يرجعون فيه.

رواه أحمد والأزرق بن قيس، ووثّقه ابن حبّان، وبقية رجاله رجال الصحيح (1).

اتسمت عقائد الخوارج بالتطرّف الشديد حتّی إنّهم كفّروا كلّ من يخالفهم من المسلمين، بل أباحوا الدماء والأعراض.

قال الطبري: خرجت عصابة منهم فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار فعبروا إليه فدعوه فتهددوه وأفزعوه، وقالوا له: مَن أنت؟

قال أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثمّ أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض وكان سقط عنه لمّا أفزعوه فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم. قالوا له: لا روع عليك، فحدّثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي صلی الله علیه و آله و سلم لعل الله ينفعنا به.

قال: حدّثني أبي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أنّ فتنة تكون يموت فيها53

ص: 215


1- فتح الباري 12: 253

قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمناً ويصبح فيها كافراً، ويصبح فيها كافراً ويمسي فيها مؤمناً.

فقالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنّه كان محقّاً في أوّلها وفي آخرها قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنّه أعلم بالله منكم وأشدّ توقيّاً على دينه وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنّك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها. والله لنقتلك قتلةّ ما قتلناها أحداً.

فأخذوه فكتّفوه ثمّ أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم حتّی نزلوا تحت نخل واقر ... فأضجعوه فذبحوه وسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: إنّي إنّما أنا امرأة ألا تتقون الله؟! فبقروا بطنها!

فبلغ ذلك علياً ومن معه من المسلمين من قتلهم عبد الله بن خباب واعتراضهم الناس، فبعث إليهم الحارث بن مرّة العبدي ليأتيهم فينظر في ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه على وجهه ولا يكتمه، فخرج حتّی انتهى إلى النهر ليسائلهم، فخرج القوم إليه فقتلوه وأتى الخبر أمير المؤمنين علیه السلام و الناس، فقام إليه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا، سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام.

ثمّ جاء مقبلاً إليهم ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر،

ص: 216

وبعث إلى أهل النهر: ادفعوا الينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثمّ أنا تارككم وكاف عنكم حتّی ألقى أهل الشام، فلعل الله يقلب قلوبكم ويردّكم إلى خير ممّا أنتم عليه من أمركم. فبعثوا إليه فقالوا: كلّنا قتلتهم وكلّنا نستحلّ دماءهم ودماءكم (1).

ولمّا اصطف الجيشان للقتال قال أمير المؤمنين علیه السلام لأصحابه: لا تبدؤوهم بقتال. قال البغدادي في تاريخه (2): فبدأ الخوارج فرموا، فقيل: يا أمير المؤمنين قد رموا. قال: فأذن لهم بالقتال.

ثمّ قال علي علیه السلام: نقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية، فلمّا طحن القوم ورام استخراج ذي الثدية، فقال لمن حاذاه من الركب: اقطع أربعة آلاف قصبة وركب بغلة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: اطرح على كلّ قتيل منهم قصبة فلم أزل كذلك وأنا بين يديه وهو راكب خلفي، والناس يتبعونه حتّی بقيت في يدي واحدة، فنظرت إليه وإذا وجهه أربد وإذا هو يقول: والله ما كذبت ولا كذّبت فاذا خرير ماء عند موضع دالية، فقال: فتش هذا ففتشته فإذا قتيل قد صار في الماء، وإذا رجله في يدي فجذبتها وقلت: هذه رجل إنسان، فنزل عن البغلة مسرعاً، فجذب الرجل الأخرى وجررناه حتّی صار على التراب، فإذا هو المخدج، فكبّر عليّ بأعلى صوته ثمّ سجد، فكبّر الناس14

ص: 217


1- تاريخ الطبري 60:4
2- تاریخ بغداد 368:14

كلّهم (1).

ولم يفلت من هذه الحرب من الخوارج إلّا تسعة، ولم يقتل من أصحاب علىّ الأدون العشرة.

وقد سار أولئك التسعة إلى جهات متفرّقة؛ سار منهم رجلان إلى سجستان ورجلان إلى عمان ورجلان إلى اليمن، ورجلان إلى ناحية الجزيرة، ورجل إلى تل مورون في اليمن، فالخوارج في هذه البلاد من أتباع هؤلاء (2).

وللخوارج عدة أسماء: سمّوا أولاً المحكمة؛ لقولهم عندما اعترضوا على التحكيم: (لا حكم إلّا الله). ثمّ سموا بالحرورية نسبة إلى حروراء، وهي قرية قرب الكوفة خرجوا إليها أول الأمر، وسمّوا الشراة، ومفردها شارٍ كأنّهم - حسب زعمهم - شروا أنفسهم، أي باعوها لله تعالى. وسمّوا بأسماء زعمائهم والتي أصبحت فيما بعد فرقاً وأحزاباً، كالإباضية نسبة إلى عبد الله بن إباض، والأزارقة نسبة إلى نافع بن الأزرق (3).

روي في (غاية المرام) عن (أمالي) الشيخ بإسناده عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد الله الصادق علیه السلام، عن أبيه عن جدّه علیه السلام، قال: بلغ76

ص: 218


1- شرح النهج لابن أبي الحديد 2: 276.
2- الفتوح لابن أعثمّ 4: 132. والملل والنحل 117:1.
3- انظر كتابنا (الأدب السياسي في صدر الإسلام): 245 - 276

أمّ سلمة زوجة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أنّ مولى لها ينتقص علياً علیه السلام ويتناوله فأرسلت إليه، فلمّا صار إليها قالت له يا بني، أنّك تنقص علياً وتتناوله؟

قال: نعم يا أمّاه. قالت له: اقعد ثكلتك أمّك حتّی أحدّثك بحديث سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثمّ اختر لنفسك. إنّا كنّا عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ليلة تسع نسوة، وكانت ليلتي ويومي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأتيت الباب فقلت: أدخل يا رسول الله؟

قال: لا فكبوت كبوة شديدة مخافة أن يكون ردّني من سخطه أو نزل فيّ شيء من السماء ثمّ لم ألبث حتّی أتيت الباب الثاني، فقلت: أدخل يا رسول الله؟ فقال: لا، فكبوت كبوة أشدّ من الأولى. ثمّ لم ألبث حتّی أتيت الباب الثالث، فقلت: أدخل يا رسول الله؟

فقال: ادخلي يا أم سلمة، فدخلت وعلي علیه السلام جالس بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إذا كان كذا وكذا فما تأمرني؟

قال: آمرك بالصبر، ثمّ أعاد عليه القول ثانية فأمره بالصبر، فأعاد عليه القول الثالثة فقال له: يا عليّ يا أخي إذا كان ذلك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك واضرب قدماً قدماً حتّی تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم. ثمّ التفت صلی الله علیه و آله و سلم إليّ فقال لي: تالله ما هذه الكآبة يا أمّ سلمة؟

قلت: الذي كان من ردّك يا رسول الله، فقال لي: والله ما رددتك

ص: 219

من موجدة، وإنّك لعلى خير من الله ورسوله، ولكن أتيتني وجبرائيل يخبرني بالأحداث التي تكون بعدي فامرني أن أوصي بذلك علياً.

يا أمّ سلمة اسمعي واشهدي: هذا عليّ بن أبي طالب أخي في الدنيا وأخي في الآخرة. يا أمّ سلمة اسمعي واشهدي: هذا عليّ بن أبي طالب حامل لوائي في الدنيا وحامل لواء الحمد غداً في القيامة. يا أمّ سلمة، اسمعي واشهدي: هذا عليّ بن أبي طالب وصيّي وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي والذائد عن حوضي يا أمّ سلمة، اسمعي واشهدي: هذا عليّ بن أبي طالب سيّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

قلت: يا رسول الله من الناكثون؟ قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة. قلت من القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب النهروان. فقال مولى أمّ سلمة: فرّجت عنّي فرّج الله عنك، والله لا سبّيت علياً أبداً (1).

تنبيه وتعليق:

لقد استثقل بعض من الكتّاب المعاصرين الخطبة الشقشقية، فيما ذهب البعض الآخر إلى التشكيك بالخطبة اتباعاً لابن تيميّة ومن شاكله

ص: 220


1- أمالي الطوسي: 425، منهاج البراعة 3: 106.

في عقائده، لا لشيء إلّا لكونها تعرّض بالذين غصبوا الخلافة من أمير المؤمنين علیه السلام، مع معرفة أولئك بأحقيّة الإمام علي علیه السلام بالخلافة وسابقته في الإسلام، ومنزلته عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم.

ولا همّ لأصحاب هذه الأقلام إلّا طمس الحقائق وإخفائها على الأجيال انطلاقاً من التقديس والتنزيه و التعظيم الذي رسموه للخلفاء، بل لجميع الصحابة، والذي يفوق حتّی تقديس الأنبياء.

ولا يخفى أنّ من بين الصحابة أبا سفيان، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وخالد ابن الوليد، والزبير بن العوام، وبسر بن أرطاة، والوليد بن عتبة والمغيرة، وذا الخويصرة، والحكم، ومروان بن الحكم - طريدي رسول الله - ومنهم من قال: إنّ النبيّ ليهجر ...

وشخصيات أخرى يقدّسها البعض، لكنّها أساءت إلى الإسلام بل هتكت حرمته، وكادت تطيح بصرح هذا الدين الحنيف لولا إرادة الله سبحانه.

لذا استنكر هذا الفريق من الكتّاب على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وأرادوا منه ألّا يكشف أوراق من مضى والّا يتفوّه بما جرى عليه من مصائب ومحن وألّا يتعرّض للقوم حتّی لو خالفوا القرآن والسنة، بل عليه أن يسكت عن شطحاتهم، فكما سكت في أيام خلافتهم فعليه أن يسكت بعد وفاتهم ...!

لا أدري أي منطق هذا يتبجّح به ذاك البعض من ذوي الأقلام

ص: 221

المخدوعة، كأنّهم لم يقرؤا آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآيات الجهاد، وما يحثّه القرآن المجيد في الدفاع عن الحقوق، وردع الظالمين، والوقوف بوجه الطواغيت وأهل البدع؟!

لمّا كان القرآن الكريم يحثّ الإنسان المسلم على أن يدافع عن حقّه المسلوب حتّی يستحصل عليه بأي شكل من الأشكال فما بالك بأمير المؤمنين علیه السلام وهو الراعى لهذه الأمة؟! إنّما كان يطالب بحقّه المغصوب - الخلافة - انطلاقاً من التكليف الشرعى الموجّه إليه، ولمّا اعرضت الأمّة عنه أعرض عنها وتركها وشأنها.

فإذا كان الأمر كذلك فعلامً هذا الاعتراض على كلامه علیه السلام؟! فهل كان خلافاً لمجريات الأحداث أو إنّه يخالف القرآن والسنّة؟!

ثمّ أية قدسيّة للصحابة التي ينادي بها أولئك النفر وهم يعلمون جيّداً أنّ من بينهم من نزل فيهم القرآن يلعنهم، ووصف جملة منهم بالنفاق، والآيات في ذلك عديدة، بل نزلت فيهم سورة (المنافقون)!

ثمّ قال علیه السلام في خطبته: «كأنّهم لم يسمعوا الله تعالى يقول: (تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) (1)، بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم اوراقهم زبرجها.83

ص: 222


1- القصص: 83

شدّد علیه السلام في عبارته هذه النكير على الجماعة في مخالفتهم له وإعراضهم عنه، وقد استشهد علیه السلام بالآية الكريمة.

ولا يخفى على اللّبيب أنّ استحقاق الآخرة كان معلّقا على عدم إرادة العلو والفساد. وهؤلاء الجماعة - سواء الناكثين والقاسطين والمارقين، أو من سبقهم من الخلفاء الثلاثة - لمّا علوا في الأرض وأفسدوا فيها وخالفوا الإمام العادل وتركوا متابعته فلا مناص من تشبيههم بمن لم يسمع تلك الآية الكريمة.

ثمّ دفع توهم الاعتذار عنهم بعدم السماع لو اعتذر به بقوله: بلى والله لقد سمعوها و وعوها»، إنّه كلام مؤكّد بالقسم واللام وكلمة التحقيق (قد)، ثمّ أكدّ كلّ ذلك بالإشارة إلى سرّ عدم حصول ثمرة السماع بعد حصول نفسه فقال علیه السلام: ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم برجها، فكان ذلك هو المانع عن ترتّب ثمرة السماع عليه والباعث على إعراضهم عن الدار الآخرة، والسبب لاشترائهم الضلالة بالهدى، ولسعيهم في الأرض بالعلو والفساد.

وكلام أمير المؤمنين علیه السلام ينطبق على هذه الثلة الغاصبة من الناس وعلى أمثالهم ومن عساه يتخيل أنّ الحق في سلوك مسالكهم.

***

ص: 223

ص: 224

خاتمة الخطبة

قوله علیه السلام: «أما والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

ممّا تقدم من الخطبة كان بياناً لحال القوم وحاله علیه السلام معهم، فذكر شكايته إلى المسلمين والتظلّم في أمر الخلافة، وذم الشورى وما انتهى إليه من الحال التي أوجبت نزوله عن مرتبته إلى أن قرن بالجماعة المذكورين، وقد اتضحت لك الفصول المتقدّمة من الخطبة أنّ القوم ركنوا إلى غصب الخلافة وهم على يقين ببطلان عملهم، وأنّ ما ارتكبوه هو جرم عظيم، ولكن (حليت الدنيا بأعينهم)، أمّا هو علیه السلام فلم يقبل الخلافة إلا لأمور سنذكرها لاحقاً إن شاء الله.

وقد جاء قوله ذاك مؤكداً بالقسم فقال: «أما والذي فلق الحبة». وقال: وبرأ النّسمة».

إضافتان: فالق الحبة وبارئ النسمة. وكلا الإضافتين جاءتا في

ص: 225

قسمٍ عظيم، ولا يخفاك أنّ الوصف الأوّل قد ورد في القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: (فالق الحبّ والنّوى) (1)، والوصف الثاني قوله تعالى: (ونفسٍ وما سوّاها) (2).

إنّ أمير المؤمنين علیه السلام يرى نفسه مكلّفاً من قبل الشارع المقدس لأن يطالب القوم في استرجاع حقّه من الخلافة وما تلك المطالبة إلا لإقامة العدل وإجراء الحدود والأحكام وإعطاء كلّ صاحب حقّ حقّه.

وليس هناك طمع شخصي في السلطة، وفي خطبه وكتبه علیه السلام الشيء الكثير الذي يفصح عن ذلك الواجب الملقى على عاتقه الشريف من ذلك ورد في كتابه إلى أهل مصر:

«أمّا بعد، فإنّ الله سبحانه بعث محمداً صلی الله علیه و آله و سلم نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين، فلمّا مضى صلی الله علیه و آله و سلم تنازع المسلمون الأمر من بعده، فو الله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلی الله علیه و آله و سلم عن أهل بيته، ولا أنّهم منحٌّوه عنّي من بعده، فما راعني إلّا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت بيدي حتّی رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلی الله علیه و آله و سلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون 7

ص: 226


1- الأنعام: 95
2- الشمس: 7

المصيبة به علىّ أعظم من فوت ولا يتكم ... (1).

ثمّ يقول في نفس الكتاب: إنّي والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاع الأرض كلّها ما باليت ولا استوحشت وإنّي من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي، ويقين من ربّي، وإنّي إلى لقاء الله لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر راجٍ، ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإنّ منهم الذي شرب فيكم الحرام، وجلد حدّاً في الإسلام، وإنّ منهم من لم يسلم حتّی رضخت له على الإسلام الرضائخ ...» (2).

وعليه فإنّ أمير المؤمنين علیه السلام ذكر من تلك الأعذار التي قادته إلى قبول الخلافة ثلاثة:

العذر الأول: حضور الحاضرين لمبايعته من الأنصار والمهاجرين.

العذر الثاني: قيام الحجّة عليه بوجود الناصر له في طلب الحق لو ترك القيام.

العذر الثالث: ما أخذ الله على العلماء - أي الأئمة - من العهد على إنكار المنكرات وقمع الظالمين ودفع الظلامات عند التمكن.2.

ص: 227


1- نهج البلاغة، كتاب الإمام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر، رقم 62.
2- نهج البلاغة، كتاب الإمام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر، رقم 62.

والعذران الأوّلان هما شرطان في الثالث، إذ لا ينعقد ولا يجب إنكار المنكر بدونهما.

وفي النص المتقدّم تجد في قوله: «كظّة ظالم» كناية عن قوة الظلم.

وفي قوله علیه السلام: سغب مظلوم كناية عن قوة المظلومية وما لحق بالمظلوم من ضرر شديد وظلم لا يطاق.

أمّا قوله علیه السلام: لألقيت حبلها، أي زمام الخلافة، وفيها استعارة، فقد شبّه الخلافة بالناقة التي يتركها راعيها لترعى حيث تشاء ولا يبالي من يأخذها وما يصيبها.

وقوله علیه السلام: «لسقيت آخرها بكأس أولها»، مراده علیه السلام لتركت الخلافة آخراً كما تركتها أولاً، وخلّيت الناس يشربون من كأس الحيرة والجهالة بعد عثمان ويعمهون في سكرتهم كما شربوا في زمن الثلاثة.

في قوله المتقدّم استعار لفظ (السقي) للترك المذكور، ورشّح تلك الاستعارة بذكر الكأس.

أما قوله علیه السلام: لألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز، تصريح منه علیه السلام أنّ هذه الدنيا لا شيء عنده ولا تساوي إلّا ما تنثره العنز من أنفها، فمهما بلغ نعيم الدنيا وزبرجها عند القوم فهي كهذا النثار أو كنعل انقطع شسعه بحيث لا ينتفع به كما هو في كلام له لابن عباس.

بلى، إنّه علیه السلام أقدم على قبول الخلافة آخراً لإجراء أمورهم على

ص: 228

القانون العدل المأخوذ على العلماء.

أقول: أهل السواد (1) المقصود بهم العراقيّون. أمّا الكتاب فكانت فيه جملة من الأسئلة، قال أبو الحسن الكيدري: وجدت في الكتب القديمة أنّ الكتاب الذي دفعه الرجل إلى أمير المؤمنين علیه السلام كان فيه عدّة مسائل:

إحداها: ما الحيوان الذي خرج من بطن حيوان آخر وليس بينهما نسب؟ فأجاب علیه السلام بأنّه يونس بن متى علیه السلام، خرج من بطن الحوت.

المسألة الثانية: ما الشيء الذي قليله مباح وكثيره حرام؟ فقال علیه السلام: هو نهر طالوت؛ لقوله تعالى: (إلّا من اغترف غرفةً بيده) (2).

المسألة الثالثة: ما العبادة التي لو فعلها واحد استحق العقوبة، وإن لم يفعلها استحق العقوبة أيضاً؟ فأجابه بأنّها صلاة السكارى.

المسألة الرابعة: ما الطائر الذي لا فرخ له ولا فرع ولا أصل؟ فقال علیه السلام: هو طائر عيسى علیه السلام في قوله: (وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني) (3).

المسألة الخامسة: رجل عليه من الدين ألف درهم وله في كيسه ألف درهم، فضمنه ضامن بألف درهم، فحال عليه الحول، فالزكاة على0.

ص: 229


1- مصطلح قديم يطلق على ساكني بلاد الرافدين
2- البقرة: 249.
3- المائدة: 110.

أيّ المالين تجب؟ فقال علیه السلام: إن ضمن الضامن بإجازة من عليه الدين فلا يكون عليه، وإن ضمنه من غير إذنه فالزكاة مفروضة في ماله.

المسألة السادسة: حجّ جماعة ونزلوا في دار من دور مكّة وأغلق واحد منهم باب الدار، وفيها حمامٌ فمتن من العطش قبل عودهم إلى الدار فالجزاء على أيّهم يجب؟ فقال علیه السلام: على الذي أغلق الباب ولم يخرجهنّ ولم يضع لهنّ ماءً.

المسألة السابعة: شهد شهداء أربعة على محصن بالزنا فأمرهم الإمام برجمه، فرجمه واحد منهم دون الثلاثة الباقين، و وافقهم قوم أجانب في الرجم فرجم من رجمه عن شهادته، والمرجوم لم يمت، ثمّ مات فرجع الآخرون عن شهادتهم عليه بعد موته، فعلى من يجب ديّته؟ فقال علیه السلام: يجب على من رجمه من الشهود ومن وافقه.

المسألة الثامنة: شهد شاهدان من اليهود على يهودي أنّه أسلم، فهل تقبل شهادتها؛ أم لا؟ فقال علیه السلام: لا تقبل شهادتها؛ لأنّهما يجوّزان تغيير كلام الله وشهادة الزور.

المسألة التاسعة: شهد شاهدان من النصارى على نصراني أو مجوسي أو يهودي أنّه أسلم؟ فقال علیه السلام: تقبل شهادتهما؛ لقول الله سبحانه وتعالى: (ولتجدنّ أقربهم مّودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى) (1)، ومن لا يستكبر عن عبادة الله لا يشهد شهادة الزور82

ص: 230


1- المائدة: 82

المسألة العاشرة: قطع إنسان يد آخر فحضر أربعة شهود عند الإمام وشهدوا على قطع يده، وأنّه زنا وهو محصن، فأراد الإمام أن يرجمه فمات قبل الرجم بقطع يده على القاطع دية القطع أو دية النفس؟ فقال الإمام علیه السلام: من قطع يده دية يد - القطع - حسب، ولو شهدوا أنّه سرق نصاباً لم يجب دية يده على قاطعها والله أعلم.

هذا شرح مجمل الخطبة أمير المؤمنين علیه السلام والمسمّاة ب_ (الشقشقيّة) حرصنا على أن نذكر أهم المطالب المتعلقة بكلامه ذاك علیه السلام، والحمد الله على حسن توفيقه وهو حسبي ونعم الوكيل.

***

ص: 231

ص: 232

فهرس الكتاب

مقدمة المكتبة ... 5

الفصل الأول: خطبة أمير المؤمنين علیه السلام وهي المعروفة بالشقشقية ... 7

شرح مفردات الخطبة ... 9

ما نقله ابن أبي الحديد في شأن الخطبة ... 16

مصادر الخطبة الشقشقية ... 18

تسمية الخطبة ... 21

الأبعاد الحسية للخطبة ... 25

الأوجه البلاغية في الخطبة ... 26

الفصل الثاني: تفصيل بعد إجمال ... 31

لماذا سقيفة بني ساعدة؟ ... 34

كيف تمت البيعة لأبي بكر؟ ... 37

نتائج ما تقدم ... 45

كيف كانت بيعة عمر بن الخطّاب؟ ... 49

بوادر الشورى والبيعة لعثمان ... 60

ص: 233

قرار الشورى يصنعه الخليفة الثاني ... 66

الفصل الثالث: قوله علیه السلام في خطبته: «يستقيلها في حياته ... 71

أبو قحافة يردّ خلافة ولده أبي بكر ... 73

الفرار من الزحف ... 74

الفصل الرابع: قوله علیه السلام: يغلظ كلمها ويخشن منها ... 77

أخلاق عمر بن الخطّاب ... 77

صحابة الرسول يشهدون على عمر بغلظته ... 79

خشونة عمر وغلظته حتّی مع الحيوان ... 71

خشونته مع الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... 82

مشاكسة عمر للنبي والردّ عليه ... 84

ما اعترضه على النبي في مرضه قوله: (النبي يجر) ... 85

تعرّضه لزوجات النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 88

عمر بن الخطاب يتطاول على صفية عمة النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 88

قساوته مع رحمه ... 89

خشونته مع نسائه ... 91

مع ولده ... 91

حتى النساء يعرفن خشونة عمر ... 91

الدرّة آلة التأديب ... 93

خشونة عمر وغلظته مع اصحاب النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 94

ص: 234

مع ابي بكر بن أبي قحافة ... 95

السؤال والتعلّم ممنوع والسياط هي الجواب ... 95

عمر يضرب أبا هريرة ويتطاول على الرسول صلی الله علیه و آله و سلم فينهاه ... 96

عقوبة بلا ذنب ... 98

الرعية وبغضها لابن الخطاب ... 102

من فتاوى الخليفة عمر المخالفة لنص القرآن ... 103

ما أدخله من بدعة ليس من الدين ... 106

تجسّسه على بيوت الناس ... 106

مصادر (لولا على ذلك عمر) من كتب الجمهور ... 114

الفصل الخامس: قول أمير المؤمنين علیه السلام « ... والاعتذار منها» ... 119

اجتهادات عمر بن الخطّاب ... 120

الفصل السادس: الإمام والشورى وحديث المناشدة ... 131

أعضاء الشورى ... 144

من هم أعضاء الشورى؟ ... 146

آراء الخليفة عمر بن الخطّاب فيهم ... 146

الفصل السابع: قوله علیه السلام: «إلى أن قام ثالث القوم ...» ... 149

سيرة عثمان بن عفان ... 149

اجتهادات عثمان وما فيها من مخالفات للنص القرآني ... 150

تعطيل الحدود التي فرضها الله سبحانه ... 152

ص: 235

حكم الجنابة عند عثمان ... 154

أكله الصيد وهو محرم ... 155

ما أفتى به عثمان خلافاً للنص ... 156

الفصل الثامن: قوله علیه السلام: «قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ...» ... 157

حاشية عثمان وبطانته وأركان دولته ... 158

فسق الوليد بن عقبة ... 160

جرائم الوليد بن عقبة ... 164

النموذج الثاني: من ولاة عثمان أخوه من الرضاعة ... 168

سيرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ... 168

اقتطاع أموال بيت المسلمين لأقربائه ... 171

النموذج الأول: الحكم بن أبي العاص ... 172

النموذج الثاني: عطايا عثمان لمروان ... 174

من هبات عثمان لابن عمه مروان ... 174

موقف مروان في يوم الجمل ... 175

النموذج الثالث: هبات عثمان لسعد بن أبي وقاص ... 175

النموذج الرابع هبات عثمان للزبير ... 177

النموذج الخامس: هيات عثمان الطلحة ... 181

النموذج الثامن: عبد الرحمن بن عوف الزهري واستحواذه علي المال ... 184

تركة عثمان بن عفان ... 186

ص: 236

تعطيل الحدود ... 188

الفصل التاسع: قوله علیه السلام: فما راعني إلا والناس كعرف ... 189

في بيعة أمير المؤمنين علیه السلام ... 189

حرية الانتخاب ... 195

في من نكث بيعته علیه السلام ... 197

قوله علیه السلام: قلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ... 201

بیان بعض الحقائق تخصّ الناكثين ... 203

حرب الجمل ... 205

قوله علیه السلام: وقسط آخرون ... 208

قوله علیه السلام: ومرقت أخرى ... 213

تنبيه وتعليق ... 220

خاتمة الخطبة ... 225

فهرس الكتاب ... 233

ص: 237

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.