معراج اليقين في شرح نهج المسترشدين في أصول الدين

هوية الکتاب

معراج اليقين

في شرح نهج المسترشدين في أصول الدين

• المؤلف: ... الشیخ محمّد بن الحسن بن یوسف بن المطهّر الحّلی قدس سرّه

• المحقق: ... طاهر السلامي

• الناشر: ... العتبة العباسية المقدّسة

• المطبعة: ... مطبعة الكفيل

• الإخراج الفني: ... نصیر شکر

• الطبعة: .... الأُولى 1436ه

• الکمیة: ... 1000 نسخة

ص: 1

اشارة

ص: 2

معراج اليقين

في شرح نهج المسترشدين في أصول الدين

تأليف

الشيخ محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي قدس سرّه

الملقّب ب ( فخر المحقّقين)

(682 - 771 ه )

تحقيق

طاهر السلامي

ص: 3

معراج اليقين

في شرح نهج المسترشدين في أصول

• المؤلف: ... الشیخ محمّد بن الحسن بن یوسف بن المطهّر الحّلی قدس سرّه

• المحقق: ... طاهر السلامي

• الناشر: ... العتبة العباسية المقدّسة

• المطبعة: ... مطبعة الكفيل

• الإخراج الفني: ... نصیر شکر

• الطبعة: .... الأُولى 1436ه

• الکمیة: ... 1000 نسخة

ص: 4

الأهداءُ

إلى أمير الموحّدين، وسيّدالعارفين، وإمام المتكلّمين، وارث علم النبيّين، ويعسوب الدين، وقائد الغرّ المحجّلين، الشافع في النشأتين، أبي السبطين الحسن والحسين، سيّدي ومولاي عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه وعلى أولاده الطاهرين آلاف التحيّة والتسليم، أهدي هذا الجهد المتواضع ومن أرض المهجر، راجياً القبول..

ص: 5

ص: 6

كلمة المحقّق

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهید

إنّ العلوم بأسرها شريفة الذكر، عظيمة القدر، كما ورد في الأخبار النبويّة والآيات القرآنية، لكنّها تتفاوت بحسب تفاوت المعلومات، وتتفاضل بحسب تفاضل المتعلّقات، ولا شكّ أنّ أهم العلوم وأعظمها وأعلاها منزلة هو علم الكلام المقرّر لإثبات واجب الوجود وبيان صفاته، الذي تفنّن به علماؤنا المتقدّمون تدويناً وشرحاً، على عكس ما انتهجه المتأخّرون.

وسعياً منّا لإحياء بعض ما دوّنه أولئك الأوّلون في هذا المنهج من الفكر الكلامي الإسلامي، وإيصاله إلى الطلبة الراغبين في هذا العصر، وحتّى تبقى شعلة هذا العلم وقّادة يستضيء بها عشاق الحقيقة والمعرفة، واستكمالاً لما قدّمناه سابقاً من تحقيق بعض ما كُتب في هذا المجال، وخصوصاً ما يرتبط بفكر العلّامة ابن المطهّر الحلّي (ت 726ه)، عملنا على إخراج وتحقيق هذا الكتاب المسمّى ب(معراج اليقين في شرح نهج المسترشدين في أُصول الدين) لولد العلّامة

ص: 7

ابن المطهّر ، المعروف ب ( فخر المحقّقين)، وتقديمه بين يدي طلاب هذا الفنّ من العلوم.

اسم المؤلّف

الشيخ فخرالدين أبو طالب محمّد ابن الإمام العلّامة جمال الدين الحسن ابن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي (قدس سرّه)، الملقّب ب (فخر المحقّقين).

مولده

ولد الشيخ المصنّف بمدينة الحلّة في ليلة الاثنين، ليلة العشرين من جمادى الأُولى سنة (682) من الهجرة النبويّة الشريفة.

نشأته ودراسته

كانت تربيته ونشأته العلمية على يد أبيه العلّامة أبي منصور الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي(قدس سرّه)، فتربّى في حجر أبيه، واشتغل عنده بتحصيل مختلف العلوم العقلية والنقلية، كما صرّح هو بنفسه في كتابه (شرح خطبة القواعد)، بقوله:«إنّي اشتغلت عند أبي بتحصيل العلوم من المعقول والمنقول، وقرأت عليه كُتباً كثيرة من كُتب أصحابنا ...»

وكفى به فخراً أن يحظى بشرف الاكتساب العلمي والنشأة التربوية على مثل هذا الأستاذ والمربّي؛ فكان من ثمرات هذه التربية أن تمكّن هذا التلميذ وبحكم نبوغه، وعظيم استعداده، أن ينال مرتبة الاجتهاد السّامية وقد بلغ العاشرة من عمره الشريف، حيث ورد في كتاب (روضات الجنّات) ما نصّه:

ص: 8

«نقل الحافظ من الشافعية في مدحه: أنّه رآه مع أبيه في مجلس السلطان محمّد الشهير ب(خدابنده)، فوجده شاباً عالماً فطناً مستعدّاً للعلوم، ذا أخلاق مرضية ربّي في حجر تربية أبيه العلّامة، وفي السنة العاشرة من عمره الشريف فاز بدرجة

الاجتهاد».

وقد جمع المعقول والمنقول، وقرأ على والده كتباً كثيرة من الأصحاب. وحُكي في ذكائه وفطنته: أنّ والده العلاّمة قال للسلطان خدابنده عندما سأله عن وضوئه للصلاة قبل وقتها وقد اعتاد على ذلك زمان:«أعد كلّ صلاة صلّيتها على ذلك»، ودخل عليه بعد ذلك فخر المحقّقين، فسأله السلطان أيضاً عن تلك المسألة، فقال له :«أعد صلاة ،واحدة، وهو أوّل صلاتك على ذلك الحال، وذلك أنّك لّما توضّأت لها قبل دخول وقتها وصلّيتها بعد دخوله كانت فاسدة، فصارت ذمّتك مشغولة بتلك الصلاة، فكلّما توضّأت بعد تلك الصلاة كان وضوؤك صحيحاً بقصد استباحة الصلاة، لأنّ ذمتّك مشغولة بحسب نفس الأمر»؛ واستحسن العلاّمة هذا القول، ورجع عن قوله إلى قول ولده.

مكانته العلمية

كان شيخنا المؤلّف محظيّاً عند والده العلاّمة بمكانة خاصّة ومنزلة علمية رفيعة، طالما أشاد بها العلاّمة بمقامات عدّة في كتبه، ومن ذلك :

ما قاله في كتابه: (تذكرة الفقهاء): «أمّا بعد، فإنّ الفقهاء هم عمدة الدین، ونقلة شرع رسول ربّ العالمين... وقد عزمنا في هذا الكتاب الموسوم ب(تذكرة الفقهاء) على تلخيص فتاوى العلماء... إجابة لالتماس أحبّ الخلق إليَّ، وأعزّهم علَيَّ، ولدي محمّد، أمدّه الله تعالى بالسعادات، ووفّقه لجميع الخيرات، وأيّده

ص: 9

بالتّوفيق، وسلك به نهج التحقيق، ورزقه كلّ خير، ودفع عنه كلّ شرّ، وآتاه عمراً مديداً سعيداً، وعيشاً هنيئاً رغيداً، ووقاه الله كلّ محذور، وجعلني فداه في جميع الأمور» (1).(1)

وقال في (قواعد الأحكام): «أمّا بعد، فهذا كتاب (قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام)، لخّصت فيه لبّ الفتاوى، وبيّنت فيه قواعد أحكام الخاصّة، إجابة لالتماس أحبّ الناس إليَّ، وأعزّهم عليَّ، وهو الولد العزيز محمّد ... »(2).(2)

وقال في (إرشاد الأذهان): «أمّا بعد، فإنّ الله تعالى كما أوجب على الولد طاعة أبويه، كذلك أوجب عليهما الشّفقة عليه، بإبلاغ مراده في الطاعات، وتحصيل مآربه من القربات، ولمّا كثر طلب الولد العزيز محمّد - أصلح الله له أمر داريه، ووفّقه للخير، وأعانه الله عليه، ومدّ الله له في العمر السّعيد، والعيش الرغيد - لتصنيف كتاب يحتوي النكت البديعة. فأجبت مطلوبه، وصنّفت هذا الكتاب الموسوم ب ( إرشاد الأذهان)) (3).(3)

وقال في (الألفين):«أمّا بعد، فإنّ أضعف عباد الله تعالى الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي، يقول: أجبت سؤال ولدي العزيز محمّد - أصلح الله له أمر داريه، كما هو برّ بوالديه، ورزقه أسباب السعادات الدنيوية والأخروية، كما أطاعني في استعمال قواه العقليّة والحسّية، وأسعفه ببلوغ آماله كما أرضاني

ص: 10


1- (1) تذكرة الفقهاء 1 : 5 ، ط 1 مؤسسة آل البيت (ع) ، قم 1414ه.
2- (2) قواعد الأحكام 1 : 174 ، ط 1 مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1413ه.
3- (3) إرشاد الأذهان 1 : 217 ، ط 1 مؤسسة النشر الإسلامي قم 1410ه.

بأقواله وأفعاله، وجمع له بين الرئاستين، كما أنّه لم يعصني طرفة عين - من إملاء هذا الكتاب الموسوم ب(كتاب الألفين )»(1).(1)

وقد أطراه جمع كثير من العلماء المتقدّمين والمتأخرين في كتبهم وإجازاتهم...

منهم تلميذه الأعظم الشهيد الأوّل، في إجازته للشيخ شمس الدين ابن نجدة، أثنى عليه بقوله: «الشيخ الإمام سلطان العلماء، منتهى الفضلاء والنبلاء، خاتمة المجتهدين، فخر الملّة والدين، أبو طالب محمّد ابن الشيخ الإمام السعيد جمال الدين ابن المطهّر، مدّ الله في عمره مدّاً، وجعل بينه وبين الحادثات سدّاً » (2).(2)

وقال تلميذه الآخر السّيد الجليل تاج الدين بن معية الحلّي في إجازته:«مولانا الشيخ الإمام العلاّمة، بقية الفضلاء، أنموذج العلماء،فخر الملّة والحقّ والدین، محمّد ابن المطهّر، حرس الله نفسه، وأنمى غرسه»(3).(3)

وقال تلميذه الأجلّ السّيد حيدر الآملي صاحب (المسائل الحيدرية) التي سألها عن فخر المحقّقين في أوّل المسائل: «هذه مسائل سألتها عن جناب الشيخ الأعظم، سلطان العلماء في العالم، مفخر العرب والعجم، قدوة المحقّقين، مقتدى الخلائق أجمعين، أفضل المتأخّرين والمتقدّمين، المخصوص بعناية ربّ العالمين، الإمام العلاّمة في الملّة والحقّ والدين، ابن المطهّر، مدّ الله ظلال أفضاله، وشيّد أركان الدين ببقائه» (4).(4)

ص: 11


1- (1) الألفين: 21 ، ط مكتبة الألفين، الكويت 1405ه.
2- (2) انظر : مقدّمة غاية المراد للشهيد الأوّل، ط 1 مركز الدراسات الإسلامية، قم 1414ه.
3- (3) المصدر نفسه.
4- (4) انظر : خاتمة المستدرك، للميرزا النوري: 402 ، ط 1 مؤسسة آل البيت، قم 1415ه.

وأطراه ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه (غوالي اللئالي)، بقوله: «أُستاذ الكلّ ، الشيخ العلاّمة، والبحر القمقام فخر المحقّقين» (1).(1)

ووصفه العلاّمة الكركي في إجازته لسميّه الميسيّ: «الشيخ الإمام الأجلّ، العلاّمة على التحقيق والتدقيق، مهذّب الدلائل، منقّح المسائل، فخر الملّة والحقّ والدين أبي طالب محمّد بن المطهّر»(2).(2)

وأيضاً في إجازته للشيخ أحمد بن أبي جامع العاملي: «الشيخ الأجلّ، الفقيه الأوحد، قدوة أهل الإسلام، فخر الملّة والحقّ والدين»(3).(3)

وقال عنه التفريشي في (نقد الرجال): «وجه من وجوه هذه الطائفة وثقاتها وفقهائها، جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، حاله في علوّ قدره، وسموّ مرتبته، وكثرة علومه أشهر من أن يذكر »(4).(4)

وقال صاحب (روضات الجنات):«زين المجتهدين، وسيف المجتلدين، شيخنا الغالب: أبو طالب محمّد ابن العلاّمة المطلق جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي، الملقّب عند والده بفخر الدين، وفي سائر مراصده وموارده بفخر المحقّقين، ورأس المدقّقين»(ه).(5)

وقال المحدّث القمّي: «فخر الدين، وفخر المحقّقين، هو: الشيخ الأجلّ

ص: 12


1- (1) عوالي ،اللئالي للأحسائي : 6، ط 1 سيد الشهداء، قم 1403ه.
2- (2) بحار الأنوار للمجلسي 105: 43 ، ط مؤسسة الوفاء، بيروت 1403ه.
3- (3) بحار الأنوار، للمجلسي 62:105.
4- (4) نقد الرجال 4 : 183 ، ط 1 مؤسسة آل البيت، قم 1418ه.
5- (5) انظر : مقدّمة الرسائل الفخرية لفخر المحقّقين : 17 .

العالم، وحيد عصره، وفريد دهره، أبو طالب محمّد، وجه من وجوه هذه الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، كثير العلم، (وحيد عصره، فريد دهره)، جيّد التصانيف»(1).(1)

وقال عنه معاصره ابن الفوطي:«فخر الدين، أبو الفضائل محمّد بن جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسدي الحلّي، الفقيه الحكيم الأُصولي»(2).(2)

أساتذته وتلامذته

كلّ من ترجم لشيخنا المصنّف ذكر أنّ معظم قراءته كانت على والده العلاّمة (رحمه الله)، وقيل أيضاً أخذه عن عمّه الشيخ رضيّ الدين علي بن يوسف ابن المطهّر الحلّي(3)(3) ، صاحب كتاب (العدد القوّية).

وأمّا تلامذته: فقد روى عنه جماعة من المشايخ، منهم:

1 - الشيخ محمّد بن جمال الدين المكّي العاملي، المعروف بالشهيد الأوّل (ت 786ه).

2- ابن خالته، السيّد نظام الدين عبد الحميد بن مجد الدين أبي الفوارس محمّد بن علي [بن] الأعرج الحسيني الحلّي (ق8ه).

ص: 13


1- (1) انظر: مقدّمة النهاية للطوسي : 167 ، ط 1 مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1412ه.
2- (2) انظر: الموسوعة الفقهية الميسرة، للأنصاري 2 477 ، ط 1 مؤسسة الهادي 1418ه.
3- (3) الشيخ الفاضل العالم رضي الدين أبو القاسم علي بن يوسف بن علي بن المطهر الحلّي، كان حيّاً سنة (703 ه) ، أخو العلاّمة الحلّي، وأكبر منه سناً بثلاث عشر سنة، له كتب منها: ( العدد القوّية لدفع المخاوف اليومية).

3- ولده ظهير الدين محمّد بن محمّد بن حسن بن يوسف بن المطهّر، توفي في حياة والده.

4 - السّيد نجم الدين مهنا بن سنان الحسيني المدني، صاحب المسائل الأولى والثانية (ت726ه).

5 - السّيد النقيب محمّد بن القاسم بن الحسين بن معيّة الحلّي الحسني الدّيباجي (ت776ه).

6 - الشيخ العالم المتكلّم علي بن يوسف بن عبد الجليل النيلي، كان حيّاً حتّى سنة (775ه).

7- السّيد حيدر بن علي الآملي، صاحب (المسائل الحيدرية)، و (الكشكول) (ت 782ه).

8- السّيد بهاء الدين علي بن غياث الدين عبد الكريم النيلي النجفي(ت801ه).

9 - الشيخ فخر الدين أحمد بن عبد الله بن سعيد بن المتوّج، المعروف ب( ابن المتّوج البحراني) (ت 820ه).

10 - الشيخ نظام الدين عليّ بن عبد الحميد النيلي، من مشايخ ابن فهد الحلّي (ت 841ه).

11 - عزّ الدين الحسن بن أيّوب بن نجم الدين الأعرج الأطراوي العاملي.

12 - السّيد الحسن بن عبد الله بن محمّد بن علي الأعرج الحسيني.

13 - الفاضل المحدّث بدر الدين حسن بن نجم الدين المدني.

ص: 14

مصنّفاته وآثاره العلمية

ذُكرت للشيخ فخر المحقّقين(قدس سرّه) في كتب التراجم عدّة مؤلّفات، وهي:

1 - أجوبة مسائل السيّد مهنا بن سنان المدني.

2 - إيضاح الفوائد في حلّ مشكلات القواعد - لوالده العلاّمة - في الفقه، مطبوع في أربع مجلّدات.

3- حاشية الإرشاد - لوالده العلاّمة - في الفقه .

4 - الرسالة الفخرية في معرفة النيّة - في الفقه - مطبوع .

5- شرح خطبة القواعد المسمّى ب(جامع الفوائد)، مطبوع.

6- شرح كتاب تهذيب الأصول - لوالده العلاّمة - المسمّى ب-(غاية السؤول في شرح تهذيب الأصول).

7- شرح كتاب مبادئ الأصول - لوالده العلاّمة - .

8- الكافية الوافية في الكلام.

9 - المسائل الحيدرية، ألّفها لأحد تلاميذه، الأجلّ السّيد حيدر الآملي.

10 - معراج اليقين في شرح نهج المسترشدين في أُصول الدين، هذا الکتاب.

وفاته ومدفنه

توفّي (رحمه الله) ليلة الجمعة الخامس عشر من شهر جمادى الأُخرى سنة (771ه)، فيكون بذلك عمره الشريف تسعاً وثمانين عاماً تقريباً.

وفي خصوص محلّ دفنه، فلم يتعيّن موضعه بالضبط، غير انّ الفاضل

ص: 15

المتتبّع الخبير الأغا موسى الموسوي الزنجاني - نزيل قم - نقل عن ظهر نسخة خطّية من (القواعد) بخطّ جعفر بن محمّد العراقي، الذي فرغ من كتابة الجزء الأوّل منه في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من رمضان المعظّم من شهور سنة ستّ وسبعين وسبعمائة [أي: بعد وفاة الفخر بستّ سنين] ما هذا لفظه:«زار الشهيد قبر فخر المحقّقين، وقال: أنقل عن صاحب هذا القبر، بنقل عن والده: أنّ من زار قبر أخيه المؤمن وقرأ عنده سورة القدر سبعاً، وقال: اللّهمّ جاف الأرض عن جنوبهم، وصاعد إليك أرواحهم، وزدهم منك رضواناً، وأسكن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم، وتؤنس به وحشتهم، إنّك على كلّ شيء قدير. آمن الله من الفزع الأكبر القارئ والميت» (1).(1) ممّا ينبئ عن معروفية قبره آنذاك، وإن انمحت آثاره ولم يتبيّن موضعه في وقتنا الحاضر.

كتاب العلاّمة (نهج المسترشدين) وشروحه

(نهج المسترشدين في أصول الدين) كتاب كلامي درسي مختصر صنفه العلاّمة(قدس سرّه) بالتماس من ولده فخر المحقّقين - مصنّف هذا الكتاب - رُتب على ثلاثة عشر فصلاً، لخصّ فيه المباحث الكلامية، حيث صرّح العلاّمة ابن المطهّر الحلّي(قدس سرّه) له في أوّله قائلاً:

«فهذا كتاب (نهج المسترشدين في أصول الدين) لخصّت فيه مبادئ القواعد الكلامية، ورؤوس المطالب الأصولية، نفع الله تعالى به طلاّب اليقين،

ص: 16


1- (1) انظر مقدّمة إيضاح الفوائد : 15 ، ط 1 المطبعة العلمية، قم 1387، مقدمة الرسالة الفخرية : 18 ، ط 1 مؤسسة طبع و نشر آستانه رضوية، مشهد 1411ه.

إنّه خير موفّق ومعين.

إجابةً لسؤال الولد العزيز (محمّد) أيّده الله تعالى بعنايته، ووفّقه للخير وملازمة طاعته، وأمدّه بالعنايات الربّانية، وأسعده بالألطاف الإلهية».

وقال عنه ابن أُخت العلّامة وتلميذه السيد عبدالمطّلب الحسيني الحلّي، في شرحه (تبصرة الطالبين):«وكان شيخنا الأعظم، وإمامنا المعظّم.. أبي المظفّر يوسف بن المطهّر ، أعزّ الله سائر الإسلام والمسلمين بطول بقائه، ونصر قواعد الدين بدوام عُلائه، قد صنّف كتباً متعدّدة في هذا الفنّ من المطوّلات والمختصرات، وكان من جملتها مختصره الموسوم ب(نج المسترشدين في أصول الدّين)، قد احتوى من مسائل علم الكلام على أجلّها وأعلاها، وانطوى من مباحثه على أشرفها وأسناها، بعبارةٍ مجرّدة، وألفاظٍ مختصرة، أحببت أن أُصنّف له شرحاً ... » (1).(1)

وقال عنه ابن أُخت العلاّمة وتلميذه السيّد عبدالحميد الحسيني الحلّي، في شرحه (تذكرة الواصلين):«ثمّ إنّي لمّا رأيت شيخنا الأعظم، وإمامنا الأكرم، وسيّدنا الوحيد، ورئيسنا الفريد... قد صنّف كتاباً في علم الكلام، حاوياً لجميع مسائله الدقيقة، مشتملاً على أبحاثه العميقة، مع كونه قد بلغ في الإيجاز إلى الغاية، وتجاوز في الاختصار إلى النهاية، المسمّى بنهج المسترشدين في أصول الدين.فأحببت أن أصنّف له شرحاً كاشفاً لحقائقه، وموضحاً لدقائقه، على

ص: 17


1- (1) تبصرة الطالبين في شرح نهج المسترشدين: مقدّمة المؤلّف، ط العتبة العباسية المقدسة، العراق، 1436ه.

سبيل الإيجاز والاختصار ، وحذف التطويل والإكثار ... »(1).(1)

وعرّفه الفاضل المقداد في شرحه (إرشاد الطالبين) بقوله: «الكتاب الموسوم ب(نهج المسترشدين في أصول الدين) من تصانيف شيخنا وإمامنا،الإمام الأعظم، علاّمة العلماء في العالم... قد احتوى من المباحث الكلامية على أشرفها وأبهاها، وجمع من الفوائدالحكمية أحسنها وأسناها، حتّى شغف بالاشتغال به معظم الطلّاب، وعوّل على تقرير مباحثه جماعة الأصحاب...»(2).(2)

طبع بعدّة طبعات، منها طبعة (مجمع الذخائر الإسلامية/ قم المقدّسة/ تحقيق السيّد أحمد الحسيني والشيخ هادي اليوسفي)، وهي المعتمدة عندنا في تخريج وتصحيح متن كتاب العلاّمة.

وشرح شروح عديدة سواء ما كان في عصر العلاّمة أو ما بعده، وهي:

1- (معراج اليقين في شرح نهج المسترشدين في أُصول الدين)، لابن العلاّمة الحلّي، الشيخ فخر الدين، أبو طالب محمّد بن الحسن المعروف بفخر المحقّقين، المتوفّى سنة (771ه)؛ وهو الكتاب الذي بين أيدينا.

2- (تذكرة الواصلين في شرح نهج المسترشدين)، للسيّد نظام الدين عبدالحميد بن السيّد مجدالدين أبي الفوارس الحسيني الحلّي، المولود سنة (683ه)، والمتوفّى على الأغلب سنة (745ه)، مطبوع.

ص: 18


1- (1) تذكرة الواصلين في شرح نهج المسترشدين: 34 ، ط 1 العتبة العباسية المقدسة، العراق 1436ه.
2- (2) إرشاد الطالبين على نهج المسترشدين: 4 ، ط مكتبة السيّد المرعشي العامة قم 1405ه.

3- (تبصرة الطالبين في شرح نهج المسترشدين)، للسيّد عميد الدين عبد المطّلب بن السيّد مجد الدين أبي الفوارس الحسيني الحلّي، أخو السيّد نظام الدين عبد الحميد، المتوفّى سنة (754ه) .

4 - (إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين)، للفاضل المقداد، أبو عبد الله جمال الدين بن عبد الله بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوري الأسدي الحلّي، المتوفّى سنة (826ه)، تلميذ الشهيد الأوّل، مطبوع.

5- (التحقيق المبين في شرح نهج المسترشدين في أُصول الدين)، للشيخ المولى نجم الدين خضر بن الشيخ شمس الدين محمّد بن علي الرازي الحبلرودي، المتوفّى حدود (850ه)، شارح الباب الحادي عشر، نزيل الغري.

وورد في آخره: أنّه فرغ من تأليفه في الحلّة الفيحاء سنة 828ه.

6 - (شرح نهج المسترشدين) للشيخ فخر الدين بن محمّد علي الطريحي النجفي، المتوفّى (1085 ه) . (ذكره صاحب الذريعة 14 / 163 رقم 2024).

7- (كشف أحوال الدين في شرح نهج المسترشدين) للشيخ جواد بن سعيد بن جواد الكاظمي (ق12ه)، تلميذ الشيخ البهائي، ذكره الأفندي في ( رياض العلماء 11/91) ، وقال: «وهو شرح مبسوط ممزوج بالمتن حسن جيد جدّاً، رأيته في كتب ملا محمّد حسين الأردبيلي (قدّس) ألّفه سنة ألف وتسع وعشرين في مشهد الكاظمين صباح يوم الجمعة تاسع ربيع الأوّل».

8- (شرح نهج المسترشدين) للمولى محمّد حسن الخوئيني الزنجاني، ذكره أغا بزرك الطهراني في (الذريعة 162/14 رقم 2023)، وقال: «نسخة منه كانت عند شيخ الإسلام الزنجاني كما كتبه إلينا، واحتمل أنّ الشارح كان حفيد

ص: 19

الشيخ عبد النبيّ الطسوجي نزيل خوي».

9- (شرح نهج المسترشدين)، ذكره أغا بزرك الطهراني في (الذريعة 161/14رقم 2021)، وقال: «الذي هو شرح مزجي لبعض القدماء، رأيته في مكتبة العلاّمة الشيخ هادي كاشف الغطاء ولم أعرف المؤلّف».

10- (شرح نهج المسترشدين)، ذكره أغا بزرك الطهراني في (الذريعة 162/14 رقم 2022) ، وقال: «بعنوان قوله قوله، أيضاً لبعض الأصحاب وهو تعليقات على الكتاب، أوّله: (قوله: الحمد الله المنقذ من الحيرة ... الخ. اعلم أنّ الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري...) رأيت نسخته في المكتبة الرضوية».

هذا الكتاب

الكتاب هو شرح ب( قال.. أقول) لكتاب والد المصنّف العلاّمة ابن المطهّر الحلّي (ت726ه) المسمّى ب(نهج المسترشدين)، قد راعى فيه الاختصار، مع توضيح ما استبهم، كما ذكر في تقديمه للكتاب قائلاً: «أمّا بعد، فهذا كتاب (معراج اليقين) في شرح (نهج المسترشدين في أُصول الدين) تصنيف والدي الإمام، العلاّمة المعظَّم، جمال الملّة والحقّ والدين، الحسن بن يوسف بن المطهّر (دام ظلّه)، كشفت فيه أستاره، وأوضحت أسراره، ولم أتجاوز تقرير کلامه، وتلخيص مرامه،متقرّباً إلى الله تعالى ومتوكّلاً عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل».

وقد قوبل هذا الكتاب على ثلاث نسخ مخطوطة، وهي:

ص: 20

1 - نسخة خطّية بنسخ تعليق في القرن الثامن، محفوظة في مكتبة آية الله العظمى السيّد المرعشي النجفي (رحمه الله) العامّة في قم المقدّسة، تحت رقم (8457) ، ب(109) ورقة (15 / 10سم) ، مؤرّخة سنة (768ه)، أي قبل وفاة المصنّف بثلاث سنين، بخطّ معاذ بن عيسى بن مبارك الحدّاد، جاء في آخرها: «وكان الفراغ من تعليقه ثالث جمادى الأوّل من سنة ثمانية وستّين وسبعمائة على يد العبد الفقير إلى الله الغني معاذ بن جعفر بن عيسى بن مبارك الحدّاد، حامداً الله تعالى»، وقد رمزنا إليها بحرف (أ).

2 - نسخة خطّية بنسخ تعليق في القرن الثامن، محفوظة في مكتبة ملّي إيران في طهران، بحجم رحلي ب (302) ورقة، مؤرّخة سنة (776ه) ، بخطّ عبدالله ابن حسن بن محمّد بن النجّار، جاء في آخرها: «فرغ من تعليقه العبد الفقير إلى رحمة ربّه العزيز الغفّار عبدالله بن حسن بن محمّد ابن النجّار، عصر يوم الأربعاء خامس عشر شهر ذي القعدة الحرام من سنة ستّ وسبعين وسبعمائة»، وقد رمزنا إليها بحرف (ب).

وورد في أوّلها شرحاً كتبه مالكها (جلال الدين الهمائي) باللغتين العربية والفارسية، والمتن العربي هو :

«بسمه تعالى شأنه...

الحمد لله على ما أنعم، والصلاة على سيّدنا ونبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وبعد، فقد منّ الله علَيَّ بتملّك هذه النسخة الشريفة العزيزة، التي لا يعادلها كنوز الذهب والفضّة، واشترائها من مالكها السيّد الجليل النبيل قوام الإسلام،

ص: 21

آل صاحب الروضات بأصبهان السيّد مجتبى الروضاتي (سلّمه الله تعالى) ابن الميرزا محمّد باقر الموسوي الجارسوي الأصبهاني مؤلّف (الروضات) (رحمه الله) بالمبايعة الشرعية، وقد وصلت النوبة إلَيَّ في أوائل شهر ربيع الثاني من سنة 1381 الهلالية، وأواخر شهريور ماه سنة 1340 الشمسية الهجرية. وأنا العبد الأحقر أقلّ الخليقة (جلال الدين الهمائي) الشيرازي الأصبهاني أحسن الله أحواله وختم بالخير مآله ووفقه لمطالعة الكتاب بحقّ محمّد وآله الأطياب.

والنسخة هي شرح ( نهج المسترشدين) لفخر المحقّقين ابن آية الله العلاّمة الحلّي المتوفّى سنة (771ه)، والماتن هو والده العلاّمة المتوفّى (726ه).

وتاريخ كتابة النسخة الشريفة سنة (776ه) بعد وفاة المؤلّف(رحمه الله) بخمسة أعوام، والصلاة والسلام على نبيّنا سيّد الأنام. ومن خصائص هذه النسخة أنّها وشمت بخطّ العالم الشهير (رفيع الدين محمّد بن حيدر الحسني الحسيني) المعروف ب(ميرزا رفيعا النائيني) أُستاذ العلاّمة المجلسي، له حواش وتعليقات على (أصول الكافي)، و (شرح الإشارات)، و(المختلف)، وغير ذلك، توفّى سنة (1082ه)، ومزاره في بقعة رفيعة مشهورة بأصبهان... الخ».

3 - نسخة خطّية بنسخ تعليق في القرن العاشر، محفوظة في مكتبة الإمام الحكيم العامّة في النجف الأشرف، تحت رقم (2/1081)، ب(156) صفحة، (17/11،7سم)، ب(21) سطر، مؤرّخة سنة (980ه)، بخطّ نعمة الله بن محمّد الحسيني، جاء في آخرها: « تمّ كتاب (معراج اليقين في شرح نهج المسترشدين في أصول الدين) على يد العبد الأقلّ نعمة الله بن محمّد الحسيني في عشر ذي الحجّة سنة (980 ه) يوم الأحد في أواخره، اللّهمّ ارزقنا زيارة بيت

ص: 22

المقدس كما هو حقّه يا إله العالمين، ويا خير الناصرين، ويا غياث المستغيثين، واقض حوائج جميع المؤمنين بحرمة محمّد وآله أجمعين المعصومين الطيبين الطاهرين»، وقد رمزنا إليها بحرف (ج).

الجدير بالذكر هنا:

أ - النسخ الثلاثة المذكورة يوجد فيها سقط لبعض الأوراق، فكمّلت إحداهما الأُخرى.

ب - نسخة (ب) تختلف عن (أ) ، و (ج) بإضافات، مع وجود تعليقات في الحواشي من الناسخ في مواضع عديدة.

ج - انفردت النسخة (ب) من حيث التفريعات بالترقيم الحرفي، أي بصورة (أ، ب، ج، د...).

منهج التحقيق

1 - جعل نسخة مكتبة آية الله السيّد المرعشي النجفي(قدس سرّه) المشار إليها بحرف (أ) الأصل لهذا الكتاب، لتقدّم زمان كتابتها، وأنّها كتبت في حياة المؤلّف، وبالتحديد قبل ثلاث سنين من وفاة الشيخ فخر المحقّقين (رحمه الله).

2 - ذکر موارد الاختلاف الموجودة بين النسخ في الهامش.

3 - إكمال ما سقط من نسخة (أ) من باقي النسخ المذكور، حتّى خرج الكتاب من ناحية المتن كاملاً بحمد الله.

4 - إيراد بعض الكلمات والفقرات المكمّلة أو الموضّحة للعبارة من النسخ الأخرى، وحصرها بين معقوفتين []، مع ذكر النسخة في الهامش.

ص: 23

5 - تبويب الكتاب إلى فصول ومباحث حسب المواضيع؛ تسهيلاً للمطالع.

6 - ذكر مصادر ومنابع الأحاديث الواردة.

7 - ذكر تراجم الأعلام المذكورين في المتن على نحو الاختصار، للتعريف.

ص: 24

الصورة

ص: 25

الصورة

ص: 26

الصورة

ص: 27

الصورة

ص: 28

الصورة

ص: 29

الصورة

ص: 30

مقدّمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله المنقذ من الحيرة بحسن توفيقه، المخلّص من الضلال بهداية طريقه، المرشد إلى سبيل الصواب في المعاش والمآل بإلهام الحقّ بتحقيقه، فرَقت نفوس العارفين في قوّتي العلم والعمل (1)(1) من العقل الهيولاني إلى العقل المستفاد، الذي هو أقصى مراتب أوج العلاء (2)(2)، وهبطت نفوس الجاهلين إلى حضيض درك الشقاء، وصلّى الله على سيّد الأنبياء محمّد النبيّ وعترته المعصومين الأصفياء، المتشرّفة بخدمتهم ملائكة السماء، المفتخر بمحبّتهم نقلة الوحي الأُمناء، صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء.

أمّا بعد، فهذا كتاب (معراج اليقين) في شرح (نهج المسترشدين في أُصول الدين) تصنيف والدي الإمام، العلاّمة المعظّم، جمال الملّة والحقّ والدين، الحسن ابن يوسف بن المطهّر (دام ظلّه) ، كشفت فيه أستاره ، وأوضحت أسراره ،

ص: 31


1- (1) في نسخة أ: العمل والعلم وما أثبتناه من ب، ج، وهو الصحيح.
2- (2) في نسخة ج: أقصى المراتب والعلا.

ولم أتجاوز تقرير كلامه، وتلخيص مرامه، متقرّباً إلى الله تعالى ومتوكّلاً عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل.

***

قال (دام ظلّه): «الحمد لله المنقذ من الحيرة والضلال، المرشد إلى سبيل الصواب في المعاش والمآل، والصلاة على سيّدنا محمّد النبيّ المعصوم من الخطأ في المقال والفعال، وعلى آله الأطهار خير آل ... »(1)(1)، آخر الخطبة.

أقول: للنفس الناطقة قوّتا علم وعمل، ولها في كلّ منهما مراتب.

أمّا القوّة النظرية، فأوّل مراتبها: الاستعداد المحض لحصول (2)(2) العلوم، وتسمّى عقلاً هيولانياً.

وثانيها: الاستعداد للانتقال من العلوم الضرورية إلى العلوم النظرية، وتسمّى عقلاً بالملكة.

وثالثها: حصول العلوم النظرية، وتسمّى عقلاً بالفعل.

ورابعها: صيرورة المعقولات (3)(3) اليقينية الحقيقية مشاهدة عندها وانتقاشها فيها كالمرآة، وتسمّى عقلاً مستفاداً.

ص: 32


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 17 طبعة بتحقيق السيد أحمد الحسيني والشيخ هادي اليوسفي، مجمع الذخائر الإسلامية، قم، إيران.
2- (2) في ب بحصول.
3- (3) في ب: العقود.

وأمّا القوّة العملية، فأوّل المراتب: تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع الحقّة.

وثانيها: تزكية الباطن من الأخلاق الذميمة.

وثالثها : تحلية السرّ بالأخلاق الحميدة، والصور القدسية.

فأشار بقوله: «الحمد الله المنقذ من الحيرة»، إلى المرتبة الأُولى من كلّ منهما، فإنّه لولا الاستعداد لحصول العقائد، لما أمكن التخلّص من الحيرة، لعدم الجزم بشيء.

وأشار بقوله : «والضلال»، إلى المرتبة الثانية، إذ لولا حصول المقدّمات التي هي العلوم الضرورية في طرق (1)(1) الانتقال، ومعرفة صحّتها من فسادها (2)(2)، لما أمكن (3)(3) التخلّص من الضلال.

وقوله: «المرشد إلى سبيل الصواب في المعاش والمآل»، إشارة إلى المرتبة الثانية من المرتبتين.

قال (دام ظلّه): «وبنيته على فصول» (4)(4):

ص: 33


1- (1) في ب: وطرق.
2- 2) في ب ( صحيحها من فاسدها).
3- (3) لا يوجد في ب.
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 17

ص: 34

الفصل الأوّل:في تقسيم المعلومات

اشارة

[ قال (دام ظلّه)]: «الأوّل في تقسيم المعلومات:

المعلوم إمّا أن يكون موجوداً وهو: الثابت العين، أو معدوماً وهو: المنفي العین.

ولا واسطة بينهما على المذهب الحقّ، لقضاء الضرورة بهذا الحصر » (1).(1).

أقول: لمّا كان موضوع هذا التقسيم المعلوم مطلقاً، وهو أعمّ من سائر موضوعات التقسيمات الباقية، قدّمها (2).(2).

وتقريره أن نقول:

كلّ ما يمكن أن يتصوّر، فإمّا أن يكون موجوداً، أو معدوماً، والموجود والثابت العين متساويان في العموم والخصوص، والمعدوم والمنفي العين

ص: 35


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 18 الفصل الأول.
2- (2) العبارة في ب المراد بالمعدوم ما من شأنه أن يكون معلوماً، فلما كان موضوع هذه القسمة المعلوم مطلقاً ...)

متساويان في العموم أيضاً، ولا واسطة بينهما على المذهب الحقّ.

والخلاف هنا في موضعين:

الأوّل: نفي الواسطة بينهما، خلافاً للقاضي(1)،(1) والجويني (2)(2) من الأشاعرة (3)،(3)، وأبي هاشم (4)(4)...

ص: 36


1- (1) القاضي أبو بكر الباقلاني: أبو بكر محمّد بن الطيب بن محمّد القاضي، البصري، المعروف ب ( ابن الباقلاني)، المالكي، المتكلّم على مذهب الأشعري، ولد في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري بالبصرة، وعاش فّي بغداد وتوفّى فيها سنة 403ه. قيل أنّه ناظر الشيخ(قدس سرّه) المفيد فغلبه المفيد.
2- (2) الجويني: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله، أبو المعالي الجُوَيْني، الملقّب ب ( إمام الحرمين)، أحد أبرز علماء الشافعية وانتهت إليه رئاسة المذهب، شيخ الأشعرية ومتكلّميهم، ولد في جُوَيْن - من نواحي نيسابور - سنة (419ه)، ورحل إلى بغداد واشتهر ، ثمّ خرج إلى الحجاز فجاور بمكّة أربع سنين، وبالمدينة يدرّس ويفتي ومن هذا سمّي ب(إمام الحرمين)، ثمّ رجع إلى نيسابور وتولَّى الخطابة والتدّريس في المدرسة النظامية، وتوفّي فيها سنة (478ه).
3- (3) الأشعرية: مذهب كلامي في أصول الدين، مؤسّسه أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري، في أواخر القرن الرابع الهجري. من جملة مبادئه: أنّ الباري عالم بعلم، قادر بقدرة، متكلّم بكلام، سميع بسمع، بصير ببصر .. من أبرز أقطابه: القاضي أبوبكر محمّد بن الطيب الباقلاني، وأبوالمعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمّد الأسفراييني، وأبوالحسن مقاتل بن سليمان الخراساني.
4- (4) أبو هاشم الجبائي المعتزلي: عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهاب، أبو هاشم بن أبي بكر البصري الجبائي، نسبة إلى قرية في البصرة، ولد ببغداد سنة (277ه)، وتوفي سنة (321ه)، هو وأبوه من رؤساء المعتزلة، له آراء تفرّد بها، واليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة.

وأتباعه من المعتزلة (1)(1)، فإنّهم أثبتوا واسطة بين الموجود والمعدوم، وسمّوها

ب(الحال)، وعرّفوها:بأنّها صفة لموجود لا يوصف بالوجود ولا بالعدم.

لنا: أنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّما يشير العقل إليه، فإمّا أن يكون له تحقّق بوجوه ما ، أو لا، والأوّل هو الموجود، والثاني هو المعدوم.

وهذه القسمة حاصرة متردّدة بين النفي والإثبات، وإلى ذلك أشار المصنّف بقوله: «القضاء الضرورة بهذا الحصر».

احتجّوا: بأنّ الوجود وصف مشترك بين الموجودات، ولا شكّ أنّ الموجودات متخالفة بماهياتها، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فوجود (2)(2) الأشياء مغاير لماهياتها.

ثمّ ذلك الوجود إمّا أن يكون معدوماً، أو موجوداً، أو لا معدوماً ولا موجوداً. والأوّل محال، لأنّ الموجودية تناقض المعدومية، والشيء لا يتّصف بنقيضه. والثاني محال، إذ لو كان الوجود موجوداً، لكان متساوياً في الموجودية للماهية الموجودة، ولا شكّ أنّه مخالف لها بوجه ما.

وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فالموجودية المشتركة بين الوجود وبين الماهيات الموجودة مغايرة لخصوص ماهية الوجود التي بها الامتياز، فيكون للوجود وجود آخر، فيلزم التسلسل، فثبت أنّ الوجود لا موجود ولا معدوم

ص: 37


1- (1) المعتزلة: فرقة إسلامية كلامية، ظهرت في أواخر القرن الأوّل الهجري. ويرجع اسمها إلى اعتزال إمامها واصل بن عطاء عن مجلس الحسن البصري وينقسمون إلى اثنى عشر فرقة.
2- (2) في ب: فوجود.

والجواب: أنّه لا يلزم من عدم اتّصاف الشيء بنفسه ونقيضه ثبوت واسطة بينه وبين نقيضه، وإلاّ لارتفع التناقض.

الثاني: في تساوي الموجود والثابت والمعدوم والمنفي.

وهو مذهب أبي الحسين البصري (1)(1) ، وأبي الهذيل (2)(2) من المعتزلة، خلافاً للباقين من المعتزلة، فإنّهم زعموا أنّ الثابت أعمّ من الموجود، والمعدوم أعمّ من المنفي.

وتقريره (3)(3):

إنّ المعدوم إمّا أن يكون ممتنع الثبوت، ولا نزاع في أنّه نفي محض، وإمّا أن يكون ممكن الثبوت، فإمّا أن يكون بسيطاً أو مركّباً، والثاني لا خلاف في أنّه نفي محض أيضاً، والأوّل عندنا، وعند أبي الحسين، وأبي الهذيل: أنّه نفي محض أيضاً، وعند باقي المعتزلة كأبي علي، وأبي هاشم (4)(4) وأتباعها: أنّ

ص: 38


1- (1) أبو الحسين البصري: محمّد بن علي بن الطيب البصري، المتكلّم، شيخ المعتزلة، ولد في البصرة وانتقل إلى بغداد ودرس فيها علم الكلام حتبى توفي فيها سنة (436ه)، له تصانيف في الأصول والكلام منها كتابه (المعتمد في أصول الفقه)، وعنه أخذ الفخر الرازي كتاب (المحصول).
2- (2) أبو الهذيل : محمّد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العلاّف المتكلّم، شيخ البصريين في الاعتزال، ولد بالبصرة سنة (135ه) ، قدم بغداد سنة ( 230ه)، وتوفي بسامراء سنة ( 235ه) عن 100 سنة، وقيل غير ذلك. صاحب كتب و مقالات ومجالس ومناظرات.
3- (3) في ب: (وتقريره، أن نقول).
4- (4) وهما الجبائيان المتكلّمان من رؤساء المعتزلة : أبو على محمّد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (303ه) ، وابنه أبو هاشم عبدالسلام بن محمّد المتوفى سنة (321ه)، لهما مقالات على مذهب الاعتزال.

الماهيات (1)(1) البسيطة الممكنة المعدومة ثابتة في الخارج، ولا تأثير للفاعل فيه (2)(2)، بل في جعل الذات موجودة، وتلك المعدومات متباينة بأشخاصها، والثابت من كلّ نوع عدد غير متناه، وأنّها بأسرها متّفقة في كونها ذوات، وإنّما تتباين بالصفات.

ومنشأ الخلاف: أنّ الوجود هل هو نفس الماهية، أم زائد عليها؛ وإن كان زائداً، فهل يمكن خلوّ الماهية عن تلك الصفة في الخارج، أم لا؟

وكلّ من قال: أنّ الوجود نفس الماهية ، ذهب إلى أنّ المعدوم الممكن نفي محض.

والقائل: بأنّه زائد عليها، وأنّه لا يمكن خلوّ الماهية عن تلك الصفة خارجاً، ذهب أيضاً إلى ذلك.

والقائل: بأنّه يمكن خلوّها عن صفة الوجود خارجاً، أثبت الماهية في العدم.

احتجّوا: بأنّ المعدوم متميّز، وكلّ متميّز ثابت، فالمعدوم ثابت.

أمّا الصغرى، فلانٌ المعدوم ،معلوم، لأنّا نعلم طلوع الشمس غدّاً من المشرق، وكلّ معلوم متميّز، لأنّ ما لا تخصيص له ولا تميّز له يمتنع أن يكون معلوماً.

وأمّا الكبرى، فلأنّ المتميّز هو الموصوف بصفة لا يشاركه فيها غيره، وذلك يستدعي كونه معيّناً في نفسه محقّقاً(3)(3)، ولا نعني بالثابت إلاّ ذاك.

ص: 39


1- (1) في سائر النسخ: الماهية.
2- (2) في سائر النسخ: لا يؤثّر الفاعل فيه.
3- (3) في ب: متحقّقاً.

والجواب : أنّ المتميّز قد يكون ذهنياً، وقد يكون خارجياً، والمعدوم متميّز، فالاختيار الأوّل دون الثاني؛ ولأنّه ينتقض بالممتنعات كشريك الباري، وببعض الممكنات أيضاً كالمركّبات (1)(1).

في الوجود الذهني والخارجي

قال (دام ظلّه): «إمّا أن يكون (2)(2) ذهنياً لا غير، كالأشياء المتصوّرة في الذهن المنفية في الخارج، كما نتصوّر جبلاً من ياقوت، وبحراً من زيبق.

وإمّا أن يكون خارجياً؛ فإمّا أن يكون واجب الوجود لذاته، وهو الذي يستحيل عليه العدم لذاته، وهو الله تعالى لا غير، وإمّا أن يكون ممكن الوجود لذاته، وهو الذي يجوز عليه العدم لذاته (3)(3)، وهو ما سوى الله تعالى »(4)(4).

أقول: نقدّم مقدّمة نحتاج إليها، وهي:

إنّ الذهن هو: قوّة النفس المعدّة للإدراك، وهو يتناول المشاعر المدركة للجزئيات، والعقل المدرك للكلّيات، والخارج هو خارج القوى المدركة (5)(5)، وتسمّى (الواقع) أيضاً.

ص: 40


1- (1) في ب: كالمركّب.
2- (2) أي: الموجود.
3- (3) لا يوجد في المصدر.
4- (4)نهج المسترشدين في أصول الدين: 18 الفصل الأوّل.
5- (5) في ب: (الدرّاكة المدركة).

إذا عرفت ذلك، فنقول:

هذه القسمة أخصِّ موضوعاً من الأُولى، لأنّه الموجود مطلقاً، وهو أخصّ من المعلوم، ولذلك أخّرها.

وتقريره، أن نقول:

الموجود إمّا أن يكون موجوداً في الذهن لا غير، كالأشياء المتصوّرة التي لا ثبوت لها في الخارج، كجبل من ياقوت، وبحر من زيبق، وإمّا أن يكون ثابتاً في الخارج خاصّة، كالأشياء الثابتة في الخارج التي لا نتصوّرها، وإمّا ثابتة فيهما كالأشياء الثابتة في الخارج المتصوّرة لنا، والموجود في الخارج إمّا أن يكون واجب الوجود لذاته، وهو الذي يستحيل عليه العدم لذاته، وهو الله تعالى لا غير، وإمّا أن يكون ممكن الوجود لذاته، وهو ما سوى الله تعالى من الموجودات، وهو الذي يجوز عليه العدم لذاته.

[تنبيه: اختلف الناس في الوجود الذهني: فأثبته الحكماء ومحقّقو المتكلّمين، وأنكره الباقون.

احتجّ الأوّلون: بأنّا نحكم على المعدوم في الخارج بأمر ثبوتي، وكلّ محكوم عليه بأمر ثبوتي فهو ثابت وليس في الخارج، فتعيّن أن يكون في الذهن، إذ لا خارج.

والمقدّمتان ظاهرتان، إذ ثبوت الشيء بغيره فرع على ثبوت ذلك الشيء في نفسه.

احتجّ النافون: بأنّه لو تحقّق الوجود الذهني، لاتّصف الذهن بالكيفيات المحسوسة.

ص: 41

والجواب: أنّ الموجود صورة الحرارة والنار لا نفس الحقيقة الخارجية، فإنّ شرط تأثيرها الوجود الخارجی](1)(1).

قال (دام ظلّه): « والمعدوم: إمّا أن يكون ممتنع الوجود لذاته، كشريك الباري تعالى، وهو الذي لا يصحّ وجوده البتة. وإمّا أن يكون ممكن الوجود، كالمتجدّدات من المعدومات، ولا ثبوت له إلاّ في الذهن، إذ لا فرق بين الثبوت والوجود عند العقل. ومن جعلهما أمرين متغايرين فقد كابر مقتضى عقله» (2)(2).

أقول: إنّما أخّر هذه القسمة عن تلك، لأنّ موضوعها المعدوم، وهو إنّما يفهم بالقياس إلى ملكته الوجودية.

وتقريره، أن نقول:

المعدوم إذا نسب الوجود إلى ماهيته، إمّا أن يكون ممتنعاً لنفس تلك (3)(3)

الذات، أو لا، والأوّل الممتنع كشريك الباري تعالى، وهو الذي لا يصحّ وجوده البتة، والثاني ممكن الوجود كالمتجدّدات من المعدومات، ولا ثبوت لها إلاّ في الذهن، إذ لا فرق بين الثبوت والوجود عند العقل .

ومن جعلهما متغايرين مغايرة العامّ للخاص ، فقد كابر مقتضى عقله.

ص: 42


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 18 الفصل الأوّل.
3- (3) لا يوجد في ب.

وهذا إشارة إلى قول أبي علي، وأبي هاشم وأتباعهما، حيث قالوا: إنّ الثابت عام ّيندرج تحته ثلاثة أشياء: الموجود، فإنّ كلّ موجود ثابت، والمعدوم كما تقدّم في حكاية قولهم، والحال (1)(1) الذي هو صفة لموجود ولا(2)(2) يوصف بالوجود ولا بالعدم. وقد ذكرنا تحقيق الخلاف فيه على جهة الاختصار.

ص: 43


1- (1) في النسخة أ: (مع الحال)، وما أثبتناه من ب، ج.
2- (2) في ب، ج : لا .

ص: 44

الفصل الثاني:فی اقسام الممکنات

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل الثاني: (في أقسام الممكنات).

الموجود الممكن: إمّا أن يكون متحيّزاً، وهو الحاصل في مكان يشار إليه إشارة حسّية بأنّه هنا أو هناك لذاته، وهو الجوهر وما يتركّب (1)(1) منه، أو حالّاً فيه، وهو العرض» (2)(2).

أقول: [موضوع هذه القسمة أخصّ من موضوع القسمة الأولى.

والمراد هنا ب( الممكن): الممكن الخاص، وهو الذي يسلب الضرورة الذاتية عن طرفي وجوده وعدمه.

وتقريره، أن نقول] (3)(3):

ص: 45


1- (1) في أ، ب: تركّب.
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين : 19 الفصل الثاني.
3- (3) أثبتناه من ب.

الموجود الممكن: إمّا أن يكون متحيّزاً، أو لا.

والأوّل، هو الجوهر وما يتركّب منه كالجسم.

والمتحيّز هو: الحاصل في مكان يشار إليه إشارة حسّية بأنّه هنا أو هناك لذاته.

وإنّما قيّد الإشارة ب( الحسّية)، احترازاً من العقلية.

وقيّد بقوله: «لذاته»، لأنّ العرض يشار إليه إشارة حسّية بأنّه هنا أو هناك لا لذاته، بل بواسطة الجوهر، والإشارة دلالة حسّية أو عقلية إلى الشيء لا يشاركه فيها غيره.

والثاني، إمّا أن يكون حالاً في المتحيّز ، أو لا، والأوّل العرض، والثاني عند أكثر المتكلّمين محال.

في الجوهر

قال (دام ظلّه): «أما الجوهر فهو : المتحيّز الذي لا يقبل القسمة في جهة من الجهات» (1)(1).

أقول: هذا تعريف للجوهر الفرد.

ف«المتحيّز» كالجنس، ويخرج به العرض.

وقوله: «الذي لا يقبل القسمة في جهة من الجهات»، أخرج الجسم القابل للقسمة في الجهات الثلاثة، والخطّ القابل لها في الطول، والسطح القابل لهما في الطول والعرض.

ص: 46


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 19 الفصل الثاني.

قال (دام ظلّه): «وإذا تألّف جوهران، فما زاد في جهة واحدة فهو الخطّ، وهو ينقسم في الطول خاصّة، وإن تألّف خطّان، فما زاد في جهتين فهو السطح، وهو ينقسم في الطول والعرض، وإن تألّف سطحان، فما زاد في جهتين فهو الجسم، وينقسم في ثلاث جهات» (1)(1).

أقول: «إذا تألّف جوهران، فما زاد في جهة واحدة».

وقوله: «في جهة واحدة»، قيد في قوله: «فما زاد»، لئلا يدخل السطح والجسم، «فهو الخطّ»، وهو ينقسم في الطول خاصّة.

«وإن تألّف خطّان، فما زاد في جهتين فهو السطح».

وإنّما قال: «في جهتين» -[أي: جهة تألّفه، والجهة المخالفة لها)] (2)(2) - لأنّه لو كان في جهة واحدة - [وهي جهة تألّفه] (3)(3)- لم يحصل إلاّ خطّ، إن كان في ثلاث جهات حصل جسم.

والسطح ينقسم في الطول والعرض خاصّة.

وإن تألّف سطحان في جهتين - [أي: يكون أحدهما في جهة تألّف السطح، والآخر في جهة مخالفة لها، وهي جهة، ويكون منطبقاً عليه](4)(4)- فهو الجسم.

وإنّما قيّد ب«الجهتين»، لأنّه لو كان في جهة واحدة، كان الحاصل سطحاً.

ص: 47


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 19 الفصل الثاني.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) أثبتناه من ب.
4- (4) أثبتناه من ب.

وينقسم في الثلاثة، أعني : الطول والعرض، والعمق.

قال (دام ظلّه): «وأقلّ ما يحصل الخطّ من جوهرين، والسطح من أربعة أو ثلاثة، على خلاف والجسم من ثمانية أو ستّة أو أربعة، على خلاف» (1)(1).

أقول: لا نزاع بين مشايخ المعتزلة في أنّ أقلّ ما يحصل الخطّ منه جوهران، وإنّما وقع الخلاف في السطح والجسم.

ومنشأ اختلافهم هنا، اختلافهم في مقامين:

الأوّل: أنّه هل يمكن أن يحصل جوهر على ملتقى جوهرين، أم لا؟

فمنعه بعض، وجوّزه آخرون.

الثاني: هل يمكن أن يحصل جوهر واحد على ملتقى أكثر من جوهرين، بحيث يلاقيه ثلاثة مثلاً؟

فجوّز (2)(2) بعض، ونفى (3)(3) آخرون.

إذا عرفت هذا، فنقول:

كلّ من لم يجوّز حصول جوهر على ملتقى جوهرين، ذهب إلى أنّ السطح إنّما يتركّب من أربعة جواهر، لأنّه من خطّين، والخطّ من جوهرين.

ومن جوّز ذلك، ذهب إلى أنّ أقلّ ما يتركّب منه السطح ثلاثة جواهر، جوهران وعند ملتقاهما آخر، فيحصل طول وعرض.

ص: 48


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 19 الفصل الثاني.
2- (2) في ب: فجوّزه.
3- (3) في ب: ومنع.

فعلى الرأي الأوّل، ذهب بعضهم: إلى أنّ الجسم أقلّ ما يتركّب منه أربعة جواهر، جوهر على ملتقى جوهرين من جانب، وعلى ملتقى الثلاثة جوهر آخر، فيحصل طول وعرض وعمق.

وذهب بعضهم: إلى أنّ أقلّ ما يتركّب منه ستّة، لأنّه أقلّ ما يتركّب من سطحين، والسطح من ثلاثة؛ وهذا مذهب أبي الهذيل العلاّف (1)(1).

وأمّا على الرأي الآخر، فأقلّ ما يحصل من ثمانية؛ وهو اختيار أبي علي الجبائي (2)(2) ،وأتباعه، وأبي الحسين البصري (3)(3) ، لأنّه أقلّ ما يحصل من سطحين، والسطح من أربعة.

واعلم، إنّ هذه الأقوال كلّها للمعتزلة.

وأمّا الأشاعرة فاختلفوا :

فقال القاضي (4)(4) ، والجويني(5)(5) : [إنّ الجوهر إذا ائتلفا صارا جسمين، لأنّ التأليف عرض قائم بكلّ واحد من ] (6)(6) جوهرين، وكلّ ما قام به التأليف جسم

ص: 49


1- (1) محمّد بن الهذيل بن عبد الله، أبو الهذيل العلاّف المعتزلي (ت 235ه)، تقدّم.
2- (2) أبو علي الجبائي، محمّد بن عبد الوهاب، المتكلّم من رؤوس المعتزلة، المتوفى سنة (303ه).
3- (3) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
4- (4) أبو بكر محمّد بن الطيب بن محمّد القاضي، البصري، المعروف ب(ابن الباقلاني)، المالكي الأشعري (ت 403 ه)، تقدّم.
5- (5) أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الأشعري، إمام الحرمين (ت 478ه)، تقدّم.
6- (6) أثبتناه من ب، ج.

وقال بعضهم: أقلّ ما يتألّف الجسم من جوهرين، لأنّهم فسّروا الجسم بالمؤلّف وبالمنقسم(1)(1)، و هو صادق في المركّب من جوهرين. وأبطل قول الجويني بأنّ الجوهر الواحد لو كان جسماً حال الاجتماع لكان حال الانفراد»، لأنّ الحقائق لا تتغيّر حالة الاجتماع والانفراد (2)(2)، وبأنّ كلّ جسم منقسم، ولا شيء من الجوهر الواحد بمنقسم، وقيام العرض الواحد بمحلّين محال، وإن أراد التسمية (3)(3) فالنزاع لفظي .

في العرض

قال (دام ظلّه):« وأمّا العرض: فإمّا أن يكون مشروطاً بالحياة، أو لا.

والأوّل عشرة: القدرة، والاعتقاد، والظنّ، والنظر، والإرادة، والكراهة، والشهوة، والنفرة، والألم، والإدراك (4)(4) .

أقول: هذا تقسيم العرض.

وتقريره، أن نقول:

العرض إمّا أن يكون حصوله في محلّ مشروطاً بحياة ذلك المحلّ، أو لا، والأوّل عشرة ذكرها المصنّف. وسيأتي تقريرها في موضعه (5)(5).

ص: 50


1- (1) في ب: (وبالمنقسم)، ولا يوجد في ج.
2- (2) لا يوجد في ب، وفي ج: (ولا الانفراد).
3- (3) في ب: التسمية.
4- (4)نهج المسترشدين في أصول الدين : 19 الفصل الثاني.
5- (5) في ب: (تعريفها في موضعها)، في ج: (تعريفها في موضعه).

قال (دام ظلّه): «والثاني، اثنا عشر : الحياة، والأكوان، والألوان، والطعوم، والروائح والحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والصوت، والاعتماد، والتأليف»(1)(1).

أقول: وهذا ظاهر (2)(2).

قال (دام ظلّه): «وأثبت قوم : الفناء عرضاً قائماً لا في محلّ» (3)(3).

أقول: عدم كلّ قابل للعدم إمّا أن يكون لذاته، أو لغيره، والأوّل: الممتنع، والثاني: إمّا أن يكون لطريان الضدّ، أو لفقدان الشرط والفاعل (4)(4).

إذا تقرّر هذا، فنقول :

الجواهر تعدم، لقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ﴾ (5)(5)، ولقوله

تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ (6)(6)، فإنّ فعله عدمها.

إمّا ذاتها، وهو محال، وإلاّ لما وجدت، لأنّها تكون ممتنعة.

أو الفاعل، وهو محال عندهم، لأنّ الفاعل إنّما يؤثّر بأن يوجد لا بالإعدام، أو فقدان الشرط، وهو محال، لأنّ شرط الجوهر إمّا جوهر أو عرض، وكلاهما محال.

ص: 51


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 19 الفصل الثاني.
2- (2) العبارة في ب: (أمّا عدم اشتراط غير الحياة في الأعراض المذكورة فظاهر، لوجودها في غير الحيّ، وأمّا الحياة فلو شرطت بالحياة لزم إمّا الدور أو التسلسل، وهو ظاهر).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 19 الفصل الثاني.
4- (4) في ب، ج : (أو للفاعل).
5- (5) سورة القصص : 88.
6- (6) سورة الرحمن: 26 .

أمّا الأوّل، فلأنّ الجواهر متساوية في الجوهرية، فليس جعل أحدهما شرطاً أولى من الآخر، فيلزم الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا الثاني، فلأنّ العرض مشروط بالجوهر، فلو انعكس دار، فتعيّن القسم الآخر، وهو عدمها لطريان الضدّ.

وليس جوهراً لتساوي الجواهر في الجوهرية، والمتساويان لا يتضادّان، فتعيّن أن يكون عرضاً، ثمّ ذلك إن كان له محلّ فهو جوهر، لكنه ضدّ الجوهر، فلا محلّ له. وهذا خطأ فاحش!

ص: 52

الفصل الثالث:في أحكام المعلومات

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل الثالث: (في أحكام المعلومات)

وفيه مباحث :

في الوجود هل هو صفة زائدة

الأوّل: اختلف الناس في الوجود :

فذهب الأكثر: إلى أنّه صفة زائدة على الماهية.

وذهب آخرون: إلى أنّه نفس الماهية.

والحقّ الأوّل! لأنّا نحكم على الماهية، بأنّها موجودة أو معدومة، ونستفيد من الأوّل زيادة على مفهوم الماهية. ولو قلنا الماهية ماهية، لم نستفد شيئاً.ومن الثاني فائدة غير المناقضة، [بخلاف م ] (1)(1) لو قلنا الماهية ليست ماهية» (2).(2).

ص: 53


1- (1) أثبتناه من المصدر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 20 الفصل الثالث.

أقول: اختلف الناس في الوجود:

فذهب أبو الحسين البصري (1)(1) ، وأبو الحسن الأشعري(2)(2): إلى أنّ وجود كلّ شيء نفس ماهيته.

والمحقّقون: على أنّه صفة زائدة على الماهية.

واحتجّ المصنّف بوجهين:

الأوّل: أنّه لو كان الوجود نفس الماهية ، لم يبق فرق بين قولنا : «الماهية موجودة»، وبين قولنا : «الماهية ماهية». لكن التالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة، فظاهرة.

وأمّا بطلان التالي، فلأنّا نفرّق بينهما، فإنّ قولنا : «الماهية موجودة»، يستفاد منه فائدة زائدة على مفهوم الماهية، وأمّا قولنا: «الماهية ماهية»، لا نستفيد منه شيئاً.

الثاني: لو كان الوجود نفس الماهية، لم يبق فرق بين قولنا: «الماهية معدومة»، وبين قولنا : «الماهية ليست ماهية». لكن التالي باطل، فالمقدّم مثله.

والملازمة ظاهرة.

ص: 54


1- (1) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
2- (2) أبو الحسن الأشعري: علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم، ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، ولد في البصرة سنة (260ه)، وتوفي ببغداد سنة (324ه)، زعيم الأشاعرة ومؤسّس مذهبهم، من الأئمّة المتكلّمين المجتهدين، تلميذ الجبائي أبي عليّ، وتلّقى مذهب المعتزلة وتقدّم فيهم ثمّ رجع وجاهر بخلافهم. له تصانيف كثير، قيل:بلغت ثلاثمائة كتاب.

وأمّا بيان بطلان التالي، فظاهر ، لأنّا نجد الفرق بينهما، فإنّ الأوّل نفهم منه فائدة غير المناقضة، وأمّا الثاني فيستلزم منه التناقض.

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّ الوجود لو كان زائداً على الماهية حالًّا فيها، فإمّا أن يحلّ والماهية موجودة أو معدومة، والأوّل يستلزم التسلسل، والثاني يلزم قيام الموجود بالمعدوم.

والجواب أنّه قائم بالماهية من حيث هي هي، لا باعتبار الوجود، ولا باعتبار العدم» (1)(1).

أقول: احتجّ القائلون بأنّ الوجود نفس الماهية: بأنّه لو كان زائداً عليها لزم التسلسل، أو الدور، أو قيام الموجود بالمعدوم، ويلزم أن يكون المعدوم حال كونه معدوماً موجوداً، وأن لا يكون (2)(2) ما قام به الوجود وجوداً، والتالي بأقسامه باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: إنّ الوجود إمّا أن يحلّ فيها والماهية موجودة، أو معدومة، فإن كان الأوّل، فإمّا أن يكون بهذا الوجود، ويستلزم (3) (3)توقّف الشيء على نفسه وهو الثاني، وإن كان بغير هذا الوجود، فننقل الكلام إليه، فإن كان الأوّل شرطه، لزم الدور.

وبالجملة: فإن كان المشروط شرطاً في شرطه ولو كان بعيداً لزم الدور، وإلاّ لزم التسلسل، وإن كان الثاني وهو أن يحلّ والماهية معدومة، لزم قيام

ص: 55


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 20 الفصل الثالث.
2- (2) في أ: (لا يلزم)، وما أثبتناه من ب، ج.
3- (3) في ب: فيلزم .

الموجود بالمعدوم وهو الأخير (1)(1).

وأمّا بطلان التالي بأقسامه، فظاهر.

والجواب : أنّ القسمة غير حاصرة ، الجواز أن يحلّ في الماهية من حيث هی هی، لا باعتبار الوجود، ولا باعتبار العدم. وهذا شأن موضوع كلّ قضية مع محمولها ، فإنّا إذا طلبنا نسبة الحيوان إلى الإنسان إيجاباً أو سلباً، فإنّا نأخذ الإنسان لا باعتبار كونه حيواناً، ولا باعتبار كونه ليس بحيوان، بل من حيث هو هو.

في بيان اشتراك الوجود

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في أنّه مشترك:

الحقّ أنّه كذلك! لأنّا نقسّم الوجود إلى الواجب والممكن، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، ولأنّ النفي أمر واحد، وهو نقيض الوجود، فيكون الوجود واحداً، لأنّه لو تعدّد لم تنحصر القسمة في قولنا: الشيء إمّا موجود أو معدوم»(2)(2).

أقول: اختلف الناس في الوجود:

فذهب بعضهم: إلى أنّه غير مشترك [ اشتراكاً معنوياً، بل هو مشترك بالاشتراك اللفظي كالعين ](3)(3).

ص: 56


1- (1) في أ: الآخر.
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين: 20 - 21 الفصل الثالث.
3- (3) أثبتناه من ب.

أمّا على القول بأنّ الوجود نفس الماهية، فظاهر.

وأمّا على القول بأنّه زائد، فالقائل بأنّه غير مشترك، يقول: إنّ الوجودات العارضة للماهية مختلفة بالحقائق، وأنّ قول الوجود عليها بالاشتراك اللفظي.

والمحقّقون: على أنّه مشترك اشتراكاً معنوياً.

واستدّل المصنّف بوجهين:

الأوّل: إنّا نقسّم الوجود إلى الواجب والممكن، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، (1)(1) وإن أُريد قسمة الكلّي إلى جزئياته فهو عين الدعوى، وإن أُريد الترديد المانع للجميع أو الحقيقي لم يلزم الاشتراك، لصدقه بين ما هو صادق دائماً (2)(2)، وبين ما هو كاذب دائماً.

والحقّ أنّ الحكم بديهي!

وهذه تنبيهات لا استدلالات.

الثاني: مفهوم السلب مفهوم واحد من حيث هو سلب، فإن كان المقابل له إيجابات كثيرة مختلفة المفهوم ، بطل الحصر في قولنا: الشيء إمّا موجود، أو معدوم، أو متّحد المفهوم، وهو المطلوب.

ص: 57


1- (1) في ج توجد العبارة التالية: (ولأنّ النفس أمر واحد وهو بعض الوجود فيكون الوجود واحداً لأنّه لو تعدّد، إن أريد).
2- (2) العبارة في أ: (الصدقه بين ما هو المراد الحقيقى المنعقلة الحقيقة صادقاً دائماً)،وما أثبتناه من ب، ج.

في تعريف الوجود

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث:

الحقّ أنّ تصوّر الوجود والعدم والوجوب والإمكان والامتناع ضروري، لأنّه لا شيء أظهر عند العاقل من كونه موجوداً، وأنّه ليس بمعدوم.

ومن عرّف الواجب: بأنّه ما ليس بممكن ولا ممتنع، وعرّف الممكن: بأنّه ما ليس بواجب ولا ممتنع، وأنّ الممتنع: هو الذي لا يمكن وجوده، لزمه الدور.

وكذا كلّ ما يقال في هذا الباب من التعريفات» (1)(1).

أقول: تصوّر الوجود والعدم والوجوب والإمكان والامتناع بديهي بالضرورة، خلافاً لبعض الناس فيهما.

حيث حكم بعضهم: بأنّه كسبيّ.

وآخرون بأنّ الحكم بالبداهة كسبيّ مستفاد من التصديق بأن وجودي بديهي.

والوجود جزء من وجودي، والعلم بالجزئيات (2)(2) سابق على العلم بالكلّ، والسابق على الأوّلي أولى أن يكون أوّلياً، لأنّ التصوّر البديهي للعقل بذاته، والكسبي له بغيره، ويستحيل أن يكون ما بالغير أقدم ممّا بالذات (3)(3)

ص: 58


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 21 الفصل الثالث.
2- (2) في ب، ج : الجزء.
3- (3) في ج: الذاتية.

بالذات والطبع (1)(1) . والوجود في الكلّ واحد، فالوجود المطلق أولى.

وهو مبني على أنّ الوجود من حيث هو جزء من جزئياته، وهو غلط ! لأنّه مقول (2)(2) بالتشكيك عليها .

ومن أنّ التصديق البديهي بأنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ويجوز الاتّصاف بأيّهما كان، ليس إلاّ التصديق بأنّه يمتنع الخلوّ عن العدم والوجود، ويجب الاتّصاف بأحدهما، ويجوز الاتّصاف بأيّهما كان على البدل، وهو لا محالة مسبوق بتصوّر الوجود والعدم والوجوب والامتناع والإمكان، وهو مبني على أنّ تصوّرات التصديق البديهي بديهية (3)(3)، وقد بان بطلانه في المنطق (4)(4) .

احتجّ المصنّف : بأنّه بديهي بالضرورة، فإنّه لا شيء عند العاقل أظهر من كونه موجوداً وأنه ليس بمعدوم، ويعرف الوجود والعدم بالضرورة.(5)(5) وإن لم يتنبه بهذه المقدّمات.

ومن عرّف الواجب: بأنّه ما ليس بممكن ولا ممتنع، وعرّف الممكن: بأنّه

ص: 59


1- (1) في ب، ج: أو الطبع.
2- (2) في ج: منقول.
3- (3) لا يوجد في ب.
4- (4) فى أ: الحقّ ، وما أثبتناه من ب، ج.
5- (5) في ب توجد هذه العبارة : ( ويفهم من كلام المصنّف مفسد آخر: وتقريره: أنّ تصوّر الوجود أظهر عند العقل من تصوّر جميع ما عداه، فلو لم يكن ضرورياً لم يمكن العلم به، لأنّه يتوقّف على حدّ أو رسم تعريفه، إمّا بنفسه، وهو دور محال، أو بغيره، وهو تعريف بالأخفى، وقد بُيّن في المنطق استحالته).

ما ليس بواجب [ ولا ممتنع،وعرّف الممتنع: بأنّه ما ليس بواجب](1)(1) ولا ممكن، لزمه الدور ، ولأنّه تعريف لكلّ واحد من هذه بالآخر.

وكذلك كلّما يقال في هذا الباب من التعريفات.

في الوجوب والإمكان والامتناع

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع:

الوجوب والامتناع والإمكان من الاعتبارات العقلية، وليست أُموراً موجودة في الخارج، لأنّ كلّ موجود في الخارج، [ فهو ] (2)(2): إما واجب، أو ممكن.

فلو كان الوجوب ثابتاً في الخارج: فإن كان واجباً لزم التسلسل، وإن كان ممكناً جاز زواله، فيزول الوجوب عن الواجب، فيكون الواجب ممكناً، هذا خلف.

ولو كان الإمكان ثابتاً في الخارج: فإن كان واجباً كان الممكن الذي هو شرط فيه واجباً، لأنّ شرط الواجب واجب، هذا خلف. وإن كان ممكناً لزم التسلسل.

ولو كان الامتناع ثابتاً في الخارج: كان الموصوف به - وهو الممتنع في الخارج - ثابتاً في الخارج، لأنّ ثبوت الصفة فرع ثبوت الموصوف، وهو محال»(3)(3).

ص: 60


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) أثبتناه من المصدر.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 21 الفصل الثالث.

أقول : الوجوب والإمكان والامتناع من الاعتبارات العقلية، وليست من الأُمور الثابتة الأعيان في الخارج.

أمّا الوجوب: فيطلق على معنيين:

الأوّل: عدم توقّفه في وجوده على غيره، ولا شكّ في أنّه ليس بثابت بهذا المعنى، لأنّه مفهوم سلبي.

الثاني: استحقاقه للوجود من ذاته، وهو أمر اعتباري أيضاً.

وأمّا الإمكان: فيطلق على الذاتي والاستعدادي.

والأوّل، من الاعتبارات العقلية، وأمّا الثاني، فنفاه المتكلّمون، وأثبته الحكماء، وهو من الأُمور الوجودية من مقولة الكيف.

وأمّا الامتناع : فلا شكّ أنّه من الاعتبارات العقلية.

واستدلّ المصنّف على أنّ هذه الثلاثة من الاعتبارات العقلية: بأنّ كلّ موجود فإمّا أن يكون واجباً أو ممكناً ، فلو كان الوجوب موجوداً، فإمّا أن يكون واجباً أو ممكناً، وكلاهما محال.

أمّا الأوّل: فللزوم التسلسل، إذ يكون له وجوب آخر، إذ الوجوب ثابت، وهو نسبة بين الماهية والوجود، والنسبة متأخّرة عن المنتسبين، فهو مغاير ثابت، فله وجوب آخر، ويتسلسل.

وأمّا الثاني: فلأنّه لو كان ممكناً لزال الوجوب عن الواجب، فيصير الواجب ممكناً، هذا خلف.

فأما الإمكان، فلو كان ثابتاً، فإمّا أن يكون واجباً أو ممكناً، وكلاهما محال.

أمّا الأوّل: فللزوم أن يصير الممكن واجباً، لأنّ الإمكان صفة للممكن،

ص: 61

ووجود الموصوف شرط وجود الصفة، وشرط الواجب واجب، هذا خلف.

وأمّا الثاني: فلاستلزامه التسلسل ، إذ لو كان ممكناً لكان إمكانه زائداً على ماهیته، فإنّه نسبة، والنسبة متأخّرة عن المنتسبين، فإمكانه ثابت فله إمكان آخر، ويتسلسل.

وأمّا الامتناع، فلا شكّ أنّه من الاعتبارات العقلية التي لا ثبوت لها في الخارج، ولأنّه لو كان ثابتاً، لكان الممتنع ثابتاً، فيكون الممتنع إمّا واجباً أو ممكناً. هذا خلف.

بيان الملازمة: إنّ وجود الموصوف شرط وجود الصفة .

ص: 62

الفصل الرابع:في أحكام الموجودات

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل الرابع:( في أحكام الموجودات)

وفيه مباحث:

في الجوهر الفرد

الأوّل: اختلف الناس في وجود الجوهر الفرد: فأثبته قوم، ونفاه آخرون.

احتجّ المثبتون: بأنّا إذا وضعنا الكرة الحقيقية على السطح الحقيقي لاقته بما لا ينقسم، وإلاّ كانت مضلّعة، فإذا دحرجت عليه لاقته في كلّ آن يفرض بنقطة، فيكونان مركّبين من الجواهر.

واحتجّ النفاة: بأنّا إذا وضعنا جوهراً بين جوهرين، فإن لاقاهما بالأسر لزم التداخل، وإن كان لا بالأسر لزم الانقسام.

وها هنا حجج كثيرة من الطرفين ذكرناها في كتاب (الأسرار ) (1)(1) (2)(2) .

ص: 63


1- (1) كتاب (الأسرار الخفية في العلوم العقلية، من الحكمة والكلام والمنطق)، للعلاّمة ابن المطهّر (قدّس سرّه) يردّ فيه على الفلاسفة.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 22 الفصل الرابع.

أقول: مقدّمة: الجوهر، عرّفه الحكماء : بأنّه الموجود لا في موضوع، وعنوا بالموجود الموجود الممكن، ليخرج الواجب، وعنوا بالموضوع: المحلّ الذي يستغني عن الحالّ فيه، ويقوم الحال فيه.

وقال كثير من المعتزلة: الجوهر: هو المتحيّز. وقال بعضهم: الثابت المتحيّز ، [ وهو قول من أثبت المعدوم وجعل له صفة التحيّز ] (1)(1) .

وقال بعض الأشاعرة: إنّه الذي يقبل العرض، وهو بناء على امتناع قيام العرض بالعرض.

وقال بعضهم: إنّه الذي يشار إليه إشارة حسّية بالقصد الأوّل.

والجوهر الفرد، هو: المتحيّز الذي لا يقبل القسمة الفكّية، ولا الذي باختلاف الأعراض، ولا العرضية، ولا الوهمية، في شيء من الجهات.

إذا عرفت ذلك، فنقول :

اختلف الناس في إثبات الجوهر الفرد ونفيه: فأثبته أكثر المتكلّمين، وبعض القدماء. ونفاه أكثر الحكماء (2)(2).

احتجّ المثبتون: بأنّا إذا وضعنا كرة حقيقية - وهي جسم مستدير يفرض في داخله نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إلى المحيط متساوية - على سطح حقيقي - وهو البسيط الموضوع على مقابله، أي: الخطوط المفروضة عليه بعضها لبعض - فموضع الملاقاة غير منقسم، وإلاّ لخرج أحدهما عن شكله المفروض (3)(3)، لأنّا

ص: 64


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) إلى هنا و من بداية الفصل سقط من أ، وأثبتناه من ب، ج.
3- (3) في ب: الموضوع.

نخرج خطّين من المركز إلى طرفي خطّ (1)(1) الملاقاة، فيرسم مثلّث قاعدته خطّ الملاقاة، فإذا أُخرج من المركز عموداً كان أقصر من الخطّين، لأنّه يوتر حادّة، وهما يوتران قائمتين، فلا تكون الكرة حقيقية. فإذا أدرنا الكرة على السطح حتّى تتم الدائرة، حصلت نقط متتالية تتركّب منها الدائرة.

وهذا البرهان يعم القسمة الفرضية والوهمية لمطابقتها للممكن في نفس الأمر، وهذا الدليل إلزامي، لأنّ المتكلّمين أحالوا الكرة الحقيقية.

لا يقال: ثبوت الكرة مبنيّ على نفي الجزء، وإثباته به يستلزم توقّف الشيء على نفسه !

لأنّا نقول : بل المراد استلزام (2)(2) نفيه ثبوته، فيكون نفيه محالاً.

احتجّ النفاة: بأنّ الجوهر بين الجوهرين إن اتّحد الطرف المماس لأحدهما بالطرف المماس للآخر لزم التداخل، وإلاّ انقسم الجوهر.

وهاهنا حجج كثيرة من الطرفين، أعرضنا عن ذكرها هنا للاختصار.

في أحكام الأجسام

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في أحكام الجواهر :

الأجسام متماثلة خلافاً للنظّام، لأنّ المعقول من الجسم - هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم أمر واحد - متساوٍ في الجميع، فتكون متساوية» (3)(3).

ص: 65


1- (1) في أ: (خطّي)، وما أثبتناه من ب، ج.
2- (2) لا يوجد في أ.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 22 الفصل الرابع.

أقول: [هذه مسألة شريفة بحث المتكلّمون عنها لأّنّها يتوصّل بها إلى مطالب مهمّة، كحدوث الأفلاك والكواكب، والقول بقدرة الله تعالى واختياره، والقول بانخراق العادات الدالّة على النبوّة، وغير ذلك.

وتقريره، أن نقول](1)(1):

اختلف الناس في تماثل الأجسام :

فالمحقّقون: على أنّها متماثلة في الجسمية، خلافاً للنظّام (2)(2)، فإنّه ذهب إلى أنّ كلّ جسم شخصي مخالف للجسم الآخر في جسميته (3)(3)، ولفظ الجسم يقال عليهما بالاشتراك اللفظي. وهو اختيار النجّار (4)(4) من المعتزلة.

احتجّ المصنّف: بأنّ جميع (5)(5) الأجسام متساوية في تمام مفهوم الجسم مطلقاً،فهي متساوية في الجسمية.

أمّا الصغرى، فلأنّ الجسم عبارة عن الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم، فالجوهر جنس.

وقولنا: «القابل للأبعاد»، أخرج المجرّدات.

ص: 66


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) أبو إسحاق النظّام: إبراهيم بن سيار بن هاني البصري المتكلّم المعتزليِّ، أحد شيوخ المعتزلة، توفي سنة (231ه)، تابعته فرقة من المعتزلة سميت (النظامية)، أُستاذ الجاحظ، له تصانيف عدّة في الفلسفة والاعتزال.
3- (3) فى أ: (الجملة)، وما أثبتناه من ب، ج.
4- (4) النجّار: أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبد الله النجّار الرازي المعتزلي، المتوفي نحو سنة (230ه)، من متكلّمي المجبّرة، ورأس الفرقة النجّارية من المعتزلة.
5- (5) لا يوجد في أ.

وتقاطع الأبعاد إنّما يكون على زوايا قوائم وإلاّ لم يكن جسماً.

والزاوية القائمة هي: الزاوية الحادثة من وقوع خطّ مستقيم على آخر مثله على الاستقامة من غير ميل عن أحد الجانبين، وإن مال إلى أحد الجانبين كانت الزاوية الصغيرة حادّة، والكبيرة منفرجة، وهذا مفهوم متساوٍ في الجميع، وهذا تفسير الحكماء.

وأمّا على قول المتكلّمين: فإنّه عبارة عن الطويل العريض العميق، فيخرج الخطّ الذي هو مجرّد الطول، والسطح الذي هو مجرّد البعدين، ويبقى الحدّ منطبقاً على الجسم، وهو متساوٍ في الجميع أيضاً.

وأمّا الكبرى، فضرورية (1)(1).

واعلم، إنّ هذه المسألة مبدأ لمطالب جليلة للمتكلّمين، كانخراق الأفلاك وحدوثها وغير ذلك، فإنّ أحد البراهين الدالّة على ذلك مبنيّ عليها (2)(2).

[احتجّ النظام: بأنّها مختلفة في اللوازم الذاتية، فتختلف الملزومات في الماهية، والمقدّمتان ظاهرتان.

والجواب: أنّ الجسم جنس، فتختلف أفراده ](3)(3).

ص: 67


1- (1) في ج: فظاهرة، والعبارة لا توجد في أ.
2- (2) العبارة لا توجد في ب.
3- (3) أثبتناه من ب.

في بقاء الأجسام

قال (دام ظلّه): «وهي باقية، خلافاً له (1)(1) [أيضاً ] (2)(2).

والضرورة قاضية بذلك، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ الجسم الذي شاهدناه في الزمن الأوّل هو بعينه الموجود في الزمن الثاني» (3)(3).

أقول: المحقّقون على أنّ الأجسام باقية.

ومستنده: الضرورة؛ لأنّا نعلم بالضرورة أنّ الجسم الذي شاهدناه في الزمن الأوّل، هو بعينه الموجود في الزمن الثاني، وإنّه لم يعدم فيما بينهما.

ونُقل عن النظّام (4)(4) : أنّه ذهب إلى عدم بقاء الأجسام، بل كلّ جسم يوجد في آن فإنّه يعدم في الآن الثاني ويوجد مثله، ولتقارب الآنين لا يفرّق الحسّ بينهما.

والظاهر أنّه غلط من الناقل ! وحسبه أنّه ذهب إلى أنّ الباقي الممكن محتاج إلى المؤثّر، والجسم ممكن ، فلا يبقى لذاته ، بل يحتاج إلى غيره.

وقيل: أنّه ذهب إلى بقائها للآية، وفناء الباقي بطريان الضدّ، ولا ضدّ للأجسام، فقال بعدم بقائها. وقال مع ذلك بجواز إعادة المعدوم، ففي كلّ آن يوجد يعدم بعده، ثمّ يوجد في آن ثالث، هكذا نقل عنه بعضهم، وهو الذي صحّ عنه !

ص: 68


1- (1) أي: النظّام.
2- (2) أثبتناه من المصدر.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 22 الفصل الرابع.
4- (4) إبراهيم بن سيار البصري المعتزلي، أبو إسحاق النظّام (ت 231ه)، تقدّم.

فإنّ الأوّل لا يقول به من له أدنى تنبه، والثاني هو المذهب الحقّ! و لم يقصده.

واعلم أنّ الضرورة قاضية ببطلان ذلك!

قال (دام ظلّه): «ويستحيل عليها التداخل، خلافاً له أيضاً، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ البعدين إذا اجتمعا زادا على البعد الواحد» (1)(1).

أقول: تداخل الأبعاد، هو: اجتماع بعدين في بعد واحد، بحيث لا يزيدان على مقدار البعد الواحد، وهو محال بالضرورة، لأنّا نعلم قطعاً أنّ كلّ بعدين إذا اجتمعا زاد البعد الواحد، ولأنّهما إمّا أن يبقيا أو يعدما، أو يعدم أحدهما، وعلى كلّ تقدير فلا تداخل.

أمّا الثالث والثاني، فظاهر.

وأمّا الأوّل، فلأنّهما إذا بقيا على حالهما فهما أزيد من البعد الواحد بالضرورة.

وإنّما قال النظّام بالتداخل، لأنّه قال بتركّب جسم من أجزاء لا تتناهى، وأنّ المقادير متناهية، وأنّ زيادة الأجزاء مع عدم التداخل يوجب زيادة المقدار، فلولا تداخل الأجزاء لكان مقدار الجسم غير متناه، وهو محال.

واعلم أنّ المقدّمة الأُولى باطلة، ومطلوبه ضروري الاستحالة!

وننبّه عليه: أنّه يجوز دخول كرة العالم في مقدار الخردلة، بل بداخلها عوالم مثل هذا العالم على قوله !

ص: 69


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 23 الفصل الرابع.

قال (دام ظلّه): «ويجوز خلوّها من جميع الأعراض إلاّ الكون، لأنّ الهواء كذلك، وخلاف الأشعرية ضعيف» (1)(1) .

أقول: ذهب المحقّقون: إلى أنّ الأجسام يجوز خلوّها من جميع الأعراض إلاّ الكون، وهو مذهب المتقدّمين من المعتزلة.

وذهبت الأشاعرة: إلى أنّ الجواهر المتحيّزة لا تخلو عن شيء من الأعراض التي يمكن اتّصافها بها، أو عن ضدّه.

وذهب البغداديون من المعتزلة : إلى أنّ امتناع خلوّها عن الألوان والأكوان، فلا تخلو عن لون ما قياساً على الكون، وهو ضعيف! لأنّ الهواء الصرف خال من جميع الأعراض إلاّ الكون، وفيه نظر! لاقتضاء طبيعته (2)(2) الحرارة والرطوبة؛ والقياس هنا باطل، لخلوّه عن الجامع، ولعدم إفادته الظنّ، فكيف العلم!

واعلم أنّه قد اتّفق الكلّ على امتناع خلوّها عمّا اتّصفت به، أو عن ضدّه، أو حكمه بعد الاتّصاف.

وذهب المحقّقون: إلى أنّ الجسم لا يخلو عن الأكوان(3)(3) والأشكال،

لوجوب التناهي.

قال (دام ظلّه): «وهي مرئية بواسطة الضوء واللون» (4)(4).

ص: 70


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 23 الفصل الرابع.
2- (2) في ج: تبعيته.
3- (3) في أ: الألوان، وما أثبتناه من ب، ج.
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين : 23 الفصل الرابع.

أقول: المرئيات تنقسم: إلى مرئيات أُولى، أي: بغير واسطة كالأضواء والألوان، وإلى مرئيات ثانية، أي: بواسطة كالأجسام، فإنّها مرئية بواسطة الضوء واللون.

في تناهي الأجسام

قال (دام ظلّه): «وهي متناهية، خلافاً للهند. لأنّه لولا ذلك لأمكن فرض خطّين غير متناهيين خرجا من نقطة واحدة، كساقي مثلث، فإنّ البعد بينهما يتزايد بتزايدهما، فإذا كانا غير متناهيين كان البعد بينهما غير متناه، فيكون ما لا يتناهى محصوراً بين حاصرين، وهو باطل بالضرورة» (1)(1) .

أقول: يريد إثبات تناهي الأبعاد.

وهذا الدليل يتوقّف على أربعة مقدّمات:

المقدّمة الأُولى: أنّه يمكن فرض خطّين خرجا من نقطة واحدة، كساقي مثلث، وهي ظاهرة.

المقدّمة الثانية: أنّه يجوز أن يوجد بينهما أبعاد تتزايد بقدر واحد من الزيادات، مثلاً يكون البعد الأوّل ذراعاً، والثاني زائد عليه بنصف ذراع، والثالث زائد على الثاني أيضاً بنصف ذراع، وهلّم جرّاً.

وينبغي أن تكون الزيادات بقدر واحد ، ليصير البعد الزائد عنهما المشتمل على تلك الزيادات غير متناه في الطول.

ص: 71


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 23 الفصل الرابع.

ألا ترى أنّا إذا نصّفنا خطاً وجعلنا أحد نصفيه أصلاً، وزدنا عليه نصف النصف الآخر ، ثمّ نصف النصف الباقي، وهلّم جرّاً إلى غير النهاية، وهذا غير ممتنع بحسب الفرض بسبب احتمال كلّ مقدار للانقسامات الغير المتناهية، كانت الزيادات التي يمكن ضمّها إلى الأصل غير متناهية، والأصل يتزايد لا إلى نهاية،مع أنّه لا ينتهي إلى مساواة الخطّ الأوّل المنصّف، فيثبت أنّ هذه الزيادات إذا كانت تتناقص ، لا يلزم من كونها غير متناهية أن يصير الزائد عليه غير متناه. أمّا إذا كانت بقدر واحد وكانت متزايدة، فالمطلوب حاصل.

المقدّمة الثالثة : أنّه يجوز أن يفرض بين الامتدادين هذه الأبعاد المتزايدة بقدر واحد إلى غير النهاية، فيكون هناك إمكان زيادات على أوّل تفاوت يفرض بغير نهاية.

المقدّمة الرابعة : أنّ كلّ زيادة توجد فإنّها مع المزيد عليه قد توجد في واحد، فلكلّ(1)(1) بعد أحدثه وجدت جميع الزيادات التي دونه موجودة فيه، مثلاً عاشر الأبعاد، هو التسعة السابقة عليه مع زيادة.

إذا ثبت ذلك، فنقول :

كلّ واحد من الزيادات الغير المتناهية إمّا أن يكون حاصلاً في بعد آخر فوقه، أو لا يكون، فإن لم يكن كلّ زيادة حاصلة في بعد آخر، كانت هناك زيادات غير موجودة في بعد آخر، فلا يكون فوق تلك الزيادة بعد آخر، إذ لو كان لكانت تلك موجودة فيه، فحينئذ قد انقطعا، فكانا متناهيين. وإن كان كلّ زيادة منهما حاصلة في الغير، فإمّا أن يكون الكلّ حاصلاً في بعد، أو لا يكون،

ص: 72


1- (1) في ب: فكلّ، وفي ج: وكلّ.

ومحال أن لا يكون! لأنّا قد بيّنا أنّ البعد العاشر مثلاً ليس فيه زيادة على التاسع فقط، بل هو عبارة عن البعد الأوّل مع مجموع تلك الزيادات إلى البعد العاشر.

فظهر أن تلك الزيادات بأسرها موجودة في بعد واحد، وذلك محال من وجهين:

الأوّل: أنّ ذلك البعد غير متناه مع كونه محصوراً بين حاصرين.

الثاني: أنّ البعد المشتمل على جميع الزيادات إن كان فوقه بعد آخر، فهو غير مشتمل على الجميع، لأنّه لا يشتمل على ما فوقه، وإن لم يكن فوقه بعد آخر، فقد انقطع الامتدادان.

فالقول بلا نهاية الامتدادين يفضي إلى أقسام كلّها باطلة!

واعلم، أنّ الالتباس هنا في استلزام كون كلّ زيادة حاصلة في بعد، لكون الكلّ حاصلاً في بعد.

في جواز الخلأ بين الأجسام

قال (دام ظلّه):« ويجوز الخلأ بينها، لأنّا إذا وضعنا سطحاً مستوياً على مثله، ثمّ رفعناه رفعاً مستوياً ارتفع جميع جوانبه، وإلاّ لزم التفكيك. ففي أوّل زمان رفعه يخلو الوسط، لأنّ حلول جسم فيه إنّما يكون بعد المرور على الطرف، فحال كونه في الطرف يكون الوسط خالياً.

ولأنّ الملاء لو كان موجوداً ، لكان إذا تحرك الجسم، فإن بقي المكان الذي ينتقل إليه مملواً لزم التداخل . وإن تحرك الجسم عنه، فإن كان إلى مكان الأوّل لزم الدور، وإن كان إلى مكان ثالث لزم تحرك العالم بتحرك البقّة، وهو معلوم

ص: 73

البطلان»(1)(1).

أقول: قد فسّر بعضهم الخلاً: بأنّه يوجد جسمان لا يتلاقيان، ولا يكون بينهما ما يلاقيانه، هو الذي يسمّى : بُعداً مفطوراً.

وهذا تعريف للخلأ الذي بين الأجسام، ولا يتناوله الذي لا يتناهى، والقائلون به فرقتان:

فرقة تزعم: أنّه لا شيء محض.

وفرقة تزعم: أنّه بُعد ممتدّ في جميع الجهات من شأنه أن تشغله الأجسام بالحصول فيه، ويكون مكاناً لها.

وذهب جمهور الحكماء وبعض المتكلّمين والكرّامية (2)(2) : إلى امتناعه.

احتجّ المصنّف على جوازه بوجهين:

الأوّل: أنّ سطحاً حقيقياً إذا لقي سطحاً آخر مثله، ثمّ ارتفع عنه دفعة واحدة، وجب وقوع الخلأ بينهما حال الارتفاع.

فلنبيّن إمكان هذه الأُمور:

أمّا صحّة لقاء سطح سطحاً آخر : فلأنّه لو امتنع ذلك لكان القول بالخلاً ظاهراً.

وأيضاً فالبديهة حاكمة بصحّته، لأنّا إذا وضعنا باطن إصبعنا على جسم آخر، علمنا بالبديهة أنّه لا يمكن أن يقال أنّه لم تحصل الملاقات إلاّ بين نقطٍ

ص: 74


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 23 الفصل الرابع.
2- (2) الكراميّة: هم أصحاب أبي عبد الله محمّد بن كرّام السجستاني المتكلّم، المتوفّى سنة (255ه)، وهم على فرق عديدة.

متفرّقة في أصبعنا وبين نقطٍ متفرّقة في ذلك الجسم.

وأمّا صحّة ارتفاع أحد السطحين عن الآخر دفعة: فلأنّ الجزء الأوّل من السطح الأعلى إذا ارتفع عن السطح الأسفل، فلو بقي الجزء الثاني من السطح الأعلى مماساً للسطح الأسفل، لزم وقوع التفكيك في السطح الأعلى، لأنّ الجزء الأوّل إذا ارتفع فقد تحرك إلى الفوق، فلو بقي الجزء الثاني مماساً لما كان مماساً له قبل ذلك، فهو حينئذ لم يتحرك أصلاً، والجسم إذا تحرك أحد جانبيه ولم يتحرك من الجانب الآخر أصلاً، لزم أن يتفكّك كلّ واحد من هذين الجزأين عن الآخر.

وأمّا أنّه لمّا ارتفع أحدهما عن الآخر دفعة لزم خلوّ الوسط : لأنّه لو حصل بينهما جسم، فإمّا أن يقال أنّه كان بينهما، أو انتقل إليه حين رفعنا الأعلى عن الأسفل.

والأوّل باطل، لأنّه من الممكن أن ينطبق سطح على سطح كما بينّاه، وإذا كان ذلك ممكناً فلنفرض وقوعه، لأنّ المبني على ما ثبت إمكانه ممكن.

والثاني باطل أيضاً، لأنّ الانتقال إليه إمّا أن يكون من مسام الأعلى، أو الأسفل، أو من الجوانب. والأوّل باطل، لأنّ الأجسام وإن كان فيها منافذ، إلاّ أنّ بين كلّ نقطتين سطحاً متّصلاً، وإلاّ لم يكن في السطح ذي المنافذ سطح متّصل، فحينئذ يكون الجسم عبارة عن نقط متفرّقة، وذلك محال. وإذا كان في السطح ذي المنافذ سطح متّصل، ونجد السطح ذي المنافذ قد يرتفع عمّا تحته، علمنا أنّ كلّ واحد من تلك السطوح المتّصلة قد ارتفع عمّا تحته دفعة، فإذا لم يكن في ذلك السطح شيء من المنافذ، استحال أن يقال: الجسم يدخل من منافذه. والثاني باطل، لأنّ انتقال تلك الأجسام من الجوانب إلى الوسط إمّا أن لا تحتاج إلى المرور بالطرف، وهو ظاهر الفساد، أو تحتاج، وحينئذ لا يخلو إمّا أن

ص: 75

يقال: أنّه حين ما يكون في الطرف يكون في الوسط أيضاً، وهو ظاهر الاستحالة، أو لا يكون، فيكون الوسط حين ما يكون الجسم المنتقل حاصلاً في الطرف خالياً، وهو المطلوب.

الثاني : لو كان العالم ملاء، لكان الجسم إذا انتقل، فإمّا أن ينتقل إلى مكان كان مملوءاً، أو كان فارغاً، والثاني هو المطلوب، والأوّل لا يخلو إمّا أن ينتقل إلى مكان الجسم الذي انتقل إلى مكانه، أو إلى مكان آخر.

والأوّل باطل، لأنّ حركة الجسم عن مكانه موقوفة (1)(1) على فراغ المكان المنتقل إليه، فلو انتقل كلّ واحد منهما إلى مكان صاحبه، لزم احتياج حركة كلّ واحد منهما إلى حركة الآخر، فيكون دوراً.

والثاني باطل، لأنّ الكلام في كيفية انتقال ذلك الجسم كالكلام في انتقال الجسم الأوّل، فيلزم تدافع الأجسام بأسرها، حتّى يلزم من حركة البقّة حركة العالم، وذلك معلوم الفساد.

في حدوث الأجسام

قال (دام ظلّه):« وهي حادثة، لأنّها لو كانت أزلية لكانت إمّا متحركة أو ساكنة، والقسمان باطلان.

أمّا الملازمة، فلأنّها حينئذ لا بدّ لها من مكان، فإن كانت لابثة فيه كانت ساكنة، وإن كانت منتقلة عنه كانت متحرّكة، ولا واسطة بينهما .

ص: 76


1- (1) في ب: متوقفة.

وأمّا بطلان الأوّل، فلأنّ الحركة عبارة عن حصول الجسم في حيّز بعد أن كان في آخر، فماهيتها تستدعي المسبوقية بالغير، والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فالجمع بينهما محال.

وأمّا بطلان الثاني، فلأنّها لو كانت ساكنة لامتنعت الحركة عليها، لأنّ السكون الأزلي يستحيل زواله، والتالي باطل، لأنّ الأجسام بأجمعها متحرّكة: أمّا الفلكيات فظاهر ، وأمّا العناصر فلأنّها إما بسائط، وإمّا مركّبات.

أمّا المركّبات فحركتها ظاهرة، وأمّا البسائط فلأنّ الجانب الذي يلاقي به بعضها بعضاً مساوٍ للجانب الآخر، فيصحّ على الآخر الملاقاة، وإنّما يكون ذلك بالحركة، فصحّت الحركة» (1)(1) .

أقول: [ها هنا مقدّمات:

أ - المراد بالحادث هنا : ما تقدّم عدمه على وجوده تقدّماً لا يجامع المتقدّم المتأخّر، كتقدّم الأمس على اليوم، وهذا ليس تقدّماً بالزمان، وإلاّ لكان للزمان زمان، ويتسلسل.

ب - هذه المسألة - وهي حدوث الأجسام - ركن من أركان الدين الأُصولية، ومنها يستفاد حدوث الأعراض، لأنّ مفهوم العرض الحال في المتحيّز، ويفهم من أدلّتها حدوث الجواهر الأفراد، وهي مقدّمة من أحد براهين إثبات وجود واجب الوجود تعالى وصفاته، لأنّه إذا ثبت حدوث الأجسام ثبت أنّ لها محدِثاً بالضرورة ، وليس بمحدَث لاستحالة التسلسل، وأنّه قادر لأنّه لو كان موجباً لكان أثره قديماً، وعالم ومريد لأنّه فعل القادر تابع للإرادة، والداعي

ص: 77


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 23 – 24 الفصل الرابع.

كما يأتي، وحيّ لاستحالة اتّصاف غير الحيّ بالقدرة والإرادة، وتوقّف إثبات النبوّة والشرائع على كونه تعالى قادراً وعالماً.

إذا تقرّر ذلك، فنقول](1)(1):

الأجسام حادثة، لأنّها لو كانت أزلية لكان السكون أو الحركة أزلياً، والتالي بقسميه باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة، فلأنّ الأجسام لا تعقل إلاّ حاصلة في مكان أو محاذاة، فإن كانت لابثة فيه، أو مستمرّة على حالة واحدة - أي: في مكان واحد معيّن - أو محاذاة أكثر من زمان واحد، فهي ساكنة، وإن كانت منتقلة عنه كانت متحرّكة. وهذه قسمة حاصرة مردّدة بين النفي والإثبات، فلو كانت أزلية لكانت في الأزل حاصلة في مكان أو محاذاة ، وإن كانت منتقلة عنه فهي متحرّكة في الأزل، وإن كانت لابثة فهي ساكنة في الأزل.

وأمّا بطلان التالي بقسميه، فنقول:

أمّا بطلان قِدم الحركة، فلأنّ الحركة مسبوقة بالغير، ولا شيء من الأزلي بمسبوق بالغير، فالحركة ليست أزلية. أمّا الصغرى، فلأنّ الحركة عبارة عن حصول الجسم في حيّز بعد أن كان في حيّز آخر، فماهيتها تستدعي المسبوقية بالغير. وأمّا الكبرى فظاهرة.

ص: 78


1- (1) أثبتناه من ب. وفي ج العبارة هكذا: (تقرير هذه المسألة مبني على تفسير الحادث، والمراد به ما سبق عدمه على وجوده، بمعنى لو كان قِدم العدم في زمان والوجود في زمان لكان زمان القِدم سابقاً على زمان الوجود).

وأمّا بطلان قدم السكون، فلأنّها لو كانت ساكنة لامتنعت الحركة عليها، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة، أنّ السكون إذا كان أزلياً استحال عدمه، لأنّه وجودي، والقديم الوجودي يستحيل عدمه، لما يأتي.

وأمّا بطلان التالي، فلأنّ الأجسام بأسرها غير كرة الأرض وكرات العناصر متحرّكة، أمّا الفلكيات فظاهر، وأمّا العناصر، فلأنّها إمّا بسائط أو مركّبات، أمّا المركّبات فحركتها ظاهرة ، وأمّا البسائط، فلأنّ الجانب الذي يلاقي به بعضها بعضاً أو يحاذيه متساوٍ للجانب الآخر، فيصحّ على الآخر الملاقاة، وإنّما يكون ذلك بالحركة، فصحّت الحركة .

[ ولمّا كانت الحركة ممكنة على جزئيات العناصر الأربعة، وهي متساوية في الحقيقة النوعية لكلّياتها، أمكنت الحركة على الكلّيات، لأنّ ما أمكن على أحد المتساويين في الحقيقة النوعية لماهيته أمكن على الآخر، فإن امتنعا فلمانع عارض، وليس الكلام فيه.

وأيضاً، فإنّ ماهية الجسم لكونه جسماً يلزمه إمكان الحركة والسكون.

وأيضاً، فإنّ ماهية السكون تستدعي المسبوقية بالغير، فإنّ السكون هو حصول الحيّز الواحد في المكان الواحد أكثر من زمان واحد، فيكون مسبوقاً بالحصول في الزمن السابق عليه، ولا شيء من القديم كذلك ](1)(1) .

ص: 79


1- (1) أثبتناه من ب.

في أحكام خاصة للأعراض وأقسامها

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في أحكام خاصّة للأعراض :

وهي تسعة عشر:

مبحث الكون

الأوّل: الكون: وهو حصول الجسم في الحيّز.

والمراد بالحيّز والمكان شيء واحد، وهو البُعد المفطور الذي تشغله الأجسام بالحصول فيه» (1)(1).

أقول : الكون، هو: حصول الجسم في الحيّز.

والمراد بالحيّز والمكان شيء واحد، وقد اختلف في تفسير المكان:

وقد فسّره المتكلّمون: بأنّه البُعد المفطور الذي تشغله الأجسام بالحصول (2)(2) فيه.

وذهب بعض الحكماء: إلى أنّه عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي. والأوّل مذهب أفلاطون (3)(3)، والثاني

ص: 80


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 24 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: بالحلول.
3- (3) أفلاطون من مشاهير فلاسفة اليونان، تلميذ سقراط ومعلم أرسطو ولد سنة (427 ق.م) وتوفي سنة (347 ق م) ، من مؤلّفاته (جمهورية أفلاطون).

مذهب أرسطو (1)(1).

[لا يقال: أنّه عرّف الكون بما هو أخصّ منه، وهو حصول الجسم في الحيّز، وهذا قول المتكلّمين.

لأنّا نقول: الكون أمر بديهي، وهذا التعريف لفظي على سبيل التنبيه، فجاز أن يكون بالأخصّ.

وأيضاً، فالمثبتون للجوهر الفرد أكثرهم لم يقل بجواز انفراده وحده في الوجود الخارجي، وكذلك الخطّ والسطح، فلهذا ذكر الجسم ](2)(2).

قال (دام ظلّه):« ويندرج تحت الكون أربعة أنواع:

الحركة: وهي الحصول الأوّل في المكان الثاني.

والسكون: وهو الحصول في مكان واحد أكثر من زمان.

والاجتماع: وهو كون حصول الجوهرين بحيث لا يتخلّلها ثالث.

والافتراق: وهو حصولها بحيث يتخلّلهما ثالث» (3)(3) .

أقول: الكون: جنس يندرج تحته أربعة أنواع: الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق.

ص: 81


1- (1) أرسطو طاليس بن نيقوماخوس الفيثاغوري، من فلاسفة اليونان، الملقّب ب(المعلم الأوّل)، ولد في مقدونيا سنة (384 ق م)، وتوفي سنة (322 ق م)، يسمى اتباعه ب(المشائين)، تلميذ أفلاطون، ومعلم الإسكندر بن فيلبس ملك مقدونيا، له كتب كثيرة في مختلف فروع العلم.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 24 الفصل الرابع.

[ومراد المتكلّمين بالجنس هنا: المعنى العام، لا ما اصطلح عليه المنطقيون ] (1)(1).

وها هنا نوع آخر: وهو حصول الجسم في المكان في أوّل زمان حدوثه، وسمّي ب(الكون) أيضاً.

ووجه الحصر أن نقول:

(الكون)، هو: حصول الجسم في المكان، فإمّا أن يلبث فيه، أو ينتقل عنه، فإن لبث فيه أكثر من زمان فهو السكون، وإن انتقل عنه فهو الحركة، والحصول في أوّل زمان حدوثه هو النوع الآخر.

ثمّ إمّا أن يلاقي غيره من الأجسام، أو لا، والأوّل هو الاجتماع، والثاني هو الافتراق، فالحركة عبارة عن الحصول الأوّل في المكان الثاني، فالحصول الأوّل كالجنس لاندراج الحركة، وحصول الجسم في المكان في أوّل زمان حدوثه تحته، ويخرج به الحصول الثاني وهو السكون.

وقولنا: «في المكان الثاني»، يخرج به حصول الجسم في المكان في أوّل زمان حدوثه، فإنّه حصول أوّل، لكن في المكان الأوّل لا الثاني.

و(السكون)، هو: الحصول في مكان واحد أكثر من زمان.

و(الاجتماع)، هو : حصول الجوهرين بحيث لا يتخلّلها ثالث.

و(الافتراق)، وهو :حصولهما بحيث يتخلّلهما ثالث.

وإنّما بحث المتكلّم عن هذه الأُمور لابتناء بحث حدوث الأجسام عليه، وبه يتوصّل إلى برهان إثبات الصانع وقدرته.

ص: 82


1- (1) أثبتناه من ب.

قال (دام ظلّه): «وهذه الأربعة أُمور وجودية» (1)(1).

أقول: هذه الأكوان الأربعة - أعني: الحركة، والسكون، والاجتماع،والافتراق - أُمور وجودية.

أمّا الحركة : فقد اختلف في وجودها :

فالمحقّقون: على أّنّها من المحسوسات الثابتة.

وأنكرها زينون (2)(2) ، وبرمانيدس (3)(3)، لأنّ وجودها ليس حال كون الممكن في الأوّل لأنّه بعد لم يتحرك، ولا في الثاني لانقطاع الحركة، ولا واسطة بينهما.

وأمّا السكون: فذهب جمهور الحكماء : إلى أنّه عدم الحركة عمّا من شأنه أن يتحرك، فهو عدمي.

وذهب المتكلّمون: إلى أنّه وجودي، على تفسيرهم الذي مرّ.

والنزاع لفظي، لأنّ الجسم إذا استقرّ في المكان الواحد، فله كونه مستقراً فيه، وهو أمر ثبوتي من مقولة الأين بالاتّفاق، وله أنّه ليس بمتحرّك، وهو أمر عدمي بالاتّفاق. وأنت بالخيار في إطلاق اسم السكون على أيّهما شئت.

وأمّا الاجتماع: فهو ثبوتي، إذ ملاقاة الجسمين أمر محسوس.

ص: 83


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 24 الفصل الرابع.
2- (2) زينون الإيلي: فيلسوف يوناني، ولد بإيليا جنوبي إيطاليا على ساحلها الغربي (نحو 490 - 430 ق.م)، وتتلمذ على يد الفيلسوف بارمنيدس (برمانيدس)، أحد مؤسسى الفلسفة الإيلية المناهضة لفلسفة الصيرورة، هو أوّل واضع لعلم الجدل.
3- (3) برمانيدس الإيلي (بارمنيدس): فیلسوف یوناني، ولد في (القرن الخامس ق. م) في إيليا المدينة اليونانية، المؤسّس الحقيقي للمدرسة الإيلية، كانت مدّة حياته أربعين سنة، وهو الرابع من الأطباء اليونانيين المشهورين الثمانية.

والافتراق: ثبوتي أيضاً، لأنّ حصول الجسمين على هذا الوضع أمر محسوس أيضاً.

قال (دام ظلّه):«ومنها ما هو متماثل، وما هو متضادّ» (1)(1).

أقول: هذه الأربعة، منها ما هو متماثل، وما هو متضادّ.

ولنفصّل ذلك، فنقول:

أمّا الحركة : منها ما هو متماثل، ومختلف.

أمّا المتماثل : فالحركتان المتّحدتان في الجنس، وما منه، وما إليه.

والمختلفة: إمّا متضادّة، أو غير متضادّة؛ والثاني كالحركات المختلفة الجنس، كالحركة في الأين، والوضع، والكيف، وغير ذلك، والمستدبرة والمستقيمة؛ والأوّل كالحركتان المتّحدتان في الجنس المختلفان، وما منه وما إليه متضادّان(2)(2)، كالحركة من فوق إلى أسفل، والحركة من أسفل إلى فوق، فعلّة تضادّ الحركات تضادّ ما منه وما إليه، لأنّه ليس تضادّ المحرّك، فإنّ حركة الحجر قسراً وحركة الباب طبعاً إلى فوق غير متضادّين مع تضادّهما (3)(3) بين القوّتين، ولا الأزمنة لأنّها غير متضادّة، وبتقدير ذلك لكنّها عارضة للحركة، وتضادّ العوارض لا يستلزم تضادّ المعروضات، ولا ما فيه الحركة، لأنّ الصاعدة ضدّ الهابطة مع وحدة الطريق، فبقى أن تكون العلّة تضادّ ما منه وما إليه.

ص: 84


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 24 الفصل الرابع.
2- (2) لا يوجد في ب.
3- (3) لا يوجد في ج.

لا يقال: مبدأ الحركة ومنتهاها نقطتان غير مختلفتين بالماهية، فكيف يقتضيان تضادّ الحركة؟!

لأنّا نقول : تعلّق الحركة بهما لا من حيث كونهما نقطتين، بل من حيث أنّ أحدهما مبدأ والآخر منتهى، وهما من هذا الاعتبار متضادّان.

وأمّا باقي أنواع الكون، فنقول: ما اختص بجهة واحدة من الأكوان الباقية فهو متماثل، سواء اختص بجوهر واحد أو أكثر، إذا كانت في تلك الجهة على البدل، وسواء اختص بوقت أو أوقات، لاشتراكها في المعلول.

والمتضادّ: ما يصير به الجوهر في جهتين لاستحالة الجمع.

قال (دام ظلّه): «وتدرك بالبصر بواسطة اللون والضوء» (1)(1) .

أقول: الأكوان مدركة بالبصر [ ثانياً ] (2)(2)، أي: بواسطة اللون والضوء،عند أبي علي (3)(3)، فإنّه قال: مدرك بالبصر أو اللمس، فإنّ الشخص يجد حال تغميض عينيه التفرقة بين كونه ساكناً وبين كونه متحرّكاً ضرورة، فتكون الحركة والسكون مدركين بالبصر واللمس.

ويدرك بهما الأشكال المختلفة، وهو عبارة عن التأليف.

ويدرك بهما المجاورة والتباعد، وهو الاجتماع والافتراق، خلافاً لأبي هاشم (4)(4)، فأنّه منع من إدراك الأكوان بالبصر أو اللمس، والمدرك في الحركة المحاذاة المختلفة.

ص: 85


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 24 الفصل الرابع.
2- (2) أثبتناه من ب، ج.
3- (3) أبو علي محمّد بن عبد الوهاب الجبائي (ت 303ه)، والد أبو هاشم، تقدّم.
4- (4) أبو هاشم الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.

ولم نطوّل بذكر المباحث بينه وبين ابنه، لأنّه لا فائدة فيه.

مبحث اللون

قال (دام ظلّه): «الثاني: اللون: وهو جنس السواد والبياض، وأثبت آخرون الحمرة، والخضرة، والصفرة، بسائط» (1)(1).

أقول: اللون بأنواعه متصوّر لنا تصويراً أولياً، فلا يمكن تعريفه بحدّ ولا رسم.

والذي يقال: من أنّ السواد هيئة قابضة للبصر، والبياض هيئة مفرّقة له، ركيك ! لأنّ العقلاء ببدائة عقولهم يدركون الفرق (2)(2) بين السواد والبياض، وإن لم يدركوا التفرقة المذكورة، لأنّها لا تحصل إلاّ بدقيق النظر.

وبعد معرفة السواد والبياض واستقراء أحوالهما، فيلزم تعريف الشيء بالأخفى(3)(3)، وهو جنس للسواد والبياض، وهذان هما اللون بالحقيقة، وما عداهما إنّما يحصل من تركيبهما، وذهب بعضهم: إلى أنّ الحمرة والصفرة والخضرة ألوان بسيطة حقيقية، وجعل البواقي مركّبة منهما.

والتحقيق: أنّه لا شكّ أنّ الأجسام المتلوّنة بهذه الألوان الخمسة إذا سحقت جدّاً ثمّ خلطت، فإنّها يظهر منها بحسب مقادير المختلطات ألوان مختلفة، فمن المحتمل أن تكون سائر الألوان غير السواد والبياض حاصلة على

ص: 86


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 24 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: التفرقة.
3- (3) في ب، ج : (بالأخفى والدور).

هذا الوجه، لكن البصر لعجزه عن التمييز يظنّها ألواناً مفردة، ويحتمل أن يكون كلّ واحد منها أو بعضها ألواناً مفردة حقيقة.

قال (دام ظلّه): «ونفى قوم البياض، وهو خطأ! فإنّا نشاهده لا باعتبار ممازجة الهواء للأجزاء الشفافة، كما في بياض البيض المسلوق» (1)(1).

أقول: ذهب بعضهم: إلى أنّه لا حقيقة للبياض، وإنّما يتخيّل عند مخالطة الهواء للأجسام الشفافة المتصوّرة جدّاً.

واحتُجّ عليه: بأنّ زبد الماء أبيض، ولا سبب لبياضه إلاّ ذلك، وكذا الثلج أبيض ولا سبب لذلك، إلاّ أنّ هناك أجزاء صغاراً جمدية شفافة خالطها الهواء ونفذ فيها والضوء، وهذا خطأ ! فإنّ البيض المسلوق يصير بياضه الشفاف أشدّ بياضاً ممّا قبل السلق، وليس ذلك لأنّ النار أحدثت فيه هوائية لأنّه یصیر بعد الطبخ أثقل.

قال (دام ظلّه): «والضوء كيفية يكون الجسم به مستنيراً، إمّا من ذاته كما في الشمس، أو من غيره كما في المستضيء بنور غيره »(2)(2).

أقول: تصوّر الضوء ضروري.

وقد يذكر على سبيل التعريف اللفظي: بأنّه كيفيه يكون الجسم بها مستنيراً.

ثمّ تلك الكيفية إمّا أن تكون معلولة لذات ذلك جسم، أو لغيره، والأوّل

ص: 87


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 25 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 25 الفصل الرابع.

كالشمس، والثاني (1)(1) كما في المستضيء بنور غيره كالقمر المستضيء بنور الشمس.

قال (دام ظلّه): «والضوء شرط لكون اللون مرئياً لا لوجوده، كما ذهب إليه بعضهم» (2)(2).

أقول: وجود اللون لا يتوقّف على وجود الضوء، خلافاً لأبي علي ابن سينا (3)(3)، حيث ذهب: إلى أنّ الألوان غير موجودة بالفعل في الأجسام حال كونها مظلمة.

واحتجّ: بأنّا لا نرى اللون في الظلمة، فإمّا أن يكون ذلك لعدمها، وهو المطلوب، أو لأنّ الهواء المظلم عائق عن إبصارها ، وهو باطل! لأنّ الهواء المظلم ليس فيه كيفية عائقة عن الإبصار، فإنّك إذا كنت في غار وفيه هواء مظلم فإذا صار الجسم مستنيراً، رأيته أنت، ومن كان بقرب ذلك الضوء لا يراك، فلو كان الهواء مكيّفاً بكيفية مانعة لما رأيته.

والجواب: أنّ الضوء شرط لإبصار اللون، فإنّما لم ير الذي في الغار لعدم وقوع الضوء عليه، وإنّما يرى الجسم المستنير لوقوع الضوء عليه.

والحقّ: أنّه شرط لرؤيته لا لوجوده!

ص: 88


1- (1) فى أ: (وإمّا معلولة لغيره)، وما أثبتناه من ب، ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 25 الفصل الرابع.
3- (3) أبو علي سينا: الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البخاري، الملّقب بالشيخ الرئيس، ولد سنة (375ه)، وتوفي في سنة (428ه)، شيخ الفلاسفة الإسلاميين وأُستاذ الحكماء الإلهيين، ألّف كتباً كثيرة في المنطق والفلسفة والرياضيات والطب والإلهيات، وغيرها.

قال (دام ظلّه): «والظلمة: عدم الضوء عمّا من الضوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئاً» (1)(1).

أقول: الظلمة: عبارة عن عدم الضوء عمّا من شأنه أن يكون مضيئاً، لأنّا إذا غمضنا العين يكون حالنا كما إذا فتحناها في الظلمة، وكما أنّا عند التغميض لا ندرك شيئاً، فكذا عند الظلمة.

مبحث الطعوم

قال (دام ظلّه): «الثالث: الطعوم: وهي تسعة:

لأنّ الحارّ إن فعل في الكثيف حدثت المرارة، وإن فعل في اللطيف حدثت الحرافة، وإن فعل في المعتدل حدثت الملوحة .

والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة، وإن فعل في اللطيف حدثت الحموضة، وإن فعل في المعتدل حدث القبض.

والمعتدل إن فعل في اللطيف حدثت الدسومة، وإن فعل في الكثيف حدثت الحلاوة، وإن فعل في المعتدل حدثت التفاهة.

وقد يجتمع طعمان في جسم واحد كالحرافة والقبض في الباذنجان» (2)(2).

أقول : هذا الجنس بأنواعه من الأوّليات، فلا يمكن تعريفه.

إذا عرفت ذلك :

فالجسم إمّا أن يكون عديم الطعم، وهو التفه، فالمسخ إمّا حقيقة أو في

ص: 89


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 25 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 25 الفصل الرابع.

الحسّ، وهو الذي له طعم لكنّه لشدّة تكاثفه لا يتحلّل منه شيء يخالط [رطوبة](1)(1) اللسان حتّى يدركه. ثمّ إذا احتيل في تلطيف أجزائه أحسّ منه بطعم، كما في النحاس والحديد.

وإمّا أن يكون له طعم.

وبسائط الطعوم تسعة، إن جعلت التفاهة طعماً، لأنّ الجسم الحامل للطعم إمّا أن يكون لطيفاً، أو كثيفاً، أو معتدلاً، والفاعل في الثلاثة، إمّا الحرارة، أو البرودة، أو القوّة المعتدلة منها.

فالحارّ إن فعل في الكثيف حدثت المرارة، وإن فعل في اللطيف حدثت الحرافة، وفي المعتدل حدثت الملوحة.

والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة، وفي اللطيف حدثت الحموضة، وفي المعتدل حدث القبض.

والمعتدل إن فعل في اللطيف حدثت الدسومة، أو في الكثيف حدثت الحلاوة، أو فى المعتدل حدثت التفاهة.

وقد يجتمع طعمان في الجسم الواحد، مثل المرارة والقبض في الحضض ويسمّى البشاعة، واجتماع المرارة والملوحة في السبخة ويسمّى الزعوقة، والحرافة والقبض في الباذنجان.

ص: 90


1- (1) أثبتناه من ب.

مبحث الروائح

قال (دام ظلّه): «الرابع: الروائح:

وليس لأنواعها أسماء بإزائها، بل إمّا من جهة الموافقة أو المخالفة، كما يقال: (رائحة طيبة، أو نتنة)، أو من جهة المحلّ كرائحة المسك.

وهي كيفيات تدرك بالشم: إمّا بتحلّل شيء من أجزاء ذي الرائحة ووصوله إلى الخيشوم، أو بانفعال الهواء المتوسط بين ذي الرائحة والخيشوم بكيفية ذي الرائحة» (1)(1).

أقول: هذا الجنس أيضاً من الضروريات، وليس عندنا لها أسماء، بل يعبّر عنها بوجوه:

الأوّل: من جهة الموافقة والمخالفة، فيقال: رائحة طيبة، ونتنة.

الثاني: أن يشقّ لها من الطعوم المقاربة لها اسم، فيقال: رائحة حلوة، ورائحة حامضة.

الثالث: من جهة المحلّ، كما يقال: رائحة المسك.

وهذه الكيفيات مدركة بالشم.

ثمّ اختلفوا في كيفية الإدراك :

فقال بعضهم: إدراك الرائحة إنّما يكون بأن تتحلّل أجزاء الجسم ذي الرائحة وتتبخّر وتخالط الهواء المتوسط ويصل إلى الحاسّة، لأنّه لو لم يكن كذلك لما كانت الحرارة، وما يهيج من الروائح من الدلك والتبخير ممّا يذكيها.

ص: 91


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 25 الفصل الرابع.

وزعم آخرون: أنّ الهواء المتوسط بين الخيشوم وذي الرائحة، يتكيّف بتكيفيّة ذي الرائحة.

وقدحوا في الأوّل: بأنّه لو كانت الروائح التي تملأ المحافل بسبب التحلّل لانتقص وزن الجسم ذي الرائحة.

مبحث الحرارة والبرودة

قال (دام ظلّه): «الخامس: الحرارة والبرودة:

وهما كيفيتان ملموستان متضادّتان: فالحرارة كيفية تقتضي جمع المتجانسات وتفريق المختلفات» (1)(1).

أقول: هاتان الكيفيتان من أظهر المحسوسات، فهما غنيتان عن التعريف.

ومن خواص الحرارة: أنّ من شأنها إفادة الميل المتصعد بواسطة التحرك.

ثمّ إنّ المركّبات لمّا كانت مركّبة من أجسام مختلفة في اللطافة والكثافة، وكلّ ما كان ألطف كان أقلّ للخفّة من الحرارة، فإنّ الهواء أسرع قبولاً لذلك من الماء الذي هو أسرع فيه من الأرض.

لا جرم إذا عملت الحرارة في المركّب بادر الأقبل منها للتصعيد قبل مبادرة الأبطأ، والأبطأ قبل مبادرة العاصي، فيعرض من ذلك تفرّق الأجسام المختلفة الطبائع التي منها يركّب المركّب، ثمّ يحصل عند تفريق الأجسام المختلفات بهذا السبب اجتماع المتشاكلات بمقتضى طبائعها، لكون الجنسية علّة

ص: 92


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 25 الفصل الرابع.

الضمّ، فلهذا السبب يقال: الحرارة من شأنها تفريق المختلفات وجمع المتشاكلات.

واعلم، أنّ هذا الجمع والتفريق إنّما يعرضان في المركّب الذي لا يكون بسائطه شديدة الالتحام ، أمّا الذي يكون التحامها شديداً فلا يخلو إمّا أن يكون اللطيف والكثيف قريبين من الاعتدال، أو لا يكون، فإن كان الأوّل، فإذا قوى عمل الحرارة فيه حدثت حركة دورية كما في الذهب، لأنّ النار لا تفرّقه، لأنّ التلازم بين بسائطه شدید جدّاً، فكلّما مال اللطيف إلى التصعيد جذبه الكثيف المائل إلى الانحدار ، فحدثت حركة دورية، وإن كان الثاني، فإن كان الغالب هو اللطيف يصعد بالكلّية واستصحب الكثيف وإن كان الغالب هو الكثيف، فإن لم يكن غالباً جدّاً أثرت النار في تليينه لا في تسييله كالحديد، وإلاّ لم يقو على تليينه أيضاً كالطلق والنورة إلاّ بالحبك (1)(1) .

قال (دام ظلّه): «وهي جنس لأنواع كثيرة: كحرارة النار، وحرارة الشمس، والحرارة الغريزية، وحرارة الأدوية، والحادثة عن الحمى»(2)(2).

أقول: لا شكّ أنّه يندرج تحت مطلق الحرارة حرارات خاصّة كثيرة: كحرارة النار، وحرارة الشمس، والحرارة الغريزية، وهي التي تكون المرجع بها إلى الحار [ بطبعه ] (3)(3)، فإنّ الجزء الناري الذي في المركّب الذي يفيده الطبخ إذا لم يبلغ في الكثرة إلى حدّ الاحتراق، ولا في القلّة على حيث يبقى المركّب معه

ص: 93


1- (1) في ب: بالتنحيل.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 25 الفصل الرابع.
3- (3) أثبتناه من ب.

فحاصل في تحصيل الاعتدال بسبب ذلك الجزء الناري وهو الحرارة الغريزية.

[وقيل : هي نوع من الحرارة تخالف في الماهية الحرارة النار، فإنّ حرارة النار غير ملائمة للحياة، والحرارة الغريزية شرط الحياة، وذلك مقتضى طبعها ](1)(1).

وحرارة الأدوية، وهي ما يكون في ظهورها منها موقوفاً على ملاقاة بدن الحيوان، والصادر عن الحمّى .

وهل هي جنس لهذه الأشياء ؟ اختار المصنّف ذلك !

فعلى هذا هذه الحرارات مختلفة بالماهيات والحقائق.

قال (دام ظلّه): «ومن جعل البرودة عدم الحرارة عمّا من شأنه أن يكون حارّاً، فقد أخطأ ! فإنّا نحسّ من البارد بكيفية زائدة على عدم الحرارة» (2)(2).

أقول: من القدماء من جعل البرودة عدم الحرارة، وهو باطل ! لأنّه لو كان كذلك لكان الذي يدركه من الجسم البارد: إمّا الجسم، أو عدم الحرارة.

والأوّل باطل، وإلاّ لكنّا إذا أدركنا الجسم الحار وجب أن ندركه على حالة البرودة، لأنّ برودته هي نفس جسميته المدركة حال حرارته، لكن ذلك محال.

والثاني باطل، لأنّ العدم لا يحسّ به، أو لا يدرك شيئاً أصلاً من الجسم البارد، وهو باطل ! لأنّا نحسّ به منه بكيفية زائدة على عدم الحرارة.

ص: 94


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.

مبحث الرطوبة

قال (دام ظلّه): «السادس: الرطوبة واليبوسة:

وهما كيفيتان محسوستان متضادّتان، فالرطوبة كيفية تقتضي سهولة قبول الأشكال لموضوعها، واليبوسة كيفية تقتضي عُسر قبول الأشكال لموضوعها، وقد تفسّر الرطوبة بالبلّة» (1)(1).

أقول: الرطوبة واليبوسة: كيفيتان محسوستان ضروريتان، وهما متضادّتان، لأنّه لا يمكن اجتماعهما في موضوع واحد، وهو ضروري، وبينهما غاية التباعد.

والرطوبة: كيفية تقتضي سهولة قبول الأشكال لموضوعها، فالهواء رطب.

واليبوسة: كيفية تقتضي عُسر قبول الأشكال لموضوعها.

وقد تفسّر الرطوبة بالبلّة في الماء (2)(2) .

ص: 95


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.
2- (2) العبارة في ب هكذا:(الرطوبة:تطلق على معان ثلاثة: أنّها كيفية تقتضي سهولة قبول الأشكال لموضوعها، فالهواء رطب، والماء أرطب. واليبوسة : كيفية تقتضي عُسر قبول الأشكال لموضوعها، وكلّ معنى يطلق الرطوبة عليه فاليبوسة تفسر بمقابله. واعلم، أنّه اختلف في الرطوبة هل هي محسوسة أم لا؟ فقال أبو هاشم: لا، وقال أبو علي : بلى، وقال بعض الأوائل : إنّها إذا فسّرت بأنّها كيفية تقتضي عُسر قبول الأشكال لموضوعها لا تكون محسوسة، لأنّ الهواء البسيط الخالي عن حرارة جزئية وبرودة، رطب وليس بمحسوس، وإلاّ لثبتت الملايين بالضرورة، وأمّا المعنيين الآخرين فهي محسوسة).

مبحث الصوت

قال (دام ظلّه): «السابع: الصوت:

وهو كيفية مسموعة تحصل من تموّج الهواءين - قارع ومقروع - إلى أن يصل إلى سطح الصماخ» (1)(1).

أقول: الصوت: كيفية مسموعة، وهو أجلى ماهية، غني عن التعريف، وسببه القريب تموّج الهواء بين قارع ومقروع إلى أن يصل إلى سطح الصماخ.

وتقرير ذلك، أن نقول:

لا نعني بالتموّج حركة انتقالية من هواء واحد بعينه، بل حالة شبيهة بتموّج الماء، فإنّه أمر يحصل بالتداول (2)(2) لصدم بعد صدم، مع سكون بعد سكون.

وسبب التموّج : إمساس عنيف هو القرع، أو دق (3)(3) عنيف هو القلع.

وإنّما يعتبر العنيف، لأنّك لو قرعت جسماً كالصوف بقرع ليّن لم صوتاً، وكذلك في القلع.

وإنّما جعلنا كلّ واحد منهما موجباً للتموّج، أمّا في القرع، فلأنّ القارع يموج الهواء إلى أن ينقلب من المسافة التي يسلكها إلى جانبها (4)(4) بعنف شديد، وكذا القالع .

ص: 96


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.
2- (2) في أ: (بالتداق)، وما أثبتناه من ب.
3- (3) في ب: تفريق.
4- (4) في ب: جنبها.

ثمّ في الأمرين جميعاً يلزم التباعد من الهواء أن ينقاد للشكل والتموّج الواقعين هناك.

وإنّما قلنا: يتوقّف الإحساس به على وصول الحامل له إلى الصماخ، لأنّ صوت المؤذّن على المنارة يميل من جانب إلى جانب عند هبوب الرياح، ومن اتّخذ انبوبة طويلة، ووضع أحد طرفها على فمه وطرفها الآخر على صماخ إنسان وتكلّم فيه بصوت عال، سمعه ذلك الإنسان دون سائر الحاضرين.

قال (دام ظلّه): «وهو غير باق بالضرورة» (1)(1) .

أقول: الصوت غير باق بالضرورة.

ومنهم من ذهب إلى بقائه، وهو باطل ! لأنّ حروف زيد لو بقيت لم يكن بأن يسمع زيداً أولى من أن يسمع على سائر تقاليبها(2)(2) الخمسة، وفيه نظر ! لأنّه يدلّ على عدم بقاء المجموع عن الصوت وهيئته التركيبية، وهو أعمّ من عدم العام.

والحقّ: إنّ عدم بقاء الصوت بديهي!

قال (دام ظلّه): «والحرف هيئة عارضة للصوت، يتميّز بها عن صوت آخر مثله تميّزاً في المسموع(3)(3) »(4)(4).

أقول: «الهيئة»، جنس.

ص: 97


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: تقاليبه.
3- (3) في أ: (تميّز في السمع) ، وما أثبتناه من المصدر، ب.
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين : 26 الفصل الرابع.

وقولنا: «عارضة للصوت»، ليخرج عنه الكيفيات المختصّة بالكميات وغيرها.

وقولنا :«يتميّز بها عن صوت آخر مثله»، ليخرج عنه غير التي يتميّز بها عن صوت آخر مثله. والمراد بالمماثلة ها هنا : المماثلة في الخفّ (1)(1) والثقل.

وقولنا: «تميّزاً في المسموع»، احترازاً من كون الصوت طيّباً أو غير طيّب، فإنّ تلك المناسبة هيئة عارضة للصوت يتميّز بها عن صوت آخر مثله، لكن لا يميّزا في المسموع، بل في المعقول.

والمراد بالعروض: العروض الشاملة لعروض الآن للزمان، ليدخل فيه الحروف الصامتة الآبية، فإنّها لا تعرض للصوت حقيقة، بل عروض الآن

للزمان.

مبحث الاعتماد

قال (دام ظلّه): «الثامن: الاعتماد:

وهو كيفية تقتضي حصول الجسم في جهة من الجهات» (2)(2).

أقول: «الكيفية»، جنس.

وقولنا: «تقتضي حصول الجسم في جهة من الجهات»، أخرج سائر الكيفيات المختصّة بالكميات، وغيرها.

ص: 98


1- (1) في ب: الحدّة.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.

قال ( دام ظلّه): «وهو: إمّا لازم كالثقل والخفّة، وإمّا مجتلب» (1)(1).

أقول: الميل: إمّا لازم أو مجتلب، واللازم هو الثقل والخفّة، وما عداهما مجتلب، کميل الحجر إلى فوق قسراً.

والثقل : قوّة طبيعية يتحرك الجسم بها إلى حيث ينطبق مركز ثقله على مركز العالم لو لم يعقه عائق .

الخفّة : قوّة طبيعية يتحرك الجسم بها إلى المحيط.

قال (دام ظلّه): «وأنواعه ستّة بحسب تعددّ الجهات»(2)(2).

أقول: لما كان الاعتماد كيفية تقتضي حصول الجسم في جهة، وكانت الجهات ستّاً: فوق، وأسفل ، وقدّام، وخلف، ويمين، وشمال.

والاعتماد الذي يقتضي حصول الجسم في جهة من هذه، غير الذي يقتضي حصول الجسم في جهة أُخرى غيرها، وكانت أنواع الاعتماد ستّة بحسب تعدّد الجهات.

وكون الجهات ستّاً من المقدّمات المشهورة، وسبب اشتهارها رأيان:

عامّي: هو أنّ الإنسان يحيط به جنبان عليهما اليدان، وظهر وبطن ورأس وقدم.

فالجهة : القوّة التي منها ابتداء الحركة، سمّوها باليمين، واليسار ما يقابلها، والفوق ما يلي رأسه، والأسفل ما يلي رجليه.

ص: 99


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.

وفي الحيوانات: الفوق: ما يلي ظهرها، والأسفل : ما يلي بطونها، والقدّام :ما يلي حركتها بالطبع.

وهناك حاسّة الإبصار، والخلف ما يقابل.

إنّما شرط في القدّام حاسّة الإبصار، ليخرج من ذلك من يمشي إلى خلف ما يقابله (1)(1).

وخاصّي: وهو أنّ الجسم يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة، ولكلّ بعد طرفان، لوجوب تناهي الأبعاد، فله أطراف ستّة.

قال (دام ظلّه): «وهو غير باق» (2)(2) .

أقول: الاعتماد غير باق بالضرورة.

أمّا القسري والنفساني، فظاهر.

وأمّا الطبيعي، فلأنّ الجسم إذا وصل إلى حيّزه الطبيعي عُدم الميل فيه، وإلاّ لكان الأمر الطبيعي مطلوب الترك بالطبع. هذا خلف.

مبحث التأليف

قال (دام ظلّه): «التاسع: التأليف:

وهو عرض يختصّ بالمحلّين لا أزيد، يقتضي صعوبة تفكيك الأجزاء.

وأكثر العقلاء أحالوا وجود عرض واحد في محلّين»(3)(3) .

ص: 100


1- (1) هذه العبارة لا توجد في ب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 26 الفصل الرابع.

أقول: أثبت أبو الهذيل العلاّف (1)7(1) ، وجماعة البصريين، كأبي علي، وأبي هاشم (2)(2) ، وغيرهما : التأليف عرضاً قائماً بمحلّين لا أزيد، ونفاه الباقون.

واحتجّ المثبتون: بأنّ بعض الأجسام يصعب فكّها، فلا بدّ من معنى يوجب ذلك، وليس قائماً بأحد المحلّين لعدم الأولوية، ولجاز انفكاكهما أيضاً، فيجب قيامه بالمحلّين، وإنّما لم يجز قيامه بأكثر من المحلّين، لأنّه لو جاز ذلك لانتفى الحصر، لعدم الأولوية في عدد مخصوص، فكان القائم بالجبل الواحد تأليفاً واحداً، فكان تنقيب الجبل إذا أخذ منه ذرّة واحدة، وهو باطل!

احتجّ النافون: باستحالة قيام العرض الواحد بمحلّين ضرورة (3)(3).

مبحث الفناء

قال (دام ظلّه): «العاشر: الفناء:

أثبت(4)(4) بعضهم للجواهر ضدّاً وهو الفناء، إذا أوجده الله تعالى فنيت جميع الجواهر، وليس في محلّ، وهو خطأ! فإنّ وجود عرض لا في محلّ محال» (5)(5).

أقول : المحقّقون ذهبوا:إلى أنّ الإعدام قد يحصل بالفاعل كما يحصل الإيجاد به.

ص: 101


1- (1) محمّد بن الهذيل بن عبد الله، أبو الهذيل العلاّف المعتزلي (ت 235ه)، تقدّم.
2- (2) الجبائيان: أبو علي محمّد بن عبد الوهاب (ت 303ه) ، وابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمّد (ت 321ه).
3- (3) أثبتناه من: ب.
4- (4) في المصدر: وأثبت.
5- (5) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.

وجماعة من المعتزلة: منعوا من تعلّق الإعدام بالفاعل، وأوجبوا طريان الضدّ في الباقي.

وحيث أنّ الجواهر باقية بذاتها لا لمعنى يحتاج إليه فيه، وهي قابلة للعدم، فعدمها إمّا أن يكون لذاتها، أو بالفاعل، أو بفقدان الشرط، أو بطريان الضدّ.

والأوّل باطل، وإلاّ لما وجدت.

والثاني باطل أيضاً، لأنّ الفاعل له الإيجاد لا الإعدام.

والثالث باطل، لأنّ شرط الجواهر إمّا أن يكون جوهراً، وهو باطل ! لأنّ الجواهر متساوية، فليس جعل أحدهما شرطاً أولى من العكس، وإمّا أن يكون عرضاً، وهو باطل ! لأنّ شرط العرض الجوهر ، فلو كان العرض شرطاً للجوهر دار. فتعيّن الرابع.

وضدّ الجوهر إمّا جوهر، أو عرض، والأوّل باطل لتساوي الجواهر، فتعيّن الثاني.

فللجوهر ضدّ، إذا أوجد الله تعالى منه جزءً لا يتجزأ عدمت جميع الجواهر، وهو عرض، وسمّوه ب (الفناء)، وهو ليس في محلّ، لأنّه لو كان في محلّ لكان محلّه جوهراً، لكنّه ضدّ الجواهر، وهذا خطأ ! فإنّه يستحيل وجود عرض لا في محلّ.

مبحث الحياة

قال (دام ظلّه): «الحادي عشر : الحياة:

وهي عرض يحلّ الجسم المركّب على بنية مخصوصة، يصحّ على تلك

ص: 102

الذات باعتبارها صحّة القدرة والعلم» (1) (1).

أقول: «العرض» جنس.

وقوله: «يحلّ المركّب على بنية مخصوصة»، احترازاً من الأكوان والألوان، وأشار بذلك إلى أنّه لا يمكن حلولها (2)(2) في الجوهر الفرد، ولا المركّب بأيّ تركيب اتّفق، بل لا بدّ من البنية المخصوصة، خلافاً للأشعرية.

وقوله: «يصحّ على تلك الذات باعتبار صحّة القدرة والعلم»، ليخرج باقي الأعراض غيرها.

قال (دام ظلّه): «والموت هو عدم الحياة عن محلّ اتّصف بها » (3)(3).

أقول: الموت، هو :عدم الحياة لا مطلقاً، بل عن محلّ اتّصف بها.

وهو أولى من قولهم: عمّا من شأنّه أن يكون حيّاً، لأنّ الجنين عند قرب حلول الحياة فيه لا يسمّى ميّتاً .

وذهب أبو علي (4)(4): إلى أنّ الموت صفة وجودية مضادّة للحياة، لقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ (5)(5).

ص: 103


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 26 الفصل الرابع.
2- (2) في أ: (خلوّها)، وما أثبتناه من ب.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 الفصل الرابع.
4- (4) محمّد بن عبد الوهاب الجبائي ( ت 303ه)، والد أبو هاشم، تقدّم.
5- (5) سورة الملك: 2.

مبحث القدرة

قال (دام ظلّه): «الثاني عشر : القدرة:

وهي كيفية قائمة بالذات، يصحّ باعتبارها على تلك الذات أن يفعل وأن لا يفعل» (1)(1).

أقول: القدرة: كيفية تقتضي كون محلّها إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك.

قال (دام ظلّه): «وهي متقدّمة على الفعل، لأنّ الكافر مكلّف بالإيمان حال کفره، فلو لم يكن قادراً عليه لزم تكليف ما لا يطاق» (2)(2).

أقول: ذهبت الأشاعرة: إلى أنّ القدرة مع الفعل، بناءً على أنّ القدرة عرض، ويمنع بقاء الأعراض

وذهبت المعتزلة والإمامية والحكماء : إلى أنّ القدرة مقدّمة (3)(3) على الفعل .

لنا: أنّ الكافر مكلّف بالإيمان حال كفره، فلو لم يكن قادراً عليه الزم تكليف ما لا يطاق، وهو باطل ! لأنّ أحد الأمرين لازم، وهو إمّا وقوع تكليف ما لا يطاق، أو عدم عصيان المكلّف بترك الواجب المعيّن اختياراً، واللازم بقسميه باطل، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة: إنّ المكلّف حال الأمر قبل الفعل إمّا أن يكون قادراً، أو لا،

ص: 104


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 الفصل الرابع.
3- (3) في ب: متقدّمة.

والأوّل خلاف التقدير، وهو مطلوبنا أيضاً، والثاني يستلزم تكليف ما لا يطاق، فإذا ترك، فإن عصى لزم العصيان بترك غير المقدور، وهو غير تكليف ما لا يطاق، وإن لم يعص لزم الأمر الثاني، وهو عدم عصيان المكلّف بترك الواجبات.

والتحقيق: أنّ النزاع لفظي، لأنّه إن أريد بالقدرة القوّة المؤثّرة حال استجماعها جميع الأُمور المعتبرة في المؤثّر (1)(1) ، استحال تأخير الفعل عنها، وإن أريد بها مجرّد القوّة العضلية (2)(2) التي تصير مؤثّرة عند انضمام الإرادة الحادثة إليهما، فلا شكّ أنّها قبل الفعل.

قال (دام ظلّه): «وهي متعلّقة بالضدّين»(3)(3).

أقول: ذهبت المعتزلة : إلى أنّها تتعلّق بالضدّين، إذ هو معنى القدرة، والعلم الضروري بأنّ من قدر على الحركة يمنة قدر عليها يسرة، وإن لم يتصوّر قدرة أُخرى.

والأشاعرة: منعوا من ذلك، وإلاّ لزم وجودهما معاً، إذ ليس أحدهما أولى بالوقوع من الآخر.

والجواب: المخصّص الإرادة.

والتحقيق: أنّه إن أريد بالقدرة مجموع الأُمور التي يترتّب الأثر عليها، فليست القدرة قدرة على الضدّين، لأنّ الأثر لا يصدر عنه ما لم يجب ذلك الصدور، فلو كانت النسبة إلى الضدّين كذلك لزم حصولهما، وإن أُريد القوّة

ص: 105


1- (1) في ب: المؤثّرية.
2- (2) في أ: (العقلية)، وما أثبتناه من ب.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 الفصل الرابع.

العضلية (1)(1) وحدها، وأنّها بحيث لو انضمّ إليها القصد إلى أحد الضدّين حصل ذلك الضدّ، وإن انضمّ إليها القصد إلى الضدّ الثاني حصل الضدّ الثاني، فلا شكّ أنّ القدرة قدرة على الضدّين.

قال (دام ظلّه) «والعجز: عدم القدرة عمّا من شأنه أن يكون قادراً» (2)(2).

أقول: لمّا فسّر القدرة:بأنّها كيفية تقتضي كون محلّها إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك، وأنّها وجودية، كان العجز عدمياً، وهو: عدم القدرة عمّا من شأنّه أن يكون قادراً.

وذهب الأشاعرة: إلى أنّه وجودي.

مبحث الاعتقاد

قال (دام ظلّه): «الثالث عشر: الاعتقاد:

فإن كان جازماً مطابقاً ثابتاً فهو العلم، وإن لم يكن ثابتاً فهو اعتقاد المقلّد، وإن لم يكن مطابقاً فهو الجهل المركّب» (3)(3) .

أقول: الاعتقاد: أمر يجده الحيّ من نفسه، ويدرك التفرقة بينه وبين غيره، وهو إمّا أن يكون جازماً، أو لا، والثاني الظنّ؛ والأوّل إمّا أن يكون مطابقاً، أو لا، والثاني الجهل المركّب؛ والأوّل إمّا أن يكون ثابتاً، أو لا، والأوّل هو العلم؛ والثاني هو اعتقاد المقلّد للحقّ.

ص: 106


1- (1) في أ: (العقلية)، وما أثبتناه من ب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 الفصل الرابع.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 الفصل الرابع.

مبحث العلم

قال (دام ظلّه): «والعلم إمّا أن يكون ضرورياً، أو كسبياً.

والضروريات ستّة:

في الأوّليات والمحسوسات والمجرّبات والحدسيات

الأوّليات: وهي القضايا التي يكفي في الحكم بها تصوّر طرفيها، كالحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، وأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

والمحسوسات: وهي التي يحكم بها العقل بمعاونة الحسّ الظاهر، كالحكم

بأنّ النار حارّة، والشمس مشرقة، أو الباطن، كالجوع، والشبع.

والمجرّبات: وهي قضايا يحكم (1)(1) بها العقل لتكرار المشاهدة، كالحكم بأنّ شرب السقمونيا مسهل.

والحدسيات: وهي قضايا يحكم بها العقل لحدس قوّي من النفس يزول معه الشكّ، كالحكم بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس، لأجل اختلاف نوره بسبب تغاير أوضاعه»(2)(2).

أقول: الحكم الذي له علّة إنّما يجب إذا اعتبر مع علّته، ولا يجب بدون ذلك.

والحكم اليقيني: فهو الواجب في نفسه الذي لا يتغيّر، وهل كلّ حكم عرف بعلّته فهو يقيني، وما لا يعرف بعلّته فليس بيقيني.

ص: 107


1- (1) في أ: (القضايا التي يحكم) ، وما أثبتناه من المصدر، ب
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 الفصل الرابع.

ثمّ العلوم (1)(1) إمّا أن تكون حسّية، وهي العلوم الحاصلة بواسطة الحواس، أو عقلية، وهو إمّا أن يكون طرفا القضية بأن يكون تصوّرها كافياً في الحكم، أو لا.

والأوّل إمّا أن يكون الطرفان علّة في الحكم، أو في حصول علّته فی الذهن، والأوّل الأوّليات، والثاني القضايا التي قياساتها معها .

والثاني إمّا أن لا يكون تصوّر الطرفين كافياً في الحكم [ولا في حصول الوسط ] (2)(2) ، وهو النظريات، أو مركّباً من الحسّ والعقل، فأمّا من السمع والعقل وهي المتواترات، أو من البصر والعقل وهي المجربات والحدسيات، أو غير ذلك من الحواس، والعقل يندرج تحت المحسوسات، وهذه كلّها من الضروريات.

فالضروريات ستّة:

الأوّليات: وهي القضايا التي يكفي في الحكم بها تصوّر طرفيها، كالحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء، وأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وإنّما سمّيت بالأوّليات لأنّ ثبوت محمولاتها لموضوعاتها أوّل.

والمحسوسات: وهي التي يحكم بها العقل بمعاونة الحسّ الظاهر، كالحكم بأنّ النار حارّة، والشمس مشرقة، أو الباطن، كالجوع، والشبع.

والمجرّبات: وهي قضايا يحكم بها العقل لتكرار المشاهدة، كالحكم بأنّ شرب السقمونيا مسهل.

ص: 108


1- (1) في ب: العلّة.
2- (2) أثبتناه من ب.

ولا بدّ فيها من أمرين:

أحدهما: المشاهدة المتكرّرة

والثاني: القياس الخفي.

وذلك القياس، هو أن يعلم أنّ الموضوع المتكرّر على نهج واحد لا يكون اتّفاقياً، فإذا هو إنّما يستند إلى سبب، فعلم من ذلك أنّ هناك سبباً وإن لم يعرف ماهية ذلك السبب، وكلّما علم حصول السبب حكم بوجود المسبب قطعاً، لأنّ العلم بسببية المسبب وإن لن تعرف ماهيته يكفي في العلم بوجود المسبب.

والفرق بين التجربة والاستقراء، أنّ التجربة تقارن هذا القياس، والاسقراء لا يقارنه.

والحدسيات: وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوّي من النفس يزول معه الشكّ، مثاله : الحكم بأنّ نور القمر مستفاد من نور الشمس، لما نشاهده من اختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده عن الشمس.

والفرق بين المجرّبات والحدسيات: أنّ السبب في المجرّبات معلوم السببية غير معلوم الماهية، فالقياس المقارن لها قياس واحد، وفي الحدسيات معلوم بهما، فالقياسات مختلفة حسب اختلاف العلل في الماهية.

في المتواترات

قال (دام ظلّه): « والمتواترات: وهي قضايا يحكم بها العقل لكثرة ورود الأخبار بها، بحيث تأمن النفس المواطأة على الكذب، كالحكم بوجود النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ووجود مكّة.

ص: 109

وليس لليقين عدد مخصوص»(1)(1).

أقول: المتواترات: قضايا يحكم بها العقل حكماً جزماً لكثرة الشهادات بحيث تزول الريبة عن وقوع تلك الشهادات على سبيل الاتّفاق والتواطؤ ، وهذا مثل اعتقادنا بوجود مكّة، ووجود النبيّ (صلّى الله عليه وآله) .

ومن حاول أن يحصر الشهادات في عدد (2)(2) ، فقد أحال! فإنّ ذلك ليس متعلّقاً بعدد يؤثّر النقصان والزيادة فيه، وإنّما المرجع فيه إلى مبلغ يقع فيه اليقين. فاليقين وهو المتعلّق بتواتر في الشهادة في عدد الشهادات، والعلم الحاصل بها علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس (3)(3).

قال (دام ظلّه): «والقضايا التي قياساتها معها ، وهي قضايا يحكم بها العقل لأجل وسط لا ينفك الذهن عنه، كالحكم بأنّ الاثنين نصف الأربعة، لأنّه عدد انقسمت الأربعة إليه وإلى ما يساويه، وكلّ عدد انقسمت الأربعة إليه وإلى ما يساويه فهو نصف ذلك العدد» (4)(4).

أقول: الحكم بثبوت المحمول للموضوع إمّا أن يكفي فيه تصوّر الطرفين، أو يحتاج إلى وسط عقلي، والثاني قد يكون الوسط من اللوازم البيّنة، بحيث كلّما حضر في الذهن حضر الوسط أيضاً، فيحكم الذهن بثبوت المحمول للموضوع.

ص: 110


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 27 - 28 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: (مبلغ عدد).
3- (3) العبارة في ب :( فاليقين هو القاضي بتوافي الشهادات لأنّ عدد الشهادات والعلم الحاصل به، علم جزئي من شأنه أن يحصل بالإحساس).
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.

وهذه القضايا تسمّى: فطرية القياس، كالحكم بأنّ الاثنين نصف الأربعة، لأنّها عدد انقسمت الأربعة إليه وإلى ما يساويه، وكلّ عدد انقسمت الأربعة إليه وإلى ما يساويه فهو نصف الأربعة، ينتج أنّ الاثنين نصف الأربعة.

في حدّ العلم

قال (دام ظلّه): «والعلم لا يُحد، لأنّه من الصفات الوجدانية» (1)(1) .

أقول :المحقّقون على أنّ العلم لا يحد؛ ثمّ اختلفوا:

فقيل : لعشرة.

وقيل: لاستلزام تحديده الدور، لأنّ جميع ما عدا العلم إنّما يعلم بالعلم، فلو عرّف العلم، فإمّا بنفسه، أو بما يتوقّف معرفته عليه، ولا ثالث، فيلزم الدور.

والحقّ: أنّه من الضروريات، لأنّه من الصفات الوجدانية !

واعلم أنّ مراده بقوله: «لا يحدّ»، لا يعرف!

قال (دام ظلّه): «وهل هو صورة مساوية للمعلوم في العالِم، أو إضافة بين العالمِ والمعلوم، فيه خلاف. والأقرب (2)(2) عندي: أنّه صفة يلزمها الإضافة [إلى المعلوم] (3)(3) »(4)(4) .

ص: 111


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 28 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: الأقوى
3- (3) أثبتناه من المصدر.
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.

أقول: ذهب أكثر الحكماء : إلى أنّ العلم صورة مساوية للمعلوم عند العالِم.

وذهب أكثر المتكلّمين: إلى أنّه إضافة بين العالم والمعلوم.

والتحقيق: أنّه صفة يلزمها الإضافة.

وأُبطل الأوّل: بلزوم أن يكون الذهن حاراً بارداً، مستقيماً مستديراً.

[ وأُجيب: بأنّ المؤثّر للحرارة في المحلّ هو وجود ماهية الحرارة في الخارج، ويسمّى الهوية لا نفس الصورة المعقولة.

وقوله : «أنّه صفة يلزمها الإضافة»، ليس على سبيل التعريف، بل ذكر حقيقته ] (1)(1).

قال (دام ظلّه): «وكما يصحّ إضافته إلى الموجود [كذا](2)(2) يصحّ إلى المعدوم، فإنّا نعلم طلوع الشمس غداً من المشرق، وهو معدوم الآن»(3)(3).

أقول: كما يصحّ إضافته إلى الموجود [كذا] يصحّ إلى المعدوم.

ومنهم من قال: إنّ المعدوم غير معلوم، لأنّ كلّ معلوم متميّز، وكلّ متميّز ثابت، فما ليس بثابت لا يكون معلوماً، وهو باطل ! لأنّ الثبوت أعمّ من الثبوت الخارجي والذهني، وهذا الرأي باطل، لأنّا نعلم قطعاً طلوع الشمس من المشرق غداً وهو معدوم الآن.

ص: 112


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) أثبتناه من المصدر.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.

والتحقيق: أنّ العدم قسمان:

عدم مضاف إلى ملكة، كعدم زيد، فهو معلوم للعلم بملكته.

وعدم مطلق، وهذا ليس بمعلوم، لأنّه لا تعيّن له ولا امتياز، فالعقل كيف يشير(1)(1) إلى ما لا تميّز له ولا تعيّن أصلاً؟!

وفيه إشكال، لأنّ قولنا : العدم (2)(2) المطلق غير معلوم، إخبارٌ عنه، فيكون تناقضاً! ولأنّ العدم المضاف هو المطلق لكن أضيف إلى شيء، والشيء ما يُعرف أوّلاً لم تعرف إضافته.

مبحث الظنّ

قال (دام ظلّه): «الرابع عشر : الظنّ:

وهو ترجيح اعتقاد أحد الطرفين ترجيحاً غير مانع من النقيض، فإن كان مطابقاً فهو ظنّ صادق، وإلاّ فكاذب (3)(3)» (4)(4).

أقول: الظنّ، هو: ترجيح أحد النقيضين مع تجويز النقيض الآخر، فإن كان مطابقاً فهو صادق، وإلاّ فهو كاذب.

وبعض الناس جعل الظنّ جنساً آخر غير جنس الاعتقاد.

والحقّ ما قلناه !

ص: 113


1- (1) في ب: يسكن.
2- (2) في ب: المعدوم.
3- (3) في المصدر : (فهو كاذب).
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.

مبحث النظر

قال (دام ظلّه): «الخامس عشر : النظر :

وهو ترتيب أُمور ذهنية يتوصّل بها إلى أمر آخر»(1)(1).

أقول: «الترتيب»، كالجنس.

وتقييده ب«الأُمور الذهنية»، ليخرج عنه ترتيب الأُمور الخارجية.

وقوله: «ليتوصّل بها إلى أمر آخر»، ليخرج ترتيب العلوم، لاستحضارها لا لتحصيل المجهول.

واعلم، أنّ التعريف قد يكون بالمادّة، كقولنا في تعريف الكوز: «إنّه وعاء يعمل من الصفر والخزف»، وقد يكون بالصورة، كتعريف الكوز : «بأنّه وعاء شكله كذا وكذا»، وقد يكون بالغاية، كقولنا : «إنّه إناء يشرب بها الماء». وقد يكون بالفاعل، كقولنا : «إنّه وعاء يصنعه الخرّاف».

وأكمل الرسوم ما اشتمل على الأربع.

وهذا قد اشتمل عليها ! ف( الترتيب ) صورة النظر، والأمور (الذهنية) مادّته، و (التوصّل إلى آخر) غايته، ومنه يفهم الفاعل (2)(2).

واعلم، أنّه ليس المراد التعريف بنفس هذه العلل الأربع، لأنّها ليست بمحمولة (3)(3) ، وكلّ معرّف محمولٌ ، بل يحصل للمركّب باعتبار كلّ علّة من هذه

ص: 114


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.
2- (2) العبارة في ب: (ودلّ على الفاعل بالإرادة).
3- (3) العبارة في ب: (واعلم أنّه المراد ليس التعريف ببعض هذه العلل الأربع، لأنّها ليست محمولة).

العلل وصف محمول، وتعريفه بذلك الوصف.

[أو يمتنع امتناع التعريف بغير المحمول، لأنّ التعريف على قسمين:

الأوّل: بحسب الماهية.

الثاني: بحسب الآنية، أعني: الوجود.

والأوّل لا يكون إلاّ بالأجزاء المحمولة، والثاني بالعلل الأربع ](1)(1).

قال (دام ظلّه): «فإن صحّت المقدّمتان والترتيب فالنظر صحيح، وإلاّ ففاسد.

ثمّ المقدّمتان إن كانتا علميتين، فالنتيجة علمية، وإلاّ فهي ظنّية»(2)(2) .

أقول: صحّة النظر إنّما هو بصحّة مادتّه، وهي المقدّمات، بمعنى مطابقتها لما في نفس الأمر، وصحّة صورته، وهو الترتيب، بأن يكون على هيئة أحد الضروب المنتجة.

إذا عرفت ذلك، فنقول:

المقدّمتان إن كانتا علميتين فالنتيجة علمية، وإن كانت إحداهما ظنّية فالنتيجة ظنّية، لأنّ النتيجة تتبع أخس المقدّمتين.

قال (دام ظلّه): «والنظر الصحيح يفيد العلم، لأنّ من عَلم أنّ العالم حادِث، وأنّ كلّ حادِث مفتقر إلى المؤثّر، علم بالضرورة أنّ العالم مفتقر إلى المؤثّر»(3)(3).

ص: 115


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.

أقول: ذهب المحقّقون: إلى أنّ النظر الصحيح يفيد العلم، خلافاً للسُمَنية (1)(1).

لنا: أنّ كلّ من عَلم أنّ العالم حادِث، وإنّ كلّ حادِث مفتقر إلى مؤثّر، فإنّه ُیعلم بالضرورة أنّ العالم مفتقر إلى المؤثّر.

قال (دام ظلّه): «احتجّ من أنكر إفادته للعلم: بأنّ المطلوب إن كان معلوماً استحال طلبه، لاستحالة تحصيل الحاصل، وإن كان مجهولاً فكذلك، لأنّ ما لا يُعلم لا يطلب.

والجواب: أنّه معلوم من وجه دون وجه، وليس المطلوب هو الوجهان

ص: 116


1- (1) السُمَنية (بضم السين وفتح الميم)، نسبة إلى سومنات بلد بالهند: وهم حكماء الهند الدهريون القائلون بالتناسخ. وفي المصباح المنير : هم فرقة تعبد الأصنام، وتقول بالتناسخ، وتنكر حصول العلم بالأخبار. وفي رواية ابن النديم في الفهرست: كان لهم نبيّ يسمّى بوداسف، وانتشرت هذه الديانة في الهند وما وراء النهر وخراسان قبل ظهور زرادشت. وقال الجوهري : السُّمَنية: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ، وتنكر وقوع العلم بالأخبار. وقال عمر كحاله في معجم قبائل العرب: السُّمَنية: من قبائل فلسطين الشمالية منازلها كسكوس. من عقائدهم: القول بالتناسخ، وقدم العالم، وإبطال النظر والاستدلال، وزعموا أنّه لا معلوم إلاّ من جهة الحواس الخمس، وأنكر أكثرهم المعاد والبعث. أدخلهم الإمامية في جملة مشركي العرب لقولهم في التوحيد للبارئ، وعبادتهم سواه تقربا إليه وتعظيما فيما زعموا عن عبادة الخلق له.

حتّى يرد الإشكال، بل الماهية المتّصفة بالوجهين»(1)(1).

أقول: هذا احتجاج السُمَنية.

وتقريره أن نقول:

النظر: الطلب (2)(2) ، والمطلوب إمّا أن يكون معلوماً أو مجهولاً، والأوّل يستحيل طلبه، لأنّه تحصيل الحاصل، والثاني يستحيل طلبه أيضاً، لأنّ ما لا شعور للنفس به كيف يطلبه، وكيف يعرف أنّه هو عند حصوله؟

وجوابه: أنّ المطلوب معلوم من وجه، ومجهول من وجه آخر، وهذا هو المطلوب، فباعتبار معلوميته يكون للنفس به شعور ليتوجّه إليه بالطلب، وباعتبار مجهوليته يمكن الطلب، ولا يلزم تحصيل الحاصل.

لا يقال: الإشكال وارد، لأنّ الوجه المعلوم يستحيل طلبه، والوجه المجهول يستحيل طلبه !

لأنّا نقول: ليس المطلوب الوجهين، بل الماهية المتّصفة بهما.

قال (دام ظلّه): «والنظر واجب، لأنّ معرفة الله تعالى واجبة، لكونها دافعة للخوف، ولا يتم إلاّ بالنظر، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، وإلاّ خرج الواجب عن كونه واجباً مطلقاً، أو لزم تكليف ما لا يطاق، والقسمان باطلان» (3)(3).

ص: 117


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 28 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: طلب.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.

أقول: النظر واجب، لأنّ معرفة الله تعالى واجبة مطلقاً، ولا يتم إلاّ بالنظر، وكلّ ما لا يتم الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب، فالنظر واجب.

ها هنا مقدّمات:

الأوّل: إنّ معرفة الله تعالى واجبة، لأنّها دافعة للخوف، لأنّ العبد إذا نشأ ورأى النعمة عليه، ولم يعلم هل أراد المنعم شكرها، وإن لم يفعل عاقبه، فيحصل له خوف لا يدفعه إلاّ بمعرفة المنعم، ليعرف هل هو محسن فيشكره، أم لا، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

الثاني: إنّها لا تتم إلاّ بالنظر، لأنّه لا طريق سواه، وإلاّ التجأ العقلاء إليه في بعض الأزمان، والتقليد لا يستلزمه، وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجّح، ولا ينتفي ضرر الخوف بالنظر.

الثالث: إنّ كلّ ما لا يتم الواجب المطلق إلاّ به فهو واجب، لأنّه لولا ذلك لكان حال عدم الشرط إمّا أن يكون المشروط واجباً، أو لا، وكلاهما باطل ! أمّا الثاني فلخروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً، هذا خلف. وأمّا الأوّل فلأنّه تكليف ما لا يطاق.

قال (دام ظلّه): «ووجوبه عقلي، لأنّه لو وجب بالسمع لزم إفحام الأنبياء» (1)(1).

أقول: ذهبت المعتزلة والإمامية : إلى أنّ وجوب النظر عقلي.

وذهبت الأشاعرة: إلى أنّه سمعي.

ص: 118


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.

احتجّ الأوّلون: بأنّه لو كان سمعياً لزم منه إفحام الأنبياء، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: إنّ النبيّ إذا أمر المكلّف بإطاعته، فله أن يقول: لا اتّبعك حتى أعرف صدقك، ولا أعرفه (1)(1) إلاّ بالنظر في معجزتك، ولا أنظر حتّى يجب علَيَّ، ولا يجب علَيَّ إلاّ بقولك، وقولك ليس بحجّة، فينقطع النبيّ.

قال (دام ظلّه):« والقصد إليه أوّل الواجبات، أو المعرفة بالله» (2)(2).

أقول: اختلفوا في أوّل الواجبات ما هو :

فقال أبو هاشم (3)(3): إنّه الشك.

وليس بصحيح ! لأنّ الشكّ لا يكون مقدوراً، وإن كان مقدراً فلا يكون مراداً للعاقل.

وقال أبو الحسن الأشعري (4)(4) : إنّ أوّل الواجبات هو معرفة الله تعالى.

وذهب المعتزلة، وأبو إسحاق الأسفرايني(5)(5): إلى أنّ أوّل الواجبات هو النظر.

وذهب الجويني (6)(6) : إلى أنّ أوّل الواجبات هو القصد إلى النظر.

ص: 119


1- (1) في ب: ( ولا أعرف صدقك).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 29 الفصل الرابع.
3- (3) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.
4- (4) علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري (ت 324ه)، تقدّم.
5- (5) أبو إسحاق الأسفراييني، إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم بن مهران البغدادي الشافعي،المتكلّم الأصولي، المتوفى بنيسابور سنة (418 ه ) .
6- (6) أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الأشعري، إمام الحرمين (ت 478 ه)، تقدّم.

وهذا النزاع لفظي ! لأنّه إن كان المراد بأوّل الواجبات المقصودة بالقصد الأوّل، فلا شكّ أنّه المعرفة عند من يجعلها مقدورة، والنظر عند من لم يجعل العلم مقدوراً، وإن كان المراد أوّل الواجبات كيف كان، فلا شكّ أنّه القصد إليه.

قال (دام ظلّه): «وحصول العلم عقيب النظر على سبيل اللزوم لا العادة، للعلم الضروري بالوجوب، كما في غيره من الأسباب، خلافاً للأشعرية» (1)(1).

أقول: حصول العلم عقيب النظر الصحيح بالعادة عند الأشعري.

وعند المعتزلة والإمامية: على سبيل اللزوم، لأنّ كلّ من علم أنّ العالم متغيّر، وكلّ متغيّر ممكن، فمع حصول هذين العلمين يستحيل أن لا يعلم أنّ العالم ممكن ، والعلم بهذا الامتناع ضروري، وهذا معنى اللزوم، كما في غيره من الأسباب والمسببات.

قال (دام ظلّه): «والدليل: هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر»(2)(2).

أقول : الدليل هو: الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر.

وهذا ينتقض بالقول الشارح، كالحدّ والرسم، فإنّه يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، ولا يسمّى دليلاً، اللّهمّ إلا أن يريد بالعلم به العلم التصديقي، كما قد فسّر العلم من قبل.

ص: 120


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.

والصواب أن يقال:

الدليل هو: الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ثبوتاً أو نفياً (1)(1).

والأمارة هي: الذي يلزم من العلم بها أو الظنّ ظنّ وجود شيء آخر أو نفيه.

قال (دام ظلّه): «وهو قد يكون عقلياً محضاً، وقد يكون مركّباً من العقلي والنقلي، ولا يتركّب من النقليات المحضة دليل» (2)(2) .

أقول: مقدّمات الدليل إمّا أن تكون جميعها عقلية محضة، أو بعضها عقلية وبعضها نقلية، فإن كانت جميع المقدّمات عقلية فالدليل عقلي، وإن كان إحدى المقدّمات نقلياً فالدليل نقلي، ولا يتركّب من النقليات المحضة دليل، لأنّ جميع النقليات موقوفة على صدق النبيّ أو الإمام، وهي مقدّمة عقلية.

مبحث الإرادة والكراهة

قال (دام ظلّه): «السادس عشر : الإرادة والكراهة:

وهما كيفيتان نفسانيتان يرجّحان الفعل أو الترك» (3)(3) .

أقول: «الكيفية»، كالجنس .

وقولنا : «نفسانیتان»، يخرج به الكيفيات الغير النفسانية.

وقوله: «يرجّحان الفعل أو الترك»، أخرج به غيرها من الكيفيات

ص: 121


1- (1) في ب: سلباً.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.

النفسانية.

قال (دام ظلّه): «وهل هما زائدتان على الداعي أم لا؟ خلاف. والحقّ الزيادة (1)(1) في حقّنا لا في حقّه تعالى» (2)(2) .

أقول: الداعي هو: علم الحيّ، أو اعتقاده، أو ظنّه، بما فيه منفعة له أو لغيره، ممّن يؤثّر غيره فيه منفعة يمكن حصولها إليه، أو إلى ذلك الغير.

والداعي إلى الترك يسمّى : (صارفاً) .

إذا تقرّر ذلك، فنقول:

ذهب بعضهم: إلى أنّ الإرادة والكراهة نفس الداعي.

والحقّ: زيادتهما في حقّنا لا في حقّ الله تعالى!

قال (دام ظلّه): «وإرادة الشيء يستلزم كراهة ضدّه» (3)(3).

أقول: اختلفوا في أنّ إرادة الشيء: هل هي نفس كراهة ضدّه، أم يستلزمها ، أم لا نفسها ولا يستلزمها ؟

والحقّ الثاني!

مبحث الشهوة والنفرة

قال (دام ظلّه): «السابع عشر : الشهوة والنفرة:

ص: 122


1- (1) في ب: زيادتهما.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 29 الفصل الرابع.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.

وهما كيفيتان نفسانیتان مغايرتان للإرادة والكراهة، فإنّا نريد شرب الدواء وقت الحاجة ولا نشتهيه، ونشتهي الملاذ المحرّمة ولا نريدها» (1)(1).

أقول: الشهوة والنفرة: كيفيتان نفسانیتان تصوّرهما ضروري لا يحتاجان إلى تعريف .

والشهوة تغاير الإرادة، لانفكاكها في الوجود، فإنّا نريد شرب الدواء وقت الحاجة ولا نشتهيه، فقد وجدت الإرادة دون الشهوة، ونشتهي الملاذ المحرّمة ولا نريدها، فقد وجدت الشهوة دون الإرادة.

والنفرة مغايرة للكراهة، لوجود كلّ منهما بدون الأُخرى، كما قرّرناه.

مبحث الألم واللذّة

قال (دام ظلّه): «الثامن عشر : الألم واللذّة:

وهما كيفيتان وجدانيتان. فاللذّة إدراك الملائم، والألم إدراك المنافي» (2)(2).

أقول: اللذّة والألم : كيفيتان وجدانيتان، وما هذا شأنه امتنع تعريفه.

فاللذّة هي: إدراك الملائم.

والألم هو: إدراك المنافي.

قال (دام ظلّه):« وسبب الألم : تفرّق الاتصال وسوء المزاج المختلف»(3)(3).

ص: 123


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 29 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 الفصل الرابع.

أقول: ذهب الشيخ أبو علي (1)(1) : إلى أنّ سبب الألم: تفرّق (2)(2) الاتصال في الحيّ وسوء المزاج المختلف.

أمّا أنّ تفرّق الاتصال في الحيّ مؤلم بالذات فضروري، لأنّ الحيوان مركّب من العناصر التي تقتضي طبيعة كلّ واحد منها كيفية مخالفة لما تقتضيه طبيعة العنصر الآخر، إلاّ أنّها ما دامت متّصلة انكسر البعض بالبعض وحصل الاعتدال، فإذا تفرّقت بقيت طبيعة كلّ واحد منها خالية عمّا يعوقها، فيقع الإحساس بالمنافي، فيحصل الألم.

وأمّا سوء المزاج، فنقول : سوء المزاج قسمان: سوء المزاج المتّفق، وسوء المزاج المختلف، والمؤلم إنّما هو سوء المزاج المختلف لا المتّفق.

أمّا آنيته، فبمثالين:

الأوّل: حرارة الدقّ أشدّ من حرارة الغب، مع أنّ المدقوق لا يجد من الالتهاب ما يجده المغبوب.

الثاني: المغافص بالاستحمام شتاءً إذا استحمّ بالماء الحار تأذّى به، لأنّ كيفية بدنه بعيدة عنه ، ثمّ بعد المكث يستلدّه، ثمّ بعد ساعة ربّما استبرده.

وأمّا اللّمية، فلأنّ المنافاة لا تتحقّق إلا بين شيئين، فإذا كان للعضو كيفية فورد عليه ما يضادّه في الكيفية، فإمّا أن يبطل الوارد كيفية العضو، فحينئذ لا تبقى هناك كيفيتان متنافيتان، فلم تكن المنافاة حاصلة، فلم يكن الإحساس

ص: 124


1- (1) محمّد بن عبد الوهاب الجبائي ( ت 303ه)، والد أبو هاشم، تقدّم.
2- (2) في ب: تفريق.

بالمنافاة حاصلاً، ولم يكن الألم حاصلاً، ولا يبطلها (1)(1)، فحينئذ تتحقّق المنافاة والألم، فلأجل ذلك يكون سوء المزاج المختلف مؤلماً، وسوء المزاج المتّفق لا يكون مؤلماً.

مبحث الإدراك

قال ( دام ظلّه): «التاسع عشر : الإدراك:

وهو زائد على العلم، فإنّا نجد تفرقة ضرورية بين علمنا بحرارة النار، وبين اللمس.

وهل الزيادة راجعة إلى تأثير الحاسّة ،وعدمها، أو إلى أمر مغاير؟ خلاف» (2)(2) .

أقول: الإدراك من الأُمور الضرورية التي لا تحتاج إلى التعريف، وهو زائد على العلم، لأنّأ نلمس النار مثلاً، ثمّ تغيب عنّا، فنجد تفرقة بين الحالين مع حصول العلم فيهما ، فاللمس غير العلم .

لكن الفلاسفة، والكعبي (3)(3)، وأبا الحسين البصري (4)(4) زعموا :أنّه عائد إلى : تأثير الحاسّة.

وباقي المسلمين ذهبوا: إلى أنّه مغاير لتأثير الحاسّة(5)(5) .

ص: 125


1- (1) في ب: (أو لا يبطلها).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 29 - 30 الفصل الرابع.
3- (3) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني المعتزلي (ت 319ه)، تقدّم.
4- (4) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
5- (5) العبارة لا توجد في ب.

في الإبصار

قال (دام ظلّه): «وأنواعه خمسة:

الإبصار، قيل: إنّه يحصل بخروج شعاع من العين نحو المرئي ويتّصل به فتحصل الرؤية.

وقيل: بل تنطبع في العين صورة المرئي.

وكلاهما باطل! أمّا الأوّل: فلانّ الشعاع إن كان عرضاً استحال عليه الحركة والانتقال، وإن كان جسماً استحال أن يخرج من العين جسم يتّصل بنصف كرة العالم مع صغر العين.

وأمّا الثاني: فلأنّه يستحيل انطباع العظيم في الصغير» (1)(1) .

أقول: أنواع الإدراك خمسة، كالحواس:

الأوّل: الإبصار.

واختلفوا في كيفيته على قولين:

الأوّل: رأي الرياضيين وأرسطو (2)(2) ، وهو: بخروج شعاع من العين نحو المرئي ويتّصل به، فتحصل الرؤية.

الثاني: إنّه انطباع صورة المرئي في العين، وهو اختيار أفلاطون(3)(3).

وكلاهما باطل ! أمّا الأوّل، فلأنّ الشعاع الخارج إمّا أن يكون عرضاً أو

ص: 126


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 30 الفصل الرابع.
2- (2) أرسطو : الفيلسوف اليوناني (ت 322 ق م)، تقدّم.
3- (3) أفلاطون : الفيلسوف اليوناني (ت 347 ق م)، تقدم.

جوهراً، فإن كان عرضاً استحال عليه الانتقال، وإن كان جوهراً لزم أن يخرج من العين بهذا الصغر جسم يتّصل بنصف كرة العالم ، لأنّا نراه، ويستحيل خروج هذا الجسم العظيم من العين على صغرها.

وأمّا الثاني، فلأنّه لو كان كذلك لما رأينا المبصرات العظيمة، لاستحالة انطباع العظيم في الصغير. لكن التالي باطل، فالمقدّم مثله.

قال (دام ظلّه): «الحقّ ما اخترناه نحن في (نهاية المرام)(1)(1)، وهو:

إنّ الله تعالى جعل للنفس قوّة إدراك المرئي عند مقابلة الحدقة السليمة له مع حصول (2)(2) الشرائط العشرة، وهي: سلامة الحاسّة، وكثافة المبصَر، وعدم البعد والقرب المفرطين، والمقابلة أو حكمها، ووقوع الضوء على المرئي، وكونه غير مُفرط، وعدم الحجاب، والتعمّد للإبصار، وتوسط الشفّاف» (3)(3).

أقول: لمّا بيّن المذهبين في الإبصار وإبطالهما، ذكر ما هو المختار عنده، وهو مذهب جالينوس(4)(4): وهو أنّ الله تعالى جعل (5)(5) للنفس قوّة إدراك المرئي عند مقابلة الحدقة السليمة له، مع حصول شرائط الإبصار.

ص: 127


1- (1) من مصنّفات العلاّمة ابن المطهّر الحلّي، مطبوع .
2- (2) في المصدر: تكامل.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 30 الفصل الرابع.
4- (4) جالينوس : أشهر الأطباء اليونانيين القدماء بعد أبقراط، ومن الحكماء، ولد ونشأ ب(فرغامس) من مدن آسيا شرق القسطنطينية، له مؤلّفات كثيرة منها: كتاب الفصل، وكتاب العصب، وكتاب العروق، وكتاب المزاج، وغيرها، اختلف في سنة ولادته، فقيل: أنّه عاصر النبيّ عيسى (عليه السلام)، وقيل: بعده.
5- (5) فى ب: خلق .

وشرائط الإبصار عشرة:

الأوّل: سلامة الحاسّة.

الثاني : أن يكون المبصر كثيفاً، بمعنی :أن يكون له لون أو ضوء.

الثالث: أن لا يكون المبصر في غاية البعد.

ثمّ إنّ البعد يختلف حاله باختلاف قوّة المبصر وضعفه، وعظم المرئي وضعفه، وإشراق لون المرئي وكمودته ، فإنّ الصغير إذا بَعُد بحيث لا يرى، فما هو أعظم منه قد يرى من ذلك البعد، ومن كان أقوى حسّاً قد نراه، وما كان أضوء أو لونه أكثر شروقاً يرى.

الرابع: أن لا يكون في غاية القرب، فإنّ المرئي إذا التصق بسطح المبصر لم نره.

الخامس: أن يكون المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل، كالأعراض، والمرئي في المرآة.

السادس: وقوع الضوء على المرئي من ذاته، أو من غيره.

السابع: أن لا يكون الضوء مفرطاً.

الثامن: أن لا يتوسط بينه وبين الإبصار حجاب.

التاسع: التعمد للإبصار.

العاشر : توسط الشفّاف.

قال (دام ظلّه): «وعند اجتماع هذه الشرائط العشرة تجب الرؤية» (1)(1).

ص: 128


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 30 الفصل الرابع.

أقول: اختلفوا في أنّه عند اجتماع هذه الشرائط هل تجب الرؤية، أم لا؟

فذهبت المعتزلة: إلى الأوّل، والأشاعرة: إلى الثاني.

لنا وجوه:

الأوّل: الضرورة، فإنّا نعلم قطعاً أنّ الشمس إذا كانت على نصف النهار وكانت الحاسّة سليمة والحجب مرتفعة، فإنّا لا بدّ أن نراها .

الثاني: لو جوّزنا مع حصول هذه الأمور (1)(1)عدم الرؤية، لما أمنّا أن يكون بحضر تنا (2)(2) جبال شاهقة وأصوات هائلة ونحن لا نراها .

في السماع

قال (دام ظلّه): « والسماع : وهو يحصل بتموّج (3)(3) الهواء الصادر عن قلع أو قرع، إلى أن يصل ذلك التموّج إلى سطح الصماخ»(4)(4).

أقول: النوع الثاني من الإدراك السماع، وهو يحصل بتموّج الهواء.

وسبب التموّج قلع عنيف، أو قرع عنيف، إلى أن يصل التموّج إلى سطح الصماخ، فيحصل الإدراك.

في الشمّ

قال (دام ظلّه): «والشمّ: وهو يحصل بتكيّف الهواء برائحة ذي الرائحة

ص: 129


1- (1) في ب: الشرائط .
2- (2) في ب: بحضورنا.
3- (3) في ب: (من تموّج).
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 30 الفصل الرابع.

ووصوله إلى الخيشوم» (1)(1).

أقول: الشمّ قد يكون لتكيّف الهواء المتّصل بالخيشوم بكيفية ذي الرائحة، وقد يكون لإيصال أجزاء لطيفة من ذي الرائحة ووصوله إلى خيشومنا، كما في المتبخّرات.

في اللمس

قال (دام ظلّه): «واللمس: وهو أنفع الإدراكات، إذ باعتباره يحفظ الحيوان مزاجه عن المنافي الخارج، فإنّه لما كان مركّباً من العناصر الأربعة، كان حفظه ببقائها على الاعتدال، وفساده بخروجها عنه، فوهبه الله تعالى قوّة سارية فيه أجمع، هي اللمس، يدرك بها ما ينافيه فيبعد عنه.

أمّا باقي القوى فإنّها جالبة للنفع، ودفع الضرر أقدم من جلب النفع، ولهذا كان اللمس أنفع الإدراكات» (2)(2).

أقول: اللمس أنفع الإدراكات، لأنّ به يحفظ الحيوان مزاجه عن المنافي الخارج، وباقي أنواع الإدراك يستجلب بها النفع، ودفع الضرر أقدم من جلب النفع [ وأنفع ](3)(3).

أمّا الأُولى، فلأنّ الحيوان الأرضي مركّب من العناصر الأربعة، وصلاحه باعتدالها، وفساده بتغالبها، فلا بدّ وأن يكون فيه قوّة سارية في كلّه، بها يدرك

ص: 130


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 30 الفصل الرابع.
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين : 30 الفصل الرابع.
3- (3) أثبتناه من ب.

المنافي ليتحرّز عنه، وهو اللمس.

وأمّا الثانية، فظاهرة.

إذا عرفت ذلك، فنقول:

لمّا كان الغرض من القوّة اللامسة أن يكون له شعور بالمفسد ليتحرّز عنه، وجب أن يكون كلّ من له هذه القوّة متمكّناً من الحركة، فكلّ حساس متحرّك بالإرادة.

في الذوق

قال (دام ظلّه): «والذوق : وهو يحصل بانفعال الرطوبة اللّعابية المتّصلة باللسان بطعم ذي الطعم» (1)(1) .

أقول: الذوق هو ثاني اللمس، ومشروط به، لكنّه لا تكفي فيه الملامسة، بل لا بدّ من متوسط، وهو الرطوبة اللّعابية المنبعثة عن الملعبة، فإن عدمت الرطوبة والطعوم أدّتها بصحّة، وإن خالطها طعم كما في المرضى فلا .

ثمّ التوسط قد يكون بأن تتكيف الرطوبة بكيفية ذي الطعم، وقد يكون بمخالطة أجزاء ذي الطعم، ثمّ يعرض في اللسان حتّى يخالطه.

والمصنّف اختار الأوّل.

إذا ثبت ذلك، فالذوق يحصل بانفعال الرطوبة اللّعابية المتّصلة باللسان بطعم ذي الطعم.

ص: 131


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 31 الفصل الرابع.

بحث في أحكام عامّة للأعراض

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في أحكام عامّة للأعراض:

الأعراض يستحيل عليها الانتقال، لأنّه عبارة عن الحصول في حيّز بعد الحصول في حيّز آخر، وهو لا يعقل في الأعراض.

ولا يجوز انتقالها من محلّ إلى محلّ، لأنّ العرض مفتقر في تشخّصه إلى محلّ شخصي يقوم به، وإلاّ لما حلّ فيه، لاستغنائه في وجوده بفاعله وفي تشخّصه بغير المحلّ، وإذا افتقر في تشخّصه إلى محلّ استحال انتقاله عنه» (1)(1).

أقول: اتّفق المتكلّمون والفلاسفة على امتناع الانتقال على الأعراض، لأنّ الانتقال عبارة عن الحصول في حيّز بعد الحصول في حيّز (2)(2) آخر، وهو لا يعقل في الأعراض لأنّه غير متحيّز، وأمّا الانتقال بمعنى الحصول في محلّ بعد الحصول في محلّ غير ذلك المحلّ، فهو محال أيضاً ، لأنّ العرض مفتقر في تشخّصه إلى محلّ شخصي يقوم فيه، لأنّه لولا ذلك لما حلّ فيه، لاستغنائه في وجوده بفاعله وفي تشخصه بغير المحلّ، فيستغني عن المحلّ مطلقاً، فلا يحلّ فيه، ولا يمكن احتياجه إلى محلّ مبهم، لأنّ المبهم من حيث هو مبهم غير موجود في الخارج، وما لا يكون موجود في الخارج لا يفيد وجوداً في الخارج بالبديهة، وإذا افتقر في تشخصه إلى محلّ شخصي، استحال انتقاله عنه.

ص: 132


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 31 الفصل الرابع.
2- (2) ( في حيّز بعد الحصول في حيّز ) لا يوجد في ب، ج.

قال (دام ظلّه): «ولا يستحيل قيام عرض بعرض، كالسرعة القائمة بالحركة، ولا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري» (1)(1).

أقول : اتفّقت الفلاسفة، والإمامية، وبعض المعتزلة: على جواز قيام العرض بالعرض، كالسرعة قائمة بالحركة، لكن لا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري.

ومنعت الأشاعرة ذلك، لأنّه لا بدّ من الانتهاء بالآخرة (2)(2) إلى الجوهر، وحينئذ يكون الكلّ في حيّز الجوهر تبعاً له، وهو الأصل، فالكلّ قائم به.

والجواب: إنّ ذلك لا يمنع من التوسط، وهو المطلوب.

قال (دام ظلّه):« ولا يستحيل عليها البقاء، فإنّ الحسّ كما يحكم ببقاء الأجسام، كذلك يحكم ببقاء الأعراض القارّة. وخلاف الأشعرية ضعيف»(3)(3).

أقول: الأعراض تنقسم: إلى غير قارّة كالحركة والزمان، ولا شكّ في امتناع بقائها، وإلى قارّة كالبياض.

أي: لو جوّزنا قيام العرض بالعرض وبقاء الأجسام، لجاز بقاؤها.

واختلفوا في بقائها :

فذهبت الفلاسفة، والمعتزلة، والإمامية : إلى جواز بقائها .

وذهبت الأشاعرة: إلى امتناعه.

لنا: أنّ الضرورة قاضية ببقاء الأعراض، كما هي حاكمة ببقاء الأجسام،

ص: 133


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 31 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: (في الآخرة).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 31 الفصل الرابع.

فإنّا إذا رأينا جسماً أبيض في زمان، ثمّ رأيناه ثانياً، فإنّا نعلم أنّ ذلك الجسم وذلك البياض هو الذي رأيناه أوّلاً، والحسّ لا يحكم، بل لمّا كان مبدأ حكم العقل هنا الحسّ نسب الحكم إلى الحسّ.

وإنّما قال: «كما يحكم ببقاء الأجسام»، ليبيّن أنّ نفي (1)(1) الأعراض فرع على نفي (2)(2) الأجسام، لافتقاره في تشخّصه إليه، كما تقدّم.

فالقائل : بعدم بقاء الأجسام، كالنظّام (3)(3) ، يقول بعدم بقاء الأعراض، وإن جوّز قيام العرض بالعرض.

احتجّت الأشاعرة: بأنّ البقاء عرض، فلو كان العرض باقياً لزم قيام العرض بالعرض، وهو محال (4)(4).

والجواب: بمنع كون البقاء عرضاً ثابتاً في الخارج، سلّمنا، لكنّا جوّزنا قيام العرض بالعرض.

قال (دام ظلّه): «ولا يمكن حلول عرض واحد في محلّين، كما لا يعقل حلول جسم في مكانين.

وقول أبي هاشم بأنّ التأليف: عرض يقوم بجزأين لا أزيد. وقول بعض الأوائل: إنّ الإضافات المتّفقة تقوم بالمضافين؛ ضعيفان»(5)(5).

ص: 134


1- (1) في ب، ج : بقاء.
2- (2) في ب، ج : بقاء.
3- (3) إبراهيم بن سيار البصري المعتزلي، أبو إسحاق النظّام (ت 231 ه)، تقدّم .
4- (4) لا يوجد في ب.
5- (5) نهج المسترشدين في أصول الدين: 31 الفصل الرابع.

أقول: اتّفق الكلّ على امتناع قيام عرض واحد بأكثر من محلّين، وأمّا حلوله في المحلّين فالأكثر على امتناعه.

فقال أبو هاشم (1)(1) : إنّ التأليف عرض واحد قائم بمحلّين.

وجمع من قدماء الفلاسفة زعموا: أنّ الإضافات المتّفقة كالأُخوّة قائمة بمحلّين، لا المختلفة كالأبوّة والبنوّة.

لنا: أنّه كما لا يعقل حلول جسم في مكانين، كذا لا يعقل حلول عرض واحد في محلّين. وهذا الحكم ضروري.

قال (دام ظلّه):« والأعراض كلّها حادثة، لأنّ محلّها - وهو الجسم - حادث، وقد سبق»(2)(2).

أقول: الأعراض تفتقر إلى المحلّ وهو الجسم، والأجسام كلّها حادثة، كما تقدّم، وما يتوقّف على الحادث حادث.

بحث في الأحكام المشتركة بين الجواهر والأعراض

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: في بقايا أحكام مشتركة بين الجواهر والأعراض :

وهي خمسة:

ص: 135


1- (1) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 31 الفصل الرابع.

في التماثل والاختلاف

الأوّل: كلّ معقولين إن تساويا في تمام الماهية فهما المثلان، وإلاّ فالمختلفان.

والمختلفان: إمّا متقابلان إن لم يمكن اجتماعهما، وإمّا متلاقيان» (1)(1).

أقول: كلّ معقولين إمّا أن يتساويان في تمام الماهية، أو لا، والأوّل هما المثلان، وإلاّ فالمختلفان. والمختلفان إمّا أن يمكن اجتماعهما، أو لا، والثاني المتقابلان، وهما اللّذان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان من جهة واحدة، والأوّل المتلاقيان.

في التقابل

قال (دام ظلّه): «والتقابل على أربعة أصناف:

الضدّان: وهما الذاتان الوجوديتان اللّتان لا تجتمعان، وبينهما غاية التباعد، كالسواد والبياض» (2)(2) .

أقول: التقابل أربعة أصناف:

الأوّل: التضادّ.

والضدّان: هما الذاتان الوجوديتان اللّتان لا تجتمعان، وبينهما غاية التباعد ، كالسواد في الغاية، والبياض في الغاية.

ص: 136


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 31 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 32 الفصل الرابع.

واعلم، أنّه إن (1)(1) شرطنا في التضادّ التباعد في الغاية، لم تنحصر أقسام التقابل في أربعة، وإن لم نشترط، كان تعريفهما هكذا: ذاتان وجودیتان مختلفتان بالماهية يعقل كلّ منهما لا بالقياس إلى الآخر.

قال (دام ظلّه): ولا يعرض التضادّ للأجناس مطلقاً، ولا للأنواع إلاّ إذا دخلت تحت جنس أخير» (2)(2).

أقول: الأجناس لا تتضادّ.

دليله: الاستقراء.

والذي يظنّ أنّ الخير والشرّ مع كونهما جنسين لأنواع كثيرة ضدّان، باطل! لأنّ الشرّ ليس له طبيعة وجودية، وبتقدير كونه كذلك، فلا هو ولا الخير جزءان من ماهية ما تحتها، لأنّ الخير عبارة عن كون الشيء ملائماً، والشرّ عبارة عن كون الشيء منافراً، وقد تعقل الأشياء التي يقال عليها الخير والشرّ، وإن لم تعقل كونها خيرات وشروراً، فليستا جنسين لما تحتها، ولا يعرض التضادّ أيضاً (3)(3) للأنواع إلاّ إذا دخلت تحت جنس أخير، للاستقراء (4)(4).

في الضدّين

قال (دام ظلّه): «والضدّان قد يخلو المحلّ عنهما، إمّا مع الاتّصاف بالوسط

ص: 137


1- (1) في ب، ج : (أنّا إذا).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 32 الفصل الرابع.
3- (3) لا يوجد في ب.
4- (4) لا يوجد في ج.

كالفاتر، أو بدونه كالهواء، وقد لا يصحّ كالأكوان» (1)(1).

أقول: الضدّان قد يخلو المحلّ عنهما، إمّا عند الاتّصاف بالوسط كالفاتر، فإنّه قد خلا عن الحرارة البالغة والبرودة البالغة، أو بدون الاتّصاف كالهواء، وقد لا يمكن خلوّ المحلّ عنهما كالأكوان، فإنّ حصول الجسم في حيّز يضادّ حصوله في غيره، ولا يمكن خلوّ الجسم عنهما، فإنّه لا بدّ أن يكون حالاًّ في ذلك المحل أو في غيره.

في النقيضين

قال (دام ظلّه): «والنقيضان: وهما اللّذان لا يجتمعان ولا يرتفعان: إمّا في المفردات كالإنسان [ و ] لا(2)(2) إنسان، وإمّا في المركّبات كالإنسان كاتب [و] ليس (3)(3) الإنسان بكاتب، وهو تقابل بحسب القول والعقل» (4)(4) .

أقول: هذا النوع الثاني من التقابل(5)(5) .

والنقيضان: هما اللّذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وذلك إمّا في المفردات كالإنسان لا إنسان، أو في المركّبات كالإنسان كاتب ليس الإنسان بكاتب.

والفرق بين هذا التقابل وغيره من وجهين:

ص: 138


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 32 الفصل الرابع.
2- (2) أثبتناه من المصدر.
3- (3) أثبتناه من المصدر.
4- (4)نهج المسترشدين في أصول الدين : 32 الفصل الرابع.
5- (5) فى أ: (التضادّ)، وما أثبتناه من ب، ج.

الأوّل: أنّ المتقابلين هنا لا يجوز كذبهما أصلاً، بخلاف غيرهما من التقابلات.

الثاني: أنّ هذا التقابل بحسب القول والاعتقاد لا في الوجود، بخلاف الضدّين ،والمضافين، فإنّهما متقابلان في الوجود، بمعنى أنّها وجوديان، وبخلاف العدم والملكة، فإنّهما راجعان إلى ما في نفس الأمر.

في العدم والملكة

قال (دام ظلّه): «والعدم والملكة: وهما نقيضان يخصّص موضوعهما، كالعمى والبصر، فإنّ العمى عدم البصر لا مطلقاً، بل عن محلّ يمكن اتّصافه به» (1)(1).

أقول: العدم والملكة: هما نقيضان يخصّص موضوعهما، فإنّ عدم نسبة الشيء عن محلّ يمكن اتّصافه به لا مطلقاً كالعمى والبصر، فإنّ العمى عدم البصر لا مطلقاً، وإلاّ لكان الجدار أعمى، بل عمّن يمكن اتّصافه به .

في المتضايفين

قال (دام ظلّه): «والمتضايفان: وهما اللّذان لا يعقل أحدهما إلاّ بالقياس إلى الآخر، كالأبوّة والبنوّة» (2)(2) .

أقول: هذا هو النوع الثالث من أنواع التقابل.

ص: 139


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 32 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 32 الفصل الرابع.

فالمتضايفان: هما اللّذان لا يعقل أحدهما إلاّ بالقياس إلى الآخر، وذلك مثل الأبوّة والبنوّة.

قال (دام ظلّه):« والحقّ: أنّ الإضافات لا وجود لها في الخارج، وإلاّ لزم التسلسل» (1)(1).

أقول: ذهب الحكماء : إلى أنّ الإضافة أمر وجودي.

والحقّ: أنّه لا وجود لها، وإلاّ لزم التسلسل، لأنّ حصولها في المحلّ إضافة لها إلى محلّ، فحصولها في المحلّ غير نفسها، فيكون للإضافة إضافة أُخرى، ثمّ تلك الإضافة أيضاً حاصلة في المحلّ، ويكون حصولها في المحلّ مغايراً لذاتها، ثمّ الكلام فيها كالكلام في الأوّل، ويلزم التسلسل .

في المثلين

قال (دام ظلّه): «وكما يستحيل الجمع بين المتقابلين، يستحيل الجمع بين المثلين، إذ لا مائز حينئذ ، لأنّ الذات ولوازمها متّفقة، والعوارض متساوية النسبة إليها. وإنّما يجتمع المختلفان غير المثلين والمتقابلين» (2)(2).

أقول: اتّفقت الفلاسفة ،والإمامية، والأشاعرة، وبعض المعتزلة: على استحالة اجتماع المثلين كاستحالة اجتماع الضدّين، خلافاً لمشايخ المعتزلة.

لنا: أنّ بتقدير الاجتماع لا يحصل الامتياز بالذاتيات واللوازم، وإلاّ لما كانا مثلين، ولا بالعوارض، لأنّ نسبة جميع العوارض إلى كلّ واحد منهما على

ص: 140


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 32 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 32 الفصل الرابع.

السوية، فلا يكون (1)(1) كونه عارضاً لأحدهما أولى من كونه عارضاً للآخر، فيكون عارضاً لكلّ واحد منهما، وحينئذ لا يبقى الامتياز بينهما، فيصير الإتيان واحداً، وهو محال، وإنّما يجتمع المختلفان غير المثلين والمتقابلين.

في الوحدة والكثرة

قال (دام ظلّه): «الثاني: المعقول : إمّا أن يكون واحداً أو كثيراً، والواحد إمّا بالذات أو بالعرض، والأوّل قد يكون بالشخص كزيد، وقد يكون بالنوع كزيد وعمرو، وقد يكون بالجنس، كالإنسان والفرس.

ثمّ الأجناس تتصاعد، فيكون الواحد بالجنس واحداً، إمّا بالجنس القريب كما قلناه، أو بالمتوسط كالإنسان والحجر، أو البعيد كالإنسان والعقل.

والواحد بالنوع كثير بالشخص، والواحد بالجنس كثير بالنوع.

والواحد بالشخص قد يصحّ عليه الانقسام لذاته كالمقدار، ولغيره كالجسم(2)(2) ، وقد لا يصحّ، ويكون ذا وضع كالنقطة، وغير ذي وضع كالنفس. ومن جملة أقسام الواحد الوحدة» (3)(3).

أقول: لمّا احتاج المتكلّم إلى البحث عن الواحد والكثير لأنّه مستدلّ على إثبات وجود (4)(4) الباري ونفي الكثرة عنه.

ص: 141


1- (1) في ج: يكفي.
2- (2) في المصدر: (كالجسم الطبيعي).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 32 - 33 الفصل الرابع.
4- (4) في ب، ج: وحدة.

وتقريره، أن نقول:

المعقول: إمّا أن يكون واحداً، أو كثيراً، والواحد إمّا أن يكون مقولاً على كثيرين بالعدد، أو لا، فإن لم يكن مقولاً على كثيرين بالعدد، فهو الواحد بالشخص، وإن كان مقولاً على كثيرين بالعدد، فوحدتها من غير جهة كثرتها.

وتلك الجهة إمّا أن تكون مقوّمة لتلك الكثرة، أو لا، فإن لم تكن، فإمّا أن تكون من عوارضها، أو لا، وكلاهما يقال لهما: الواحد بالعرض (1)(1). أمّا الثاني، فكما يقال حال النفس عند التدبير كحال الملك عند المدينة، فيقال: تصرّف النفس في البدن وتصرّف الملك في المدينة واحد. والأوّل قد يكون موضوعاً لمحمولات عارضة الموضوع واحد، وقد يكون محمولاً لموضوعات لمحمول واحد، وهذه كلّها يقال لها : الواحد بالعرض.

وأمّا إن كانت جهة الاتّحاد مقوّمة، فهو الواحد بالذات، فإمّا أن يكون مقولاً في جواب ما هو، فيكون واحداً إمّا بالجنس، أو النوع.

ثمّ الأجناس قد تتصاعد، فيكون الواحد بالجنس إمّا واحد بالجنس القريب كالإنسان والفرس، فإنّهما واحد بالجنس القريب وهو الحيوان، وإمّا أن يكون واحداً بالجنس المتوسط كالإنسان والحجر، فإنّهما واحد بالجنس المتوسط وهو الجسم، وإمّا أن يكون واحداً بالجنس البعيد كالإنسان والعقل، فإنّهما واحد بالجنس البعيد الذي هو الجوهر الذي ليس فوقه جنس، والواحد (2)(2) بالنوع كزيد وعمرو، فإنّهما واحد بالنوع الذي هو الإنسان.

ص: 142


1- (1) العبارة في ج: ( والأوّل يقال لها: الواحد بالعرض).
2- (2) في أ: (والجنس)، وما أثبتناه من ب، ج.

وأمّا أن لا يكون مقولاً في جواب ما هو، وهو الفصل، ولمّا كان الاتّحاد به داخلاً في الاتّحاد بالنوع والجنس لم يذكره المصنّف.

وإذا عرفت أقسام الواحد ، عرفت أقسام الكثير، فإنّ الواحد بالنوع كثير بالشخص، والواحد بالجنس كثير بالنوع.

ثمّ الواحد بالشخص إمّا أن يصحّ عليه الانقسام، أو لا، والأوّل إمّا أن يصحّ عليه الانقسام لذاته كالمقدار، أو لغيره كالجسم، فإنّه يصحّ عليه الانقسام بواسطة المقدار، والثاني إمّا أن يكون ذا وضع، أو لا، والأوّل كالنقطة، والثاني كالنفس وباقي المجرّدات.

ومن جملة أقسام الواحد الوحدة، وإنّما لم يدخلها في أحد هذين القسمين، لأنّ الناس اختلفوا في أنّها هل هي (1)(1) وجودية، أم لا؟ فعلى الأوّل تدخل في الأوّل لأنّها ذو وضع، وعلى الثاني تدخل في الثاني. فلذلك ذكرها هنا منفردة.

قال (دام ظلّه): «والحقّ: أن الوحدة والكثرة من الأُمور (2)(2) الاعتبارية، فإنّ الوحدة لو كانت موجودة لزم التسلسل، ولو كانت الكثرة موجودة لكان محلّها إمّا بعض أجزائها، أو كلّ واحد من أجزائها، فيكون الواحد كثيراً باعتبار واحد» (3)(3).

أقول : ذهبت الفلاسفة: إلى أنّ الوحدة والكثرة من الأُمور الثبوتية في الخارج.

ص: 143


1- (1) في أ: (تبقى)، وما أثبتناه من ب، ج.
2- (2) في ب: الصفات.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 33 الفصل الرابع.

وذهب المصنّف : إلى أنّها من الأُمور الاعتبارية التي لا وجود لها في الخارج.

واحتجّ عليه: أمّا في الوحدة، فبأنّها لو كانت موجودة في الخارج (1)(1) لكانت

واحدة، فيكون لها وحدة، ثمّ ننقل الكلام إليها، ويتسلسل.

وأمّا في الكثرة، فلو كانت وجودية (2)(2) لكان محلّها، إمّا بعض أجزائها، أو كلّ واحد من الأجزاء؛ وعلى كلا التقديرين يلزم أن يكون الواحد كثيراً، وهو باطل ! أو المجموع من حيث هو مجموع ، وهو باطل ! لأنّه إمّا أن يكون لها اعتبار يكون به واحداً، أو لا يكون، والثاني يلزم من أحد الأوّلين، والأوّل باطل! لأنّ تلك الوحدة إمّا أن تكون بعينها موجودة فيهما معاً ، فيكون العرض الواحد في محلّين، أو يقوم بكلّ واحد وحدة أُخرى، فلا يكون لذلك المجموع وحدة واحدة، حتّى يكون باعتبارها محلاًّ للاثنينية، وقد فرض كذلك. هذا خلف.

في الحدوث والقِدم

قال (دام ظلّه): «الثالث: الموجود: إمّا أن يكون قديماً، أو محدَثاً.

فالقديم: ما لا أوّل لوجوده، أو الذي لا يسبقه العدم، وهو الله تعالى خاصّة.

والمحدَثُ : ما لوجوده أوّل، أو هو مسبوق بالعدم، وهو كلّ ما عدا الله تعالى» (3)(3).

ص: 144


1- (1) (في الخارج) لا يوجد في ب، ج.
2- (2) في ب: موجودة.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 33 الفصل الرابع.

أقول: كلّ موجود إمّا أن يكون قديماً، أو محدَثاً.

والقديم، هو الذي يفسّر بأمرين:

أحدهما: موجود لا أوّل لوجوده.

والثاني: الموجود الذي لا يسبقه العدم، وهو الله تعالى لا غير .

والمحدَث: يقال لمعنيين مقابلين لهذين المعنيين (1)(1):

أحدهما: ما لوجوده أوّل، ويسمّى: الحدوث الذاتي.

والثاني: ما يسبقه العدم، وهو كلّ ما عدا الله تعالى.

ومن المعلوم بالضرورة أنّ الموجود إمّا أن يكون مسبوقاً بغيره، أو لا، وإمّا أن يكون مسبوقاً بالعدم، أو لا. والقسمة إلى القديم والمحدَث حاصرة.

قال (دام ظلّه): «والحدوث والقِدم من الصفات الاعتبارية، وإلاّ لزم التسلسل. وخلاف الكرّاميّة في الأوّل، وبعض الأشعرية في الثاني، ضعيف» (2)(2).

أقول: ذهب عبد الله بن سعيد(3)(3) من الأشاعرة: إلى أنّ القِدم صفة وجودية.

وذهبت الكرّاميّة: إلى أنّ الحدوث صفة وجودية في الخارج.

والحقّ، أنّهما من الصفات الاعتبارية؛ وإلاّ لزم التسلسل. فإنّ القِدم لو كان ثبوتياً لكان قديماً، فله قِدم، ثمّ ننقل ِالكلام إليه، ويتسلسل، والحدوث لو

ص: 145


1- (1) ( لهذين المعنيين) لا يوجد في ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 33 الفصل الرابع.
3- (3) عبد الله بن سعيد الكلابي القطّان البصري، ابن كلاّب، توفى سنة (245ه)، أحد المتكلّمين في أيام المأمون العبّاسي.

كان صفة ثبوتية لكان حادثاً ، فله حدوث، ويتسلسل.

قال (دام ظلّه):« والقديم لا يجوز عليه العَدم، لأنّه إمّا واجب الوجود لذاته، فظاهر أنّه لا يجوز عليه العدم، وإمّا ممكن الوجود، فلا بدّ له من علّة واجبة الوجود، وإلاّ لزم التسلسل. ويلزم من امتناع عدم علّته امتناع عدمه»(1)(1).

أقول: القديم لا يجوز عليه العَدم، لأنّه إمّا واجب الوجود، أو ممكن الوجود، والأوّل لا يجوز عليه العَدم، وأمّا الثاني فلا بدّ له من علّة، فهي إمّا واجبة أو ممكنة، ولا بدّ من الانتهاء إلى الواجب، لاستحالة التسلسل أو الدور، فإمّا أن يكون مؤثّراً فيه بالاختيار، أو يكون علّة لذاته، والأوّل محال، لأنّ فعل المختار محدَثُ، والثاني إمّا أن يكون موقوفاً على شرط، أو لا، فإن كان موقوفاً، فذلك الشرط لا يمكن أن يكون محدَثاً، فلا بدّ وأن يكون قديماً، فإمّا واجب الوجود أو معلوله، لاستحالة التسلسل، فإن كان واجب الوجود استحال عدمه، وإن كان معلوله، فلا بدّ وأن يؤثّر فيه لذاته لا بالاختيار، فإمّا أن يكون موقوفاً على شرط آخر، أو لا، والأوّل ينقل الكلام إلى ذلك الشرط ويتسلسل، والثاني يكون الواجب علّة لذاته لا بتوسط شرط، فيستحيل عدمه لاستحالة عدم علّته، وإذا استحال عدم العلّة والشرط استحال عدم المعلول، وإن لم يكن ذلك القديم المفروض أوّلاً موقوفاً على شرط استحال عدمه لاستحالة عدم علّته.

قال (دام ظلّه): «والمحدَث لا بدّ له من مؤثّر، لأنّ ماهيته لمّا اتّصفت بالعدم تارة وبالوجود أُخرى، كانت من حيث هي هي قابلة لها، فتكون ممكنة،

ص: 146


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 33 الفصل الرابع.

فلا بدّ في اتّصافها بأحد الأمرين من مرجّح ، وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجّح. وهو باطل بالضرورة.

ومن هنا ظهر أنّ علّة احتياج الأثر إلى المؤثر إنّما هو الإمكان لا الحدوث» (1)(1).

أقول : المحدَث لا بدّ له من علّة مؤثّرة، لأنّ ماهيته قابلة للوجود والعدم، وكلّما كان كذلك فهو ممكن، فالمحدَث ممكن.

أمّا الصغرى، فلأنّ ماهيته قد اتّصفت بالوجود تارة، وبالعدم أُخرى، فلو لم تكن قابلة لهما لما اتّصفت بهما.

وأمّا الكبرى، فظاهرة.

وكلّ ممكن فنسبة الوجود والعدم إليه متساوية، وكلّ محدَث نسبة الوجود والعدم إليه واحدة، وكلّما كان كذلك، فلا بدّ في اتّصافه بأحد الأمرين من مرجّح، وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجّح ، وهو باطل بالضرورة.

وقد ظهر من هذا أنّ علّة احتياج الأثر إلى المؤثّر إنّما هو الإمكان لا الحدوث.

قال (دام ظلّه): «وأيضاً الحدوث كيفية للوجود، فتكون متأخّرة عنه، والوجود (2)(2) متأخّر عن الإيجاد، المتأخّر عن الاحتياج، المتأخّر عن علّة الاحتياج، فلو كان الحدوث علّة الاحتياج، لزم الدور بمراتب، وهو محال» (3)(3).

ص: 147


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 33 الفصل الرابع.
2- (2) في أ، ج: (الموجود)، وما أثبتناه من المصدر، ب.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 33 الفصل الرابع.

أقول: هذا دليل ثانٍ على أنّ علّة الاحتياج لا تجوز أن تكون هي الحدوث، بل الإمكان.

وتقريره: أنّه لو كانت هي الحدوث لزم الدور، والتالي باطل، فالمقدّم مثله .

بيان الشرطية : إنّ الحدوث صفة للوجود فيتأخّر عنه بالذات، وهو متأخّر عن الإيجاد بالعلّية، المتأخّر عن الاحتياج بالذات، المتأخّر عن علّة الاحتیاج بالعلّية، فلو كانت هي الحدوث لزم تقدّم الشيء على نفسه بمراتب، وهو محال.

بحث في العلّة والمعلول

قال (دام ظلّه): «الرابع: الموجود إمّا أن يكون مؤثّراً في غيره، إمّا مع إمكان أن لا يؤّثر فيه وهو الفاعل المختار، أو مع امتناع أن لا يؤثّر فيه وهو العلّة الموجبة، وإمّا (1)(1) أثراً لغيره، وهو المعلول» (2)(2).

أقول: هذا تقسيم الموجود إلى العلّة والمعلول.

وتقريره أن نقول:

الموجود إمّا أن يكون مؤثّراً في غيره ، وإمّا أثراً لغيره، والأوّل إمّا أن يؤثّر إمكان أن لا يؤثّر، وهو الفاعل المختار، أو مع امتناع أن لا يؤثّر، وهو العلّة الموجبة، والثاني هو المعلول.

ص: 148


1- (1) في المصدر، ه: (وإمّا أن يكون).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 34 الفصل الرابع.

قال (دام ظلّه): «ولا يمكن أن تكون العلّة نفس المعلول، لأنّ المؤثّر متقدّم، ويستحيل أن يتقدّم الشيء على نفسه، بل إمّا جزؤه أو خارج عنه، أمّا الجزء فإن كان هو الذي باعتباره يحصل الشيء بالقوّة كالخشب للسرير فهو العلّة المادّية، وإن كان هو الذي باعتباره يحصل الشيء بالفعل فهو العلّة الصورية كالشكل في السرير، وأمّا الخارج فإن كان الذي هو المفيد للوجود فهو العلّة الفاعلية كالنجّار للسرير، وإن كان لأجله الوجود فهو العلّة الغائية كالاستقرار على السرير، وكلّ مركّب لا بدّ له من هذه العلل الأربع »(1)(1) .

أقول: هذا تقسيم للعلّة إلى العلل الأربعة.

وتقريره أن نقول:

لا يمكن أن تكون العلّة هي نفس المعلول، لأنّ المؤثر في الشيء متقدّم عليه، ويستحيل أن يتقدّم الشيء على نفسه، بل العلّة إمّا جزء الشيء أو خارج (2)(2) عن الشيء، والأوّل إمّا أن يكون هو الجزء الذي يحصل الشيء به بالقوّة، أو الذي يحصل به الشيء بالفعل، والأوّل هو المادّة كالخشب للسرير، والثاني هو العلّة الصورية كالشكل للسرير، وإمّا الخارج، فإمّا أن يكون هو المفيد للوجود، وإمّا أن يكون لأجله الوجود، والأوّل هو العلّة الفاعلية كالنجّار للسرير، والثاني هو العلّة الغائية، كالاستقرار على السرير.

واعلم، أنّ العلّة الغائية علّة لعلّية العلّة الفاعلية، وهي علّة بماهيتها معلولة بوجودها، وكلّ مركّب لا بدّ له من هذه العلل الأربع.

ص: 149


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 34 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: خارجة.

قال (دام ظلّه): «والعلّة قد تكون بالذات كالسقمونيا في إزالة التسخين، وقد تكون بالعرض كالسقمونيا في التبريد» (1)(1) .

أقول: العلّة قد تكون بالذات، وقد تكون بالعرض.

أمّا التي بالذات، فهي التي توجب سبباً لذاتها كالسقمونيا في إزالة التسخين.

وأمّا التي بالعرض، فكالسقمونيا في التبريد، فإنّها ليست علّة للتبريد، بل علّة في إزالة التسخين، وإذا زال التسخين حصل التبريد.

قال (دام ظلّه): «ولا يمكن أن يكون لمعلول شخصي علّتان تامتان، لأنّه يكون واجباً بكلّ واحدة منهما، فيستغني بكلّ واحدة منهما عن الأُخرى، فيكون حال الحاجة إليهما مستغنياً عنهما، هذا خلف» (2)(2).

أقول: المعلول الواحد الشخصي لا تجتمع عليه علّتان مستقلّتان.

و بیانه يتوقّف على مقدّمتين:

الأوّل: أنّ الشيء من حيث هو واجب يكون غنيّاً عن العلّة.

الثاني: المعلول مع العلّة المستقلّة واجب الوجود.

إذا ثبت ذلك، فنقول :

لو اجتمع على المعلول الشخصي علّتان، لكان مستغنياً عنهما حال الحاجة إليها، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

ص: 150


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 34 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 34 الفصل الرابع.

بيان الشرطية: إنّه بالنظر إلى كلّ واحد منهما يكون واجباً، فيستغني عن الآخر، فيكون حال الحاجة إليهما مستغنياً عنها، هذا خلف.

قال (دام ظلّه):« ويمكن أن يكون لمعلول نوعي علّتان مستقلّتان، كالحرارة الصادرة عن علل مختلفة» (1)(1).

أقول: المعلول الواحد بالنوع يجوز استناده إلى علل مختلفة، كالحرارة الصادرة عن علل مختلفة، كالنار والشمس والحمّى، وغير ذلك عند الفلاسفة والإمامية والمعتزلة، وخلاف أكثر الأشاعرة في ذلك ضعيف.

قال (دام ظلّه):« ولا يمكن وحدة المعلول من كلّ وجه مع تركيب علّته، لأنّ كلّ واحد من أجزاء العلّة إن كان له تأثير في ذلك الواحد فيجتمع على المعلول الشخصي علل كثيرة، وقد بينّا استحالته، أو في أبعاضه فيلزم تركّب المعلول مع فرض وحدته، هذا خلف.

وإن لم يكن لشيء من الأجزاء تأثير في المعلول: فإمّا أن يحصل عند الاجتماع أمر يقتضي ذلك المعلول، أو لا، فإن كان الثاني لم يكن المعلول معلولاً لتلك الماهية المركّبة، وإن حصل كان هو العلّة بالحقيقة، إذ بوجوده يوجد المعلول وبعدمه ينتفي. فإمّا أن يكون بسيطاً، أو مركّباً.

فإن كان الأوّل نقلنا الكلام إليه في كيفية صدوره عن الأجزاء، وإن كان مستغنياً عنها لم يكن لتلك الأجزاء تأثير في المعلول ولا في علّته البسيطة، فلا يكون لها مدخل في التأثير البتة، وإن كان مركّباً نقلنا الكلام في كيفية

ص: 151


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 34 - 35 الفصل الرابع.

حصوله»(1)(1).

أقول: لا يمكن أن يكون للمعلول الواحد من كلّ وجه علّة مركّبة، لأنّ كلّ واحد من أجزاء العلّة إمّا أن يكون له تأثير، أو لا.

والأوّل، إمّا أن يكون في كلّ المعلول أو في أبعاضه، والأوّل محال، وإلاّ لا جتمع (2)(2) على المعلول الشخصي علل كثيرة، وقد بينّا استحالته، والثاني محال، وإلاّ لكان المعلول مركّباً، وقد فرض بسيطاً. هذا خلف.

والثاني، وهو أن لا يكون لشيء من أجزاء العلّة تأثير، فإمّا أن يحصل عند الاجتماع أمر يقتضي ذلك المعلول، أو لا، فإن كان الثاني لم يكن المعلول معلولاً لتلك الماهية المركّبة، وإن كان الأوّل فذلك هو العلّة بالحقيقة، إذ بوجوده يوجد المعلول وبعدمه ينتفى. فإمّا أن يكون بسيطاً، أو مركّباً، فإن كان الأوّل كان التركيب في قابل العلّة أو فاعلها لا فيها، وأيضاً فإنّا ننقل الكلام إلى ذلك البسيط في كيفية صدوره عن الأجزاء، وإن كان مستغنياً عنها لم يكن لتلك الأجزاء تأثير في المعلول ولا في علّته البسيطة، فلا يكون لها مدخل في التأثير البتة، وإن كان مركّباً نقلنا الكلام في كيفية تأثيره.

قال (دام ظلّه): «ولا يمكن تأخّر المعلول عن العلّة التامّة، وإلاّ لكان وجوده وقت وجوده دون ما قبله وبعده (3)(3)، إن لم يكن لمرجع آخر مع تساوي الأوقات لزم الترجيح من غير مرجّح ، وإن كان لمرجّح غير العلّة، لم يكن ما

ص: 152


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 34 - 35 الفصل الرابع.
2- (2) في ب، ج: اجتمع.
3- (3) في المصدر: وما بعده.

فرضناه علّة تامّة علّة تامّة. هذا خلف» (1)(1).

أقول: العلّة التامّة، هي مجموع ما يتوقّف عليه الشيء، وهي المقتضية لوجود ذلك الشيء بالإيجاد.

إذا عرفت ذلك، فنقول:

لا يمكن تأخّر المعلول عن العلّة التامّة، لأنّه لولا ذلك لجاز فرض وقوعه بدون (2)(2) علّته التامّة في وقت، وانتفائه مع وجود علّته التامّة في آخر (3)(3) ، فترجيح أحد الطرفين في الوقتين بالوجود دون الآخر إن لم يتوقّف على مرجّح لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجّح (4)(4)، وهو محال، وإن توقّف لم يكن المؤثّر الأوّل تامّاً. هذا خلف.

قال (دام ظلّه):« وعلّة العدم عدم العلّة » (5)(5) .

أقول: لمّا ثبت تساوي الطرفين بالنسبة إلى ماهية الممكن، استحال أن يرجّح (6)(6) أحدهما بذاته، لامتناع اقتضاء الذات الرجحان، بل إنّما يرجّح (7)(7) بأمر خارج، وهو ضروري.

ص: 153


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 35 الفصل الرابع.
2- (2) في ب: (وجوده مع).
3- (3) ( لأنّه لولا ذلك لجاز فرض وقوعه بدون علّته التامّة في وقت، وانتفاؤه مع وجود علّته التامّة) لا يوجد في ج.
4- (4) في ب، ج : (لا لمرجّح).
5- (5)نهج المسترشدين في أصول الدين : 35 الفصل الرابع.
6- (6) في ب: يترجّح.
7- (7) في ب: يترجّح.

ولمّا بيّن علل (1)(1) الوجود، شرع في علّة العدم.

وتقريره، أن نقول:

إنّ علّة العدم هو عدم العلّة، لأنّه لا يجوز أن يستند إلى ذاته وإلاّ لكان ممتنعاً، ولا إلى وجود شيء غير عدم علّته، لأنّ عند وجود علّته يجب وجوده، فتأثير ذلك الشيء صادراً في العدم إن كان عند وجود علّة الوجود، لزم أن يكون موجوداً بالنظر إلى علّة وجوده، ومعدوماً بالنظر إلى علّة عدمه، هذا خلف. ولا ترجيح لأحدهما لأنّا فرضناهما تامّين.

وإن كان عند اختلال بعض شرائط العلّة، أو عدم جزء منها، أو عدمها، كان المقتضي للعدم هو عدم ذلك الشرط أو الجزء لا غير، ولا إلى عدم شيء غير العلّة وأجزائها وشرائطها، لأنّ ما عدا العلّة وأجزائها وشرائطها لا يحتاج إليه الممكن، وما لا يحتاج إليه الشيء لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء بالضرورة، فالممكن محتاج إلى العلّة، فإن حضرت أثرت الوجود بوجودها، وإن عدمت أثرت العدم بعدمها.

قال (دام ظلّه):« ولا يمكن استناد كلّ واحد من الشيئين إلى صاحبه، وهو الدور، لأنّ العلّة متقدّمة على المعلول، فلو كان كلّ واحد من الشيئين علّة لصاحبه أو لعلّة صاحبه، لزم تقدّم الشيء على نفسه بمرتبة واحدة أو بمراتب»(2)(2).

ص: 154


1- (1)في ب: علّة.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 35 الفصل الرابع.

أقول: الغرض الأقصى من هذا الفنّ: تقرير [برهان](1)(1) إثبات واجب الوجود تعالى، وبيان (2)(2) صفاته؛ وهو متوقّف على إبطال الدور والتسلسل، فلهذا قدّمه المصنّف.

والدور: هو أن يتوقّف كل واحد من الشيئين على صاحبه فيما هو متوقّف عليه فيه، كما لو توقّف وجود العلّة على وجود معلولها المتوقّف على وجود تلك العلّة، وكما في المتأخّر من حيث هو متأخّر إذا تقدّم على متقدّمه من تلك الحيثية، والثاني أعمّ، والعلم ببطلانه ضروري، لأنّ العلّة متقدّمة على المعلول، فلو كان كلّ واحد من الشيئين علّة لصاحبه، أو لعلّة صاحبه، لزم تقدّم الشيء على نفسه بمرتبة واحدة أو بمراتب، وهو ضروري البطلان.

قال (دام ظلّه): «ولا يمكن تسلسل العلل والمعلولات، لأنّ تلك الجملة ممكنة قطعاً، فالمؤثّر فيها إن كان خارجاً عنها كان واجباً، وهو المطلوب، وإن كان جزءها لزم تقدّم الشيء على نفسه بمراتب لا يتناهى، لأنّ المؤثّر في الجملة مؤثّر في آحادها التي من جملتها المؤثّر نفسه، وعلله التي لا تتناهى» (3)(3).

أقول: التسلسل : عبارة عن وجود ما لا يتناهى من الأعداد.

وشرط الحكماء في استحالته أمرين:

الأوّل: أن تكون آحاده موجودة دفعة.

الثاني: أن يكون بينهما الترتيب الطبيعي كالعلل والمعلولات، أو الوضعي كالأبعاد.

ص: 155


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) في ب: وإثبات.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 35 الفصل الرابع.

ولمّا كان المطلوب وهو إثبات واجب الوجود تعالى إنّما يتوقّف على إبطال التسلسل المشروط بهذين الشرطين، فلذلك شرع في إبطاله، ولم يتعرّض لغيره.

وتقريره، أن نقول:

لا يمكن تسلسل العلل والمعلولات، لأنّه لو كان كذلك لكان مجموع الممكنات ممكناً أيضاً، لاحتياجه إلى كلّ واحد منهما التي هي ممكنة، والمحتاج إلى الممكن ممكن، وكلّ ممكن لا بدّ له من علّة ، فلذلك (1)(1) المجموع علّة، وهي إمّا كلّ تلك الأحاد، وهو باطل ! لأنّ كلّها هو المجموع، أو جزؤها، ومن جملتها المؤثّر نفسه وعلله (2)(2)، وهو محال، لأنّ المؤثّر في الجملة مؤثّر في آحادها، فيكون مؤثّراً في نفسه وفي علله التي لا تتناهى، فيلزم الدور بمرتبة واحدة أو لمراتب لا تتناهى، والدور قد بيّنا بطلانه. فلا بدّ وأن يكون خارجاً عنها، والخارج عن كلّ الممكنات ليس بممكن، بل واجب فينقطع التسلسل، وينتهي إلى الواجب، وهو المطلوب.

قال (دام ظلّه):« ويمكن استناد معلولين إلى علّة بسيطة.

واحتجاج الفلاسفة بأنّ الصدورين إن دخلا لزم التركيب وإلاّ لزم التسلسل، ضعيف! لأنّ الصدور أمر اعتباري لا تحقّق له في الخارج، وإلاّ لزم التسلسل» (3)(3).

أقول: ذهبت الفلاسفة: إلى أنّ البسيط حقّاً لا يصدر عنه دفعة من غير

ص: 156


1- (1) في أ: (فذلك)، وما أثبتناه من ب،ج.
2- (2) (ومن جملتها المؤثّر نفسه وعلله) لا يوجد في ب.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 35 الفصل الرابع.

تعدّد الآلات والقوابل بالإيجاب أكثر من الواحد.

وذهب المتكلّمون إلى جواز ذلك.

احتجّت الفلاسفة : بأنّ مفهوم أنّ كذا مصدر.

الأوّل: غير مفهوم أنّه مصدر.

الثاني: فهما إن كانا جزءيه كان مركّباً، أو كانا خارجين وهما لاحقان كان مصدراً لهما. فيعود الكلام فيه، فإمّا أن يتسلسل، وهو محال، لاستحالة علل ومعلولات لا نهاية لها، أو أحدهما داخل والآخر خارج، لكن كلّ ما له جزء فهو مركّب، والجزء لا يكون معلولاً.

والجواب: أنّ الصدور أمر اعتباري لا تحقّق له في الخارج، وإلاّ لزم التسلسل، أو يكون صادراً عن غيره فيكون له صدور آخر،وهكذا، ويتسلسل.

قال (دام ظلّه): «وكذا يجوز أن يكون البسيط قابلاً وفاعلاً. وقولهم:« نسبة القبول نسبة الإمكان، ونسبة العلّية نسبة الوجوب» خطأ! لإمكان اختلاف النسب عند اختلاف الحيثيات. ولا شكّ في المغايرة بين حيثية القبول وحيثية التأثير» (1)(1).

أقول: هل يمكن أن يكون البسيط قابلاً لشيء وفاعلاً لذلك الشيء بعينه؟

المشهور: امتناعه، لأنّ نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان، ونسبة الفاعل إلى الأثر بالوجوب، فلو انتسب شيء إلى شيء من هذين الوجهين، لكانت تلك النسبة الواحدة بالوجوب والإمكان معاً، وهو محال.

ص: 157


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 35 الفصل الرابع.

والجواب: أنّه يمكن اختلاف النسب عند اختلاف الحيثيات، ولا شكّ في المغايرة بين حيثية القبول وحيثية التأثير.

في الموجود الكلّي والجزئي

قال (دام ظلّه): «الخامس: الموجود إن منع نفس تصوّره من الشركة فيه فهو الجزئي كزيد، وإن لم يمنع فهو الكلّي كالإنسان» (1)(1).

أقول: كلّ موجود إمّا أن يكون نفس تصوّره مانعاً من الشركة فيه، أو لا، والأوّل الجزئي الحقيقي، والثاني الكلّي.

مثال الأوّل: زيد المشار إليه.

مثال الثاني: الإنسان من حيث هو هو، فإنّه موجود لأنّه جزء من الوجود في الخارج، وجزء الوجود موجود.

قال (دام ظلّه): «ثمّ أفراده قد تكون ذهنية لا غير كجبل من ياقوت، وقد تكون خارجية» (2)(2).

أقول: أقسام الكلّي ستّة بالنسبة إلى وجود أفراده في الخارج وعدمها.

وتقريره:

إنّ الكلّي: إمّا أن يكون معدوماً، أي؛ لا يكون لأفراده وجود إلاّ في الذهن خاصّة، كجبل من ياقوت، وبحر من زئبق، وإمّا أن يكون موجوداً، أي: يكون بعض أفراده موجود في الخارج.

ص: 158


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 35 الفصل الرابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 36 الفصل الرابع.

والمعدوم: إمّا ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، والأوّل كشريك الباري، والثاني كجبل من ياقوت.

والموجود: إمّا أن يكون فراداً واحداً، أو كثيراً، والأوّل إمّا مع امتناع مثله کالباري تعالى، أو مع إمكانه كالشمس، والثاني وهو الكثير إمّا متناه كالكواكب السيّارة، أو غير متناه كالنفوس الناطقة.

قال (دام ظلّه): «والكلّي إمّا نوع إن كان نفس الحقيقة كالإنسان، أو جنس إن كان جزؤها المشترك كالحيوان، أو فصل إن كان جزؤها المميّز كالناطق، أو خاصّة إن كان خارجاً عنها مختصّاً بها كالضاحك، أو عرض عام إن كان خارجاً عنها مشتركاً بينها وبين غيرها كالماشي. ويقال للثلاثة الأول: الذاتي، وللآخرين: العرضي» (1)(1) .

أقول: الكلّي: إمّا أن يكون نفس ماهية ما تحته من الجزئيات، أو جزءها، أو خارجاً عنها.

والأوّل، هو النوع كالإنسان، فإنّه نفس ماهية ما تحته من الجزئيات، وإنّما يزيد عليه بعوارض غير مقوّمة لها.

والثاني، إمّا أن يكون مختصاً بها، أو مشتركاً، أو مركّباً بينها وبين غيرها، والأوّل فصل النوع كالناطق، والثاني إمّا أن يكون تمام المشترك، أو بعضاً من تمام المشترك، فالأوّل هو الجنس كالحيوان، والثاني فصل الجنس كالحساس.

والثالث، وهو الخارج، فإمّا أن يكون مختصّاً، أو مشتركاً، والأوّل هو

ص: 159


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 35 الفصل الرابع.

الخاصّة كالضاحك، والثاني هو العرض العام كالماشي.

ويقال للثلاثة الأُوَل، أعني: نفس الماهية، وجزءها المختصّ، وجزءها المشترك: الذاتي. وللآخرين: العرضي.

[واعلم، أنّ قوله: «جزءها المشترك»، المراد به: هو الجزء الذي هو تمام المشترك، والعبارة تدلّ عليه ] (1). (1).

ص: 160


1- (1) أثبتناه من ب.

الفصل الخامس:في التوحيد

اشارة

قال(دام ظلّه):«الفصل الخامس:(في إثبات واجب الوجود تعالی و صفاته).

وفیه مباحث:

في إثبات الواجب الوجود وصفاته

الأوّل: في إثباته تعالى:

هاهنا موجود بالضرورة، فإن كان واجباً لذاته ثبت المطلوب، وإن كان ممكناً لذاته افتقر إلى مؤثّر، فإن كان مؤثّره واجباً فالمطلوب، وإن كان ممكناً افتقر إلى مؤثّر آخر (1)(1) ، فإن كان هو الأوّل لزم الدور. وإن كان غيره، فإن كان واجباً ثبت المطلوب، وإلاّ لزم التسلسل، وقد تقدّم بطلانها» (2)(2) .

ص: 161


1- (1) لا يوجد في المصدر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 37 الفصل الخامس.

أقول: هذا هو الغرض الأقصى من هذا الفنّ.

وتقريره، أن نقول:

واجب الوجود موجود، لأنّ هاهنا موجود، فإمّا أن يكون واجباً لذاته أو ممكناً، فإن كان الأوّل فالمطلوب، وإن كان الثاني افتقر في وجوده إلى مؤثّر يوجده للعلم الضروري بأنّ الممكن محتاج إلى المؤثّر، فالموجد له إن كان واجباً لذاته فالمطلوب، وإن كان ممكناً افتقر إلى مؤثّر مغاير له، فإن كان واجباً فالمطلوب، وإن كان ممكناً افتقر إلى مؤثّر مغاير له، فإن كان واجباً فالمطلوب، وإن كان ممكناً افتقر إلى مؤثّر آخر، ويستلزم منه الدور، أو التسلسل، أو الانتهاء إلى الواجب (1)(1) ، والدور والتسلسل محالان لما مرّ ، فتعيّن الآخر.

قال (دام ظلّه): «و وجوده نفس حقيقته، لأنّه لو كان زائداً عليها كان صفة لها، والصفة مفتقرة إلى الموصوف، والمفتقر ممكن، فيكون الوجود ممكناً، وقد فرض واجباً، هذا خلف.

ولأنّه لو كان ممكناً لافتقر إلى مؤثّر، فمؤثّره إن كان حقيقة واجب الوجود، فإمّا أن تؤثر فيه وهي موجودة فيلزم الدور، أو التسلسل، وإمّا أن تؤثر فيه وهي معدومة فيتطرّق العدم إلى واجب الوجود، وهو محال، لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود» (2)(2).

أقول: ذهب الحكماء، والإمامية، والمحقّقون من المتكلّمين: إلى أنّ وجود واجب الوجود نفس ماهيته.

ص: 162


1- (1) في ب: (واجب الوجود).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 37 الفصل الخامس.

واحتجّوا عليه: بأنّه لو كان زائداً عليها لكان صفة لها، والصفة مفتقرة إلى الموصوف، والمفتقر ممكن الوجود وقد فرض واجباً. هذا خلف.

وأيضاً: لو كان ممكناً لزم أحد أُمور خمسة: إمّا تأثير المعدوم في الموجود وتطرّق العدم إلى واجب الوجود، وإمّا وجود الماهية مرّتين وأكثر، والدور، والتسلسل (1)(1) ، وإمّا احتياج الواجب إلى غيره.

والتالي بأقسامه باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: إنّه لو كان ممكن لافتقر إلى مؤثّر، فالمؤثّر فيه إمّا أن يكون ذات الواجب أو غيره، فإن كان الأوّل، فإمّا أن تؤثّر فيه وهي معدومة، أو وهي موجودة، فإن كانت وهي معدومة، لزم تأثير المعدوم في الموجود، وتطرّق العدم إلى ذات الواجب (2)(2) ، وإن أثّرت وهي موجودة، فإمّا بهذا الوجود فيلزم الدور، أو بغيره فيلزم وجود الماهية مرّتين، ثمّ ننقل الكلام إليه، فإمّا أن يؤثّر فيه وهي موجودة بالوجود الأوّل ويلزم الدور، أو بغيره، فإمّا أن ینتهی إلى الأوّل، والأوّل يستلزم الدور، والثاني يستلزم التسلسل، وإن كان الثاني وهو أن يكون المؤثّر غير ذات واجب الوجود، فيكون الواجب محتاجاً إلى الغير.

وأمّا بطلان التالي بأقسامه، فظاهر.

قال (دام ظلّه): «وهو أزلي أبدي، لاستحالة تطرّق العدم إليه، وإلاّ لكان ممكناً »(3)(3).

ص: 163


1- (1) في ب: (أو الدور أو التسلسل).
2- (2) في ب: (واجب الوجود).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 37 الفصل الخامس.

أقول: الله تعالى أزلي أبدي، لاستحالة تطرّق العدم إليه، لأنّه لو تطرّق عليه العدم لكان ممكناً.

لأنّ ماهيته تكون قابلة للوجود، وهو ظاهر، وللعدم لفرض اتّصافها به في الجملة. ولا معنى للممكن إلاّ ذلك، وقد فرض واجباً. هذا خلف.

بحث في قدرة الواجب

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في أنّه تعالى قادر، خلافاً للفلاسفة.

لنا: أنّه لو كان موجباً لزم قدم العالم، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية: إنّه إن كان موجباً لذاته استحال تأخّر معلوله عنه، على ما تقدّم، وإن كان بشرط، فذلك الشرط إن كان قديماً لزم قِدم العالم، لأنّ عند حصول العلّة وشرطها يجب المعلول، وإن كان حادثاً نقلنا الكلام إليه، ويتسلسل، وهو محال» (1)(1) .

أقول: اتّفق المتكلّمون على كونه تعالى قادراً بالمعنى الذي فسّروا به ،القادر وهو الذي يصحّ منه أن يفعل ولا يجب.

والدليل عليه: إنّه لو كان موجباً يجب صدور الفعل عنه، لكان العالم قديماً، والتالي باطل، فالمقدّم.

بيان الشرطية : إنّ الموجب لا يمكن تأخّر أثره عنه، لما تقدّم(2)(2)، وقد ثبت

ص: 164


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 37 - 38 الفصل الخامس.
2- (2) لا يوجد في ب.

قِدم الباري تعالى، وهو موجود العالم، فإمّا أو يوجد (1)(1) لذاته من غير تّوقف على شرط، أو لا، والأوّل يستلزم قِدم العالم، والثاني وهو يتوقّف إيجاده على شرط، فذلك الشرط إمّا أن يكون قديماً، أو حادثاً، والأوّل يستلزم قِدم العالم، لأنّه عند وجود العلّة وشرطها يجب وجود المعلول، والثاني وهو أن يكون حادثاً يستلزم التسلسل، لأنّا ننقل الكلام إلى حدوثه، لأنّه مسند إليه تعالى، فإمّا أن لا يتوقّف على شرط، أو يتوقّف، والأوّل يستلزم قِدم الحادث، والثاني يعود البحث عليه ويتسلسل.

وأمّا بيان بطلان التالي، فلما بينّا من حدوث العالم.

في قِدم الواجب

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّ العالم قديم، فالباري تعالى موجب.

والملازمة ظاهرة.

وأمّا بيان المقدّم، فلأنّ كلّ ما يتوقّف عليه التأثير إن كان قديماً لزم القِدم، وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجّح، وإن كان حادثاً تسلسل.

والجواب: المنع من صدق المقدّم، وقد تقدّم. والملازمة الثانية ممنوعة، لأنّها إنّما تتم في حقّ الموجب، أمّا في حق المختار فلا» (2)(2).

أقول: احتجّت الفلاسفة على أنّ تعالى موجب: بأنّ العالم قديم، فالباري تعالى موجب. والملازمة ظاهرة ، ولاستحالة قِدم أثر المختار.

ص: 165


1- (1) في أ: (يوجده)، وما أثبتناه من ب، ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 38 الفصل الخامس.

أمّا بيان المقدّم: فلأنّ كلّ ما يتوقّف عليه التأثير إن كان قديماً، لزم قِدم العالم، لأنّه لولاه لزم الترجيح من غير مرجّح، لأنّه مع وجود علّته التامّة قد كان معدوماً، ثمّ صار موجوداً، فترجيح أحد الوقتين بالوجود دون الآخر ترجيح من غير مرجّح، وهو باطل ! وإن كان بعض ما يعتبر في المؤثّرية حادثاً تسلسل، لأنّه يستحيل أن يثبت (1)(1) لذاته من غير توقّف على شرط، وإلاّ كان الحادث قديماً لاستحالة تأخّر المعلول على العلّة، فلا بدّ وأن يكون اقتضاؤه له موقوفاً على شرط، وذلك الشرط يستحيل أن يكون قديماً، وإلاّ كان الحادث قديماً لوجوب وجود المعلول عند وجود العلّة وشرطها، فيكون حادثاً. ثمّ ينقل الكلام إليه ويتسلسل. وهو محال.

وإذا استحال كون بعض ما يعتبر في المؤثّرية حادثاً، تعيّن أن يكون جميع ما یعتبر في المؤثّرية قديماً، فتتم الملازمة.

والجواب: المنع من قدم العالم، وقد تقدّم.

وقولهم: «جميع ما يعتبر في المؤثّرية إن كان قديماً يلزم قِدم العالم»، ممنوع؛ وإليه أشار بقوله: «الملازمة الثانية ممنوعة».

وتقريره المنع: أنّه إنّما يلزم من قِدم جميع ما يعتبر في المؤثّرية، فيلزم الإيراد إذا كان المؤثّر موجباً (2)(2) ، أمّا إذا كان قادراً مختاراً فلا.

وقولهم: «وإن كان بعض ما يتوقّف عليه التأثير حادثاً يلزم التسلسل»، ممنوع، لأّنّه إنّما يتأتى في حقّ الموجب، أمّا في المختار فلا.

ص: 166


1- (1) في ب: يقتضيه.
2- (2) العبارة في ب: (المؤثّرية، قِدم الأثر عن كان المؤثّر موجباً).

في أحكام القدرة

قال (دام ظلّه): «تنبيه: قدرته تعالى يصحّ تعلّقها بجميع المقدورات، خلافاً لأكثر الناس. لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور إنّما هو الإمكان، وهو ثابت في كلّ ما سوى الله تعالى، فصحّ تعلّق قدرته بالجميع.

وخالف النظّام، حيث منع من قدرته تعالى على القبيح، لأنّه يستلزم الجهل أو الحاجة، وهما ممتنعان عليه تعالى.

والجواب: إنّها لازمان للوقوع لا للقدرة ، فالامتناع من حيث الحكمة» (1)(1) .

أقول: ذهبت الإمامية، والأشاعرةف وأكثر المعتزلة : إلى أنّه تعالى قادر على جميع المقدورات.

والدليل عليه : إنّ ما لأجله صحّ في البعض أن يكون مقدوراً الله تعالى هو الإمكان، لأنّ ما عداه إمّا الوجوب، وإمّا الامتناع، وهما يحيلان المقدورية، لكن الإمكان وصف مشترك بين الممكنات، فيكون الكلّ مشتركاً في تعلّق قدرته تعالى (2)(2) .

وخالف في ذلك جماعة ، منهم النظّام (3)(3) ، حيث منع من قدرته تعالى على القبيح، لأنّ فعل القبيح منه محال، والمحال غير مقدور.

ص: 167


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 38 الفصل الخامس.
2- (2) في ب، ج: (مقدورية الله تعالى).
3- (3) إبراهيم بن سيار البصري المعتزلي، أبو إسحاق النظّام (ت 231ه)، تقدّم.

أمّا أنّه محال، فلأنّه يستلزم الجهل أو الحاجة، لأنّ صدور القبيح من الغني عند العالم به محال، والجهل والحاجة محالان عليه تعالى.

وأمّا أنّ المحال غير مقدور، فلأنّ المقدور هو الذي يصحّ إيجاده، وذلك يستدعي صحّة الوجود، والممتنع ليس له صحّة الوجود.

والجواب: أنّه إن أُريد بقوله: «فعل القبيح محال» استحالة ذاتية، فهو ممنوع، وإن أُريد به الامتناع من حيث الحكمة، فهو مسلّم، لكنّه لا ينافي القدرة، ويبقى الوسط غير متّحد. فإنّ المحال في الكبرى، المراد به المحال لذاته، والجهل والحاجة لازمان لوقوع القبيح منه تعالى، لا للقدرة عليه.

قال (دام ظلّه): «وخالف عبّاد، حيث حكم بأنّ ما عَلم الله تعالى بوقوعه فهو واجب، وما عَلم بعدمه فهو ممتنع ، ولا قدرة على الواجب والممتنع.

والجواب: أنّ العلم بالوقوع تابع للوقوع ، فلا يؤثّر في إمكانه الذاتي. وقد أوضحنا هذا الكلام في كتاب (النهاية)» (1)(1).

أقول: ذهب عبّاد (2)(2) : إلى أنّ الله تعالى غير قادر على ما علم بوقوعه، ولا على ما علم بعدم وقوعه. أمّا الأوّل، فلأنّه واجب، لأنّ عدم وقوعه يؤدّي إلى المحال، وهو انقلاب علمه تعالى جهلاً، والمؤدّي إلى المحال محال، فعدم وقوعه

ص: 168


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 38 الفصل الخامس.
2- (2) عبّاد: أبو سهل عبّاد بن سلمان (سليمان) بن علي الصيمري البصري المعتزلي، أحد شیوخ المعتزلة في (ق3ه) من طبقة الجاحظ، تلميذ هشام بن عمرو الفوطي. خالف المعتزلة في أشياء اخترعها لنفسه.

محال، وكلّ ما كان عدمه محالاً كان واجباً، ولا قدرة على الواجب. وأمّا الثاني، فلأنّه ممتنع لما مرّ، ولا قدرة على الممتنع.

والجواب: أنّ العلم تابع للمعلوم لأنّهما متطابقان، والأصل في ماهيته التطابق المعلوم(1)(1)، والتابع لا يؤثّر في المتبوع، وإلاّ دار! فلا يعتبر إمكانه، فإنّ فرض العلم هو فرض المعلوم، وكما أنّ فرض المعلوم لا يؤثّر في إمكان نقيضه، فكذا فرض العلم.

وتمام التحقيق ذكره المصنّف في كتاب (نهاية المرام) (2)(2).

قال (دام ظلّه): «وخالف الكعبي، حيث زعم أنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد، لأنّه إمّا طاعة أو سفه، وهما مستحيلان عليه تعالى.

والجواب: أنّ الطاعة والسفه وصفان عارضان للفعل لا يوجبان له المخالفة الذاتية» (3)(3).

أقول: زعم الكعبي (4)(4) : إنّ الله تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد، لأنّ فعل العبد منحصر في الطاعة والسفه، وهما مستحيلان على الله تعالى.

والجواب: أنّ اختلاف العوارض لا يوجب اختلاف المعروضات بالذات، والطاعة والسفه وصفان عارضان للفعل من حيث يضاف إلى العبد، فإذا لم يُضف إليه لم يوصف الفعل بذلك، وكان مثلاً لفعل العبد في الذات.

ص: 169


1- (1) في ب: (والأصل في هيئة التطابق المعلوم).
2- (2) من مصنّفات العلاّمة ابن المطهّر الحلّي، مطبوع.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 38 الفصل الخامس.
4- (4) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني المعتزلي (ت 319ه)، تقدم.

قال (دام ظلّه): «وخالف الجبائيان، حيث حكما بأنّ الله تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله تعالى وكرهه العبد، أو بالعكس.

والجواب: إذا أُضيف الفعل إلى أحدهما استحال - من تلك الحيثية - إضافته إلى الآخر، وهو قبل اعتبار الإضافة يمكن استناده إلى كلّ منهما على البدل» (1)(1).

أقول: ذهب الجبائيان أبو علي وأبو هاشم (2)(2): إلى أنّ الله تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد ، وإلاّ أمكن (3)(3) اجتماع النقيضين، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: إنّ المقدور من شأنه أن يوجد عند توفّر دواعي القادر، وأن يبقى على العدم عند توفّر صوارفه، فلو كان مقدور العبد مقدوراً لله تعالى، لكان إذا أراد الله تعالى وقوعه وكره العبد لزم أن يوجد، لتحقّق الداعي، وأن لا يوجد لتحقّق الصارف.

والجواب: أنّا نقول: إنّما يمكن كون المقدور مشتركاً إذا أُخذ غير مضاف إلى أحدهما، أمّا بعد الإضافة إلى أحدهما بأنّه صدر منه امتنع الاشتراك فيه من حيث تلك الإضافة، والمقدور غير المضاف يمكن إضافته إلى كل واحد منهما على سبيل البدل، فلا يلزم إمكان اجتماع النقيضين، لأنّ البقاء على العدم عند تحقّق الصارف ممنوع مطلقاً، بل إنّما إذا لم يقم مقامه سبب آخر.

ص: 170


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 38 الفصل الخامس.
2- (2) الجبائيان: أبو علي محمّد بن عبد الوهاب (ت 303ه) ، وابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمّد (ت 321ه)، المتكلّمان من المعتزلة، وقد تقدّم ذكرهما.
3- (3) في ب: لأمكن.

في علم الواجب

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في أنّه تعالى عالم: [و]يدلّ عليه أنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة، وكلّ من كان كذلك فهو عالم. والمقدّمتان ضروريتان.

ولأنّه تعالى مختار، وكلّ مختار عالم، إذ المختار إنّما يفعل بواسطة القصد والاختيار، وهو مسبوق بالعلم بالضرورة»(1)(1).

أقول: الله تعالى عالم لوجهين:

الأوّل: أنّ أفعاله محكمة متقنة، وكلّ من كان كذلك فهو عالم.

أمّا المقدّمة الأُولى، فالحسّ يدلّ عليها، فإنّ العالم إمّا فلكي، وإمّا عنصري، وآثار الإحكام ظاهرة فيهما، أمّا الأوّل فلأنّ خلق السماوات والنيّرات وتفاوتها في القرب والبعد المقتضيين للسخونة والبرودة حتّى تتكون المركّبات، واختلاف الليل والنهار، وغير ذلك، ظاهر.

وأمّا العناصر، فوجود الإحكام فيها ،ظاهر، فلأنّ الآثار الصادرة من الحيوانات من خلق أعضائها لمنافعها ظاهر، ومن وقف على علم التشريح ظهر له ذلك ظهوراً تامّاً .

وأمّا المقدّمة الثانية، فضرورية.

الثاني: أنّه تعالى مختار، وكل مختار عالم.

أمّا الصغرى، فقد مرّ بيانها.

ص: 171


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 39 الفصل الخامس.

وأمّا الكبرى، فلأنّ المختار إنّما يفعل بواسطة القصد والاختيار، والقصد مسبوق بالعلم، لاستحالة القصد إلى ما لا يتصوّر، والعلم بذلك ضروري.

قال (دام ظلّه): «وهو عالم بكلّ المعلومات، لأنّه إن صحّ أن يعلم كلّ المعلومات وجب له ذلك، والمقدّم حقّ، فالتالي مثله.

بيان الشرطية : إنّ صفاته تعالى نفسية يستحيل استنادها إلى غيره، والصفة النفسية متى صحّت وجبت. ولأنّ اختصاص بعض المعلومات بتعلّق علمه به دون ما عداه ترجيح من غير مرجّح.

وأمّا صدق المقدّم، فلأنّه تعالى حيّ، وكلّ حيّ يصحّ أن يعلم كلّ معلوم»(1)(1).

أقول: الله تعالى عالم بكلّ المعلومات، خلافاً للفلاسفة.

لنا: أنّه إن صحّ أن يعلم بكلّ المعلومات، وجب ذلك، لكن المقدّم حقّ، والتالي مثله.

بيان الملازمة: إنّ صفاته تعالى نفسية، أي: معلولة لذاته غير مستندة إلى غيره، وغير مشروطة بغيره لا بالاختيار، وكلّ ما كان كذلك متى صحّ وجب، ولأنّ اختصاص بعض المعلومات بتعلّق علمه به دون بعض ترجيح من غير مرجّح، لإمكان علمه بكلّ المعلومات، ووجود العلّة وهو ذات واجب الوجود لا بالاختيار، فلو اختص علمه بالبعض كان ترجيحاً من غير مرجّح.

وبيان حقيقة المقدّم: أنّه تعالى حيّ، وكلّ حيّ يصحّ أنَ يعلم بكلّ معلوم.

ص: 172


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 39 الفصل الخامس.

في علمه بالجزئيات

قال (دام ظلّه):« واعلم أنّ إضافة العلم إلى المعلوم كإضافة القدرة إلى المقدور، فكما لا تعدم القدرة بعدم المقدور المعيّن فكذلك العلم. وإنّما تعدم الإضافة إليهما، وتلك أمر اعتباري لا صفة حقيقية» (1)(1) .

أقول: هذا جواب عن حجّة بعضهم: على أنّ الله لا يَعلم الجزئيات.

وتقريره: أنّه إذا علم كون زيد في الدار، فعند خروجه منها، إن بقى العلم الأوّل كان جهلاً، وإن لم يبق كان تغييراً في صفاته تعالى.

والجواب: أنّ إضافة العلم إلى المعلوم كإضافة القدرة إلى المقدور، فكما أنّ القدرة لا تعدم بعدم المقدور المعيّن فكذلك العلم، وإنّما تعدم بين الإضافة إليهما، وتلك أمر اعتباري لا صفة حقيقة.

والحاصل : أنّ الجهل لا يلزم من بقاء العلم، بل إنّما يلزم من بقاء إضافته الأولى إلى المعلوم، والإضافة لا تبقى، ولا يلزم من عدم الإضافة التغيّر في ذاته (2)(2) ،تعالى، لأنّها ليست صفة له.

في علمه بذاته

قال (دام ظلّه):« وهو يعلم ذاته، خلافاً لبعض الفلاسفة، لأنّ ذاته يصحّ أن تكون معلومة، واحتجاجهم بأنّ العلم إمّا صورة مساوية للمعلوم في العالم أو

ص: 173


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 39 الفصل الخامس.
2- (2) في ب، ج: صفاته.

إضافة، وهما مستحيلان في علم العالم بنفسه. ضعيف على تقديري الإضافة والصورة

أمّا على تقدير الصورة، فلأنّها إنّما تعتبر في عالم بمعلوم مغاير لذاته، أمّا العالم بذاته فإنّ الصورة نفس ذاته، فهو يعقل ذاته بذاته لا بصورة حالة في ذاته.

وأمّا على تقدير الإضافة، فقيل هنا : إنّ الذات من حيث أنّها عاقلة مغايرة لها من حيث هي معقولة، فصحّت الإضافة، لأنّ المغايرة - ولو بوجه ما - كافية .

قيل عليه: إنّه يلزم الدور، لأنّ العلم مشروط بالمغايرة، فإن كان شرطاً لها دار.

والجواب: أن نقول: الذات من حيث يصحّ أن تكون معلومة مغايرة لها من حيث يصحّ أن تكون عالمة، وهذه المغايرة كافية، ولا تتوقّف على العلم» (1)(1).

أقول: زعم بعض قدماء الفلاسفة: أنّه تعالى لا يعلم ذاته، لأنّ العلم إمّا إضافة بين العالم والمعلوم، أو صورة مساوية للمعلوم في العالم.

وعلى الأوّل، يستحيل علمه بذاته، لأنّ إضافة الشيء إلى نفسه من الوجه الواحد محال.

وعلى الثاني، يستحيل أيضاً، للزوم اجتماع الأمثال، وعدم الأولوية في كون أحدهما عاقلاً والآخر معقولاً دون العكس.

والجواب: أمّا على تقدير الصورة: فلأنّ حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم إنّما يعتبر في العالم بغيره، أمّا العالم بنفسه، فإنّ الصورة نفس ذاته، فهو

ص: 174


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 39 -- 40 الفصل الخامس.

يعقل ذاته بذاته لا بصورة حالة في ذاته، حتّى يلزم المحال.

وأمّا على تقدير الإضافة: فقد قيل: إنّ الذات من حيث هي عاقلة مغايرة لها من حیث هی معقولة، فصحّت الإضافة، ولأنّ المغايرة بوجه ما كافية، وهو ضعيف! لأنّ الإضافة المسمّاة بالتعقّل لمّا توقّفت على تغاير الجهتين اللتين هما العاقلة والمعقولة (1)(1) كانتا سابقتين، لكن كون الشيء عاقلاً ومعقولاً متوقّف على تحقّق التعقل، فيلزم الدور.

والحقّ في الجواب أن نقول: الذات من حيث يصحّ أن تكون عالمة مغايرة لها من حيث يصحّ أن تكون معلومة، وهذه المغايرة كافية، ولا يلزم الدور، لعدم توقّف ذلك على حصول العلم.

في حياة الواجب

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في أنّه تعالى حيّ:

ذهب قوم: إلى أنّ معنى كونه تعالى حيّاً: هو أنّه لا يستحيل أن يقدر وأن يعلم (2)(2) .

وإثبات هذه الصفة ظاهر، لأنّا قد بيّنا كونه قادراً عالماً، فلا يستحيلان عليه بالضرورة، فيكون حيّاً بهذا المعنى.

وذهب آخرون: إلى أنّه صفة، لأنّ اختصاص ذاته تعالى بصحّة القدرة والعلم دون غيرها من الذوات لا بدّ له من مخصّص، وهو الحياة.

ص: 175


1- (1) في ب: (العاقلية والمعقولية).
2- (2) في المصدر: ويعلم.

و قد بيّنا ضعف هذا القول في كتاب (نهاية المرام)» (1)(1).

أقول: اتّفق العلماء: على أنّه تعالى حيّ، لكنّهم اختلفوا في معنى كونه حيّاً:

فذهب الجمهور من الفلاسفة، وأبو الحسين البصري (2)(2) من المعتزلة، والإمامية : إلى أنّ معناه هو : أنّه لا يستحيل أن يكون قادراً عالماً، فليس هناك إلاّ الذات المستلزمة لانتفاء الامتناع.

وذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة : إلى أنّه صفة زائدة على الذات تقتضي ذلك.

وإثبات الحياة بالمعنى الأوّل ظاهر، لأنّا قد بيّنا [ فيما سبق](3)(3) إنّ معنى كونه حيّاً أنّه قادر، فلا يستحيلان عليه بالضرورة، فيكون حيّاً بهذا المعنى.

وأمّا الآخرون، فقد احتجّوا: بأنّ الذوات كلّها متساوية، فذاته تعالى مساوية لذات غيره في الماهية، ومختصّة بصحّة القدرة والعلم، ولولا اختصاصها بها لأجله، صحّ أن يعلم ويقدر ، وإلاّ لكان حصول هذه الصحّة لها دون غيرها ترجيحاً من غير مرجّح، وهو باطل! فلا بدّ وأن يختص بصفة باعتبارها يصحّ عليها العلم والقدرة، وتلك الصفة هي الحياة.

والجواب: المنع من مساواة ماهيته لغيرها من الماهيات.

وتمام تحقيق الجواب مذكور في كتاب (نهاية المرام)(4)(4).

ص: 176


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 40 الفصل الخامس.
2- (2) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
3- (3) أثبتناه من هامش ب.
4- (4) من مصنّفات العلاّمة ابن المطهّر الحلّي، مطبوع.

في إرادة الواجب

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: في أنّه تعالى مريد:

وخالف في ذلك جمهور الفلاسفة.

لنا: أنّ العالم محدَث على ما تقدّم، فتخصيص إيجاده بوقت وجوده دون ما قبله وبعده (1)(1) لا بدّ له من مرجّح، وهو الإرادة، لتساوي نسبة القدرة إلى الطرفين. والعلم تابع، فلا يكون هو المتقدّم بالذات» (2)(2) .

أقول: [ البحث هنا في مقامين:

أ-في معنى الإرادة، وهي صفة للقادر تقتضي ترجيحه لأحد مقدوريه بعينه بالإيجاد، وتخصيصه ببعض صفات من الصفات الممكنة له الذي يقدر عليها القادر، والوقت المعيّن إن كان زمانياً.

ب - كونه تعالى مريداً](3)(3).

اتّفق المسلمون وبعض الفلاسفة: على أنّه تعالى مريد، وخالف في ذلك جمهور الفلاسفة.

لنا: أنّ العالم محدَث، فتخصيص إيجاده بوقت دون ما قبله وما بعده لا بدّ له من مرجّح، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، وليس هو القدرة لأنّ شأنها الإيجاد الذي نسبته إلى كلّ الأوقات على السواء، ولا العلم لأنّه تابع للمعلوم،

ص: 177


1- (1) في المصدر: (وما بعده).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 40 الفصل الخامس.
3- (3) أثبتناه من ب.

فلا يكون مستتبعاً له، لامتناع الدور، وظاهر أنّ سائر الصفات لا تصلح لذلك سوى الإرادة، فلا بدّ من إثباتها (1)(1) .

قال (دام ظلّه): «وهل الإرادة في حقّه تعالى نفس العلم بما يشتمل عليه الفعل من المصلحة، أو مغايرة له.

أبو الحسين: على الأوّل.

والأشعرية، وأبو هاشم: على الثاني.

وقد بينّا توجيه الكلامين والاعتراض عليهما في كتاب (النهاية)» (2)(2).

أقول: اختلفوا في معنى الإرادة في حقّه تعالى:

فذهب أبو الحسين البصري (3)(3) : إلى أنّها علمه تعالى بما اشتمل(4)(4) عليه الفعل من المصلحة.

وذهبت الأشاعرة ، وأبو هاشم (5)(5) : إلى أنّها معنى مغاير للعلم بما يشتمل

عليه الفعل من المصلحة.

ص: 178


1- (1) العبارة في ب: (اتّفق المسلمون عليه، وخالف في ذلك جمهور الفلاسفة. لنا أنّه تعالى قادر مختار، والعالم محدَث فنسبة قدرته إلى جميع المقدورات على السوية، فتخصيصه بالإيجاد والصفات التي له من الكمّ والكيف، وغير ذلك من الصفات الممكنة له، وإيجاده الوقت المعيّن دون ما قبله وما بعده...).
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين: 41 الفصل الخامس.
3- (3) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
4- (4) في ب، ج : يشتمل .
5- (5) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.

وتقرير الكلام(1)(1) ذكره المصنّف في كتاب (نهاية المرام)(2)(2).

في إدراك الواجب

قال (دام ظلّه): «البحث السادس: في أنّه تعالى مدرك:

أجمع المسلمون على ذلك، واختلفوا في معناه:

فأبو الحسين ذهب إلى أنّ معناه: أنّه تعالى عالم بالمدرك(3)(3)، والأشعرية وأكثر المعتزلة: على أنّه زائد على العلم.

ويدلّ على اتّصافه تعالى بذلك: القرآن، وما تقدّم من أنّه تعالى عالم بجميع المعلومات» (4)(4).

أقول: اتّفق المسلمون على أنّه تعالى مدرك، واختلفوا في معناه:

فقالت الفلاسفة، والكعبي (5)(5) ، أبو الحسين البصري (6)(6) ، معناه : عبارة عن علمه بالمدرك.

وقالت الأشاعرة، وأكثر المعتزلة، والكرّاميّة: إنّه صفة زائدة على العلم.

ويدلّ على أنّه تعالى مدرك في الجملة قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (7)(7)

ص: 179


1- (1) في ب، ج : الكلامين.
2- (2) من مصنّفات العلاّمة ابن المطهّر الحلّي، مطبوع.
3- (3) فى المصدر: بالمدركات.
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 41 الفصل الخامس.
5- (5) أبو القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني المعتزلي (ت319ه) تقدّم.
6- (6) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
7- (7) سورة الحجّ : 75 ، لقمان : 28 ، المجادلة: 1.

وعلى اتّصافه به بالمعنى الأوّل: ما تقدّم من بيان أنّه تعالى عالم بجميع المعلومات التي من جملتها المسموع والمبصَر .

قال (دام ظلّه): «واحتجاج النفاة بافتقار الإبصار إلى الشعاع، والسماع إلى وصول التموّج، ضعيف! لما تقدّم، ولأنّ ذلك إنّما يصحّ في حقّنا، أمّا في حقّه تعالى فلا» (1)(1).

أقول: احتجّت الفلاسفة على أنّه غير مدرك: بأنّ الإبصار متوقّف على(2)(2)

خروج شعاع من العين واتصاله بالمرئي، أو انطباع صورة المرئي في الرائي، والسماع متوقّف على وصول التموّج إلى الصماخ.

والجواب: أنّا قد بيّنا ضعف الشعاع والانطباع والتموّج.

وأيضاً : ذلك شرطٌ في حقّنا، أمّا في حقّه تعالى فلا.

في كلام الواجب

قال (دام ظلّه): «البحث السابع: في أنّه تعالى متكلّم:

أجمع المسلمون عليه، واختلفوا في معناه:

فالمعتزلة، على أنّ تعالى أوجد حروفاً وأصواتاً في بعض الأجسام تدلّ على المعاني المطلوبة يعبّر الله تعالى عنها.

والأشعرية، أثبتوا معنى قائماً بذاته تعالى قديماً مغايراً للحروف

ص: 180


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 41 الفصل الخامس.
2- (2) في ب: ( يفتقر إلى).

والأصوات، تدلّ عليه العبارات. وهو واحد، ليس بأمر، ولا نهي، ولا خبر، ولا نداء، ويسمّى الكلام النفساني»(1)(1) .

أقول : اتّفق المسلمون على أنّه تعالى متكلّم، واختلفوا في معناه:

فزعمت المعتزلة: إنّ معناه: كونه تعالى موجد الأصوات في أجسام مخصوصة يدلّ على المعاني التي يريد الله تعالى التعبير عنها.

وذهبت الأشاعرة: إلى أنّ ،معنى قائم بذاته تعالى: قديم مغاير للحروف والأصوات يدلّ عليه العبارات، وهو واحد ليس بأمر، ولا نهي، ولا خبر، ولا نداء، ويسمّى: الكلام النفساني.

قال (دام ظلّه):« ويدلّ على ثبوت الكلام بالمعنى الأوّل: ما تقدّم من أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور، والقرآن، ولا دور، لإمكان الاستدلال على النبوّة بغير القرآن من المعجزات، أو به، لا من حيث أنّه مستند إلى الله تعالى.

والمعتزلة، بالغوا في إنكار ما ذهب إليه الأشاعرة، ومنعوا من تعقّله أوّلاً، ثمّ من وحدته ثانياً (2)(2)، ثمّ من مغايرته للأمر والنهي والخبر، وغير ذلك من أساليب الكلام» (3)(3).

أقول: احتجّت المعتزلة على ثبوت الكلام بالمعنى الأوّل: بالمعقول والمنقول.

ص: 181


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 41 الفصل الخامس.
2- (2) لا يوجد في المصدر.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 41 الفصل الخامس.

أمّا الأوّل، فإنّا قد بيّنا أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور، وإيجاد الحروف والأصوات في الأجسام الجمادية والحيوانية جائز .

وأمّا الثاني، فبقوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما﴾ (1)(1)، وغير ذلك من الآيات الدالّة على أنّه تعالى متكلّم.

لا يقال: يلزم الدور، لأنّ كون القرآن حجّة متوقّف على كونه كلام الله تعالى، وكونه كلام الله تعالى متوقّف على كونه تعالى متكلّماً، فلو أثبتنا كونه تعالى متكلّماً لزم الدور.

لأنّا نقول : لا نسلّم توقّف كون القرآن حجّة على كونه كلام الله تعالى، بل يتوقّف على ثبوت النبوّة وصدق النبيّ، ويمكن إثباتها بغير القرآن، ثمّ يستدلّ على كونه تعالى متكلّماً بالقرآن لا من حيث هو صادر عن الله تعالى، بل من حيث هو خبر صادر عن النبيّ الصادق في جميع ما يخبر به، أو يستدلّ به على ثبوت النبوّة لا من حيث هو كلام الله تعالى، بل من حيث إعجازه في أسلوبه وتركيبه، فلا دور.

واعلم، إنّ المعتزلة بالغوا في إنكار المعنى الذي ذهبت الأشاعرة إليه، ومنعوا من تعقّله أوّلاً ، ثمّ من وحدته ثانياً، ثمّ من مغايرته للأمر والنهي والخبر، وغير ذلك من أساليب الكلام ثالثاً.

ص: 182


1- (1) سورة النساء: 164 .

الفصل السادس:في أحكام صفات الواجب

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل السادس: (في أحكام هذه الصفات).

وفيه مباحث:

في البقاء

الأوّل: في أنّه تعالى باقٍ لذاته:

ذهب الأشعري: إلى أنّه تعالى باق ببقاء يقوم به تعالى.

والحق نفيه، وإلاّ لزم افتقاره إلى غيره، فيكون ممكناً.

ولأنّ البقاء لو كان زائداً على الذات لزم التسلسل، ولأنّ البقاء إن لم يكن باقياً لم تكن الذات الباقية به باقية، هذا خلف. وإن كان باقياً: فإن كان لذاته كان أولى بالذاتية من الذات، والذات أولى بكونها صفة منه، لافتقار الذات إليه واستغنائه عنها. وإن كان لبقاء آخر لزم الدور أو التسلسل» (1)(1).

ص: 183


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 42 الفصل السادس.

أقول: الله تعالى باقٍ بالاتّفاق، ثمّ اختلف في أنّه هل يبقى ببقاءٍ زائد على ذاته يقوم به، أو باقٍ لذاته؟

ذهب أبو الحسن الأشعري (1)(1): إلى الأوّل.

وذهبت الإمامية، والمعتزلة، والقاضي(2)(2) ، وإمام الحرمين (3)(3) : إلى الثاني.

لنا وجوه:

الأوّل: أنّه لو كان مفتقراً في بقائه إلى معنى زائد على ذاته هو البقاء، لزم احتياجه إلى غيره، وما يحتاج إلى غيره ممكن، فيلزم أن يكون الواجب ممكناً. هذا خلف.

الثاني: لو كان باقياً ببقاء، لزم التسلسل، [فإنّ البقاء باقياً أيضاً، وبقاءه زائد على ذاته، وهو باقٍ ، ويلزمالتسلسل ] (4)(4)(5)(5) .

الثالث: لو كان باقياً ببقاء، لزم إمّا عدم بقاء الذات، أو الدور والتسلسل، أو كون المعنى بالذاتية أولى، والذات بالعرضية أولى، والتالي بأقسامه باطلة، فالمقدم مثله.

ص: 184


1- (1) علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري (ت 324ه)، تقدّم.
2- (2) أبو بكر محمّد بن الطيب بن محمّد القاضي، البصري، المعروف ب(ابن الباقلاني)، المالكي الأشعري (ت403 ه)، تقدّم.
3- (3) أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الأشعري، إمام الحرمين (ت 478ه)، تقدّم.
4- (4) أثبتناه من ج.
5- (5) العبارة في ب:( لو كان باقٍ ببقاء زائد في الخارج، لزم ذلك البقاء لا بدّ وأن يكون باقياً، فيكون له بقاء زائد، لأنّ الذات الواجبة إذا احتاجت في بقائها إلى بقاء مغاير لها، فاحتياج الصفة في بقائها إلى بقاء أولى، فننقل الكلام إلى بقاء البقاء، ويلزم التسلسل، إذ البقاء باقٍ أيضاً، وبقاؤه زائد على ذاته وهو باقٍ، ويلزم التسلسل).

بيان الملازمة: إنّ البقاء حينئذ إمّا أن لا يكون باقياً أو يكون، والأوّل يستلزم عدم كون الذات باقية، لأنّه إذا كانت الذات باقية بالبقاء وهو غير باقٍ، فالذات الباقية به غير باقية، لعدم المعلول عند عدم علّته، والثاني إمّا أن يكون باقياً ببقاء آخر أو لذاته، فإن كان باقياً ببقاء، فذلك البقاء إمّا أن يكون باقياً، أو لا، والثاني يستلزم كون الذات غير باقية، والأوّل إمّا أن يكون باقياً ببقاء الأوّل أو بغيره، والأوّل يستلزم الدور، والثاني ننقل الكلام إليه، فإمّا أن يدور، أو يتسلسل، وإن كان باقياً لذاته، لزم كونه بالذاتية أولى من الذات، والذات أولى بالعرضية منه، لأنّ الذات محتاجة إليه وهو مستغنٍ عنها، والمستغني أولى بالذاتية من المحتاج.

في نفي المعاني

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في نفي المعاني والأحوال:

ذهبت الأشعرية: إلى أنّه تعالى عالم بالعلم، قادر بالقدرة، حي ّبالحياة، إلى غير ذلك من الصفات.

والمعتزلة أنكروا ذلك، وزعموا أنّه تعالى عالم لذاته لا بمعنى قائم به، وكذا باقي الصفات. وهو الحقّ!

لنا: أنّه لا قديم سواه ،تعالى، لأنّ كلّ موجود فهو مستند إليه تعالى.

وقد بيّنا (1)(1) أنّه مختار، وفعل المختار محدَث. ولأنّه لو افتقر في كونه عالماً

ص: 185


1- (1) في أ: (ثبت)، وما أثبتناه من المصدر، ب.

وغيره إلى معان قائمة بذاته، كان مفتقراً إلى الغير منفعلاً عنه، لكن (1)(1) هذه المعاني وإن قامت بذاته تعالى فهي مغايرة له، والله تعالى لا ينفعل عن غيره. ولأنّ صدور العلم عنه يستدعي كونه عالماً، فيكون الشيء مشروطاً بنفسه، ويتسلسل (2)(2).

وأمّا الأحوال التي أثبتها أبو هاشم، فإنّها غير معقولة. وقد استقصينا القول في هذه المسألة في كتاب (نهاية المرام في علم الكلام)، وكتاب (المناهج)» (3)(3).

أقول : [ المراد بالمعاني هي: الصفات القائمة بالذات التي هي مبادئ المحمولات، وألفاظها مشتقّة من أسمائها، كالقدرة والعلم.

والأحوال هي: المحمولات، كالقادر، والعالم، والعالمية، وكونه عالماً يعبّر عن المحمولات.

إذا تقرّر هذا، فنقول] (4)(4):

اتّفقت الأشاعرة: على أنّه تعالى عالم بالعلم، قادر بالقدرة، حيّ بالحياة، إلى غير ذلك من الصفات، [وجعلوها أُموراً موجودة في الخارج، قائمة بذاته قديمة ] (5)(5).

ص: 186


1- (1) في المصدر : لأنّ.
2- (2) في المصدر : (أو يتسلسل).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 42 - 43 الفصل السادس.
4- (4) أثبتناه من ب.
5- (5) أثبتناه من ب.

وخالفت المعتزلة، والفلاسفة في ذلك، وزعموا: أنّه عالم لذاته لا بمعنى قائم به، وكذا باقي الصفات. وهو الحقّ!

لنا وجوه:

الأوّل: أنّه لا قديم سواه تعالى، لأنّ كلّ موجود غيره فهو صادر عنه تعالى بالاختيار، لما بينّا من أنّه تعالى مختار، وفعل المختار محدَث، فكلّ ما عداه محدَث.

الثاني: لو افتقر في كونه عالماً إلى العلم، وفي كونه مريداً إلى الإرادة، وغير ذلك من الصفات، لكان مفتقراً إلى الغير منفعلاً عنه، لأنّ هذه المعاني وإن قامت بذاته تعالى، فهي مغايرة له، لكن التالي باطل لأنّ الله تعالى لا ينفعل عن الغير، فالمقدّم مثله.

الثالث: صدور العلم عنه تعالى يستدعي كونه عالماً به، لأنّ فعله بالاختيار، وهو متوقّف على العلم، فإمّا أن يكون مشروطاً بعلم آخر، أو بهذا العلم، والأوّل يستلزم التسلسل، والثاني الدور، لأنّه يكون الشيء مشروطاً بنفسه.

في أنّه مريد لذاته

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في أنّه تعالى مريد لذاته:

ذهب الجبائيان: إلى أنّه تعالى مريد بإرادة محدَثة لا في محلّ.

وذهبت الأشعرية: إلى أنّه مريد بإرادة قديمة قائمة بذاته.

والقولان باطلان: أمّا الأوّل فلأنّ قيام إرادة بذاتها غير معقول، ولأنّ حدوثها يستدعي إرادة أُخرى ويتسلسل. وأمّا الثاني فلما تقدّم من نفي المعاني.

ص: 187

ولا يلزم من كونه تعالى مريداً لذاته كونه مريداً للمتناقضين، لجواز تعلّق إرادته ببعض المرادات لذاتها » (1)(1) .

أقول: اختلف [ المتكلّمون ] (2)(2) : في أنّه تعالى هل هو مريد لذاته، أم بإرادة؟

والحقّ: الأوّل ! وهو اختيار النجّار (3)(3).

وذهب بعضهم: إلى الثاني، ثمّ اختلفوا:

فقالت الأشاعرة : إنّه مريد بإرادة قديمة قائمة بذاته.

[أمّا كونها «قديمة»، فلأنّها لو كانت حادثة لتوقّفت على إرادة أُخرى، وتسلسل.

أُورد: الإرادة من حيث هي إرادة نسبتها إلى الضدّين سواء، فيعود الكلام فيها، ويلزم التسلسل .

أجابوا: بأنّها متعلّقة بأحد الضدّين لذاتها .

أُورد: فيجب ذلك الجانب ويمتنع الآخر، فيلزم نفي الاختيار.

أجابوا: بأنّ وجوب الشيء بالإرادة لا ينافي الاختيار.

وأمّا كونها «قائمة بذاته»، فلاستحالة قيام الصفة بغير الموصوف](4)(4).

وقال الجبائيان (5)(5) : إنّه مريد بإرادة محدَثة لا في محلّ.

ص: 188


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 43 الفصل السادس.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبد الله النجّار الرازي المعتزلي (ت 230ه)، تقدّم.
4- (4) أثبتناه من ب.
5- (5) أبو علي محمّد بن عبد الوهاب (ت 303ه) ، وابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمّد (ت 321ه)، المتكلّمان من المعتزلة، وقد تقدّم ذكرهما.

[وإنّما قال: «محدَثة»، لوجوب وجود الفعل عندها عند أكثرهم، أو لرجحانه فيوجد عندها، لأنّها العلّة الثبوتية، فلو كانت قديمة كان الفعل قديماً. هذا خلف ] (1)(1).

وإنّما قال: «لا في محلّ»، لأنّه لو كان لها محلّ لكان ذات الواجب، لاستحالة قيام إرادة الحيّ بغيره، فيكون محلاًّ للحوادث، وهو محال.

ويدلّ على بطلان الأوّل: ما تقدّم من نفي المعاني.

وعلى بطلان الثاني: وجهان:

الأوّل: قيام إرادة بذاتها غير معقول، لأنّها عرض، والعرض يستحيل تجرّده عن المحلّ.

الثاني: إحداث الشيء لا يصحّ إلاّ بالإرادة، على ما تقدّم، فلو كانت الإرادة حادثة لافتقرت إلى إرادة أُخرى، ويلزم التسلسل.

احتجّ الجبائيان على أنّه ليس مريداً لذاته: بأنّه لو كان كذلك لكان لجميع المرادات، لأنّ نسبته إليها واحدة، فيلزم أن يكون مريداً للمتناقضين. هذا خلف.

والجواب: المنع من الملازمة، لجواز تعلّق إرادته ببعض المرادات لذاتها.

[واعلم، أنّ الجبائيين قالا: إرادته تعالى مماثلة لإرادتنا في الماهية، مع كون إرادته تمنع أن توجد في محلّ، فتكون إرادتنا تمتنع ألا تكون في محلّ مع إيجادها في الماهية النوعية، وبطلان هذا ظاهر ] (2)(2).

ص: 189


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) أثبتناه من ب.

في حدوث كلامه

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في أنّ كلامه تعالى حادث:

الأشاعرة منعوا من ذلك.

والحنابلة أيضاً - مع اعترافهم بأنّ الكلام هو الحروف والأصوات - ذهبوا إلى قِدمه.

لنا: أنّه مركّب من حروف متتالية يعدم السابق منها بوجود اللاحق، والقديم لا يُعدم ولا يقع مسبوقاً بغيره، فالسابق واللاحق محدَثان. ولأنّ الإخبار بإرسال نوح في الأزل إخبار عن الماضي ولا سابق في الأزل.

ولأنّ أمر المعدوم عبث. ولقوله تعالى: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرِ مِنْ رَبِّهِمْ مُحدَث﴾ (1)(1)» (2)(2).

أقول: ذهبت الإمامية، والمعتزلة، والكرّاميّة إلى أنّ كلامه تعالى حادِث.

وذهبت الأشاعرة: إلى أنّ كلامه تعالى قديم، وهو مذهب الحنابلة، مع اعترافهم بأنّ الكلام هو الحروف والأصوات (3)(3)

ص: 190


1- (1) سورة الأنبياء: 2.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 43 - 44 الفصل السادس.
3- (3) العبارة في ب:( الكلام الذي أثبتته الأشاعرة لا يمكن القول بحدوثه، لأنّه صفة قائمة بذاته كما قالوا، ويستحيل أن يكون الله محلاًّ للحوادث. والخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في إثباته ونفيه بهذا المعنى، وإنّما الخلاف هنا في الكلام المركّب من الحروف والأصوات. فقالت الإمامية والمعتزلة والكرّامية: إنّه حادث، بمعنى: أنّه تعالى أوجد الحروف والأصوات في غيره. وقالت الأشاعرة: كلامه تعالى قديم، مع اعترافهم بأنّ الكلام هو الحروف والأصوات).

احتجّت المعتزلة بوجوه:

الأوّل: أنّه مركّب من حروف متتالية يعدم السابق عند وجود اللاحق، والقديم لا يُعدم، فالسابق حادِث، واللاحق مسبوق بالسابق، والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره، فاللاحق محدَث أيضاً.

الثاني: أنّه تعالى في الأزل لو كان متكلّماً بقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾ (1)(1) ، لكان كاذباً (2)(2)، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: إنّه إخبار عن الماضي، ولا سابق على الأزل.

الثالث: أنّ أمر المعدوم عبث، والله تعالى منزّه عنه.

الرابع: قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرِ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ...﴾ (3)(3)، وصف الذكر بأنّه محدَث.

في صدقه

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: في أنّ خبر الله تعالى صدق:

لأنّ الكذب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح.

والمقدّمة الأولى ضرورية، والثانية يأتي بيانها.

ولأنّ تطرّق الكذب في خبره تعالى يستلزم ارتفاع الأمان عن وعده ووعيده، فتنتفي فائدة التكليف والبعثة» (4)(4) .

ص: 191


1- (1) سورة نوح: 1.
2- (2) العبارة في ب:( لكان إخبار عن السابق على الأزل).
3- (3) سورة الأنبياء: 2 .
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 44 الفصل السادس.

أقول: خبر الله تعالى صدق، لوجهين:

الأوّل: أنّ الكذب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح، المقدّمة الأُولى ضرورية، والثانية سيأتي بيانها في تحسين الأفعال وتقبيحها.

الثاني: تطرّق الكذب في خبره تعالى يستلزم ارتفاع الأمان عن وعده ووعيده، فتنتفي فائدة التكليف والبعثة، لأنّ فائدتها هو التعريض للمنافع، وهو لا يحصل مع ذلك.

في أزلية صفاته

قال (دام ظلّه): «البحث السادس: في أنّ هذه الصفات أزلية:

لأنّها لو تجدّدت له لزم التسلسل، إذ القدرة المتجدّدة تستلزم تقدّم قدرة، وكذا العلم المتجدّد يستدعي مسبوقية العلم»(1)(1).

أقول: هذه الصفات أزلية، لأنّها لو تجدّدت لزم التسلسل، واللازم باطل فالملزوم(2)(2) مثله.

بيان الملازمة: إنّ القدرة المتجدّدة إنّما هي بفعله تعالى، وهو إنّما يفعل بالقدرة، فيلزم تقدّم قدرة أُخرى، وهكذا، ويتسلسل.

وكذا العلم، فإنّ فعله تعالى بالاختيار، وهو مسبوق بالعلم، وننقل الكلام إليه، ويتسلسل .

ص: 192


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 44 الفصل السادس.
2- (2) في أ : ( فالمقدّم)، وما أثبتناه من ب، ج.

قال (دام ظلّه): «وهي زائدة على ذاته في التعقّل، لا في الخارج:

أمّا الأوّل: فبالضرورة، فإنّا بعد العلم بذاته تعالى نفتقر إلى أدلّة على ثبوت الصفات له.

وأمّا الثاني: فلأنّها لو كانت قديمة لزم تعدّد القدماء، وهو محال على ما مرّ. وإن كانت محدَثة كان محلاً للحوادث، واستلزم التسلسل» (1)(1) .

أقول: هذه الصفات، وهي كونه: عالماً، قادراً، إلى غير ذلك، زائدة على ذاته في التعقّل لا في الخارج، وإليه ذهبت الفلاسفة.

أما الأوّل، فضروري، فإنّا بعد العلم بذاته تعالى نفتقر إلى أدلّة على ثبوت الصفات له.

وأمّا الثاني، فلأنّها لو كانت زائدة عليها في الخارج، فإمّا أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كان الأوّل لزم تعدّد القدماء، وهو محال، على ما بينّاه، وإن كانت محدَثة كان محلاًّ للحوادث، واستلزم التسلسل، كما بينّاه أيضاً.

ص: 193


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 44 الفصل السادس.

ص: 194

الفصل السابع:في ما يستحيل عليه تعالى

اشارة

قال (دام ظلّه) الفصل السابع: (في ما يستحيل عليه تعالى).

وفيه مباحث:

في نفي المماثلة

الأوّل: في استحالة مماثلته لغيره تعالى:

ذهب أبو هاشم: إلى أنّه تعالى يساوي غيره من الذوات، ويخالفها بحالة توجب أحوالاً أربعة: الحييّة (1)(1) ، والعالمية، والقادرية، والموجودية.

والحقّ خلافه ! فإنّ الذوات المتساوية تتساوى في اللوازم، فيجب القِدم على الحوادث، والحدوث على الله تعالى، وهما باطلان. ولأنّ اختصاصه تعالى بما يوجب المخالفة دون غيره ترجيح من غير مرجّح» (2)(2).

ص: 195


1- (1) أو الحيتية، أي: الحياتية.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 45 الفصل السابع .

أقول: لمّا فرغ من الصفات الثبوتية، شرع في الصفات السلبية، وبدأ باستحالة مماثلته تعالى لغيره.

وتقريره، أن نقول:

ذهبت الإمامية، والفلاسفة: إلى أنّ ذاته مخالفة لسائر الماهيات بنفس الماهية.

وذهب أبو هاشم (1)(1) ، وأكثر المعتزلة: إلى أنّ الذوات جميعها متساوية في الذاتية، لأنّ المفهوم من الذات عندهم، هو ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه، وهو متساوٍ في الكلّ، وذاته تعالى مساوية لذوات غيره من الممكنات في الذاتية، وإنّما تخالفها بحالة توجب أحوالاً أربعة، هي: الحييّة، والعالمية، والقادرية، والموجودية.

احتجّ المصنّف على الأوّل بوجهين (2)(2):

الأوّل: أنّ الذوات المتساوية تتساوى في اللوازم والقِدم، والحدوث من اللوازم، فيلزم قِدم الحادِث وحدوث الله تعالى، وهو محال(3)(3)، وهما باطلان، فالملزوم مثله.

الثاني: أنّ مخالفته لغيره لو كانت بصفة لحصلت المساواة في الذات، ولو كانت كذلك لكان اختصاص ذاته بما به يخالف غيرها إن لم يكن لأمر، كان إيجاده غنيّاً عن السبب، وهو محال، أو لأمر، فيلزم التسلسل.

ص: 196


1- (1) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.
2- (2) في ب: بوجوه.
3- (3) لا يوجد في ب.

في نفي التركيب

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في أنّه تعالى يستحيل أن يكون مركّباً:

لأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى جزئه، والجزء مغاير للكلّ، فيكون ممكناً.

ويستحيل أن يتركّب عنه غيره، لاستحالة انفعاله عن الغير، فلا جزء له، فلا جنس له، ولا فصل له، ولا (1)(1) حدّ له.

ويستحيل أن يكون (2)(2) واجباً لذاته ولغيره معاً، لأنّ وجوبه بذاته يستدعي استغناؤه عن غيره، ووجوبه لغيره يستدعي افتقاره إليه، فيكون واجباً مفتقراً» (3)(3).

أقول: يستحيل أن يكون الله تعالى مركّباً من غيره، لأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى جزئه، وجزؤه غيره، لأنّ الجزء مغاير للكلّ، فيكون ممكناً. ويستحيل أن يتركّب عن غيره ، لأنّ تركّب الشيء مع غيره يستلزم انفعاله عنه، وأنّه تعالى لا ينفعل عن غيره.

وإذ قد تبيّن (4)(4) أنّه غير مركّب، فلا جنس له ولا فصل، وإذا لم يكن له جنس ولا فصل، فلا حدّ له.

ويستحيل أن يكون واجباً لذاته ولغيره، لأنّ وجوبه لذاته يستلزم استغناءه عن الغير، ووجوبه بغيره يستدعي افتقاره إليه، فيكون مستغنياً مفتقراً معاً. هذا خلف.

ص: 197


1- (1) في المصدر : فلا .
2- (2) في المصدر : (ولا يكون).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 45 الفصل السابع.
4- (4) في ب: ثبت.

في نفي التحيّز

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في أنّه تعالى يستحيل أن يكون متحيّزاً:

لأنّ كلّ متحيّز لا يخلو عن الحركة والسكون، وقد بينّا حدوثها، فيكون حادثاً، وواجب الوجود لا يكون حادثاً، فلا يكون متحيّزاً.

ولأنّه يستلزم قِدم الحيّز، ولا قديم سواه تعالى»(1)(1).

أقول: الله تعالى غير متحيّز، لأنّه لو كان متحيّزاً لم ينفك عن الحركة والسكون، لأنّ كلّ متحيّز لا يخلو عن هذين بالضرورة.

وقد بينّا حدوثهما، فلا ينفك عن الحوادث، وكلّ ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادِث، فيلزم أن يكون الله تعالى حادِثاً، لكن التالي باطل، لأنّ واجب الوجود لا يكون حادثاً، فالمقدّم مثله، ولأنّه لو كان متحيّزاً لم ينفك عن التحيّز، لأنّ صفاته ،نفسية، فيلزم قِدم الحيّز، ولا قديم سواه.

قال (دام ظلّه): «وكما يستحيل أن يكون متحيّزاً فكذا يستحيل أن يكون قائماً به، لافتقار القائم بالمتحيّز إلى الحيّز (2)(2)، وكلّ مفتقر ممكن، وواجب الوجود ليس بممكن» (3)(3).

أقول: يستحيل أن يكون الله تعالى قائماً بالمتحيّز، لأنّ القائم بالمتحيّز مفتقر إلى المتحيّز، وكلّ مفتقر ممكن، فيلزم أن يكون الواجب ممكناً. هذا خلف.

ص: 198


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 45 الفصل السابع.
2- (2) في المصدر: غيره.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 46 الفصل السابع.

في نفي الحلول

قال (دام ظله): «ويستحيل أن يكون حالاًّ في غيره، لأنّ كلّ حال فهو مفتقر إلى محلّه ولو في تعيّنه، وواجب الوجود ليس بمفتقر » (1)(1).

أقول: يستحيل أن يكون الله تعالى حالاًّ في غيره، لأنّ كلّ حال فهو مفتقر إلى محلّه ولو في تعينّه، وكلّ مفتقر إلى غيره ممكن، فيكون الواجب ممكناً. هذا خلف.

أمّا الصغرى، فلأنّه لولا احتياجه إليه لما حلّ فيه.

وأمّا الكبرى، فظاهرة.

في نفي الجهة

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في أنّه تعالى ليس في جهة خلافاً للكرّاميّة:

لأنّه ليس بمتحيّز، ولا حال في المتحيّز، وكلّ ما هو في جهة فهو أحدها بالضرورة.

ولأنّه لو كان في جهة لم ينفك عن الحركة والسكون الحادثين، وكلّ ما لا ينفك عن الحادث فهو حادث» (2)(2).

أقول: [هنا مقدّمتان:

أ - الجهة مقصد المتحرّك في الأين حركة مستقيمة للحصول عندها، وهي أيضاً نهاية امتداد الإشارة الحسّية من المسير إليها، وذلك لأنّ الأجسام التي

ص: 199


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 46 الفصل السابع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 46 الفصل السابع.

يمكن أن تتحرك حركة مستقيمة تمتد حركتها إلى نهاية، ويمكن امتداد الإشارات منّا، وكلاهما يجب تناهيها لوجوب تناهي الأبعاد، فمنتهى الحركات والإشارات الحسّية يكون بالضرورة موجوداً ذا وضع.

ب - إنّ الجهات: منها ما لا يتبدّل، وهي جهة الفوق والتحت، ومنها ما يتبدّل بالعرض كاليمين والشمال، والقدّام والخلف.

وإذا تقرر ذلك فنقول ](1)(1):

الله تعالى ليس في جهة من الجهات خلافاً للكرّاميّة.

لنا : أنّه ليس بمتحيّز ولا حال في المتحيّز ، لما مرّ، وما كان كذلك لم يكن في جهة أصلاً، وذلك معلوم بالضرورة، ولأنّه لو كان في جهة لم ينفك عن الحركة والسكون الحادثين، وكلّ ما لا ينفك عن الحادِث فهو حادِث.

قال (دام ظلّه): «وليس في مكان، وإلاّ لكان مفتقراً إليه. ولأنّ مكانه إن ساوى سائر الأمكنة كان اختصاصه تعالى به مفتقراً إلى مخصّص، وإلاّ لكان مخالفاً لها، فيكون موجوداً، لاستحالة الامتياز في العدمات، فإن كان حادثاً لزم إمّا حدوثه تعالى، أو حدوث الحاجة إلى المكان، وهما باطلان» (2)(2).

أقول: الله تعالى ليس في مكان، وإلاّ لكان مفتقراً إلى المكان، لاستحالة حلول المستغني عن المكان مطلقاً فيه.

ولأنّ مكانه إن ساوى سائر الأمكنة، كان اختصاصه به دون سائر

ص: 200


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 46 الفصل السابع.

الأمكنة يستدعي مخصّصاً، فإمّا أن يكون غير الله تعالى، ويلزم احتياج واجب الوجود في صفاته (1)(1) إلى غيره، وهو محال، وإمّا أن يكون هو تعالى، وهو قادر مختار ، وكلّ ما كان فعلاً لفاعل مختار، فهو محدَث ، فكونه في المكان محدَث، هذا خلف.

وإن خالف سائر الأمكنة، كان ذلك المكان موجوداً، لأنّ الامتياز في العدمات المحضة محال، فهو إمّا حادِث، أو قديم، والأوّل يستلزم إمّا حدوثه تعالى، أو حدوث الحاجة إلى مكان، لأنّ الله تعالى إن كان قديماً، والمكان حادثاً، يزل في الأزل في مكان، وكان مستغنياً عنه، وعند حدوث المكان، إن بقي الاستغناء امتنع الحلول فيه، وإن حدثت الحاجة، لزم ما قلناه من حدوث الحاجة إلى المكان، وإن لم يكن الله قديماً لزم حدوثه، تعالى الله عن ذلك، وهما محالان، وإن كان قديماً لزم تعدّد القدماء، وهو محال.

قال (دام ظلّه): «والظواهر السمعية الدالّة على خلاف ذلك متأوّلة، لأنّ النقل والعقل إذا تقابلا لم يمكن إهمالهما ولا العمل بهما، ولا العمل بالنقل وإهمال العقل، لأنّ ترك الأصل لأجل الفرع يقتضي بطلانهما معاً، والعقل أصل للنقل، فلم يبق إلاّ العمل بالعقل وتأويل النقل» (2)(2).

أقول: احتجّت الكرّامية بالظواهر السمعية الدالّة على كونه تعالى في جهة : ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (3)(3)، وقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ﴾ (4)(4).

ص: 201


1- (1) قي ب، ج: صفته.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 46 الفصل السابع.
3- (3) سورة طه : 5 .
4- (4) سورة النحل : 50 .

وقوله: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ (1)(1)، وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ (2)(2)، وقوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ (3)(3) ، وقوله: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾(4)(4)

والجواب: أنّها متأوّلة، لدلالة الدليل العقلي على عدم كونه في جهة.

وإذا تعارض النقل والعقل، لم يمكن إهمالهما ولا العمل بهما، وهو ظاهر، ولا العمل بالنقل وإهمال العقل، لأنّ العقل أصل للنقل، وإبطال العقل يستلزم إبطال النقل، فلو بطل العقل الذي هو الأصل، لزم إبطال النقل الفرع أيضاً، فيلزم إبطالهما، فتعيّن العمل بالعقل، وتأويل النقل.

وتفصيل تأويل هذه الآيات قد صنّف فيه كتب، فلا حاجة إلى التطويل بذكره.

في استحالة قيام الحوادث عليه

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: في استحالة قيام الحوادث بذاته تعالى:

لأنّ الانفعال ممتنع عليه، فيمتنع عليه التغيّر، فلا يمكن اتّصافه(5)(5) بالحوادث.

ص: 202


1- (1) سورة الملك : 16 .
2- (2) سورة فاطر: 10 .
3- (3) سورة المعارج: 4 .
4- (4) سورة الأنعام: 18.
5- (5) في أ: (انفعاله) وما أثبتناه من المصدر، ب، ج.

ولأنّ علّة هذا الحادث إن كان هو الله تعالى على سبيل الإيجاب لزم قِدمه، وإن كان على سبيل الاختيار لزم وجوده قبل وجوده، لأنّه لا بدّ وأن يكون من صفات الكمال، وإن كان غير الله تعالى كان واجب الوجود مفتقراً إلى الغير، هذا خلف» (1)(1).

أقول: اختلف العقلاء في قيام الحوادث بذاته تعالى:

فذهبت الكرّاميّة: إلى جوازه مطلقاً .

وذهبت الإمامية، والفلاسفة، والأشعرية: إلى استحالته مطلقاً . وهو اختيار المصنّف.

وذهبت المعتزلة: إلى امتناع حلول الذوات المحدَثة، وجواز قيام الصفات المتجدّدة، كالمريدية، والكارهية (2)(2)، والمدركية.

وذهب أبو الحسين البصري (3)(3) : إلى جواز قيام الأحكام المتجدّدة به، كالأُمور النسبية.

واحتجِّ المصنّف بوجهين:

الأوّل: أنّه لو كان محلاًّ للحوادث، الجاز الانفعال عليه تعالى، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة، فظاهرة، لأنّ اتصافه بحادث ثمّ زواله واتصافه بحادث آخر، انفعال له عن الغير.

ص: 203


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 47 الفصل السابع.
2- (2) في ب: والكراهية.
3- (3) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم .

وبيان بطلان التالي: أنّه لو جاز الانفعال لجاز التغيّر، لكن التالي باطل، فالمقدّم مثله.

والملازمة، ظاهرة

الثاني:علّة هذا الحادث إن كان هو الله تعالى على سبيل الإيجاب، كان قديماً. هذا خلف.

وإن كان على سبيل الاختيار، لزم وجوده قبل وجوده. هذا خلف، لأنّه لابدّ وأن يكون من صفات الكمال، وكلّ وقت يفرض وجودها فيه يمكن وجودها قبله فتوجد ، لأنّها ممكنة الوجود، وعدمها نقص، فيجب وجودها.

وإن كان غير الله تعالى، كان واجب الوجود مفتقراً إلى غيره. هذا خلف.

قال (دام ظلّه):« ويستحيل قيام اللذّة والألم بذاته تعالى:

أمّا الألم، فلأنّه إدراك المنافي، ولا منافي له تعالى.

وأمّا اللذّة، فلأنّها لو كانت قديمة لزم وجود الملتذّ به قبل وجوده، لقِدم القدرة والدّاعي. وإن كانت حادثة كانت محلاًّ للحوادث، وهو محال، وللإجماع» (1)(1).

أقول: اتّفق الكلّ على استحالة الألم عليه تعالى.

أمّا اللذّة، فإمّا عقلية، أو حسّية.

والأُولى قد أثبتها الفلاسفة وبعض الإمامية، ونفاها الباقون.

والثانية، فقد اتّفقوا على نفيها .

والدليل على نفي الألم واللذّة:

ص: 204


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 47 الفصل السابع.

أمّا الألم : فلأنّ الألم إدراك المنافي، ولا منافي له تعالى.

وأمّا اللذّة: فلأنّها إمّا أن تكون قديمة، أو حادثة، والقسمان باطلان:

أمّا الأوّل، فلأنّها داعية إلى فعل الملتذّ به، فيجب أن يكون موجداً للملتذّ به قبل أن أوجده، لأنّ القدرة والدّاعي قديمان، فهما قبل وجوده موجودان، ولا مانع ، ولكنّ إيجاد الشيء قبل إيجاده محال.

وإن كانت حادثة، كان محلاًّ للحوادث.

والإجماع الدالّ على نفي اللذّة والألم عنه تعالى.

والحقّ عندي: ثبوت اللذّة العقلية، لأنّ علمه بذاته وكماله المطلق يوجب اللذّة، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً فرح، ومن تصوّر في نفسه نقصاً تألّم، فإذا كان كماله تعالى أعظم الكمالات، وعلمه بذاته أجلّ العلوم، فلِمَ لا يجوز أن يستلزم ذلك أعظم اللّذّات؟ لكن لا يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه، لعدم الإذن (1)(1) الشرعي، وقد عبّر بعضهم عن هذه اللذّة ب(الابتهاج).

قال (دام ظلّه): «ويستحيل اتّصافه بالآلات الجسمانية، كالشمّ والذوق، وكذا باقي الأعراض المفتقرة إلى الأجسام، كالألوان والأضواء، وغيرهما» (2)(2).

أقول: يستحيل اتّصافه تعالى بالآلات الجسمانية، كالشمّ، والذوق،والبصر، واللمس.

ويستحيل اتّصافه بكلّ عرض مفتقر إلى الجسم، كاللون، والضوء، وغيرها.

ص: 205


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 47 الفصل السابع.
2- (2) في ب: الدليل.

قال (دام ظلّه): «ولا يمكن اتّحاده بغيره، لقضاء الضرورة ببطلان الاتّحاد، ولأنّهما بعد الاتّحاد إن بقيا فلا اتّحاد، وإن عدما أو أحدهما فلا اتّحاد، لاستحالة اتّحاد المعدوم (1)(1) بالموجود» (2)(2) .

أقول: الله تعالى لا يتّحد بغيره، لأنّ الضرورة قاضية ببطلان الاتّحاد، ولأنّه حال الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحد، وإن صارا معدومين فلم يتّحدا، لأنّه لا يعقل اتّحاد المعدوم بالمعدوم.

وإن عُدم أحدهما ونفي الآخر فلم يتّحدا، لأنّ المعدوم لا يتّحد بالموجود.

في استغنائه

قال (دام ظلّه): «البحث السادس: في أنّه تعالى غنّيّ:

لو احتاج - تعالى عن ذلك - لكانت الحاجة: إمّا في ذاته، أو في صفاته.

والقسمان باطلان، لأنّا بينّا وجوب وجوده تعالى، فلا يفتقر إلى غيره في ذاته ولا في صفاته، لاستحالة انفعاله عن الغير »(3)(3).

أقول: الله تعالى غنيّ، لأنّه لو احتاج إلى شيء - تعالى الله عن ذلك - لكانت الحاجة إمّا في ذاته، أو صفاته.

والأوّل باطل، وإلاّ لكان ممكناً، وقد بينّا وجوب وجوده تعالى.

ص: 206


1- (1) العبارة في المصدر: (لاستحالة اتّحاد المعدوم، واستحالة اتّحاد المعدوم بالموجود).
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين: 47 الفصل السابع.
3- (3)نهج المسترشدين في أصول الدين: 47 الفصل السابع.

وأمّا الثاني، فلاستحالة انفعاله عن الغير.

وإذ قد ثبت عدم احتياجه (1)(1) في ذاته وصفاته ، ثبت أنّه غنيّ مطلق، وليس الغنيّ المطلق إلاّ هو جلّ جلاله.

في أنّ ذاته غير معلومة

قال (دام ظلّه) «البحث السابع: في أنّ حقيقته تعالى غير معلومة للبشر:

لأنّ المعقول من واجب الوجود ليس إلاّ الصفات الحقيقية، مثل الوجود والوجوب، وكونه قادراً وعالماً ، وغير ذلك.

أو الإضافية، مثل كونه تعالى خالقاً، وأوّلاً، وآخراً.

أو السلبية، مثل أنّه تعالى ليس في جهة، وليس بجسم، وغيرهما.

وأمّا غير ذلك فهو غير معقول.

ولا شكّ في أنّ هذه التعقّلات (2)(2) أُمور عارضة لذاته تعالى ليست نفس حقيقته، والمعروض غير معلوم لنا»(3)(3).

أقول: ذهبت الإمامية، والفلاسفة، وضرار (4)(4) : إلى أنّ حقيقته تعالى غير

ص: 207


1- (1) في ب: الحاجة.
2- (2) في المصدر: المتعقّلات.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 48 الفصل السابع.
4- (4) ضرار بن عمرو الضبي، المتكلَّم (ق2ه)، صاحب مذهب الضرارية، رأس من رؤوس المعتزلة، مات وله تسعون سنة.

معلومة للبشر. وهو اختيار المصنّف . [ وهو الحقّ عندي ](1)(1) .

وذهب جمهور المتكلّمين من الأشاعرة والمعتزلة: إلى أنّها معلومة.

[لنا : أنّها ليست بديهية التصوّر ،بالضرورة، ولا حدّ لها، لأنّه مركّب من الذاتيات، وهي منفية ها هنا لاستلزامها الإمكان، والعوارض لا تفيد كنه الحقيقية ] (2)(2).

احتجّ المصنّف: بأنّ المعقول من ذات واجب الوجود ليس إلاّ الصفات.

أمّا الحقيقية، مثل الوجود والوجوب، وكونه قادراً وعالماً، وغير ذلك.

وأمّا الإضافية، نحو (3)(3) كونه خالقاً، وأوّلاً، وآخراً.

أو السلبية، مثل أنّه (4)(4) تعالى ليس في جهة، وليس بجسم، وغيرها.

وأمّا غير ذلك فهو غير معقول، ولا شكّ في أنّ هذه التعقّلات أُموراً عارضة لذاته تعالى، ونفس المعروض غير معلوم لنا.

في استحالة رؤيته

قال (دام ظلّه): «البحث الثامن: في أنّه تعالى تستحيل عليه الرؤية:

لأنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ مرئي فهو في جهة، لأنّه إمّا مقابل أو في

ص: 208


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) في ب: مثل.
4- (4) في ب: كونه.

حكمه. والباري تعالى ليس في جهة، فلا يكون مرئياً.

ولأنّه لو صحّ أن يكون مرئياً لرأيناه الآن، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

والملازمة ظاهرة: إذ شرائط الإدراك موجودة فينا (1)(1) .

ولقوله تعالى: ﴿لَاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾(2)(2)، تَمدّح بنفي الرؤية، فيكون ثبوتها نقصاً، وهو على الله تعالى محال.

ولقوله تعالى: ﴿لَنْ تَراني﴾ (3)(3)، و(لن) لنفي الأبد.

والأشاعرة خالفوا جميع العقلاء في ذلك، حيث أثبتوا تجرّده تعالى، وجوّزوا رؤيته» (4)(4).

أقول: ذهبت الإمامية، والمعتزلة، والفلاسفة: إلى أنّه يستحيل عليه الرؤية.

وخالف في ذلك الأشاعرة، والمشبّهة: حيث جوّزوا رؤيته، ثمّ اختلفوا:

فأمّا المشبّهة فقالوا: بأنّه مرئي رؤية مكيّفة (5)(5) .

وأمّا الأشاعرة فزعموا: أنّه يرى رؤية منزّهة. وقد خالفوا سائر العقلاء في ذلك !

احتجّ المصنّف بوجوه:

ص: 209


1- (1) في المصدر: ها هنا.
2- (2) سورة الأنعام: 103
3- (3) سورة الأعراف: 143 .
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 48 الفصل السابع.
5- (5) فى ب: منكشفة.

الأوّل: أنّ كلّ مرئي فهو في جهة، لأنّه إمّا مقابل أو في حكم المقابل، والضرورة قاضية بذلك، والباري تعالى ليس في جهة، فلا يكون مرئياً.

الثاني: أنّه لو صحّ أن يكون مرئياً لرأيناه الآن، والتالي باطل، فالمقدّم مثله. إذ شرائط الإدراك موجودة فينا. إذ سلامة الحاسّة هو الشرط هنا لاستحالة اشتراط القرب واللون، والضوء، وغير ذلك من الشرائط .

الثالث : قوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾(1)(1) ، تَمَدّح بنفي الرؤية، فيكون ثبوتها نقصاً، لأنّ المتَمدّح به لا بدّ وأن يكون صفة كمال، وإذا كان عدم الرؤية صفة كمال، كان ثبوتها نقصاً، وهو على الله تعالى محال.

الرابع: قوله تعالى: ﴿لَنْ تَرانِي﴾ (2)(2)، و (لن) لنفي الأبد.

واعلم، أنّ الأشاعرة أثبتوا الرؤية عليه تعالى، مع أنّه ليس في جهة. وهذا خلاف العقلاء كافّة!

قال (دام ظلّه): «واستدلّوا: بأنّه تعالى موجود، فيصحّ أن يكون مرئياً، لأنّ علّة صحّة الرؤية هو الوجود، لأنّ الجوهر والعرض مرئيان، والحكم المشترك يستدعي علّة مشتركة، ولا مشترك بينهما سوى الحدوث أو الوجود، والحدوث لا يصلح للعلّية، لأنّه أمر عدمي، فبقي الوجود.

وهذه حجّة ضعيفة جدّاً، وقد بيّنا ضعفها في كتاب (النهاية)، والسمع متأوّل » (3)(3).

ص: 210


1- (1) سورة الأنعام: 103 .
2- (2) سورة الأعراف : 143 .
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 49 الفصل السابع.

أقول : احتجّت الأشاعرة على مذهبهم بوجوه:

الأوّل: أنّ الله تعالى موجود، وكلّ موجود يصحّ أن يرى، فالله تعالى يصحّ أن يرى.

أمّا الأُولى، فقد تقدّم بيانها.

وأمّا الثانية، فبيانها : إنّ الجوهر والعرض يصحّ رؤيتها، فصحّت رؤيتهما، إمّا أن تكون لخصوصية كلّ واحد منهما، أو لأمر مشترك بينهما، والأوّل باطل لاستحالة تعليل الأحكام المتماثلة بالعلل المختلفة، وإن كان الثاني فإمّا أن يكون المقتضي لرؤيتها هو الحدوث، أو الوجود، لأنّه لا شركة (1)(1) بينهما سواهما، والأوّل باطل، لأنّ الحدوث عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم، فيكون العدم جزء الحدوث، والعدم لا يجوز أن يكون جزء العلّة [للحدوث](2)(2)، فتعيّن الوجود، وهو المطلوب.

الثاني: قوله تعالى: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجُبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾(3)(3) .

وتقرير الاستدلال به: إنّ رؤية الله تعالى متعلّقة باستقرار الجبل، وهو ممكن، والمعلّق على الممكن ممكن، فالرؤية ممكنة.

الثالث: قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبَّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (4)(4) .

ص: 211


1- (1) في ب: مشترك.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) سورة الأعراف: 143 .
4- (4) سورة القيامة: 22 ،23

والجواب عن الأوّل: بجواز تعليل المتماثلة بالمختلفة، كالحرارة الصادرة عن الشمس والنار، سلّمنا، لكن نمنع (1)(1) تعليل الصحّة بحكمنا (2)(2)، [سلّمنا] (3)(3) ، لكن نمنع عدم اشتراك غير هذين بينهما.

و تمام تحقيق ذلك مذكور في كتاب ( نهاية المرام ) (4)(4) .للمصنّف.

وعن الثاني: (5)(5) أنّه علّق الرؤية على استقرار الجبل حال الحركة، واستقراره

حال الحركة محال .

[لأنّه لو علّقها حال السكون لزم وقف الرؤية، ولأنّه علّق الرؤية على استقرار الجبل حال نظر موسى إليه، وحال النظر كان متحرّكاً، وإلاّ لوجبت الرؤية.

لا يقال: لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها موسى، لعلمه بما يمتنع عليه تعالى، وسؤال الممتنع محال.

والجواب : أنّ موسى ما سأل الرؤية لنفسه، بل لسؤال أصحابه.

ويدلّ عليه : قوله: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ (6)(6) . وأيضاً: ليتوافق العقل والنقل.

ص: 212


1- (1) في ج: (لا نمنع).
2- (2) لا يوجد في ب، ج.
3- (3) أثبتناه من ب، ج.
4- (4) من مصنّفات العلاّمة ابن المطهّر الحلّي، مطبوع.
5- (5) في ب: (وعن ب).
6- (6) سورة النساء: 153 .

والتحقيق: أنّه علّق الرؤية على اجتماع الضدّين، واجتماعهما محال لذاته، فالرؤية كذلك ] (1)(1).

وعن الثالث (2)(2) : نمنع كون النظر هو الرؤية.

ويدلّ عليه: قولهم: «نظرت إلى الهلال فلم أره»، فأثبت النظر مع نفي الرؤية، سلّمنا ، لكن المراد: إلى نعمة ربّها، لوجوب تأويل النقل عند معارضة العقل، كما تقدّم.

في أوحديته

قال (دام ظلّه): «البحث التاسع: في أنّه تعالى واحد:

لو كان في الوجود واجبا الوجود، لوجب أن يتمايزا بعد اشتراكهما في مفهوم واجب الوجود، فيكون كلّ واحد منهما مركّباً، فيكون ممكناً .

ولأنّه إذا أراد أحدهما حركة جسم وأراد الآخر تسكينه، إن وقع مرادهما لزم اجتماع النقيضين، وكذا إذا انتفيا . وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر كان من وقع هو الإله. وللسمع» (3)(3).

أقول: واجب الوجود واحد لوجوه:

الأوّل: لو كان في الوجود واجبا الوجود، لكانا مشتركين في مفهوم

ص: 213


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) في ب: (وعن ج).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 49 الفصل السابع.

واجب الوجود، و متمايزين بخصوصيتهما، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فيكون كلّ واحد منهما مركّباً من مفهوم واجب الوجود، وما به يقع الامتياز، فيكون ممكناً .

لا يقال : الاشتراك في مفهوم واجب الوجود لا يستلزم التركيب، لجواز كونه عارضاً، والاشتراك في العوارض لا يستلزم التركيب!

لأنّا نقول: قد بيّنا أنّ وجوب الواجب نفس ماهيته، وإلاّ لكان ممكناً، فيستحيل أن يكون عارضاً.

الثاني: لو قدّرنا إلهين، لكان إمّا أن يصحّ من أحدهما أن يفعل فعلاً على خلاف الآخر، أو لا يصحّ، فإن صحّ ، فليقدّر ذلك، لأنّ ما ليس بممتنع لا يلزم من فرض وقوعه محال، وإلاّ لكان ممتنعاً لا ممكناً، وعند ذلك الاختلاف، فإمّا أن يحصل مرادهما، فيكون الجسم الواحد متحرّكاً ساكناً، وهو محال، أو لا يحصل مرادهما، وهو أيضاً محال، لأنّ المانع من مراد كلّ منهما وجود مراد الآخر، فامتناع مراد كلّ واحد منهما متوقّف على حصول مراد الآخر، فلو امتنعا معاً لوجدا، وهو محال، أو يحصل مراد أحدهما دون مراد الثاني، وهو أيضاً محال، لأنّ كلّ واحد منهما قادر على ما لا نهاية له، فلا يكون أحدهما أولى بالرجحان.

ولأنّ الذي لا يحصل مراده يكون عاجزاً، فعاجزيته إن كانت أزلية، فهو محال، لأنّ العجز إنّما يعقل عمّا يصحّ وجوده، ووجود المخلوقات الأزلية(1)7(1) محال، فالعجز عنه أزلاً محال . وإن كانت حادثة، فهو محال، لأنّ هذا إنّما يعقل لو كان قادراً في الأزل ثمّ زالت قادريته، وذلك يقتضي عدم القديم، وهو محال.

ص: 214


1- (1) في ب: (في الأزل).

وإن لم يصحّ، بل امتنعت المخالفة، فهو باطل، لأنّه إذا كان كلّ واحد منهما قادراً على جميع المقدورات، والقادر يصحّ منه فعل مقدوره، فحينئذ يصحّ من هذا فعل الحركة لولا الآخر ، ومن الآخر فعل السكون لولا هذا، فما لم يقصد أحدهما إلى الفعل لا يتعذّر على الآخر القصد إلى ضّده، لكن ليس تقدّم قصد أحدهما على الآخر أولى من العكس، فإذاً يستحيل أن يصير فعل أحدهما مانعاً للآخر من القصد، فصحّت المخالفة.

[الثالث (1)(1): لو فرض إلهان، لاستوت الممكنات بالنسبة إليهما، فإمّا أن تقع بهما معاً، وهو محال، لاستغناء الممكن بواحد أو بكلّ واحد، فيلزم تعدّد العلل، أو بأحدهما فيلزم الترجيح من غير مرجّح ، أو لا يقع بواحد، فلا يوجد ممكن أصلاً ] (2)(2).

الرابع (3)(3): قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ...﴾ (4)(4)، إلى آخره.

ص: 215


1- (1) في ب: (ج).
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) في أ: (الثالث)، وفي ج: (ج) ، وفي ب: (د)، وما أثبتناه حسب السياق.
4- (4) سورة الإخلاص.

ص: 216

الفصل الثامن:في العدل

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل الثامن: (في العدل).

وفيه مباحث:

الأوّل: في أقسام الفعل:

الفعل: إمّا أن لا يكون له صفة زائدة على حدوثه، كحركة الساهي والنائم، وإمّا أن يكون. وهو إمّا حسن، أو قبيح.

والأوّل: إمّا أن لا يكون له صفة زائدة على حسنه، وهو المباح، ورسموه: بأنّه ما لا مدح في فعله ولا تركه ولا ذمّ فيهما.

وإمّا أن يكون له صفة زائدة على حسنه، وهو: إمّا واجب، وهو ما يستحقّ المدح بفعله والذمّ على تركه مع العلم والتمكين من التحرّز، أو ندب، وهو ما يستحقّ المدح بفعله ولا يستحقّ الذّم بتركه إذا علم فاعله أو دلّ عليه» (1)(1).

ص: 217


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 50 الفصل الثامن.

أقول :[مقدّمة : قال المصنّف في بعض كتبه: أطلق المتكلّمون لفظ (العدل) على العلوم التي لها تعلّق بأحكام أفعاله تعالى من حسن الحسن، ووجوب الواجب، ونفي القبيح عنها .

وقال في كتاب آخر له: العدل هو: كون القادر العالم لا يفعل قبيحاً، ولا يخلّ بواجب.

وهو مبني على أنّه تعالى حكيم، ومعناه: أنّه تعالى يعلم جميع المعلومات على ما هي عليه، وإنّما تصدر عنه الأفعال على وجه الكمال، فاحتيج إلى معرفة الحسن والقبح، وكونهما علّتين. فابتدأ بهما.

إذا تقرّر ذلك، فنقول ](1)(1):

الفعل ضروري التصوّر، [ويعرّف لفظاً: بأنّه ما صدر عن المؤثّر. وزاد بعضهم: بالقدرة والاختيار. فخرج معلول العلل الموجبة، كإحراق النار.

وكثير من المعتزلة لا يسمونه فعلاً .

والحقّ: أنّه نزاع لفظي.

إذا عرفت هذا، فنقول:

الفعل بالمعنى الأوّل ] (2)(2) ، إمّا أن لا يكون له صفة زائدة على حدوثه، أو يكون، والأوّل: ككلام الساهي والنائم، والثاني: إمّا حسن، أو قبيح(3)(3).

ص: 218


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) العبارة في ب: (والثاني أن يكون لفاعله أن يفعله وهو الحسن، أو لا يكون وهو القبيح).

فالحُسن على ضربين: إمّا أن لا يكون له صفة زائدة على حُسنه، وهو المباح، ويرسم بأنّه ما لا مدح في فعله و[لا في] (1)(1) تركه، ولا ذمّ فيهما [مع قدرة القادر عليه العالم به ](2)(2).

وإمّا أن يكون له صفة زائدة على حُسنه، وهو إمّا واجب، وهو ما يستحقّ المدح بفعله والذمّ على تركه مع العلم و[التمكين من ](3)(3) التحرّز، أو (4)(4) ندب، وهو ما يستحقّ المدح بفعله ولا يستحقّ الذمّ بتركه إذا علم فاعله أو دلّ عليه.

[والقبيح: ما يستحقّ فاعله الذمّ على فعله، والمدح على تركه إذا علم فاعله أو دلّ بقبحه عليه ] (5)(5) .

في الحُسن والقبح

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: ذهب أهل العدل: إلى أنّ العلم بحسن بعض الأشياء - كالصدق النافع، والإنصاف، وشكر المنعم، ونحوها - ضروري، والعلم بقبح بعضها - كالظلم، والفساد، وتكليف ما لا يطاق - ضروري.

وذهبت الأشعرية: إلى المنع من ذلك.

ص: 219


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) أثبتناه من ب.
4- (4) في ب: وإمّا.
5- (5) أثبتناه من ب.

لنا: أنّ العلم الضروري حاصل بما قلناه، والمنازع مكابر، ولهذا يحكم به من لا يعتقد شرعاً.

ولأنّ القول بنفي الحُسن والقبح العقليين يقتضي رفع الأحكام الشرعية، لانّا لو جوّزنا صدور القبيح من الله تعالى لم يبق الوثوق بوعده ووعيده، ولجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب، ولجاز تعذيب المؤمن على إيمانه، وإثابة الكافر على كفره. والتوالي بأسرها (1)(1) باطلة بالإجماع» (2)(2).

أقول: الحُسن والقبح، قد يراد بهما: ملائمة الطبع ومنافرته، وكون الشيء صفة كمال أو نقصان، وهما بهذين الاعتبارين عقليّان.

وقد يراد بها: كون الفعل موجباً للمدح أو الذمّ، وهما بهذا المعنى عقليّان.

ثمّ منهما ما يعلم بالضرورة : كحُسن الصدق النافع، والإنصاف، وشكر المنعم، ونحوها، وكالعلم الضروري بقبح الظلم، والفساد، وتكليف ما لا يطاق.

ومنهما ما يعلم بالنظر : كقبح الكذب النافع.

ومنهما ما يعلم بكشف الشرع إيّاه : كوجوب الصلاة، وسائر السمعيات.

وهذا مذهب الإمامية، والمعتزلة.

وقال الأشاعرة: إنّهما بهذا المعنى سمعيان لا عقليّان.

احتجّت المعتزلة بوجوه:

ص: 220


1- (1) لا يوجد في المصدر ب، ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 50 -- 51 الفصل الثامن.

الأوّل: إنّ العلم الضروري حاصل بما قلناه، والمنازع مكابر، ولهذا يحكم به من لا يعتقد شرعاً.

الثاني: لو جاز صدور القبائح منه تعالى، لجاز منه الكذب، وإخلاف الوعد، فلم يبق لنا وثوق بوعده ووعيده، فتنتفي فائدة التكليف.

الثالث: لو جاز منه القبائح، لجاز إظهار المعجز على يد الكاذب، والتالي باطل، وإلاّ لم يمكن الفرق بين المحقّ والمبطل.

الرابع: لو انتفى الحُسن و القبح ، لم يبق يستحقّ بالإيمان ثواب، ولا بالكفر عقاب، فجاز تعذيب المؤمن على إيمانه، وإثابة الكافر على كفره، والتوالي كلّها باطلة بالإجماع، فالمقدّم مثلها.

قال (دام ظلّه): «احتجّت الأشاعرة: بأنّ الضروريات لا تفاوت بينها، ونحن نجد تفاوتاً بين العلم بحسن الصدق وقبح الكذب، وبين العلم باستحالة اجتماع النقيضين. ولأنّ الكذب يحسن إذا اشتمل على تخليص النبيّ(عليه السلام)، أو على الصدق، كمن يقول: «أنا أكذب غداً».

ولأنّه تعالى كلّف الكافر بالإيمان مع علمه بعدم صدوره عنه، ولأنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان، وهو تصديق الله تعالى في جميع ما أخبر به، ومن جملته أنّه لا يؤمن.

والجواب: بمنع المقدّمتين في الأوّل، وحُسن التخليص لا يقتضي حُسن الكذب، فالإخبار المشتمل على الكذب من حيث أنّه كذب قبيح، ومن حيث اشتماله على التخلّص حَسن، فما هو قبيح لا ينقلب حسناً، وبالعكس. وكذا الوعد بالكذب حسن من حيث إخراج الوعد عن الكذب، وقبيح من حيث هو

ص: 221

كذب. والعلم غير مؤثّر في القدرة، وإخباره عن أبي لهب بأنّه لا يؤمن وقع بعد موته»(1)(1).

أقول : احتجّت الأشاعرة على مذهبهم بوجوه:

الأول: - وهو دليل على أنّه لا يعلم حُسن شيء وقبحه بالضروريات (2)(2) ۔ إنّ الضروريات لا تتفاوت، لأنّ الحكم إمّا أن يحتمل النقيض، أو لا، فإن كان الأوّل لم يكن علماً، لأنّ الجزم لم يحصل، وإن كان الثاني فلا تفاوت، والعلم بحسن بعض الأشياء وقبحها ليس كالعلم باستحالة اجتماع النقيضين، لأنّ بينهما فرقاً، فإنّ الثاني أقوى، والأوّل يحتمل النقيض، فلا يكون العلم ضرورياً.

الثاني: أنّ الكذب قد يحسن، وذلك لأنّ النبيّ إذا هرب من ظالم يريد قتله، فاختفى عند إنسان، وسُئل ذلك الإنسان عن النبيّ ولم يمكن تخليصه إلّا بالكذب، وجب الكذب، وهو المطلوب.

الثالث: الكذب قد يكون حسناً، فإنّ من قال: «غداً أكذب»، إمّا أن يحسن منه الكذب غداً أو يصحّ، والأوّل يستلزم المطلوب، والثاني يستلزم حُسن الكذب اليوم.

الرابع: أنّ من صور النزاع: قُبح تكليف ما لا يطاق.

فنقول: لو كان قبيحاً لما فعله الله، وقد فعله، بدليل أنّه كلّف الكافر بالإيمان مع عدم إمكانه منه.

أمّا الأُولى، فمتّفق عليها.

ص: 222


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 51 الفصل الثامن.
2- (2) في ب، ج: بالضرورة.

وأمّا الثانية، فلأنّه تعالى عَلم بعدم وقوعه منه بالاتّفاق، فلا يمكن وقوعه، لأنّ وقوعه يستلزم المحال، وكلّ ما استلزم وقوعه المحال، فهو محال. أمّا أنّ وقوعه يستلزم المحال، فلأنّ وقوعه يستلزم انقلاب علمه تعالى جهلاً، وهو محال، وأمّا الثانية فظاهرة.

الخامس: تكليف ما لا يطاق واقع، لأنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان، وهو التصديق بجميع ما أخبر به النبيّ (عليه السلام)، ومن جملته أنّه لا يؤمن، فقد كلّفه بأنّه يؤمن وبأن لا يؤمن، وهو تكليف بالجمع بين الضدّين.

والجواب عن الأوّل (1)(1): بالمنع من الصغرى، وهو عدم تفاوت الضروريات بجواز تفاوتها، وليس التفاوت باحتمال النقيض، بل بالوثاقة وعدمها، ولجواز خفاء تصوّراتها.

وبالمنع من الثانية، وهو التفاوت بين العلم بحسن بعض الأشياء وبين العلم باجتماع النقيضين، فلا نسلّم التفاوت بين العلم بحسن الصدق الدافع وبين العلم باستحالة اجتماع النقيضين (2)(2) .

وعن الثاني: أنّ الإخبار بكون النبيّ ليس عنده، له جهتان:

إحداهما: كونه مخلّصاً للنبيّ (عليه السلام).

والثانية: كونه كذباً .

ولا تلازم بين هذين الوجهين، فهو حَسن بالجهة الأُولى، وقبيح بالجهة

ص: 223


1- (1) في ب ورد هكذا: (والجواب عن أ)، وكذا باقي التفريعات.
2- (2) (فلا نسلّم التفاوت بين العلم بحسن الصدق الدافع وبين العلم باستحالة اجتماع النقيضين) لا يوجد في ج.

الثانية، فالتخليص حَسن، وهو لا ينقلب قبيحاً، والكذب قبيح، وهو لا ينقلب حسناً.

وعن الثالث: فإنّ الكذب غداً، يشتمل على وجهين: أحدهما: إخراج الوعد من الكذب، وهذا حسن. وعلى كونه كذباً، وهذا قبيح.

وعن الرابع: أنّ العلم غير مؤثّر في القدرة، لأنّه تابع للمعلوم فلا يؤثّر فيه، وإلاّ دار. وللمعارضة به تعالى، فإنّه تعالى عالم بأفعاله.

وعن الخامس : بأنّ الإخبار عن أبي لهب بأنّه لا يؤمن وقع بعد موته.

[واعلم، أنّ مبنى قول المعتزلة على أنّ حُسن الأفعال أو قبحها أوصاف لها، كالعدل والإحسان. والظلم له وجوه تقع عليها، كلطمة اليتيم تأديباً، أو ظلماً.

ومبنى قول الأشاعرة: أنّ الأفعال متساوية، وأنّ المحسّن لها الشرع، وكذا المقبّح لها، فيجوز التعاكس ](1)(1).

في نفي القبيح عنه

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في أنّه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يخلّ بالواجب:

خلافاً للأشعرية.

لنا: أنّه تعالى غنيّ بذاته عن القبيح، وعالم به، وهو حكيم، فيعلم قطعاً

ص: 224


1- (1) أثبتناه من ب.

انتفاؤه عنه لوجود الصارف، وهو علمه بقبحه، وانتفاء الداعي، وهو داعي الحاجة، أو داعي الحكمة» (1)(1).

أقول: ذهب أهل العدل، وهم الإمامية والمعتزلة: إلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يخلّ بالواجب، خلافاً للأشاعرة.

[ولمّا كان الإخلال بالواجب قبيحاً أيضاً، اكتفى بالاستدلال على الأوّل ] (2)(2).

احتجّ الأولون: بأنّ له صارفاً عن القبيح، ولا داعي له إليه، وكلّ من له صارف عن القبيح ولا داعي له إليه فلا يفعله، فيلزم أنّه لا يفعل القبيح.

أمّا الصغرى، فنقول: بيان أنّ الصارف عن القبيح أنّه تعالى عالم بقبح القبيح، وهو غنيّ عنه، وكلّ من كان كذلك فهو لا يفعل القبيح، والعلم بذلك ضروري.

وأمّا أنّه لا داعي له إلى القبيح، فلأنّ الداعي إمّا داعي الحاجة، أو داعي الحكمة، والأوّل محال عليه تعالى لما تقدّم، والثاني لا يدعو إلى القبيح.

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّه تعالى كلّف الكافر، ولا وجه له في الحُسن.

والجواب: المنع من انتفاء الحُسن، فإنّ تعريض المكلّف للمنافع أمر مطلوب حَسن، وهو كما يثبت في حقّ المسلم يثبت في حقّ الكافر » (3(3)) .

ص: 225


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 51 الفصل الثامن.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 51 - 52 الفصل الثامن.

أقول: احتجّت الأشاعرة على أنّه فاعل للقبيح (1)(1): بأنّه تعالى كلّف الكافر علمه بأنّه لا يؤمن، فذلك التكليف إمّا أن يكون لفائدة، أو لا لفائدة، والثاني عبث، وهو قبيح، والأوّل تلك الفائدة إمّا لنفع أو لضرر، والثاني قبيح، والأوّل إن كان عائداً إلى الله تعالى، فهو محال، وإن كان إلى المكلّف (2)(2)، فهو عالم بعدم وصول ذلك إليه، فيكون التكليف عبثاً، وهو قبيح، وإن كان إلى الغير فهو قبيح، لأنّ إيلام زيد لأجل نفع عمرو قبيح.

والجواب: أنّ الفائدة تعريضه للثواب، على معنى: أنّه يجعله متمكّناً من الوصول إلى النفع، وهذه الفائدة حاصلة، فهو حَسن، لأنّ الفائدة كما تثبت في حقّ المسلم، تثبت في حقّ الكافر.

في خلق الأعمال

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في خلق الأعمال:

ذهبت المعتزلة : إلى أنّ للعبد قدرة مؤثّرة في الفعل الصادر عنه.

وذهبت الأشعرية: إلى أنّ المؤثّر هو الله تعالى، وأنّه تعالى يخلق القدرة والفعل معاً، وليس للعبد فيه أثر البتة، وإنّما للعبد الكسب لا غير.

لنا: أنّا نعلم بالضرورة الفرق بين أفعالنا الاختيارية والاضطرارية، ولا فارق إلاّ القدرة. ولأنّه يحسن منّا مدح المطيع وذّم العاصي، وذلك متوقّف على استناد الفعل إليهما.

ص: 226


1- (1) العبارة في ب:( احتجّت الأشاعرة إلزاماً للمعتزلة).
2- (2) في ب: العبد.

وهذا دليل على كون العلم باستناد الفعل إلينا ضرورياً لا على العلم بالاستناد» (1)(1).

أقول: ذهبت الإمامية، والمعتزلة: إلى أنّ للعبد قدرة مؤثّرة في الفعل الصادر عنه.

وذهبت الأشاعرة: إلى أنّه لا تأثير لقدرة العبد في مقدور أصلاً، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى، بمعنى: أنّ الله تعالى يخلق القدرة والفعل في العبد معاً، وإنّما للعبد الكسب.

وزعم القاضي (2)(2) : أنّ ذوات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة ومعصية صفات تقع بقدرة العبد.

وزعم الأُستاذ أبو إسحاق (3)(3) : أنّ ذوات الفعل تقع بالقدرتين.

وزعم (4)(4) جهم بن صفوان (5)(5) وأصحابه: إلى أنّه لا فاعل إلاّ الله تعالى، وأنّه ليس لأحد سواه فعل، لا إحداثاً، ولا كسباً.

احتجّ المصنّف بوجوه:

ص: 227


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 52 الفصل الثامن.
2- (2) أبو بكر محمّد بن الطيب بن محمّد القاضي البصري، المعروف ب(ابن الباقلاني)، المالكي الأشعري (ت403 ه)، تقدّم.
3- (3) أبو إسحاق الأسفراييني، إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم، المتكلّم (ت 418 ه)، تقدّم.
4- (4) في ب، ج: وذهب.
5- (5) جهم بن صفوان السمرقندي الترمذي، أبو محرز الراسبي مولاهم، الكاتب المتكلّم، رأس الجهمية المجبرة والمعطّلة، نشأ في سمرقند بخراسان، وقضى فترة من حياته الأُولى في ،ترمذ، وقتل بمرو سنة (128ه).

الأوّل: إنّا نعلم بالضرورة الفرق بين أفعالنا الاختيارية كتحريك اليد، والاضطرارية كحركة النبض، ولا فارق إلاّ القدرة.

الثاني: أنّه يحسن منّا مدح المطيع وذّم العاصي، ولا يحسن ذمّه على سواده، ولا على كون النجوم في السماء، ولولا العلم باستناد الطاعة والمعصية إليه، لما حسن ذلك دون هذا.

لا يقال: هذا يلزم فيه الدور، لأنّ العقلاء إنّما يذمون العبد ويمدحونه إذا عرفوا بأنّه فاعل، فلو استدللنا على العلم بأنّه فاعل بذلك، لزم الدور.

لانّا نقول: إنّا نستدلّ بذلك على كون علمنا بأنّه فاعل ضروري لا على ثبوت العلم، فلا دور.

[وإلى هذا السؤال والجواب أشار المصنّف بقوله : «وهو دليل على كون العلم...» إلى آخره ](1)(1).

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّ ما علم الله تعالى وقوعه وجب، وما علم بعدمه امتنع، فلا قدرة. ولأنّ الفعل حال استواء الداعي محال، وحال الترجيح يجب الراجح ويمتنع المرجوح ، فلا قدرة. ولأنّ العبد لو كان قادراً لكان ترجيحه لأحد الطرفين: إن كان لا لمرجّح انسدّ باب إثبات الصانع تعالى، وإن كان المرجّح، فإن كان من العبد تسلسل، وإن كان من الله تعالى فعند حصول ذلك المرجّح يجب الفعل، وعند عدمه يمتنع، فلا يكون مقدوراً.

والجواب عن الأوّل: أنّ الوجوب والامتناع لاحقان، فلا يؤثّران في الإمكان الذاتي.

ص: 228


1- (1) أثبتناه من ب.

وعن الثاني : أنّ إمكان الفعل من حيث هو هو، لا باعتبار تساوي الطرفين ولا باعتبار الرجحان.

وعن الثالث: أنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه لا لمرجّح.

و مع ذلك فهذه الوجوه عائدة في حقّه تعالى، وواردة على ما يعلم بطلانه بالضرورة» (1)(1).

أقول: احتجّت المجبّرة (2)(2) على قولهم بوجوه:

الأوّل: أنّ الله تعالى إذا علم وقوع الفعل وجب، وإلاّ انقلب علمه جهلاً، وكذلك إذا علم عدمه امتنع ، [ولا يخلو الأمر عنهما بالنسبة إلى كلّ واحد من الأشياء ] (3)(3) ، والواجب والممتنع لا قدرة عليهما.

الثاني: أنّ الفعل حال استواء الداعي محال، وحال الترجيح يجب الراجح، وحالة المرجوحية تمتنع فلا قدرة، لأنّه لا قدرة على الواجب والممتنع.

الثالث: أنّ العبد لو كان قادراً على الفعل والترك، لكان ترجيح الفعل على الترك إمّا أن يحتاج إلى مرجّح، أو لا . والثاني باطل، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح، وإلاّ لانسد باب إثبات الصانع، [لأنّ براهين إثبات الصانع ترجع إلى الحدوث والإمكان، واحتياجهما إلى المؤثّر، فمتى جاز الترجيح بلا مرجّح لم يكن الحدوث والإمكان ملزوماً للاحتياج، فلا يتمّ البرهان.

ص: 229


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 52 الفصل الثامن.
2- (2) المجبرة: أو الجبرية: فرقة تنسب إلى جهم بن صفوان وأتباعه، من أقوالهم: أنّه لا محدِث للمحدَثات المحسنات والمقبحات إلاّ الله تعالى، وأنّ الإنسان مجبر في أعماله، ولا اختيار للعبد بل هو كالشجرة.
3- (3) أثبتناه من ب.

وبالجملة : لا تتمّ البراهين الآتية على المطلوب، لأنّها استدلال بالمعلول على العلّة، وإذا جاز الترجيح بلا مرجّح، لم تلزم المعلولية بشيء من الممكنات، ولم يدلّ عدم العلّة على عدم المعلول ] (1)(1) .

والأوّل، ذلك المرجّح إمّا أن يكون (2)(2) من فعل العبد، أو من فعل الله تعالى، فإن كان الأوّل عاد البحث فيه ويتسلسل، أو ينتهي إلى مرجّح من فعله تعالى، والتسلسل باطل.

وإن كان الثاني، فعند حصول المرجّح إن أمكن ألاّ يحصل الفعل، فليفرض ذلك، فحينئذ يحصل تارة، ولا يحصل أُخرى، مع أنّ نسبة ذلك المرجّح إلى الوقتين على السواء، فاختصاص أحد الوقتين بالحصول والوقت الآخر بعدم الحصول يكون ترجيحاً لأحد طرفي الممكن المتساوي (3)(3) على الآخر من غير مرجّح، وهو محال، وإن امتنع أن لا يحصل، فقد وجب الفعل فلا قدرة، لأنّه متى حصل المرجّح وجب الفعل، ومتى لم يحصل امتنع الفعل.

والجواب عن الأوّل: أنّ الامتناع والوجوب لاحقان بعد فرض [العلم، وفرض العلم هو فرض ](4)(4) المعلوم، فلا يؤثّران في الإمكان الذاتي الذي هو متعلّق القدرة، والعلم تابع، [إذ العلم والمعلوم متطابقان، والأصل في تقيد التطابق المعلوم ](5)(5) لا يؤثّر في المعلوم، وإلاّ دار.

ص: 230


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) لا يوجد في ب.
3- (3) في ب: المساوي.
4- (4) أثبتناه من ب، ج.
5- (5) أثبتناه من ب.

وعن الثاني (1)(1) : أنّ إمكان الفعل إنّما هو باعتبار الماهية من حيث هي هي، لا من حيث التساوي، ولا من حيث الرجحان، وبالممكن تتعلّق القدرة.

و عن الثالث (2)(2) : أنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجّح، ولا ينسد باب إثبات الصانع ، [لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان مرجّح وجود الممكن لا لمرجّح، وها هنا ليس كذلك، لأنّ المرجّح القادر وإرادته، وهما ثابتان، ولا يلزم من اختياره لأحد المقدورين ترجيح الممكن بغير مرجّح، لأنّ الجائع إذا حضره رغيفان متساويا النسبة إليه، والهارب من السبع إذا عرض له طريقان متساويا النسبة، لا يتوقّف أحدهما عن الفعل حتّى يحصل المرجّح ](3)(3).

واعلم أنّ المصنّف لمّا أجاب عن كلّ واحدٍ واحد بجواب يختصّ به من حيث المنع ، أجاب عنهما بوجهين من حيث المعارضة:

الأوّل: أنّها واردة في حقّه تعالى بهذا التقرير بعينه، فيلزم نفي قدرته تعالى، لكن اللازم باطل باتّفاق الكلّ، ولا خلاص لهم عن هذه المعارضة.

الثاني: أنّ هذه الوجوه استدلال على ما علم بطلانه بالضرورة، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ لنا حركة اختيارية.

في أنّه مريد

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي. خلافاً للأشعرية.

ص: 231


1- (1) في ب: (وعن ب).
2- (2) في ب: (وعن ج).
3- (3) أثبتناه من ب.

لنا: أنّ له تعالى داعياً إلى الطاعات وصارفاً عن المعاصي، لأنّه تعالى حكيم، والطاعة حسنة، والمعصية قبيحة، فيكون مريداً للحسن وكارهاً للقبيح لحكمته.

ولأنّه أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، والأمر (1)(1) يستلزم الإرادة، والنهي الكراهة» (2)(2).

أقول: ذهبت الإمامية، والمعتزلة : إلى أنّه تعالى إنّما يريد الطاعات ويكره المعاصي.

وذهبت الأشاعرة: إلى أنّه تعالى مريد لجميع الكائنات، سواء كانت طاعة، أو معصية، أو غيرها، [وبنو ذلك على مذهبهم من أنّه تعالى هو الفاعل لكلّ الكائنات، ولا مؤثّر ولا فاعل إلاّ هو، وهو قادر، وفعل القادر يكون بالإرادة.

قالت المعتزلة : الضرورة قاضية ببطلان مذهبهم، وكذا القرآن، لقوله تعالى: لم تكفرون: ﴿قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(3)(3)، لاستحالة أن يخلق فيهم له الكفر والإفك ولا قدرة لهم، ثمّ يتو عّدهم على فعله، وهذا لا يفعله حكيم ](4)(4) .

وذهبوا: إلى أنّه تعالى قد يكون مريداً للقبيح، وكارهاً للطاعة.

احتجّ أصحابنا بوجوه:

الأوّل: أنّ الله تعالى له داعٍ إلى الطاعات، وله صارف عن المعاصي، وكلّ

ص: 232


1- (1) في ب: وذلك
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 53 الفصل الثامن.
3- (3) سورة التوبة: 30، المنافقون: 4 .
4- (4) أثبتناه من ب.

من كان كذلك كان مريداً للطاعات وكارهاً للمعاصي.

أمّا الصغرى، فلأنّه تعالى حكيم، والطاعة حسنة، والمعصية قبيحة، والحكيم لا بدّ وأن يكون له داعٍ إلى الحسن وصارف عن القبيح، فيكون مريداً للطاعة وكارهاً للقبيح لحكمته.

وأمّا الكبرى، فظاهرة.

الثاني: أنّ الله تعالى أمر بالطاعات فيكون مريداً لها، ونهى عن المعاصي فيكون كارهاً لها، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، لأنّ الأمر إرادة المأمور به، والنهي إرادة الترك، ولاستحالة أمر الحكيم بما لا يريده، ونهيه عمّا يريده.

الثالث: أنّ الله تعالى لو أراد القبيح، لكان فاعلاً للقبيح، والتالي باطل لما مرّ، فالمقدّم مثله.

وبيان الشرطية: إنّ إرادة القبيح قبيحة بالضرورة.

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّه لو كان مريداً للطاعة من الكافر لكان مغلوباً، إذ الكافر أراد المعصية، والله تعالى أراد الطاعة، والواقع مراد الكافر، فيكون الله تعالى مغلوباً.

والجواب: أنّه تعالى أراد صدور الطاعة من الكافر اختياراً لا قهراً» (1)(1).

أقول: احتجّت الأشاعرة: بأنّه لو كان مريداً للطاعة من الكافر لكان مغلوباً، لأنّ الكافر أراد المعصية، والله تعالى أراد الطاعة، والواقع مراد الكافر، فيكون الله تعالى مغلوباً.

ص: 233


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 53 الفصل الثامن.

والجواب: أنّه إنّما يكون مغلوباً لو أراد الله تعالى الطاعة من الكافر بالقهر ولم يقع، وليس كذلك، بل إنّما أراد الطاعة منه اختياراً لا قهراً.

ص: 234

الفصل التاسع:في فروع العدل

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل التاسع: في فروع العدل.

[ وفيه مباحث ] (1)(1):

في التكليف

الأوّل: التكليف: إرادة من تجب طاعته ما فيه مشقة ابتداءً بشرط الإعلام» (2)(2).

أقول: هذا حدّ التكليف عند المعتزلة.

ف «الإرادة»، كالجنس.

وذَكر (الإرادة) ولم يَذكر (الأمر والنهي)، ليدخل فيه التكاليف العقلية.

والتقييد بصدورها عن «من تجب طاعته»، فصل له يخرجه عن إرادة من

ص: 235


1- (1) أثبتناه من المصدر، ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 54 الفصل التاسع.

لا تجب طاعته، فإنّه لا يسمّى تكليفاً، ويدخل في ذلك طاعة العبد الله تعالى، وطاعة الناس للرسول ( عليه السلام) والإمام، وطاعة الولد للوالد، والعبد للسيّد، والمنعَم عليه للمنعِم .

وقولنا: «على جهة ابتداء»، فصل آخر، فإنّ إرادة أحد هؤلاء لشيء قد سبق عليه لا يكون تكليفاً، فإنّ إرادة الوالد من الولد الصلاة لا يسمّى تكليفاً لما كانت إرادة الله تعالى سابقة عليه.

وقولنا : «ما فيه مشقّة»، احتراز من التي لا مشقّة فيها، فإنّ التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقّة.

وقولنا: «بشرط الإعلام»، فصل آخر، فإنّ المتكلّف إذا لم يعلم بإرادة المكلّف لا يكون مكلّفاً، ويطلق التكليف على الأفعال الصادرة عن المكلّف على سبيل المجاز.

قال (دام ظلّه): «وهو حَسن، لأنّه من فعله تعالى. ووجه حُسنه ليس نفعاً عائداً إلى الله تعالى ولا إلى غيره، لقبح تكليف شخص لنفع غيره، ولا دفع ضرر المكلّف، ولا جلب نفع إليه، لتحقّقه في حقّ الكافر مع انتفاء الغرض. فتعيّن أن يكون للتعريض الحصول النفع الذي لا يمكن الابتداء به» (1)(1).

أقول: هنا مسألتان:

الأوّل: اتّفقت المعتزلة على حُسن التكليف، خلافاً للبراهمة(2)(2).

ص: 236


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 54 الفصل التاسع.
2- (2) البراهمة : أحد المذاهب التي يُتعبد بها في بلاد الهند، وقيل: إنّ سبب تسميتهم لانتسابهم إلى رجل يقال له براهم مهد لهم نفي النبوّات، وانتفاء بعثة الرسل.

حجّة المعتزلة : إنّ الله تعالى قد فعله، والله تعالى لا يفعل القبيح.

الثاني: وجه حُسنه .

فنقول: تكليف الله تعالى : إمّا لغرض، أو لا لغرض، والثاني عبث يستحيل صدوره عن الله تعالى، والأوّل، إمّا أن يكون عائداً إليه تعالى، أو إلى غيره، والأوّل محال، لأنّ الغرض العائد إليه إمّا جلب نفع أو دفع ضرر، وكلاهما مستحيل في حقّ واجب الوجود، والثاني، إمّا أن يكون عائداً إلى المكلّف، أو [إلى] (1)(1) غيره، والثاني محال، لأنّ تعذيب الشخص لنفع غيره قبيح، والأوّل إمّا أن يكون جلب نفع إلى المكلّف، أو دفع ضرر عنه، أو تعريضه للوصول إلى أحدهما، والثاني باطل (2)(2)، لأنّ الحكيم لا يبتدئ غيره بالضرر، والأوّل باطل، لأنّ ذلك النفع إمّا أن يكون ممّا يصحّ الابتداء بمثله، أو لا يكون، والأوّل محال، لأنّ توسط المكلّف (3)(3) يكون عبثاً، والثاني محال، لأنّ التكليف متحقّق في حقّ من علم أنّه يكفر (4)(4) ، وأنّه لا يؤمن مع انتفاء النفع، والثالث وهو التعريض الموصل (5)(5) إلى أحدهما ، فإمّا التعريض للوصول إلى الضرر، وهو محال، لأنّ الحكيم لا يقصد ضرر غيره، وإمّا التعريض للنفع، وهو المطلوب.

قال (دام ظلّه): «وهو واجب، خلافاً للأشعرية، وإلاّ لكان الله تعالى مغرياً

ص: 237


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) في ب: محال.
3- (3) في ب، ج : التكليف.
4- (4) العبارة في ب: (متحقّق في حقّ الكافر أنّه يكفر).
5- (5) في ب: للوصول.

بالقبيح، والتالي باطل ، لأنّ الإغراء بالقبيح قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح(1)(1) .

وبيان الشرطية: إنّ المكلّف فيه ميل إلى فعل القبيح، ونفور عن فعل الحسن، فلو لم يقرّر في عقله وجوب الواجب ويكلّفه به، وقبح القبيح ويكلّفه بتركه، لزم الإغراء بالقبيح» (2)(2) .

أقول ذهبت الإمامية، والمعتزلة: إلى أنّ التكليف واجب على الله تعالى، خلافاً للأشاعرة.

واحتجّوا على ذلك : بأنّه لو لم يكلّف من كملت شرائط التكليف فيه، لزم الإغراء بالقبيح، والتالي ،باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : إنّه إذا خلق شخصاً وأكمل عقله وركّب فيه الشهوة الطبيعية، حصل له نفور عن الطاعات، وميل إلى المعاصي، فإذا عرف أنّه غير مكلّف، أقدم على فعل القبائح، وترك الحسن، فلو لم يقرّر في عقله وجوب الواجب وتكليفه به، وقبح القبيح وتكليفه بتركه، وإلاّ لكان مغرياً له بالقبيح.

وأمّا بطلان التالي، فلأنّ الإغراء بالقبيح قبيح.

قال (دام ظلّه):« وشرط التكليف: عِلم المكلّف بصفة الفعل، وبقدر المستحقّ به من الثواب، وقدرته على إيصاله، واستحالة فعل القبيح عليه، وإمكان الفعل، وكونه ممّا يستحقّ به الثواب كالواجب والمندوب، وترك القبيح، وقدرة المكلّف على الفعل» (3)(3).

ص: 238


1- (1) (والله تعالى لا يفعل القبيح) لا يوجد في المصدر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 54 الفصل التاسع
3- (3)نهج المسترشدين في أصول الدين : 54 الفصل التاسع .

أقول: إعلم، إنّ شرائط حسن التكليف، منها ما يرجع إلى المكلَّف تعالى، ومنها ما يرجع إلى ما يتناوله التكليف (1)(1) من الفعل، ومنها ما يرجع إلى المكلّف.

أمّا الأوّل، فأُمور:

الأوّل: كونه عالماً بصفات الأفعال، لئلا يكلّف ما لا يستحقّ به الثواب.

الثاني: كونه عالماً بمقدار المستحقّ فيه (2)(2) من الثواب، لأنّه متى [لم](3)(3) يكن عالماً بذلك لم يؤمن أن يوصل إلى المكلّف بعض ما يستحقّه من الثواب، فيكون التكليف قبيحاً، لأنّه إنّما يحسن بالثواب.

الثالث: كونه قادراً على إيصال ذلك القدر لهذه العلّة.

الرابع: استحالة فعل القبيح، من حيث الحكمة، والإخلال بالواجب، لأنّه متى لم يكن كذلك لا يؤمن منه الإخلال بجميع المستحقّ أو بعضه، فيكون التكليف قبيحاً.

وأمّا الثاني، فأمران:

الأوّل: كونه ممكناً، لأنّ التكليف بالمحال قبيح.

الثاني: أن يكون ممّا يستحقّ به الثواب، وهو الواجب، والمندوب، وترك القبيح.

وأمّا الثالث، فأُمور:

الأوّل: كونه قادراً على ما كلّف به.

ص: 239


1- (1) في ب :المكلّف.
2- (2) في ب، ج: عليه.
3- (3) في أ: (لا)، وما أثبتناه من ب، ج

الثاني: كونه مميّزاً بينه وبين ما لم يكلّفه به .

الثالث: كونه متمكّناً من الآلة فيما يحتاج إليها.

الرابع: كونه متمكّناً من العلم فيما يحتاج إليه. وهذه مندرجة في الأوّل.

قال (دام ظلّه): «وهو ينقسم إلى : علم، وظنّ ، وعمل» (1)(1).

أقول: المكلّف به:

إمّا علم، كوجوب المعرفة بالله .

وإمّا ظنّ، كالفقه.

وإمّا عمل، كالصلاة ، وغيرها.

في اللّطف

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في اللّطف.

وهو ما يَقرُب معه من فعل الطاعة ويبعد عن المعصية، ولم يكن له حظّ في التمكّن»(2)(2).

أقول: هذا حدّ اللّطف.

فالأوّل، كالجنس.

وقولنا: «ولم يكن له حظّ في التمكّن» ، كالفصل، يخرج عنه الآلات، فإنّها وإن كان المكلّف معها أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية، إلاّ أنّ لها حظّ في التمكين.

ص: 240


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 54 الفصل التاسع .
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 55 الفصل التاسع .

[وإنّما قال: «ما يقرب معه من فعل الطاعة ويبعد عن المعصية»، لأنّه لا يقتضي جبر المكلّف، لأنّ الإجبار لا يكون لُطفاً، لأنّه منافٍ للتكليف، ولا شيء اللّطف كذلك، ولا بدّ له من تأثير ما ، وإلاّ لكان وجوده كعدمه، وهو ما ذكره.

وإنّما قال: «ولم يكن له حظّ في التمكّن»، لأنّه له حظّ في التمكين، فدخلت الآلات التي هي شرط القدرة، ويلزم أحد الأمرين: إمّا أن لا يوجد مكلّف ناقص الآلات، وإمّا إخلاله تعالى بالواجب، لأنّ اللّطف واجب على الله تعالى، ومن جملته خلق الآلات، فإن لم يجعلها لمكلّف ما لزم الثاني، وإلاّ لزم الأوّل.

واعلم، أنّ المعتزلة جعلوا اسماً للّطف مشتركاً بين معنيين:

أ - ما يختار معه المكلّف فعل الطاعة، ويسمّى: توفيقاً، وما يختار معه ترك المعصية، ويسمّى: عفّة.

ب -ما يقرّب من الطاعة، بأن يقوّي داعيه إليها ] (1)(1) .

قال (دام ظلّه): «وهو واجب، خلافاً للأشعرية، وإلاّ لكان نقضاً لغرضه تعالى في التكليف، لأنّه تعالى أراد الطاعة من العبد، فإذا علم أنّه لا يختارها، أو لا يكون أقرب إليها إلاّ عند فعل اللّطف، فلو لم يفعله تعالى كان ناقضاً لغرضه، وهو نقص، تعالى الله عنه» (2)(2) .

أقول: ذهبت الإمامية، والمعتزلة : إلى أنّ اللطف واجب، خلافاً للأشاعرة كافّة.

ص: 241


1- (1) أثبتناه من ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 55 الفصل التاسع.

احتجّ أصحابنا : بأنّه لو لم يكن واجباً لكان الله تعالى ناقضاً، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : إنّ الله تعالى أراد الطاعة من العبد وكلّفه بها، فإذا علم أنّه لا يختارها إلاّ عند حصول أمر يفعله به، فلو لم يفعله لكان الله تعالى ناقضاً لغرضه، وكلّ من كان كذلك فهو ناقص، تعالى الله عن ذلك.

وأمّا بطلان التالي، فظاهر.

قال (دام ظلّه): «واللّطف إن كان من فعل الله تعالى وجب فعله عليه، وإن كان من فعل المكلّف وجب عليه تعالى أن يعرّفه إياه، وأن يوجبه عليه، وإن كان من فعل غيرهما لم يجز أن يكلّفه الله تعالى الفعل المطلوب فيه إلاّ بعد أن يعلم أنّ ذلك الغير يفعله لا محالة، إذ لا يصحّ أن يوجبه على ذلك الغير لأجل مصلحة تعود إلى غيره إلاّ أن يكون له فيه مصلحة، كما أوجب على النبيّ (عليه السلام) أداء الرسالة لنفع الغير، ونفعه (عليه السلام)» (1)(1) .

أقول: اللّطف: إمّا أن يكون من فعل الله تعالى، أو من فعل المكلّف، أو من فعل غيرهما.

فإن كان من فعله تعالى، وجب عليه أن يفعله لا محالة، لما تقدّم.

وإن كان من فعل المكلّف، وجب عليه (2)(2) تعالى أن يعرّفه إياه ويوجبه عليه، فإذا أخلّ به كان قد أُتي من قبل نفسه في منعه اللّطف.

ص: 242


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 55 الفصل التاسع .
2- (2) في ب: على الله .

وإن كان من فعل غيرهما، لم يجز الله أن يكلّفه ما ذلك اللّطف فيه إلاّ إذا علم أنّ ذلك الغير يفعله لا محالة، إذ لا يصحّ أن يوجب على ذلك الغير لأجل مصلحة تعود إلى غيره، لأنّ منافع زيد لا تجب على عمرو، اللّهم [إلّا] أن يكون لذلك الغير فيه مصلحة، كما قلنا في تكليف النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أداء الرسالة، فإنّ لا بدّ أن يكون في تحمّله الرسالة نفع له، وإلاّ لما وجب تحمّله لأجل مصلحة الأُمة (1)(1).

في الآلام

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في الآلام.

وهي ضربان: قبيح، وحسن.

فالقبيح: من فعلنا خاصّة، والعوض فيه علينا.

والحسن: إمّا من فعلنا مع الإباحة كذبح الحيوان، أو مع ندبه كالأضحية، أو وجوبه كالهدي، والعوض في ذلك كلّه على الله تعالى.

وإمّا من فعله تعالى، إمّا مع الاستحقاق كالعقاب، أو ابتداءً كالآلام المبتدئة في الدنيا، إمّا للمكلّف أو لغيره كالأطفال.

ووجه حُسنها: العوض الزائد، بحيث يختاره المكلّف مع الألم لو عرض عليه، واللّطف معاً، إمّا للمتألّم أو لغيره.

فبالعوض الزائد يخرج عن الظلم، وباللّطف يخرج عن العبث» (2)(2) .

ص: 243


1- (1) في أ: (لازمة)، وما أثبتناه من ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 55 - 56 الفصل التاسع.

أقول: الألم على ضربين: قبيح، وحسن:

والقبيح: كلّه من فعلنا، والعوض فيه علينا.

والحسن : إمّا أن يكون من فعلنا، أو من فعل الله تعالى.

فالذي من فعلنا : المباح كذبح الحيوان للأكل، والمندوب كذبح الأضاحي، والواجب كذبح الحيوان في النذر والكفّارات، وفي دم المتعة.والعوض في هذه الثلاثة على الله تعالى.

وأمّا ما هو من فعله تعالى : فإمّا أن يكون من جهة الاستحقاق كالعقاب، أو على جهة الابتداء كالآلام الذي يفعلها الله تعالى في دار الدنيا من غير استحقاق، وهي تكون إمّا للمكلّف، أو غيره كالأطفال.

ووجه حسنها: [العوض الزائد ](1)(1)، بحيث يختار المكلّف معه الألم لو عرض عليه.

واللّطف : إمّا للمتألّم، أو لغيره.

وإنّما قلنا: «لا بدّ وأن يكون في مقابلة هذان الأمران»، لأنّ الألم بدون العوض ظلم، وهو قبيح، والألم مع العوض بدون الغرض وهو اللّطف عبث، وهو أيضاً قبيح، والقبيح لا يجوز عليه تعالى، فإذاً يجب أن يكون في الألم غرض لا يحصل إلاّ به، وعوض زائد.

في الأعواض الألم

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في الأعواض.

ص: 244


1- (1) أثبتناه من ب، ج.

وهو النفع المستحقّ الخالي من تعظيم وإجلال.

فالواجب علينا يجب مساواته للألم، والواجب عليه تعالى يجب أن يزيد بحيث يختار المكلّف معه العوض» (1)(1) .

أقول: «النفع»، كالجنس.

وبقوله: «المستحقّ» ، يخرج عنه التفضيل(2)(2) .

وبقولنا : «الخالي من تعظيم وإجلال»، يخرج عنه الثواب.

والعوض: إمّا واجب علينا، أو على الله تعالى، فالأوّل يجب مساواته للألم، وأمّا الثاني فيجب زيادته بحيث يختار المكلّف معه العوض، وإلاّ لكان قبيحاً، ضرورة خلّوه من الفائدة.

قال (دام ظلّه): «واختلف العدلية في العوض عن الألم الصادر عن غير العاقل، كالسباع:

فبعضهم: أوجبه على الله تعالى، لأنّه تعالى مكّنه وجعل فيه ميلاً إلى الإيلام، ولم يجعل له عقلاً زاجراً عنه، فيجب العوض عليه تعالى.

وذهب آخرون: إلى أنّ العوض على المؤلم، لقوله (عليه السلام): (ينتصف للجماء من القرناء)، والانتصاف إنّما يكون بأخذ العوض من الجاني.

وذهب آخرون: إلى سقوط العوض، لقوله ( عليه السلام): (جرح العجماء جُبَارٌ).

ص: 245


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 56 الفصل التاسع .
2- (2) في ب، ج:التفضلي.

والجواب: هذان خبرا واحد، مع قبولهما التأويل، فإنّ الانتصاف أعمّ من أن يكون بأخذ العوض من الجاني أو غيره.

وقوله (عليه السلام): (جرح العجماء جُبَارٌ)، معناه: لا يستحقّ به قصاص. ونحن نقول بموجبه، فإنّ العوض غير القصاص» (1)(1) .

أقول: اختلف أهل العدل في العوض عن الألم الصادر عن غير العاقل كالسباع على ثلاثة أقوال:

قال قوم: إنّ العوض عليه تعالى، لأنّ الله تعالى مكّنها وخلق فيها ميلاً إلى الإيلام، ولم يخلق لها عقلاً زاجراً عنه، مع أنّه يمكن أن لا يخلقها، أو لا يخلق فيها ميلاً، أو يخلق فيها عقلاً زاجراً.

وقال قوم: إنّ العوض عليها، لقوله ( عليه السلام): (ينتصف للجماء من القرناء) (2)(2)، والانتصاف إنّما يكون بأخذ العوض.

وقال قوم: إنّه لا عوض فيه لا على الله تعالى، ولا على المؤلم، لقوله (عليه السلام): (جرح العجماء جُبَارٌ ) (3)(3).

والجواب عن الأوّل والثاني: أنّهما خبرا واحد، فلا يكون حجّة في مثل هذه

ص: 246


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 56 الفصل التاسع .
2- (2) ورد في المصادر الحديثية عند الفريقين بصيغ عديدة، حتّى أورده المجلسي في بحاره بلفظ : (ينتصف) ، و (یقتص ... ) ، و (يأخذ...)، و (يقاد...).
3- (3) مسند أحمد بن حبل 2: 475 مسند أبي هريرة، ط دار الصادر ، بيروت، سنن النسائي 5 : 45 باب المعدن، ط 1 دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت 1348ه، سنن البيهقي 4: 155 باب زكاة الركاز، ط دار الفكر، وغيرها.

المسائل العلمية. سلّمنا، لكنهما(1)(1) قابلة للتأويل، فإنّ الانتصاف أعمّ من يكون بأخذ العوض من الجاني، أو من غيره.

وقوله ( عليه السلام): (جرح العجماء جُبَارٌ)، المراد به أنّه لا يجب به القصاص؛ ونحن نقول بموجبه، ونفي القصاص لا يستلزم نفي العوض.

قال (دام ظلّه): «وهو واجب وإلاّ لزم الظلم» (2)(2) .

أقول: ذهبت الإمامية، والمعتزلة: إلى أنّ العوض واجب، خلافاً للأشعرية.

والدليل عليه : إنّه لولا ذلك لكان ظلماً، وهو قبيح، يستحيل صدوره من الله تعالى، والعلم به ضروري.

قال (دام ظلّه): «وهل يجوز أن يمكّن الله تعالى من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي فعله.

جوّزه أبو هاشم، والبلخي؛ واختلفا: فجوّز البلخي خروجه من الدنيا بغير عوض، بل يتفضّل الله تعالى على الظالم بالعوض ويدفعه إلى المظلوم.

ومنعه أبو هاشم وأوجب التبقية، لأنّ الانتصاف واجب، فلا تعلّق بالتفضّل الجائز.

قال السيّد المرتضى ( رحمه الله): الانتصاف واجب، والتفضّل والتبقية جائزان، فلا يعلّق الواجب بهما »(3)(3) .

ص: 247


1- (1) في ب: كونهما .
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 56 الفصل التاسع .
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين : 56 - 57 الفصل التاسع .

أقول: اختلف العدلية (1)(1) في أنّه هل يجوز أن يمكّن الله تعالى الظالم من المظلوم (2)(2) ولا عوض له في الحال يوازيه:

فجوّزه البلخي (3)(3) ، وأبو هاشم (4)(4) .

ومنعه سيّدنا المرتضى (5)(5).

واحتجّا: بأنّه من المستبعد أن يكون في جنب الظالم القاهر أعواض توازي ظلمه الواصل إلى كلّ واحد واحد، وهذا ضعيف، فإنّه لا استبعاد في أن يحصل له من الآلام التي يفعلها الله تعالى به ما يستحقّ بها أعواضاً كثيرة توازي ما يفعله من الظلم.

ثمّ اختلفا :

فقال البلخي: يجوز خروجه من الدنيا ولا عوض له، بل يتفضّل الله عليه.

وقال أبو هاشم: لا يصحّ، لأنّ التفضّل جائز، والعوض واجب، ولا يصحّ تعلّق الواجب بالجائز.

ص: 248


1- (1) في ب: المعتزلة.
2- (2) في ب، ج : الظلم.
3- (3) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني المعتزلي (ت 319ه)، تقدّم.
4- (4) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.
5- (5) الشريف المرتضى: علم الهدى علي بن الحسين بن موسى بن محمّد الأعرج بن الملقب أبا سبخة بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، المولود ببغداد سنة (355ه)، والمتوفي سنة (436 ه)، له كتب في مختلف صنوف العلم .

ورد عليهما السيّد المرتضى ( رحمه الله): بأنّ الإنصاف واجب، والتبقية والتفضّل جائزان، فلا يتعلّق (1)(1) بهما .

في الرزق

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: في الأرزاق، والآجال، والأسعار.

الرزق عند العدلية: ما صحّ الانتفاع به، ولم يكن لأحد منع المنتفع منه، لأنّه تعالى أمر بالإنفاق من الرزق، ولا يأمر بالحرام.

وعند الأشعرية: الرزق ما أُكل، فالحرام عندهم رزق.

ويجوز طلبه، لأنّ به يندفع الضرر، ولقوله تعالى: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ (2)(2)، وغير ذلك من الآيات»(3)(3).

أقول: هنا مسألتان :

الأولى: في حقيقة الرزق.

اختلف الناس في تفسيره:

فذهب العدلية: إلى أنّه ما صحّ الانتفاع به ولم يكن لأحدٍ منع المنتفع به منه، وهو مشترك بين الانتفاع بالمال والولد والجاه، وغير ذلك، فوجب التحديد به.

ص: 249


1- (1) في ب، ج : (يعلّق الواجب).
2- (2) سورة الجمعة: 10 .
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 57 الفصل التاسع.

وقول المصنّف: «ما صحّ الانتفاع به»، يعني بذلك: ما صحّ عقلاً وشرعاً، ليخرج عنه الحرام.

واحتجوّا على ذلك: بقوله تعالى: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ(1)(1)، أمر بالإنفاق من الرزق، والله (2)(2) لا يأمر بالإنفاق من الحرام.

وذهبت المجبّرة: إلى أنّ الرزق ما أُكل، فعلى هذا يكون الرزق: حلالاً،وحراماً.

المسألة الثانية: في جواز طلبه .

اختلف الناس في ذلك:

فذهب جمهور أهل العلم: إلى جوازه.

وذهب قوم من أهل الكسل: إلى المنع من ذلك.

أمّا الأوّلون، فقد احتجّوا بوجهين:

الأوّل: طلب الرزق دفع الضرر عن النفس، ودفع الضرر عن النفس واجب.

الثاني: قوله تعالى: ﴿فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهُ﴾ (3)(3) ، وقوله تعالى:﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ... ﴾ (4)(4)، وغير ذلك من الآيات.

ص: 250


1- (1) سورة البقرة: 254 .
2- (2) في ب، ج : وأنّه.
3- (3) سورة الجمعة: 10 .
4- (4) سورة البقرة: 198.

[واحتجّ الآخرون - وهم بعض الصوفية - : باختلاط الحلال بالحرام بحيث لا يتميّز، وما هذا شأنه يجب الصدقة به، فيجب على الغني دفع ما في يده إلى الفقير، بحيث يصير فقيراً، ليحلّ له أخذ الأموال الممتزجة بالحرام، ولأنّ في ذلك مساعدة للظالمين، وهي محرّمة.

والحقّ الأوّل، لأنّ الضرورة لا تندفع إلاّ به.

والجواب عمّا ذكروه: نمنع العلم باختلاط الحرام بالحلال، ونمنع قصد نفع الظالمين ](1)(1).

في مسائل الأجل

قال (دام ظلّه): «والأجل: هو الوقت، فأجل الدَين: هو الوقت الذي يحلّ فيه، وأجل الموت: هو الوقت الذي يحصل فيه» (2)(2).

أقول: الأجل، هو: الوقت. فأجل الدَين هو: الوقت الذي يحلّ فيه، وأجل الموت هو: الوقت الذي يحصل فيه.

قال (دام ظلّه): «واختلفوا في المقتول لو لم يقتل:

فقيل: إنّه كان يعيش قطعاً، لأنّه لو كان يموت قطعاً لكان ذابح (3)(3) غنم غيره محسناً إليه.

وقيل: إنّه كان يموت قطعاً، لأنّه لو كان يعيش قطعاً، لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً.

ص: 251


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 57 الفصل التاسع .
3- (3) في المصدر: الذابح.

والوجهان ضعيفان: أمّا الأوّل، فلأنّ الإساءة حصلت باعتبار تفويت العوض على الله تعالى. وأمّا الثاني، فلجواز كون علم الحياة مشروطاً بعدم القتل» (1)(1).

أقول: اختلف الناس في المقتول:

فقال الجمهور: إنّه قد يجوز أن يعيش، ويجوز أن يموت.

وجزم آخرون: بموته.

وجزم آخرون: بحياته.

احتجّ الجازم بالحياة: بأنّه لو كان يموت قطعاً، لكان ذابح غنم غيره غيره محسناً إليه، إذ قد حفظها عليه من التلف، والخروج عن الانتفاع بالكلّية.

واحتجّ القائلون بأنّه يموت قطعاً: بأنّه لو كان يعيش قطعاً، لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً، إذ قد علم الحياة، وبالقتل قد فُقدت.

والجواب عن الأوّل: بأنّه لم يكن محسناً، من حيث أنّه فوت الأعواض على الله تعالى بموتها، ولا شكّ في أنّ العوض عليه تعالى أكبر من العوض علينا.

وعن الثاني: بجواز كون علم الحياة مشروطة بعدم القتل.

في السِعر

قال (دام ظلّه): «والسِعر هو: تقدير البدل في ما تباع به الأشياء»(2)(2).

أقول: السعر، وهو: تقدير البدل في ما تباع به الأشياء.

ص: 252


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 57 الفصل التاسع.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 57 الفصل التاسع.

ولا يقال : هو البدل، لأنّ البدل، هو : الثمن أو السلعة، وليس واحد منهما سعراً.

قال (دام ظلّه): «وهو رُخص وغلاء.

فالرُخص هو : السِعر المنحط عمّا جرت به العادة مع اتّحاد الوقت والمكان.

والغلاء هو: ارتفاع السِعر عمّا جرت به العادة في الوقت والمكان.

وكلّ واحد منهما : إمّا من قبل الله تعالى، أو من قبل العبد. فإن كان السبب من الله فهما من الله، وإن كان من العبد فهما منه» (1)(1) .

أقول: السِعر :قسمان: رُخص، وغلاء (2)(2) .

فالرُخص، هو : السِعر المنحط عمّا جرت به العادة، مع اتّحاد الوقت والمكان.

وإنّما اعتبر «اتحّاد الوقت والمكان»، لأنّ انحطاط سِعر الثلج عمّا جرت به العادة في بلد الجبل في الصيف أو الشتاء يعد رُخصاً، وأمّا انحطاطه عمّا جرت العادة في غير بلد الجبل أو في غير ذلك الزمان لا يُعد رُخصاً (3)(3) .

ص: 253


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 57 الفصل التاسع.
2- (2) العبارة في ب: (السعر: منه رخص، ومنه غلاء).
3- (3) العبارة في ب: (وإنّما اعتبر «اتّحاد الوقت والمكان»، لأنّه لا يقال: إنّ الثلج قد رخص سعره في الشتاء عند نزول الثلج، لأنّه ليس أوان بيعه. ويجوز أن يقال: رخص في الصيف إذا نقص سعره عمّا جرت عادته في ذلك الوقت. ولا يقال: رخص سعره في الجبال المعتادة التي يدوم فيها، لأنّها ليست مكان بيعه. ويجوز ألاّ يقال: رخص سعره في البلاد التي اعتيد بيعه فيها).

والغلاء، هو : ارتفاع السِعر عمّا جرت به العادة في الوقت والمكان، كما قرّرنا .

[واعلم] (1)(1) ، أنّ كلّ واحد منهما : إمّا من قبل الله تعالى، أو من قبل العبد. فإن كان السبب من الله تعالى، فهما من الله تعالى، وإن كان من العبد فهما منه(2)(2) .

ص: 254


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2) العبارة في ب: (فإن كان السبب من الله تعالى كان يقلل جنس المتاع المعيّن، وتكثر رغبة الناس إليه فيحصل الغلاء، وبالعكس يحصل الرخص، وكلاهما لمصلحة المكلّفين، فهما منه . وإن كان السبب منّا، كالاحتكار وقطع الطريق، وبذل المالك المتاع بأقلّ من قيمته، وهي ما يصلح أن يكون عوضاً عنه في نظر العقلاء، فهما منه).

الفصل العاشر:في النبوّة

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل العاشر: في النبوّة.

وفيه مباحث:

في البعثة

الأوّل: النبيّ: هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحدٍ من البشر» (1)(1).

أقول: ب«الإنسان»، يخرج الملَك.

وب« المخبر عن الله تعالى»، يخرج المخبر عن غيره.

وبقولنا: «بغير واسطة أحدٍ من البشر»، يخرج العالم الذي يخبر عن الله تعالى، بواسطة النبيّ.

قال (دام ظلّه): «والحكمة تدعو إلى نصبه(2)(2)، بل هي واجبة، خلافاً للأشعرية.

ص: 255


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين : 58 الفصل العاشر.
2- (2) في المصدر : بعثه.

لأنّ الاجتماع مظنّة التنازع، وإنّما تزول مفسدته بشريعة مستفادة من الله تعالى دون غيره، لعدم الأولوية. وتلك الشريعة لا بدّ لها من رسول متميزّ عن بني نوعه بالمعجزة الظاهرة على يده» (1)(1) .

أقول: الحكمة تدعو إلى نصب النبيّ، خلافاً للبراهمة.

ونصب النبيّ واجب عند الإمامية، خلافاً للأشاعرة.

لنا: أنّ الإنسان لا يستقلّ وحده بأُمور معاشه، لأنّه يحتاج إلى: غذاء، ولباس، ومسكن، وسلاح لنفسه ولمن يعوله من أولاده الصغار وغيرهم، وكلّها صناعة لا يمكن أن يرتّبها صانع واحد إلاّ في مدّة لا يمكن أن يعيش تلك المدّة فاقداً إياها، أو تتعسّر إن أمكن، لكنّها تتيسّر لجماعة يتعاونون ويتشاركون في تحصيل (2)(2) ما يفرغ كلّ واحد منهم لصاحبه عن بعض ذلك، فيتم بمعاوضة،وهي أن يعمل كلّ واحد ما يعمله آخر ومعاوضته، وهي أن يعطي كلّ واحد صاحبه من عمله بأزاء ما يأخذ منه من عمله.

فإذاً الإنسان مدني بالطبع، محتاج في تعيّشه إلى اجتماع يؤدّي إلى صلاح حاله، وهو المراد من قولهم : «الإنسان مدني بالطبع».

ثم نقول : واجتماع الناس على التعاون لا ينتظم إلاّ إذا كان بينهم معاملة وعدل، لأنّ كلّ واحد يشتهي ما يحتاج إليه، ويغضب على من يزاحمه في ذلك، وتدعوه شهوته وغضبه إلى الجور ، فيقع الهرج، ويختل أمر الاجتماع، أمّا إذا كان معاملة وعدل متّفق عليهما، لم يكن كذلك. فإذاً لا بدّ منهما.

ص: 256


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 58 الفصل العاشر.
2- (2) في ب : تحصلها، وفي ج: تحصيله.

والمعاملة والعدل لا تتناول الجزئيات الغير المحصورة، إلاّ إذا كان لها قوانين كلّية، وهي الشرع، فإذاً لا بدّ من شريعة.

ثمّ نقول: والشرع لا بدّ له من واضع يعيّن تلك القوانين ويقرّرها على الوجه الذي ينبغي، وهو الشارع.

ثمّ إنّ الناس لو تنازعوا في وضع الشرع لوقع الهرج المحذور منه، فإذاً يجب أن يتميّز (1)(1) الشارع منهم باستحقاق الطاعة، ليطيعه الباقون في قبول الشريعة.

واستحقاق الطاعة إنّما يتصوّر بآيات تدلّ على كون تلك الشريعة من عند ربّه، وتلك الآيات هي معجزاته، وهي إمّا قولية، وإمّا فعلية، والخواص للقولية أطوع، والعوام للفعليه أطوع، ولا تتمّ الفعلية مجرّدة عن القولية (2)(2)، لأنّ النبوّة والإعجاز لا يحصلان من غير دعوة إلى خير، فإذاً لا بدّ من نبيّ ذي معجزة ظاهرة.

قال (دام ظلّه): «ولأنّ التكاليف السمعية واجبة، لكونها ألطافاً في العقليات. فإنّا نعلم أنّ المواظبة على فعل التكاليف السمعية تقرّب إلى فعل التكاليف العقلية، واللّطف واجب على ما تقدّم.

ولأنّ العلم بالعقاب ودوامه ودوام الثواب من الأُمور السمعية، وهي ألطاف في التكليف، واللّطف واجب» (3)(3).

ص: 257


1- (1) في ب: يمتاز.
2- (2) في ب: القول .
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 58 الفصل العاشر.

أقول: هذان دليلان على وجوب البعثة:

الأوّل: إن كانت السمعيات واجبة، كانت البعثة (1)(1) واجبة، والمقدّم حقّ، فالتالى مثله.

والملازمة ظاهرة، فإنّ السمعيات لا يصحّ العلم بها إلاّ من جهة الرسول، فيكون العلم بها متوقّفاً على البعثة، وكلّما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب.

وبيان صدق المقدّم: إنّ التكاليف السمعية ألطاف في العقليات، وكلّ لُطف واجب.

أمّا الصغرى، فلانّا نعلم قطعاً أنّ الشخص متى كان مواظباً على فعل الواجبات السمعية، كان أقرب إلى فعل الواجبات العقلية.

وأمّا الكبرى، فلما تقدّم من بيان وجوب اللّطف.

الثاني: إنّ العلم بالعقاب، والعلم بدوامه، والعلم بدوام الثواب، لا يحصل إلاّ من النبيّ، وهذه العلوم لُطف في التكليف، واللّطف واجب، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، فالبعثة واجبة.

أمّا إنّ هذا لا يحصل إلاّ من النبيّ، فيأتي بيانه في باب الوعد والوعيد.

وأمّا إنّ هذه العلوم ألطاف، فالعلم به ضروري.

وأمّا إنّ اللّطف واجب، فقد تقدّم.

وأمّا إنّ ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، فتقدّم أيضاً.

ص: 258


1- (1) في أ: (العقليات)، وما أثبتناه من ب، ج .

في العصمة

قال (دام ظلّه):« البحث الثاني: في وجوب العصمة:

لو لم يكن معصوماً لزم نقض الغرض، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية: إنّه إذا فعل معصية، فإمّا أن يتّبع، وهو قبيح لا يقع التكليف به، وإمّا أن لا يتّبع، فتنتفي فائدة البعثة، وهو وجوب اتّباعه. ولأنّه مع وقوع المعصية منه يجب الإنكار عليه ويسقط محلّه من القلوب، فلا يصار إلى ما يأمر به وينهى عنه. ولجاز أن لا يؤدّي بعض ما أمر بأدائه، فيرتفع الوثوق ببقاء الشرع لجواز نسخه.

ومن هذا عُلم أنّه لا يجوز أن تقع منه الصغائر ولا الكبائر، عمداً ولا سهواً ولا خطأ في التأويل.

ويجب أن يكون منزّهاً عن ذلك من أوّل عمره إلى آخره» (1)(1).

أقول: العصمة لُطف يفعله الله تعالى بالمكلّف، لا يكون له معه داعٍ إلى ترك الطاعة وفعل المعصية مع إمكان وجوده.

وبعض الناس جعل المعصوم غير متمكّن من المعصية، وهو خطأ، وإلاّ لم يستحقّ الثواب.

فإذاً الحقّ بقاء المعصوم على الاختيار، فإذا حصلت للإنسان ملكة مانعة من الفجور والإقدام على المعاصي، وانضاف إلى تلك الملكة العلم بما في الطاعة من السعادة، وفي المعصية من الشقاوة، مع خوف المؤاخذة على ترك الأوّل، والفعل المنسي، فقد تكمّلت شرائط العصمة.

ص: 259


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 58 - 59 الفصل العاشر .

إذا عرفت ذلك، فنقول:

أفعال الأنبياء لا تخلو من أربعة:

أحدهما: الاعتقاد الديني.

وثانيهما: الفعل الصادر عنهم من الأفعال الدينية.

وثالثها: تبليغ الأحكام ونقل الشرائع.

ورابعها: الأفعال المتعلّقة بهم في الدنيا.

والقسم الأوّل، اتّفق العقلاء على امتناع الخطأ فيه. وخالف في ذلك الخوارج (1)(1)، حيث جوّزوا الكفر على الأنبياء.

وأمّا الثاني، فقد اختلف الناس فيه، فجوّز بعضهم الكبائر عليهم، و آخرون منعوا منه وجوّزوا الصغائر. والإمامية منعوا من القسمين عمداً

وسهوا، قبل النبوّة وبعدها.

وأمّا الثالث، وهو التبليغ، فقد اتّفق الجمهور على المنع من الخطأ فيه فيه عمداً وسهواً.

وأما الرابع، فقد جوّز أكثر الناس السهو عليهم فيه، ومنعه الإمامية.

والدليل على وجوب العصمة، وجوه:

الأوّل: انّه لو جاز على الرسول الخطأ، لزم نقض الغرض من البعثة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بیان الشرطیة:إنّه إذا فعل معصیة، إمّا أن یُتّبع، أو لا، و الأوّل محال، لأنّ

ص: 260


1- (1) الخوارج: هم أهل النهروان ومن دان بمذهبهم، ويطلق على كلّ من كفّر عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام).

ذلك الفعل قبيح، فلا يكلّف به، والثاني يستلزم عدم وجوب اتّباعه، فتنتفي فائدة البعثة، لأنّ فائدتها هو اتّباع النبيّ.

الثاني: أنّه مع وقوع المعصية يجب الإنكار عليه، ويسقط محلّه من القلوب، فلا يصار إلى ما يأمر به وينهى عنه، فتنتفي فائدة البعثة (1)(1).

الثالث: لو جاز عليه المعصية، لجاز أن لا يؤدّي بعض ما أُمر بأدائه، فيرتفع الوثوق ببقاء الشرع، لجواز نسخه.

إذا ثبت ذلك، فنقول :

قد ظهر من هذا أنّه لا يجوز أن تقع منه صغيرة ولا كبيرة، لا عمداً ولا سهواً ولا خطأ في التأويل، كما ذهبت إليه الإمامية، وذهبوا أيضاً إلى أنّه يجب أن يكون منزّهاً عن ذلك من أوّل عمره إلى آخره، وإلاّ لسقط محلّه، فانتفت فائدة البعثة.

قال (دام ظلّه):« ويجب أن يكون منزّهاً عن دناءة الآباء وعهر الأُمّهات، لئلا يقع التنفير عنه، فتسقط فائدة البعثة»(2)(2).

أقول: يجب أن يكون النبيّ منزّهاً عن كلّ ما ينفّر عن قبول قوله، كدناءة الآباء، وعهر الأُمّهات.

والدليل على ذلك: إنّ كونه غير منزّه عمّا ذكرناه ينفّر عن اتّباعه والانقياد

ص: 261


1- (1) العبارة في ب : (إنّه مع وقوع المعصية منه، إمّا أن يجب الإنكار عليه، أو لا، والثاني محال، لعموم وجوب النهي عن المنكر، والأوّل مستلزم لسقوط محلّه من القلوب، فلا يصار إلى ما يأمر به وينهى عنه، فتنتفي فائدة البعثة).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 59 الفصل العاشر.

له بالعبادة، فيجب تنزهه عنه، فلا يجوز أن يكون في آبائه أو أُمّهاته كافر ولا مبتدع .

قال (دام ظلّه):« ولا يجوز عليه السهو مطلقاً في الشرع وغيره لذلك»(1)(1) .

أقول: لا يجوز عليه السهو مطلقاً (2)(2) ، في الشرع وغيره، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يمتنع أن يسهو عن أداء بعض ما أُمر بأدائه، أو يؤدّي خلافه، فيخلّ ذلك بغرض البعثة، وذلك غير جائز.

وتقريره: ما مرّ.

في كيفية معرفته

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في طريق معرفته:

وهو خلق المعجز على يده عقيب الدعوى.

والمعجز هو: الإتيان بما يخرق العادة مطابقاً للدعوى.

فالإتيان بما يخرق العادة يتناول الثبوت والعدم.

أمّا الثبوت: فكقلب العصا حيّة، وانشقاق القمر.

وأمّا العدم: فكمنع القادر من حمل الكثير عن حمل اليسير، وكمنع العرب عن الإتيان بمثل القرآن العزيز.

والفعل الخارق للعادة: قد يكون متعذّراً فى جنسه كخلق الحياة، وقد

ص: 262


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 59 الفصل العاشر.
2- (2) العبارة في ب: (يجب أن يكون النبيّ ممتنع عليه السهو مطلقاً)

يكون في صفته كقلع مدينة، وكلاهما معجز»(1)(1) .

أقول: الطريق إلى معرفة صدق النبيّ ( عليه السلام)، خلق المعجز على يده عقيب الدعوى.

والمعجز، هو: الإتيان بخارق للعادة مطابق للدعوى المتعذّر.

فالإتيان بخارق العادة، يتناول الثبوت والعدم.

أمّا الثبوت: كقلب العصا حيّة، وانشقاق القمر.

وأمّا العدم: كمنع القادر على حمل الكثير عن حمل اليسير، وكمنع العرب من الإتيان بمثل القرآن المجيد.

فكان قولنا: «الإتيان خارق للعادة»، أولى من قولهم: «هو الفعل الخارق للعادة»، لأنّ الفعل لا يكون إلاّ أمراً ثابتاً.

وقولنا: «الخارق للعادة»، احترازاً مما ليس بخارق للعادة، كطلوع الشمس من المشرق، فإنّه وإن كان متعذّراً، لكنّه لا يكون دليلاً على صدق المدّعي، لكونه معتاداً.

وقولنا : «مطابقاً للدعوى»، لأنّه لو لم يكن مطابقاً لها لم يكن دليلاً، مثل أن يدّعي أن يغور ماء البئر فيغور، فإنّ غوره خارق للعادة ومتعذّر، لكنّه لا يكون دليلاً، لكونه غير مطابق.

ثمّ هذا لا بدّ وأن يكون متعذّراً، لأنّه لا يكون دليلاً على الصدق إلاّ إذا كان من فعله تعالى، ولا يقطع أنّه من فعله تعالى إلاّ إذا كان متعذّراً على غيره.

ص: 263


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 59 الفصل العاشر .

ثمّ إنّه قد يكون متعذّراً في جنسه، كخلق الحياة، فإنّ خلق الأشياء(1)(1) لا يمكن إلاّ لله تعالى، وقد يكون متعذّراً في صفته، كقلع مدينة، فإنّ القلع ممكن، لكن قلع المدينة لا يمكن إلاّ الله تعالى، وكلاهما معجز.

قال (دام ظلّه): «واختلف في جهة إعجاز القرآن:

فقال السيّد المرتضى: إنّه الصرفة، بمعنى: أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضته، بأن سلبهم العلوم التي كانوا يتمكنون بها من معارضة القرآن، لأنّه لو كان معجزاً لا باعتبار الصرفة لكان إعجازه إمّا من حيث ألفاظه المفردة، أو التركيب، أو هما معاً.

والأقسام بأسرها باطلة! لأنّ العرب كانوا قادرين على المفردات، وعلى التركيب، ومن يقدر على المفرد والتركيب، يقدر عليهما بالضرورة.

وقال الجبائيان: إنّ جهة الإعجاز الفصاحة، إذ لو كان جهة الإعجاز الصرفة، لوجدوا ذلك من أنفسهم، ولو وجدوه لتحدّثوا به مع أصحابهم، ولأنّه لو كان ركيكاً في الغاية، لكان الإعجاز أظهر» (2)(2) .

أقول: اختلف المسلمون في جهة إعجاز القرآن:

فذهب السيّد المرتضى (3)(3) ، والنظّام (4)(4) : إلى أنّه (الصرفة)، بمعنى أنّ الله تعالى صرف العرب : منعهم عن معارضته. وهذا يحتمل وجوهاً ثلاثة:

ص: 264


1- (1) في ب: الإنسان.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 59 - 60 الفصل العاشر.
3- (3) الشريف المرتضى: علم الهدى علي بن الحسين بن الموسوي البغدادي (ت 436ه)، تقدّم.
4- (4) إبراهيم بن سيار البصري المعتزلي، أبو إسحاق النظّام (ت 231ه)، تقدّم.

الأوّل: أنّ الله تعالى سلبهم العلوم التي كانوا بها يتمكّنون من معارضة القرآن.

الثاني: أنّ الله تعالى سلبهم الإقدار على ذلك.

الثالث: أنّ الله تعالى سلب دواعيهم إلى المعارضة.

والأوّل اختيار المرتضى!

احتجّ القائل بالصرفة : بأنّه لو لم يكن جهة إعجاز القرآن الصرفة، لكان القرآن إمّا أن يكون معجزاً من حيث ألفاظه المفردة، أو تركبيه، أو هما معاً.

والأقسام الثلاثة باطلة فبطل أن يكون جهة إعجازه غير الصرفة.

وإنّما قلنا: الأقسام الثلاثة باطلة، لأنّ العرب كانوا قادرين على المفردات، وعلى التركيب ومن كان قادراً على المفردات والتركيب، كان قادراً عليهما. فيثبت بذلك أنّ العرب كانوا قادرين على الإتيان بمثل القرآن، وإنّما منعوا منه، فيكون المنع هو الإعجاز.

وقال الجبائيان (1)(1) ، وفخر الدين (2)(2): جهة الإعجاز الفصاحة.

واحتجّوا على فساد الصرفة بوجهين :

ص: 265


1- (1) هما أبو علي، وأبو هاشم المتكلّمان من المعتزلة، وقد تقدّم ذكرهما.
2- (2) فخر الدين الرازي: محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري، فخر الدين أبو عبدالله الرازي، الطبرستاني الأصل، من كبار العلماء بالكلام والمعقولات، فقيهاً شافعياً، مفسّراً، مصنّفاً، معظَّماً عند ملوك خوارزم وغيرهم، ولد بالرّي سنة (544ه)، توفّي بهراة سنة (606 ه) ، له مصنفات كثيرة في التفسير، والفقه، والأصول، والكلام، والإلهيات، والأدب.

الأوّل: أنّ الإتيان بمثل القرآن لو كان مقدوراً للعرب وإنّما منعوا منه، لوجب أن يجدوا ذلك من أنفسهم بالضرورة ، وأن يفرّقوا بين حال التخلية وحال المنع، ولو وجدوا ذلك لوجب أن يحدّثوا به في مجالسهم ومع أصحابهم، لأنّا نعلم بالضرورة أنّ العاقل إذا وجد من نفسه ذلك، كان كالملجأ إلى التحدّث به مع إخوانه وأقرانه، ولو تحدّثوا به لنُقل واشتهر وتواتر، لأنّه من الوقائع العجيبة التي تتوفّر الدواعي (1)(1) على نقلها، وكلّ مقام من هذه المقامات ضروري، لمن عرف الفوائد.

فلمّا لم يقع شيء من ذلك، دلّ على بطلان القول بالصرفة.

الثاني: لو كان جهة الإعجاز الصرفة، لوجب أن يكون القرآن في غاية الركاكة ، لكنّه ليس في غاية الركاكة، فلا يكون جهة الإعجاز الصرفة.

بيان الملازمة: إنّ عجزهم عن الإتيان بمثله مع كونه في غایة الرکاکة أبلغ في باب الدلالة من عجزهم عن الإتیان بمثله مع کونه فصيحاً، فلمّا لم يكن ركيكاً، علمنا بطلان القول بالصرفة.

وتوقّف في هذه المسألة سديد الدين سالم بن عزيزة(2)(2) من الإمامية.

ص: 266


1- (1) في ب: (يتوفّر الداعي).
2- (2) الشيخ سديد الدين سالم بن محفوظ بن عزيزة بن وشاح السوراني، عالم فقيه فاضل من مشايخ المحقّق الحلّي المتوفى سنة (667ه) ، يروي عنه السيّد ابن طاوس المتوفى سنة (664 ه) ، ووالد العلاّمة الحلّي، له مصنفات، منها كتاب المنهاج في الكلام.

في أدلّة إثبات نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في إثبات نبوّة نبيّنا محمّد(صلّى الله عليه و آله):

ويدلّ عليه: أنّه [تعالى] (1)(1) أظهر على يده المعجزة عقيب الدعوى، فيكون رسولاً (2)(2) حقاً.

أمّا ظهور المعجزة على يده: فلأنّه ظهر على يده القرآن، وهو معجز، لأنّه تحدّى به العرب فعجزوا عن معارضته، وانقاد بعضهم إلى تصديقه، وبعضهم إلى المحاربة والقتل، مع أنّ المعارضة - لو أمكنت - أسهل.

ولأنّه ظهر على يده أفعال خارقة للعادة: كانشقاق القمر، ونبوع الماء.

وكلّ من ظهر على يده المعجزة فهو نبيّ، لأنّ العلم الضروري حاصل بأنّ من ادّعى رسالة ملك، وطلب من الملك أن يخالف عادته تصديقاً له، فخالف الملك عادته مرّة بعد أُخرى عقيب طلب رسوله منه، فإنّه صادق في دعواه.

وكذلك النبيّ ( عليه السلام) لمّا ادّعى الرسالة وأظهر المعجزات - كالقرآن، وانشقاق القمر، وغيرهما - فإنّا نعلم بالضرورة صدقه» (3)(3)

أقول: نبيّنا محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله) رسول الله حقّاً، خلافاً للمشركين، كاليهود، والنصارى، والدهرية.

ص: 267


1- (1) أثبتناه من المصدر.
2- (2) في المصدر : نبيّنا .
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 60 الفصل العاشر.

ويدلّ على قولنا : أنّه (صلّى الله عليه وآله) ادّعى النبوّة، وظهر على يده المعجز عقيب الدعوى، مقرونة بالتحدّي، وكلّ من كان كذلك فهو صادق.

أمّا أنّه ادّعى النبوّة، فالعلم به ضروري (1)(1) .

أمّا بيان أنّه ظهر على يده المعجز، فهو : أنّه ظهر على يده القرآن، والقرآن معجز، فيلزم أنّه ظهر على يده المعجز.

أمّا أنّه ظهر على يده القرآن، فهو معلوم بالضرورة.

وأمّا أنّ القرآن معجز، فلأنّه تحدّى به العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة، فعجزوا عن الإتيان بمثله، وكلّما كان كذلك كان فهو معجز، فالقرآن

معجز.

بيان أنّه تحدّى به العرب: قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (2)(2) ، فلمّا لم يأتوا بذلك، قال: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ (3)(3) ، فلمّا لم يأتوا، قال: ﴿قُلْ لَئِيْنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ (4)(4) ، وهذا أيضاً معجز.

بيان أنّهم عجزوا عن معارضته : أنّه سألهم الإتيان بمثله ولم يسألهم الحرب، فعدلوا عن الإتيان بمثله - وهو كلام ، والكلام من أسهل الأفعال على

ص: 268


1- (1) لا يوجد في ب.
2- (2) سورة هود: 13 .
3- (3) سورة البقرة : 23
4- (4) سورة الإسراء: 88.

القادر عليه - إلى الحرب التي لم يسألهموها، مع علمهم بما في الحرب من ضروب المشاق ّوالآلام والمكاره ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في حربه، وبلغوا في ذلك أبعد الغايات، ولا شبهة على العاقل في صعوبة ذلك.

وكلّ عاقل يعلم بالضرورة أن لا يعدل عن الأسهل مع بلوغ غرضه به إلى الأشقّ، مع أنّه لو فعل وبلغ فيه أقصى الغاية لما بلغ غرضه به، إلاّ لتعذّر الأسهل وعجزه عنه .

وإنّما قلنا : إنّهم لو فعلوا الأسهل لبلغوا غرضهم، ولو فعلوا الأشقّ، لم يبلغوا غرضهم، لأنّ غرضهم إنّما كان في إبطال قوله وإظهار كذبه، ولا شبهة أنّه إنّما يبطل قوله لو جاؤوا بمثل هذا القرآن لا بأن يقهروه بالحرب، لأنّه إنّما تحدّاهم بالإتيان بمثل القرآن لا بالحرب، فقد بان أنّهم لو أتوا بمثل القرآن لبطل قوله وسقطت حجّته، ولو قهروه بالحرب لم يبطل قوله.

بيان أنّ كلّ ما كان كذلك كان معجزاً : إنّ المعجز كما تقدّم: هو الفعل الخارق للعادة، المطابق للدعوى، المتعذّر في الجنس أو الصفة، ولا شكّ في أنّ القرآن على ما قرّرناه بهذه الصفات، فيلزم أن يكون معجزاً.

وأيضاً، فإنّه قد ظهر على يده أُمور كثيرة خارقة للعادة، كانشقاق القمر، وحنين الجذع، ونبوع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من الوقائع الكثيرة، وهذه الوقائع الجزئية وإن كان كلّ واحد منها غير متواتر، إلاّ أنّ المشترك متواتر .

وأمّا أنّ كلّ من ظهر على يده المعجز عقيب الدعوى فهو نبيّ صادق، أنّ المعجز [من فعل] (1)(1) من لا يفعل القبيح ، فيجب أن يكون جارياً مجرى قوله

ص: 269


1- (1) أثبتناه من ب، ج.

صدقت، وتصديق الكاذب قبيح، وقد تقدّم بيان ذلك، فيجب أن يكون من ظهر على يده المعجز صادقاً، والعلم به ضروري.

ألا ترى أنّ شخصاً لو ادّعى في حضرة بعض الملوك أنّه وكيله أو رسوله، وقال آية صدقي أنّ الملك في هذا الوقت أو في غيره من الأوقات المعينة يفعل فعلاً ممّا لم تجر عادته بفعله، وفرضنا أنّ الحاضرين علموا أنّ الملك حكيم غرضه صلاح رعيّته، أو معاملة فيما جعله وكيلاً فيه، فإنّه متى فعل لا بدّ أن يعلم السامعون صدقه. فتثبت صحّة مقدّمات هذه الدلالة، فيلزم صحّة التلازم عنها، وهو أنّ محمّداً (عليه السلام) صادق.

في احتجاج اليهود ببطلان النسخ

قال (دام ظلّه):« واحتجاج اليهود: بأنّ النسخ باطل، لأنّ المكلّف به إن كان مصلحة استحال نسخه، وإلاّ استحال الأمر به. وبأنّ موسى (عليه السلام) قال: (تمسكوا بالسبت أبداً). وبأنّ موسى (عليه السلام) إن بيّن دوام شرعه استحال نسخه، وإن بيّن انقطاعه وجب نقله، وإن لم يبيّن شيئاً اكتفى من شرعه بالمرّة، باطل؛ لأنّ الأوقات مختلفة في المصالح، فجاز النسخ لتغيّر المصلحة. وقول موسى (عليه السلام) غير معلوم، والتواتر قد انقطع ، لأنّ بخت نصّر قتل اليهود إلاّ من شذّ.

سلّمنا، لكن لفظ (التأبيد) لا ينافي في النسخ، لوروده في التوراة في أحكام منسوخة عندهم. وبيان الانقطاع لم ينقل، لانقطاع تواترهم» (1)(1) .

ص: 270


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 60 - 61 الفصل العاشر.

أقول: احتجّت اليهود ( لعنهم الله) على مذهبهم بوجوه:

الأوّل: قالوا: النسخ باطل، فنبوّة محمّد غير ثابتة. والملازمة ظاهرة .

وبيان المقدّم: إنّ المأمور إن كان لمصلحة استحال النهي عنه، وإلاّ استحال الأمربه.

الثاني: قال موسى (عليه السلام): (تمسّكوا بالسبت أبداً) (1)(1)، وذلك يدلّ على دوام شرعه .

الثالث: أنّ موسى( عليه السلام) إمّا أن يكون قد بيّن دوام شرعه، أو انقطاعه، أو لم يبيّن شيئاً، والأخيران باطلان، فتعيّن الأوّل. أمّا بطلان الثاني، فلأنّه لو بيّن انقطاع شرعه لوجب نقله، لأنّه ممّا تتوفّر الدواعي على نقله. أمّا بطلان الثالث، فلأنّه يستلزم الاكتفاء من شرعه بالمرّة، وهو باطل. وإذا كان قد بيّن دوام شرعه استحال النسخ.

والجواب عن الأوّل: أنّ الفعل قد يكون مصلحة في وقت ومفسدة في ،آخر ولمكلّف دون آخر، فيأمر به في وقت كونه مصلحة، وينهى عنه في وقت كونه مفسدة، كما في حقّ المريض يكون الدواء مصلحة له في وقت دون آخر، فجاز النسخ لاختلاف الأوقات في المصالح.

وعن الثاني: بالمنع من الخبر، ودعوى تواتره باطلة، لأنّ بخت نصّر (2)(2)

ص: 271


1- (1) مضمون في التوراة، سفر الخروج، الإصحاح العشرين 8 - 12 .
2- (2) من ملوك بابل نبوخذ نصر، حاكم الإمبراطورية البابلية، عاش قبل الميلاد بحوالي ستمائة عام.

استأصلهم إلاّ من شذّ، فلا يتحقّق تواترهم.

سلّمنا، لكن لفظ (التأبيد) لا ينافي في النسخ، لوروده في التوراة في أحكام منسوخة عندهم، كما جاء في التوراة: «إنّ الله تعالى قال لنوح عند خروجه من الفلك: إنّي جعلت كلّ دابّة حيّة مأكلاً لك ولذرّيتك، وأطلقت ذلك لكم، كنبات العشب أبداً (1)(1) ، ما خلا الدم فلا تأكلوه»(2)(2) ، ثمّ حرّم على لسان موسى(عليه السلام) كثيراً من الحيوانات، وجاء فيها: «قدّموا إلىَّ كلّ يومين خروفين، خروفاً غدوة، وخروفاً عشيّة، بين المغارب، قرباناً دائماً لاحقاً بكم» (3)(3)(4)(4) ، ثم انقطع ذلك الدوام.

وقال أيضاً في موضع منها: «كلّ عبد خدم ستّ سنين يعرضه على العتق،

ص: 272


1- (1) العبارة في ب: (وأطلقت لكم نبات العشب أبداً).
2- (2) ورد النص في الكتاب المقدّس هكذا : ( وبارك الله نوحاً وبنيه وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض. 2 ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كلّ حيوانات الأرض وكلّ طيور السماء. مع كلّ ما يدبّ على الأرض، وكلّ أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. 3 كلّ دابة حيّة تكون لكم طعاماً كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. 4 غير أنّ لحماً بحياته دمه لا تأكلوه) . ( الأصحاح التاسع من سفر التكوين).
3- (3) النص في التوراة هكذا : «وإليك ما تقدّمه على المذبح: حملان حوليان كلّ يوم بصورة مستمرّة، تقدّم أحد الحملين في الصباح، وتقدّم الثاني في المساء... هي قربان محرقة الربّ، فتكون محرقة دائمة أمام الربّ مدى أجيالكم» (كتاب العهد القديم/ التوراة/ سفر الخروج: باب 29 المحرقات اليومية، ط مصر)، وما موجود منقول عن كتاب المحصول، للرازي 3: 360 .
4- (4) العبارة في ب: (قدّموا إليَّ كلّ يوم خروف غدوة، وخروف عشيّة بين المغارب قرباناً دائماً لاحقاً بكم).

فإن لم يقبل ثقبت أُذنه ويستخدم أبداً»(1)(1)، وفي موضع آخر: «يستخدم خمسين

سنة، ثمّ يعتق»، وغير ذلك من الأحكام.

وإذا كان كذلك، فلِمَ لا يجوز أن يكون المراد مع قيام الأدلّة التي قدّمناها على وقوع النسخ بشريعة محمّد (عليه السلام).

وعن الثالث: أنّه بيّن انقطاع شرعه ، ولم ينقل بالتواتر، لانقطاع تواترهم.

في أشرفية الأنبياء

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: [في أنّ ] (2)(2) الأنبياء أشرف من الملائكة:

لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ َونُوحاً وآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمينَ﴾ ، ولأنّهم يعبدون الله مع معارضة القوى الشهوية لهم» (3)(3).

ص: 273


1- (1) النص في التوراة هكذا:« إن اشتريت عبداً عبرانياً، فليخدمك ستّ سنوات، وفي السنّة السابعة تطلقه حرّاً مجاناً ... لكن إذا قال العبد: أحبّ مولاي وزوجتي وأولادي، ولا أريد أن أخرج حرّاً، يأخذه سيّده إلى قضاة المدينة ، ثمّ يقيمه لصق الباب أو قائمته، ويثقب أذنه بمخرز ، فيصبح خادماً له» (كتاب العهد القديم / التوراة/ سفر الخروج: باب 21 أحكام مختصّة بالعبيد، ط مصر ) ، وكذلك: إذا اشتريت عبرانياً أو عبرانية، وخدمك ستّ سنوات، ففي السنّة السابعة تطلقه حرّاً من عندك... ولكن إذا قال لك العبد: إنّني لا أريد أن أتركك لأنّه قد أحبّك وأحبّ بيتك وتمتّع بالخير عند، فخذ مثقباً واثقب به أذنه أمام قضاة المدينة، فيصبح لك العبد عبداً مدى الحياة»(كتاب العهد القديم/التوراة/ سفر التثنية: باب 15 تحرير العبيد، ط مصر).
2- (2) أثبتناه من المصدر.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 61 الفصل العاشر.

أقول: اختلف الناس في ذلك:

فذهبت الإمامية، وجماعة من الأشاعرة: إلى أنّ الأنبياء (عليهم السلام) أشرف من الملائكة.

وقالت المعتزلة، والفلاسفة: بل الملائكة أشرف.

احتجّ أصحابنا بوجهين:

الأوّل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعالَمينَ ﴾ (1)(1) .

الثاني: أنّ الأنبياء يعرفون الله تعالى ويعبدونه مع كثرة الصوارف ومعارضة القوى الشهوانية والغضبية، وليس للملائكة شيء من ذلك، فتكون طاعة البشر أشقّ، فيكون أفضل، لقوله (عليه السلام): (أفضل العبادات أحمزها) (2)(2).

قال (دام ظلّه): «احتجّت المعتزلة: بقوله تعالى: ﴿ما نَهَاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ ، وبقوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً الله ولا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ .

ص: 274


1- (1) سورة آل عمران: 33.
2- (2) ورد بهذا اللفظ في كتب العامّة والخاصّة، والرواية المشهور بلفظ: (أفضل الأعمال أحمزها)، ذكره المجلسي في (بحار الأنوار 191/67، باب النيّة وشرائطها)، ط3 دار إحياء التراث العربي، بيروت 1403ه، والإجي في (المواقف 454/3) ، ط 1 لبنان دار الجيل 1417ه، والفخر الرازي في تفسيره (217/2 تفسير: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا)، و 5 / 156 تفسير: (وأتموا الحجة والعمر الله» .

والجواب: المراد ب- ﴿إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ﴾ ، أي: لا تغتذيان، ولأنّ تفضيل الملائكة وقت مخاطبة إبليس لا يقتضي تفضيلهم وقت الاجتباء، [ولأنّه حكاية عن قول إبليس ](1)(1)، وذكر الملائكة عقيب المسيح لا يدلّ على أنّهم أفضل، لأنّ بعضهم ذهب إلى أنّ المسيح ابن الله، وبعضهم ذهب إلى أنّ الملائكة بنات الله، فنفى الله تعالى عنهم الاستنكاف عن العبودية»(2)(2) .

أقول: احتجّت المعتزلة على مذهبهم بوجهين:

الأوّل: قوله تعالى: ﴿ما نَهَاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ﴾(3)(3) ،جعل الغاية الوصول إلى درجة الملائكة، فلو لم يكونوا أشرف، لما كان كذلك.

الثاني: قوله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً الله وَلا اَلْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (4)(4) ، ولا يُثني في مثل هذا إلاّ بالأعظم والأشرف، كما يقال : لن يستنكف الوزير من الحضور عندي ولا السلطان، ولا يصحّ العكس.

والجواب عن الأوّل: أنّ الملائكة لا تغتذي، فإرادته إنّما نهاكما عن الشجرة ، حتىّ لا يغتذيان كالملائكة، وهذا لا يدلّ على الأفضلية.

وعن الثاني(5)(5) : أنّه إنّما يدلّ على الأفضلية، لو أراد التأكيد بالمسيح كما قلنا في المثال، وليس المراد ذلك، بل للردّ على فرقتين:

ص: 275


1- (1) أثبتناه من المصدر.
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين : 61 الفصل العاشر .
3- (3) سورة الأعراف: 20 .
4- (4) سورة النساء: 172 .
5- (5) في ب: (وعن ب).

إحداهما: ذهبت إلى أنّ المسيح ابن الله.

وبعضهم : ذهب إلى أنّ الملائكة بنات الله تعالى.

فردّ على الفرقة الأولى، بقوله: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ﴾.

وعلى الفرقة الثانية، بقوله: ﴿ولا الْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ﴾.

ص: 276

الفصل الحادي عشر:في الإمامة

اشارة

قال (دام ظلّه):« الفصل الحادي عشر: في الإمامة.

وفيه مباحث:

في حدّ الإمامة

الأول: الإمامة: رئاسة عامّة لشخص من الأشخاص في أُمور الدين والدنيا» (1)(1) .

أقول: هذا تعريف الإمامة:

ف «الرئاسة»، جنسها، وما بعدها فُصولها .

قولنا : «عامّة»، يميّزها من الرئاسة الخاصّة.

وقوله: «في أُمور الدين والدنيا»، يميّزها عمّا ليس كذلك.

وقوله: «الشخص من الأشخاص»، يميّزها من أن تكون لشخصين، أو أشخاص.

ص: 277


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 62 الفصل الحادي عشر.

وأمّا جنسها البعيد، فهو النسبة ، وقولنا : «الرئاسة» تتضمّنه.

واعترض : بانتقاضه بالنبوّة، لانطباق الحدّ المذكور عليه.

والجواب من وجهين:

الأوّل: أنّ النبيّ يصدق عليه أنّه إمام، لقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً﴾ (1)(1) . الثاني: أن نريد الحدّ بقولنا: نيابة عن النبيّ.

قال (دام ظلّه):« وهي واجبة على الله تعالى، لأنّها لُطف، وكلّ لُطف واجب، فالإمامة واجبة.

أمّا الصغرى، فضرورية لأنّا نعلم بالضرورة أنّ الناس متى كان لهم رئيس يردعهم عن المعاصي ويحرّضهم على فعل الطاعة، فإنّ الناس يصيرون إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد.

وأمّا الكبرى، فقد تقدّمت» (2)(2) .

أقول: اختلف الناس في وجوب الإمامة:

فذهب الأصمّ (3)(3) ، وهشام بن الحكم (4)(4) من المعتزلة، والنجدات(5)(5) من

ص: 278


1- (1) سورة البقرة: 124 .
2- (2) نهج المستر شدين في أصول الدين: 62 الفصل الحادي عشر.
3- (3) الأصم : أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي (225ه)، صاحب المقلات في الأُصول، كان يخطئ الإمام عليّ (عليه السلام) في أفعاله ويصوّب معاوية.
4- (4) الظاهر حصول خلط هنا، فالصحيح هو (هشام الفوطي صاحب أبو بكر الأصم)، وهو أبو محمّد هشام بن عمرو الفوطي المعتزلي، رأس الفرقة الهاشمية، كان من أصحاب أبي الهذيل وانحرف عنه ، توفي سنة (226ه).
5- (5) النّجدات: فرقة من الخوارج أصحاب نجدة بن عامر الحنفي صاحب البدع، وهم على فرق متعدّدة.

الخوارج: إلى أنّها واجبة.

وذهب الباقون من المسلمين: إلى أنّها واجبة. ثمّ اختلفوا في مقامين:

الأوّل: أنّ وجوبها بالعقل، أو بالسمع:

فذهبت الإمامية، ومعتزلة بغداد ، وأبو الحسين البصري (1)(1): إلى الأوّل.

وذهبت الأشاعرة، وأبو علي، وأبو هاشم(2)(2)، وأتباعهما: إلى الثاني.

الثاني: اختلف القائلون بوجوبها بالعقل: في أنّها واجبة على الله تعالى، أو على الخلق:

فذهبت الإمامية : إلى الأوّل.

وذهب أبو الحسين البصري، وغيره: إلى الثاني.

والحقّ، مذهب أصحابنا الإمامية!

والدليل على ذلك، أن نقول :

الإمامة لُطف، واللطف واجب على الله تعالى، فالإمامة واجبة على الله تعالی.

أمّا الصغرى، فلأنّا نعلم أنّ الناس متى كان لهم رئيس يخافون سطوته، فإنّهم يكونون إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد، وبالعكس عند خلوّهم من مثل هذا الرئيس.

ص: 279


1- (1) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
2- (2) الجبائيان أبو علي محمّد بن عبد الوهاب (ت 303ه) ، وابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمّد (ت 321ه).

وأمّا الكبرى، فقد مضى بيانها.

لا يقال : إنّما يجب اللّطف على الله تعالى إذا كان من فعل المكلّف، بل كان من فعل الله تعالى، فلِمَ لا يجوز كون الإمامة باختيار المكلّف، فيوجبها الله عليهم، ولا تكون واجبة عليه !

لأنّا نقول: الإمام يجب أن كون معصوماً، على ما يأتي، والعصمة أمر خفي لا يطّلع عليه أحد غير الله تعالى، فلا يكون نصب الإمام إلاّ من الله تعالى، ولأنّ تفويض نصب الإمام إلى الرعية يفضي إلى الهرج والمرج، فلا يجوز.

قال (دام ظلّه): «لا يقال: اللّطف إنّما يجب إذا لم يقم غيره مقامه، أمّا مع قیام غیره مقامه فلا يجب، فلم قلتم: أنّ الإمامة من قبيل القسم الأوّل؟!

أو نقول: إنّما يجب اللّطف إذا لم يشتمل على وجه قبح، فلم لا يجوز اشتمال الإمامة على وجه قبح لا تعلمونه؟

ولأنّ الإمامة إنّما تكون لُطفاً إذا كان الإمام ظاهراً مبسوط اليد فتحصل معه (1)(1) منفعة الإمامة، وهو الانزجار عن المعاصي (2)(2)، أمّا مع غيبة الإمام وكفّ يده فلا تجب، لانتفاء الفائدة.

لأنّا نقول: التجاء العقلاء في جميع الأصقاع والأزمنة إلى نصب الرؤساء في حفظ نظامهم، يدلّ على انتفاء طريق آخر سوى الإمامة.

ووجوه القبح معلومة محصورة، لأنّا مكلّفون باجتنابها، فلا بدّ وأن تكون

ص: 280


1- (1) في المصدر: (ليحصل منه).
2- (2) في المصدر: (انزجار العاصي).

معلومة، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق. ولا شيء من تلك الوجوه متحقّقاً في الإمامة.

والفائدة موجودة وإن كان الإمام غائباً، لأنّ تجويز ظهوره في كلّ وقت لُطف في حقّ المكلّف» (1)(1).

أقول: لمّا ذكر الحجّة على وجوب الإمامة على الله تعالى، أخذ في الاعتراض عليها، فذكر أقوى ما يتمسّك به المخالف، وهو وجوه:

الأوّل: أنّ الإمامة إنّما تكون واجبة إذا كانت لُطفاً لا يقوم غيرها ،مقامها، وهو ممنوع، فإنّه على تقدير قيام غيرها مقامها، يستحيل الجزم بوجوبها.

الثاني: لا نسلّم أنّ اللّطف واجب مطلقاً، لكن إنّما يكون واجباً إذا خلا من جهات القُبح، فإنّ الفعل المشتمل على نوع مفسدة وإن اشتمل على مصالح كثيرة، يستحيل صدوره من الله تعالى، وإذا كان كذلك، فلم لا يجوز أن تكون الإمامة وإن كانت لُطفاً إلاّ أنّها قد اشتملت على نوع مفسدة خفية علينا.

وعلى هذا التقرير، استحال الجزم بوجوبها على الله تعالى.

الثالث: لا نسلّم أنّ الإمامة مطلقاً لُطف، وإنّما تكون لُطفاً إذا كان الإمام ظاهراً مبسوط اليد، فإنّ الفائدة وهو الزجر (2)(2) عن المعاصي، وتوفّر الدواعي على الطاعات إنّما يحصل إذا كان ظاهراً مبسوط اليد، أمّا إذا كان مستوراً خائفاً، فإنّه لا يكون لُطفاً، وذلك ظاهر.

ص: 281


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 63 الفصل الحادي عشر.
2- (2) في ب: الانزجار.

والجواب عن الأوّل (1)(1) : أنّ مسارعة الأذهان في سائر الأماكن، إلى أنّ الزجر عن الفساد إنّما يكون بالسلطان القاهر يقتضي انحصاره فيه، والتجاء العقلاء في جميع الأصقاع والأزمنة إلى نصب الرؤساء في حفظ نظامهم يدلّ على انتفاء طريق آخر سوى الإمامة.

وعن الثاني: من وجهين :

الأوّل: إنّا نعلم القبائح بأسرها، وهي منتفية عن الإمامة، فتكون الإمامة واجبة.

أمّا المقدّمة الأُولى، فلأنّا مكلّفون باجتنابها، والتكليف بما لا يعلم تكليف بما لا يطاق، فتكون القبائح بأسرها منحصرة معلومة، وليس شيئاً منها موجوداً في الإمامة.

وأمّا المقدّمة الثانية، فظاهرة، قد مرّ تقريرها.

الثاني: أنّ المفسدة إمّا أن تكون لازمة للإمامة، أو عارضة.

فإن كان الأوّل، لزم من تصوّرها تصوّر المفسدة، واستحال تكليفنا بها، لاستحالة وجوب ما يشتمل على مفسدة، وأظهر في الاستحالة أن يكون التكليف عقلياً .

وإن كان الثاني، كانت الإمامة واجبة عند عدم المعارض، ويمكن زواله.

وعن الثالث: أن نقول : الإمامة لُطف مطلقاً.

أمّا إذا كان منبسط اليد، فظاهرة.

ص: 282


1- (1) في ب ورد :هكذا: (والجواب عن أ) ، وكذلك باقي التفريعات.

وأمّا إذا لم يكن، فلأنّ المكلّف يجوّز ظهوره في كلّ وقت، فيكون ذلك زاجراً له عن الإقدام على المعصية، فتحقّق كونها لُطفاً.

وأيضاً، فلم لا يجوز أن يكون اللّطف هو كونه موجوداً.

لا يقال: يلزم منه أن يكون الله تعالى فاعلاً للقبيح، من حيث إخلاله بالإمام القاهر اليد.

لأنّا نقول: إنّ الله تعالى إنّما يفعل اللّطف على وجه لا ينافي التكليف، وخلق الله الأعوان للإمام ينا في التكليف، فإنّ لُطف الإمام إنّما يحصل بخلق الإمام وتمكينه والنص عليه، وهذا قد فعله الله تعالى، وبتحمّله للإمامة، وهو قد فعله، وبنصرة الرعيّة له، وهو لم تفعله الرعيّة، فيكون ترك اللّطف من جهتهم.

في صفات الإمام

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في صفات الإمام:

يجب أن يكون معصوماً، وإلاّ لزم التسلسل، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية: إنّ العلّة المقتضية لوجوب نصب الإمام جواز الخطأ على المكلّف، فلو جاز عليه الخطأ لوجب افتقاره إلى إمام آخر، فيكون لُطفاً له وللأُمّة أيضاً، ويتسلسل.

ولأنّه الحافظ للشرع، لقصور الكتاب والسُنّة على تفاصيل الأحكام.

والإجماع لا بدّ له من دليل، إذ صدوره عن غير دليل ولا أمارة يستلزم القول في الدين بمجرّد التشهّي، والأمارة يمتنع الاشتراك فيها من العقلاء، ولا نحيط بالأحكام، إذ أكثرها مختلف فيها.

ص: 283

والقياس ليس حجّة:

أمّا أوّلاً: فلأنّه يفيد الظنّ الذي قد يخطئ غالباً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ مبنى شرعنا على جمع المختلفات، وتفريق المتماثلات، وحينئذ لا يتم القياس.

والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام.

فلو جاز عليه الخطأ لم يؤمن حفظه للشرع» (1)(1) .

أقول: ذهبت الإمامية : إلى أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً، خلافاً لغيرهم، وعوّلوا على وجوه [ ذكر المصنّف منها هنا وجهين ](2)(2):

الأوّل: وتقريره أن نقول:

لو لم يكن معصوماً، لزم إثبات ما لا يتناهى من الأئمّة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية: إنّ الإمام إنّما وجب لكونه لُطفاً للمكلّفين (3)(3) الجائز عليهم الخطأ، والإمام مكلّف، فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى لُطف، وهو إمام آخر، [وننقل الكلام إليه ، ويتسلسل ] (4)(4) .

وأمّا بطلان التالي، فظاهر.

ص: 284


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 63 الفصل الحادي عشر.
2- (2) في أ، ج: (ذكر الأوّل منها هنا)، وما أثبتناه من ب.
3- (3) في أ، ج : (المكلّف)، وما أثبتناه من ب.
4- (4) أثبتناه من ب.

الثاني: الإمام حافظ للشرع، فيجب أن يكون معصوماً.

أمّا الصغرى، فلأنّا مكلّفون بالضرورة، فلا بدّ من حافظ يحفظ الشرع يوصله إلينا، والحافظ للشرع إمّا أن يكون هو القرآن، أو السُنّة، أو الإجماع، أو القياس، أو البراءة الأصلية [أو بعض الأُمّة ](1)(1) .

أمّا الكتاب والسُنّة : فلا يصلحان لحفظ الشرع ! (2)(2) .

أمّا أولاًّ، فبالإجماع.

وأمّا ثانياً، فلعدم إحاطتها بجميع الأحكام الجزئية (3)(3) .

والثالث - [أي: الإجماع ] - أيضاً باطل، وإلاّ لزم الدور (4)(4) .

وبيان الملازمة : (5)(5) إنّ الإجماع إنّما يكون حافظاً للشرع لو علمنا أنّه حجّة، وعلمنا بكونه حجّة إمّا أن يكون عقلياً أو نقلياً، والأوّل باطل، وإلاّ لزم أن يكون كلّ إجماع حجّة، فإجماع اليهود والنصارى حجّة، وهو محال، فلم يبق إلاّ أن يكون نقلياً، وهو قوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (6)(6)، وقوله (عليه السلام): (لا تجتمع أُمّتي على الخطأ)(7)(7)، وإلى غير ذلك من الأدلّة النقلية،

ص: 285


1- (1) أثبتناه من ب وفيه أيضاً: (والأخير هو الحافظ لكلّ الشرع تفصيلاً دون الثاني).
2- (2) العبارة في ب: ( فلعدم دلالتها الصريحة على جميع الأحكام الفرعية تفصيلاً، وهو ظاهر) .
3- (3) العبارة في ب: (فلوجود المجمل والمشتبه فيهما).
4- (4) العبارة في ب: (وأمّا الثالث، فلاستلزامه الدور).
5- (5) في ب توجد هذه العبارة: (إن صحّ ، وهو الإجماع الذي ليس فيه المعصوم. وإليه أشار المصنّف !).
6- (6) سورة التوبة: 115 .
7- (7) ورد عند العامّة، واستدلوا به كثيراً في كتبهم.

والأُمور النقلية يتطرّق إليها النسخ والتخصيص.

فحينئذٍ أدلّة الإجماع إنّما توجب العلم إذا علم نفي الناسخ والمخصّص لها، وذلك النفي غير معلوم بالضرورة، بل إنّما نعرفه بأن نقول: لو وجد لوصل، وإنّما يتمّ هذا إذا ثبت أنّ الأُمّة لا تخل بنقل شيء من الشرائع، وإنّما نعلم ذلك إذا علمنا أنّ الأُمّة معصومون، فلو استدللنا على كونهم معصومين بالنقل، لزم الدور.

وأيضاً، فالإجماع إمّا لا عن دليل أو إمارة، أو عن أحدهما.

والأوّل، يكون خطأ؛ لأنّه يكون قولاً في الدين بمجرّد التشهّي.

والثاني، قلّ أن يشترك العقلاء فيه، فلا يحصل الإجماع إلاّ في قليل من الأحكام، فلا يكون حافظاً للشرع.

وأيضاً، فلأنّ أكثر الأحكام مختلف فيها، فلا يكون محيطاً بجميع الأحكام، فلا يصلح أن يكون حافظاً للشرع.

وأمّا القياس: فليس بحجّة !

أمّا أوّلاً: فلأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ، الذي قد يخطئ غالباً .

وأمّا ثانياً: فلأنّ مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات، وذلك يمنع من صحّة القول بالقياس.

أمّا الأُولى، فلأنّه آخر يوم من رمضان يجب صومه، وأوّل يوم من شوال يحرم صومه، ولأنّ النوم والبول يوجبان الوضوء.

وأمّا الثانية، فظاهرة.

وأمّا البراءة الأصلية: فتقضي رفع جميع الأحكام.

ص: 286

ولا يصلحّ (1)(1) المجموع أيضاً، لعدم إحاطة المجموع بكلّ الأحكام، لأنّها غير متناهية.

فتعيّن أن يكون هو بعض الأُمّة، وهو الإمام، وإلاّ لبقى الشرع ضائعاً، هذا خلف.

وأمّا الكبرى، فلأنّه لو لم يكن معصوماً، لم يؤمن من أن يخلّ بحفظ شيء من الشرعيات، فيفوت اللّطف بذلك القدر، وقد ثبت أنّ الشرعيات ألطاف.

قال (دام ظلّه): «ويجب أن يكون أفضل من رعيته، لقبح تقديم المفضول على الفاضل، ولقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إلى اَلحقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَنْ لا يَهدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى ﴾ (2)(2)

ويدخل في ذلك كونه: أزهد، وأورع، وأشجع، وأعلم، وأكرم »(3)(3) .

أقول: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته.

والدليل على ذلك: إنّه لو لم يكن كما قلناه، لكان إمّا مساوياً لغيره (4)(4) أو أنقص منه، والأوّل باطل، لأنّه ليس أحدهما بأن يكون إماماً والآخر مأموماً أولى من العكس، فيلزم إمّا كونهما إمامين وهو باطل بالإجماع، أو لا يكون واحد منهما إماماً، وذلك باطل لبطلان خلوّ الزمان من إمام، والثاني أيضاً باطل، لقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه، ويدخل في ذلك كونه أزهد، وأورع،

ص: 287


1- (1) في ب: (ولا يصحّ).
2- (2) سورة يونس : 35.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 63 الفصل الحادي عشر.
4- (4) في أ: (كونه كغيره)، وما أثبتناه من ب، ج.

وأشجع، وأعلم، وأكرم.

قال (دام ظلّه): «ويجب أن يكون منصوصاً عليه، لأنّا شرطنا فيه العصمة، وهي من الأُمور الباطنة التي لا يطلّع عليها غير الله تعالى، فيجب أن يتعيّن بالنص لا بغيره»(1)(1) .

أقول: اتّفقت الإمامية: على أنّ الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه.

والدليل على ذلك: أنّ الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه.

أمّا المقدّمة الأُولى، فقد تقدّم بيانها.

وأمّا المقدّمة الثانية، فلأنّ العصمة من الأُمور الباطنية والأشياء الخفيّة التي لا يطلّع عليها إلاّ الله تعالى، فلو لم يجب النص، لزم تكليف ما لا يطاق.

بحث في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في أنّ الإمام بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام):

ويدلّ عليه وجوه:

الأوّل: أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً - على ما بينّاه - ولا شيء من الصحابة والذين ادّعي لهم الإمامة غيره بمعصوم، فتعيّن أن يكون هو الإمام.

والمقدّمة الثانية إجماعية» (2)(2) .

ص: 288


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 64 الفصل الحادي عشر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 64 الفصل الحادي عشر.

أقول: اختلف الناس في تعيين الإمام بعد الرسول(صلّى الله عليه وآله) على ثلاثة أقوال:

الأوّل: قول الإمامية مع باقي الشيعة وهو: أنّ الإمام بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). وهذا هو الحقّ!

الثاني: مذهب أهل السُنّة والجماعة وهو: أنّ الإمام بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو أبو بكر.

الثالث: مذهب جماعة: أنّ الإمام هو العبّاس، وهؤلاء قد انقرضوا ولم يبق منهم أحد.

ولنا على الأوّل وجوه كثيرة. ذكر (1)(1) بعضها هنا :

الأوّل: وتقريره، أن نقول:

الإمام يجب أن يكون معصوماً، ولا شيء من الصحابة الذين ادّعي فيهم الإمامة غيره بمعصوم، فتعيّن أن يكون هو الإمام.

أمّا الصغرى، فقد مضى بيانها.

لأنّه لو لم يكن معصوماً، لزم التناقض، لأنّا مأمورون بطاعة الإمام، لقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾(2)(2) ، فلو أمر بمعصية، لزم الأمر بها من حيث الأمر بطاعته، والنهي عنها يلزم التناقض.

وأمّا الكبرى، فإجماعية قد اتّفق المسلمون عليها .

ص: 289


1- (1) يعني به المصنّف.
2- (2) سورة النساء: 59 .

وأمّا لزوم تعيّنه ( عليه السلام) للإمامة عليهما، فلوجوه:

الأوّل: أنّ هاتين المقدّمتين أنتجتا: أنّ الإمام ليس غير عليّ (عليه السلام)، فلو لم يكن هو الإمام لخلا الوقت عن إمام ، وهو محال بالإجماع، ولما بيّنا.

الثاني: أنّ غيره ليس بمعصوم لو لم يكن هو معصوماً، لزم خلوّ الوقت من إمام، لما بيّنا من وجوب عصمة الإمام.

الثالث: أنّا بيّنا وجوب العصمة، والناس بين قائلين: معتبر العصمة، وغير معتبر لها، وكلّ من اعتبرها قال: إنّ الإمام بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بلا فصل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

فالقول: بأنّ عصمة الإمام واجبة مع أنّ الإمام غيره، قول خارج عن أقوال الأُمة.

الرابع: أنّه معصوم، وغيره ليس بمعصوم.

والثانية قد تقدّمت. والأُولى تدلّ عليها دلائل كثيرة، نذكر منها واحد للاختصار:

وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهَ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهَ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِثِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةٌ عَلَيْهِمْ ظِلاها وَذُلَّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ

ص: 290

وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرًا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُوْا مَنْثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيباً وَمُلْكًاً كَبِيرًاً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ﴾ (1)(1) .

واتّفقت الأُمّة على أنّ هذه الآيات في: عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام).

فنقول : قد بيّن الله تعالى في هذه الآيات أمرين:

أحدهما: ارتفاع العقاب بالكلّية، وإثبات الثواب الدائم السرمد.

فنقول: ذلك إمّا أن يكون تفضيلاً، أو باستحقاق منهم لذلك.

والأوّل باطل، لقوله تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةَ وَحَرِيراً ﴾، ثمّ قال تعالى بعد الجميع: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ﴾، فليس ذلك تفضّلاً، وإنّما هو باستحقاق بعملهم، وإنّما يستحقّون ذلك لو لم يأتوا بمعصيته تعالى قطّ، ولم يخلّوا بواجب أصلاً، ولا نعني بالعصمة إلاّ ذلك.

قال (دام ظلّه): «الثاني: النقل المتواتر عن الشيعة خلفاً عن سلف - ونقله المخالف أيضاً - أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نصّ عليه بإمرة المؤمنين، وبأنّه خليفته من بعده» (2)(2).

أقول: هذا هو الوجه الثاني.

ص: 291


1- (1) سورة الإنسان: 5 - 22 .
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 64 الفصل الحادي عشر.

وتقريره، أن نقول:

النص الجلي الذي تواتر به الإمامية خلفاً عن سلف، وهم يملؤون وجه الأرض، قوله (عليه السلام): (سلّموا عليه بإمرة المؤمنين)(1)(1) ، و(أنت الخليفة من بعدي)، ونقله الجمهور أيضاً(2)(2)، وقوله (عليه السلام): (اسمعوا له وأطيعوا) (3)(3) .

لا يقال: لو كان هذا متواتراً لأفادنا العلم كما أفادكم، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، والشرطية ظاهرة، فإنّ الواجب للعلم هو : سماع الخبر، فلا يتفاوت حصوله البعض دون بعض !

لأنّا نقول: شرط حصول العلم بالخبر المتواتر: أن لا يكون السامع معتقداً خلافه.

وأيضاً ، فلا يلزم عدم علمك بالمخبر أن لا يكون الخبر متواتراً.

ص: 292


1- (1) انظر الكافي، للكليني :1 : 292 باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين (عليه السلام)، ط دار الكتب الإسلامية، طهران 1363 ش، الأمالي للصدوق : 436 المجلس (56)، ط 1 مؤسّسة البعثة، قم 1417ه، وغيرها.
2- (2) انظر: تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر 42: 100 ترجمة الإمام عليّ (عليه السلام)، ط دار الفكر ، بيروت 1415ه، إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، للبوصيري 9 : 259 (8944) ، وغيرها .
3- (3) انظر: مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)، لابن سليمان الكوفي :1: 371، ط 1 مجمع إحياء الثقافة، قم 1412ه، أمالي الطوسي : 583 (1206) المجلس (24)، ط 1 دار الثقافة للطباعة ، قم 1414ه ، تاريخ الطبري 2: 63 ، ط مؤسّسة الأعلمي، بيروت، كنز العمّال 13: 133 (36419) فضائل علي ، ط مؤسّسة الرسالة، بيروت 1409ه، وغيرها.

قال (دام ظلّه): «الثالث: قوله تعالى: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾.

والاستدلال به يتوقّف على مقدّمات:

إحداها: أنّ لفظة (إنّما ) تفيد الحصر، وهو متّفق عليه بين أهل اللغة.

الثانية: أنّ لفظة (الوليّ) هنا يراد بها الأولى بالتصرّف، وهو مشهور عند أهل اللغة، ومستعمل في العرف، لقوله (عليه السلام): (أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل). وقولهم : «السلطان وليّ الرعية»، و«وليّ الدم»، و« وليّ الميت».

الثالثة: أنّ المراد من﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾بعض المؤمنين، لاتّصافهم بصفة ليست عامّة لكلّ المؤمنين، ولأنّه لو كان للجميع لكان الوليّ والمتولّى واحد، وهو محال.

الرابعة: أنّ المراد بذلك البعض هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، للإجماع على أنّه هو الذي تصدّق بخاتمه حال ركوعه، فنزلت هذه الآية» (1)(1).

أقول: هذا هو الدليل الثالث، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (2)(2) .

ووجه الاستدلال بها يتوقّف على مقدّمات:

المقدّمة الأولى: أنّ لفظة (إنّما ) تفيد الحصر، وهو متّفق عليه بين أهل اللغة.

ص: 293


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 64 - 65 الفصل الحادي عشر.
2- (2) سورة المائدة : 55 .

قال الشاعر :

أنا الدافع الحامي الذمار وإنّما***يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (1)(1)

ولأنّ (إنّ) للإثبات، و(ما) للنفي، فإمّا أن يتواردا على موضوع واحد، وهو محال، أو النفي على المذكور والإثبات لغيره، وهو باطل، فتعيّن العكس، وهو المطلوب.

المقدّمة الثانية : أنّ لفظة (الولىّ) يراد بها هنا الأولى بالتصرّف والتدبير، لأنّ أهل اللغة نصّوا على ذلك.

ذكر المبرّد (2)(2) في كتاب (العبارة عن صفات الله تعالى)(3)(3) : أنّ الولي هو: الأولى بالتصرّف.

قال الكميت (4)(4) :

ونعم وليّ الأمر بعد وليّه*** ومستجمع التقوى ونعم المؤدّب

ص: 294


1- (1) البيت الشعري من قصيدة للفرزدق يهجو بها جرير بن عطية الخطفي التميمي، وورد أيضا بلفظ : (أنا الذائد...).
2- (2) المبرد: أبو العبّاس محمّد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير البصري البغدادي، الأديب النحوي الفقيه، ولد في البصرة سنة (210ه)، وتوفي ببغداد سنة (285ه)، ودفن في مقابر باب الكوفة، له من الكتب الكثير، منها: الكامل، والروضة، والمقتضب، والاشتقاق، والقوافي، وغيرها.
3- (3) أو (العبارة عن أسماء الله تعالى)، كما في الفهرست، لابن النديم: 65 أخبار المبرّد، طبعة بتحقيق رضا تجدد.
4- (4) الكميت بن زيد الأسدي الكوفي، الشاعر المعروف بولايته لأهل البيت (عليهم السّلام) الفقيه الحافظ، ولد سنة 60 ه، وتوفي سنة (126ه).

ومن ذلك قوله (عليه السلام): (أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل) (1)(1)، أي: من هو الأَولى بالعقد عليها.

وقولهم: «السلطان وليّ الرعيّة»، ومن ذلك قولهم: «وليّ الدم»، و«وليّ الميت».

ولأنّ (الولى) قد يطلق على الناصر والمتصرّف، ولا معنى للأوّل هاهنا، لأنّ هذه الآية مختصّة ببعض الناس، والنصرة عامّة، فتعيّن الثاني. المقدّمة الثالثة: أنّ قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، المراد به بعض المؤمنين، [الوجهين:

أحدهما: أنّه وصف المؤمنين في الآية لم تكن حاصلة لجميع المؤمنين](2)(2)، وإنّما قلنا ذلك لأنّ (الواو) في قوله : ﴿وهُمْ راكِعُونَ﴾ ، إمّا أن يكون للحال، أو للابتداء، فإن كان الأوّل صار معنى الآية : الذين يؤتون الزكاة في حال ركوعهم، ومن المعلوم أنّ ذلك لم يكن حاصلاً لكلّ المؤمنين، وإن كان الثاني، صار معنى الكلام: يؤتون الزكاة وهم الآن راكعون، ومعلوم أيضاً أنّ المؤمنين لم يكونوا

كذلك.

الوجه الثاني: أنّه لو لم يكن كذلك، لكان الوليّ والمتولّى واحداً، وذلك لا يجوز.

وإنّما قلنا ذلك، لأنّه إذا كان (الكاف) و(الميم) من قوله: ﴿وَلِيُّكُمُ﴾ ،ضمير الكلّ، فلو كان ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾عامّاً لكلّ المؤمنين، لزم ما قلناه.

ص: 295


1- (1) انظر : مسند أحمد بن حبل 6: 66 حديث عائشة ، ط دار الصادر بيروت، وغيره.
2- (2) أثبتناه من ب، ج .

المقدّمة الرابعة: أنّ ذلك البعض هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، لأنّه قد أجمعت الأُمّة على أنّ المراد بهذه الآية هو عليّ ( عليه السلام)، وأنّه هو الذي تصدّق بالخاتم حال ركوعه دون غيره، فنزلت هذه الآية فيه، ولأنّه لمّا ثبت أنّ هذه الآية تدلّ على كونه بعض المؤمنين هو الإمام، وقد أجمع المسلمون على أنّ هذه الآية لا تقتضي إمامة غيره ( عليه السلام)، فلو لم تقتض إمامته، لزم تعطيل الآية، وذلك لا يجوز، فثبت بذلك دلالة هذه الآية على إمامته (عليه السلام).

قال (دام ظلّه): «الرابع: الخبر المتواتر يوم الغدير من قوله (عليه السلام): (ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه أينما دار).

ولفظة (مولى) يراد بها الأولى بالتصرّف:

أمّا أوّلاً: فللاستعمال، كما يقال لسيّد العبد (مولاه)، أي: أولى به.

وأمّا ثانياً: فلانتفاء معانيها سوى المطلوب.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ مقدّمة الخبر تدلّ عليه» (1)(1) .

أقول: هذا هو الوجه الرابع:

وهو أنّه قد حصل التواتر بأنّ النبيّ (عليه السلام) لمّا رجع من حجّة الوداع، قال في غدير خمّ: (معاشر المسلمين ، ألست أولى منكم بأنفسكم؟

قالوا: بلى يا رسول الله .

ص: 296


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 65 الفصل الحادي عشر.

قال: من كنت مولاه فعلیّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره ، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه أينما دار).

وهذا الخبر متواتر عند الشيعة والسُنّة (1)(1) .

إذا عرفت هذا، فنقول:

لفظة (المولى) يراد بها: الأولى بالتصرّف، وتارة: السّيد، وتارة: العبد، وتارة: ابن العمّ وتارة: الجار.

والمراد بها هنا المعنى الأوّل لا غير، لأنّه ( عليه السلام) مهّد للمسلمين قاعدة هي أولوية التصرّف، وذكر هذا الكلام عقيب ذلك طالباً منه مساواة عليّ (عليه السلام )له، ومن المحال أن ينصب الرسول أمتعة الناس على شكل المنبر ويصعد عليه، ثمّ يقول للمسلمين: من كنت ابن عمّه فعليّ ابن عمّه، ومن كنت جاره فعليّ جاره!

وإذا ثبت أنّه أولى بالتصرّف في المسلمين منهم كان إماماً، لأنّا لا نعني بالإمام إلاّ ذلك.

قال (دام ظلّه): «الخامس : قوله (عليه السلام) المتواتر: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)، والمنزلة هنا للعموم، وإلاّ لما صحّ الاستثناء منها.

ص: 297


1- (1) ورد هذا الحديث عند العامّة فضلاً عن الخاصّة بأسانيد وطرق متعدّدة حتّى جازت المائة ومن الصحابة فقط، ولمن أراد الاطلاع عليه بمراجعة كتاب الغدير للعلاّمة الأميني، وغاية المرام للسيد هاشم البحراني عدى التابعين.

ومن جملة منازل هارون أنّه لو عاش بعد موسى لكان خليفة، لأنّه كان خليفة له حال حياته، بقوله: ﴿أخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ (1)(1)، فيكون كذلك بعد وفاته، وإلاّ لكان معزولاً عن تلك الولاية، فيكون غضاً من منصب النبوّة. ولأنّه كان رسولاً مفترض الطاعة، فلو عاش وجب عليهم طاعته» (2)(2) .

أقول: هذا هو الوجه الخامس، وهو قوله (عليه السلام): (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي).

وتقرير هذا يفتقر إلى مقدّمات ثلاثة:

الأُولى:تصحيح الخبر، وهو أنّه نُقل نقلاً متواتراً (3)(3)؛ وأيضاً تلقّته الأُمّة بالقبول، فتناوله بعضهم، وبعضهم اعترف بدلالته على الإمامة.

الثانية: المراد بمنزلة عليّ ( عليه السلام) كلّ منازل هارون من موسى.

ويدلّ عليه : أنّ المراد بها أكثر من منزلة واحدة، فيكون المراد جميع المنازل.

أمّا الأوّل، فلأنّه استثنى منها منزلة النبوّة، والواحد بالشخص يستحيل

استثناء شيء منه.

وأمّا الثاني، فلأنّ الناس قائلان:

منهم من يقول: إنّ المراد من هذه المنزلة الواحدة، وهو: كونه خليفة في حياته كما كان هارون من موسى.

ص: 298


1- (1) سورة الأعراف: 142 .
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين: 65 - 66 الفصل الحادي عشر.
3- (3) روى هذا الحديث أكثر من أربعين صحابياً وبطرق مختلفة، ذكر بعضها ابن طاووس في كتابه الطرائف وذكر أن التنوخي رواه عن كثير من الصحابة، فليراجع في مصادره.

ومنهم من يقول: أنّ المراد بها كلّ المنازل.

فلو قلنا (1)(1) : إنّ المراد ليس منزلة واحدة ولا جميع المنازل، لزم خرق الإجماع.

الثالثة: أنّ هارون لو عاش بعد موسى، لكان خليفة.

ويدلّ عليه: أنّ هارون كان خليفة موسى في حياته إجماعاً، ويدل عليه قوله: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ (2)(2)، فلو لم يكن خليفة بعد موته، لكان معزولاً عن هذه الرتبة، وهو غير لائق بمنصب النبوّة.

وأيضاً، فإنّ هارون كان شريك موسى في الرسالة، فلو عاش بعده لكان مفترض الطاعة.

إذا تقرّر ذلك ثبت لعليّ ( عليه السلام) منزلة من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كجميع منازل هارون من موسى، وقد ثبت لهارون استحقاق الخلافة بعد وفاة موسى لو عاش، فيكون عليّ (عليه السلام) كذلك.

والأخبار المتواترة كثيرة في هذا المعنى، قد طوّل فيها أصحابنا، كالسيّد المرتضى (3)(3) ، والشيخ أبي جعفر (4)(4)، وغيرهما، ونحن قد أعرضنا ها هنا عنها مخافة التطويل.

ص: 299


1- (1) في ب: قال.
2- (2) سورة الأعراف : 142 .
3- (3) الشريف المرتضى: علم الهدى علي بن الحسين بن الموسوي البغدادي (ت 436ه)، تقدّم.
4- (4) الطوسي: شيخ الطائفة الفقيه الأكبر أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ولد في طوس خراسان سنة (385ه)، وتوفي في النجف الأشرف سنة (460ه) ودفن فيها، له تصانيف في مختلف العلوم .

قال (دام ظلّه): «السادس: أنّه ( عليه السلام) كان أفضل الصحابة، فيكون هو الإمام.

أمّا المقدّمة الصغرى، فمن وجوه:

الأوّل: أنّه جمع الفضائل النفسانية: كالعلم، والذكاء، والكرم والفضائل البدنية: كالزهد، والعبادة، والشجاعة. وغير ذلك ما لم يحصل لأحد من الصحابة» (1)(1).

أقول: هذا هو الوجه السادس.

وتقريره، أن نقول:

إنّ عليّاً (عليه السلام) كان أفضل من كلّ الخلق بعد النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، من الصحابة وغيرهم، فيكون هو الإمام.

أمّا الصغرى، فقد استدّل عليها بوجوه:

الأوّل: أنّه جمع من الفضائل النفسانية، كالعلم، والذكاء، والكرم، والفضائل البدنية، كالزهد، والعبادة، والشجاعة، وغير ذلك، ما لم يحصل لأحد من الصحابة وغيرهم، والعلم بذلك ضروري بالتواتر.

قال (دام ظلّه): «الثاني: أنّه (عليه السلام) كان في غاية الذكاء والفطنة والحرص على تحصيل المعارف واقتناء الفضائل والمتابعة للرسول (عليه السلام)، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان شديد الحرص على التكميل. والملازمة بينهما شديدة بحيث لا ينفكّ عنه في أكثر الأوقات. ومع حصول القابل وتحقّق المؤثّر

ص: 300


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 66 الفصل الحادي عشر.

وانتفاء الموانع يحصل التأثّر على أبلغ أحواله» (1)(1).

أقول: هذا وجه ثانٍ دالّ على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل الخلق، وهو أنّه أعلم الخلق، فيكون أفضل.

أمّا الصغرى، فلأنّ عليّاً (عليه السلام) كان في غاية الذكاء والفطنة، وكان شديد الحرص على تحصيل العلم، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي هو مُعلم عليّ أعلم أهل الأرض وأحرصهم على إيصال العلم إلى المتعلّم، وكان لعليّ به من الاختصاص ما ليس لغيره به، ومن ذلك أنّه رُبّي في حجره، وكان داخلاً عليه في أكثر أوقاته. ولا شكّ ولا شبة أنّ المتعلّم إذا كان بصفة عليّ، وكان معلّمه بصفة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وكانت حالة المتعلّم مع المعلّم من الاختصاص مثل حال عليّ مع النبيّ(صلّى الله عليه وآله)، كان أعلم أهل زمانه،

والعلم بذلك ضروري.

وأمّا الكبرى، فظاهرة.

قال (دام ظلّه): «الثالث: قوله (عليه السلام): (أقضاكم عليّ)، والقضاء يستلزم العلم والدين. وقوله (عليه السلام): (أنا مدينة العلم وعليّ بابها ) (2)(2) . واتّفق المفسّرون على أن قوله: ﴿وتَعِيَها أُذُنْ واعِيَةٌ﴾، المراد به عليّ(عليه

ص: 301


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 67 الفصل الحادي عشر.
2- (2) حديث صحيح عند الخاصّة والعامّة، فمن صحّحه من العامّة الحاكم النيسابوري في مستدركه على الصحيحين :3: 216 ، والطبراني في المعجم الكبير 11: 55 عن ابن عبّاس، ط دار إحياء الثراث العربي، وابن عبد البرّ في الاستيعاب 3 : 1102 ط 1 دار الجيل، لبنان 1412ه، وغيرها.

السلام)»(1)(1) .

أقول: هذا دليل ثالث على أنّ عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل الصحابة.

وتقريره : أنّه (عليه السلام) كان أعلمهم، وأزهدهم، وأشجعهم.

أمّا أنّه أشجع، فبالتواتر.

وأمّا العلم والزهد، فلقوله (صلّى الله عليه وآله): (أقضاكم عليّ) (2)(2)، وهذا خبر متواتر، ولا شكّ أنّ القضاء يستدعي العلم والدين، فلمّا كان (عليه السلام) أقضى الصحابة، وجب أن يكون أعلمهم وأدينهم.

ولقوله تعالى : ﴿وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ﴾(3)(3)، اتّفق المفسّرون على أنّ المراد بهذه

الآية عليّ(عليه السلام)(4)(4).

ص: 302


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 67 الفصل الحادي عشر.
2- (2) رواه الخاصّة والعامّة، كما عن أبي يعلى نقله السيوطي في الجامع الصغير 1: 58 ، وابن عساكر في (تاريخ مدينة دمشق 300:51 محمّد بن إدريس، وابن أبي الحديد المعتزلي في (شرح النهج 7: 220)، والإيجي في (المواقف 3: 627)، وغيرها.
3- (3) سورة الحاقة: 12 .
4- (4) أنظر : تفسير فرات الكوفي: 499 - 501ح (653 - 659) ، ط 1 مؤسّسة الطبع والنشر، طهران 1410ه، التبيان، للطوسي 10 : 98 ، ط 1 مكتب الإعلام الإسلامي 1409ه، تفسير مجمع البيان، للطبرسي 10 : 108 ، ط 1 مؤسّسة الأعلمي، بيروت 1415ه، الكشف والبيان/ تفسير الثعلبي 10 : 28 ، ط 1 دار إحياء التراث العربي، بيروت 1422ه، أسباب نزول الآيات، للواحدي : 294 ، ط مؤسّسة الحلبي، القاهرة 1388ه، تفسير السمعاني، ط 1 دار الوطن، السعودية 1418ه، شواهد التنزيل، للحسكاني 2: 361 ح (1007)، ط 1 مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم 1411ه، تفسير الرازي 106:30، ط3، وغيرها.

قال (دام ظّله): «الرابع: قوله (عليه السلام): (لو كُسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم)، وذلك يدلّ على إحاطته بجميع الشرائع، ولم يحصل لغيره من الصحابة ذلك» (1)(1).

أقول: هذا برهان رابع على أنّه (عليه السلام) كان أعلم الصحابة، فيكون هو الإمام.

أمّا الصغرى، فللنقل المتواتر عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنّه قال: (لو كُسرت لي الوسادة وجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم) (2)(2)، وذلك يدلّ على معرفته بجميع الشرائع، ولم يحصل لغيره من الصحابة ذلك.

قال (دام ظلّه): «الخامس: أنّ الصحابة كانوا يرجعون إليه في الأحكام ويأخذون عنه الفتاوى، ويقلّدونه، ويرجعون عن اجتهادهم إذا خالفهم، وأخطأ

ص: 303


1- (1) نهج المستر شدين في أصول الدين: 67 الفصل الحادي عشر.
2- (2) الأمالي، للصدوق : 422 ح (560)، ط 1 مركز الطباعة والنشر البعثة، قم 1417ه، کتاب سلیم بن قیس: 332 ،ط 1 دليل ما 1422ه، الأمالي، للطوسي: 523 ح (1159)، ط 1 دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، قم 1414ه، الكشف والبيان/ تفسير الثعلبي 5: 162، ط 1 دار إحياء التراث العربي، بيروت 1422ه، شواهد التنزيل، للحسكاني 1: 366 ح (384) ، ط 1 مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، شرح نهج البلاغة أورده، لابن أبي الحديد عن المدائني 6: 136، ط دار إحياء الكتب العربية.

أكثرهم في الأحكام، ودلّهم على زللهم، فرجعوا إليه» (1)(1).

أقول: هذا برهان آخر على أنّه (عليه السلام) أفضل الخلق بعد النبيّ (عليه السلام).

وهو أنّ الصحابة كانوا يرجعون إليه في الأحكام ويأخذون عنه الفتاوى، ويقلّدونه، ويرجعون عن اجتهادهم إذا خالفهم ، وأخطأ أكثرهم في الأحكام، ودلّهم على زللهم، فرجعوا إليه.

منها: أنّ عمر أراد رجم امرأة قد زنت وهي حامل، فنهاه وقال: (إن كان لك سلطان عليها، فليس لك على ما في بطنها سلطان)، فأطلقها وقال: «لولا عليّ لهلك عمر » (2)(2).

ومنها: أنّ عمر أُتي إليه بامرأة ولدت لستّة أشهر، فأمر برجمها، فنهاه عنه (عليه السلام) وقال: (ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً﴾ (3)(3)، ثمّ قال في موضع آخر: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾،(4)(4) ، فخلّى سبيلها، وقال: «لولا عليّ لهلك عمر» (5)(5) .

ص: 304


1- (1) نهج المستر شدين في أصول الدين: 68 الفصل الحادي عشر.
2- (2) انظر: المغني، لابن قدامه 10: 139، ط دار الكتاب العربي، بيروت، المناقب، للخوارزمي: 81 ح (65) ، ط 2 مؤسّسة النشر الإسلامي، قم 1414ه، مطالب السؤول، لابن طلحة الشافعي: 77، ط بتحقيق ماجد العطية، وغيرها.
3- (3) سورة الأحقاف: 15 .
4- (4) سورة البقرة : 233 .
5- (5) انظر: السنن الكبرى، للبيهقي 7: 442 ، باب ما جاء في أقل الحمل، ط دار الفكر، المجموع، للنووي 18 : 128 ، ط دار الفكر، المغني، لابن قدامه :9 : 115 ، ط دار الكتاب العربي، بيروت، الإرشاد، للمفيد 1 : 206، ط 2 دار المفيد، بيروت 1414ه، وغيرها.

ومنها : أنّ عمر قال في خطبة له: من غالى في مهر ابنته جعلته في بيت المال. فقالت له عجوز: أتمنعنا ما أحلّ الله لنا في قوله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً﴾ (1)(1) ، فقال: «كلُّ أفقه من عمر حتّى المخدّرات في البيوت» (2)(2) .

قال (دام ظلّه): «السادس: القضايا الغريبة والأحكام العجيبة التي حكم بها ولم يسبقه إليها أحد.

كحكمه على الحالف بصدقة زنة قيد العبد وهو في رجله قبل حلّه، بوضع رجله مع القيد في قصعة مملوءة ماءً، ثمّ رفع القيد ووضع برادة الحديد حتّى انتهى صعود الماء إلى مكانه أوّلاً، وأمره بصدقة زنة البرادة.

و كحكمه بين صاحب الأرغفة الخمسة وصاحب الثلاثة، لّما أَذِنا لثالث في الأكل، فرمى لهما ثمانية دراهم لّما تشاحّا، بأنّ لصاحب الثلاثة درهماً واحداً، ولصاحب الخمسة الباقي، حيث قسّم الأرغفة على أربعة وعشرين جزءاً.

وغير ذلك من النكت التي لا تعد ولا تحصى» (3)(3) .

أقول: القضايا الغريبة والأحكام العجيبة التي حكم بها ولم يسبقه إليها أحد.

ص: 305


1- (1) سورةالنساء:20.
2- (2) انظر: المجموع، للنووي 16: 327، ط دار الفكر، المبسوط، للسرخسي 10: 153، ط دار المعرفة، بيروت 1406ه، السنن الكبرى، للبيهقي 7: 233 ، ط دار الفكر، مجمع الزوائد، للهيثمي 4: 284 ، باب الصداق، ط دار الكتب العلمية، بيروت 1408ه، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 1: 182 ، ط 1 دار إحياء الكتب العربية 1378ه،وغيرها.
3- (3)نهج المسترشدين في أصول الدين: 68 الفصل الحادي عشر.

منها: «أنّه ( عليه السلام) أُتي بعبد قيّده مولاه وحلف لا يطلقه حتّى يتصدّق بزنة القيد، فقال (عليه السلام) : (عليَّ بقصعة فيها ماء)، فأتي بها، ثمّ حطّ رجل العبد فيها بالقيد، ثمّ رفع القيد من الماء، وقال: (علَيَّ ببرادة الحديد)، وطرحها في الماء إلى أن عاد الماء مكانه لمّا كان القيد فيه، ثمّ قال لمولاه: (تصدّق بزنة هذه البرادة، فإنّها زنة القيد ») (1)(1) .

ومنها : « أنّه أتاه شخصان مختصمان إليه، فقال لهما : (ما خطبكما؟)، فقال أحدهما: إنّي اصطحبت أنا وهذا الشخص في الطريق، وكان معي خمسة أرغفة، ومعه ثلاثة أرغفة، فجاء رجل فأعرضنا عليه فأكل معنا، فلمّا انصرف رمى ثمانية دراهم، فقلت له: خذ منها ثلاثة بعدد (2)(2) رغائفك وآخذ أنا خمسة بقدر رغائفي، فقال: لا آخذ إلاّ النصف. فقال لهما : (إنّ هذا ممّا لا ينبغي أن يتخاصم فيه الناس). فقال صاحب الثلاثة: لا أريد إلاّ مرّ الحقّ. فقال: (إذا كنت لا تريد إلاّ مرّ الحقّ، فلك منها درهم واحد)، فقال: وكيف ذاك؟! فقال: (لأنّ الثمانية الأرغفة إذا انقسمت أربعة وعشرين جزءاً، لكلّ واحد منكم منها ثمانية أجزاء، فأكلت أنت ثمانية، فبقي من خبزك جزء واحد، وأكل هذا من خبزه ثمانية أجزاء، فبقي من خبزه سبعة أجزاء، فيكون قد أكل الضيف من خبزك جزءاً واحداً، ومن خبزه سبعة أجزاء، فيكون لك درهم واحد، وله سبعة دراهم» (3)(3).

ص: 306


1- (1) انظر: جواهر الفقه، للقاضي ابن البرّاج : 243 ، ط 1 مؤسّسة النشر الإسلامي، قم 1411ه.
2- (2) في ب: بقدر .
3- (3) انظر: كشف اليقين، للعلاّمة الحلّي : 165، ط 1 1411ه، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البّر 2 : 462 ، ط بيروت.

وغير ذلك من قضاياه التي لا يحتمل هذا المختصر ذكرها.

قال (دام ظلّه): «السابع : أنّ جميع الفضلاء ينتسبون إليه.

فإنّ أهل التفسير يرجعون في علومهم إلى عبد الله بن عبّاس، وهو عليّ (عليه السلام)، حتّى روى أنّه شرح (الباء) من (بسم الله الرحمن الرحيم) من أوّل الليل إلى آخره.

والمعتزلة، والأشاعرة من المتكلّمين يأخذون علمهم عنه ( عليه السلام).

وكذا النحو هو مستنبطه والدالّ عليه، وواضعه لأبي الأسود الدؤلي.

وعلم الأُصول موجود في كلامه دون كلام غيره

وغير ذلك من العلوم»(1)(1).

أقول: هذا هو الوجه السابع الدالّ على أنّه (عليه السلام) أعلم.

وتقريره: إنّ جميع العلماء يسندون جميع علومهم إليه، ولا يسندونها إلى غيره، فوجب أن يكون أعلم من غيره.

أمّا بيان أنّ جميع العلماء يسندون جميع علومهم إليه، فهو: إنّ المفسّرين كلّهم يرجعون في علومهم إلى عبد الله بن عبّاس، وهو تلميذ عليّ(عليه السلام) (2)(2) ، حتّى روي أنّه شرح (الباء) من (بسم الله الرحمن الرحيم) من أوّل الليل إلى آخره (3)(3).

ص: 307


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 69 الفصل الحادي عشر .
2- (2) ورد عن ابن عبّاس انّه قال: (ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب)، انظر: مناهل العرفان، للزرقاني 1 : 486 ، ط مصر، مقدّمة تفسير القرطبي 1 : 34، ط دار إحياء التراث العربي بيروت، التسهيل، لابن جزي 1 : 20، ط دار الأرقم، بيروت.
3- (3) انظر: التراتيب الإدارية، للكتاني :2 : 12 ، ط دار إحياء التراث العربي.

والأُصوليون: إمّا معتزلة، أو أشاعرة.

أمّا المعتزلة، فلا شبهة في إسناد علومهم إليه.

وأمّا الأشعرية، فكلّهم يأخذون عن أبي الحسن الأشعري(1)(1) صاحب المقالة، وهو تلميذ أبي علي الجبائي المعتزلي (2)(2).

وأفضل العلماء علماء الأُصول، لأنّ علمهم أشرف العلوم.

وأمّا النحو، فهو أوّل من وضعه لأبي الأسود الدؤلي (3)(3) .

وعلم الأُصول موجود في كلامه ( عليه السلام) دون كلام غيره.

قال (دام ظلّه): «الثامن: أنّه (عليه السلام) كان أشجع الصحابة، حتّى أنّ الفتوح بأجمعها كانت على يده، ولم يبارزه أحد إلاّ قتله. ووقائعه في الحروب مشهورة لا تحصى كثرة . ولم يسبقه أحد تقدّمه، ولا لحقه من تأخّر عنه» (4)(4) .

أقول: هذا هو الوجه الثامن الدالّ على أنّه (عليه السلام) كان أفضل(5)(5) الصحابة.

لأنّه (عليه السلام) فتح الفتوح بأسرها، ولم يبارزه أحد إلاّ قتله، ووقائعه في الحرب مشهورة لا تحصى كثرة ، ولم يسبقه أحد تقدّمه، ولا لحقه من تأخّر عنه.

ص: 308


1- (1) علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري (ت 324ه)، تقدّم.
2- (2) أبو علي الجبائي، محمّد بن عبد الوهاب المعتزلي المتكلّم (ت 303ه)، تقدّم.
3- (3) أبو الأسود الدؤلي : ظالم بن عمرو البصري، تابعي فقيه شاعر قاضي، ولد سنة (16ق ه)، وتوفي سنة (69ه)، هو أول من وضع النحو بأمر عليّ(عليه السلام)، وأوّل من نقط المصحف، من أصحاب عليّ والحسن والحسين وعلي بن الحسين (عليهم السلام).
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 69 الفصل الحادي عشر.
5- (5) في ب: أشجع.

وكونه أشجع، متواتر، معلوم بالضرورة، [ولمّا ثبت أنّه أعلم وأشجع، كان هو الإمام، لأنّه حافظ للشرع بعلمه، وحاملهم عليه بقوّته وشجاعته، وهذا هو المقصود من الإمامة ](1)(1)، فيكون الأفضل.

قال (دام ظلّه): «التاسع: أنّه كان أزهد الصحابة، ولم يترك الدنيا أحد سواه، حتّى أنّه طلّقها ثلاثاً، مبالغة في تركها والرفض لها، ولم يتمكّن أحد من مجاراته، ولا لحق أحد درجته في الترك، حتّى أنّه كان يصوم النهار ويفطر على قليل من جريش الشعير، وكان يختمه (عليه السّلام) فقيل له في ذلك؟ فقال: (أخاف أن يضع أحد ولدي فيه أداماً)، وقال (عليه السلام): (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها)، وهذا سبيل لم يسلكه أحد سواه» (2)(2).

أقول: هذا دليل تاسع على أنه أفضل الصحابة.

لأنّه (عليه السلام) أزهد الصحابة، ولم يترك الدنيا أحد سواه، فإنّه طلّقها ثلاثاً (3)(3)، مبالغة في تركها، ولم يتمكّن أحد من أهل زمانه من مجاراته، ولا لحق أحد درجته في الورع والترك للدنيا ونعيمها، حتّى أنّه كان يصوم ويفطر على قليل من جريش الشعير، وكان يختمه (عليه السّلام) ويحرز عليه، وسُئل (عليه السلام) عن السبب؟ فقال: (أخاف أن يضع فيه أحد ولدي أداماً)، ورقع

ص: 309


1- (1) أثبتناه من ب.
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين: 69 الفصل الحادي عشر.
3- (3) انظر: نظم درر السمطين، للزرندي: 135، طا سنة 1377ه، المواقف، للإيجي 3: 628 ، ط 1 دار الجيل، بيروت 1417ه، نهج البلاغة شرح محمد عبده 4: 17 (77)، ط 1 النهضة، قم 1412ه.

مدرعته حتّى استحى من راقعها (1)(1)، ولم يسلك أحد هذا السبيل سواه.

[ فهو أفضل، لأنّه رفض القوّة الشهوية والغضبية في الأًمور الدنيوية على وفق حكم الشرع، واستعمل القوّة العقلية. وهذا هو الإنسان الكامل الذي لم يلحقه أحد من بني صنفه، فيكون هو الإمام، لأنّ المراد من الإمام بقوّته القوّة العقلية، والالتزام بترك القوّة الشهوية والغضبية المتعلقين بما يخالف الشرع ويخلّ بالنظام ] (2)(2).

قال (دام ظلّه): «العاشر: أنّه (عليه السلام) كان أعبد الناس، ولم يتمكّن أحد من التأسي به، حتى أنّ زين العابدين (عليه السلام) مع كثرة عبادته ونسكه - وكان يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة - فكان (3)(3) يرمي بصحيفة عليّ(عليه السلام) كالمتضجّر، ويقول: (أنّى لي بعبادة عليّ»)(4)(4) .

أقول: هذا هو الوجه العاشر على أنّه (عليه السلام) أفضل.

لأنّه أعبد الناس، فهو أفضل.

أمّا الصغرى، فمتواتر أنّه لم يتمكّن أحد من التأسي به في العبادة، حتّى أنّ زين العابدين (عليه السلام) مع كثرة عبادته ونسكه - كان يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة - وكان يرمي بصحيفة عليّ ( عليه السلام) متضجراً منها، ويقول: أنّى

ص: 310


1- (1) انظر: ربيع الأبرار، للزمخشري 5: 343، ط 1 الأعلمي، بيروت 1412ه، نهج البلاغة شرح محمد عبده 2: 61 (160)، ط 1 النهضة، قم 1412ه، الأمالي، للصدوق: 718، ط 1 مؤسّسة البعثة 1417ه.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) في المصدر : كان.
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 69 الفصل الحادي عشر.

لي بعبادة عليّ (عليه السلام) (1)(1).

قال (دام ظلّه): «الحادي عشر: أنّه (عليه السلام) كان أكرم الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّه عمّر بيده (عليه السلام) عدّة حدائق وتصدّق بها، وآثر بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام: المسكين، واليتيم، والأسير، وصبر على الطوى ثلاثة أيام، ونزل فيه: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً ويَتِيماً وأَسِيراً ...﴾ إلى آخر الآيات، وتصدّق بجميع ما معه عدّة مرار، ولم يخلف شيئاً من المال أصلاً» (2)(2).

أقول: هذا دليل حادي عشر على أنّه (عليه السلام) أفضل الصحابة.

وهو أنّه كان أكرم الخلق بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّه تصدّق بعدّة حدائق عمّرها بيده، وآثر بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام: المسكين، واليتيم، والأسير، وصبر على الطوى ثلاثة أيام، ونزل فيه قوله تعالى: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ ...﴾ (3)(3) إلى آخر الآيات؛ واتّفقت الأُمّة على أنّها فيه، وتصدّق بجميع ما معه عدّة مرار، ولم يخلف مالاً أصلاً.

[وقد مدحه الله تعالى في الكتاب العزيز بقوله: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ

ص: 311


1- (1) علل الشرائع، للصدوق 1: 232 باب (66) ، ط منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف 1385ه، مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب 3: 290، ط منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف 1376ه، تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر 41: 379 ، ط دار الفكر، بيروت 1415ه.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 70 الفصل الحادي عشر.
3- (3) سورة الدهر: 8 .

بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً﴾(1)(1)(2)(2) ، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنَا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾(3)(3) ، وغير ذلك من الآيات] (4)(4). ولم توجد هذه الصفات في غيره (عليه السلام).

قال (دام ظلّه): «الثاني عشر : إخباره بالمغيبات يدلّ على كمال فضيلته، وذلك في عدّة مواطن، كإخباره عن نفسه الشريفة بالقتل، وبقتل ولده الحسين(عليه السلام)، وإخباراته في واقعة (النهروان)، وغير ذلك. وهو كثير لا يُعد ولا يُحصى، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في كتاب (نهاية المرام).

وإذا ثبت أنّه أفضل، كان أولى من غيره، لما تقدّم»(5)(5).

أقول: هذا وجه ثاني عشر دالّ على أنّه (عليه السلام) أفضل.

وذلك لأنّه ( عليه السلام) أخبر بالمغيبات في عدّة مواطن، كإخباره عن نفسه الشريفة بالقتل، وبقتل ولده الحسين (عليه السلام)، وإخباراته في واقعة

ص: 312


1- (1) سورة البقرة: 274 .
2- (2) انظر: المعجم الكبير، للطبراني 11: 180 ، ط دار إحياء الثراث العربي، أسباب نزول الآيات، للواحدي : 58 ، ط مؤسّسة الحلبي، القاهرة 1388ه، تفسير السمعاني 1: 278، ط 1 دار الوطن، الرياض 1418ه، شواهد التنزيل، للحسكاني 1: 143 ح (144)، ط 1 مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم 1411ه، تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر 42: 358 ترجمة الإمام عليّ (عليه السلام)، ط دار الفكر، بيروت 1415ه، وغيرها.
3- (3) سورة البقرة: 262.
4- (4) أثبتناه من ب.
5- (5) نهج المسترشدين في أصول الدين: 70 الفصل الحادي عشر.

النهروان، كإخباره بقتل ذي الثديات، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة يدلّ على اطّلاعه على المغيبات، ولم تكن لأحد من الصحابة هذه المرتبة، فيكون أفضل.

وحيث تقرّرت الصغرى، وهو أنّه أفضل.

فنقول : الكبرى ظاهرة، وهي أنّه الإمام، لأنّا بينّا وجوب كون الإمام أفضل من رعيته.

في إمامة باقي الأئمّة ( عليهم السلام)

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في إمامة باقي الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام):

لمّا بينّا وجوب العصمة في الإمام، وجب اختصاص الإمامة بالأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام)، وإلاّ لزم خرق الإجماع، وكلّ من أثبت العصمة قال بإمامتهم خاصة دون غيرهم.

وللنقل المتواتر من الشيعة خلفاً عن سلف بنصّ النبّي (صلّى الله عليه وآله )على كلّ واحد واحد منهم، وبنصّ كلّ إمام على من بعده.

ولأنّ غيرهم في زمانهم لم يكن أفضل منهم ولا ساواهم في الفضل، بل كلّ واحد منهم في زمانه كان أفضل من كلّ موجود فيه من أشخاص البشر، فيكون أولى بالإمامة» (1)(1).

أقول: الدليل على إمامة باقي الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) من

ص: 313


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 70 الفصل الحادي عشر.

وجوه:

الأوّل: أن نقول: إن وجبت العصمة في الإمام، وجب اختصاص الإمامة بالأئمّة الاثني عشر، وهم: عليّ، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمّد ابن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرضا، ومحمّد بن علي الجواد، وعليّ بن محمّد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، والخلف الحجّة صاحب الزمان محمّد بن الحسن (صلوات الله عليهم أجمعين)؛ لكن المقدّم حقّ، فالتالي مثله.

بيان الملازمة: إنّ كلّ من قال بوجوب العصمة قال بإمامتهم، وكلّ من لم يقل بإمامتهم لم يقل بوجوب العصمة، فالقول بوجوب العصمة مع عدم القول بإمامتهم خرق للإجماع، وهو باطل لم يذهب إليه أحد.

وبيان حقيقة المقدّم، ما مرّ من وجوب عصمة الإمام.

الثاني: النقل المتواتر من الشيعة خلفاً عن سلف بنصّ النبيّ (عليه السلام) على كلّ واحد واحدٍ منهم ، ونصّ كلّ إمام على من بعده.

الثالث: أنّ غيرهم في زمانهم لم يكن أفضل منهم ولا مساويهم في الفضل، بل كلّ واحد منهم في زمانه كان أفضل من كلّ موجود من أشخاص البشر، فيكون أولى بالإمامة.

الرابع: أنّ هنا مقدّمات ثلاث:

الأوّل: الإمام يجب أن يكون معصوماً.

الثاني: يمتنع خلوّ الزمان من إمام.

الثالث: أنّ غير هؤلاء لم يكن معصوماً باتّفاق الأُمّة، فلو لم يكونوا هؤلاء هم الأئمّة المعصومين، لزم خلوّ الوقت من إمام معصوم، وهو محال.

ص: 314

في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

قال (دام ظلّه): «وأمّا غيبة الإمام (عليه السلام):

فإمّا أن تكون لخوفه على نفسه من أعدائه، وخوفه على أوليائه، فلا يظهر عامّاً ولا خاصّاً. وإمّا لمصلحة خفيّة استأثر الله تعالى بعلمها.

ولا استبعاد في طول عمره (عليه السلام)، فقد وجد في الأزمنة الماضية والقرون الخالية من عمّر عُمراً مديداً أطول من عمره، وإذا ثبت أنّ الله تعالى قادر على كلّ مقدور - ولا شكّ في إمكان بقائه (عليه السلام) مدّة طويلة - فلا استبعاد في وجوب القطع بوجوده (عليه السلام) وهذا العمر الطويل، للنصّ الدالّ عليه من النبيّ ( عليه السلام)، ومن الأئمّة (عليهم السلام) المنقول متواتراً بين الإمامية.

ووجوب (1)(1) نصب الرئيس في كلّ زمان، ووجوب عصمته» (2)(2).

أقول: الوجه في غيبة الإمام (عليه السلام): أنّه خاف على نفسه من ظهوره، وكلّ من كان كذلك، وجب عليه الاختفاء.

أمّا أنّه خائف على نفسه، فظاهر.

وأمّا أنّ كلّ من كان كذلك وجب عليه الاختفاء، فلأنّ حفظ النفس واجب شرعاً وعقلاً، ومن يفعل الواجب فلا لوم عليه، ويخاف أيضاً على

أوليائه فلا يظهر عامّاً ولا خاصاً.

ص: 315


1- (1) في المصدر: ولوجوب.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 70 - 71 الفصل الحادي عشر.

وأمّا ،المصلحة، استأثر الله تعالى بعلمها.

وأمّا طول عمره (عليه السلام)، فالكلام: إمّا في إمكانه، أو وجوبه.

أمّا الأوّل، فهو ممكن، لأنّه تعالى قادر على كلّ مقدور، وهذا أمر ممكن، وقد وجد في القرون الخالية من عمّر عُمراً مديداً أطول من عمره هذا، [فقد وجد في الأنبياء مثل الخضر وإلياس، وفي الأشقياء مثل السامري والدجّال، فلم لا يجوز في الأولياء ](1)(1).

وأمّا الثاني، فهو واجب لوجهين:

الأوّل: النصّ الدالّ عليه من النبيّ (عليه السلام)، ومن الأئمّة (عليهم السلام )المنقول بالتواتر من الإمامية.

الثاني: قد دلّ الدليل على وجوب الإمام المعصوم في كلّ زمان، وغيره (عليه السلام) ليس بمعصوم بالإجماع، فلو لم يكن موجوداً هذه المدّة الطويلة من بعد العسكري [عليه السلام] إلى يوم انقطاع التكليف، لزم خلوّ الوقت من المعصوم، وهو محال.

ص: 316


1- (1) أثبتناه من ب.

الفصل الثاني عشر:في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال (دام ظلّه): «الفصل الثاني عشر : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأمر: طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء» (1)(1) .

أقول: الأمر: طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء.

ف «الطلب»، جنس، ويخرج به الخبر.

وقوله: «الفعل»، احترازاً عن طلب الترك، فإنّه نهي.

وقوله: «بالقول»، احترازاً عن طلب الفعل بالفعل، كما إذا فعل النبيّ (عليه السلام) فعلاً، وكان التأسي به واجباً.

وقولنا: «على جهة الاستعلاء»، احترازاً من السؤال والالتماس.

وإنّما قال:« على جهة الاستعلاء»، لأنّ عند المصنّف أنّ العلو ليس شرطاً في الأمر، خلافاً لجماعة.

ص: 317


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 72 الفصل الثاني عشر .

قال (دام ظلّه): «والمعروف: الفعل الحسن المختصّ بوصف زائد على حُسنه، إذا عَرف فاعله ذلك، أو دلّ عليه.

والمنكر: الفعل القبيح إذا عَرف فاعله ذلك، أو دلّ عليه» (1)(1).

أقول: «الفعل»، كالجنس.

وقولنا: «الحسن»، احترازاً من القبيح.

وقولنا: «المختصّ بوصف زائد على حُسنه»، احترازاً من المباح.

وقولنا: «إذا عَرف فاعله ذلك، أو دلّ عليه»، ليخرج عنه الغافل، فإنّه غير مكلّف، لقبح تكليف الغافل.

وقولنا: «المنكر: الفعل»، كالجنس .

وقولنا: «القبيح»، ليخرج فعل الساهي، والنائم، والحسن.

وقولنا: «إذا عرف فاعله ذلك، أو دلّ عليه»، كما قلنا في المعروف.

قال (دام ظلّه):« والنهي: ضدّ الأمر.

والأمر هنا أعمّ من أن يكون قولاً أو فعلاً، وكذا النهي.

فالأمر بالمعروف هو: الحمل على فعل الطاعات، والنهي عن المنكر هو: المنع عن فعل المعصية» (2)(2).

أقول: الأمر والنهي متقابلان، تقابل التضادّ.

والأمر: هنا قد يكون قولاً، وقد يكون فعلاً.

وإنّما قال: «هنا»، لأنّ الأمر إذا أُطلق في غير هذا الموضع يراد به القول.

ص: 318


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 72 الفصل الثاني عشر .
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين: 72 الفصل الثاني عشر .

وقد يكون بالفعل، كما إذا ضربه على فعل الطاعة.

وكذا النهي: قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، كالضرب على فعل المعصية.

فإذا عرفت أنّ الأمر هنا قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل، فتعريفه بما يشملهما أن نقول:

الأمر بالمعروف، هو : الحمل على فعل الطاعات.

والنهي - حيث أنّه قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل - عرّفه بما يشملهما، هو : المنع عن المعصية.

قال (دام ظلّه): «وهما قد يجبان باليد واللسان عند شرائطه، وبالقلب مطلقاً » (1)(1) .

أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان بالقلب مطلقاً، وقد يجبان باليد عند شرائط يأتي ذكرها، وذلك لأنّ إرادة وقوع المعروف وكراهة وقوع المنكر لا مانع يمنع منها ، بخلاف الأمر والنهي باليد واللسان.

قال (دام ظلّه): «وإنّما وجبا لكونهما لُطفاً، فإنّ المكلّف إذا عرف أنّه متى ترك المعروف أو فعل المنكر منع من ذلك على بعض الوجوه، كان ذلك صارفاً له عن ترك المعروف وفعل المنكر » (2)(2) .

أقول: إنّما وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونهما لُطفين في التكليف، لأنّ المكلّف إذا عرف أنّه إذا حاول فعل المنكر أو ترك المعروف، منع

ص: 319


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 72 الفصل الثاني عشر .
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 72 الفصل الثاني عشر .

منه على بعض الوجوه، كان ذلك العلم صارفاً له عن الفعل والترك، وجرى ذلك مجرى إقامة الحدود في باب اللّطف، وعدم الإلجاء.

وإن علم المكلّف بأنّ الإمام يقطعه إذا سرق، ويقتله إذا قتل، أو يحدّه إذا زنى أو شرب الخمر، لُطف له في ترك هذه القبائح وإن لم يبلغ ذلك به إلى حدّ الإلجاء، ولذلك تقع هذه الأُمور من كثير من المكلّفين في حال تمكين الأئمّة من إقامة الحدود، فكذلك هنا.

قال (دام ظلّه): «ولمّا انقسم المعروف إلى الواجب والندب، انقسم الأم الأمر إليهما. والمنكر لا ينقسم، فلا ينقسم النهي عنه» (1)(1) .

أقول: لمّا كان المعروف واجباً ومندوباً، كان الأمر به كذلك، فالأمر بالواجب واجب، والأمر بالمندوب مندوب.

ولمّا كان المنكر، كلّه قبيحاً، كان النهي عنه كلّه واجباً.

قال (دام ظلّه):« وطريق وجوبها السمع، خلافاً لبعضهم، وإلاّ لزم إيقاع كلّ معروف وارتفاع كلّ منكر، أو إخلاله تعالى بالواجب، والتالي بقسميه باطل.

بيان الملازمة: إنّ الواجبات العقلية عامّة على كلّ من تحقّق فيه وجه وجوبها، ولمّا كان الأمر بالمعروف هو الحمل عليه، والنهي عن المنكر هو المنع منه، فلو وجبا بالعقل لوجبا عليه تعالى، فإن فعلهما لزم ارتفاع المنكر ووقوع المعروف، والوجدان بخلافه. وان لم يفعلهما كان الله تعالى مخلاًّ بالواجب، وهو باطل، لما تقدّم» (2)(2).

ص: 320


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 72 الفصل الثاني عشر .
2- (2)نهج المسترشدين في أصول الدين: 72 - 73 الفصل الثاني عشر .

أقول: اختلف المسلمون في طريق وجوبها:

فذهب بعضهم: إلى أنّه بالعقل.

وذهب آخرون: إلى أنّه السمع.

والثاني اختيار المصنّف وجماعة من الإمامية.

واحتجّوا عليه: بأنّه لو كان واجباً بالعقل لما ارتفع معروف ولا(1)(1) وقع منكر، ولكان الله تعالى مخلاًّ بالواجب، واللوازم باطلة، فالملزوم كذلك.

بيان الملازمة: إنّه إذا كان حقيقة الأمر بالمعروف هو الحمل عليه، وحقيقة النهي عن المنكر هو المنع منه، فلو كان ذلك واجباً بالعقل، لكان واجباً على الله كما وجب بالعقل (2)(2)، فإنّه يجب على كلّ من حصل وجه الوجوب في حقّه، فإنّ شكر المنعم لمّا كان واجباً عقلياً، وكلّ من كان منعماً عليه وجب عليه شكر المنعم، وكذلك القول في القبائح العقلية، فكان يجب على الله تعالى الحمل على المعروف، والمنع من المنكر، فإمّا أن يفعلها، أو لا يفعلهما، فإن فعلهما لزم استحالة ارتفاع المعروف، واستحالة وقوع المنكر، وذلك يقتضي الإلجاء، وهو يبطل التكليف، وإن لم يفعلها مع وجوبهما عليه كان مخلاًّ بالواجب، وهو محال، فقد تبرهنت الملازمة.

وأمّا بطلان التوالي : فلأنّ المعروف [كلّه] (3)(3) لم يقع، والمنكر لم يرتفع، ولِما تقدّم من أنّه تعالى لا يخّل بالواجب.

ص: 321


1- (1) في ب: ولما.
2- (2) (كما وجب بالعقل) لا يوجد في ب، و(لكان واجباً على الله كما وجب بالعقل) لا يوجد في ج.
3- (3) أثبتناه من ب.

قال (دام ظلّه): «وإنّما يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط:

الأوّل: علم الآمر والناهي بكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً.

الثاني: تجويز تأثير الأمر والنهي

الثالث: انتفاء المفسدة عليه وعلى غيره ممّن لا يستحقّ.

ووجوبه على الكفاية، لأنّ الغرض تحصيل المعروف وارتفاع المنكر»(1)(1)

أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتوقّف وجوبهما على شرائط:

الأوّل: أن يعلم الآمر والناهي بكون المعروف معروفاً، والمنكر منكراً، لأنّه متى لم يعرف ذلك لا يؤمن أن يكون ما اعتقده معروفاً منكراً، فيكون أمراً بالمنكر، ولا يؤمن أن يكون ما اعتقده منكراً معروفاً، فيكون ناهياً عن معروف.

الثاني: أن يجوّز تأثير إنكاره، لأنّ الغرض من ذلك هو ما ذكرناه من ارتفاع المنكر ووقوع المعروف، فمتى علم أو غلب على ظنّه أنّ أمره ونهيه لا يؤثّران، كان أمره ونهيه عبثاً.

الثالث: أن يعلم أنّه لا مفسدة في ذلك دينية ولا دنيوية. ودخل في هذا الوجه ألا يؤدّي إلى وقوع منكر أعظم، وأن لا يخاف من ضرر يتوجّه إليه في نفسه، أو ماله، أو إلى بعض المؤمنين ممّن لا يستحقّ، لأنّ الغرض من ذلك الإنكار ارتفاع المنكر، وإذا كان إنكار المنكر مؤدّي إلى ذلك، صار مؤدّياً إلى وقوع المنكر، والمؤدّي إلى وقوع المنكر منكر، فيكون الإنكار منكراً، وذلك

ص: 322


1- (1)نهج المسترشدين في أصول الدين: 73 الفصل الثاني عشر .

لا يجوز . وإذا تكاملت هذه الشروط، وجب الإنكار.

واعلم، أنّ الشرط الأوّل عام في وجوبها بالقلب واليد واللسان، والأخيران مختصّان بوجوبهما باليد واللسان، وليسا شرطين في الوجوب بالقلب.

وإذا وجبا فإنّما يجبان على الكفاية، لأنّ الغرض المقصود من ذلك ارتفاع المنكر ووقوع المعروف، فإذا حصل هذا الغرض بالبعض فلا معنى لإيجابه على الباقين، أمّا متى لم يقم به أحد مع وجوبه، فإنّ(1)(1) كلّ عالم بذلك مأثوم على الإخلال به، وكذلك إذا لم يحصل بالمنكرين كان الباقي مذمومين على الإخلال بذلك.

وإذا فعل، فإنّما يجب أن يبدأ بالأسهل فالأسهل، فإن غلب في ظنّه الإنكار باللسان يؤثّر في ارتفاع المنكر فلا يجوز أن ينكر باليد، وهكذا لا يجوز أن يعدل من الأسهل إلى الأصعب، إلاّ مع العلم والظنّ بأنّ الأسهل لا يؤثّر في الغرض المطلوب.

ص: 323


1- (1) في ب: كان.

ص: 324

الفصل الثالث عشر:في المعاد

اشارة

قال (دام ظلّه): «الفصل الثالث عشر: في المعاد.

وفيه مباحث:

في حقيقة الإنسان

البحث الأول: في حقيقة الإنسان:

اختلف الناس في ذلك اختلافاً عظيماً، وتعدّدت مذاهبهم واضطربت آراؤهم في ذلك. وقد بيّنا أكثر حججهم في كتاب (المناهج)، واستقصينا ما بلغنا من أقاويل العلماء في ذلك في كتاب (النهاية). ولنقتصر في هذا المختصر على المشهور، وهو مذهبان:

الأوّل: ما ذهب إليه أكثر المتكلّمين: من أنّ الإنسان عبارة عن أجزاء أصلية في البدن من أوّل العمر إلى آخره، لا يتطرّق إليها الزيادة ولا النقصان.

والثاني: مذهب الأوائل: أنّ الإنسان عبارة عن جوهر مجرّد متعلّق بهذا البدن تعلّق العاشق بالمعشوق.

ص: 325

واستدلّ الأوّلون: بأنّ كلّ عاقل يحكم على ذاته بالتعقّل، والاتّصاف بالعوارض النفسانية من غير أن يشعر بذلك المجرّد» (1)(1) .

أقول: اختلف الناس في حقيقة الإنسان التي هي النفس ما هي.

وتحرير الأقوال الممكنة منها : إمّا أن يكون جوهراً، أو عرضاً، أو مركّباً منهما.

فإن كانت جوهراً، فإمّا أن تكون متحيّزة، أو غير متحيّزة، وإن كانت متحيّزة، فإمّا أن تكون منقسمة، أو لا تكون.

وقد صار إلى كلّ واحد من هذه الأقسام قائل؛ والمشهور مذهبان:

الأوّل: إنّ النفس جواهر أصلية في هذا البدن، حالّة فيه، من أوّل العمر إلى آخره، لا يتطرّق إليها التغيير ولا الزيادة والنقصان.

الثاني: إنّ النفس جوهر مجرّد ، وليس بجسم، ولا حالّ في الجسم، وهو مدبّر لهذا البدن، ومتعلّق به تعلّق العاشق بالمعشوق. وهو قول جمهور الحكماء، ومأثور عن شيخنا المفيد (رحمه الله) (2)(2) ، وابن نوبخت(3)(3) من أصحابنا الإمامية.

ص: 326


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 74 الفصل الثالث عشر.
2- (2) الشيخ المفيد: محمّد بن محمّد النعمان العكبري البغدادي، فخر الشيعة، ولد في بغداد سنة (336ه) وتوفي فيها سنة (413 ه)، له مصنّفات كثيرة
3- (3) ابن نوبخت: أحمد بن إبراهيم، أبو عبد الله النوبَخْتي، كان حيّاً قبل (326ه)، من أعلام المتكلَّمين، وشيوخ أهل الفقه والحديث، ومن أعيان بني نوبخت، اختص بأبي جعفر العمرى السفير الثاني للإمام المهدي (عليه السلام)، وكذا السفير الثالث الحسين بن روح.

احتجّ الأوّلون: بأن النفس معلومة، والجوهر المجرّد المذكور غير معلوم، فالنفس غير الجوهر المجرّد.

أمّا الصغرى، فلأنّ كلّ عاقل يحكم على ذاته بالفعل، والاتّصاف بالعوارض النفسانية، والمحكوم عليه معلوم.

وأمّا الكبرى، فظاهرة ، لأنّ كثيراً من الناس يحكم بهذه الأحكام على ذاته من غير أن يشعر بالجوهر المجرّد.

قال (دام ظلّه):« واحتجّ الآخرون: بأنّ هاهنا معلومات غير منقسمة، فالعلم بها غير منقسم، فمحلّ العلم غير منقسم، وكلّ جسم أو جسماني منقسم. ينتج : أنّ محلّ العلم ليس جسماً ولا جسمانياً.

فهاهنا أربع مقدّمات:

الأُولى: ثبوت المعلوم غير منقسم، وهو ظاهر؛ فإنّا نعلم واجب الوجود تعالى، وهو غير منقسم. ولأنّ المعلوم إن كان بسيطاً فهو غير منقسم [فقد ثبت المطلوب] (1)(1) ، وإن كان مركّباً استحال معرفته إلاّ بعد معرفة البسائط، ولأنّ الوحدة والنقطة والآن معلومات غير منقسمة، فقد ثبت المطلوب.

الثانية: أنّ العلم بهذه المعلومات غير منقسم، لأنّه لو انقسم لكان جزؤه، إمّا أن لا يكون علماً، أو يكون علماً بذلك المعلوم، أو بجزء ذلك المعلوم. والأقسام الثلاثة باطلة:

أمّا الأوّل: فلأنّ عند اجتماع الأجزاء إن لم يحصل أمر زائد لم يكن العلم علماً، وإن حصل كان التركيب في قابل العلم، أو فاعله، لا فيه.

ص: 327


1- (1) أثبتناه من المصدر.

وأمّا الثاني: فلاستلزامه [ المساواة بين الجزء والكلّ، وهو محال.

وأمّا الثالث: فلاستلزامه ] (1)(1) انقسام المعلوم، وقد فرض غير منقسم.

الثالثة: أنّ محلّ العلم غير منقسم، لأنّه لو انقسم، فإن كان حالاًّ في جزئه(2)(2) نقلنا الكلام إليه، وإن حلّ في كلّ جزء لزم انقسام العلم، وقد فرض غير منقسم، أو حلول العرض الواحد في محال متعدّدة، وهو محال.

الرابعة: أنّ كلّ جسم أو جسماني منقسم، وهو بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزء» (3)(3).

أقول: احتجّ القائلون بأن النفس جوهر مجرّد: بأن محلّ العلم غير [منقسم، وكلّ جسم و جسماني ينقسم، فمحلّ العلم غير ](4)(4) جسم ولا جسماني، فهو مجرّد.

أمّا الصغرى، فلأنّ لنا معلومات غير منقسمة، فالعلم بها غير منقسم، فمحلّه غير منقسم.

وأمّا الكبرى، فلِما بيّنا من انتفاء (5)(5) الجوهر الفرد.

فهذا الدليل يشتمل على أربع مقدّمات:

الأوّل: أنّ ها هنا معلومات غير منقسمة، وهو ظاهر، فإنّا نعلم واجب

ص: 328


1- (1) أثبتناه من المصدر.
2- (2) في المصدر: (جزء منه).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 74 - 75 الفصل الثالث عشر.
4- (4) أثبتناه من ب.
5- (5) في ب: نفي.

الوجود تعالى وهو غير منقسم، والوحدة والنقطة والآن معلومات وهي غير منقسمة، ولأنّ المعلوم إن كان بسيطاً فهو غير منقسم، وإن كان مركّباً استحال معرفته إلاّ بعد معرفة البسائط.

الثاني: أنّ العلم بهذه المعلومات غير منقسم، لأنّه لو انقسم، فإمّا أن لا يكون شيء من أجزائه علماً، أو يكون، فإن كان الأوّل، فعند الاجتماع إمّا أن لا يحصل زائد أو يحصل، فإنّ كان الأوّل فلا علم، وإن كان الثاني وهو أن يحصل زائداً لم يكن التركيب في العلم، بل في قابله، أو فاعله خاصّة، وإن كان الثاني وهو أن يكون جزؤه علماً، فإمّا بكلّ المعلوم أو ببعضه، والأوّل محال، وإلاّ لتساوى الجزء والكلّ ، لأنّ العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، فإذا كان الكلّ مساوٍ للمعلوم، والجزء مساوٍ للمعلوم أيضاً، لزم تساوي الكلّ والجزء، ولأنّ العلم بالمعلوم إمّا أن يتوقّف على حصول الجزء الآخر، أو لا، فإن كان الثاني لم يكن له مدخل في حصول العلم بالمعلوم فلم يكن علماً، وإن توقّف لم يكن هذا الجزء وحده علماً به، لأنّه مع حصوله بانفراده لا يحصل العلم، والثاني وهو أن يكون علماً ببعض المعلوم محال، لاستلزامه انقسام المعلوم، وقد فرض غير منقسم.

الثالث: أنّ محلّ العلم غير منقسم ، لأنّه لو انقسم لانقسم الحال [فيه](1)(1)، ولأنّ كلّ واحد من الأجزاء المفترضة في المحلّ إن لم يوجد فيه شيء من الحال لم یكن الحال حالاًّ في ذلك المحلّ، وإن وجد، فإمّا أن يكون الحال حاصلاً بتمامه في كلّ واحد من أجزاء المحلّ، وهو محال، لأنّه يستلزم حلول العرض الواحد في

ص: 329


1- (1) أثبتناه من ب.

المحال الكثيرة، وهو محال، أو يكون الحال بتمامه حاصلاً في بعض الأجزاء، والبعض الآخر لم يحصل فيه شيء أصلاً، فيكون ذلك الجزء هو محلّ العلم لا الكلّ، وننقل الكلام إليه، أو يحصل كلّ بعض منه في بعض من محلّه، يوجب(1)(1) الانقسام، وهو المطلوب.

وهذه المقدّمات التي يتم بها صغرى القياس.

الرابع: أنّ كلّ جسم أو جسماني منقسم، وهذا عين الكبرى، وقد بينّوها بنفي الجوهر الفرد.

قال (دام ظلّه): «والاعتراض:

أمّا المقدّمة الأُولى، فمسلّمة.

وأمّا الثانية، فممنوعة، لاستلزامه نفي الماهيات المركّبة، ونمنع كون التركيب في القابل والفاعل (2)(2) خاصّة على تقدير حصول الزائد، ونمنع المساواة في الحقيقة على تقدير المساواة في التعلّق.

والثالثة، أيضاً ممنوعة، لانتقاضها بالوحدة والإضافة.

والرابعة، أيضاً، وقد تقدّم بيانها» (3)(3).

أقول: لمّا ذكر حجّة الحكماء، اعترض عليها. وهو من وجوه:

الأوّل: المقدّمة الأُولى مسلّمة، لكن الثانية ممنوعة.

والدليل الذي ذكروه باطل؛ لاستلزامه نفي الماهيات المركّبة، لأنّ كلّ

ص: 330


1- (1) في ب: يوجد.
2- (2) في ب: (قابله وفاعله).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 75 الفصل الثالث عشر.

واحد من أجزاء ذلك المركّب إمّا أن يكون هو المركّب، أو لا، والأوّل باطل، وإلاّ لزم تركّب الشيء عن نفسه (1)(1) ، ومساواة الكلّ الجزء، والثاني أيضاً باطل، لأنّ عند الاجتماع إن لم يحصل أمر زائد لم يكن المركّب الذي فرضناه حاصلاً [حاصلاً ] (2)(2) ، وإن حصل زائد كان التركيب في قابل ذلك أو فاعله لا فيه.

الثاني: قوله : على تقدير حصول الزائد يلزم التركيب في القابل أو الفاعل لا في المركّب، ممنوع، إذ التركيب في المركّب، إذ معنى التركيب حصول أمر لم يكن للأجزاء، والمركّب (3)(3) عبارة عن ذلك الزائد والأجزاء.

الثالث : المنع من مساواة أجزاء العلم لكلّه في الماهية، على تقدير مساواتها في التعلّق بكلّ العلوم.

الرابع: المنع من المقدّمة الثالثة، لانتقاضها بالوحدة والإضافة، فإنّهما حالتان في المنقسم، وهما غير منقسمين.

الخامس: المنع من المقدّمة الرابعة، لما بينّا من ثبوت الجوهر الفرد.

في إعادة المعدوم

قال (دام ظلّه): «البحث الثاني: في إعادة المعدوم:

واختلف الناس هنا، فمنعه المحقّقون، وأثبته آخرون.

أمّا الأوّلون: فقد احتجّوا بأنّ ما عدم لم يبق له هوية حتّى يصحّ الحكم

ص: 331


1- (1) في أ: ( عن غير نفسه)، وما أثبتناه من ب، ج.
2- (2) أثبتناه من ب.
3- (3) في ج: (إذ المركّب).

عليها بالإمكان، ولأنّه لو أعيد لأعيد مع وقته فيكون مبتدأ معاداً، ولانتفاء امتیازه عن مثله لو وجد» (1)(1).

أقول: ذهب مثبتو المعتزلة: إلى إمكان إعادة المعدوم.

وذهبت الحكماء : إلى امتناعه. وهو الحقّ.

لنا وجوه (2)(2):

الأوّل: أنّ ما عُدم لم يبق له هوية، وما كان كذلك امتنع الحكم عليه بصحّة العود.

والصغرى بديهية. والكبرى مبرهنة.

الثاني : لو صحّ إعادة المعدوم، لصحّ إعادة الوقت الذي وقع فيه ابتداءً، ويصحّ أن يعاد هو في ذلك الوقت بعينه، فيكون وقت إعادته هو بعينه وقت ابتدائه، فيكون هو مبتدأ من حيث معاداً.

الثالث: أنّه إذا أعيد وحصل معه مثله، فليس كون أحدهما في نفسه هو الذي كان أولى من كون الآخر، فيلزم أن لا يتميّز الشيء عن غيره.

والحقّ، أنّ امتناع إعادة المعدوم ضروري (3)(3).

ص: 332


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 76 الفصل الثالث عشر.
2- (2) العبارة في ب: (وهو اختيار المصنّف وجماعة من المتكلّمين، واحتجّوا بوجوه).
3- (3) العبارة في ب: (الثالث: لو أمكن إعادة المعدوم، لأمكن إيجاد مثله في وقت إعادته بدله، ولتساوى أفراد الماهية في الإمكان، لكن اللازم باطل، وإلاّ لارتفع الامتياز بينه وبين مثله، لإيجاد الماهية والمحلّ بالعوارض المشخصة، لأنّها إنّما تختلف باختلاف المحلّ، فمع إيجاده لا تختلف، فيرتفع الامتياز بين المعاد والميل، المبتدأ في نفس الأمر مع وجود الاثنينية، وهو محال بالضرورة).

قال (دام ظلّه): «وأمّا الآخرون: فقد احتجّوا بأنّه ممكن الوجود والعدم، لاتّصاف ماهيته بهما، فيكون قابلاً لهما. ومع عدمه لا يخرج عن الإمكان، لاستحالة انتقال الشيء من الإمكان إلى الامتناع.

وقد بحثنا عن كلام الفريقين في كتاب (النهاية).

والمعتمد: ادّعاء الضرورة على الحكم الأوّل» (1)(1) .

أقول: احتجّ القائلون بإمكان إعادة المعدوم: بأنّه ممكن الوجود والعدم، لأنّ ماهيته قد اتّصفت بهما، فيكون قابلاً لهما، ومع عدمه لا يخرج عن الإمكان، لاستحالة انتقال الشيء من الإمكان إلى الامتناع الذاتي، وإذا بقي بعد عدمه على الإمكان جاز وجوده ثانياً .

والحقّ (2)(2) : إنّ الحكم بامتناع إعادة المعدوم ضروري.

في إمكان انعدام العالما

قال (دام ظلّه): «البحث الثالث: في صحّة عدم العالم:

خلافاً للفلاسفة والكرّاميّة، لأنّه محدَث فتكون ماهيته قابلة للوجود والعدم بالضرورة. ولأنّ استحالة العدم لو كان لذاته كان واجباً لذاته، هذا خلف، وإلاّ ثبت المطلوب» (3)(3).

ص: 333


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 76 الفصل الثالث عشر.
2- (2) في ب:(وقال الأوّلون).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 76 الفصل الثالث عشر.

أقول: اختلف الناس في ذلك. وحصر المذاهب فيه أن يقال (1)(1):

العالم إمّا أن يكون محال العدم، أو لا يكون، فإن كان، فإمّا أن تكون استحالة عدمه لذاته، أو لغيره.

والأوّل، مذهب بعض القدماء (2)(2)، لأنّهم زعموا: أنّ العالم واجب الوجود بذاته.

وأمّا الثاني، فإمّا أن تكون تلك الاستحالة لأنّ العالم معلول علّة واجب الوجود بذاتها، وبقاء العلّة يقتضي بقاء المعلول، وهذا هو مذهب جمهور الفلاسفة، وإمّا أن تكون الاستحالة لأنّ عدمه يوقّف على شرط محال، والمتوقّف على المحال محال، فعدمه محال، وهو مذهب الكرّاميّة.

والثاني، وهو أن يكون محال العدم لا لذاته ولا لغيره، وهو مذهب المسلمين وأرباب الملل ؛ وهو الحقّ لنا.

إنّ العالم محدَث، وكلّ محدَث فإنّ ماهيته قابلة للوجود والعدم، وبالنظر إلى علّته، وهو أيضاً كذلك.

أمّا الصغرى، فقد بينّاها.

وأمّا الكبرى، فظاهرة، فإنّ المحدَث هو الذي يكون وجوده مسبوقاً بالعدم، وهو مستند إلى القادر المختار لحدوثه، فهو بالنظر إلى علّته لا يكون واجباً أيضاً.

قال (دام ظلّه): «وهل يعدم أم لا؟

ص: 334


1- (1) في ب: نقول.
2- (2) في ب: الحكماء.

منع منه أبو الحسين وأتباعه، وإلاّ لم يعد، لاستحالة إعادة المعدوم عنده، بل إنّما تتفرّق أجزاؤه.

ومن جوّز إعادة المعدوم حكم بعدمه، لقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وجهه﴾.

وتأوّله أبو الحسين بالخروج عن الانتفاع»(1)(1).

أقول: اختلف الناس (2)(2) في ذلك:

فذهب جمهور المتكلّمين(3)(3): إلى أنّه يعدم.

وذهب أبو الحسين البصري (4)(4) وأتباعه: إلى أنّه لا يعدم، وإنّما تتفرّق أجزاؤه، فإذا أراد [الله] (5)(5) إعادته جمع تلك الأجزاء المتفرّقة وردّها إلى ما كانت عليه.

احتجّ أبو الحسين: بأنّه لو عدم امتنعت إعادته، واللازم باطل، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : ما تقدّم من استحالة إعادة المعدوم.

بيان بطلان التالي، فبالإجماع من المسلمين.

وأمّا الآخرون، فحيث جوّزوا إعادة المعدوم، حكموا بعدمه، لقوله تعالى:

ص: 335


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 76 الفصل الثالث عشر.
2- (2) في ب، ج: المسلمون.
3- (3) فى أ: (المسلمين)، وما أثبتناه من ب، ج.
4- (4) محمّد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي (ت 436ه)، تقدّم.
5- (5) أثبتناه من ب.

﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ﴾ (1)(1) .

وأجاب عنه أبو الحسين: بأنّ الهلاك المراد به هو الخروج عن الانتفاع.

ولا شكّ أنّ الأجزاء المتفرّقة التي صارت رمياً خرجت عن حدّ الانتفاع.

قال (دام ظلّه): «والحقّ جواز استناد الإعدام إلى الفاعل لا إلى ضدّ، هو الفناء، ولا إلى نفي فعل البقاء، لما تقدّم من بطلانها»(2)(2).

أقول: اختلف القائلون بالعدم في كيفية العدم. وحصر المذاهب في ذلك أن نقول:

العالم إمّا أن يقال ببقائه، أو لا يقال.

والثاني، مذهب النظّام (3)(3) على ما حكي عنه، وعلى هذا فسبب عدمه أنّ الله تعالى لا يحدّد وجوده.

وأمّا الأوّل، فإمّا أن يقال: أنّه باقٍ ببقاء، أو لا.

والأوّل، مذهب الأشاعرة، والبغداديين من المعتزلة، فإنّهم زعموا: أنّ العالم باقٍ ببقاء غير باقٍ، فإذا أراد الله تعالى إعدامه قطع ذلك البقاء عنه فعدم.

وأمّا الثاني، فإمّا أن يعدم بإعدام المعدوم، أو بزوال الشرط، أو بوجود الضدّ.

والأوّل، مذهب قوم من المسلمين، فإنّهم يقولون: إنّ الله تعالى إذا أراد

ص: 336


1- (1) سورة القصص: 88 .
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين 76 - 77 الفصل الثالث عشر.
3- (3) إبراهيم بن سيار البصري المعتزلي، أبو إسحاق النظّام (ت 231ه)، تقدّم.

عدم العالم أو عدمه ابتداءً، إمّا بقوله : أفن، فيفنى، كما قال له: كن، فكان، أو غير ذلك.

والثاني، مذهب قوم آخرين، فإنّهم يقولون: إنّ الأجسام محتاجة إلى الأكوان، والأكوان غير باقية، فإذا أراد الله تعالى إعدام العالم قطع

عنه الأكوان فعدم .

والثالث، مذهب جماعة من شيوخ المعتزلة، وذلك الضدّ إمّا أن لا يكون في محلّ ولا في جهة، أو يكون في جهة، أو في محلّ، فالأوّل مذهب أبي علي وأبي هاشم(1)(1) ، وجماعة من المعتزلة والإمامية. والثاني مذهب بعض شيوخ المعتزلة.

واختيار المصنّف: أنّه يعدم بإعدام الفاعل، وهو مذهب جماعة من الإمامية.

وقد تقدّم بطلان الأقوال الباقية.

قال (دام ظلّه): «ويجوز انخراق الأفلاك وانتثار الكواكب، لأنّها ممكنة محدَثة، وهو واقع لإخبار الصادق (عليه السلام) به» (2)(2)

أقول: هذا هو مذهب المسلمين، خلافاً للفلاسفة.

أمّا الإمكان، فلأنّها ممكنة، فيمكن عدمها بالنظر إلى ذاتها، وإلى علّتها لاستنادها إلى الفاعل المختار لأنّها محدَثة، والمحدَث لا يستند إلاّ إلى المختار .

وأمّا وقوعه، فلإخبار الصادق(عليه السلام) (3)(3) به.

ص: 337


1- (1) الجبائيان: أبو على محمّد بن عبد الوهاب (ت 303ه) ، وابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمّد (ت 321ه).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 77 الفصل الثالث عشر.
3- (3) أي: الرسول (صلّى الله عليه وآله).

في إمكان خلق عالم آخر

قال (دام ظلّه): «البحث الرابع: في إمكان خلق عالم آخر:

والخلاف الفلاسفة، لأنّه(1)(1) لو امتنع لما وجد هذا العالم، لوجوب تساوي الأمثال في الأحكام. وللإجماع. ولقوله تعالى: ﴿أَولَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ... ﴾الآية» (2)(2).

أقول: ذهب المسلمون إلى إمكان خلق عالم آخر، خلافاً للفلاسفة.

والدليل عليه، من حيث العقل والسمع:

أمّا العقل : فهو أنّ هذا العالم الثاني لو كان مستحيل الوجود، لكان هذا العالم كذلك، لأنّ حكم المثلين التساوي في كلّ الأحكام اللازمة، لكن هذا العالم ممكن بالاتّفاق، فالعالم الثاني كذلك.

وأمّا السمع، فمن وجهين:

الأوّل: إجماع الأُمّة على ذلك، ولا خلاف بين المسلمين فيه.

الثاني: قوله تعالى: ﴿أَولَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ﴾ (3)(3)، وهذا نصّ في المسألة.

والسمع يصحّ أن يكون دليلاً.

ص: 338


1- (1) في المصدر: (والدليل عليه: أنّه).
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 77 الفصل الثالث عشر.
3- (3) سورة يس : 81 .

قال (دام ظلّه): «واحتجاج الفلاسفة بإمكان الخلأ حينئذ ضعيف، لما تقدّم من جوازه. وتخصيص العناصر بأمكنتها باختياره تعالى»(1)(1) .

أقول: احتجّت الفلاسفة على امتناع وجود عالم آخر بوجهين:

الأوّل: بأنّه لو وجد، لكان شكله الطبيعى الكرة، والكرتان إذا لم تحط إحديهما بالأُخرى حصل الخلأ بينهما، وهو محال.

الثاني: لو قدّرنا ،عالمين، في كلّ واحد منهما أرض وماء وهواء ونار، لزم أن تكون الأجسام المتّفقة بالطبع أمكنة مختلفة بالطبع ، وذلك محال، أو يكون هناك قسر دائم، وهو محال. ولأنّ ترجيح أحد الأرضين المكانين دون الأخرى ترجيح من غير مرجّح.

والجواب عن الأوّل: بالمنع من استحالة الخلأ.

وعن الثاني: بالمنع من اقتضاء كلّ جسم مكاناً طبيعياً، بل المخصّص هو اختيار القادر المختار، وإن سلّمنا المخصّص هو القادر المختار (2)(2) ، وبمنع القسر .

في انقطاع التكليف

قال (دام ظلّه): «البحث الخامس: في وجوب انقطاع التكليف:

لأنّه إن وجب إيصال الثواب إلى مستحقّه، وجب القول بانقطاعه، لكن المقدّم حقّ إجماعاً، ولِما بيّنا من حكمته تعالى، فالتالي مثله.

ص: 339


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 77 الفصل الثالث عشر.
2- (2) (وإن سلّمنا المخصّص هو القادر المختار ) لا يوجد في ب.

بيان الشرطية : إنّه لو لم يجب انقطاعه لزم الإلجاء، وهو ينا في التكليف» (1)(1) .

أقول: يجب انقطاع التكليف.

والدليل عليه، أن نقول:

إن وجب إيصال الثواب إلى مستحقّه، وجب القول بانقطاع التكليف، والمقدّم حقّ، فالتالي مثله.

بيان الملازمة : إنّه لولا انقطاعه لزم الإلجاء، فإنّ العقاب في الآخرة عاجل، فإذا عصى المكلّف فيها عاقبه، وإن أطاع أثابه، وهذا هو الإلجاء. فإنّ من قال لغيره افعل كذا وإلاّ عاقبتك بهذا النوع من العقاب كان إلجاء، والإلجاء ينافي التكليف.

وبيان حقيقة المقدّم، من وجهين:

الأوّل: إجماع المسلمين عليه.

الثاني: لو لم يصل الثواب إلى مستحقّه لكان ظلماً، وهو ينا في الحكمة، وقد بينّا حكمته تعالى.

قال (دام ظلّه): « والحدود ليست ملجئة، لتجويز مستحقّها عدم الشعور به. وتخيير النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الأعرابي بين القتل والإسلام إلجاء، وحسن في ابتداء التكليف لفائدة دخوله في الإسلام بعد الاستبصار، وإمكان سماعه للأدلّة، بخلاف ما لو بقي على كفره، فإنّه يجوز أن لا يسمع أدلّة الحقّ، فلا يحصل له الاستبصار، وإسلامه حينئذ لا يستحقّ به ثواباً » (2)(2) .

ص: 340


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 77 الفصل الثالث عشر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين : 77 الفصل الثالث عشر.

أقول: هذه أجوبة عن اعتراضات واردة على الدليل المذكور.

وهو أن نقول: الشرطية ممنوعة.

قوله: لو لم ينقطع لزم الإلجاء، وهو منافٍ للتكليف.

قلنا: منقوض بالحدود، وتخيير النبيّ (عليه السلام) الأعرابي بين القتل والإسلام، فإذا اختار الإسلام حكم بصحّة إسلامه، فإمّا أن يكون بتخويفه بالقتل ملجئاً له إلى الإسلام، أو لا، فإن كان الأوّل، فلِم لا يجوز مثله، تمّ. وإن كان الثاني، فلا منافاة بين التكليف والإلجاء، فكذا تمّ.

والجواب أنّ العلم بأنّه لو وصل الحقّ إلى مستحقّه في دار التكليف اقتضى الإلجاء ضروري، ومنافاة الإلجاء للتكليف ظاهرة على قواعد المعتزلة، فتمّت الملازمة.

والنقض بالحدود غير (1)(1) وارد ، لأنّها ليست ملجئة، لأنّ الذي يفعل ما يستحقّ به الحدّ يجوز أن لا يعلم بحاله بخلاف الآخرة، لأنّ الله تعالى هو المعاقب، ثمّ وهو يعلم به ومع ذلك فلأن يكون علمه بالحدّ ملجئاً.

والنقض بالأسير أيضاً غير وارد، لأنّ الأعرابي المخيّر إسلامه في هذه الحالة لا يستحقّ به الثواب، ولا يكون من باب التكليف، وإنّما حسن ذلك، لأنّه إذا حكم بإسلامه حينئذ وصار من جملة المسلمين ظاهراً وعلّمه ما يحتجّ به المسلمون استبصر بعد ذلك وصار إسلامه اختياراً، بخلاف حالة الكفر فإنّه يكون معانداً لِما يحتجّ به المسلمون فلا يسمعه، وإذا لم يسمعه فلا يستبصر، فجعل

ص: 341


1- (1) في ب: ليس.

الشارع ذلك طريقاً إلى إسلامه على سبيل الإجبار، وهذا من جملة حكمة الشارع، وإسلامه حينئذ لا يستحقّ به ثواباً.

في إثبات المعاد الجسماني

قال (دام ظلّه): «البحث السادس: في إثبات المعاد البدني:

والخلاف فيه مع الفلاسفة.

اعلم، أنّ صحّة المعاد البدني يتوقّف على أمرين:

أحدهما: أنّ الله تعالى قادر على كلّ مقدور.

والثاني: أّنّه تعالى عالم بكلّ معلوم، ولهذا فإنّ الكتاب العزيز قد اشتمل على إثبات المعاد البدني في عدّة مواضع، وكلّ موضع حكم فيه بإثباته قرّرها بين هاتين المقدّمتين.

أمّا افتقاره إلى القدرة فظاهر، إذ الفعل الاختياري إنّما يصحّ بها.

وأمّا افتقاره إلى العلم، فلأنّ الأبدان إذا تفرّقت وأراد الله تعالى جمعها، وجب أن يردّ كلّ جزء إلى صاحبه، وإنّما يتم ذلك بعلمه [تعالى] (1)(1) بالأجزاء وتناسبها، بحيث لا يؤلّف جزءاً من بدن زيد مع جزء من بدن عمرو.

وكذا إن جوّزنا إعادة المعدوم، وقلنا : إنّ الله تعالى يعدم العالم بجملته» (2)(2) .

أقول: اختلف الناس في المعاد الجسماني.

ص: 342


1- (1) أثبتناه من المصدر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 78 الفصل الثالث عشر.

فذهبت الفلاسفة: على نفيه.

وذهب المسلمون: إلى إثباته.

وصحّة المعاد البدني يتوقّف على مقدّمتين:

الأول: أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور.

الثاني: أنّه تعالى عالم بكلّ معلوم.

ولهذا السبب كلّ موضع ذكر الله تعالى فيه المعاد البدني قرّر هاتين المقدّمتين، كقوله تعالى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (1)(1) ، [﴿الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ، هي المقدّمة الأُولى، وقوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ ] (2)(2) ، هي المقدّمة الثانية.

وإنّما قلنا : بافتقارها إلى هاتين المقدّمتين:

أمّا الأُولى، فتوقّفه عليها ظاهر.

وأمّا الثانية، فلأنّا إمّا أن نقول بتفرّق أجزاء البدن وعند الإعادة يجمعها، أو نقول بعدم الأبدان.

وتوقّفه على التقدير الأوّل ظاهر، فإنّ الأبدان إذا تفرّقت أجزاؤها وأراد الله تعالى جمعها، وجب أن يردّ كلّ جزء إلى صاحبه ومع الجزء المناسب له، وإنّما يتم ذلك بعلمه بالأجزاء وتناسبها، بحيث لا يؤلّف جزءاً من بدن زيد مع جزء من بدن عمرو، ولا يؤلّف جزءً مع جزء لا يناسبه.

ص: 343


1- (1) سورة يس : 78، 79 .
2- (2) أثبتناه من ب.

وأمّا على التقدير الثاني، فلأنّ العالم إذا عدم بجملته، فإذا أراد الله تعالى إعادتها، وجب أن يعلم بكلّ بدن وأجزائه وتناسبها، حتّى يعيدها كما كانت أوّلاً.

قال (دام ظلّه): «وأمّا إمكان الإعادة بعد هاتين المقدّمتين فظاهر، لأنّ جمع الأجزاء بعد تفرّقها لا شكّ في إمكانه، كالابتداء، وكذا إن جوّزنا إعادة المعدوم.

وأمّا الوقوع: فيدلّ عليه السمع، فإنّا نعلم من دين محمّد(عليه السلام) وقوع المعاد البدني، ولأنّا قد بينّا أنّه تعالى حكيم يوصل كلّ مستحقّ إلى مستحقّه، فلا بدّ من الإعادة» (1)(1) .

أقول: الكلام إمّا في إمكان المعاد، أو في وقوعه.

أمّا الأوّل، فنقول:

لمّا تقرّر أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور، وعالم بكلّ معلوم، ظهر إمكان المعاد، فإنّ جمع الأجزاء بعد تفرّقها أمر ممكن بالضرورة، وإلاّ لم يوجد أوّلاً، لاستحالة انقلاب الشيء من الإمكان إلى الامتناع، والله تعالى عالم بأجزاء كلّ بدن، فإمكان جمع أجزاء كلّ بدن إليه، هذا إذا قلنا: إنّ الإعادة بجميع الأجزاء، وأمّا على القول بعدم العالم، وأنّ إعادة المعدوم ممكنة، فكذلك أيضاً لإمكانه.

وأمّا الثاني، وهو الوقوع، فيدلّ عليه السمع والعقل.

أمّا السمع، فإنّا نعلم بالضرورة من دين محمّد (عليه السلام) وقوع المعاد الجسماني.

ص: 344


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 78 الفصل الثالث عشر.

وأمّا العقل، فإنّا قد بيّنا أنّه تعالى حكيم، والحكمة تنفي الظلم، فيجب إيصال كلّ مستحقّ إلى مستحقّه (1)(1) ، فلا بدّ من الإعادة ليوصل كلّ مستحقّ إلى مستحقّه (2)(2) باعتبار التكاليف.

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّ الإعادة إن وقعت في هذا العالم لزم التداخل، وإن وقعت في عالم آخر لزم الخلأ. ولأنّ الإنسان لو أكل مثله، فإن أعيد المأكول إلى بدن الأوّل ضاع الثاني، وبالعكس.

والجواب عن الأوّل: أنّ التداخل إنّما يلزم لو بقي هذا العالم وكان ملاءاً، أمّا على تقدير عدمه أو ثبوت الخلأ فلا.

وعن الثاني: أنّ المأكول بالنسبة إلى الآكل ليس من أجزائه الأصلية، فيعاد إلى الثاني، ولا يضيع أحدهما » (3)(3).

أقول: احتجّت الحكماء على مذهبهم بوجهين:

الأوّل: أنّه لو أعيدت الأبدان بعد وفاتها، لكانت إمّا أن تعاد في هذا العالم، أو في عالم آخر، والأوّل يقتضي تداخل الأجسام، وهو محال، والثاني يقتضي وقوع الخلأ، لِما بينّا في استحالة خلق عالم آخر، من أنّ الكرتين إذا اجتمعتا لزم الخلأ بينهما.

الثاني: أنّ الإنسان إذا أكل إنساناً مثله، فلو أعيد ذلك البدن، فإمّا أن يعاد في بدن الإنسان الأوّل، أو في بدن الإنسان الثاني، وعلى كلا الحالين يلزم أن

ص: 345


1- (1) في ب: (ما يستحقّه).
2- (2) في ب: (ما يستحقّه).
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 78 - 79 الفصل الثالث عشر.

يعاقب غير العاصي وأن يثاب غير المطيع، وذلك لا يليق في الحكمة.

الجواب عن الأوّل: بمنع لزوم التداخل، لأنّه إنّما يلزم لو قلنا ببقاء هذا العالم وكان ملاء، أمّا على تقدير عدم هذا العالم وجواز الخلأ، فلا يلزم التداخل ولا استحالة.

وعن الثاني: أنّ المأكول بالنسبة إلى الآكل ليس من أجزائه الأصلية، [فيعاد إلى الثاني](1)(1)، ولا يضيع أحدهما.

قال (دام ظلّه): «إذا ثبت هذا.

فاعلم، أنّه يجب عقلاً إعادة من يستحقّ ثواباً أو عوضاً على الله تعالى، أو على غيره، لوجوب الانتصاف، ومن يستحقّ عليه العوض.

وسمعاً إعادة الكفّار وأطفال المؤمنين. ومن عدا هؤلاء لا يجب إعادته » (2)(2).

أقول: الشخص المعيّن إمّا أن يجب إعادته، أو لا يجب.

فإن وجب، فإمّا أن يجب عقلاً لمستحقّ (3)(3) الأعواض على الله تعالى، لئلا يكون إيلامهم ظلماً، ومستحقّ الأعواض على غير الله تعالى لوجوب الانتصاف، والمستحقّ عليهم الأعواض أيضاً لأجل ذلك؛ وإمّا أن يجب إعادته سمعاً، وهم الكفّار وأطفال المؤمنين، فإنّه لا خلاف بين المسلمين في ذلك؛ وإمّا أن يجب

ص: 346


1- (1) أثبتناه من ب، ج.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 79 الفصل الثالث عشر.
3- (3) في ب: كمستحقّ.

إعادته عقلاً وسمعاً، وهم المستحقّون للثواب، وإلاّ لامتنع إيصال الحقّ إليهم، لأنّه لا خلاف بين المسلمين فى ذلك. وإمّا من لا يجب إعادته ممّا عدا من ذكرناه كأطفال الكفّار .

في الثواب والعقاب

قال (دام ظلّه): «البحث السابع: في استحقاق المطيع للثواب، والعاصي للعقاب:

والثواب هو : النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال.

وقد اختلف في استحقاقه بالطاعة، فالذي عليه المعتزلة ذلك، ونازع فيه الأشاعرة، والكعبي.

لنا: أنّ التكليف مشقّة، فإن لم يستلزم عوضاً كان قبيحاً، فذلك العوض إن صحّ الابتداء به، كان توسط التكليف عبثاً، فتعيّن الثاني» (1)(1) .

أقول: الثواب، هو : النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال.

و«النفع»، كالجنس.

وقولنا: المستحقّ»، احتراز من التفضّل.

وقولنا : «المقارن للتعظيم والإجلال» ، احتراز من الأعواض.

واختلف الناس في استحقاقه بالطاعة:

فذهبت الإمامية، والمعتزلة إلى ذلك، ومنعه الأشاعرة، والكعبي(2)(2)

ص: 347


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 79 الفصل الثالث عشر.
2- (2) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني المعتزلي (ت 319ه)، تقدّم.

لنا: أنّ التكليف إلزام المشقّة، وإلزام المشقّة من غير عوض قبيح، فالتكليف من غير عوض قبيح.

أمّا أنّ التكليف إلزام المشقّة، فممّا لا شبهة فيه.

وأمّا الثانية، فبديهية.

وإذا كان لا بدّ من العوض، فذلك العوض إمّا أن يكون ممّا يصحّ الابتداء بمثله، أو ممّا لا يصحّ الابتداء بمثله، والأوّل باطل، وإلاّ لكان التكليف لأجله عبثاً، فتعيّن الثاني وهو الثواب، لأنّ الثواب هو النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال.

قال (دام ظلّه): «احتجّت الأشاعرة: بأنّه تعالى هو الحاكم، فلا يستحقّ عليه شيء. وبأنّ المرتدّ إن وصل إليه الثواب تضادّ الاستحقاقان، وإلاّ خلت طاعته عن عوض.

احتجّ البلخي: بأنّ نِعَم الله تعالى لا تحصى، فالشكر عليها يكون أبلغ ما يمكن، وهو العبادة، فلا يستعقب ثواباً، فإنّ المؤدّي لِما وجب عليه لا يستحقّ به عوضاً» (1)(1).

أقول: هذا احتجاج الأشاعرة ، والبلخي (2)(2) على منع استحقاق المطيع للثواب بطاعته .

ص: 348


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 79 الفصل الثالث عشر.
2- (2) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي الخراساني المعتزلي (ت 319ه)، تقدّم.

أمّا الأشاعرة فقد احتجّوا على مذهبهم بوجهين:

الأوّل: أنّ الله تعالى هو الحاكم في عبيده، فلا يستحقّ عليه بطاعتهم شيء، كما أنّ العبد لا يستحقّ على سيّده أُجرة بخدمته.

الثاني: أنّه لو كان المطيع يستحقّ بطاعته الثواب، لزم اجتماع النقيضين، واللازم ،باطل، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة: إنّ المطيع لو ارتدّ ومات على ردّته، لاستحقّ بطاعته ثواب المؤمنين، ولكنّه يستحقّ بردّته العذاب الدائم (1)(1) باتّفاق المسلمين، فيجتمع الضدّان لتضادّ الاستحقاقين.

وأمّا البلخي، فقد احتجّ : بأنّ العبادات إنّما وجبت لمقابلة نعم الله تعالى، وكلّما كانت كذلك فإنّه لا يستحقّ به شيء من الثواب.

بيان الأوّل: إنّه لمّا كانت نعم الله تعالى أعظم النعمة وأجلّها، لأنّها الإيجاد، والإحياء، والإقدار، والتمكين، والإعلام، وخلق الحواس الخمس والشهوات، التي لولاها لما انتفع أحد بشيء من الملاذ، ولا التذّ بنعمة أحد من المنعمين، فلذلك كانت نعمته أجلّ، فيجب أن يكون الشكر المستحقّ في مقابلها أعظم الشكر وأّتمّه، وأعظم الشكر هو الخضوع والتذلّل بين يدي المنعم، وهو العبادة (2)(2)، فلذلك وجبت عبادته.

أمّا الثاني: فالعلم بها ضروري، لأنّا نعلم بالضرورة أن من أنعم على غيره

ص: 349


1- (1) في ب: الأليم.
2- (2) في ب: الصلاة.

فشكره ذلك الغير على نعمه، فإنّ الشاكر لا يستحقّ بذلك الشكر شيئاً.

قال (دام ظلّه): «والجواب: أنّ الوجوب ليس هو الشرعي، بل هو متعلّق المدح، والمرتدّ لا يستحقّ ثواباً، لأنّ شرط استحقاق الثواب الموافاة، ولم تحصل.

لا يقال: الموافاة لو كانت شرطاً لزم أن تكون العلّة إنّما تؤثّر حال عدمها لا حال وجودها.

لأنّا نقول : الاستمرار على الطاعة هو الشرط، وهو المراد بالموافاة، لا عدم الحياة.

وقول البلخي ضعيف؛ فإنّ الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم مع ضرب من التعظيم، وهو ضروري للعقلاء، إذ يحكم كلّ عاقل بوجوب شكر المنعم بهذا المعنى، أمّا كيفية الشرائع فلا»(1)(1).

أقول: لمّا ذكر احتجاج الأشاعرة، والبلخي، شرع في الجواب.

وتقريره:

أمّا عن الأوّل: فبأنّ الوجوب هنا ليس المراد به الوجوب الشرعي، بل العقلي، وهو استحقاق المدح بالفعل، والذمّ بالترك، وعلى الله تعالى الملائم (2)(2) ، والسيّد قد يجب عليه لعبده شيء بالعقل.

وعن الثاني: بأنّ المرتدّ لا يستحقّ ثواباً بالطاعة السابقة، لأنّ شرط استحقاق الثواب بالطاعة الموافاة، فإذا ارتدّ لم يحصل الشرط.

اعترض: بأنّه لو كانت الموافاة شرطاً ، لكانت العلّة لا تؤثّر حال وجودها،

ص: 350


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 79 - 80 الفصل الثالث عشر.
2- (2) العبارة في ب: (وعلى الله تعالى بأنّ يوافق الحكمة، وتركه ضدّها).

بل إنّما تؤثّر حال عدمها، وهو محال.

وأجاب عنه المصنّف: بأنّه إنّما يلزم ذلك لو قلنا: إنّ شرط الاستحقاق هو الموت. وأمّا إذا قلنا: إنّ شرط الاستحقاق هو الاستمرار على الإيمان إلى حال الموت. لم يلزم ما ذكرتم، لأنّ الإيمان يكون موجوداً في جميع أحوال الاستمرار.

وعن الثالث: وهو احتجاج البلخي: بأن نمنع أنّ العبادات مقابلة النعم وشكراً لها، بل الشكر، هو : الاعتراف بنعمة المنعم مع ضرب من التعظيم لا العبادات المعنية.

ودليله: إنّ العقلاء يعلمون أنّ شكر المنعم واجب بالضرورة، فلا بدّ وأن يكونوا عالمين بحقيقة الشكر، وإلاّ لم يصحّ أن يحكموا عليه بالوجوب، لأنّ التصديق مسبوق بالتصوّر، والذي عليه (1)(1) العقلاء هو شكر مغايرة العبادة (2)(2) ، فلو كانت العبادة شكراً، لوجب أن يعقل العقلاء كيفية الشرائع بالضرورة ، وهو

باطل.

قال (دام ظلّه): «وأمّا استحقاق العاصي للعقاب بالمعصية، فقد اتّفق أهل العدل عليه، خلافاً للأشاعرة؛ لكنّهم اختلفوا:

فالمعتزلة: على أنّه عقلي.

والمرجئة، والإمامية: على أنّه سمعي.

واحتجّت المعتزلة: بأنّ فعل العقاب لُطف فيكون واجباً.

ص: 351


1- (1) في ب: علمه.
2- (2) في ب: (الشكر المغاير للعبادة)، وفي ج: (شكراً مغاير العبادة).

أمّا المقدّمة الأُولى: فلأنّ المكلّف إذا علم أنّه متى عصى عوقب كان ذلك زاجراً له.

وأمّا الثانية فقد سلفت» (1)(1) .

أقول: اتّفق أهل العدل على أنّ العاصي يستحقّ بمعصيته العقاب، وخالفهم في ذلك الأشعرية ومن وافقها.

ثمّ اختلف أهل العدل في طريق العلم به :

فذهبت المعتزلة : إلى أنّ العلم به مستفاد من العقل.

وذهبت المرجئة (2)(2) ومن وافقها من الإمامية وغيرهم: إلى أنّ العلم به مستفاد من السمع.

احتجّت المعتزلة : بأنّ فعل العقاب لُطف، واللّطف واجب.

أمّا الصغرى، فلأنّ المكلّف إذا علم أنّه متّى عصى عوقب، كان ذلك زاجراً له عن فعل المعصية ومقرّباً له إلى تركها، ولا نعني باللّطف إلاّ ذلك.

وأمّا الكبرى، فقد تقدّمت.

في بقايا مباحث الثواب والعقاب

قال (دام ظلّه): «البحث الثامن: في بقايا مباحث الثواب والعقاب:

ص: 352


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 80 الفصل الثالث عشر.
2- (2) المرجئة : فرقة من المسلمين اعتقدوا بأن لا يضر مع الايمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وأنّ الله أخّر تعذيبهم عن المعاصي. وهم في فرق المسلمين ما عدا الشيعة. وقيل: إنّ رأس المرجئة هو أبو حنيفة.

وهي سبعة مباحث:

في دوام الثواب والعقاب

الأوّل: ذهبت المعتزلة : إلى أنّ العلم بدوام الثواب والعقاب عقلي، لأنّه أدخل في باب اللّطف، فيكون أدخل في باب الوجوب.

ولأنّ علّة الثواب والعقاب الطاعة والمعصية، وهما علّتان للمدح والذمّ الدائمين، فيلزم دوام العلّتين، فيدوم المعلولان الآخران.

ولأنّ الثواب والعقاب يجب خلوصهما عن جميع الشوائب، فلو كانا منقطعين لكان الثواب مشوباً بالألم، للعلم بانقطاعه والعقاب بالسرور كذلك» (1)(1) .

أقول: ذهبت المعتزلة ومن وافقها: إلى أنّ العلم بدوام الثواب والعقاب عقلي.

وذهبت المرجئة ومن وافقها: إلى أنّه سمعي.

احتجّت المعتزلة بوجوه:

الأوّل: أنّ العلم بالثواب الدائم والعقاب الدائم أدعى إلى فعل الواجب وترك القبيح، وكلّ ما كان كذلك كان أدخل في باب الوجوب.

الثاني: أنّ المقتضي للثواب والعقاب، والمدح والذّم ، هو المعصية والطاعة، فلمّا كان المدح والذّم دائمين، وجب أن يكون الثواب والعقاب دائمين، لأنّ المعلول إنّما يدوم بدوام العلّة، فلمّا دام المدح والذمّ مع أنّهما معلولا الطاعة

ص: 353


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 80 الفصل الثالث عشر.

والمعصية، فلا بدّ وأن يكون الطاعة والمعصية كالدائمين، وإلاّ لما دام مقتضاهما، وإذا كانا كالدائمين وهما مقتضيان للثواب والعقاب كما هما مقتضيان المدح والذمّ، وجب دوام الثواب والعقاب.

الثالث: لو لم يكن الثواب والعقاب دائمين، لوجب أن يكون المثاب في ألم لعلمه بانقطاعه، ولوجب أن يكون المعاقب في شرور لعلمه بذلك أيضاً، وذلك ينافي صفتيهما الواجبة لهما، وهي خلوص كلّ واحد منهما عن الشوائب.

وإنّما قلنا: «إنّ الثواب يجب أن يكون خالصاً عن الشوائب»، لأنّ التفضّل والعوض يجوز أن يكونا خالصين منهما، وبتقدير كونهما كذلك، يكون الثواب أنقص درجة، وانّه غير جائز.

وإنّما قلنا: «إنّ العقاب يجب أن يكون خالصاً من الشوائب»، لأنّه إذا كان كذلك، كان أدخل في باب الزجر.

في توقف الثواب

قال (دام ظلّه): «الثاني: يجوز توقّف الثواب على شرط، وإلاّ لاستحقّ العارف بالله تعالى الجاهل بالنبيّ (عليه السلام) الثواب، لأنّ معرفة الله تعالى طاعة مستقلّة بنفسها» (1)(1).

أقول: الثواب يجوز أن يتوقّف على شرط.

والدليل عليه: إنّه لو لم يجز توقف الثواب على شرط، لكان من عرف بالله

ص: 354


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 80 - 81 الفصل الثالث عشر.

تعالى ولم ينظر في آية النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فلم يعرفه مستحقّاً للثواب، واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله.

بیان الملازمة : إنّ معرفة الله تعالى طاعة مستقلّة بنفسها، فلو كان استحقاق الثواب بها غير مشروط بمعرفة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، للزم ما قلناه من كون المكذّب للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) مستحقّاً للثواب.

في الموافاة

قال (دام ظلّه): «الثالث: استحقاق الثواب مشروط بالموافاة، أو ساقط بالعقاب، لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾

فنقول: العمل لم يقع باطلاً في الأصل على تقدير عدم الشرك، وإلاّ لما علّق بطلانه على الشرك المتجدّد.

إذا ثبت هذا، فالاستحقاق إن كان ثابتاً فمعنى بطلانه سقوطه بالشرك، وإن لم يكن ثابتاً كان معنى بطلانه عدم الإتيان بشرط الاستحقاق الذي هو الموافاة، فلم يستحقّ الثواب، فيكون العمل باطلاً» (1)(1) .

أقول : الثواب إمّا أن يكون مشروطاً بالموافاة، أو ساقطاً بالعقاب.

والدليل عليه: قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (2)(2)، فإمّا أن يكون ذلك لأنّ العمل وقع في الأصل باطلاً، أو لأنّ الشرك أبطله، والأوّل

ص: 355


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 81 الفصل الثالث عشر.
2- (2) سورة الزمر : 65 .

باطل لأنّه علّق بطلانه بالشرك، فلو كان وقع في الأصل باطلاً لما علّق بطلانه بالشرك المتجدّد.

ولأنّ قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ ، إشارة إلى المستقبل لأنّه شرط وجوابه، وهما لا يكونان إلاّ مستقلّين.

وإذا ثبت ذلك، فإمّا أن يكون الاستحقاق ثابتاً والحال هذه، أو لا يكون،فإن كانه (1)(1) ،كان معنى(2)(2) بطلان العمل والحال هذه: سقوط الثواب المستحقّ بالشرك، وإن لم يكن، كان معنى بطلان العمل: أنّك ما أثبت بشرط الاستحقاق الذي هو الموافاة، فلم تستحقّ الثواب، فيكون العمل باطلاً على هذا الوجه.

في الاحباط

قال (دام ظلّه): «الرابع: في الإحباط والتكفير:

أثبتهما جماعة من المعتزلة، ونفاهما جماعة من المرجئة، والإمامية، والأشعرية.

لنا: لو ثبتا لزم أن يكون من فعل إحساناً وإساءة متساويين بمنزلة من لم يفعلهما، ولو زاد أحدهما بمنزلة من لم يفعل الآخر، وهو باطل قطعاً. ولأنّ الثواب والعقاب إن لم يتنافيا لم ينف أحدهما الآخر، وإن تنافيا اجتمع الوجود والعدم في كلّ منهما، لأنّ المنافاة ثابتة من الطرفين، وليس انتفاء السابق بالطارئ

ص: 356


1- (1) في أ، ج: (كان)، وما أثبتناه من ب.
2- (2) لا يوجد في ب.

أولى من العكس» (1)(1) .

أقول: نعني بالإحباط : سقوط الثواب المستحقّ بالطاعة بالمعصية.

وبالتكفير: سقوط العقاب المستحقّ بالمعصية بالطاعة.

والناس قد اختلفوا في ثبوتها :

فذهب جماعة من المعتزلة: إلى ثبوتهما.

وذهبت المرجئة، والإمامية، والأشاعرة: إلى نفيهما.

واحتجّ أصحابنا بوجوه:

الأوّل: لو كان القول بالإحباط والتكفير حقّاً، لكان من جمع بين إحسان وإساءة، إمّا أن يزيد أحدهما على الآخر، أو يتساويا، فإن كان الأوّل وكان الزائد هو الإحسان، وجب أن يكون عند العقلاء بمنزلة من لم يسئ، وإن كان الزائد هو الإساءة، وجب أن يكون عند العقلاء بمنزلة من لم يحسن، وإن تساويا لزم أن يكون عند العقلاء بمنزلة من لم يحسن ولم يُسى، والمعلوم بالضرورة خلاف ذلك أجمع.

وإذا كان القول بالإحباط والتكفير يؤدّي إلى ثبوت ما علم فساده بالضرورة، وجب أن يكون كذلك.

الثاني: الثواب والعقاب إمّا أن يكونا متنافيين، أو لا، والثاني يفيد المطلوب، لأنّهما إذا لم يكونا متنافيين استحال أن ينفي أحدهما الآخر، وإن كانا متساويين استحال أيضاً أن ينفي أحدهما الآخر، لأنّ المنافاة حاصلة من

ص: 357


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 81 الفصل الثالث عشر.

الطرفين، فلم يكن الطارئ بأن يزيل الباقي أولى من أن يمنع الباقي الطارئ من الدخول في الوجود، فيلزم عدم كلّ واحد منهما حال وجوده، لأنّ المنافاة دفعة، فكلّ واحد منهما بنفي الآخر، وإنّما ينفيه إذا كان موجوداً حال عدم الآخر، فيلزم في كلّ واحد منها اجتماع الوجود والعدم دفعة واحدة، وهو محال.

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّه لولا الإحباط لحسن ذمّ من كسر قلم من أنعم عليه بأنواع متعدّدة لا تحصى.

والجواب: المنع من قبح الذمّ على هذا القدر اليسير» (1)(1).

أقول: احتجّ القائلون بثبوتهما: بأنّه لو لم يكن القول بالإحباط والتكفير حقّاً، لكان من أنعم على غيره بالنعم الجزيلة، مثل الإنقاذ من المهالك، والإغناء بعد الفقر، ومنع الأهل والولد من الأعداء، ثمّ كسر له قلماً، يحسن ذمّه على كسر القلم مع تقدّم ما ذكرناه من النعم، واللازم ضروري الفساد، فالملزوم .مثله.

والجواب: المنع من بطلان اللازم، بل يحسن ذمّه على هذا القدر اليسير، ويحسن شكره على النعم الجزيلة.

في الوعد والوعيد

قال (دام ظلّه): «الخامس : وعيد أصحاب(2)(2) الكبائر منقطع، خلافاً للمعتزلة.

ص: 358


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 81 الفصل الثالث عشر.
2- (2) في ب: أهل.

لنا: قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ ﴾، فالمطيع بإيمانه إذا عصى استحقّ ثواباً وعقاباً، فإن داما لزم المحال، وإن انقطع الثواب لزم تأخّر العقاب عن الثواب، وهو باطل بالإجماع، فتعيّن العكس.

ولقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لَنْ يَشاءُ﴾ .

وأمّا الكفّار فإنّ وعيدهم دائم بالإجماع»(1)(1).

أقول: [هاهنا مباحث:

أ - الوعيد، هو: إخبار القادر غيره بإيصال ضرر إليه في المستقبل.

والوعد: إخبار القادر بإيصال نفع إليه في المستقبل.

ب - اختلف في تفسير الذنب الكبير :

فقيل: هو ما توعّد الله في القرآن بخصوصيته، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْاً ...﴾(2)(2) ، الآية.

وقيل: ما توعّد الله عليه في القرآن بالخلود في النار، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ... ﴾(3)(3).

وقيل : هو ما يقابل الذنب الصغير، على ما يأتي.

ج - الذنب الصغير، قيل : يقال على وجوه ثلاثة:

ص: 359


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 81 - 82 الفصل الثالث عشر.
2- (2) سورة النساء: 10 .
3- (3) سورة النساء: 93 .

(أ) - ما يقال في الإضافة إلى الطاعة، فيقال: هذه المعصية في مقابل الطاعة، أي: أصغر منها، بمعنى: أنّ عقابها ينقص في كلّ وقت عن ثواب تلك الطاعة في كلّ وقت. وإنّما شرطنا عموم صغيرة في الوقت، لأنّه متى اختلف الحال في ذلك بأن يريد تارة ثواب الطاعة عن عقاب المعصية، وتارة ينقص، لم يقل أنّ تلك صغيرة بالإضافة إلى تلك الطاعة على الإطلاق، بل يفيد بالحالة التي يكون عقابها أقلّ من ثواب الطاعة، وحصول الاختلاف بما يقرن بالطاعة والمعصية، فإنّ الإنفاق في سبيل الله يختلف، كما قال تعالى: ﴿... لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ...﴾ (1)(1).

(ب) - أن يقال بالنسبة إلى معصية أخرى، فيقال : هذه المعصية أصغر من تلك، بمعنى: أنّ عقاب هذه ينقص كلّ وقت عن عقاب الأخرى.

(ج)- أن يقال بالإضافة إلى ثواب فاعلها، بمعنى: أنّ عقابها ينقص في كلّ وقت عن ثواب فاعلها في كلّ وقت. وهذا هو الذي يطلقه العلماء عليه.

والكبيرة تقال على وجوه تقابل هذه الوجوه.

إذا تقرّر ذلك، فنقول](2)(2):

وعيد أصحاب الكبائر المؤمنين - أي: عقابهم - منقطع عند الإمامية، خلافاً للمعتزلة.

والمراد بالكبيرة : ما يزيد عقابها في كلّ وقت على ثواب فاعلها.

ص: 360


1- (1) سورة الحديد: 10 .
2- (2) أثبتناه من ب.

وإنّما اعتبرنا «كلّ وقت»، لأنّه إذا اختلف فيه الحال وكان يزيد عقابه على ثوابه أو يساويه في كلّ وقت وينقص عنه في وقت، لم يجز إطلاق الوصف بأنّه كبيرة.

والمراد من الصغيرة: هي ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله في كلّ وقت.

احتجّ أصحابنا بوجهين:

الأوّل: أنّ الله تعالى لو أدام عقاب صاحب الكبيرة، لكان ظالماً، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: إنّه قد ثبت بطلان التحابط، فوجب أن يكون الفاسق مستحقّاً للثواب بطاعته وإيمانه، ومستحقّاً للعقاب بعصيانه، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَا يَرَهُ﴾ (1)(1) ، فأَمّا أَن، يكونا دائمين، فيكون مثاباً معاقباً في حالة واحدة، وهو محال، وإن انقطع الثواب، لزم تأخّر العقاب عن الثواب، وهو باطل بالإجماع، فتعيّن العكس، وهو المطلوب.

الثاني: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لَنْ يَشاءُ﴾ (2)(2).

وأمّا الكفّار فإنّ عقابهم دائم بالإجماع، وكذا غير المؤمنين عقابهم دائم كالكفّار إجماعاً منّا.

ص: 361


1- (1) سورة الزلزلة : 7 - 8 .
2- (2) سورة النساء: 48 .

في أحوال القيامة

قال (دام ظلّه): «السادس: عذاب القبر، والصراط، والميزان، والحساب، وإنطاق الجوارح، وتطاير الكتب، وأحوال الجنّة والنار، أُمور ممكنة، والله تعالى قادر على جميع الممكنات، وقد أخبر الصادق (عليه السلام) بثبوتها، فتكون واقعة»(1)(1) .

أقول: عذاب القبر، والصراط، والميزان، والحساب، وإنطاق الجوارح، وتطاير الكتب، وأحوال الجنّة والنار، ممكنة (2)(2) ، والله تعالى قادر على جميع الممكنات.

[أمّا الأوّل، فلقوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ (3)(3)، وغير ذلك.

وأمّا البواقي، فقد دلّ عليها النصوص المتواترة، ولأنّها ممكنة، والله تعالى قادر على كلّ مقدور، وعالم بكلّ معلوم، فلو ذهب جزء في المشرق وآخر في المغرب جمعهما الله تعالى ] (4)(4).

وقد أخبر الصادق (عليه السلام) بوقوعها، فتكون واقعة لأنّ النبيّ(عليه السلام) صادق.

ص: 362


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 82 الفصل الثالث عشر.
2- (2) في ب: واقعة.
3- (3) سورة غافر : 46 .
4- (4) أثبتناه من ب.

[تنبيه : الحقّ أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن، خلافاً لأبي هاشم (1)(1) ، وعبد الجبّار (2)(2) .

لنا: قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾(3)(3)، و ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(4)(4)،

والإعداد صريح في الثبوت ] (5)(5).

في العفو

قال (دام ظلّه): «السابع : يجوز العفو عن الفاسق، خلافاً للوعيدية (6)(6).

ومنعت المعتزلة كافّة من العفو سمعاً، واختلفوا في منعه عقلاً، فذهب إليه البغداديون، ونفاه البصريون .

والحقّ، جواز العفو عقلاً، ووقوعه سمعاً!

لنا: أنّه إحسان، وكلّ إحسان حسن، والمقدّمتان ضروريتان.

ولأنّ العقاب حقّه تعالى، فجاز منه إسقاطه.

ص: 363


1- (1) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.
2- (2) القاضي عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار الملقّب ب(قاضي القضاة)، المتوفى سنة (415 ه)، شيخ المعتزلة في عصره، كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع ومذاهب المعتزلة في الأُصول، وله في ذلك مصنفات.
3- (3) سورة آل عمران: 133 .
4- (4) سورة البقرة: 24 .
5- (ه) أثبتناه من ب.
6- (6) الوعيدية: هم القائلون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار. ومنهم خوارج ومعتزلة.

ولقوله تعالى : ﴿وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ ، و (على) تدلّ على الحال.

وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ﴾ ، وليس المراد مع التوبة، لعدم الفرق بينهما.

ولأنّه (عليه السلام) ثبت له الشفاعة، وليست في زيادة المنافع، وإلاّ لكنّا شافعين فيه، فثبت في انتفاء المضار» (1)(1).

أقول: اتّفقت المعتزلة: على أنّ العفو لا يجوز سمعاً، واختلفوا في جوازه عقلاً:

فذهب البغداديون منهم: إلى أنّه لا يجوز؛ وذهب البصريون منهم: إلى جوازه.

وذهبت الإمامية: إلى جوازه عقلاً، ووقوعه سمعاً.

أمّا الأوّل، فلوجهين:

الأوّل: أنّ العفو (2)(2) إحسان، والإحسان حسن، والمقدّمتان بديهيتان.

الثاني: أنّ العقاب حقّ الله تعالى، وكلّ من له حقّ جاز إسقاطه.

وأمّا الثاني، فلوجوه:

الأوّل: قوله تعالى: ﴿وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ (3)(3)، و (على) في هذا الموضع وأمثاله لا يفهم منها إلاّ أحد معنيين:

ص: 364


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 82 الفصل الثالث عشر.
2- (2) في أ: (إنّه)، وما أثبتناه من ب، ج.
3- (3) سورة الرعد: 6.

أحدهما: أن يكون لأجل ظلمهم، كما يقال : ضربت العبد على ذنبه.

وثانيهما: أن يكون للحال، أي: في حال ظلمهم، كما يقال: زرت زيداً على شربه، أي: في حال شربه.

والأوّل باطل بالاتّفاق، فتعيّن الثاني، وهو المطلوب؛ وهذه الآية تقتضي أنّ الله تعالى يغفر لكلّ عاصٍ في حال ظلمه وترك العمل بها في حقّ الكافر، فيثبت دليلاً على غفران ذنب من عداه .

الثاني: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لَنْ يَشاءُ﴾ (1)(1) ، ووجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين:

أحدهما: إنّ الله تعالى نفى أن يغفر الشرك مع عدم التوبة، وإجماع الأُمّة على أنّه يغفره مع وجودها، فلا بدّ من أن يكون غفرانه لما دونه مع عدمها أيضاً، لتطابق الكلامان، وإلاّ لخرج الكلام عن النظم الصحيح.

وبيانه: أنّه لو قال: إنّ الله لا يغفر أن يشرك به مع عدم التوبة، ويغفر ما دون ذلك مع وجود التوبة، وقد أجمع المسلمون على أنّه يغفر الشرك مع وجود التوبة، صار معنى الكلام: يغفر كلّ الذنوب مع وجود التوبة، ولم يبق فرق بين ما أثبته ونفاه؛ وذلك لا يليق بالحكيم تعالى.

الوجه الثاني : في الاستدلال بهذه الآية، إمّا أن يريد ما دون الشرك معصية جب غفرانها، أو معصية لا يجب غفرانها، والأوّل باطل، لأنّ الواجب لا يعلّق بالمشيئة، فتعيّن الثاني، وهو المطلوب.

ص: 365


1- (1) سورة النساء: 48 .

الثالث: أنّ الأُمّة أجمعت على أنّ للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) شفاعة، وأنّ شفاعته مقبولة، فشفاعته إمّا أن تكون (1)(1) في إسقاط المضار، أو في زيادة المنافع، أو فيها جميعاً، والثاني باطل، وإلاّ لكنّا شافعين في النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إذا سألنا الله زيادة درجاته وإكرامه، وأمّا الثالث باطل، وبتقدير تسليمه فالمقصود حاصل، إمّا أنّه باطل فيما بطل به الثاني، وإمّا أنّه بتقدير صحّته فالمقصود حاصل، فلأنّه كانت الشفاعة مشتركة بين زيادة المنافع وإسقاط المضار، كأن يجوز أن يشفع في المستحقّ (2)(2) للعقاب من أهل الصلاة، وهو المطلوب، فتعيّن الأوّل، وهو المطلوب.

في التوبة

قال (دام ظلّه): «البحث التاسع: في التوبة:

وهي الندم على المعصية، والعزم على ترك المعاودة، إذ لولاه لكشف عن كونه غير نادم» (3)(3) .

أقول: ذهب أبو هاشم (4)(4) وأصحابه: إلى أنّها الندم على المعصية، والعزم

على ترك المعاودة.

وذهب آخرون» إلى أنّها الندم على المعصية فقط.

ص: 366


1- (1) في ب: تجوز.
2- (2) في ب: المستحقّين.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 82 الفصل الثالث عشر.
4- (4) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.

واختلفوا في العزم على ترك المعاودة:

فذهب بعضهم: إلى أنّه شرط فيها .

وذهب آخرون: إلى أنّه ليس بشرط ؛ وهو اختيار محمود الخوارزمي(1)(1)، قال: وإنّما وجب في التائب أن يكون عازماً على ترك المعاودة من حيث كان ندمه يقتضي ذلك، فلو لم يعزم على ترك المعاودة، لكشف ذلك عن كونه غير نادم.

قال (دام ظلّه): «وهي واجبة، لأنّها دافعة للضرر ، فإن كانت عن ظلم لم تتحقّق إلاّ بالخروج إلى المظلوم أو إلى ورثته عن حقّه، أو الاستيهاب، فإن عجز عزم عليه.

وإن كانت عن إضلال، لم تتحقّق إلاّ بعد إرشاد الضال.

وإن كانت عن فعل مختصّ به - كشرب الخمر - كفى الندم والعزم [عن ترك المعاودة ] (2)(2) المتقدّمان.

وإن كانت عن ترك واجب كالزكاة، لم تتحقّق إلاّ بفعله. ولو لم يجب القضاء كفى الندم والعزم كالعيدين» (3)(3).

أقول: هنا مسألتان:

ص: 367


1- (1) محمود الخوارزمي: أبو القاسم محمود بن عمر بن محمّد الخوارزمي، الزمخشري، المعتزلي، اللغوي، ولد في زمخشر من قرى خوارزم سنة (467ه)، وقدم بغداد، وسافر إلى مكة فجاور بها زمنا، فلّقب ب(جار الله)، ثمّ عاد إلى الجرجانية من قرى خوارزم، فتوفى فيها وتوفي سنة (538 ه)، صاحب أبو الحسين البصري، له كتب كثيرة أشهرها (الكشاف عن حقائق التنزيل).
2- (2) أثبتناه من المصدر.
3- (3) نهج المسترشدين في أصول الدين: 83 الفصل الثالث عشر.

الأوّل: التوبة واجبة لأنّها دافعة للضرر ممكنة، وكلّ ممكن دافع للضرر واجب، والمقدّمتان بديهيتان.

الثاني: في أقسامها وشروطها، فنقول:

التوبة إمّا أن تكون عن فعل قبيح، أو إخلال بواجب، فإن كانت من فعل قبيح، فإمّا أن يكون ذلك القبيح يتضمّن إيصال ضرر إلى الغير كالظلم والإضلال عن الحقّ، أو لا يتضمّن ذلك كالزنا وشرب الخمر؛ فإن كان الأوّل، فإن كان ظلماً أو ما أشبهه من قذف أو غيره، فإنّ التوبة لا تصحّ منه إلاّ بعد الخروج إلى المظلومين من حقوقهم، أو إلى ورثتهم إن أمكن، أو الاستيهاب من المظلومين خاصّة، أو من ورثتهم إذا كان ذلك الشيء ممّا يصحّ أن يورث، وإن لم يمكن في الحال من الخروج إليهم من حقوقهم، عزم على أدائه متى تمكّن من ذلك، لأنّه متى لم يفعل ذلك كشف عن أنّه غير نادم على ذلك، فلا يكون تائباً، وإن كان إضلالاً، فلا تصحّ التوبة إلاّ بعد أن يبينّ لمن أضلّه بطلان ما قال له، ويبيّن له رجوعه عنه ، وإن لم يتضمّن القبيح إيصال ضرر إلى الغير، كان الندم عليه والعزم على ترك المعاودة كافياً في كونه تائباً، وإن كانت التوبة من الإخلال بالواجب، فإمّا أن يكون ذلك الواجب يصحّ أداؤه في الأوقات كلّها كالزكاة، أو له وقت مخصوص يفوت بفواته، فإن كان الأوّل فلا تصحّ التوبة إلاّ بعد أدائه الإمكان، وأمّا الثاني، فإمّا أن يكون المكلّف مخاطباً بقضائه كالصلاة والصوم، فلا تصحّ التوبة من الإخلال به إلاّ بأن يشتغل في قضائه أوقات التمكّن من ذلك، وإن لم يكن مخاطباً كصلاة العيد صحّت التوبة بالندم والعزم المتقدّمان، وكانا كافيين في سقوط العقاب المستحقّ بالإخلال.

قال (دام ظلّه): «ويصحّ من قبيح دون قبيح عند أبي علي، لأنّ الإتيان

ص: 368

بواجب دون واجب ممكن ، وكذا التوبة الواجبة عن كلّ ذنب.

ومنع منه أبو هاشم، لأنّ التوبة إنّما تقبل إذا كانت من القبيح لقبحه، والقبح مشترك في الجميع، فلو تاب عن قبيح دون غيره، كشف ذلك عن كونه تائباً عن القبيح لا لقبحه.

أمّا الواجب فيجب أن يوقعه لوجوبه، ولا يجب عموم كلّ واجب في الفعل، فإنّ من قال: «لا أكل هذه الرمانة لحموضتها»، يجب أن يمتنع عن كلّ رمانة حامضة، بخلاف من قال: «أنا آكل هذه الرمانة الحموضتها » » (1)(1) .

أقول: اختلف الشيوخ في صحّة التوبة من قبيح دون قبيح.

فذهب أبو علي (2)(2): إلى أنّها تصحّ.

وذهب أبو هاشم (3)(3): إلى أنّها لا تصحّ.

احتجّ أبو علي: بأنّه لو لم تصحّ التوبة من قبيح دون قبيح، لما صحّ الإتيان بواجب دون واجب، لكن الإتيان بواجب دون واجب يصحّ، فيلزم أن يكون التوبة من قبيح دون قبيح يصحّ أيضاً.

بيان الملازمة: إنّه كما تجب التوبة من القبيح لقبحه، كذلك إنّما يجب فعل الواجب لوجوبه، فإن لزم من اشتراك القبائح في القبيح [ أن لا تصحّ التوبة من قبيح دون قبيح ](4)(4) ، لزم أيضاً من اشتراك الواجبات في الوجوب أن لا يصحّ الإتيان منها بواجب دون واجب.

ص: 369


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 83 الفصل الثالث عشر.
2- (2) محمّد بن عبد الوهاب الجبائي (ت 303ه)، والد أبو هاشم، تقدّم.
3- (3) أبو هشام الجبائي المعتزلي (ت 321ه)، تقدّم.
4- (4) أثبتناه من ب، ج.

وأمّا بيان أنّ الإتيان بواجب دون واجب صحيح: فهو أنّه لا خلاف بين المسلمين أنّ من صام ولم يصلّ وبالعكس، كان فعله لما فعله ماضياً.

احتجّ أبو هاشم: بأنّ التوبة من القبيح يجب أن تكون لقبحه، وإلاّ لم تكن توبة، وإن كانت توبة فلا تكون مقبولة، فإذا كان كذلك والقبح حاصل في جميع القبائح، فلو تاب من قبيح دون قبيح، لكشف ذلك عن كونه تائباً عن القبيح لا لقبحه، وقد قلنا: إنّ ذلك يمنع من كونها توبة، أو يمنع من كونها مقبولة.

وفرق بين القبيح والواجب، فإنّ الواجب يفعله لوجوبه ولا يشترط فيه أن يأتي بكلّ واجب، ووجه الفرق بين القول والفعل، فإنّ من قال: «لا آكل هذه الرمانة الحموضتها»، فإنّه يلزمه أن لا يأكل كلّ رمانة حامضة، [ولو قال: «إنّما آكل هذه الرمانة الحموضتها»،لا يلزمه أن يأكل كلّ رمانة حامضة](1)(1)، لأنّ الامتناع عن الكلّ ممكن بخلاف الإتيان بالكلّ.

قال (دام ظلّه): «وهل سقوط العقاب بالتوبة واجب أو تفضّل ؟

المعتزلة: على الأوّل.

والمرجئة وجماعة: على الثاني؛ وهو الأقرب.

لنا: أنّه لو وجب السقوط، لكان إمّا لوجوب قبولها، أو لزيادة ثوابها .

والقسمان باطلان!

أمّا الأوّل: فلأنّه يلزم أن من أساء إلى غيره بأعظم الإساءات، ثمّ اعتذر إليه، وجب قبول عذره، والتالي باطل بالإجماع، فكذا المقدّم.

ص: 370


1- (1) أثبتناه من ب، ج.

وأمّا الثاني: فلِما مرّ من إبطال التحابط» (1)(1) .

أقول: ذهبت المعتزلة : إلى أنّ سقوط العقاب عند التوبة واجب.

وقال المرجئة وجماعة: إنّه تفضّل . واختاره المصنّف .

واحتجّ: بأنّه لو وجب، لكان إمّا لأنّ قبولها واجب، وهو محال، لأنّه يلزم أنّ من أساء إلى غيره بأعظم الإساءات، ثمّ اعتذر إليه وجب عليه قبول ذلك الاعتذار، والتالي باطل بالإجماع، فالمقدّم مثله.

وإمّا أنّ ثوابها أزيد، فهو باطل، لِما مرّ من بطلان التحابط (2)(2).

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّه لو لم يجب السقوط، لقبح تكليف العاصي بعد عصيانه، والتالي باطل بالإجماع، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: إنّه لو كلّف بعد العصيان لكانت الفائدة إمّا الثواب، أو غيره، والثاني باطل إجماعاً، والأوّل محال هنا، للتنافي بين استحقاق الثواب

ص: 371


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين : 83 الفصل الثالث عشر.
2- (2) العبارة في ب: (واحتجّ عليه: بأنّه لو وجب، لكان إمّا لوجوب قبولها، وإمّا لزيادة ثوابها، والتالي بقسميه باطل، فالمقدّم مثله. أمّا الملازمة: فبالإجماع على الحصر. وأمّا بطلان التالي بقسميه، فنقول : فلاستلزامه خلاف العلم الضروري، لأنّه يلزم أنّ من أساء إلى غيره بأعظم الإساءات، ثمّ اعتذر إليه وجب عليه قبول ذلك الاعتذار، وهو باطل بالضرورة. وفي استلزامه اختلال نظام النوع، فإنّ الجاهل يستسهل في بلوغ شهواته ظلم الغير، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، ثمّ يعتذر ويتوب. وأمّا الثاني، وهو أنّ ثوابها أزيد فهو باطل لما مرّ من بطلان التحابط).

والعقاب، ولا مخلص للعاصي من استحقاق العقاب حينئذ، وكان يقبح تكليفه.

والجواب: المنع من دوام عقاب الفاسق، وقد سبق، والمنع من عدم المخلص، الجواز العفو، أو كثرة الطاعات وزيادتها على العقاب» (1)(1).

أقول: احتجت المعتزلة: بأنّه لو لم يجب سقوط العقاب عند التوبة، لما حسن تكليف العاصي بعد عصيانه، [ والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية: إنّه لو كلّفه بعد عصيانه ] (2)(2)، فإمّا أن يستحقّ الثواب على فعل ما كلّفه، أو لا، والثاني باطل بالإجماع، ولأنّه قبيح، والأوّل باطل، لأنّه يستحيل اجتماع الثواب والعقاب لشخص واحد، فلو لم يجب سقوط العقاب عند التوبة، لما كان للعاصي طريق إلى استحقاق الثواب بعد المعصية، فما كان يحسن تكليفه.

والجواب، من وجوه:

الأوّل: المنع من دوام العقاب للفاسق، وقد سبق، فيوصل إليه الثواب بعد العقاب، فلا يتضادّ الاستحقاقان.

الثاني: المنع من عدم المخلص من العقاب، لجواز سقوطه بالعفو، فيصحّ منه تكليفه.

الثالث: جاز أن يسقط العقاب بسبب من كثرة الطاعات وزيادتها على العقاب على القول بالإحباط.

ص: 372


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 84 الفصل الثالث عشر.
2- (2) أثبتناه من ب،ج.

في الأسماء والأحكام

قال (دام ظلّه): «البحث العاشر : في الأسماء والأحكام:

الإيمان لغة: التصديق. واصطلاحاً هو: تصديق الرسول (عليه السلام) في جميع ما علم بالضرورة مجيؤه به، مع الإقرار باللسان.

وعند المعتزلة: أنّه فعل الطاعات.

لنا: أنّه قيّد الإيمان بنفي الظلم، في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ ، وعطف عليه فعل الطاعات في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ (1)(1) ، وكلّ ذلك يدلّ على المغايرة» (2)(2) .

أقول: الإيمان في اللّغة، هو: التصديق.

وفي الاصطلاح، هو: تصديق الرسول (صلّى الله عليه وآله) في جميع ما علم مجيؤه به بالضرورة، مع الإقرار باللسان.

وإنّما قيّد بقوله: «بالضرورة»، احترازاً من المسائل المختلف فيها.

إذا علم عالم بالنظر الدقيق والاجتهاد البالغ مجيء الرسول بأحد طرفيها، فليس له أن يكفّر مخالفه من مجتهدي أهل القبلة على مخالفته في ذلك.

وقالت المعتزلة : هو فعل الطاعات.

ص: 373


1- (1) سورة الرعد: 29 .
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 84 الفصل الثالث عشر.

احتجّ المصنّف بمغايرة الإيمان لفعل الطاعات بوجوه:

الأوّل: أنّ المعاصي قد تجامع الإيمان، والشيء لا يجامع ضدّه.

أمّا الصغرى، فلقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلمٍ﴾(1)(1)،فدّل ذلك على أنّهم قد يكونوا مؤمنين وإن ألبسوا إيمانهم بظلم .

وأمّا الكبرى، فظاهرة، فالإيمان ليس ضدّاً للمعاصي، وفعل الطاعات ضدّ للمعاصي، فالإيمان ليس فعل الطاعات.

الثاني: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ (2)(2)، والعطف يقتضي المغايرة.

قال (دام ظلّه): «احتجّوا: بأنّ قاطع الطريق يُخزى، والمؤمن لا يخزى، فقاطع الطريق ليس بمؤمن.

أمّا الصغرى: فلأنّ الله تعالى يدخلهم النار لقوله تعالى: ﴿وهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ، وكلّ من يدخل النار يُخزى، لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾.

وأمّا الكبرى: فلقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ .

والجواب: بمنع انحصار العذاب العظيم في دخول النار. سلّمنا، لكن يحتمل تخصيصها بالكافر، لأنّ المؤمن لا يحارب الله ورسوله غالباً. سلّمنا، لكن

ص: 374


1- (1) سورة الأنعام: 82 .
2- (2) سورة الرعد: 29 .

نفي الخزي عن المؤمنين المصاحبين للنبيّ (عليه السلام)، فلا يعمّ غيرهم» (1)(1).

أقول: احتجّت المعتزلة على قولهم: بأنّ قاطع الطريق يُخزى، والمؤمن لا يخزى، فقاطع الطريق ليس بمؤمن.

أمّا الصغرى: فلأنّ الله تعالى يدخله النار يوم القيامة، لقوله تعالى في حقّهم:﴿ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (2)(2) ، وكلّ من يدخل النار يُخزى، لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ (3)(3) .

وأمّا الكبرى: فلقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ (4)(4).

والجواب: المنع من الصغرى، في قوله : لأنّه يدخله النار. قلنا: ممنوع.

وقوله تعالى: ﴿وهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، لا يدلّ عليه بمنع انحصار العذاب العظيم في دخول النار، الجواز حصوله بغيره، سلّمنا، لكن جاز تخصيصها بالكافر، وسياق الآية يدلّ عليه، لأنّه تعالى قد صدّر الكلام بقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً﴾ (5)(5)، لأنّ المؤمن لا يحارب الله ورسوله غالباً.

ص: 375


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 84 - 85 الفصل الثالث عشر.
2- (2) سورة البقرة: 114 .
3- (3) سورة آل عمران: 192.
4- (4) سورة التحريم: 8 .
5- (5) سورة المائدة: 33 .

وإنّما قال: «غالباً»، لأنّه قد يصدق بالمجاز نادراً اسم المحارب على العاصي، سلّمنا، لكن نمنع كلّية الكبرى، لأنّه تعالى نفى الخزي عن المؤمنين المصاحبين للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ فلا يعمّ غيرهم.

قال (دام ظلّه): «والإيمان لمّا كان لغة هو: التصديق، لم يقبل الزيادة والنقصان، خلافاً للمعتزلة» (1)(1).

أقول: هذا فرع على تفسير الإيمان.

وتقريره، أن نقول:

الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان، لأنّا قد بينّا أنّه اسم للتصديق للرسول (صلّى الله عليه وآله) في كلّ ما علم بالضرورة مجيؤه به، وهذا لا يقبل الزيادة والنقصان، فكان مسمّى الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان.

وعند المعتزلة لمّا كان اسماً لأداء العبادات، كان قابلاً لهما.

قال (دام ظلّه):« ولمّا كان عبارة عن التصديق، كان صاحب الكبيرة مؤمناً، خلافاً للمعتزلة، فإنّهم لم يسمّوا الفاسق مؤمناً ولا كافراً، بل أثبتوا له منزلة بين المنزلتين» (2)(2).

أقول: هذا فرع ثانٍ على تفسير الإيمان.

وتقريره، أن نقول:

ص: 376


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 85 الفصل الثالث عشر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 85 الفصل الثالث عشر.

لمّا كان الإيمان عبارة عن التصديق، وكان صاحب الكبيرة مصدّقاً، كان مؤمناً بإيمانه، عاصياً بفسقه، خلافاً للمعتزلة، فإنّهم لا يسمّون الفاسق مؤمناً لإخلاله ببعض الطاعات، والإيمان هو الإتيان بجميع الطاعات، ولا كافراً، لأنّه يدفن في مقابر المسلمين، ويغسّل ويكفّن ويصلّى عليه، وينكح، ويقاد به، والكافر ليس كذلك، فأثبتوا منزلة بين المنزلتين.

قال (دام ظلّه):« والكفر هو : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول(عليه السلام) به»(1)(1).

أقول: الكفر، هو : إنكار ما علم مجيء الرسول(صلّى الله عليه وآله) به بالضرورة.

وإنّما قيّد:«بالضرورة»، لِما تقدّم في الإيمان.

والإنكار، قد يكون بعدم اعتقاد شيء، كالخالي من الاعتقادات، وقد يكون باعتقاد الضدّ.

قال (دام ظلّه): والفسق لغة: الخروج عن الشيء، ولذلك تُسمّى الفأرة (فويسقة) لخروجها من بيتها.

وفي الشرع : الخروج عن طاعة الله تعالى في ما دون الكفر» (2)(2) .

أقول: الفسق في اللّغة، هو: الخروج عن الشيء، ولذلك قيل للفأرة: «فويسقة»، لخروجها من حجرها. ونقول: «فسقت الرطبة»، إذا خرجت من

ص: 377


1- (1) نهج المسترشدين في أصول الدين: 85 الفصل الثالث عشر.
2- (2) نهج المسترشدين في أصول الدين: 85 الفصل الثالث عشر.

القشر.

وفي الشرع : الخروج عن طاعة الله تعالى في ما دون الكفر.

قال (دام ظلّه): «والنفاق: إظهار الإيمان وإبطان الكفر.

وليكن هذا آخر ما نورده في هذه المقدّمة. ومن أراد التطويل فعليه بكتابنا الكبير المسمّى ب(نهاية المرام في علم الكلام) (1)(1) .ومن أراد التوسّط فعليه بكتابنا المسمّى ب(الوصول) (2)(2) ، و(المناهج) (3)(3) ، وغيرهما من كتبنا .

والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد النبيّ وآله الطاهرين» (4)(4).

أقول : النفاق في اللّغة، هو: أن يُبطن الإنسان خلاف ما يظهره، ولذلك سمّي باب جحر الضب: نافقاً، لكونه لا يتبيّن.

هو في الشرع : إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ولذلك يسمّى من فعل ذلك: منافقاً .

وليكن هذا آخر ما نورق في شرح كتاب (نهج المسترشدين في أصول الدين).

ص: 378


1- (1) من مصنّفات العلاّمة الحلّي (قدّس سرّه)، مطبوع.
2- (2) الظاهر : منتهى الوصول في علمي الكلام والأُصول.
3- (3) الظاهر : مناهج اليقين في أصول الدين.
4- (4) نهج المسترشدين في أصول الدين: 85 الفصل الثالث عشر.

اللّهمّ، فكما وفّقتنا لكشف أستاره، وإيضاح أسراره، من غير اختصار مخلّ، ولا تطويل مملّ، فصلّ على أشرف الذوات الطاهرات، وأكمل النفوس الزاكيات، محمّد النبيّ وعترته الطاهرين الأئمّة المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، صلوات دائمة، والحمد لله وحده.

صورة ما كتبه الشارح دام ظلّه (1)(1) فرغ من تعليقه(2)(2) مصنّفه محمّد بن

حسن بن يوسف بن علي بن المطهّر سادس ربيع الآخر من سنة خمس عشر وسبعمائة بالبلدة المعمورة السلطانية، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على سيّدنا محمّد النبيّ وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 379


1- (1) في ج: (شارحه قدّس روحه).
2- (2) في ج: تسويده.

ص: 380

الفهارس الفنية

ص: 381

ص: 382

فهرس الآيات

سورة البقرة

الآية (23) ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ ص268

الآية (24) ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ ص362

الآية (114) ﴿وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ص374

الآية (124) ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ ص411

الآية (198) ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾ ص250

الآية (233) ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ ص 304

الآية (254) ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ ص250

الآية (262) ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَاهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ ....﴾ ص 312

الآية (274) ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً﴾ ص312

سورة آل عمران

الآية (10) ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً﴾ ص359

الآية (33) ﴿إِنَّ الله اِصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ﴾ ص 274

الآية (133) ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ص 362

الآية (192) ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا ...﴾ ص 411

ص: 383

سورة النساء

الآية (20) ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ ص 305

الآية (48) ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ... ﴾ ص ، 361،358،364،363

الآية (93) ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ....﴾ ص 359

الآية (95) ﴿أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ ص 289

الآية (153) ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا الله﴾ ص255

الآية (164) ﴿وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً﴾ ص182

الآية (172) ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ...﴾ ص 274،275،276

سورة المائدة

الآية (33) ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ...﴾ ص375

الآية (55) ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ...﴾ ص295،293

سورة الأنعام

الآية (18) ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ ص 202

الآية (82) ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ ص 372، 373

الآية (103) ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ ص 209 ، 210

سورة الأعراف

الآية (20) ﴿ما نَهَاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا ...﴾ ص 274 ، 275

ص: 384

الآية (142) ﴿أَخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ ص298 299

الآية (143) ﴿لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ...﴾ ص210،209، 211

سورة التوبة

الآية (30) ﴿قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ص 232 ، 285

سورة يونس

الآية (35) ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَنْ لا يَهدِّي﴾ ص 287

سورة هود

الآية (13) ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ....﴾ ص 268

سورة الرعد

الآية (6) ﴿وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ ص 363، 364

الآية (29) ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ص 372، 373

سورة الإسراء

الآية (88) ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ...﴾ ص 268

سورة طه

الآية (5) ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ص 201

ص: 385

سورة الأنبياء

الآية (2) ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرِ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ...﴾ ص 190 ، 191

سورة القصص

الآية (88) ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ ص 51، 336

سورة فاطر

الآية (10) ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ ص 202

سورة يس

الآية (78)، (79) ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ....﴾ ص 343

الآية (81) ﴿أَولَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ...﴾ ص 338

سورة الزمر

الآية (65) ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ ص 355

سورة غافر

الآية (46) ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ...﴾ ص 361

سورة الأحقاف

الآية (15) ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾ ص 304

ص: 386

سورة الرحمن

الآية (26) ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ ص 51

سورة الحديد

الآية (10) ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ ص 10

سورة الجمعة

الآية (10) ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ﴾ ص 249، 250

سورة المنافقون

الآية (4) ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ص 232

سورة التحريم

الآية (8) ﴿يَوْمَ لا يُخْزي الله النَّبِيُّ واللَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ ص 374، 375

سورة الملك

الآية (2)﴿ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ﴾ ص 103

الآية (16) ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ ص 202

سورة الحاقة

الآية (12) ﴿وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ﴾ ص 302

ص: 387

سورة المعارج

الآية (4) ت﴿َعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ ص 202

سورة نوح

الآية (1) ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ﴾ ص 191

سورة القيامة

الآية (22) (23) ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ص 385

سورة الإنسان (الدهر)

الآية (5 - 22) ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ...﴾ ص290،291، 311

سورة الزلزلة

الآية (7) ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ ص 358، 360

الآية (8) ﴿ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَا يَرَهُ﴾ ص 358، 360

سورة الإخلاص

الآية (1) ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ ص 215

ص: 388

فهرس الأعلام

إبراهیم علیه السّلام 273

إبراهيم بن سيار أبو إسحاق النظّام 66 ، 68، 134، 167، 264، 336

إبراهيم بن محمّد الأسفراييني 227،119،36

أبقراط 127

أحمد بن إبراهيم النوبختي 326

أحمد بن أبي جامع العاملي 12

آدم علیه اسلام 273

أرسطو طاليس 126،81،80

الاسكندر بن فيلبس 81

أغا بزرگ الطهراني 20

أفلاطون 126،81،80

الیاس علیه السّلام 316

بخت نصر 271،270

برمانيدس الإيلي 83

الجاحظ 168،66

ص: 389

جالينوس 127

جرير بن عطية الخطفى 294

جعفر بن محمّد الصادق علیه السّلام 314

جلال الدين الهماني 22،21

جهم بن صفوان السمرقندي 229،227

جواد بن سعيد بن جواد الكاظمي 19

الحسن البصري 37

الحسن بن عبد الله الأطراوي 14

الحسن بن عبد الله بن محمّد الأعرج 14

الحسن بن عليّ علیه السّلام 314،308،291

الحسن بن عليّ العسكري علیه السّلام 316،314

حسن بن نجم الدين المدني 14

الحسن بن يوسف بن المطهر 63،31،22،20،17،16،13،12،10،8

الحسين بن روح 326

الحسين بن عبد الله أبو علي سينا 88

الحسين بن عليّ علیه السّلام 314،312،308،291

الحسين بن محمّد النجّار 188،66

حيدر بن علي الآملي 14، 15

الخضر علیه السّلام 316

خضر بن محمّد الحبلرودي 19

ص: 390

391

الدجّال 316

زينون الإيلى 83

سالم بن محفوظ بن عزيزة 266

السامري 316

سقراط 80

شمس الدين بن نجدة 11

ضرار بن عمرو الضبي 207

ظالم بن عمرو أبو الأسود الدؤلي 308،307

عبّاد بن سلمان أبو سهل 168

العبّاس بن عبد المطّلب 289

عبّاس القمّي 12

عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي247،179،169،125

،351،350،349،348،347،248

عبد الله الحسن بن محمّد بن النجّار 21

عبد الله بن سعيد الكلابي 145

عبد الله بن عبّاس 307

عبد الرحمن بن كيسان الأصمّ 278

عبد الرزاق ابن الفوطي 13

عبد السلام بن محمد أبو هشام الجبائي 95،85،43،38،36

،135،134،119،103،101

ص: 391

195،189،188،188،187،178،170،

،265،264،248،247،196،

369،368،365،362،337،279

عبد الجبّار بن أحمد القاضي 362

عبد الحميد بن أبي الفوارس الحلّي 18،17،13

عبد المطّلب بن أبي الفوارس الحلّي 19،17

عبد الملك بن عبد الله أبو المعالي الجويني 186،119،49،36

عليّ بن أبي طالب علیه السّلام ،291،290،289،288،278،

301،300،299،298،297،296،

314،311،310،308،307،304،303،302

علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري 308،184،119،54،36

علي بن الحسين علیه السّلام 314،310،308

علي بن الحسين الكركي 12

علي بن الحسين المرتضى 299،265،264،249،248،247

علي بن عبد الحميد النيلي 14

علي بن عبد الكريم النيلي 14

علي بن محمّد الهادي علیه السّلام 314

علي بن المحسن أبو القاسم التنوخي 298

علي بن موسى الرضا علیه السّلام 314

علي بن موسى بن جعفر بن طاووس 298،266

ص: 392

علي بن يوسف بن المطهر 13

عمر بن الخطّاب 305،304

عمر كحالة 116

عيسى المسيح علیه السّلام 127

فاطمة الزهراء عليهما السّلام 291

الكميت بن زيد الأسدي 294

المأمون العباسي 145

مجتبى الروضاتي 22

محمّد (السلطان خدابنده) 9

محمّد باقر الجارسوي 22

محمد بن أبي جمهور الأحسائي 12

محمّد بن جمال الدين المكّي العاملي 13،11

محمّد بن الحسن الخوئيني 19

محمّد الحسن الطوسي 299

محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهر 227،212،22،18،13،12،11،8

محمّد بن حيدر (میرزا رفيعا) 22

محمّد بن الطيب أبو بكر الباقلاني 184،49،36

محمّد بن عبد الله النبيّ صلّی الله علیه و آله 291،289،288،270،267،110،109

محمّد بن عبد الوهاب أبو علي الجبائي 101،95،85،54،49،43،38،

189،188،187،170،124،103

ص: 393

368،337،380،279،265،264

محمّد بن علي بن الطيب أبو الحسين البصري ،176،125،54،49،38،

،279،203،179،178،

366،336،335

محمّد بن عليّ الباقر علیه السّلام 314

محمّد بن عليّ الجواد علیه السّلام 314

محمّد بن علي الطريحي 19

محمّد بن عمر الفخر الرازي 265،38

محمّد بن القاسم بن الحسن بن معية الديباجي 14،11

محمّد بن كرام السجستاني 74

محمّد بن محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهر 14

محمّد بن محمّد النعمان الشيخ المفيد 326،36

محمّد بن يزيد المبرّد 294

محمّد بن الهذيل بن عبد الله أبو هذيل العلاّف 278،101،49،38

محمود بن عمر الخوارزمي 366

مصطفى التفريشي 12

معاذ بن جعفر بن عيسى الحدّاد 21

مقاتل بن سليمان الخراساني 36

المقداد بن عبد الله السيوري 19،18

المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) 315،314

ص: 394

مهنا بن سنان المدني 14

موسى بن جعفر الكاظم علیه السّلام 314

موسى بن عمران علیه السّلام 299،298،271،270،212

موسى الموسوي الزنجاني 15

نجدة بن عامر الحنفي 278

النعمان بن ثابت أبو حنيفة 352

نعمة الله بن محمّد الحسيني 23،22

نوح علیه السّلام 273،272

هارون بن عمران علیه السّلام 299،298،297

هشام بن عمرو الفوطي 287،168

همام بن غالب بن صعصعة الفرزدق 294

واصل بن عطاء 37

ابن النديم 116

أبو بكر بن أبي قحافة 289

أبو موسى الأشعري 54،36

الجوهري 116

أبو جعفر العمري 326

***

ص: 395

ص: 396

فهرس الأديان والمذاهب

الأشاعرة مكرّر في أغلب الصفحات

الإمامية 140،133،120،118،116،

209،207،203،190،167،162،

260،241،238،227،225،

289،279،274،266،261،

351،347،337،326،292،

363،360،359

البراهمة 236

الجهمية 227

الحنابلة 190

الخوارج 362،279،278

الدهريون 267،116

السُمّنية 117،116

الشيعة 326،313،291،289

الصوفية 251

ص: 397

الضرارية 207

الكرّاميّة 333،203،201،200،190،179،74

العدلية 248

المجبّرة 250،229،227،66

المرجئة 370،369،356،353،352،351

المعتزلة مكرّر في أغلب الصفحات

النجّارية 66

النجدات 278

النصارى 267

النظامية 66

الهاشمية 278،36

الوعيدية 362

اليهود 271،270،267

ص: 398

فهرس المواضيع

كلمة المحقّق...7

تمهید...7

اسم المؤلّف...8

مولده...8

نشأته ودراسته...8

مكانته العلمية...9

أساتذته وتلامذته...13

مصنّفاته وآثاره العلمية...15

وفاته ومدفنه...15

كتاب العلاّمة (نهج المسترشدين) وشروحه...16

هذا الكتاب...20

منهج التحقيق...23

الصفحات الأولى للنسخ الخطية...25

مقدّمة المؤلّف...31

الفصل الأوّل: في تقسيم المعلومات...35

في الوجود الذهني والخارجي...42

ص: 399

الفصل الثاني: في أقسام الممكنات...45

في الجوهر...46

في العرض...52

الفصل الثالث: في أحكام المعلومات...53

في الوجود هل هو صفة زائدة...53

في بيان اشتراك الوجود...56

في تعريف الوجود...58

في الوجوب والإمكان والامتناع...60

الفصل الرابع: في أحكام الموجودات...63

في جوهر الفرد...63

في أحكام الأجسام...65

في بقاء الأجسام...68

في تناهي الأجسام...71

في جواز الخلأ بين الأجسام...73

في حدوث الأجسام...76

في أحكام خاصّة للأعراض وأقسامها...80

مبحث الكون...80

مبحث اللون...86

مبحث الطعوم...89

مبحث الروائح...91

ص: 400

مبحث الحرارة والبرودة...92

مبحث الرطوبة...95

مبحث الصوت...96

مبحث الاعتماد...98

مبحث التأليف...100

مبحث الفناء...101

مبحث الحياة...102

مبحث القدرة...104

مبحث الاعتقاد...106

مبحث العلم...107

في الأوّليات والمحسوسات والمجرّبات والحدسيات...107

في المتواترات...109

في حدّ العلم...111

مبحث الظنّ...113

مبحث النظر...114

مبحث الإرادة والكراهة...121

مبحث الشهوة والنفر...122

مبحث الألم واللذّة...123

مبحث الإدراك...125

في الإبصار...126

ص: 401

في السماع...129

في الشمّ...129

في اللمس...130

في الذوق...131

بحث في أحكام عامّة للأعراض...132

بحث في الأحكام المشتركة بين الجواهر والأعراض...135

في التماثل والاختلاف...136

في التقابل...136

في الضدّين...137

في النقيضين...138

في العدم والملكة...139

في المتضايفين...139

في المثلين...140

في الوحدة والكثرة...141

في الحدوث والقدم...144

بحث في العلّة والمعلول...148

في الموجود الكلّي والجزئي...158

الفصل الخامس: في التوحيد...163

في إثبات الواجب الوجود وصفاته...163

بحث في قدرة الواجب...164

ص: 402

في قدم الواجب...165

في أحكام القدرة...167

في علم الواجب...170

في علمه بالجزئيات...173

في علمه بذاته...173

في حياة الواجب...175

في إرادة الواجب...177

في إدراك الواجب...179

في كلام الواجب...180

الفصل السادس: في أحكام صفات الواجب...183

في البقاء...183

في نفي المعاني...185

في أنّه مريد لذاته...187

في حدوث كلامه...190

في صدقه...191

في أزلية صفاته...192

الفصل السابع: في ما يستحيل عليه تعالى...195

في نفي المماثلة...195

في نفي التركيب...197

في نفي التحيّز...198

ص: 403

في نفي الجهة...199

في استحالة قيام الحوادث عليه...202

في استغنائه...206

في أنّ ذاته غير معلومة...207

في استحالة رؤيته...208

في أو حديته...213

الفصل الثامن: في العدل...217

في الحسن و القبح...219

في نفي القبيح عنه...224

في خلق الأعمال...226

في أنّه مريد...231

الفصل التاسع: في فروع العدل...235

في التكليف...235

في اللّطف...240

في الآلام...243

في عوض الألم...244

في الرزق...249

في مسائل الأجل...251

في السعر...252

الفصل العاشر: في النبوّة...255

ص: 404

فى البعثة...255

في العصمة...256

في كيفية معرفته...262

في أدلّة إثبات نبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)...267

في احتجاج اليهود ببطلان النسخ...270

في أشرفية الأنبياء...273

الفصل الحادي عشر : في الإمامة...277

في حدّ الإمامة...277

في صفات الإمام...283

بحث في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)...288

في إمامة باقي الأئمّة (عليهم السلام)...313

في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)...315

الفصل الثاني عشر : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...317

الفصل الثالث عشر: في المعاد...325

في حقيقة الإنسان...325

في إعادة المعدوم...331

في إمكان انعدام العالم...333

في إمكان خلق عالم آخر...338

في انقطاع التكليف...339

في إثبات المعاد الجسماني...342

ص: 405

في الثواب والعقاب...347

في بقايا مباحث الثواب والعقاب...352

في دوام الثواب والعقاب...353

في توقف الثواب...354

فى الموافاة...355

في الإحباط...356

في الوعد والوعيد...358

في أحوال القيامة...362

في العفو...363

في التوبة...366

في الأسماء والأحكام...373

الفهارس الفنية

فهرس الآيات...381

فهرس الأعلام...389

فهرس الأديان والمذاهب...397

فهرس المواضيع...399

***

ص: 406

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.