وهم دوكينز؟ الأصولية الملحدة وإنكار الإله

هوية الکتاب

وهم دوكينز؟

(الأصولية الملحدة وإنكار الإله )

العنوان الأصلی للکتاب:The dawkins delusion

تألیف:لیستر إدغار ماکغراث و جوانا کولیکات ماکغراث

ترجمه:محمد عوده

مراجعه: السید إبراهیم الموسوي

العتبة العباسیة المقدسه.

الطبعه: الأولی 2017م-1438ه_

ص: 1

اشارة

ص: 2

هويّة الكتاب

الکتاب:وهم دوكينز؟

(الأصولية الملحدة وإنكار الإله )

العنوان الأصلی للکتاب:The dawkins delusion

تألیف:لیستر إدغار ماکغراث و جوانا کولیکات ماکغراث

ترجمه:محمد عوده

مراجعه: السید إبراهیم الموسوي

العتبة العباسیة المقدسة.

الطبعه: الأولی 2017م-1438ه_

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز ....7

المقدمة ...9

الفصل الأول : مُضلَّل حيال الله؟ ...17

الإيمان طفولي...20

الإيمان غير منطقي...23

حجج وجود الله؟ ...25

انعدام احتمال وجود الله...27

إله الفراغات ...29

الفصل الثاني: هل دَحَض العلم فكرة وجود الله؟ ...34

حدود العلوم؟ ...36

السلطة التعليمية غير المتداخلة والسلطة التعليمية ...40

المتداخلة جزئياً

هل من معركة بين العلم والدين؟ ...42

صراع الأصوليات ...49

ص: 4

الفهرس

الفصل الثالث: ما هو أصل الدين؟ ...54

تعریف الدین ...60

الإيمان بالله والدين ...64

فيروس العقل ...69

ليحيا الميم ...72

الفصل الرابع : هل الدين شر؟ ...78

الدين يؤدّي إلى العنف ...78

إساءة الإنسان للمثل العليا...82

يسوع وحبّ الجار ...87

المسيحيّة ونقد الدين...91

في قراءة العهد القديم ...92

الدين والرفاهية ...95

المقاربات الصحيّة وغير الصحية للصيام ...95

الخاتمة ....... 101

ص: 5

محتوی الکتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 6

مقدمة المركز

باسمه تعالى

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الإلحاد وامتداداته، ومع قطع النظر عن كونه أصبح ظاهرة أم لا، فإنّ له وجوداً بارزاً بيننا سيما بعد الثورة المعلوماتية الهائلة التي نشهدها اليوم وعولمة الشبهات والأزمات الفكرية، وقد يختلط أيضاً مع حالة العزوف عن الدين عند طبقة الشباب بحسب اقتضاء العمر وفترة المراهقة.

والمجتمع الإنساني لم يكن بمعزل عن الالحاد يوماً ما، بل ربما يكون من اقتضاءات هذه الدنيا الهابطة المبنية على ثنائية الهداية /الضلال، نعم كانت هذه الحالة بين الجزر والمد تختلف باختلاف الزمان والمكان والأسس التي تعتمد عليها، ففى كل فترة كان يجد الإلحاد مناخاً وملاذاً يلوذ به وعماداً يتكئ عليه، إلى أن تخيّل وجود منفسح رحب له في الآونة الأخيرة جراء تطور العلوم الطبيعية ومحاولة تفسير الكون بمعزل عن الغيب، فباض وفرخ وبذر بذوره بأمل أن يحصد جناه لاحقاً بدءاً من عصر التنوير ووصولاً إلى إعلان موت الإله وانتهاءاً إلى مقولة وهم الإله.

هذا.. وقد تصدى المركز الإسلامي للدارسات الاستراتيجية - تلبيةً لمهامه في رسم خطط وبرامج وحلول ومعالجات في مجالي الدين والمعرفة - لإصدار سلسلة جديدة تحت عنوان

(نقد الإلحاد ) بأقلام دعاة الدين لمعالجة هذه الحالة المتفشية في أوساطنا نوعاً ما.

هذا الكتاب الذي ألفه:

1. ليستر ادغار ماكغراث العالم الفيزيائي الايرلندي الملحد أولاً، والعالم اللاهوتي المؤمن ثانياً، أستاذ اللاهوت في جامعة اكسفورد و كامبريدج وكلية ريجنت ،

ص: 7

له ثلاث شهادات دكتوراه: في الفيزياء الحيوية الجزيئية، في علم اللاهوت وفي الآداب / التاريخ الفكري وله مؤلفات عدّة في الدفاع عن الدين والرد على الملحدين منها : شفق الالحاد، اله دوكينز والجينات وهم دوكينز، اللاهوت العلمي وغيرها.

2. جوانا کولیکات ماکغراث، درست علم النفس التجريبي في جامعة اكسفورد، وتخصصت في علم النفس العصبي السريري، ثم درست لاحقاً اللاهوت المسيحي وأصبحت استاذة في علم النفس الديني في كلية هايثروب في جامعة لندن.

تصدى مؤلفا هذا الكتيب لدحض مزاعم دوكينز في كتابه (وهم الاله)، وقد كان انطباعهما العام عن هذا الكتاب في نظرةٍ تقييميةٍ محايدة أنّه يستند إلى تحليل علمي بسيط، وفيه تكهنات زائفة أغلبها مستعار من كتابات ملاحدة أقدم، وفي كلمة أخيرة (إنّه في أغلبه ليس سوى مجموعة من الأخبار الموجزة الملائمة والمبالغ فيها بغية تحقيق أقصى الأثر ، وهو مرتب بصورة فضفاضة من أجل الإيحاء بأنه يملك حجة).

لذا يغوصان معه في نقد الأسس والبنى التي اعتمدها في كتابه (وهم الاله) ليثبتا أنّ الدين ليس خرافة والإله ليس وهماً.

ونحن إذ نقدّم هذا الكتاب ضمن (سلسلة نقد الإلحاد) إلى القراء الكرام نتمنى إلحاقه بدراسات أخرى بأقلام دعاة الإيمان والدين تأليفاً وترجمةً، كما نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن المؤلفين ينطلقان من منطلق مسيحي في نقد دوكينز.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الأنبياء والمرسلين سيما خاتمهم وآله الميامين.

ص: 8

المقدمة

منذ نشر كتاب «الجين الأناني» (1976)، بات ريتشارد دوكينز واحداً من أنجح كتاب الأدبيات العلمية وأمهرهم، ومع زميله الأمريكي ستيفن جاي غولد، استطاع جعل البيولوجيا التطورية مُتاحة لجيل جديد من القراء وتثير اهتمامه ولطالما شعرت أنا وثلة من المعجبين بأعماله العلمية الشائعة بالغيرة من الوضوح المستخدم في كتاباته واستخدامه الجميل للتشبيهات المساعدة وأسلوبه المسلي.

لكن كتابه الأخير كان مختلفاً تماماً. فقد أهّل كتاب وهم الإله» دوكينز لأن يُعتبر المجادل الملحد الأبرز في العالم، الذي يوجه انتقاداً لاذعاً ضد أي شكل من الدين(1) .

إنّه واثق بقدرته على دفع قرائه لتغيير إيمانهم :« إذا كان هذا الكتاب يفي بالغرض الذي أبتغيه، فإن القراء المتدينين الذين يفتحونه سيغدون ملحدين عند إنهائه»(2).

هو لا يعتقد أنّ ذلك تحديداً مرجّح؛ بعد كلّ شيء، هو يوحي بأن «أصحاب الإيمان الراسخ حصينون أمام الحجة».

لكن أن يكتب دوكينز كتاباً من أربعمائة صفحة مُعلنا فيه أنّ الله وهم فهذا بحدّ ذاته حقيقة بالغة الأهمية. فلِمَ كتابٌ كهذا لا يزال ضروريًاً؟ كان من المفترض أن يزول الدين منذ سنوات. ولأكثر من قرن ،كان كبار علماء الاجتماع وعلماء علم الإنسان وعلماء النفس يعلنون أن أولادهم سيشهدون حقبة جديدة حيث يُترك فيها «وهم

ص: 9


1- Richard Dawkins, The God Delusion (Boston: Houghton Mifflin, 2006) .
2- Ibid, p. 5.

الإله» من أجل الخير. وإذا عدنا لستينيات القرن الماضي، لتذكَّرنا بأنّه كان يُقال لنا إنَّ الدين يخبو وسيحل مكانه عالم علماني.

بنظر بعضنا، كان ذلك شيئاً عظيماً. أما أنا فكنت ملحداً في أواخر الستينيات وأتذكر كيف كنت أتطلع لزوال الدين ببهجة قاتمة معينة. لقد ترعرعت في شمالي إيرلندا وكنت على تماس مباشر مع التوترات الدينية والأعمال العنفية المرتبطة بها. وكان الحل واضحاً أمام عقلي المتحرّر. يجب التخلص من الدين وعندها كلّ توتّر وعنف سيزول. وسيغدو المستقبل ساطعاً -وبدون إله.

أمران تغيرا منذ ذلك الحين. في المقام الأول، عاد الدين. وهو الآن عنصر هام في عالم اليوم لدرجة أنّه يبدو من الغريب التفكير أنّه قبل جيل واحد فقط كان يُعتقد بأنّ زواله يلامس اليقين. الكاتب الإنساني مايكل شرمر ، ربما الأكثر شهرة بمدير مجتمع المشككين

وناشر مجلة المشكك بيّن هذه النقطة بشدة في عام 1999 عندما أشار إلى أنّه على مرّ التاريخ لم يكن هناك هذا العدد الكبير وهذه النسبة العالية من السكان الأمريكان الذين يؤمنون بالله(1) . فليس أنّ الله غير «ميت» وحسب، مثلما ادعى الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه قبل الأوان، بل لا يبدو أبداً أنّه كان بهذا القدر من الحيوية.

ثانياً، لكن بأقل أهميّة مواقفي الخاصّة تغيّرت. برغم أنّي كنت كشاب في مقتبل العمر مقتنعاً تماماً وبشغف بالحقيقة وبكلّ ما له علاقة بالإلحاد، وجدت نفسي لاحقاً مقتنعاً بأنّ المسيحيّة أكثر إثارة للاهتمام وموجودة فكرياً على الصعيد العالمي أكثر من الإلحاد. ولطالما قدّرت التفكير الحرّ والقدرة على رفض المعتقدات التقليدية لأيّ عمر. لكن لم أشكّك يوماً إلى أين سيأخذني تفكيري الحرّ.

إذاً، أنا ودوكينز كان لنا توجّهان مختلفان كلياً لكن بالأساس للأسباب نفسها.

ص: 10


1- Michael Shermer, How We Believe: Science, Skepticism, and the Search for God (New York: Freeman, 2000), pp. 16- 31 .

كلانا أكاديمي من أوكسفورد يعشق العلوم الطبيعية. وكلانا يؤمن بشغف بالتفكير المستند إلى دليل وينتقد أولئك الذين يحملون معتقدات شغوفة لأسباب غير ملائمة.

وكلّ واحد منا يرغب في التفكير بتغيير موقفه حيال الله إذا كان الدليل تطلب ذلك. لكن، وفقاً لخبرتنا وتحليل العالم نفسه، توصلنا إلى استنتاجين مغايرين كلياً بشأن الله. والمقارنة بيننا توجيهية، لكنّها تنبثق من بعض الأسئلة الصعبة التي طرحها دوكينز.

دوكينز، وهو حالياً بروفسور في الفهم العام للعلوم في جامعة أوكسفورد، يؤمن بأنّ العلوم الطبيعية، ولا سيما البيولوجيا التطورية، تمثل الطريق السريع إلى الإلحاد- كما فعلت به في شبابه .في حالتي الخاصة، بدأت كملحد وانطلقت لأصبح مسيحيّاً - بالدقة خلافاً لرحلة دوكينز الفكرية. وكنت نويت في الأصل أن أقضي حياتي في البحث العلميّ لكن وجدت أنّ اكتشافي للمسيحية أدّى بي لدراسة تاريخها وأفكارها بعمق كبير. لقد حصلت شهادة الدكتوراة في الفيزياء الحيوية الجزيئية أثناء العمل في الحصص المخبرية في جامعة أوكسفورد مع البروفسور جورج رادا، لكن تخليت لاحقاً عن البحث العلمي من أجل دراسة علم اللاهوت.

غالباً ما تعجبت كيف يمكنني ودوكينز أن يكون لكل منا استنتاجات مختلفة كلياً كهذه بناءً على تبصر طويل وشاق حول عالم هو ذاته من الناحية الجوهرية. قد يكون الاحتمال الأول أنه، لأنني أؤمن بالله ومضطرب ومخدوع ومُضلَّل ومُضلَّل، فإنّ قدرتي الفكرية تُشوّش من خلال خطفها من قبل فيروس الله المعدي والخبيث. أو لأنني مضطرب و مخدوع ومُضلَّل ومُضلَّل، فإنّ قدرتي الفكرية تُشوّش من خلال خطفها من قبل فيروس الله المعدي والخبيث ، فأؤمن بالله. كلاهما، أخشى، موضوع الإجابة التي وجبتها في صفحات كتاب «وهم الإله».

قد يكون ذلك جواباً، لكنّه ليس بالضرورة جواباً مقنعاً .هو قد يناشد الملحدين المتشدّدين الذين لا يسمح إيمانهم الراسخ لهم بالعمل خارج صندوق «اللا إله». لكن

ص: 11

آمل أن أكون محقاً في اقتراحي بأنّ دوغماتيين بدون تفكير كهؤلاء ليسوا نموذجيّين للإلحاد. وقد تكون الإجابة الأخرى عن سؤالي تكراراً لعدم المنطق نفسه، لكن هذه المرة تطبيقه يكون على دوكينز . (برغم أنّي في هذه الحالة، أفترض أنّه يجب علينا طرح فرضية اختطاف عقله بنوع معين من فيروس «اللا إله»). لكن لا نية لي بالكتابة عن أمر غير قابل للتصديق. فلم أهين دوكينز ؟ الأكثر أهميّة حتى لم أستخف بذكاء قرائي ؟

إن بدايات الجواب الصحيح تستند على كلمات حكيمة لستيفن جاي غولد، الذي أدى موته المؤسف جرّاء السرطان في عام 2002 إلى حرمان جامعة هارفرد من أحد أشهر أساتذتها ، وحرمان الأدبيات العلميّة الشعبية من أحد أمهر كتابها ولو أنّه ملحد، كان غولد واضحاً للغاية بأنّ العلوم الطبيعية _ من بينها النظرية التطورية _ تتماشى مع الإلحاد والمعتقد الديني التقليدي على حد سواء. وما لم يكن نصف زملائه العلميّ بن أغبياء تماماً- فرضية رفضها غولد بحق لاعتبارها غير منطقية، أيّاً كان النصف الذي تنطبق عليه - لكان ليس ثمة سبيل آخر مسؤول عن إضفاء منطق الردود المتنوّعة على الواقع من جانب الأناس الأذكياء والمطلعين الذين عرفهم(1).

وهذا ليس جواباً سريعاً وسهلاً يمكن أن يُحبّذه كثيرون. لكن قد يكون صحيحاً جداً- أو على الأقل نقطة في الاتّجاه الصحيح .هو يُساعدنا في فهم السبب الكامن وراء اعتناق أناس كهؤلاء لمعتقدات مختلفاً للغاية بشأن هذه المسائل - وبناءً على ذلك. السبب وراء اعتقاد بعضهم الآخر في نهاية المطاف أنّ تلك الأسئلة لا يمكن إيجاد أجوبة مقنعة لها. وهذا يذكرنا بالحاجة إلى التعامل مع أولئك الذين يُعارضوننا في مسائل كهذه باحترام فكري تامّ لا أنّ نصفهم بأنّهم كذابون ومحتالون ودجالون.

وفيما يحاول غولد على الأقل التفكير مالياً بالدليل ،يُقدّم دوكينز ببساطة البديل

ص: 12


1- Stephen Jay Gould, "Impeaching a Self-Appointed Judge. » Scientific American 267, no. 1 (1992): 118-21

الملحد لوعظ جهنمي، مستبدلاً الخطاب المشحون والتلاعب بالحقائق الانتقائي للغاية بتفكير دقيق مستند على الدليل .اللافت للنظر أنّ هناك تحليلاً علمياً بسيطاً في «وهم الإله»، مما يثير الدهشة. وثمة تكهّنات زائفة مرتبطة بانتقاد ثقافي أوسع للدين، وأغلبها مستعار من كتابات ملحدة أقدم .فيعظ دوكينز كوراله الكاره لله، ومن الواضح أنّ المتوقع من أفراد هذا الكورال أنّ يتلذذوا بزخاته البلاغية ويرفعوا أيديهم عالياً بتزلّف. فأولئك الذين يعتقدون أن التطوّر البيولوجي يمكن توفيقه مع الدين هم مخادعون. آمین ! هم ينتمون إلى أنصار نظرية التطوّر من «مدرسة نيفيل تشامبرلين» وهم !استرضائیون !آمين! والعلماء الحقيقيون يرفضون الاعتقاد في الله! هللويا! والرب الذي آمن به اليهود في العهد القديم هو مختلّ يعتدي على الأطفال! آمین! فأنت قل لهم، يا أخي!

عندما قرأت كتاب «وهم الإله» شعرت بالأسى والاضطراب على حد سواء. تعجبت، هل يمكن لمعمِّم موهوب بالعلوم الطبيعية، كان يتمتّع في ما مضى باهتمام شغوف بالتحليل المنطقي للدليل، أن يتحوّل إلى داعية عدائي تجاه الدين مع رفض ظاهر لأي دليل لا يُلائم حجّته؟ لِم العلوم الطبيعية تُنتهك كثيراً لتعزيز التشدّد الإلحادي؟ ليس عندي أي تفسير مناسب وكغيري من أصدقائي الملحدين الكثر، لا يمكنني أن أفهم حجم العدائية التي يُبديها تجاه الدين. فالدين بنظر دوكينز كالراية الحمراء بالنسبة للثور- لا تستثير ردّاً عدائياً فحسب بل آخر يرمي المواثيق العلمية العادية حول الدقة المتناهية والعدالة لتذروها الرياح وفيما كتابه مكتوب بشغف وقوة بلاغيّين الحدّة في تأكيداته هي مجرّد قناع لحجج بالية وضعيفة ومُعاد استخدامها.

لست وحدي من يشعر بخيبة الأمل هنا .كتاب «وهم الإله» يعلن الحقيقة أنّ كاتبه اعتُبر مؤخراً واحداً من المفكّرين الرياديين الثلاثة في العالم. وشمل هذا الاستطلاع قرّاء مجلة بروسبكت في تشرين الثاني 2005. لذا، ما الذي فعلته المجلة

ص: 13

نفسها بكتاب دوكينز ؟ ناقدها الأدبي ذَهل بهذا الكتاب «غير المبالي والمتعصّب وغير المترابط والمليء بالتناقضات فماذا كان عنوان المراجعة؟ «دوكينز الدوغمائي».

الردّ على دوكينز

واضح أنّ ثمة حاجة لردّ من نوع ما على كتاب «وهم الإله»، لأنّه مع غياب أيّ ردّ قد يقتنع بعضهم بأن لا ردّ موجوداً عليه. لذا كيف يجب الردّ ؟ أحد الردود الواضحة يجب أن يكون عبر تأليف كتاب بمستوى العدائية وعدم الدقة، ساخراً من الإلحاد من خلال تشويه أفكاره وتقديم دجاليه كما لو أنّهم قديسون. لكن ذلك سيكون بلا فائدة وذا نتائج عكسية، دون الحاجة إلى ذكر عدم الأمانة على الصعيد الفكري.

في الواقع ،هناك صعوبة حقاً لكتابة ردّ على هذا الكتاب - لكن ليس لأنه قوي الحجّة أو جرّاء متانته لاستناده على الدليل القاطع. بل إنّ الكتاب في أغلبه ليس سوى مجموعة من الأخبار الموجزة الملائمة والمبالغ فيها بغية تحقيق أقصى الأثر وهو مرتّب بصورة فضفاضة من أجل الإيحاء بأنّه يملك حجّة. ومن أجل دحض هذا الإغراء الانتقائي للغاية بالأدلّة يمكن أن تكون النتيجة تأليف كتاب مملّ بصورة رديئة جداً، فيكون ردّاً نزقاً وانفعالياً. إنّ كلّ واحدة من تحريفات دوكينز وادعاءاته يمكن دحضها وتصحيحها. لكنّ كتاباً لا يُقدّم سوى سردية من التصحيحات سيكون مملاً وجامداً. والافتراض بأنّ دوكينز له ثقة موازية في جميع أجزاء كتابه، لا بد أن أتحداه في النقاط النموذجية والسماح للقراء بالتوصل إلى استنتاجاتهم الخاصّة حيال دقة أدلّته وأحكامه.

من الواضح أنّ لدوكينز اهتماماً بسيطاً في التعاطي مع المؤمنين المتدينين، الذين يجدون أنفسهم ببساطة في حالة من الرعب جرّاء التحريفات الصارخة لمعتقداتهم وسبل عيشهم. فهل حالة الإلحاد حقاً ضعيفة للغاية بحيث إنّه يجب تقويتها بهذا

ص: 14

الهراء المرتجل ؟ يُقدّم دوكينز لقرّائه مجاملة مشكوكاً فيها للغاية من خلال الافتراض بأنهم سيشاركونه تجاهله للدين والتحامل عليه. وأي انتقاد لتحليله سيواجه ببساطة بالردّ التالي:

«حسناً ، هذا ما ستقوله، أليس كذلك؟» فمن المحتمل أن تكون الاعتراضات على تحليله مرفوضة ومنتقص من مكانتها مسبقاً لأنه بالتحديد هي صادرة عن أناس متدينين«متحيزين» يتسمون بالغباء والجهل ما يمنعهم من القدرة على انتقاد الملحدين «الموضوعيّين» و«المنطقيين».

هي نقطة خطيرة وشائكة للغاية. إنّ الاقتناع الدوغمائي التام بالصواب الذي يسود بعض أقسام الإلحاد الغربي اليوم - المبيّن بإذهال في «وهم الإله»-يصطفّ فوراً مع أصولية دينية ترفض السماح لأفكارها بأن تُفحص أو يُعترض عليها. ودوكينز رافض المعايرة لثوابته الخاصة، معتبراً إياها صحيحة دون ريب وليست بحاجة للدفاع عن نفسها. وهو مقتنع جداً بأنّ وجهات نظره محقة بحيث إنّه ليس بحاجة إلى الاعتقاد بأنّ الأدلة قد تشرّع أيّ خيارات أخرى فوق كلّ شيء، الخيارات الدينية.

ما يُثير القلق على تحديداً أنّ دوكينز، دون إدراك لذلك، يتعامل مع البراهين ببساطة كشيء يحشره في إطاره النظري المسبق. فيُصوّر الدين باستمرار في أسوأ طريقة ممكنة لمحاكاة المزايا الأكثر سوءاً للأصولية الدينية في تصويرها للإلحاد.

وحينما يكتب بعض العلماء الرياديين لدعم الدين ،يردّ دوكينز بحسم أنّهم ببساطة لا يعنون ما يقولون. من الواضح أنّ دوكينز يشعر بتهديد عميق ناجم عن إمكانية مقابلة قرّائه لأفكار دينيّة أو متدينين قد يُعجبون بهم حقاً أو حتى أسوأ من ذلك، احترامهم واعتبارهم يستحقون الانتباه الجدّي.

يبدو أنّ كلّ ذلك من أجل جعل تأليف كتب كهذه أمراً لا جدوى منه باستثناء تلك المرة حين كنت ملحداً واستيقظت من هجوعي المتعصّب من خلال قراءة كتب تحدّت نظرتي المتحجرة بسرعة. وأظنّ أنّ هذا الكتاب سيقرأه بالأساس المسيحيون

ص: 15

الذين يريدون معرفة ما يودون قوله لأصدقائه الذين قرأوا كتاب «وهم الإله» ويتحيّرون ما إذا كان المؤمنون هم حقاً منحرفين جنسياً وفاسدين أخلاقياً وجهلة كما يُصوّرهم الكتاب. لكنّ أملي معقود على أن يشمل جمهور القراء الملحدين الذين لم تُحبس عقولهم بعد بنمط الانعكاسات الدوكينزية الذاتية. وهناك الكثيرون ممن يعيشون الضلال بشأن الله، وكنت أنا واحداً منهم.

هذا كتاب قصير، مع إبقاء الحدّ الأدنى من الحاشية لتوفير المساحة. وتركيزه الأساسي سهل ومتناسق : انتقاد الحجج التي وردت في كتاب «وهم الإله». وقد يتمنّى القرّاء أنّ يُسهب هذا الكتاب ليطال المواضيع الأخرى- مثل استكشاف ومدح القدرة الفكرية والقوة الروحية للمسيحية(1). ستكتب تلك الكتب في الوقت المناسب. لكنّ هذا الذي بين أيدينيا بسيط وقصير ويتعاطى مباشرة مع الموضوع المرجو . ولا يشوبه الاستطراد أو الانحراف عن الفكرة. وغايته واحدة لا غير تقييم الموثوقية في انتقاد دوكينز للإيمان بالله (2).وبرغم أنّ غاية الكاتب الأول تستند إلى أسباب تاريخية وأسلوبية ،وجهات النظر والحجج المذكورة تعود إلى المؤلفين على حد سواء.

يكفينا كلّ ذلك كمقدّمة، ولنتجه فوراً إلى أفكار ومواضيع «وهم الإله».

ص: 16


1- 5 For some such books see C. S. Lewis, Mere Christianity (New York: Macmillan, 1984); and N. T. Wright, Simply Christian (San Francisco: HarperSanFrancisco, 2006).
2- Readers who would appreciate a more extended scholarly and analytical engagement with Dawkins's "scientific atheism" should read Alister E. McGrath, Dawkins'God: Genes, Memes and the Meaning of Life (Maiden, Mass.: Blackwell, 2004). While this book represents a sympathetic yet critical study of Dawkins's viewson science and religion up to 2004, The God Delusion develops a broader range of arguments, which clearly invite further evaluation and response.

الفصل الأول

فضل حيال

الله

ص: 17

الفصل الأول: مُضلَّل حيال الله

اشارة

الإله وهم -جنوح ذهاني اخترعه أناس مجانين وضالون(1). تلك هي الرسالة الأساسية من كتاب «وهم الإله». برغم أنّ دوكينز لم يعرض تعريفاً دقيقاً للوهم، هو يقصد بوضوح أنّه لا يتركّز على أدلة بل أسوأ من ذلك هو يُخالف الدليل. فالإيمان هو «ثقة عمياء، مع غياب الأدلة، حتّى برغم أنف الأدلة » (2). هي «عملية اللا تفكير». وهي «شريرة تحديداً لأنّها لا تتطلب التبرير ولا تحتمل الحجة»(3). هذه التعريفات الأساسيّة عن الإيمان ماثلة في نظرة دوكينز ومُكرّرة باستحواذ في كتاباته كافة. هو ليس تعريفاً مسيحياً للإيمان لكنّه تعريف اخترعه دوكينز لملاءمة أهدافه الجدلية الخاصة به . فهو يُحدّد أولئك الذين يؤمنون بالله على أنّهم أناس ابتعدوا عن الواقع- كما لو أنّهم ضلّوا.

يُشير دوكينز بصورة محقة إلى أهمية الإيمان في حياة الناس. فما تؤمن به له تأثير هام جداً في الحياة والفكر. فيُخبرنا أن ذلك يجعل من المهم أكثر إخضاع الإيمان إلى فحص بارع ودقيق. ويجب كشف النقاب عن الأوهام ومن ثمّ إزالتها. أوافق على كلّ

ص: 18


1- Richard Dawkins, The God Delusion (Boston: Houghton Mifflin, 2006), p. 38.
2- This definition dates back to 1976, when it appeared in The Selfish Gene. See Richard Dawkins, The Selfish Gene, 2nd ed. (Oxford: Oxford University Press, 1989), p. 198.
3- Dawkins, God Delusion, p. 308.

ذلك. منذ نشر كتابي «إله دوكينز» في عام 2004 يُطلب منّي على الدوام الحديث عن مواضيعه في أنحاء العالم كافة. وفي تلك المحاضرات، أذكر وجهات نظر دوكينز بشأن الدين ومن ثمّ أقدم نقداً مبنياً على الدليل ،نقطة بنقطة.

بعد إنهائي لواحدة من تلك المحاضرات، اعترضني شاب غاضب جداً. لم تكن تلك المحاضرة تحديداً مميّزة .من خلال الاستخدام الدقيق للحجج العلمية والتاريخية والفلسفية، أظهرت ببساطة أنّ الحالة الفكرية لدى دوكينز ضدّ الله لا تصمد أثناء الفحص البارع . لكن ذاك الرجل لم يكن غاضباً فحسب، بل أقول كان يشتاط غضباً. لماذا؟ رافعاً إصبعه في وجهي والغضب يعتريه، قال لأنّني «دمّرت إيمانه». فإلحاده مبني على سلطة ريتشارد دوكينز، وأنا قوضت إيمانه كلياً. ينبغي أن يذهب ويُعيد التفكير في كلّ شيء. كيف أجرؤ على القيام بأمر كهذا!

وبينما كنت أتأمل في هذا الأمر أثناء عودتي إلى البيت، وجدت نفسي أمام رأيين حياله .جزء منّي ندم على الإزعاج الهائل الذي سببته لهذا الرجل. فقد أحدثت اضطراباً في الافتراضات المستقرّة في حياته. لكنّني واسيت نفسي بفكرة أنّه لو لم يكن حكيماً بما يكفي لإرساء حياته على وجهة نظر دوكينز غير الكافية بجلاء، لأدرك يوماً ما أنّها تستند إلى أسس هشّة قطعاً. ولكانت إزالة الوهم واقعة لا محالة في يوم من الأيام. إلا أنني مثلت الحدث التاريخي الذي سبب حصولها في الزمان والمكان المحدّدين.

لكنّ جزءاً آخر منّي بدأ يُدرك كيف نعتنق معتقداتنا بعمق، وتأثير تلك المعتقدات في كلّ شيء في حياتنا. دوكينز محق - المعتقدات هامة فنحن نبني حياتنا عليها؛ هي تُحدّد قراراتنا بشأن الأمور الأكثر أهمية. وما زلت أتذكر الاضطراب الذي عشته أثناء الانتقال المؤلم فكرياً (برغم أنه يستحق )من الإلحاد إلى المسيحية. فكلّ جزء من الأثاث العقلي كان لا بدّ من إعادة ترتيبه. ودوكينز محق أيضاً - محق بلا أدنى شك

ص: 19

- عندما يطلب بأنّه لا يجب أن نبني حياتنا على الأوهام. فكلنا بحاجة إلى فحص معتقداتنا - ولا سيما إن كنا سُذْجاً لدرجة اعتبار أنفسنا لا نملك أي معتقدات في المقام الأول. وهنا أتساءل من هو المضلل حقاً بشأن الله؟

الإيمان طفولي

كأي شخص على دراية بالجدال المعادي للدين يعرف أنّ الانتقاد الإلحادي المتواتر للمعتقد الديني يعتبره طفوليّاً وهُمٌ طفولي مصيره الزوال حينما تبلغ الإنسانية نضجها. خلال تاريخه المهني طوّر دوكينز انتقاداً مماثلاً، راسماً تشبيهاً إلحادياً طويل الأمد. في أعماله الأولى، أكّد دوكينز أنّ الإيمان بالله كما هو الاعتقاد بالجناني أو بابا نويل. وهذه المعتقدات طفولية ما إن تختفي حتى نصبح قادرين على التفكير بطريقة مستندة إلى الأدلّة. وكذلك هو الله. هذا واضح، أليس كذلك؟ فكما أشار دوكينز في برنامجه «فكرة هذا اليوم» على إذاعة البي بي سي في العام 2003، الجنس البشري «يمكن أن يعيش مرحلة طفولية كثيرة البكاء، وفي النهاية يبلغ سن الرشد». هذا «التفسير الطفولي» يعود إلى حقبة مبكّرة من تاريخ البشرية ، حقبة تؤمن بالخرافات .وقد تجاوزنا تلك الحقبة(1).

كغيرها من تشبيهات دوكينز الكثيرة، هي مبنية على جدول أعمال معيّن في البال - في هذه الحالة ازدراء الدين. لكن من الواضح أنّ التشبيه خاطئ. كم من البشر نعرفهم بدأوا بالاعتقاد بوجود بابا نويل في سن البلوغ ؟ أو مَنْ وجد أن الاعتقاد بوجود الجناني مواسياً في سنّ الشيخوخة ؟ أنا آمنت بأنّ بابا نويل موجود حتّى بلوغي سنّ الخامسة ( لكن، لا أعرف المنافع المترتبة على ذلك، فقد تركت والدي

ص: 20


1- A much more sophisticated account of the origins of belief, bearing some slight resemblance to that offered by Dawkins, is found in the writings of Sigmund Freud. Dawkins shows no awareness of this and makes no reference to Freud in The God Delusion.

يعتقدان بأني ما زلت أخذ الأمر بجدّية حتّى وقت لاحق). ولم أؤمن بالله إلا حين ذهبت إلى الجامعة. فأولئك الذين يلجؤون إلى هذه الحجّة الطفولية يجب عليهم شرح السبب وراء اكتشاف كثيرين لوجود الله في وقت لاحق من حياتهم وبالتأكيد لا يعتبرون ذلك يمثل أي نوع من التراجع أو الانحراف أو الانحطاط الأخلاقي. وخير مثال على ذلك يُقدمه( أنطوني فلو) مواليد عام 1923)، الفيلسوف الملحد المشهور الذين بدأ الإيمان بالله في الثمانين من عمره.

لكن «وهم الإله» بالتأكيد محق في التعبير عن القلق بشأن التلقين الذي يتلقاه الأطفال من أهاليهم(1). إنّ العقول البريئة يفسدها الكبار الذين يحشون عقول أولادهم بمعتقداتهم الدينية. ويقول دوكينز إنّ العملية البيولوجية للاختيار الطبيعي تحشو أدمغة الأطفال بميل نحو الاعتقاد بكل ما يقول لهم أهاليهم أو كبارهم. وحسب رأيه، هذا يجعلهم عُرضةً لأن يثقوا بكلّ ما يقوله الأهل - كالاعتقاد ببابا نويل مثلاً. ويُعدّ ذلك واحداً من العوامل الأكثر أهمية في الحفاظ على المعتقد الديني في العالم، بينما كان يجب أن يزول منذ زمن بعيد. اخلعوا دائرة انتقال الأفكار الدينية بين الأجيال، وسيؤدّي ذلك إلى فناء هذا الهراء. ويقول إنّ تربية الأطفال على الاعتقاد بمعتقد ديني هو شكل من الاعتداء على الأطفال.

بالطبع، هناك نقطة معقولة في هذا الحديث. لكن بطريقة ما تضيع في صخب الخطاب المختلق وجراء الفشل العام في دراسة انعكاساتها. ولأنّني قرأت المفاهيم الخاطئة عن الدين التي تحمل ميزة الأسى نفسه في «وهم الإله»، أخاف كثيراً أنّ يقوم العلمانيون فقط بإجبار الأطفال السذج على اعتناق معتقداتهم - فكما يُشير دوكينز وهو محق بذلك، هؤلاء الأطفال يفتقرون إلى القدرات التمييزية المطلوبة من أجل تقييم الأفكار. ولا أتمنى أن أكون فظاً، لكنّ هذه المقاربة بأكملها تبدو على نحو غير

ص: 21


1- Dawkins, God Delusion, pp. 325- 37

مريح مثل البرامج المناهضة للدين التي المناهضة للدين التي أدخلت في مناهج تعليم في مناهج تعليم الأطفال السوفييت إبان الخمسينيات، اعتماداً على عبارات مثل «العلم يدحض الدين» «الدين خرافة!» وما إلى ذلك.

فعلاً، ثمة حاجة إلى مجتمع يتأمّل في كيفيّة تعليم أطفاله. لكن لا يمكن أن تلائمهم أي حالة من خلال تغذيتهم بالقوة من معتقدات دوكينز المفضلة وتحريفاته .هم بحاجة إلى أن يعرفوا بعدل ودقة ما الذي تُعلّمه المسيحيّة فعلاً - لا أنّ يكونوا عُرضةً للتحريفات التافهة عن اللاهوت المسيحي التي تغطّي هذا النوع من الدعاية. إنّ كتاب «وهم الإله» من خلال عيوبه وليس جرّاء انجازاته ،يعزّز الحاجة إلى تعليم دينيّ نوعيّ على الساحة العامة لمواجهة الرسوم المتحركة البدائية والصور النمطية الضارّة والتحريفات الصارخة التي تروّج لها الأصولية الإلحادية بعدائية الآن.

السنوات قدّمتُ سلسلة من المحاضرات في جامعة أوكسفورد بعنوان«مقدمة في علم اللاهوت المسيحي». لا أستطيع المساعدة، لكن أشعر بأنّ تلك المحاضرات استغلت نوعاً ما في هذا الكتاب لدوكينز . وكما أشار الناقد الثقافي والأدبي تيري إيغلتون في مراجعته اللاذعة لكتاب «وهم الإله»: «تخيّلوا أنّ أحداً ما يتحدّث بإسهاب عن البيولوجيا ومعرفته في الموضوع تقتصر على كتاب الطيور البريطانية فحسب، والأمر واحد إن كانت لديكم فكرة تقريبية عمّا هو الشعور أثناء قراءة كتابات ريتشارد دوكينز عن اللاهوت»(1).

يقتبس دوكينز وجهات نظر صديقه نيكولاس هامفري ،بموافقة الأخير، فيقترح بأنّه بنبغي عدم السماح للأهل بعد الآن بتعليم أطفالهم «الحقيقة الموضوعية للإنجيل» لدرجة تفوق عدم « السماح لهم بضرب أطفالهم»(2). لو كان كلام هامفري مبنياً على

ص: 22


1- Terry Eagleton, "Lunging, Flailing, Mispunching: A Review of Richard Dawkins' The God Delusion," London Review of Books, October 19, 2006
2- Nicholas Humphrey, cited in Dawkins, God Delusion, p. 326

أسس متينة هنا، لكان انصب غضبه أيضاً على أولئك الذين ينشرون التحريفات عن الدين كما لو أنّها حقيقة أتعجب، هل هو يقول إنّ الأهل الذين يقرأون كتاب «وهم الإله» بصوت عال أمام أطفالهم هم يرتكبون أيضاً اعتداءً بحق أطفالهم؟ أو أنت معتد فقط إذا فرضت معتقدات دينية لا تكون معتقدات وأوهاماً مناهضة للدين ؟

الإيمان غير منطقي

أفترض أن هناك مجموعة متطرفة مجنونة في كلّ لحظة. ونظراً لكوني خضت الكثير من النقاشات العامة حول ما إذا كان الدين يدحض وجود الله، أصبحت أتمتّع بخبرة وافرة حول ما أعتقد أنّه يليق بوصف بعضهم بأنهم غريبون نوعاً ما، وغالباً هم أصحاب الأفكار السامة قطعاً، على ضفتي النقاش كلتيهما بشأن الله والإلحاد. واحدة من المزايا الأكثر تميّزاً في جدل دوكينز المعادي للدين هي عرض الباثولوجية كما لو أنّها طبيعية، والطرف كما لو أنّه المركز، والمجانين كما لو أنّهم التيار الرئيسي. ذاك ينفع بصورة عامة الجمهور المقصود، الذي يمكن أن نفترض أنه يعرف القليل عن الدين ولا يهتم كثيراً على الأغلب به. لكنّ ذلك غير مقبول، وطبعاً ليس مبنياً على أسس علمية.

يُصر دوكينز على أنّ المعتقد المسيحيّ هو « معتقد خاطئ على الدوام يُرفع في وجه الأدلّة المختلفة القوية»(1). لكن المشكلة في كيفية إقناع «أصحاب الإيمان الراسخ »بأنّ الإلحاد محق،عندما يوهمهم الدين بأنّهم حصينون في وجه أي شكل من أشكال الحجّة المنطقية. لذا الإيمان أساساً وبدون أدنى شك هو غير منطقي. وفي دعم حجّته يذكر دوكينز لاهوتيين مسيحيين يعتقد بأنهم سيثبتون هذا الجانب المنحل بصورة أساسيّة من المعتقد الديني. في أولى كتاباته، أكد دوكينز أنّ الكاتب المسيحيّ ترتوليان في القرن الثالث قال بعض

ص: 23


1- Dawkins, God Delusion, p. 5.

الأمور الغبية بصورة خاصة، من بينها «يُعتقد بشتى الوسائل أنّه سخيف». وهذا مرفوض باعتباره هراءً دينياً تقليدياً. «وذاك هو السبيل إلى الجنون»(1).

يسرني أن أقول إنّه توقف عن اقتباس ذلك الآن بعد أن أشرت إلى أنّ ترتوليان لم يقل شيئاً من هذا القبيل. فقد وقع دوكينز في فخ عدم فحص مصادره وكرّر فقط ما قاله الكتاب الملحدون القدامى. لكنّه يبقى مثالاً مُملاً آخر عن التكرار اللامتناهي للحجج التي عفا عليها الزمن وأصبحت من سمات الإلحاد في الأعوام الأخيرة.

لكن ،يبدو أنّ دوكينز وجد الآن مثالاً عن اللاعقلانية في الإيمان -على أي حال هذا

جديد بالنسبة إليه . وفي كتابه «وهم الإله» يستشهد ببعض المقتطفات المختارة ممّا كتبه الكاتب البروتستنتي الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر، فاستقى تلك العبارات من الانترنت وعرض مخاوف لوثر بشأن المنطق في حياة الإيمان (2).ولم يقم بأي محاولة توضيحية لما يعنيه لوثر بكلمة المنطق وكيف تختلف عما استخدمه دوكينز كمعنى بديهي للكلمة(3)

ما كان يُشير إليه لوثر حقاً هو أنّ المنطق البشري لا يمكن أبداً أن يأخذ موضوعاً أساسياً من المعتقد المسيحي - أنّ الله يجب أن يمنح الجنس البشري الهدية الرائعة للخلاص دون أن يطلب أن يُقدِّموا شيئاً في المقابل أولاً. متروكةً وحدها، تستنتج الفطرة البشريّة أنّك بحاجة إلى أن تفعل أمراً من أجل الحصول على رعاية الله- فكرة اعتبرها لوثر مساساً ببشارة الحفاوة الإلهيّة، جاعلاً الخلاص شيئاً تكتسبه أو تستحقه.

ص: 24


1- Richard Dawkins, A Devil's Chaplain: Reflections on Hope, Lies, Science, and Love (Boston: Houghton Mifflin, 2003), p. 139.
2- Dawkins, God Delusion, p. 190. The Web source provided is a list of citations, all in English translation, without the original German or Latin, any indication of their sources and making no attempt at scholarly engagement.
3- For a more careful account see Alister E. McGrath, Luther's Theology of the Cross: Martin Luther's Theological Breakthrough (Oxford: Blackwell, 1985).

إن تعاطي دوكينز غير الكفء مع لوثر يُظهر كيف يتخلى دوكينز حتّى عن ذريعة المعرفة المبنيّة على أدلّة دقيقة. فيُستبدل بالدليل طرفه؛ شبكة الانترنت المنتقاة تحلّ مكان التعاطي الدقيق والشامل مع المصادر الأساسية. في هذا الكتاب، دوكينز يرمي أعراف المعرفة الأكاديمية في مهب الريح؛ هو يريد كتابة عمل من الداعية وبالنتيجة التعامل مع التسليم الدقيق للدين كما لو أنه عائق غير مريح لجدول أعماله الأساسي، ألا وهو الدمار الفكري والثقافي للدين. وهي سمة كريهة يتشاركها هو وآخرون غيره من المتعصبين.

حجج وجود الله؟

يورد دوكينز أن وجود الله أو عدم وجوده عبارة عن فرضية عملية معروضة على التبيان المنطقي. في كتابه «صانع الساعات الأعمى» عرض انتقاداً ثابتاً وفعّالاً للحجج التي قدّمها الكاتب ويليام بيلي في القرن التاسع عشر حول وجود الله على أسس بيولوجية وهي الأرضيّة الأساس لدوكينز، وهو يعرف عماذا يتكلم. ويبقى هذا الكتاب هو الانتقاد المطبوع الأحسن لهذه الحجة(1).

الانتقاد الوحيد الذي يمكن أن أوجهه لهذه السمة من كتاب «صانع الساعات الأعمى» هو أنّ أفكار بيلي كانت مثالية في زمانه وليس للمسيحية كلّها، وأن كثيراً من الكتاب المسيحيين في عصره شعروا بالقلق بسبب وجهة نظره، فاعتبروها وصفة مؤكّدة النجاح لانتصار الإلحاد لا شكّ عندي في أنّ بيلي اعتبر بطريقة ما أنّه «يُبرهن» وجود الله، لكنّ انتقاد دوكينز الموسّع لبيلي في ذاك الكتاب منصف ولطيف ودقيق.

في كتابه «وهم الإله» يُحوّل دوكينز انتباهه إلى «حجج» أخرى مماثلة بالاستناد إلى فلسفة الدين. لست متيقناً تماماً أنّ الحكمة وراء ذلك. إذ يتضح أنّه بعيد عن

ص: 25


1- Richard Dawkins, The Blind Watchmaker: Why the Evidence oj Evolution Reveals a Universe Without Design (New York: W W. Norton, 1986).

التعمّق الذي يتميّز به ولم يُحقِّق سوى القليل من خلال حجته الموجزة والسطحية مع تلك النقاشات الخالدة، التي لا يمكن من الناحية التجريبية حلّها ببساطة(1). أنّ مواقفه تلخّص «هنا كيف يمكن لعالم ویبدو أن يشرح هذا الهراء الفلسفي».

على سبيل المثال، يتطرّق دوكينز لمقاربات توماس الأكويني في القرن الثالث عشر، التي عُرفت تقليدياً باسم «الدلائل الخمس»(2) الإجماع العام يقول إنّه فيما حجج كهذه تلقي ضوءاً لافتاً للانتباه على الأسئلة، فإنّها لا تحقق شيئاً. وبرغم أنّه يُشار إليها تقليدياً على أنّها «حجج تدلّ على وجود الله»، يبقى ذلك وصفاً غير دقيق. فجُلّ ما تقوم به هو إظهار التوجّه الداخلي للاعتقاد بالله - في الأغلب بالطريقة نفسها التي اعتمدتها الحجج الكلاسيكية الدالة على الإلحاد (كنظرية لودفيغ فيورباخ الشهيرة حول الإسقاط) في إظهار ثباتها الداخلي، لا أسسها الدلالية.

إن خطّ التوجّه الأساسي في فكر توماس يقول إنّ العالم يعكس أنّ الخالق هو الله. وهي فرضيّة منبثقة من الإيمان، الذي يقول عنه توماس إنّ صداه يتردّد مع ما نراه في العالم. على سبيل المثال، علامات ترتيبه يمكن شرحها على أساس وجود الله .كخالقه ولا تزال هذه المقاربة تواجه على نطاق واسع في الكتابات المسيحيّة التي تقول إنّ الإيمان الموجود في الله يُقدّم «تطابقاً تجريبياً» مع العالم أكثر من بدائله. ومع استخدام دوكينز المقاربة نفسها للثناء على الإلحاد في مواضع أخرى، لا أرى فعلاً ما الذي يدفعه هنا إلى الاحتجاج بشأنها.

ولا في أي جانب يتحدّث توماس عن هذه الأمور ك_ «براهين» عن وجود الله؛ بل تُعتبر تجلياً للتماسك الداخلي بالاعتقاد في وجود الله. وتوماس مهتم في كشف أغوار

ص: 26


1- See the points made by David O'Connor, “On Failing to Resolve Theism - Versus- Atheism Empirically," Religious Studies 26 (1990): 91- 103
2- Dawkins, God Delusion, pp. 77 - 79

الانعكاسات العقلانية للإيمان لناحية تجربتنا مع الجمال والسببية وغير ذلك. فالإيمان بالله هو حقاً أمر مفترض. ثمّ بعد ذلك يعرض أنّ هذا الاعتقاد يُظلّل بالمنطق ما يمكن ملاحظته في العالم. ويمكن لإظهار التصميم أنّ يُقدِّم إقناعا، وليس برهاناً، حول ما يتعلّق بدور الخلق الإلهي في الكون. لكنّ دوكينز يُسيء فهم التبيان الاستدلالي لترابط الإيمان والملاحظة فيعتبره برهاناً بديهياً للإيمان - وهو خطأ له تبريره تماماً بالنسبة لأولئك المبتدئين في هذا المجال، لكن برغم ذلك يُعد خطأ جسيماً.

حين يعتبر دوكينز الإيمان هراء فكرياً، يعي معظمنا أنّنا نؤمن بكثير من المعتقدات التي لا يمكننا برهان صحتها لكنّها برغم ذلك معقولة تماماً للترفيه. فلنغص بذلك للحظة : معتقداتنا قد تبدو أنّها مُبرّرة، لكن دون تبيان أنّها مُبرهنة. وهذه ليست نقطة صعبة أو غامضة فلطالما قال فلاسفة العلم إنّ كثيراً من النظريات العلمية التي يُعتقد بصحتها في الوقت الحاضر قد تُضرب عرض الحائط في المستقبل مع ظهور أدلّة إضافية أو تفسيرات نظرية جديدة. على سبيل المثال، لا صعوبة في الاعتقاد بأنّ نظرية دوكينز بشأن التطوّر هي في الوقت الحاضر التفسير الأفضل للدليل المتوافر، لكن ذلك لا يعني أنّها صحيحة.

انعدام احتمال وجود الله

يُخصِّص دوكينز فصلاً كاملاً لحجة - أو بصورة أدقّ ، سلسلة من التأكيدات المجمعة على نحو فضفاض - التأثير العام بأنّ «الاحتمال الأكبر عدم وجود الله». وهذا اللحن غير المترابط بنيته ضعيفة، ما يجعل من الصعب متابعة حجته الأساسية التي تبدو توسعاً لسؤال «إذن، من خلق الله ؟ لأن أيّ إله قادر على تصميم أي شيء يتعين أنّ يكون على مستوى أعلى من التعقيد ويتطلّب بدوره تفسيراً وفكرة الإله تتطلّب تراجعاً زمنياً لا مفرّ منه ولا يمكننا تفسيره».

ص: 27

يسخر دوكينز من اللاهوتيين خصوصاً الذين يسمحون« للاسراف المريب باستحضار اعتباطي لطرف التراجع اللانهائي». فأي شيء يُفسّر أمراً ما هو بنفسه يحتاج إلى تفسير - وذاك التفسير بدوره بحاجة إلى تفسير وهكذا دواليك. وما من سبيل مُبرّر لإنهاء هذا التراجع اللانهائي من التفسيرات فما يُفسّر التفسير ؟ أو لتغيير الاستعارة قليلاً من صمّم المصمّم؟

لكن تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الغاية الأسمى من العلوم الطبيعية هي السعي من أجل النظرية الموحدة العظمى» - «نظرية كلّ شيء». فلم نظرية كهذه تُعدّ بتلك الأهمية؟ لأنّها تفسّر كلّ شيء، دون الحاجة إلى أن يكون مطلوباً تفسيرها بذاتها. وينتهي المسار التوضيحيها هنا فتنتفي الحاجة إلى التراجع اللانهائي بغية التفسير. فإذا كانت حجج دوكينز الصاخبة والتبسيطية لها وزن، فهذا السعي العلمي العظيم يمكن دحضه بسؤال ظاهره تافه لكنّ باطنه عميق وهو : ما الذي يُفسّر المفسّر؟

الآن، قد لا يكون هناك نظرية نهائية كهذه. و« نظرية كلّ شيء» قد تغدو «نظرية اللا شيء». لكن لا سبب يدعو إلى افتراض هذا السعي إخفاقاً منذ البداية، ببساطة لأنّه يمثل انتهاء العملية التفسيرية. إلا أنّ سعياً مماثلاً من أجل تفسير يتعذر رفضه يقع في قلب السعي العلميّ. وليس في ذلك تناقض منطقي أو عيب مفهومي أو تناقض ذاتي.

ثمّ يذكر دوكينز حجّة فيها القليل من المنطق إما في بيان مقتضب ومتسرع في كتاب «وهم الإله» وإما في نسخات أكثر توسعاً ذكرها في مواضع أخرى. ومن خلال تناوله الناقص والباعث على السخرية ب_ «المبدأ الأنثروبي» يُشير دوكينز إلى اللااحتمالية الكبيرة لوجودنا فيقول إنّ الإيمان بالله يمثل إيماناً بكيان لا بد أن يكون وجوده أكثر تعقيداً ولذا هو بعيد الاحتمال أكثر. لكنّ هذا القفز من الاعتراف بالتعقيد إلى تأكيد اللااحتمالية هو إشكالي للغاية. فلم هو شيء غير محتمل معقد؟

ص: 28

قد تكون «نظريّة كلّ شيء» أكثر تعقيداً من النظريات الأدنى التي تفسّرها - لكن ما

علاقة ذلك بعدم احتمالها ؟

إنّما لنقف ها هنا لحظة. إنّ الحقيقة التي لا مفرّ منها وبعيدة الاحتمال بشأن العالم هي أننا موجودون فعلاً هنا وكبشر نعكس هذه الحقيقة. والآن من المستحيل عملياً تحديد مدى عدم احتمال وجود البشرية دوكينز نفسه واضح، ولا سيما في كتاب «الصعود إلى جبل اللااحتمال أنّ ذلك من غير المحتمل أبداً. إلا أننا موجودون. الحقيقة الجلية بأننا متحيّرون بشأن كيفيّة كوننا هنا هي مستقلة عن حقيقة أننا هنا وبذلك قادرون على التأمل في احتمال هذا الواقع ربما نحتاج إلى أن نقدّ أنّ ثمة كثيراً من الأشياء التي تبدو غير محتملة - لكن اللااحتمالية ليست لديها، ولن يكون لديها أبداً، عدم وجود إلزامي. فقد نكون بعيدي -الاحتمال إلا أننا هنا والقضية عندها لا تكون إذا كان وجود الله احتمالاً بل إذا كان وجوده حقيقياً.

إله الفراغات

في كتابه «وهم الإله»، ينتقد دوكينز «عبادة الفراغات». وهي إشارة إلى مقاربة الدفاع عن العلوم المسيحيّة التي اشتهرت إبّان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تُسمّى مقاربة إله الفراغات(1) .في أبسط صورة لها، هي أكّدت أنّه حتمًا ثُمة «فراغات» في الفهم الطبيعي أو العلمي للواقع. وفي نقاط معينة، تستخدم نظرية اللاهوت الطبيعيّ الشهيرة لويليام بيلي (1801) حججاً على هذا المنوال. فقيل إنّ الله بحاجة إلى أن يكون موضع اقتراح كي يجري التعامل مع هذه الفراغات في الفهم العلمي.

كانت فكرة غبية وقد جرى التخلّي عنها إلى حدّ كبير في القرن العشرين. بروفسور أوكسفورد الأول في الكيمياء النظرية ،الميثوديست المشهور تشارلز آي. كولسون،

ص: 29


1- Dawkins, God Delusion, pp. 125- 34. Dawkins here focuses on the intelligent design movement

استبدل بها عبارة «إله الفراغات». فاستخدم اعتباراً شاملاً للواقع، وشدّد فيه على القدرة التعليلية للمعتقد المسيحي كله بدلاً من معالجة فراغات متناقضة على الإطلا(1)ق. برغم مبالغته من الواضح أنّ انتقاد دوكينز لأولئك الذين« يعبدون الفراغات »مناسب وصالح لذا لا بد أن نوجه له الشكر لمساعدتنا في التخلّص من هذه الانعطافة الخاطئة التي عفا عليها الزمن في تاريخ الدفاع عن المسيحية .وهو مثال حي على كيفيّة أنّ يؤدّي أيّ حوار بين العلوم واللاهوت المسيحي إلى بعض النتائج المفيدة.

لسوء الحظ، بعد إحرازه تقدّماً كهذا ، يُضعف دوكينز حجّته من خلال الإيحاء بأنّ جميع الأناس المتدينين يحاولون منع العلماء من الكشف عن هذه الفراغات: «من بين الآثار السيّئة للدين أنّه يُعلّمنا أنّ الاقتناع دون الفهم يُعدّ فضيلة»(2). وفي حين أنّ ذلك قد يكون صحيحاً في ما يخصّ بعض الأشكال الأكثر غرابة للاهوت المسيحي، قطعاً فإنّه في معظمه لا يُعدّ ميزة في مقارباته. فالتعميم التام هو ما يُدمّر أي نقاش مثير للاهتمام.

بعد كلّ شيء ما من خطأ في الاعتراف بحدودنا لناحية الفهم، ويعود ذلك في جزء منه إلى حدود العلم نفسه ،وفي جزء آخر للقدرة البشرية المحدودة على الفهم. وكما يُشير دوكينز بنفسه إلى هذا الأمر في مقام آخر: «يُعلّمنا علماء الفيزياء المعاصرون أنّ الحقيقة تفوق ما تراه العين؛ أو ما يستوعبه العقل البشري المحدود للغاية، عقل تطوّر كما لو أنّ ذلك من أجل التعامل مع الأشياء متوسطة الحجم التي تتحرك بسرعات متوسّطة عبر مساحات متوسطة في أفريقيا»(3).

ص: 30


1- See the account in David J. Hawkin and Eileen Hawkin, The Word oj Science: The Religious and Social Thought ofC. A. Coulson (London: Epworth, 1989).
2- Dawkins, Cod Delusion, p. 126.
3- Dawkins, Devil's Chaplain, p. 19.

ليس مستغرباً أنّ هذا العقل البشري «المحدود للغاية» يجب أن يواجه صعوبات حادّة أثناء التعامل مع أي شيء بعيد عن عالم التجربة اليومية. وفكرة «الغموض»تظهر باستمرار كصراع العقل البشري من أجل فهم بعض الأفكار. وهذا بالتأكيد صحيح لناحية العلم؛ وصحيح أيضاً في ما يخصّ الدين.

لكنّ المشكلة الحقيقية هي قيام المدافعين عن المسيحيّة غير المشكوك بهم وأصحاب النوايا الحسنة بالترحيل القسري لله إلى الخبايا الخفية في الكون بعيداً عن التقييم أو التحقيق. وهو الآن قلق حقيقي، لأنّ تلك الاستراتيجية لا تزال مُستخدمة من قبل حركة تصميم ذكية - حركة تتركز بالأساس في شمالي أفريقيا وتدافع عن فكرة «مُصمّم ذكيّ» استناداً إلى فجوات في التبرير العلمي، مثل «التعقيد غير القابل للاختزال» للعالم هي مقاربة أنا لا أقبلها، سواء على أسس علمية أو لاهوتية من وجهة نظري أولئك الذين يتبنون هذه المقاربة يجعلون المسيحية، وبدون أدنى حاجة، هشّة أمام التقدّم العلمي.

لكنّ مقاربة «إله الفراغات» هي واحدة من مقاربات مسيحية كثيرة تناولت كيفية أن تكون فرضيّة الله منطقية .من وجهة نظري، هي كانت مضلّلة؛ كانت إستراتيجيّة تبريرية فاشلة منذ فترة مبكرة في التاريخ وقد عفا عليها الزمن الآن. هذه النقطة تبنّاها فلاسفة دين وعلماء لاهوت مسيحيّون إبّان القرن العشرين وهم الآن عادوا إلى الأساليب الأقدم الأكثر ملاءمة للتعامل مع هذه المسألة. على سبيل المثال، ريتشارد سوينبورن، الفيلسوف من أوكسفورد، هو واحد من كتاب كثيرين يقولون إنّ قدرة العلم على تبرير نفسه تتطلّب تبريراً - وأنّ الاعتبار الأكثر اقتصادياً وموثوقيةً لهذه القدرة التبريرية يكمن في فكرة وجود إله خالق(1).

وتجزم حجّة سوينبورن بأنّ وضوح الكون نفسه بحاجة إلى تبرير. لذا ليست

ص: 31


1- Richard Swinburne, Is There a God? (Oxford: Oxford University Press, 1996).

الفراغات في فهمنا هي التي تدلّ على وجود الله بل إنّ الفهم الصحيح للأشكال العملية من الفهم وغيرها من الأشكال ما يتطلب تفسيراً. باختصار، الحجة تقول إنّ قابلية التفسير نفسها تتطلب تفسيراً. كلما تحقق المزيد من التطور العلمي، تطوّر فهمنا للكون ولذا أصبح هناك حاجة أكثر إلى هذا النجاح. هي مقاربة تُثني على التحقيق العلمي وتشجّعه ولا تسعى إلى الثناء عنه.

لكن ماذا بشأن علاقة العلم بالدين على صعيد أكثر عمومية؟ إن لدى دوكينز الكثير ليقوله في هذا المضمار ولا بدّ أنّ نكمل طريقنا لدرس ما يقوله.

ص: 32

الفصل الثاني

هل دحض العلم

فكرة وجود الله؟

ص: 33

الفصل الثاني: هل دَحَض العلم فكرة وجود الله؟

اشارة

إن ركيزة برنامج كتاب «وهم الإله» هي اعتقاد سائد بأنّ العلم دحض فكرة وجود الله .وأولئك الذين لا يزالون يؤمنون بالله هم ببساطة رجعيون جهلة ويؤمنون بالخرافات،ويُنكرون تماماً التقدم المكلل بالنصر للعلوم، التي حذفت وجود الله حتّى من الفجوات الأكثر بساطة في فهمنا للكون والإلحاد هو الخيار الوحيد أمام الإنسان الجدّي والتقدمي وصاحب التفكير السديد.

لكنّها ليست بتلك البساطة - وما من عالم في العلوم الطبيعية حصل بيني وبينه حديث بشأن هذه القضية إلا ويعرف ذلك. وقد أشرنا إلى رفض ستيفن جاي غولد لأيّ معادلة صارخة للامتياز العلمي مع إيمان إلحادي فكما لاحظ غولد في كتاب «Rock of Ages» المستند إلى وجهات نظر دينية لعلماء رياديين في علم الأحياء التطوري: «إما أنَّ نصف زملائي بأنّهم أغبياء للغاية، وإمّا أنّ علم الداروينية يتوافق تماماً مع المعتقدات الدينية التقليدية وبذلك يتوافق بالتوزاي مع الإلحاد». وكما أشرت في كتاب «إله دوكينز»، وجهة نظره منصفة ومقبولة على نطاق واسع : يمكن تفسير الطبيعة بأسلوب توحيدي أو إلحادي - لكنّها لا تتطلب أي من الاثنين. فكلاهما ينبثقان من احتمالات فكرية حقيقية للعلوم .

حقيقة أن يصدر تصريح كهذا على لسان عالم ريادي في علم الأحياء التطوري فإنّ ذلك يُثير حفيظة دوكينز . فكيف يمكن له أن يُصرّح بشيء كهذا يرفض دوكينز أفكار

ص: 34

غولد دون أن يوليها اهتماماً جدياً. فقال: «أنا ببساطة لا أعتقد بأنّ غولد يعني ما كتبه في كتابه «Rock of Ages »(1). هذا التصريح العقائدي هو بديل دوكينز للردّ. لكنّه ببساطة لا ينفع، لأنّ غولد فصل بسلاسة وجهة النظرة المتبعة على نطاق واسع والقائلة إن للعلم حدوداً وجهة النظر نفسها ،التي تغيط دوكينز أكثر، موجودة في کتاب مارتن ريس المثير للإعجاب بعنوان« Cosmic Habitat» الذي يُشير إلى أن بعض الأسئلة النهائية تقع وراء العلم»(2). وبما أنّ ريس هو رئيس المجتمع الملكي، الذي يجمع العلماء الرياديين في بريطانيا، فإنّ تعليقاته تستحق اهتماماً بالغاً.

القضية الأساس التي تواجه العلوم هي كيفيّة فهم واقع معقد للغاية ومتعدّد الأوجه ومتعدد الطبقات. هذه المسألة الأساسية في المعرفة البشرية يناقشها كثيراً فلاسفة العلم ويتجاهلها في أغلب الأحيان أولئك الذين يريدون لأسبابهم الخاصة إظهار العلم أنّه السبيل المتوفّر الوحيد للمعرفة الحقيقية. أولاً، هي تسحب البساط من تحت أولئك الذين يريدن التحدث بتبسيط حول «برهان» علميّ أو دحض الأشياء كهذه باعتبارها دالّة على معنى الحياة أو وجود الله. إنّ العلوم الطبيعية تعتمد على استدلال استقرائي، وهو عبارة عن« وزن الأدلة والحكم على الاحتمالات لا الإثبات»(3) . والتفسيرات المتنافسة واضحة على جميع مستويات السعي البشري التمثيل العالم، بدءاً من تفاصيل ميكانيكا الكم إلى ما سماه كارل بوبر ب_«الأسئلة النهائية » للمعنى.

هذا يعني أنّ الأسئلة المصيريّة عن الحياة( بعضها أيضاً أسئلة علمية) لا يمكن

ص: 35


1- Stephen Jay Gould, “Impeaching a Self-Appointed Judge,” Scientific American 267', no. 1 (1992). For a more extended discussion of the issues, see Stephen Jay Gould, Rocks of Ages: Science and Religion in the Fullness of Life (New York: Ballantine, 2002).
2- Richard Dawkins, The God Delusion (Boston: Houghton Mifflin, 2006), p. 57.
3- For Dawkins's response, which hardly addresses the issue, see ibid., p. 56.

الإجابة عنها بأي درجة من التأكيد. فيمكن تفسير أي مجموعة من الملاحظات بعدد من النظريات. ومن أجل استخدام اللغة الاصطلاحية لفلسفة العلوم النظريات ينقصها الإثبات نتيجة الدليل المتوافر. عندها يُطرح السؤال التالي: أيُّ معايير تُستخدم للفصل في ما بينها، خصوصاً حين تكون« متوازنة بالتساوي» ؟ البساطة ؟ الجمال؟ فيحتدم النقاش بدون الوصول إلى حلّ. ونتيجته متوقّعة تماماً: الأسئلة المصيرية تبقى دون إجابة. يمكن أن لا يكون هناك سؤال عن دليل علمي للأسئلة المصيرية. فإما لا نستطيع الإجابة عليها وإما لا بدّ أنّ نجيب عنها بناءً على أسس بعيدة عن العلوم.

حدود العلوم؟

العلم هو الأداة الموثوقة الوحيدة التي نمتلكها لفهم العالم وهو لا حدود له. قد لا نعرف أمراً ما الآن لكن سنعرفه في المستقبل. هي مسألة وقت فقط. وجهة النظر هذه، الموجودة في سائر كتابات دوكينز، عليها تركيز زائد في كتاب «وهم الإله» حيث يُدافع بقوة فيه عن النطاق العالمي والكياسة النظرية للعلوم الطبيعية. بأي حال من الأحوال، هي فكرة خاصة بدوكينز، حيث يقوم هنا بعكس مقاربة اختزالية لواقع كان عند الكتاب الأوائل أمثال فرانسيز كلارك (1) ثمّ توسيع تلك المقاربة. المسألة بسيطة: ليس هناك فراغات ليختبئ بها الله وسيشرح العلم كلّ شيء - بما في ذلك السبب وراء اعتقاد بعضهم في فكرة سخيفة مثل وجود الله. لكن هي مقاربة لا يمكن ببساطة أن تستمر إمّا كممثل عن المجتمع العلميّ وإمّا كموقف سليم بديهي، بصرف النظر عن عما يصنعه ذاك المجتمع بها.

من أجل تفادي سوء الفهم، فلتكن واضحين بأنّ الإيحاء بوجود حدود للعلوم

ص: 36


1- For a particularly bold statement of this approach, see Peter Atkins, “The Limitless Power of Science," in Nature's Imagination: The Frontiers of Scientific Vision, ed. John Cornwell (Oxford: Oxford University Press, 1995), pp. 122- 32.

هو بأي حال من الأحوال انتقاد أو افتراء على الأسلوب العلمي. آسف لأن أقول إنّ دوكينز لديه ميل لتصوير كلّ من يطرح أسئلة حول مجال العلوم أنّه غبي يكره .العلم. لكن ثمة سؤال حقيقي هنا. كلّ أداة فكرية نمتلكها بحاجة إلى الفحص- بمعنى آخر هي يجب أن تُفحص لتحديد الشروط التي أصبحت موثوقة بموجبها. والسؤال حول ما إذا كانت العلوم لها حدود هو بالتأكيد سؤال ليس سليماً، ولا أي جواب إيجابي عن السؤال بأي شكل من الأشكال يُمثل مروراً إلى نوع من الخرافة. هو ببساطة طلب شرعيّ لفحص الدقة الفكرية.

ولكشف أغوار هذه المسألة، لنأخذ كلاماً لدوكينز في كتابه الأول، «الجين الأناني».

(الجينات) تتجمّع في مستعمرات ضخمة وتعيش آمنة داخل آلات عملاقة متثاقلة، متخفيةً عن العالم الخارجي ومتواصلةً معه عبر طرق متعرّج غير مباشر ويحاكيه عن بعد. هي داخلك وداخلي؛ إنها تكوّننا جسداً وعقلاً؛ والحفاظ عليها هو المنطق الأساسيّ لوجودنا(1).

نجد هنا تفسيراً قوياً ومؤثراً لمفهوم علميّ أساسي. لكن هل هذه الكلمات التفسيرية بقوّة هي

حقاً علميّة؟

ومن أجل تقييم المسألة فلنتمعن في الكلمات التالية لهذا المقطع الذي أورده الفيزيولوجي المشهور في أوكسفورد وعالم الأحياء دنيس نوبل. ما أُثبت أنّه حقيقة تجريبية جرى الاحتفاظ به وما هو تفسيري تغيّر، عارضاً قراءة للأمور مختلفة هذه المرة بعض الشيء.

(الجينات) عالقة في مستعمرات ضخمة محبوسة داخل كائنات ذكية للغاية، مقولبة بعالم خارجي تتواصل معه بعملية معقدة، من خلالها تنبثق وظيفة بصورة

ص: 37


1- Richard Dawkins, The Selfish Gene (Oxford: Oxford University Press, 1976), p. 21.

عمياء كما لو أنّ في الأمر سحراً. هي في داخلك وداخلي؛ والحفاظ عليها يعتمد كلّه على السعادة التي نعيشها في إعادة إنتاجها. فنحن المنطق الأساسي لوجودها(1).

إنّ دوكينز ونوبل يريان الأمور بصورة مغايرة كليّاً (أوصي بقراءة كلا المقطعين برويّة وعناية لمعرفة الاختلاف). ببساطة لا يمكن للاثنين معاً أن يكونا صحيحين. فكلاهما يخوضان في سلسلة من الأحكام القيّمة والتصريحات التجريدية المختلفة تماماً. لكن كلامهما متكافئ من الناحية التجريبية». بمعنى آخر، كلاهما لديه الأرضية الجيدة المتكافئة من حيث الملاحظة والدليل التجريبي. إذا أيُّهما هو الصحيح ؟ ومَنْ بينهما علميّ أكثر ؟ وكيف نحدّد الأفضل بينهما بناءً على أرضيّة علميّة ؟ كما يُشير نوبل ويوافقه دوكينز في ذلك - «لا يبدو أنّ أحداً قادر على التفكير بتجربة تكشف اختلافاً تجريبياً بينهما»(2).

في انتقاد راقٍ أخير للتجويف الفلسفي في معظم الكتابات العلمية المعاصرة، ولا سيما في علم الأعصاب يوجّه ماكس بنت وبيتر هاكر انتقاداً خاصاً لوجهة النظر الساذجة القائلة «إنّ العلم يشرح كلّ شيء»، وجهة نظر يبدو أنّ دويكنز لا يزال مُصمّماً على الدفاع عنها(3) . لا يمكن القول إنّ النظريات العلميّة تشرح العالم هي تشرح الظاهرة التي تُلاحظ داخل العالم. إضافة إلى ذلك، هما يقولان إنّ النظريات العلمية لا تصف «كلّ شيء حول العالم» وليست غايتها شرح ذلك، كهدفه مثلاً. ويمكن الاستشهاد بالقانون والاقتصادات وعلم الاجتماع كأمثلة لاختصاصات تتعامل مع ظواهر في مجالٍ مُعيّن دون الحاجة بأي حال من الأحوال إلى اعتبار نفسها

ص: 38


1- Denis Noble, The Music of Life: Biology Beyond the Genome (Oxford: Oxford niversity Press, 2006), pp. 11- 15.
2- Ibid., p. 13; see also Richard Dawkins, The Extended Phenotype: The Gene as the Unit of Selection (New York: Oxford University Press, 1982), p. 1.
3- [3]- M. R. Bennett and R M. S. Hacker, Philosophical Foundations of Neuroscience Maiden, Mass.: Blackwell, 2003), pp. 372 - 76.

بطريقة من الطرائق أدنى أو معتمدة على العلوم الطبيعية.

لكن ما هو أكثر أهميّة ثمة مسائل كثيرة لا بدّ من الاعتراف بأنّها نظراً لطبيعتها المحدّدة تتخطى النطاق الشرعي للأسلوب العلمي، كما هو مفهوم في العادة. على سبيل المثال، هل هناك غاية داخل الطبيعة؟ يعتبر دوكينز أنّ ذلك سؤالاً غير منطقي وزائف. لكنّه سؤال غير شرعي نادراً ما يسأله البشر أو يأملون بالحصول على إجابة .عليه. ويُشير بنت وهاكر إلى أنّ العلوم الطبيعية ليست بوارد التعليق على ذلك إذا كانت طرقها مُطبّقة بصورة شرعية(1). والسؤال ليس مرفوضاً باعتباره غير شرعيّ أو منطقي. بل يُشار إليه ببساطة على أنّه يتخطّى نطاق الأسلوب العلميّ. فإن كان له جواب، لا بد أن يستند جوابه إلى أسس أخرى.

هذه النقطة تردّدت مراراً وتكراراً على لسان بيتر مداور، الخبير في علم المناعة من أوكسفورد والحائز جائزة نوبل للطب نتيجة اكتشافه التحمّل المناعي المكتسب. وفي منشورة هامة له بعنوان «حدود العلم»، كشف مداور عن كيفية محدودية العلم بطبيعة الواقع. مؤكداً أنّ «العلم بلا مقارنة هو المشروع الأكثر نجاحاً الذي توصل إليه البشر»، هو يُميّز بين ما يُطلق عليها الأسئلة «المتعالية » التي يُفضل تركها للدين والميتافيزياء والأسئلة حول التنظيم وبنية العالم المادي بخصوص الأخيرة، يقول مداور إنّه ليس ثمة حدود لاحتمالات الإنجاز العلمي. وبذلك هو يتّفق مع دوكينز - لكن من خلال تحديد المجال وحده ضمن ما تمتلكه العلوم من جدارة كهذه وحسب.

لكن ماذا حيال الأسئلة الأخرى ؟ ماذا بشأن السؤال عن وجود الله؟ أو حول ما إذا كان ثمة هدف داخل الكون؟ كما لو أنه استباق لاعتماد دوكينز المبسط والصارخ على العلوم، يقترح مداور أنّه يجب على العلماء الحذر بشأن تصريحاتهم حول تلك

ص: 39


1- Ibid., p. 374: "It is wrong-headed to suppose that the only forms of explanation are scientific." The entire section dealing with reductionism (pp. 355-77) merits close study.

المسائل وإلا فسيخسرون ثقة العامة جرّاء مبالغات مبنيّة على الثقة العمياء والتحجّر الفكري. لكن كعقلاني يعترف بالذات، فإنّ مداور واضح بشأن هذه المسألة:

يعود اعتقاد وجود حدود للعلم على أكبر تقدير إلى أنّ ثمة أسئلة لا يستطيع العلم الإجابة عنها، وأنّ أيّ تصوّر لتقدّم العلم لن يسمح له بإيجاد الجواب...... أذكر بعضاً من تلك الأسئلة:

كيف بدأ كلّ شيء؟

ما الهدف من وجودنا جميعاً هنا؟

ما الغاية من العيش؟

الفلسفة الوضعيّة العقائدية - عفا عليها الزمن الآن- رفضت جميع الأسئلة المماثلة باعتبارها أسئلةً غير منطقية أو زائفة على اعتبار أنّ البسطاء وحدهم يسألون والدجّالون وحدهم يدّعون القدرة على الإجابة(1).

ربما يكون كتاب «وهم الإله» قد أخذ مداور على حين غرّة، بسبب إحيائه المتأخّر بدقة أنّ

«الفلسفة الوضعية العقائدية» التي آمن بها قد ولّت، ولكن لحسن الحظ على ما يبدو بشكل سابق لأوانه.

السلطة التعليميّة غير المتداخلة والسلطة التعليمية المتداخلة جزئياً

نقاشنا المختصر عن حدود العلم يقترح أنّ العلوم الطبيعية والفلسفة والدين والأدب، كلّها علوم لها مكانها المنطقي في السعي البشري إلى الحقيقة والمغزى. وهذه وجهة نظر واسعة الانتشار، سواء في الثقافة الغربيّة بشكل عام حتى عند فئات كثيرة من المجتمع العلمي نفسه. لكنّها ليست مغروسة عالمياً في ذاك المجتمع. فمصطلح

ص: 40


1- Peter B. Medawar, The Limits ojScience (Oxford: Oxford University Press, 1985), p. 66.

«العلموية» القبيح إلى حدّ ما يخرج الآن ليُشير إلى علماء الطبيعة الذين يرفضون الاعتراف بأي حدود للعلوم -ومن بينهم دوكينز(1). ويجري التطرّق إلى هذه القضايا في عدة نقاط داخل كتاب «وهم الإله»، خصوصاً في انتقاد دوكينز لفكرة ستيفن جاي غولد حول السلطة التعليميّة غير المتداخلة للعلم والدين.

وجهة نظر غولد،« السلطة التعليميّة للعلم» تتعامل مع «المجال التجريبي»، بينما «السلطة التعليمية للدين» تتعامل مع« مسائل المعنى النهائي»(مصطلح السلطة التعليمية معناه« مجال السلطة »أو «نطاق الاختصاص»). ويعتبر غولد أنّ هاتين السلطتين لا تتداخلان. لكنّني أعتقد أنّه مُخطئ. ودوكينز أيضاً يعتقد أنه مخطئ، لكن لأسباب مختلفة. بنظر دوكينز ثمة سلطة تعليميّة واحدة فحسب: الواقع التجريبي. وهو الواقع الوحيد الموجود . وفكرة السماح لعلم اللاهوت بالتحدّث عن أي شيء هي هي فكرة شائنة. «لِمَ العلماء لا يحترمون طموحات اللاهوتيين، بناءً على الاعتقاد بأنّ اللاهوتيين بالتأكيد ليسوا أكثر كفاءة من العلماء أنفسهم في تقديم الإجابة؟(2)» هو جزء مثير للاهتمام من الخطاب، لكنّه لا يبدأ حتّى بالتطرّق للقضايا التي أثارها غولد على نحو صحيح بل التي أجاب عنها خطأ.

لذلك بالطبع هناك خيار ثالث- هو أنّ «السلطة التعليمية المتداخلة جزئياً» تعكس إدراكاً بأنّ العلم والدين يُقدِّمان احتمالات التلاقح على حساب تداخل مواضيعهما وأساليبهما. وأفضل من يُشير إلى وجهة النظر هذه فرانسيز كولنز، عالم البيولوجيا

ص: 41


1- See, for example, the illuminating discussion in Luke Davidson, “Fragilities of cientism: Richard Dawkins and the Paranoid Idealization of Science,” Science as Culture 9 (2000): 167- 99. The best discussion to date of this phenomenon is Mikael Stenmark, Scientism: Science, Ethics and Religion (Williston, Vt.: Ashgate, 2001). Dawkins and E. O. Wilson are here treated as the leading representatives of the movement. Dawkins considers himself not to be "narrowly scientistic" (Dawkins, God Delusion, p. 155).
2- Dawkins, God Delusion, p. 56.

التطورية ويرأس مشروع الجينوم البشري الشهير. يتحدّث كولنز عن «انسجام مُرضِ للغاية بين وجهات النظر العالمية العلميّة والروحيّة »(1) . ويقول إنّ «مبادئ الإيمان متكاملة مع مبادئ العلم». فمن تخصصات علمية كثيرة، يمكن لآخرين أن يقتبسوا بسهولة من أجل النقطة ذاتها إلى حدّ كبير. في مشروع اللاهوت العلميّ الذي أؤيّده اكتشفت كيف يمكن للاهوت أنّ يتعلّم من منهجية العلوم الطبيعية في اكتشاف أفكاره وتطويرها (2). وهذه المقاربة حول السلطة التعليمية المتداخلة» هي من ضمن فلسفة «الواقع الحرج»الذي لديه أثر حالياً في تسليط الضوء باتّجاه العلاقة بين العلوم الطبيعية والاجتماعية

(3) .

ليست المسألة هنا عبارة عن مواجهة بين غولد ودوكينز، كما لو أنّ موقفي الاثنين يُحدّدان الخيارات الفكرية الوحيدة المتوفّرة لدينا. في أوقات ما يبدو أنّ دوكينز يفترض بأنّ عدم تصديق غولد يدلّ بالضرورة على إثبات وجهة نظره. لكن الواقع هو أنّ غولد ودوكينز لا يمثلان إلا موقفين اثنين على طيف واسع من الاحتمالات التي يعرفها العلم جيداً. وأوجه القصور عند كليهما توحي بأنّ تلك البدائل تستحق دراسة أعمق في المستقبل.

هل من معركة بين العلم والدين؟

من وجهة نظر دوكينز، العلم يُدمّر الإيمان بالله، مُحيلاً الله إلى هوامش الثقافة، فيؤمن به المتعصّبون الموهومون. لكن بطبيعة الحال ثمة مشكلة واضحة تتجلّى بأن علماء كثيرين يؤمنون بالله .في عام 2006 ، نُشر كتاب «وهم الإله» وفي العام نفسه

ص: 42


1- Francis S. Collins, The Language ojGod (New York: Free Press, 2006), p. 6.
2- For an introduction, see Alister E. McGrath, The Science oj God (Grand Rapids: erdmans, 2004).
3- See especially Roy Bhaskar, The Possibility of Naturalism: A Philosophical Critiqueojthe Contemporary Human Sciences, 3rd ed. (New York: Routledge, 1998).

نشر علماء أبحاث ريّاد ثلاثة كتب أخرى . فنشر أون غينغريتش، عالم فلك بارز من هارفرد، کتاب «كون الله» مُعلناً أنّ «الكون خُلق لغاية وهدف، وأنَّ هذا الاعتقاد لا يتناقض مع المسعى العلمي»(1). ونشر فرانسيز كولينز كتاب «لغة الله» الذي يُحاجج فيه أنّ الإعجاب والترتيب للطبيعة يُشيران إلى إله خالق، بما يتطابق مع خطوط المفهوم المسيحيّ التقليدي في هذا الكتاب، يصف كولينز كيف ترك الإلحاد واعتنق الدين المسيحي. وهذا لا يتطابق مع إصرار دوكينز العنيد بأنّ العلماء الحقيقيين ملحدون.

بعد أشهر عدّة، نشر عالم الكونيات بول دافيس كتابه «لغز كولديلوكس»، متحدّثاً عن وجود «توافق دقيق» في الكون. بنظر دافيس، التوافق الحيوي للكون يُشير إلى مبدأ شامل يدفع الكون بطريقة ما باتجاه تطوّر الحياة والعقل. وفكرة أن ثمة دليلاً عن الهدف أو التصميم من الكون ينفيها دوكينز بالطبع جملةً وتفصيلاً. ودافيس لديه أفكار أخرى. وفيما ليس هناك أي تبن لفكرة مسيحية تقليدية ما عن الله، قمة ما هو إلهيّ هناك، أو ربما في ذلك.

بعض الاستطلاعات تساعد أقلّه في تسليط ضوء ما على هذا الأمر. في عام 1916، سُئل علماء نشطون عمّا إذا كانوا يؤمنون بالله خصوصاً، إلهاً يتواصل مع الجنس البشري وإلى مَن قد يتوجّه الإنسان في دعائه « متوقعاً الاستجابة». وفقاً لهذا التعريف يكون المعتقدون بوجود الله غير مؤمنين والنتائج معروفة: ما يُقارب نسبة ال-40 % يؤمنون بهذا النوع من الآلهة و 40% منهم لا يؤمنون و 20% ليسوا متيقنين. وكُرّر الاستطلاع في عام 1997، مستخدماً بدقة السؤال نفسه ووجد إلى حد كبير النمط نفسه ، مع زيادة بسيطة في نسبة أولئك الذين لا يؤمنون (%45). أما عدد أولئك الذين يؤمنون في إله كهذا فقد حافظوا على النسبة نفسها أي نحو 40%.

بالطبع يمكن نسج هذه النتائج في جميع أنواع الوسائل. فيميل الملحدون إلى

ص: 43


1- Owen Gingerich, God's Universe (Cambridge, Mass. : Harvard University Press, 2006).

تفسيرها للقول إنّ «معظم العلماء لا يؤمنون بالله». لكنّ الأمر ليس بتلك البساطة. إذ يمكن بالتساوي تفسيرها أنّ «معظم العلماء لا يؤمنون بالله» لأنّهم من نسبة ال_55 % تلك إما يؤمنون بالله وإما لا يدرون لكن لا بد من أخذ نقطتين بعين الاعتبار.

جايمس لوبا، الذي أجرى الاستطلاع الأصلي في عام 1916 ، تنبأ أنّ عدد العلماء الذين لا يؤمنون بالله سيرتفع إلى حدّ كبير مع الوقت، نتيجة تحسينات عامة في التعليم . وهناك زيادة بسيطة في عدد أولئك الذين لا يؤمنون وتضاؤل مُقابل في عدد أولئك الذين لا يدرون لكن دون أي انخفاض كبير في عدد أولئك الذين يؤمنون بوجود الله.

مرّة أخرى، لا بدّ من التأكيد أنّ العلماء سُئلوا سؤالاً محدداً للغاية، بالتحديد عمّا إذا كان الذين سئلوا عن إيمانهم بإله محدد يتوقعون أن يُستجاب دعاؤهم؟ هذا يستبعد كلّ أولئك الذين يؤمنون بأنّ الدليل يُشير إلى نوع من المعبود أو المبدأ الروحي الأسمى - من بينهم بول دافيس. وإذا ما صيغ السؤال بعمومية أكثر، من المتوقع أن يكون هناك ردّ إيجابي أكبر في كلتا الحالتين. فالطبيعة الدقيقة لهذا السؤال غالباً ما يتغاضى عنها أولئك الذين يعلّقون على نتائج عامي 1916 و 1997 على حد سواء.

لكن التفاصيل الدقيقة لاستطلاعات كهذه هي في الواقع خارج الموضوع. فيُجبر دوكينز على التعامل مع حقيقة محرجة للغاية قوامها أنّ وجهة نظره بأنّ العلوم الطبيعيّة عبارة عن طريق فكري سريع يؤدّي إلى الإلحاد يرفضها معظم العلماء، بغض النظر عن آرائهم الدينية. ومعظم العلماء غير المؤمنين الذين أعرفهم هم ملحدون بناءً على أسس لاعلاقة لها بعلومهم؛فيأتون بتلك الفرضيات إلى علمهم ولا يبنونها على علومهم فعلاً لو كانت محادثاتي الشخصية أمراً يُبنى عليه، فإنّ أشدّ المنتقدين لدوكينز من بين العلماء الملحدون بحق فإصراره المتحجر على أنّ

ص: 44

جميع العلماء «الحقيقيين» لا بدّ أنّ يكونوا مُلحدين وُجه باعتراض شديد تماماً من قبل المجتمع الذي يعتقد بأنّ الداعم الأساسي والأكثر ولاءً له. من الواضح أنّ دوكينز لا يتمتّع على الإطلاق بتفويض للتحدّث باسم المجتمع العلمي حول هذه النقطة أو في ما يخصّ هذا الموضوع. وهناك تناقض ملحوظ للغاية بين عدد العلماء الذين يعتقد دوكينز بأنّهم يجب أن يكونوا ملحدين وأولئك الذين هم عملياً كذلك.

يتعامل دوكينز مع هذه المعضلة بأسلوب غير مقبول تماماً. على سبيل المثال، لنأخذ ملاحظاته بشأن فريمان دايسون، عالم فيزياء رُشّح على نطاق واسع للفوز بجائزة نوبل لقاء عمله الريادي في الديناميكيا الكهربائية الكمية. ولكونه حاز جائزة تمبلتون في الدين عام 2000، ألقى دایسون خطاب قبوله احتفالاً بانجازات الدين مع الإشارة إلى جانبه السلبي. كما أنه كان واضحاً بشأن الجانب السلبي للإلحاد، مشيراً إلى أنّ «الشخصين اللذين جسّدا الشرّ في قرننا، أدولف هتلر وجوزيف ستالين، كانا يُعلنان إلحادهما». فاعتبر دوكينز أنّ ذلك عمل جبان تعتريه الردّة والخيانة جرّاء «إقدام أحد أشهر علماء الفيزياء في العالم على الاعتراف بالدين» (1).

لكن ما هو آت أسوأ من ذلك. عندما علّق دايسون قائلاً إنّه مسيحي لم يول لعقيدة الثالوث اهتماماً خاصاً أصر دوكينز على أنّ ذلك يعني بأنّ دايسون ليس مسيحيّاً على الإطلاق. كان يدعي فقط بأنّه مُتديّن «أليس ذلك ما يقوله فقط أيّ عالم ملحد، إذا أراد أن يبدو مسيحياً؟» (2)هل الإيحاء بأنّ دايسون مساير بتلهف يُشير إلى مصلحة في الدين من أجل مكسب مادي ؟ هل يقول دوكينز إن دايسون أراد أن «يبدو» مسيحياً وحسب فيما هو حقاً ملحد ؟ ينطبق الأمر نفسه على إنشتاين، الذي

ص: 45


1- Dawkins, God Delusion, p. 152.
2- Ibid

استخدم في أغلب الأحيان لغة وتشبيهات دينية في حكاياه عن العلم(1).

وهنا، كما في أماكن أخرى، يتبيّن دوكينز أنّه أسير فرضيته الأساسية بأنّ العلماء الحقيقيين ينبغي أن يكونوا مُلحدين. وهم ببساطة لا يقصدون ذلك حينما يعترفون بمعتقدات أو مصالح أو التزامات دينيّة. لست أكيداً أي نوع من الأناس يأمل دوكينز أن يُقنعه بهذا الرفض لتصديق زملائه العلماء . إنّ ذلك يمثل انتصار العقيدة على الملاحظة وحسب.

إذاً، لِمَ هذا العدد من العلماء المتدينين ؟ إنّ التفسير الواضح والأكثر إرضاءً على الصعيد الفكري لا يصعب إدراكه. من المعروف أن العالم الطبيعي طيع من الناحية النظرية. ويمكن تفسيره في عدد من الطرائق المختلفة دون أي خسارة للنزاهة الفكرية. يقرأ بعضهم الطبيعة أو يفسّرها بطريقة ملحدة .وآخرون يقرؤونها بطريقة توحيدية، فيرون أنّها تشير إلى ألوهية الخالق، الذي لم يعد مشغولاً في شؤونها. فالله يعبّئ الساعة ثم يتركها تعمل وحدها. ويأخذ آخرون وجهة نظر مسيحية ،مؤمنين بإله يخلق ويديم على حدّ سواء. وآخرون لديهم وجهة نظر أكثر روحانية، متحدّثين بغموض أكثر عن نوع من «قوة الحياة».

الأمر بسيط: الطبيعة مفتوحة على مروحة من التفسيرات الشرعيّة. فيمكن تفسيرها بطرائق إلحاديّة أو ربويّة أو إيمانيّة أو غيرها - لكنّها لا تتطلّب أن تُفسّر بأي من هذه. يمكن للمرء أن يكون «عالماً »حقيقياً دون أن يلتزم بأي نظرة للعالم سواء كانت دينية أو روحيّة أو معادية للدين. وأضيف أنّ تلك هي وجهة نظر معظم العلماء الذين تحدّثت

ص: 46


1- See the disappointingly superficial analysis in God Delusion, pp. 14- 18. Dawkins speaks of "Einsteinian pantheism" (which is certainly one aspect of Einstein's religious ideas), while failing to realize that pantheism is both a religious and theological notion. For a good analysis, see Michael P. Levine, Pantheism: A Non-Theistic Concept oj Deity (New York: Routledge, 1994).

معهم بمن فيهم أولئك الذين يُعرّفون عن أنفسهم بأنّهم ملحدون. وخلافاً للملحدين

الدوغماتيين يمكنهم تماماً فَهم السبب وراء تبنّي زملائهم رأياً مسيحياً في العالم هم قد لا يوافقون على تلك المقاربة لكنّهم مستعدون لاحترامها.

ولكن دوكينز عنده وجهة نظر مغايرة كليّاً. يخوض العلم والدين معركةً حتّى النفس الأخير (1) وسينتصر أحدهما، وسيكون بالتأكيد العلم. إنّ وجهة نظر دوكينز عن الواقع هي صورة طبق الأصل لتلك التي وُجدت في بعض الأجزاء الأكثر غرابة في الأصولية الأمريكية. رأى الراحل هنري موريس، أحد المؤيدين البارزين لمعتقد الخلقية، أنّ العالم ينقسم كلياً إلى فئتين فكان القدّيسون هم المؤمنين المتدينين (عرفهم موريس بطريقته الخاصّة بل الحصرية ).وتألّفت إمبراطورية الشرّ من العلماء الملحدين. وقدّم موريس رؤية مروّعة لهذه المعركة، واصفاً إيَّاها بأنّها كونية لناحية أهميّتها هي معركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر. وفي نهاية المطاف سينتصر الحق والخير. دوكينز ببساطة يُكرّر هذا السيناريو الأصولي لكن مع قلب إطاره المرجعي.

إنها قراءة الأمور على نحو مُشوّش ميؤوس منه .وهي تعتمد اعتماداً أساسيّاً على قراءة تاريخيّة للعلاقة ما بين العلم والدين لكن عفا عليها الزمن وهجرت الآن. في يوم من الأيام، في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، كان من الممكن بالتأكيد الاعتقاد بأنّ العلم والدين في حالة حرب دائمة. لكن، كما أشار لي أحد المؤرّخين الرياديين للعلوم في أميركا مؤخّراً، هي تُعدّ الآن صورةً نمطيةً تاريخيةً متحجرة أبطل مصداقيتها العلم تماماً. وهي تُخيّم على المياه الراكدة للحياة الفكرية وحسب، حيث ضوء المعرفة لم يخترقها بعد. إنّ العلاقة بين العلم والدين معقدة ومتنوّعة - لكن لا يمكن التصوّر أنّها تمثل حالة حرب شاملة.

ص: 47


1- Dawkins, God Delusion, pp. 279 - 86.

إلا أنّ دوكينز ملتزم على الدوام بهذا النموذج الحربي البائد الذي يقوده إلى ارتکاب بعض الأحكام غير الحكيمة التي لا يمكن الدفاع عنها. وأسخفها أنّ العلماء الذين يعتقدون أو يُسهمون بأي علاقة عمل إيجابية بين العلم والدين يُمثلون مدرسة« نيفيل تشامبرلين» (1). هذه المقارنة تُعدّ لا منطقاً فكريّاً، إن لم نقل هجوماً شخصيّاً ما معناه يُشير دوكينز هنا إلى سياسة الاسترضاء التي اعتمدها رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين تجاه أدولف هتلر في عام 1938، على أمل تفادي حرب شاملة في أوروبا. يبدو أن القياس المقيت يوحي بأن العلماء الذين يؤكدون أهمية الدين يجب أن يوصموا ب-«الاسترضائيين» وأنّ الأناس المتدينين يُشبهون بنفس قدر العدائية بهتلر. وتبدو صورة دوكينز هنا أنّها تعبّر عن بعض الأحكام المتحيّزة وغير المطلعة على علاقة العلم والدين.

إذاً من يسكن مخيّلة دوكينز ؟ بشكل لا يُصدّق هو يخصّ بالذكر مايكل روز - فيلسوف ملحد مشهور قدّم الكثير لتوضيح الجذور الفلسفية وانعكاسات الداروينية وتحدّي الأصولية الدينية(2). لماذا؟ إنّ حجّة دوكينز مشوّشة للغاية هنا بحيث إنّه من الصعب تحديد المسألة بالضبط. هل روز من تجرأ على انتقاد دوكينز، وهو تصرف يُعادل خيانة التاج؟ أو امتلك جرأة أكبر للإيحاء بأنّ العلم والدين قد يتعلّم أحدهما من الآخر - أتخوّف أنّ يعتبره بعض المتعصبين ضرباً من الخيانة ؟

هنا يستشهد دوكينز باستحسان بعالم الجينات جيري كوين من شيكاغو، الذي أعلن أنّ

«الحرب الحقيقية هي بين العقلانية والخرافة والعلم ليس سوى شكل واحد من العقلانية، فيما الدين هو الشكل الأكثر شيوعاً للخرافة»(3). ولذا العالم منقسم إلى

ص: 48


1- Ibid., pp. 66-69.
2- Ruse's best work, in my view, is Monad to Man: The Concept oj Progress in Evolutionary iology (Cambridge, Mass. : Harvard University Press, 1996).
3- Dawkins, God Delusion, p. 67.

معسكرين - العقلانية والخرافة تماماً كما تُميّز الأديان بين الناجي والملعون، يعرض دوكينز نمط التفكير الثنائي التفرّع نفسه. فإما أبيض وإما أسود، ولا ظلال للرمادي. مسكين مايكل روز، ما إنّ يتعرّض لهجوم مجموعة من الأصوليين، حتى يجد نفسه منبوذاً من أخرى -فيُعلن زملاؤه السابقون أنّه قذر فكرياً.

من الواضح أنّ دوكينز أسير رؤيته الغريبة عن الثنائية الأصولية. لكنّ كثيرين سيشعرون أن دراسة الواقع ملائمة ،حتّى لو أنّها تأخّرت كثيراً هنا. يبدو أن دوكينز ينظر إلى الأمور من داخل عالم شديد الاستقطاب لا يقلّ ترويعاً وتشويهاً عن الأصوليات الدينية التي يتمنّى دوكينز أن يمحوها. فهل حلّ الأصولية الدينية عند الملحدين هو تكرار رذائلها ؟ فنحن قدّمنا أصوليّة إلحاديّة معيبة ومحرّفة للغاية تماماً كنظيراتها الدينية. ومة وسائل أفضل للتعامل مع الأصولية الدينية(1). ودوكينز جزء من المشكلة هنا وليس هو مَنْ يُقدّم الحلّ لها.

صراع الأصوليات

واحدة من الإساءات التي ارتكبها دوكينز بحق العلوم الطبيعية إقدامها على تصويرها بلا هوادة بأنها إلحادية. لكن لا شيء صحيح من هذا القبيل؛ إلا أنّ الحيوية الصليبية عند دوكينز أدّت إلى نمو مفهوم الاستعداء هذا في أجزاء كثيرة من البروتستانتية المحافظة في الشمال الأمريكي. فهل ثمة طريقة أفضل لتأكيد أنّه يُنظر إلى العلوم بنظرة سلبية داخل هذا المجتمع، مع استفحال الاهتمام بالدين والالتزام به في معظم أنحاء العالم ؟ إذاً لا عجب أنّ كثيرين من مؤيدي الداروينية يعبّرون عن قلقهم تجاه هذه المحاولة لوسم النظرة بالإلحادية. وهم فقدوا مصداقيتهم بتهور ودون داعٍ في عيون فئة كبيرة من الناس.

ص: 49


1- Dawkins insists that he is not an atheist fundamentalist (see God Delusion, p. 282). This is very contestable!

كنت انتقدت حركة التصميم الذكي، وهي حركة مسيحيّة محافظة معادية للتطوّر، انتقدت أفكارها أيضاً في كتاب «وهم الإله»(1). لكن من الفارقات، هذه الحركة تعتبر أنّ دوكينز الآن واحداً من أعمدتها العظمى. لماذا؟ لأنّ إصراره التاريخي والعقائدي على الانعكاسات الإلحادية للدروانية يُبعد كثيراً من المؤيدين المحتملين لنظرية التطوّر ويليام ،دمبسكي المهندس الفكري لهذه الحركة، يشكر باستمرار مُصمّمه الذكي من أجل دوكينز(2) . وكان قد أرسل إلى دوكينز مؤخّراً رسالة تهكمية إلى حدّ ما على النت: «بانتظام أخبر زملائي أنك وعملك من الهدايا العظمى التي أرسلها الله إلى حركة التصميم الذكي. لذا رجاءً حافظ عليها». فتساورني الشكوك بأنّ كتاب «وهم الإله أدخل على قلبه السرور(3).

لا عجب أنّ روز (الذي يصف نفسه بأنّه «دارويني متشدّد») علق بإيميْل مُسرّب إلى دانيال دنت قائلاً إنّه (دنت) ودوكينز «كانا كارثتين بكلّ ما للكلمة من معنى في الحرب ضدّ التصميم الذكي».

ما نحتاج إليه ليس إلحاداً غير محسوب بل تعاط جدّي مع القضايا - لا أحد منكم لديه الرغبة في دراسة المسيحيّة بجدية وتبادل الأفكار- ليس الادعاء بأنّ المسيحيّة ببساطة قوة من أجل الشرّ سوى سخافة ورذالة، كما يدّعي دوكينز - وأكثر من ذلك، نحن في حالة حرب، وبحاجة إلى كسب حلفاء في الحرب وليس ببساطة إبعاد كُلّ من لديه نيّة حسنة(4)

ص: 50


1- Ibid., pp. 131 - 34, with reference to Michael Behe; William Dembski is not mentioned. For a somewhat more informed engagement with the movement, see Niall Shanks, Cod, the Devil, and Darwin: A Critique of Intelligent Design Theory (New York: Oxford University Press, 2004).
2- For Dembski's approach, see William A. Dembski, Intelligent Design: The Bridge Between Science Theology (Downers Grove, 111.: InterVarsity Press, 1999).
3- See Madeleine Bunting's perceptive article "Why the Intelligent Design Lobby Thanks God for Richard Dawkins," The Guardian [London], March 27, 2006.
4- For Ruse's Darwinism, see Michael Ruse, Taking Darwin Seriously: A Naturalistic Approach to Philosophy (New York: Prometheus, 1998). The exchange of e-mails between Ruse and Dennett took place on February 19, 2006, and was widely distributed.

آها ! الآن ندرك لَم دوكينز رمى روز في الظلمة. لا تقلق يا مايكل- أنت برفقة حسنة.

لكن قبل طرده من جنة عدن دوكينز، أشار روز إلى نقطة أخرى. في 22 تشرين الأول 1996، أطلق البابا جون بول الثاني تصريحاً إلى الأكاديمية البابوية للعلوم فدعم الفكرة العامة للتطوّر البيولوجيّ، لكنه انتقد تفسيرات ماديّة معيّنة للفكرة (1)(بالمناسبة، الكاثوليكية الرومانية لم تواجه قط أي صعوبات مع فكرة التطوّر التي البروتستانتية المحافظة) . فحصد تصريح البابا ترحيباً من كثير من العلماء باستثناء ريتشارد دوكينز وهنا يأتي تعليق روز على ما حدث لاحقاً: «عندما كتب جون بول الثاني رسالة مؤيدة للداروينية، كان ردّ دوكينز ببساطة أنّ البابا منافق ولا يمكن أن يكون صادقاً بخصوص العلوم وأنّ دوكينز نفسه فضّل دوغمائياً صادقاً».(2)

يُساعدنا تعليق روز مباشرة في فهم ما يجري. إذا كان جدول أعمال دوكينز مبنيّاً على تشجيع المسيحيّين على قبول التطوّر البيولوجيّ، فهذا تصريح مرحب به. لكنّه ليس كذلك، فدوكينز ليس أبداً بوارد تقبل فكرة أنّ البابا- أو على الأرجح أيّ مسيحيّ - يقبل التطوّر البيولوجي. إذاً هو لا يقول الصدق، أليس كذلك؟ هو لا يستطيع. وفقاً لدوكينز البابا شخص يؤمن بالخرافات وهو ما برح يدّعي العقلانية. من الصعب أن لا نصدق بأنّ العلم هنا يُساء استخدامه للقضاء على الدين.

واحدة من السمات الأكثر مأساوية لكتاب «وهم الإله» هي كيف ظهر مؤلّفه أنّه يتحوّل من عالم لديه اهتمام شغوف بتقصّي الحقيقة إلى داعية جلف معادٍ للدين لا يهتم بالأدلة. وهذا كان واضحاً في المسلسل التلفزيوني أصل كل الشرور، والذي كان

ص: 51


1- For Ruse's assessment of this statement, see Michael Ruse, “John Paul II and Evolution," Quarterly Review of Biology 72 (1997): 391-95.
2- Michael Ruse, cited in Dawkins, God Delusion, p. 67.

الربّان لكتاب «وهم الإله». هنا، بحث دوكينز عن المتطرّفين المتدينين الذين أيّدوا العنف باسم الدين، أو أولئك الذين كانوا معادين للعلوم بصورة عدوانية في نظرتهم. وما من شخصيات صاحبة تمثيل شملت أو أخذت بعين الاعتبار. فما كان استنتاج دوكينز ؟ الدين يؤدي إلى العنف وهو معاد للعلوم.

ما ليس مستغرباً أنّ المسلسل انتقده أولئك الذين اعتبروه مسخرةً من الناحية الفكرية. فكما قال لي أحد العلماء الملحدين رفيعي المستوى في أوكسفورد، «لا تحكم على بقيتنا من خلال هذا الهراء الفكري الزائف». لكنّ «وهم الإله» يستمر ببساطة في هذه المقاربة المتحيّزة بصورة فاضحة ،مستهزئاً ومُنتقداً البدائل ورافضاً أخذها على نحو جدّي. وذاك العدد يزداد ببساطة نظراً لاستخدام دوكينز الانفعالي للعلوم في صراعه الملحمي ضد الدين . وربما حان الوقت للمجتمع العلمي برمته أن ينتفض ضدّ الاستخدام السيء لأفكاره في خدمة أصولية ملحدة كهذه.

ص: 52

الفصل الثالث

ما هو أصل

الدين؟

ص: 53

الفصل الثالث :ما هو أصل الدين؟

اشارة

إن فرضيّة الإلحاد الأساسيّة التي لا تقبل الجدال هي أنّه لا وجود لله. لذا لم قد يؤمن أحدهم بوجود بالله؟ بنظر ،دوكينز، هذا معتقد تماماً لاعقلاني- كما هو حال الاعتقاد بقدح من الشاي يطوف حول الشمس(1). بالتأكيد هو تشبيه مُعيب. لكن هذا ما يودّ دوكينز من قرائه أنّ يُفكروا به ما معناه أنّ الإيمان بالله هو على المستوى نفسه من الاعتقاد بأقداح شاي كونيّة . إلا أنّه تشبيه مُعاد تدويره بحيث إنّه جزء من استراتيجيته العامة المبنية على السخرية بانتظام من وجهات النظر العالمية وتشويهها وشيطنتها، وهي آراء تُعرض على الدوام بسذاجة فاضحة.

إذاً ما هي الأفكار الجديدة التي باستطاعة دوكينز تقديمها؟ السبيل الأفضل لفهم مقاربة دوكينز بخصوص أصل الدين هو اعتباره كما لو أنّه يتبع برهاناً إلحادياً تقليدياً لعدم وجود الله وتطوير هذا البرهان بأسلوب جديد. وكل ذلك يعود إلى لودفيغ فيورباخ، وهو فيلسوف ألماني متطرّف كره الدين في عام 1841، قال فيورباخ إنّ الله بالأساس هو اختراع كان من أمنيات البشر لتوفير العزاء الغيبي والروحي(2) .

وحجّته أتت على النحو التالي:

لا وجود لله.

لكنّ كثيرين يؤمنون بالله لم؟

لأنهم يرجون العزاء.

ص: 54


1- Richard Dawkins, The God Delusion (Boston: Houghton Mifflin, 2006), pp. 51- 54. The idea is borrowed from Bertrand Russell.
2- See Van A. Harvey, Feuerbach and the Interpretation of Religion (Cambridge: Cambridge University Press, 1995).

إذاً هم «يتصوّرون» رغباتهم أو يجعلونها موضوعيّة» ويدعون ذلك «الله».

لذا هذا الإله غير الموجود هوو ببساطة تصوّر لرغبات بشرية.

هی حجّة مذهلة ولها تأثير عميق في الثقافة الغربية، ولكن تشوبها العيوب. بدايةً، الرغبة في الشيء ليس تبياناً على أنه غير موجود. عطش الإنسان يُدلّ على الحاجة إلى الماء. كما أنها تقترح بأنّ الآراء العالمية هي ردّ على احتياجات ورغبات بشرية، وهذا بالطبع يتضمّن الإلحاد الذي يمكن اعتباره رداً على رغبة بشرية في الاستقلاليّة الأخلاقيّة.

لننظر في خيارين اثنين، كلَّ له علاقة وطيدة بموضوعنا. الأول يضع أصول الإيمان بالله في قالب سوسيولوجي والآخر في قالب نفساني. كارل مارك قال إن السبب وراء حاجة الناس إلى وهم الإله أنّهم يعيشون نفوراً اجتماعياً واقتصادياً. فحين تقع الثورة الاجتماعيّة لن يكون ثمة حاجة إلى الدين، وسيزول بصورة طبيعية .والدين يُعيق التقدّم البشريّ بشكل خطير. وقال سيغموند فرويد إنّ أصل الإيمان بالله مردّه إلى الرغبة في شخصيّة الأب. ومُجرّد أن يصح الإدراك بأنّ الله ليس سوى «تمن» يُستحضر نتيجة تصوّر بشري، يمكننا أن نتخطّى هذا الوهم الصبياني ونتصرف بنضج (1).

يُقدم دوكينز أيضاً تبريراً للدين مستنداً إلى المذهب الطبيعي - في هذه الحال، هو تبرير مُبتدع وغير مقنع أبداً. قد يكون الإيمان بالله نتاجاً ثانوياً لآلية ثورية ما. وهنا هو ينتقل إلى ركيزة استغلها زميله الإلحادي دانيال دينيت في كتابه الأخير بريكينغ ذا سبال(2) . إلّا أنّ دوكينز ودينيت على حدّ سواء يتبنيان وجهة نظر إدراكية للغاية حول الدين، فيُعرّفانها حصرياً إلى حدّ ما بمصطلحات الإيمان بالله». لكن ذلك ليس

ص: 55


1- Sigmund Freud, Totem and Taboo: Resemblances Between the Psychic Lives of Savages and Neurotics (New York: Moffat Yard, 1918).
2- DanielC Dennett, Breaking the Spell: Religion as a Natural Phenomenon (New York: Viking Penguin, 2006).

بالتأكيد الجانب الوحيد للدين، حتّى لا يمكن أن يكون بالضرورة الجانب الأساسي. إنّ وصفاً أكثر موثوقية للدين سيُشير إلى جوانبه الكثيرة من بينها المعرفة والمعتقدات والخبرة والشعائر والانتماء والحافزيّة والانعكاسات السلوكية(1).

برغم عَرْض اعتبارِ مبتذل إلى حدّ ما للدين يقول دينيت إن سمته المميّزة عن الإيمان بالله قد تكون تطوّرت لأسباب عدة. على سبيل المثال، قد يكون لدينا «مركز إلهي» في عقولنا. وهكذا مركز قد يعتمد على «جين باطنيّ» حبّذه اختيار طبيعيّ لأنّ الناس معه يميلون إلى النجاة بصورة أفضل. ومثال ،آخر الأفكار الدينية «قد تكون انتشرت جرّاء خرافات فرديّة من خلال الشامانية والأنماط الظاهرية الأولى للدين».

ويُضيف دوكينز على تلك المضاربات مقترحاً أنّ التوجهات الطبيعية بالأساس قد تصبح عقيمة، فينتهي بنا المطاف إلى أمر ديني بالأساس. لذا يكون الدين «ثانوياً بالصدفة» أو «إخفاقاً لأمر مفيد»(2). لكن ذلك يبدو أكثر من مجرد تعارض مع «داروينيّته الكونية»، التي تتحاشى أيّ فكرة عن الهدف - وجهة نظر لخصت بشكل بارز في تصريحه بأنّ العالم «ليس له تصميم أو هدف وليس شراً أو خيراً، هو لا شيء سوى لا مبالاة عمياء لا ترحم كيف يمكن لدوكينز أن يتحدّث عن الدين كما لو أنّه «عرضيّ» (3)في حين أنّ فهمه للعمليّة الثورية يستبعد أي إطار نظري يسمح له بالاقتراح أنّ بعض النتائج مقصودة وغيرها عرضيّة ؟ إن ذلك يتعارض مع وجهة النظر

ص: 56


1- See the original study of Charles Y. Glock and Rodney Stark, Religion and Society in Tension (Chicago: Rand McNally 1965). The anthropologist Talal Asad argues that “there cannot be a universal definition of religion, not only because its constituent elements and relationships are historically specific, but because that definition is itself the historical product of discursive processes" (Talal Asad, Genealogies of Religion [Baltimore: Johns Hopkins University Press 1993], p. 29).
2- Dawkins, God Delusion, p. 188.
3- Richard Dawkins, River Out of Eden: A Darwinian View of Life (New York: Basic, 1995), p. 133.

الداروينية عن العالم. بالنسبة للداروينية فإنّ كلّ شيء عرضيّ. الأشياء قد يكون لها مظهر التصميم، لكنَّ مظهر التصميم هذا أو التعمد ينبثق من تطوّرات عشوائية. في نهاية الأمر، ذاك هو لب انتقاد دوكينز لبالي في كتاب «صانع الساعات الأعمى».

لكنّه يبقى انتقاداً بسيطاً. أما الانتقاد الأساسي لنظرية النتاج الثانوي العرضي فهو الافتقار إلى دليل جدّي مُقدّم لمصلحتها. أين العلم ؟ ما هو الدليل على اعتقاد كهذا؟ نجد المضاربة والافتراض يحلان مكان الحجج المبنية على الدليل القاطع التي لدينا كلّ الحق بأنّ نتوقعها. إنّ نظريات دوكينز عن الأصول البيولوجية للدين، برغم كونها مثيرة، لا بدّ أنّ تُعدّ تكهنيّة لأعلى درجة فحججه المتعلقة بالأصول النفسانية للدين تملؤها كلمات مثل «ربما» و«قد»، وهي معالم لفظية تدلّ على أنه لا يوجد دليل جوهري على الأفكار الضعيفة والتكهنيّة للغاية التي يُقدّمها لقرائه.

عند قراءتي هذا القسم شعرت أنّي مُجبر على الانصياع لأفكاره نتيجة الإفراط باستخدام التأكيدات التي يلجأ إليها وليس اقتناعاً عن طيب خاطر بقوة الدليل أو مهارة دوكينز في عرضه.

تبدأ الحجج بعبارات حذرة مثل «يمكن أن تكون»، مُقدّماً فرضيات تجريبية للنظر فيها. لكن سرعان ما تصبح العبارات ،مبينة، مع استخدام التأكيدات دون تقديم الدليل القوي المطلوب في العادة من أجل الحجة العلمية القاطعة.

سأدخل دوكينز (ودينيت) في التقليد الواسع لشرح الدين المستند على المذهب الطبيعيّ الذي ينتمي إليه فيورباخ وماركس وفرويد بغضّ النظر عن المنافع الناتجة من الأديان، يعتقد هؤلاء المؤلّفون أنّها تنبثق بالكامل عن عقول البشر. فلا وجود لحقائق روحيّة حولنا. ويمكن تقديم التبريرات الطبيعية عن أصل الإيمان بالله. في نهاية المطاف، هي حجّة دائرية تفترض مُسبقاً نتائجها. تبدأ من الافتراض بأنّه لا

ص: 57

وجود لله ومن ثمّ تُكمل لتقول إنّ تبرير وجود الله يمكن عرضه وهو بالكامل متناغم مع هذا الأمر. في الواقع، هو بالأساس إعادة صياغة الحادية لحجة توماس أكويناس المعروفة باسم «الدلائل الخمسة»، القائلة إنّ اعتباراً ثابتاً للأشياء يمكن تقديمه دون الحاجة إلى طرح مسألة وجود الله.

في الصفحات الأولى من كتاب «وهم الإله»، يعرض دوكينز الإلحاد كما لو أنه نتيجة عمليّة محو للمعتقدات غير المنطقية حول كلّ ما هو خارق للطبيعة(1). فتبدأ بالشرك، أي الإيمان بأكثر من إله . ثمّ مع تقدم الزمن وتطور التفكير، تنتقل إلى الإيمان بالله الواحد الإلحاد هو مجرّد خطوة أخرى إلى الأمام. فكما يُشير دوكينز بصورة هزليّة، هو ينطوي على الاعتقاد بما هو أقل من إله المرحلة السابقة وحسب فهو الخطوة التالية الواضحة في تطوّر الدين. لكن تاريخ الدين يُجبرنا على التحدّث بشأن التنويع لا التقدم في الدين وليس الدليل ببساطة من أجل السماح كي نتحدث عن أيّ نوع من التطوّر الطبيعي من الشرك إلى الإيمان بالله الواحد ومن ثمّ التوصل إلى الإلحاد(2).

لكن سؤالاً أكثر تعمقاً مطروح هنا ولم يتطرق إليه دوكينز بتاتاً. ما الاختلاف بين وجهة نظر عالميّة والدين؟ حسب كثيرين، إنّ الخط الفاصل بينهما بالغ الدقة وهو خطّ يبنيه أولئك الذين لديهم مصالح راسخة في الدفاع عنه. فوجهة النظر العالمية سبيل شامل لرؤية الواقع تحاول إثبات منطق عناصرها المتنوّعة بأسلوب جامع واحد في التطلع للأشياء. بالطبع بعضها ديني وبعضها الآخر ليس دينيّاً. فالبوذية

ص: 58


1- Dawkins, God Delusion, pp. 31 - 38 .
2- See, for example, Ernest Gellner, Muslim Society (Cambridge: Cambridge University Press, 1981), pp. 911-, which extends David Hume's notion of the "flux and reflux" of polytheism and monotheism to suggest that a natural part of human experience is a cyclical movement from polytheism to monotheism—and then back again.

والوجودية والإسلام والإلحاد والماركسية ينتمون جميعاً إلى هذه الفئة. بعض وجهات النظر العالمية تدعي أنها صحيحة على الصعيد العالمي. وجهات نظر أخرى، تلك الأكثر انسجاماً مع أخلاقيات ما بعد الحداثة، تعتبر نفسها محلية. ولا يمكن «إثبات» صحة أي منها بالضبط لأنّها تمثل «صورة كبيرة» عن أساليب التواصل مع العالم، لذا معتقداتها الأساسيّة تتخطّى في النهاية البرهان الختامي.

وهنا بيت القصيد: وجهات النظر العالميّة يمكنها بسهولة تعزيز التعصّب. ودوكينز يتعامل مع هذه النقطة على أنّها سمة مميّزة للدين مستثنياً من حساباته تجاه العنف أي اقتراح بأنّه قد يكون ناتجاً من تعصب سياسي، حتّى إلحاد. دوكينز متشدّد في الإصرار على أنه هو نفسه، كملحد جيد لن يُسقط ناطحات السحاب عبر ارتطام الطائرات بها أو يرتكب أي تصرف شائن له علاقة بالعنف أو القمع. هذا جيد وأنا أيضاً أطمح في ذلك. لكنّ آخرين في كلتا دائرتينا يفعلون ذلك. قد نتنصل أنا ودوكينز من أعمال العنف وندعو كلّ من في جماعتينا إلى فعل ذلك. لكن الواقع المرير هو أنّ العنف الديني والمعادي للدين يقع، ومن المحتمل أن يستمر في الحدوث. لذا هذه النقطة مهمة ولا بدّ أنّ نتطرّق إليها لاحقاً بمزيد من التفاصيل.

إنّ دوكينز ينتمي إلى التقليد المبني على المذهب الطبيعي الذي يهدف إلى شرح أصل الدين دون استحضار وجود الله أو أفعاله. وعلى غرار فرويد قبله يصبو دوكينز إلى تبيان أنّ جميع سمات الدين يمكن احتسابها في نظرية واحدة - وفي هذه الحال «الداروينية العالميّة»(1). في اعتماد مشروع طموح كهذا كثيرة هي العقبات الفكرية التي تعترض طريقه. في هذا الفصل، لا بد أن ندرس ما إذا كانت مقاربته تتوافق وطريقة طلب الأدلة القاطعة التي تتطلبها العلوم الطبيعية.

ص: 59


1- Dawkins, God Delusion, pp. 161 - 207. In terms of the substance of Dawkins's intellectual case against religion, this is the most important chapter in the book.

تعريف الدين

تعريف واضح لما تم درسه بدقة لهو أساسي من أجل الدراسة العلمية الجديّة لأيّ كيان أو ظاهرة .والإخفاق في المحاولات السابقة في تقديم تعريف موثوق ومضمون للدين أُقرّ به على نحو واسع في أدبيات أهل العلم المكرّسة لهذا الموضوع من بين العدد الضخم لتعريفات الدين التي قدّمت على مر السنوات ال_ 150 الأخيرة، كلّ منها قدّم نفسه على أنّه علمي أو موضوعي، ولا واحد منها كان مرناً أو ممثلاً بالقدر الكافي ليحظى بالدعم المتواصل(1) . إضافة إلى ذلك، تعريفات الدين هي في العادة حياديّة لكنّها في أغلب الأحيان تنبثق لمصلحة المعتقدات والمؤسسات التي تتعاطف معها وتُعاقِب تلك التي على عداوة معها، مما يعكس في أغلب الأحيان ما هو أكثر من «أهداف وتحيّزات معينة لعلماء أفراد»(2).

يتعامل دوكينز مع هذه المشكلة الجديّة عبر تفاديها مُفضّلاً عدم التطرّق إلى القضايا التي اشتهرت في قضائها على المحاولات السابقة للتعميم حيال جذور الدين (3).وتحليله مبني على المبادئ العامة للدين مبادئ وجدها في كتاب جيمس فريزر «الغصن الذهبي»، وهو عبارة عن عمل مبكر عالي الانطباع عن الانثروبولوجيا وصدرت نسخته الأولى في عام 1890(4). هي استراتيجيا محيرة للغاية. لم ينبغ لنظرية

ص: 60


1- See, for example, Peter Harrison, “Religion" and the Religions in the English Enlightenment (Cambridge: Cambridge University Press, 1990); Tomoko Masuzawa, In Search of Dreamtime: The Quest for the Origin of Religion (Chicago: University of Chicago Press, 1993); Daniel L. Pals, Seven Theories of Religion (New York: Oxford University Press, 1996); and Samuel J. Preus, Explaining Religion: Criticism and Theory from Bodin to Freud (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1987).
2- Peter B. Clarke and Peter Byrne, Religion Defined and Explained (New York: St. Martin's Press, 1993), pp. 327-
3- Dawkins, God Delusion, p. 188.
4- See Eric Csapo, Theories o/Mythology (Maiden, Mass.: Blackwell, 2005), pp. 36-43.

دوكينز حول جذور الدين أنّ تعتمد اعتماداً كبيراً على الفرضيات الأساسية لعمل صدر منذ قرن ،وهو الآن فاقد لمصداقيته إلى حدّ كبير ؟

إنّ صعود الأنثروبولوجيا المعاصرة يمكن اعتباره ردّ فعل مباشر على الإخفاقات الواضحة لفريزر في «الغصن الذهبي». فما هي تلك الإخفاقات؟ أولاً، اعتمد على ما يمكن وصفه فقط موقفاً إمبرالياً من السياق الثقافي للدين بغية إنتاج مفاهيم تفسيرية عالميّة. ثانياً، هو يفتقر بالكامل إلى أيّ قاعدة جدية في الدراسة التجريبية المنهجيّة. ويبدو أنّ دوكينز يُكرّر كلا الخطأين، راسماً نظريات طموحة بشأن أصل الدين دون القيام بأي محاولة جديّة للتعامل مع الكم الكبير للأدبيات العلمية التي تتحدّث عن الدليل التجريبي وتُقيّمه منذ فريزر، وبدلاً من ذلك هو يطرح تأكيدات معمّمة مشكوك فيها للغاية حول طبيعة الدين.

إذا لم يرد دوكينز اتِّباع فريزر في تبسيط الدين إلى بعض السمات العالمية الفريدة، متجاهلاً كمّ الأبحاث التي تقول إنّه أكثر تعقيداً وتنوّعاً ومن غير الممكن حصره بمجموعة بسيطة من المعتقدات أو المواقف العالمية ؟ الجواب واضح : لأنه من خلال ذلك، يعتقد أنّه يمكن تحليله ضمن«الداروينية العالمية» التي تمثل نظام اعتقاده الأساسي: «الميزات العالميّة لأيّ صنف تتطلب تبريراً داروينيّاً»(1).

لكن هذه هي المشكلة بالضبط من المعروف الآن أنّ الدين لا يعرّض «الميزات العالمية» التي تتطلّبها مقاربة دوكينز المفضّلة، والتي خطأً اعتبرتها الأعمال الفيكتورية الأخيرة لأنثروبولوجيا الدين أنّها بديهيّة. هي واحدة من النقاط الكثيرة التي يعتمد عليها كتاب «وهم الإله» وكانت عبارة عن فرضيّات منبوذة في القرن التاسع عشر لتكون قضية القرن الواحد والعشرين في معاداة الدين. ويجنح دوكينز إلى التهرّب من هذه النقطة عبر توجيه انتقاداته للأديان التوحيدية العظمى الثلاثة. لكن، أولاً

ص: 61


1- Dawkins, God Delusion, p. 166.

هي تمثل ثلاثة فقط من نماذج دينية عالميّة كثيرة. ثانياً ، ثمة اختلافات أساسية بين الثلاثة (أحد الأمثلة الجلية : المسيحيّة لا تفرض شعائر أو عادات ذات علاقة بالغذاء مثل الكوشير أو الحلال). وثالثاً، هناك اختلافات هائلة ضمن كل دين (قارن المسيحية الكاثوليكية الرومانيّة التقليدية مع المسيحيّة الإنجيلية أو الخمسينية).

ما يُثير القلق أكثر أنّ فرضيّة فريزر الاستراتيجية عن «التشابه الأساسي لغاية رجل يريد كلّ مكان وفي كلّ زمان تدفع دوكينز إلى اعتبار أصل الدين مستند على «ميل عالمي مزعوم لجعل المعتقد يُلوّن بالرغبة». هي نظرية يمكن تعقبها إلى لودويغ فيورباخ وسيغموند فرويد. لكن لم يجرِ التطرّق إلى أيّ من هذين المفكرين الأساسيين أو أي من انتقاداتهما الكثيرة، ناهيك عن الانخراط في الدفاع عن عرض طموحي كهذا. فمن هو سلطان دوكينز في هذه النقطة ؟ إنّه ويليام شاكسبير.

يُحدّد دوكينز «تحقيق التمنّي» كميزة عالمية للدين. الآن، ثمة ذرّة من الصدق في تحليله. إنّ الأسلوب الذي يفهم البشر العالم من خلاله هو فعلاً مُلوَّن من خلال جدول أعمالنا وتوقعاتنا. إنّ

«التحيّز المعرفي» هو فعلاً سمة أساسية في النفس البشريّة(1). لكن بشكل عام هذا التحيّز غير المقصود لا يتجلى كثيراً في اعتقادنا بما نرغب في أن يكون صحيحاً كما هي الحال في الحفاظ على الوضع الراهن لمعتقداتنا. والقوة الدافعة لا تكون التفكير المتمني بل التفكير المحافظ، وهو التفيكر الذي يصون وجهة نظر عالميّة موجودة.

على سبيل المثال، كثيرون لديهم رؤية إيجابية عن أنفسهم، هو إحساس بأنّ العالم بخير وأنّ الأشخاص الآخرين يُحبّونهم. ويحافظون على هذه الرؤية من خلال استحضار المعطيات التي تلائم وجهة النظر هذه واستبعاد تلك التي لا تُناسب .

ص: 62


1- For a recent study of cognitive bias in relation to self-esteem, see Jennifer Crocker and Lora E. Park, "The Costly Pursuit of Self-Esteem," Psychological Bulletin 130 (2004): 392- 414.

آخرون (مثل الكئيبين أو المصدومين )يرون أنفسهم بلا قيمة، ويعتبرون العالم تحت سطوة الشرّ ويعتقدون بأنَّ الآخرين موجودون للقضاء عليهم. وهم أيضاً يستبعدون أو يُهملون أهميّة أيّ حقائق لا تلائم وجهة نظرهم هذه.

ونحن بذلك نؤسّس رفضاً داخلياً ضد تغيير موقفنا ، وهو رفض تدعمه التحيزات المعرفيّة التي تجعلنا عُرضةً للفشل في ملاحظة الحقائق التي لا تتناسق ووجهة نظرنا. في العموم، نحن نقوم بذلك لأنّه فعّال حتى إذا كان التغيير يصبّ في الاتجاه الإيجابي لأنّ الأمر يتطلب جهداً وثمة قلق من الإقدام على تغيير ما في عقل المرء. كتاب «وهم الإله »هو دراسة حالة رائعة بالضبط لهذا النوع من التحيز غير المقصود. وبدون المعرفة التامة بأن يُقدم على ذلك، يُقدّم دوكينز دليلاً يلائم وجهات نظره الخاصّة ويستبعد أو يُشوّه الدليل الذي لا يلائمها.

في حين أنّ التحيّز المعرفي يساعدنا على التعامل مع عالم معقد، ثمة بعض الحالات يكون من المهم جداً تقليص آثاره. والتحقيق العلمي واحد من تلك الحالات. إنّ الغاية التامة من الأسلوب العلميّ هو تقليص تحيّز كهذا ، وحين أمكن القضاء عليه، سعياً إلى تقديم قيمة موضوعية وعادلة قدر الإمكان. ودوكينز لا يُطبّق هذا الأسلوب على دراسته للدين.

هل التحيّزات المعرفيّة تؤدّي دوراً في المعتقد الديني ؟ الدليل هو أنّها مهمة هنا كأي مجال آخر في الحياة. إن فهم هذا الجانب من المعالجة المعرفية قد يُلقي الضوء على المحافظة على الدين الموجود - العوامل التي تحافظ عليه في وجه أي تهديد(1) لكنّها أقلّ أهميّة في فهم أصل الدين والحركات الدينية الجديدة، التي تتميّز بمعارضة الوضع الراهن بدلاً من التحفّظ.

ص: 63


1- A classic study of this theme is Robert P. Carroll, When Prophecy Failed: Cognitive Dissonance in the Prophetic Traditions of the Old Testament (New York: Seabury,1979).

الإيمان بالله والدين

كيف يرتبط الإيمان بالله والدين؟ يُخفق دوكينز في عرض هذا التمييز الهام ،معتبراً أنّ «الدين» و«الإيمان بالله» ليسا سوى وجهين لعملة واحدة. وجهة النظر غير الملائمة هذه لا تبدأ حتى بالتعامل مع مشكلة الدين غير التوحيدي، مسألة تُرفض مع معرفة أكثر من مقتضبة ما تلبث أن تُنسى.

في كتاب «وهم الإله» ميلٌ للحدّ من تعاطيه مع الدين لإظهار أنّ أفكاره مثيرة للسخرية وخبيثة أو لانتهاك استقامة العقل البشري أو لتلويث نقاء القلب الإنساني. لكن هذا التأكيد للأفكار والشعائر يؤدّي إلى اعتبار مُقيد إلى حدّ ما للدين، وهو اعتبار يفشل في انصاف مستويات كثيرة من معناه. إنّ أيّ اعتبار أو وصف للدين لا بد أيضاً أن يتضمّن على أقل تقدير المعرفة والخبرة وانتماء المجموعة والحافزية والانعكاسات الأخلاقية(1).

يريد دوكينز تقديم شرح داروينيّ للدين. لذا هل هو ينظر في الإيمان بالله؟ أو التديّن؟ أو كليهما ؟ هناك كثيرون ممّن يؤمنون بقوّة في الله لكنّهم يتجنبون السلوك الدينيّ، والإنجيليون مثال على هذه النقطة. مرّة أخرى ،من الممكن أن يكون لدينا مواقف متدينة دون إظهار أي إيمان بالله ، والبوذية خير مثال. كثيرون هم الأفراد الذين يتخذون موقفاً تبجيلياً تجاه الطبيعة، وهو موقف لا يكون في النهاية توحيدياً لكن يبقى من المعقول وصفه بأنه ديني.

الحجّة الأساسية هنا هي أنّ الدين( برغم أنّ دوكينز لم يستخدم هذا المصطلح ) ظاهرة عارضة - نتاج ثانوي عشوائي انبثق من أمر آخر له ميزة انتقائية. لكن من أجل السعي إلى هذا الخطّ بأي صرامة كانت ، من المهم تحديد أحد جوانب الدين الذي

ص: 64


1- See for instance Rodney Stark and Charles Y. dock, American Piety: The Nature of Religious Commitment (Berkeley: University of California Press, 1968).

أُخذ بعين الاعتبار. يُشير دوكينز إلى «المعتقدات»، ومن خلال ذلك يبدو أنّه يقصد أمراً يطابق التصريحات العقائدية، مثل الاعتقاد بوجود الثالوث». هذه مقاربة مبسطة لمجال هو أكثر تعقيداً مما قد يبدو عليه أثناء الفحص السطحيّ.

إنّ نوع الاعتقاد الذي قد يكون بشكل مفيد عُرضةً لنوع التفسير الدارويني هو ما يُشار إليه أحياناً «بالإدراكات الساخنة» مثل «الله يحبّني» أو «أنا آثم»، أي ما يُعبّر عن معنى محسوس لا التصريحات الاقتراحية مثل «الله جميل» أو «أمّ المسيح كانت عذراء». إنّ أنظمة المعالجة النفسانية في هذين النوعين المختلفين من التصريحات متباينة تماماً في مزاياها ومن المحتمل أن تُتمّ وظائفها النفسانية المتميزة. وبالتأكيد، تتعلّق الطبيعة المقنّعة للإيمان الديني بمعالجة ما يُشير إليه عالما النفس جون تيسدايل وفيليب برنارد على أنّه النظام الفرعيّ «التضميني» لا النظام الفرعي

«الاقتراحي»(1). وهذا ميدان صاعد يتطلب تحليلا حذراً ولا يبدو أنّه يتلاءم بسهولة مع اعتبارات دوكينز الاقتراحية حصراً في الاعتقاد الديني والتي تركّز على العقائد.

العقائد ليست اقتراحيّة فحسب . هي تنشأ في سياق اجتماعي وتُتمّ وظيفة اجتماعية. على سبيل المثال، العقائد المسيحيّة تحدّد «تصريحات الاعتقاد » لمجتمع جشع، تصريحات ظهرت بعد فترات ممتدّة من التأمل في الموارد الأساسية وتجارب المجتمع المسيحيّ (2).يمكن اعتبارها صانعة هويّة المجموعة، أيّ التراكيب الاجتماعية التوافقية التي تحاول تصنيف التجرية الدينية والمعتقدات الفردية هي تنجو جزئيّاً جرّاء الانتماء والمحافظة، وبجزء آخر بسبب تعبيرها بشكل غير مباشر عن أمر قد يكون ذا أهمية أكبر.

يبدأ علماء النفس المختصّون بالدين فقط بالتعامل مع هذا التمييز المهم، محاولين

ص: 65


1- John D. Teasdale and Philip J. Barnard, Affect, Cognition, and Change: Re-modelling Depressive Thought (Mahwah, N.J.: Erlbaum, 1993).
2- See the analysis in Alister E. McGrath, The Genesis of Doctrine (Oxford: Blackwell,1990).

تحديد« التأكيدات الساخنة» الشخصية بدلاً من تصريحات المجموعة التابعة التي قد تكون موضع توافق لكن لا تُعتبر صحيحة.(1) وقد يكون الأناس مستعدين للموافقة على التناقضات الاقتراحيّة

(إعادة تسميتها ب_«المفارقات») وتصريحات الاعتقاد المغايرة (إعادة تسميتها ب_«الألغاز ») بالضبط لأنّ المعالجة المعرفية المرتبطة بدينهم الشخصي لا تحصل على هذا المستوى بتاتاً بل على مستوى بديهي لا يسهل انقياده للوصف بمصطلحات اقتراحيّة .

من الواضح أن مزيداً من العمل مطلوب في تعريف طبيعة الاعتقاد الديني ووصفها . وأيُّ فشل في توفير تعريف للدين يمكن الدفاع عنه فهو ينفي في نهاية المطاف محاولات دوكينز لعرض اعتبار داروينيّ لأصوله. برغم ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى قضية من تلك التي يطرحها (2) . يقول دوكينز إنّ البشر مهيؤون نفسياً للدين لأنّ العمليات النفسانية التي تجعلنا ميالين نحو الدين تمنح ميزة انتقائية في مجالات أخرى في الحياة .وليس للدين ميزة انتقائية في حدّ ذاته. بل هي ظاهرة عارضة، وهي ظاهرة مختلة على الصعيدين الاجتماعي والنفساني.

إذا هل نحن مُهيّؤون نفسياً للدين ؟ هو سؤال مهم، ومن الواضح أنّه يتطلب جواباً نفسياً. ثمّ ما يلبث أن يصبح من الواضح أنّ دوكينز غير مؤهل لتوفير الجواب. يُبيّن دوكينز نفسه سيئاً في علم النفس وعلم الإعصاب، برغم الأهمية القصوى التي لهذين العلمين في هذه المرحلة من حجّته. على سبيل المثال، تأكيداته بأنّ الدماغ هو مجموعة من الأعضاء (أو وحدات )»من أجل تأدية وظائف معرفية متنوّعة، وأنّ الدين هو «نتيجة ثانوية لإخفاق عدد من هذه الوحدات» (3) لهي تأكيدات مشوشة

ص: 66


1- For some interesting experimental work in this area see N. J. Gibson, The Experimental Investigation of Religious Cognition (Ph.D. diss., University of Cambridge, 2006) .
2- Dawkins, God Delusion, pp. 168- 69.
3- Ibid., p. 179.

بالثغرات -خالطاً لغة معالجة المعلومات وفسيولوجيا الدماغ (1). في مكان آخر، يبدو أنّه يخلط بين آليات الدماغ والتراكيب النفسيّة (2). وهذا ليس الترويج المبهر للأفكار العملية الصعبة التي رأيناها في كتاب «الجين الأناني». بل هو عبارة عن بحث مشوّش ومُضلّل في مجال تخصص أحد آخر.

في نقاشه عن نشاط الدماغ كسبب مُحتمل للدين قد يكون دوكينز معنيّاً بالاعتراف أنّ هذا النشاط هو السبب الحقيقي ( بمعنى أنّه شرط ضروري) لسائر التجربة والسلوك البشري - بما في ذلك تجربته وسلوكه (3) ولا شيء مُخصّص بالدين هنا. الأخطر من ذلك .هو يلفت الانتباه إلى فرضيّة مايكل برسينجر بأنّ التجربة الدينيّة مرتبطة بنشاط دماغي مرضي. مما يعني أنّ الدين نفسه حالة مرضية(4) . يجدر بالقراء أن يعوا ( ودوكينز لم يذكر ذلك )أنّ تجارب برسينجر انتقدت بشدّة جرّاء قصورها المفهومي والتصميميّ، وأن نظريته لم تعد جديرة بالتصديق(5).

المشكلة التي يواجهها دوكينز في توفير اعتبار نفساني لأصل الدين يمكن ذكرها على هذا النحو. بالتأكيد من الممكن القول إنّ بعض جوانب المعالجات الفكرية

ص: 67


1- Bennett and Hacker, Philosophical Foundations ojNeuroscience, pp. 127, 243. For a detailed study of the "mereological fallacy," see ibid., pp. 68107-. (Mereology is the logic of the relationship between the whole and its constituent parts.)
2- Dawkins, God Delusion, pp. 18284-. For a critique of the ideas set out here, see Bennett and Hacker, Philosophical Foundations of Neuroscience, pp. 419- 27.
3- Jeffrey L. Saver and John Rabin, "The Neural Substrates of Religious Experience," Journal of Neuropsychiatry Clinical Neurosciences 9 (1997): 498- 510 .
4- Michael A. Persinger, Neuropsychological Bases of God Beliefs (New York: Praeger, 1987). Dawkins does not appear to be familiar with this work at first hand, providing indirect reference (God Delusion, p. 168) through Michael Shermer's How We Believe (New York: Henry Holt, 2000). He offers no critical assessment of the validity of the hypothesis.
5- Peter Fenwick, “The Neurophysiology of Religious Experiences," in Psychiatry and Religion: Context, Consensus, and Controversies, ed. D. Bhugra (London: Routledge, 1996), pp. 167- 77.

البشرية قد تساعد في شرح كيف أنّ أفكاراً دينيةً تنشأ أو تستمر. لكن كما يُشير عالم النفس فريزر واتس فإنّه من الضروري الاعتراف بتعددية الأسباب في مجالات كهذه. وبعض العلماء وقع في عادة طرح سؤال: ما الذي سبّب أ؟ هل كان إكس أو واي؟ لكن في العلوم الانسانية، الأسباب المتعدّدة هي القاعدة. على سبيل المثال، لنأخذ السؤال التالي: هل الكآبة سببها عوامل ماديّة أو اجتماعيّة ؟ الجواب هو أنها بسبب الاثنين. فكما يُشير واتس تاريخ بحث كهذا «يجدر أنّ يجعلنا حذرين في السؤال عما إذا كان الوحي الظاهر لله هو حقاً كذلك، أو عمّا إذا كان له بعض التفسيرات الطبيعية الأخرى، لناحية عمليات التفكير أو عمليات الدماغ عند البشر»(1). بفجاجة الله والعمليات الدماغية البشرية والعمليات النفسيّة قد تكون كلّها عوامل مُسبّبة في التجربة الدينية البشرية. ودوكينز نفسه يستخدم مثال الحب الرومنسي(2). قد يُقال إنّ تجربة الحبّ الرومنسي سببها كلمات وتصرّفات العاشق، أي الإحساس الذي يصدر عن تلك الكلمات والأفعال في مجالات الدماغ يتعلق خصوصاً بالمعالجة العاطفية. والسبب الأساسي هو المحبوب ويمكن القول إنّه بغضّ النظر عن الأسباب القريبة فالسبب الأساسيّ للتجربة الدينية هو الله.

في ما يخصّ الأصول النفسيّة للدين، من غير الواضح بتاتاً لم يتجاهل دوكينز مشاركة فرويد. إنّ محاولات فرويد البطولية، إنما غير المتماسكة والعقيمة في نهاية المطاف، لشرح الدين استناداً إلى علم الأمراض النفسية يُلغي بعضاً من الصعوبات التي وُجهت حسبما يُشير عالم النفس البلجيكي أنطوان فيرغوت. لقد رأى فرويد،

ص: 68


1- Fraser Watts, “Cognitive Neuroscience and Religious Consciousness, in Neuroscience and the Person, ed. R. J. Murphy et al. (Vatican City: Vatican Observatory, 1999), pp. 327-46.
2- Could irrational religion be a by-product of the irrationality mechanisms that were originally built into the brain by selection for falling in love?" (Dawkins, God Delusion, p. 185). It is an interesting suggestion, though one that is simply not sustained by the very limited evidence Dawkins bothers to present, which is in any case inattentive to the extent to which "falling in love" is a culturally conditioned notion.

وهو محق في ذلك، أنّ الدين هو «الظاهرة الأكثر تعقيداً في الحضارة»، ما يجعل من المستحيل شرحه عبر أيّ عامل فريد. ولا يمكن القول إنّ ثمة عمليّة نفسانيّة فردية قادرة على إنشاء فكرة الله. ولكن أوضح تحليل فيرغوت لمحاولات فرويد أنّ «شرعيّة المعتقد الديني لا يمكن إثباتها أو ضدها بتعليل علمي»(1).

وفي خضم هذه الحجّة المثيرة للاهتمام التي من المحتمل أن تكون ذات أهمية، يُعيد دوكينز تقديم اثنتين من الأفكار العلميّة الزائفة وغير المقنعة ليظهرا في نقاشات جذور الدين في الأعوام الأخيرة فكرة الله ك_«فيروس للعقل» و«الميم». حجّة مترنحة أصلاً تمثل ببساطة قبلة الموت عبر إعادة تدوير هذه المفاهيم غير القابلة للتصديق التي تفشل في الحظي بموافقة المجتمع العلمي الأساسي. ولا بد من النظر في هاتين الفكرتين في القابل من الكلام

فيروس العقل

بين الحين والآخر، يطوّر أفراد رياديون للغاية أفكاراً أو مفاهيم جديدةً يعتقدون بأنّها توفّر تفسيرات للدليل الرصدي أفضل من تلك التي يقدّمها خصومهم. وبعضها مثل الالكترون والجين، يتقبلها المجتمع العلميّ وتصبح جزءاً من حكمته المتلقاة. وبعضهم الآخر يذبل ويموت لأنّه ثبت عدم استخدامه، سواء لزيادة في التعليل أو لعدم كفاية الإثبات تحت التجربة. و«الفلوجستون»و«السعرات الحرارية » مثلان لهذه المفاهيم المحتضّرة، المدفونة الآن في كتب تاريخ العلوم باعتبارها أخطاء مثيرة للاهتمام.

الأمر نفسه لا بدّ أنّ يُقال عن الفكرتين اللتين نحن بصدد كشفهما - فكرة «فيروس العقل» و

«الميم». فكرتان لم تُدوّنا في سجلات العقيدة العلمية. وكلتاهما هامشيتان، وجرى الدفاع عنهما بشكل أساسي بناءً على إمكانيّتهما المضادة للدين (التي تسهل

ص: 69


1- Antoine Vergote, “What the Psychology of Religion Is and What It Is Not," International Journal for the Psychology of Religion 3 (1993): 73-86.

المبالغة فيها )لا على أسسهما الإثباتية.

الفكرة غير القابلة للتصديق من بين الاثنتين هي فكرة «فيروس العقل». خلال تسعينيات القرن الماضي، قدّم دوكينز فكرة الله كنوع من الفيروس العقلي الذي يؤثر في سائر وظائف العقل الصحيّة. كانت صورة قويّة ناشدت وعياً عاماً متنامياً من خطر الإصابات الجسدية الناجمة عن فيروس نقص المناعة البشرية والإصابات البرمجية الناجمة عن فيروسات الكمبيوتر . وكانت الفيروسات شرّيرة ومدمّرة، خصوصاً الرسالة التي تمنّى دوكينز نقلها عن الإيمان بالله.

لأنّ الإيمان بالله غير منطقي أبداً (واحد من المعتقدات الأساسية لدوكينز)، لا بدّ من وسيلة ما لشرح السبب وراء وقوع كثيرين ضحيّة وهُمٍ كهذا، في الواقع هو يتحدّث عن السواد الأعظم من سكان العالم. ويقول دوكينز إن الأمر مماثل للإصابة بفيروس مُعدٍ ينتشر بين سائر الناس. إلا أنّ الفيروسات البيولوجيّة هي مجرد افتراض، فيمكن تشخصيها ورصدها وتحديد تركيبتها وطريقة عملها إلا أنّ «فيروس العقل» الافتراضي هو تركيب جدليّ بالأساس، ابتُدع لتشويه صورة الأفكار التي لا يحبّها دوكينز.

جميع الأفكار إذاً هل جميع الأفكار هي فيروسات للعقل؟ يرسم دوكينز تمييزاً مطلقاً بين الأفكار المنطقية و العلميّة والمبنية على الدليل وبين المفاهيم الزائفة وغير المنطقية - مثل المعتقدات الدينية. والثانية، لا الأولى، تُعد فيروسات عقلية. لكن من يُقرّر ما هي «المنطقيّة» و«العلميّة»؟ لا يعتبر دوكينز مشكلة في ذلك، معتقداً أنه قادر على تصنيف تلك الأفكار، أي قادر على فصل الخراف عن الجداء.

إلا أنّه يتبيّن أنّ كلّ ذلك معقد بشكل فظيع، ممّا يؤدّي إلى خسارة البساطة والأناقة اللتين تميّزان كلّ فكرة عظيمة. على سبيل المثال كلّ وجهة نظر عالمية - سواء دينية أو علمانية - ينتهي بها المطاف في فئة «أنظمة الاعتقاد» بالضبط لأنّه لا يمكن إثباتها.

ص: 70

تلك هي ببساطة طبيعة وجهات النظر العالميّة، والجميع يعرف ذلك. هي لا تمنع أحداً من أنّ يتبنّى وجهة نظر عالميّة في المقام الأول وأن يقوم بذلك مع نزاهة فكرية كاملة في المقام الثاني. في النهاية ،فكرة دوكينز تندثر ببساطة، إذ تقع ضحية حكمه الشخصي على ما هو منطقي وصحيح . هل ليست هناك فكرة تؤخذ على محمل الجد داخل المجتمع العلمي، ويمكن إهمالها بأمان.

لقد انتقدت بشدّة هذه الفكرة الزائفة في كتاب «إله دوكينز»، مشيراً إلى أنّها تفتقر إلى أيّ أساس للدليل وبدت أنّها تعتمد على حكم دوكينز الشخصي للغاية حيال ما هو منطقي أو لا(1) . يبدو الآن أنّ لهذه الفكرة غير الموثوقة جزء هامشي بحت في رواية وهم الإله التي تعود إلى مقالة نُشرت في عام 1993 واعتبر فيها دوكينز أنّ الله «فيروس العقل»(2) . ومن الواضح أنّها كانت على وشك أنّ تُكتب عن المؤامرة تماماً، لا أبكر. لذا لن يحصل التأسف على رحيلها.

ليحيا الميم !

الميم هو الفكرة الأكثر إثارة ويلعب دوراً هاماً في محاولة دوكينز لاستنباط اعتبار معقول لجذور الدين تحصل مناشدته للميم في نهاية مناقشته لجذور الدين، في الوقت الذي أصبحت فيه حجته مفتعلة للغاية وغير مقنعة حين باتت بحاجة إلى الخلاص (3). ويدافع دوكينز عن الفكرة بحدّة مُفرطة، وبكل ما أوتي من قوة، ففي نهاية المطاف ،هي من اختراعه . وقد يكون هذا هو السبب وراء عنونة القسم ب_ «اخط بنعومة، لأنك تخطو على الميمات الخاصة بي ».

عرض دوكينز فكرته لأول مرة في عام 1976، في نهاية كتابه الجين الأناني . من

ص: 71


1- For my comments, see McGrath, Dawkins' God (Maiden, Mass.: Blackwell, 2004), pp. 135-38.
2- Dawkins, God Delusion, pp. 186, 188.
3- Ibid..pp. 191-201.

وجهة نظري، هو واحد من أفضل كتبه : تحليله العلمي دقيق وأصيل؛ قدرته على إيصال أفكاره واضحة للعيان؛ وانحيازه الناشئ المعادي للدين مكبوح بقوّة. وفي كتابه ذاك هو بعيد كل البعد عن الصياح غير العلمي المعادي للدين في كتاب «وهم الإله».

الحجة مبنية على أنّ هناك تشابهاً أساسيّاً بين الثورة البيولوجية والثورة الثقافية: كلتاهما تحتوي على متماثل. في حالة الثورة البيولوجية، هذا المتماثل هو الجين؛ أما في حالة الثورة الثقافية فالمتماثل هو كيانها المفترض الذي وصفه دوكينز بالميم. وفي سياق غنيّ بالصور تحدّث عن هذه الميمات بأنّها «تقفز من عقل إلى آخر».

بنظر دوكينز، فكرة وجود الإله هي ربّما المثال الأسمى على ميم كهذا. فيُصر دوکینز دوغمائياً على أنّ ذاك المعتقد الديني هو عبارة عن «ثقة عمياء»، ترفض الأخذ بالدليل أو أن تضع نفسها قيد الفحص .إذاً لم الناس يؤمنون بالله حين لا وجود لإله يجب الاعتقاد به؟ الجواب المقترح يقع في قدرة «ميم - الله» على تكرار نفسه في العقل البشري. وميم الله يؤدّي دوراً حسناً لأنّه يحتوي على «قيمة بقاء عالية، أو قوة مُعدية في البيئة التي تنتجها الثقافة الإنسانية»(1). لا يؤمن الناس بالله لأنّهم شُرِّبوا فكراً طويلاً وحذراً عن المسألة؛ هم يفعلون ذلك لأنّهم أصيبوا بعدوى من قبل ميم قوي، كان قد «قفز» إلى عقولهم (2).

لكن هل أي شخص حقاً رأى تلك الأمور، سواء كان القفز من عقل إلى آخر، أو التدلي؟ تجدر الإشارة إلى أنّ القضية لا علاقة لها بالدين هي حول ما إذا كان الميم يُعتبر فرضيّة علميّة قيّمة حين لا وجود لتعريف عملاني واضح للميم، ولا لنموذج قابل للاختبار حول كيفية تأثير الميمات على الثقافة، ولم نماذج الاختيار المعيارية غير ملائمة، وثمة ميل عام لتجاهل النماذج العلميّة الاجتماعية المعقدة لنقل المعلومات

ص: 72


1- Richard Dawkins, The Selfish Gene, 2nd ed (Oxford: Oxford University Press, 1989), p. 193.
2- For an extended analysis of Dawkins's concept of the meme, see McGrath, Dawkins'God, pp. 119-35.

ودرجة عالية من الدائرية في تفسير قوة الميمات(1).

الميم بصورة أساسيّة هو فكرة بيولوجية انبثقت من اعتقاد دوكينز الأساسي في «الداروينية العالمية» التي أدت به إلى إسقاط الحسابات الاقتصادية أو الثقافية أو تلك ذات العلاقة بتعلّم النظرية عن الدين. لكن لم يجب على البيولوجيا أنّ تكون قادرةً على شرح الثقافة ؟ هي ليست بحق مجال دراسة المؤرّخين الثقافيين والفكريّين، ناهيك عن علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة ؟ موريس بلوتش بروفسور في علم الأنثروبولوجيا في كلية لندن للاقتصادات، مثل ردّ الفعل الغاضب لكثيرين من علماء الإنثروبولوجيا على الفكرة العامة للميمات». الميم هو جواب بيولوجي لمشكلة أنثروبولوجية، معضلة تستثني ببساطة النجاحات الأساسية لعقيدة الأنثروبولوجيا في تفسير التطوّر الثقافي وتسقطها - حصلت دون الحاجة إلى الاهتمام بفكرة الميم (2)التي لا أساس لها من الصحة. الميم هو زائد عن الحاجة من المفهوم النظري والنماذج البديلة للثورة الثقافية ضمن العقيدة العلميّة المكرّسة بالذات لهذا المجال من التحقيق يتغاضى عنها بارتياح أولئك البيولوجيون الثوريون الذين يتمنون توسيع أهليّة عقيدتهم من الجانب البيولوجي إلى الثقافي(3).

ص: 73


1- This point was made forcefully by James W Polichak, "Memes-What Are They Good For?" Skeptic 6, no. 3 (1998): 45- 54. Polichak's concerns were not met by Susan J. Blackmore, The Meme Machine (New York: Oxford University Press, 1999). See further Bennett and Hacker, Philosophical Foundations oj Neuroscience, pp. 431- 35.
2- Maurice Bloch, "A Well-Disposed Social Anthropologists Problem with Memes," in Darwinizing Culture: The Status oj Memetics as a Science, ed. Robert Aunger (Oxford: Oxford University Press, 2000), pp. 189- 203.
3- For examples of such models, see Michael Carrithers, Why Humans Have Cultures: Explaining Anthropology and Social Diversity (Oxford: Oxford University Press, 1996); and Maurice Bloch, How We Think They Think: Anthropological Approaches to Cognition, Memory, and Literacy (Boulder, Colo.: Westview, 1998). Even biologists have problems with the idea. As Simon Conway Morris, professor of evolutionary palaeobiology at Cambridge University, pointed out, memes seem to have no place in serious scientific reflection. Memes are trivial, to be banished by simple mental exercises. In any wider context, they are hopelessly, if not hilariously, simplistic" (Simon Conway Morris, Life's Solution: Inevitable Humans in a Lonely Universe [Cambridge: Cambridge University Press, 2003], p. 324).

في كتاب «وهم الإله»، يعرض دوكينز فكرة الميمات كما لو أنّها أُسست بناء على عقيدة علميّة، دون ذكر الحقيقة غير المريحة بأنّ المجتمع العلمي السائد ينظر إليها على أنها بالتأكيد فكرة غير ثابتة، تهبط في أفضل الأحوال إلى الهوامش. لقد قدّم الميم كما لو أنّه كيان موجود بحقّ، مع إمكانية كبيرة لشرح أصول الدين. حتّى إنّ دوكينز قادر على تطوير مفردات متقدمة بالاستناد إلى قناعاته الخاصّة مثل الميمبلكس (تجمعات الميمات).

إذا لِمَ حجج النقاد الرياديين لعلم التطوّر الثقافي داخل المجتمع العلمي لم تُحدّد وانتقاداتهم بالغة الأهمية جوبهت بعدالة وإنصاف، ونقطة بنقطة ؟ بالطبع، هي جعلت تأكيدات دوكينز الجسورة حول الأصل «الميميّ» للدين في غير محله. من الواضح أنّه قبل الإقدام على التحدّث عما إذا كانت هذه الميمات المزعومة لها أيّ علاقة بشرح أصول الدين .هي بحاجة لأن تُبيّن ضرورتها على الصعيد العلمي، والعلم ببساطة ليس محله هناك.

لنأخذ واحداً من تصريحات دوكينز الجريئة: «يمكن للميمات أحياناً أن تبرز بدقة عالية»(1). هذا كلام عقائدي يشكل تصريحاً لحقيقة علمية. ينتقد دوكينز بشدّة المسيحيين الذين يقولون أموراً مثل إنّ «الله أمين». لكن في تصريحه هذا، هو يرتكب بالضبط الخطأ الذي يتّهم الآخرين به. فهو يترجم ملاحظة إلى لغته النظرية الخاصة به، لغة لا يتحدّثها أي أحد ضمن المجتمع العلمي .والملاحظة مفادها أنّ الأفكار يمكن أن تنتقل من فرد أو مجموعة أو جيل إلى آخر؛ التفسير النظري لهذه الملاحظة عند

ص: 74


1- Dawkins, God Delusion, p. 196.

دوكينز - والتي تُقدّم هنا ببساطة كحقيقة - يتضمّن النَّسب بدقة ما يعتبره كثيرون كياناً غير موجود.

من وجهة نظري، ينتقد دوكينز الدين بالاعتماد على كيان افتراضي غير موجود يمكن الاستغناء عنه بالكامل من أجل أن يكون منطقاً ما نلاحظه. لكن أليس ذلك بالفعل انتقاداً إلحادياً أساسياً لله - مفاده أنّ الله فرضيّة افتراضية يمكن الاستغناء عنها بسهولة ؟ إنّ الدليل العلمي للميمات أضعف بكثير من الدليل التاريخي على وجود المسيح- أمر يعتبره دوكينز على نحو مكشوف موضع تساؤل، فيما يُدافع بشراسة عن الميمات (1). ولأنّ الدليل على الميمات هش للغاية هل يجب أن نفترض ميما للاعتقاد في الميمات في المقام الأول ؟ (2).

لكن دوكينز قد يرد بأنّ الإخفاق المزعوم لمسعاه في إظهار أن أصل الدين طبيعيّ بحت هو فعلاً قليل الأهمية. من يأبه كيف تُبرر جذور الدين حينما يكون شريراً على هذا النحو في التطبيق ؟ لذا يجب أن نعود وندرس ما إذا كان الدين كما يود دوكينز منا أن نعتقد يُعدّ محور الشر الذي يُهدّد بإرجاع الحضارة إلى عصر مظلم جديد.

ص: 75


1- Ibid., p. 250. His own view seems to be that Jesus probably did exist (ibid., p. 97). The reasons for this important judgment are not stated or defended.
2- See Alan Costall, "The 'Meme' Meme," Cultural Dynamics 4 (1991): 321-35.

ص: 76

الفصل الرابع

هل الدين شر؟

ص: 77

الفصل الرابع : هل الدين شر؟

اشارة

الدين شر! عندما يختفي عن وجه الأرض ،يمكن أنّ نعيش بسلام ! هي فكرة مألوفة. الإله الذي لا يؤمن به دوكينز هو تافه ،ظالم ،لا يرحم، مهووس بالسيطرة؛ هو حاقد، متعطش للدماء، ويُمارس التطهير العرقي. هو كاره للنساء والمثليين، وعنصري وقاتل للأطفال، ومُصاب بجنون العظمة، وسادي مستأسد لديه نزوة حاقدة»(1). لنفكّر بهذا الأمر، أنا لا أؤمن بإله من هذا الشكل في الواقع، لا أعرف أحداً يؤمن بإله كهذا.

دوكينز على الأقل لديه الجرأة على تقدير هذه النقطة. الإله الذي أعرفه وأحبّه يصفه دوكينز بأنْ لا طعم له» ومُلخّص في فكرة «مقرفة ومثيرة للغثيان» حول «يسوع اللطيف، الوديع والبسيط». فيما بعض القراء سيشعر بالإهانة بسبب هذا الوصف، وقد يكون الانتقاد الأخف للدين في أي موضع آخر في كتابه.

الدين يؤدّي إلى العنف

أعتقد أنّ دوكينز محق تماماً عندما يكشف ويتحدّى العنف الديني. أنا معه تماماً وآمل أنّ لا تُحجب قوة فكرته بعدم الدقة لمعظم ما تبقى من كلام في كتاب «وهم الإله». من الواضح أنّ حنقه موجّه بالأساس ضدّ التطرّف الإسلامي، ولا سيما أشكاله

ص: 78


1- Richard Dawkins, The God Delusion (Boston: Houghton Mifflin, 2006), p. 31.

الجهادية(1). كلّ منا بحاجة إلى العمل للتخلّص من عالم التأثير المؤذي للعنف الديني. في تلك النقطة، أنا ودوكينز نتفق.

لكن هل هذه ميزة ضروريّة للدين ؟ هنا، أنا لا بدّ أنّ أصرّ بأن نتخلّى عن الفكرة البالية بأن جميع الأديان تقول الأمور نفسها إن بالزائد أو الناقص. ومن الواضح أنّها ليست كذلك. أنا أكتب كمسيحيّ يؤمن بأنّ وجه الله وإرادته وميزته تتجلّى كلّها في المسيح الناصري. وكما يعرف دوكينز ، المسيح الناصري لم يمارس العنف ضدّ أيّ شخص.

بل تعرّض للعنف ولم يكن وكيله وبدلاً من مواجهة العنف بالعنف والغضب بالغضب، طلب من المسيحيين برم الخد الآخر وعدم السماح بأن يعتريهم الغضب. وهذا كله له علاقة باقتلاع جذور الغضب كلاً، هو أكثر من ذلك: إنّه التجلّي.

أهمية هذه الأخلاقيات أنّه يمكن رؤيتها في حادثة مأساوية حصلت في أميركا الشمالية في تشرين الأول 2006 ،في غضون أسبوع على نشر كتاب «وهم الإله». من المثير للاهتمام، تظهر الحادثة الجانبين الإيجابي والسلبي للدين. رجل مُسلّح مع نوع من الضغينة الدينية (كان «غاضباً من الله» )اقتحم مدرسة أميش في بنسلفانيا وأطلق النار فقتل خمس طالبات في الحادثة والأميش مجموعة دينية بروتستانتية ترفض أي نوع من العنف على حساب فهمها للسلطة الأخلاقية للإنسان وتعاليم يسوع الناصري. رغم مقتل أولئك الطالبات، حثّ مجتمع الأميش على المسامحة. فلم يحصل أيّ عنف أو انتقام بل دعت الجماعة إلى الغفران. تحدّثت أرملة المسلّح بشكل مؤثّر مع جزيل من الشكر حول كيفيّة أنّ هذا الأمر منحها وأطفالها «المعافاة» التي كانوا بأمس الحاجة إليها».

ص: 79


1- See ibid., pp. 301- 7.

يتعطاف دوكينز مع الأميش. لكن لا يسعني إلا أنّ أشعر بأنّه تجاهل أمراً أكثر أهمية. إذا كان العالم أشبه بيسوع الناصري، فإنّ العنف فعلاً يكون أمراً من الماضي. لكنّه ليس الجواب الذي يُشعر دوكينز بالراحة(1).

كشخص ترعرع في إيرلندا الشمالية، أعرف تمام المعرفة ما يعنيه العنف الديني. لا شكّ في أنّ الدين يمكن أن يُولّد العنف. لكنّه ليس وحيداً في هذا المضمار . إنّ تاريخ القرن العشرين نبّهنا للغاية كيف يمكن للتطرّف السياسي أن يُسبّب العنف بالتوازي. في أميركا اللاتينية ملايين من البشر «اختفوا» نتيجة حملات العنف الشرسة التي شنّها سياسيو الجناح اليميني ومليشياتهم وفي كامبوديا أباد بول بوت الملايين من شعبه باسم الاشتراكية (2).

كان لصعود الاتحاد السوفييتي أهمية خاصة. اعتبر لنين أنَّ القضاء على الدين أمر مركزي من أجل الثورة الاشتراكيّة، وحدّد كل الإجراءات الرامية إلى إزالة المعتقدات الدينية من خلال «الاستخدام المطوّل للعنف». وكانت إحدى المآسي الكبرى لهذه الحقبة السوداء في تاريخ البشرية حين اعتقد الذين سعوا إلى محو المعتقد الديني من خلال العنف والاضطهاد أنّ لديهم الحق في فعل ذلك . ولا وجود لسلطة تحاسبهم أعلى من سلطة الدولة.

في أحد تصريحاته العقائدية الأكثر غرابة كمُلحد ، يُصرّ دوكينز على عدم وجود أيّ «دلیل» يقول إنّ الإلحاد يؤثر في نحو منهجي بالناس لفعل الأمور السيئة. هو بيان مذهل وساذج ومحزن بعض الشيء. من الواضح أنّ دوكينز ملحد في برجه العاجي،

ص: 80


1- Ibid,, pp. 329- 31.
2- For a good discussion, see Keith Ward, Is Religion Dangerous? (Oxford: Lion, 2006).

منفصل عن العالم الحقيقي والوحشي للقرن الواحد والعشرين. لكن الحقائق مغايرة. في مسعاها لتطبيق عقيدتها الإلحادية دمرت السلطات السوفييتية السواد الأعظم من الكنائس وقضت على الكهنة خلال الفترة الممتدة بين عامي 1918 و(1)1941. وفي الاحصاءات أعداد مُروّعة. ومورس هذا العنف والاستبداد لتطبيق جدول أعمال إلحادي: القضاء على الدين .

هذا بصوبة يكاد يتلاءم مع تصريح آخر من تصريحات دوكينز العقائديّة: «أنا لا أعتقد بأنّ هناك ملحداً في العالم يُقدم على جرف مكة - أو كاتدرائية شارتر أو كاتدرائية يورك مينستر أو كاتدرائية نوتردام»(2). للأسف هذا الإحساس النبيل هو تصريح حول سذاجته الشخصيّة لا حقيقة الأمور. إنّ تاريخ الاتّحاد السوفييتي حافل بإحراق ونسف عدد هائل من الكنائس والتماسه بأنّ الإلحاد لا يعرف العنف والاضطهاد اللذين يربطهما بالدين لا يمكن ببساطة الدفاع عنه ويدلّ على غباشة كبيرة أمام عينيه .

إن وجهة نظر دوكينز الساذجة بأن الملحدين لا يمكن أن يرتكبوا الجرائم باسم الإلحاد تتكسّر على صخور الواقع الصلبة. ومثال واحد يكفي. في الدراسة الشهيرة للمفكّر المعارض المسيحي الروماني بيتر توتي (1902-1991)، يوثق الباحث من أوكسفورد إلكسندر بوبسكو الانحطاط الجسدي والعقلي الذي عاناه توتي كجزء من الاضطهاد الديني في رومانيا خلال الحقبة السوفيتية لغاية إسقاط نيكولاي تشاوشيسكو وإعدامه(3). خلال تلك الحقبة، قضى توتي ثلاثين عاماً وهو سجين رأي

ص: 81


1- Anna Dickinson, “Quantifying Religious Oppression: Russian Orthodox Church Closures and Repression of Priests 1917- 41," Religion, State Society 28 (2000): 327-35.
2- Dawkins, God Delusion, p. 249 (italics added).
3- Alexandru D. Popescu, Perre Tutea: Between Sacrifice and Suicide (Williston, Vt.: Ashgate, 2004).

وثمانية وعشرين عاماً تحت الإقامة الجبرية وقصته الشخصية تُنير درب أولئك الذين يريدون إدراك سلطة المعتقد الديني من أجل التحكّم والحفاظ على الهوية الشخصية بالضبط تحت أشكال الاضطهاد التي يعتقد دوكينز أنّها غير موجودة.

ينكر دوكينز ببساطة الجانب الأسود للإلحاد، ما يجعله غير مُخوّل ليكون ناقداً موثوقاً للدين. وهو لديه إيمان راسخ في الصلاح الشامل للإلحاد، ويرفض تعريضه للفحص النقدي. بلى، ثمة الكثير من الخطأ في الدين المعاصر وهناك الكثير ما يجب إصلاحه. لكنّ الأمر واحد في ما يخص الإلحاد، الذي يحتاج إلى التعرّض للانتقادات الفكرية والأخلاقية ذاتيّة البحث مع استعداد الأنظمة الدينيّة لأن تتعرّض لها.

حقيقة الأمر أنّ البشر قادرون على اقتراف العنف والتميّز الأخلاقي على حدّ سواء - وأنّ كليهما قد يُثار نتيجة أفكار ،عالميّة سواء كانت دينية أو لا. هي ليست فكرة مريحة، لكنّها من النوع الذي يُنذرنا بعيوب ومخاطر تحديد أي فئة من البشر على أنّها مصدر للعنف والعلل الإنسانيّة. هي قد تسهّل إلقاء المسؤولية على الآخرين، لكنّها لم تنهض بقضية الحضارة.

إساءة الإنسان للمثل العليا

أعتقد أنّ دوكينز يحتج بأنّ الأفكار العالمية الدينية تقدّم المحفزات من أجل ارتكاب العنف بما لا يتوازى مع مجالات أخرى على سبيل المثال، فكرة دخول الجنة بعد تنفيذ هجوم انتحاري(1). لكنّ هذا الاستنتاج متسرع بعض الشيء وحجته ضعيفة. لا بدّ من النظر إلى كتاب وهم الإله كواحد من الكتب المولودة

ص: 82


1- Dawkins, God Delusion, pp. 303- 4.

من رحم الأحداث التي يُشار إليها اليوم عالمياً باسم أحداث 11 أيلول(1). بالنسبة لدوكينز، من الواضح أنّ المعتقد الديني يؤدّي إلى العمليّات الانتحارية . هي وجهة نظر ينشدها قادته العلمانيون الأقل انتقاداً ،ما يدلّ على أنّهم لم يقرأوا الأبحاث التجريبية التي تفنّد الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى تنفيذ هجمات إرهابية في المقام الأول.

كما أظهر روبرت بايب في بحثه القاطع عن الحوافز وراء هجمات كهذه، استناداً على مسح جميع التفجيرات الانتحارية منذ عام 1980، فإنّ المعتقد الديني، أيّاً كان، ليس ضرورياً أو كافياً لأن يولد انتحاريين - برغم التبسيط الذي يقدمه دوكينز(2) (فلنتذكر «الحزام الناسف» الشهير الذي اخترعه نمور التاميل الانفصاليين في سيريلانكا في عام 1991). ويقول بايب إنّ الحافزية الأساسية هي سياسية: الرغبة في إجبار القوات الأجنبية على الانسحاب من الأراضي المحتلة التي يعتقد الشعب المستضعف أنّها له، شعب تكون الموارد العسكريّة التي بين يديه محدودة للغاية. وهذا ليس الكلام الذي يودّ دوكينز سماعه، لكنّه عنصر مهم في إمعان النظر في كيفية نمو هذه الظاهرة وما المطلوب للقضاء عليها.

ولكن يبدو أنّ دوكينز لديه إجابة مغايرة. لأنّ الدين هو المشكلة، فإنّ بزواله تعمّ المنفعة العامة على الحضارة. إلا أنّ دوكينز يبدو أكثر خجلاً في تفسيره كيفية

ص: 83


1- Others include Daniel C. Dennett, Breaking the Spell (New York: Viking Penguin, 2006); and Sam Harris, The End oj Faith: Religion, Terror, and the Future oj Reason (New York: Free Press, 2006).
2- Robert A. Pape, Dying to Win: The Strategic Logic oj Suicide Terrorism (New York: Random House, 2005). See also the nuanced discussions in Diego Gambetta, ed., Making Sense of Suicide Missions (Oxford: Oxford University Press, 2005).

زوال الدين. ثمة خطر كبير بأنّه يؤدي انتقاد دين أناس مُعيّنين إلى إساءة تفسير ليتحوّل الأمر من انتقاد أو تشجيع على إلى كراهية تجاههم كمجموعة اجتماعية. إنّ الانتقاد القانوني للأفكار الدينية يمكن بسهولة جداً أن يفتح الطريق أمام الذمّ الخطير والمثير للقلق بحق الناس.

القضية الحقيقية هي أنّ الدين يمتلك القدرة على رفع شأن الصراعات والخلافات البشريّة العاديّة، فيُحوّلها إلى معارك كونيّة بين الخير والشر بحيث تكون للسلطة والرغبة في واقع متعال علاقة. وتكون المعركة المقدّسة كونية، وانتدابها ينتقل إلى الشؤون على وجه الأرض. وحين يتصاعد الموقف تسود القيود العادية والتسويات التي تسمح للبشريّة بحلّ الحالات التي من المحتمل أن تنفجر (1).

لكنّ دوكينز يفشل في تقدير أنه حين يرفض مجتمع ما فكرة الإيمان بالله، فإنه يميل إلى إعلاء البدائل-مثل أفكار الحرية أو المساواة. فهذه تصبح الآن سلطات شبه مقدّسة، حيث من غيرالمسموح لأحد أن يتحدّاها. ربّما المثال الأشهر عنها يعود إلى الثورة الفرنسيّة، إذ كانت الأفكار التقليدية عن الله وقتها تُترك لاعتبارها قديمة وتُستبدل بها القيم الانسانية العالية.

جلبت السيدة رولاند إلى المقصلة لتنفيذ حكم الإعدام بحقها نتيجة تهم ملفّقة في عام 1792 وأثناء استعدادها لملاقاة مصيرها، انحنت ساخرة اتجاه تمثال الحرية في قصر الثورة وتمتمت بكلمات حفظت ذكراها: «أيتها الحرية، كم من جرائم ارتكبت باسمك». جميع المثل - سواء كانت إلهيّة أو متعالية أو إنسانيّة أو مُخترعة - يمكن أنّ

ص: 84


1- See the important study of Malise Ruthven, Fundamentalism: The Search for Meaning (Oxford: Oxford University Press, 2004).

تُنتهك. وتلك هي الطبيعة البشريّة. وبمعرفتنا تلك نحن بحاجة إلى القيام بما هو مطلوب حيال ذلك لا أن ننتقد دون تمحيص في الدين.

لنفترض أنَّ حلم دوكينز بات حقيقة وزال الدين هل ذلك سيلغي الخلافات بين البشر ؟ بالتأكيد لا في نهاية المطاف الخلافات تلك هي بنى اجتماعية تعكس الحاجة الاجتماعيّة الأساسية للمجتمعات بغية تعريف وتحديد أولئك الذين «فيها» والذين «خارجها» من هم «أصدقاء» ومن هم «خصوم». لقد سلط الضوء في السنوات الأخيرة على أهمية «التناقض الثنائي» في وضع المفاهيم للهوية، ليس أقله بسبب النقاش الأساسي بين المدارس المختلفة للأفكار الهامة حول ما إذا كانت تلك التناقضات تحدّد وتشكّل الفكر البشري أو هي نتيجة الفكر البشري. فحصلت سلسلة من «التناقضات الثنائيّة» الأساسيّة التي شكلت الفكر الغربي، مثل الذكر-الأنثى والأبيض- الأسود . هذا التناقض الثنائي يؤدّي إلى بناء فئة تُلخّص بالطرف « الآخر» وهي النصف منخفض القيمة في التناقض الثنائي، حين تُطبق على البشر. فهوية المجموعة تُعزّز في أغلب الأحيان عبر تحديد «الآخر» - على سبيل المثال كما هي الحال في ألمانيا النازية، مع تناقضها المتمثل ب_«اليهودي - الآري». أحياناً، هذا التناقض الثنائي يُحدّد بمصطلحات دينية - مثلاً البروتستانتي - الكاثوليكي أو المؤمن - الكافر.

وكما هو معروف، التناقض الثنائي المتمثل بالكاثوليكي- البروتستانتي يُنظر إليه على أنّه معياري في إيرلندا الشماليّة. فكلّ طرف اعتبر خصمه هو «الآخر»، مفهوم عزّزه بلا هوادة الروائيون والمؤثرون الآخرون في الرأي العام(1). إنّ التغطية الإعلامية للاضطراب الاجتماعي في إيرلندا الشمالية من عام 1970 ولقرابة عام 1995 عززت

ص: 85


1- See Michael Wheeler, The Old Enemies: Catholic and Protestant in Nineteenth - Century English Culture (Cambridge: Cambridge University Press, 2006).

قبول هذا الحكم لكنَّ هذا تناقض مشروط تاريخياً تشكله وتحدّده قوى اجتماعية معقدة. هي ليست ظاهرة دينية بالتحديد. فالدين رسم الحدود الاجتماعية وكان المهيمن في هذا الوضع في حالات أخرى، كان الترسيم مبنياً على أصول عرقية أو ثقافيّة أو ما له علاقة باللغة والجنس والعمر والطبقة الاجتماعية والتوجّه الجنسي والثروة والتبعية العشائرية والقيم الأخلاقية ووجهات النظر السياسية(1).

هذا يُشير بوضوح إلى الدين، أقلّه نظرياً، باعتباره مُحفّزاً محتملاً للغضب والعنف في بعض السياقات. في التطبيق يقوم دوكينز بتنازل كبير أثناء الاعتراف بالأصول الاجتماعيّة للانقسام والاقصاء. «الدين تسمية للعداوة والثأر بين من هو مع الجماعة أو ضدّها، وليس بالضرورة أن يكون أسوأ من التسميات الأخرى مثل لون البشرة أو اللغة أو فريق الكرة المفضّل، بل غالباً يكون متوافراً حين لا تكون التسميات الأخرى»(2). لكن حتّى هنا، يقوده عداؤه للدين إلى بعض الأحكام الإشكالية. ولعرض مثال بالغ الوضوح: نادراً ما يكون الأخذ بالثأر له أصول في الاهتمامات الدينية(3).

الاعتقاد البسيط بأنّ زوال الدين سيؤدّي إلى القضاء على العنف أو التوتر الاجتماعي أو التمييز هو اعتقاد ساذج على الصعيد الاجتماعي. هو يُخفق في الأخذ بعين الاعتبار السبيل الذين ينتهجه البشر في إنشاء القيم والمعايير، وفَهم هوياتهم

ص: 86


1- See the analysis in Stephen E. Cornell and Douglas Hartmann, Ethnicity and Race: Making Identities in a Changing World (Thousand Oaks, Calif.: Pine Forge, 1998); Fredrik Barth, Ethnic Groups and Boundaries: The Social Organization of Culture Difference (Prospect Heights, 111.: Waveland, 1998); and Jane Hubert, Madness, Disability, and Social Exclusion: The Archaeology and Anthropology of "Difference" (New York: Routledge, 2000).
2- Dawkins, God Delusion, p. 259.
3- See the brilliant study of Edward Muir, Mad Blood Stirring: Vendetta in Renaissance Italy (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1998).

وما يُحيط بهم. إذا كان الدين سيزول من الوجود، سيظهر راسمو الحدود الاجتماعية الآخرون على أنّهم العصب، وبعضهم سيغدو متعالياً في حينه. ليس لدوكينز أي اهتمام في علم الاجتماع، كما يمكن التوقع. لكن دراسة كيفية تصرّف الأفراد والمجتمعات تصوّب شكاً خطيراً على أحد التأكيدات الأساسية في تحليله.

من الثابت أنّ التحيّز والتمييز يحصلان نتيجة المفهوم وهويات الجماعة (1). التعميمات المقزّزة بشأن الدين والإقصاء والعنف ستؤخّر وتؤجّل ببساطة أيّ حلّ للمشاكل الحقيقية التي تعانيها البشرية ومسألة الدور المستقبلي للدين في الغرب هي مهمة لأبعد الحدود بحيث يجب أنّ لا تُترك للمتعصبين أو الأصوليين الملحدين. هناك حاجة حقيقية للتعامل مع الأسباب المطلقة للانقسام الاجتماعي والاقصاء. والدين له دور إلى جانب عدد هائل من العوامل الأخرى بلى، هو يمكن أن يُسبب المشاكل. لكن لديه القدرة أيضاً على التحوّل، تأسيس إحساس عميق بالهوية والقيمة الشخصيّة، وتحقيق التلاحم الاجتماعي(2). لنتجاوز هذا الخطاب ونقفز إلى الواقع. لهو أبسط بكثير من الأفكار النمطية لدوكينز لكنّه قد يساعدنا في معالجة القضايا الاجتماعيّة الحقيقيّة التي تواجهنا في الثقافة الغربية المعاصرة.

يسوع وحبّ الجار

يُوجّه انتقاد في أغلب الأحيان إلى الدين بأنّه يُشجّع على تشكيل جماعات ضمن وخارج المجتمع. بنظر دوكينز، زوال الدين أساسي إذا كان يُراد محو هذا الشكل من

ص: 87


1- Bruce E. Blaine, The Psychology of Diversity: Perceiving and Experiencing Social Difference (Mountain View, Calif.: Mayfield, 2000).
2- This theme is particularly emphasized by Emile Durkheim, The ElementaryForms of the Religious Life (New York: Macmillan, 1926).

الترسيم الاجتماعي والتمييز.لكن كثيرين يتساءلون ،ماذا بشأن يسوع الناصري. ألم يكن ذلك موضوعاً جوهرياً في تعاليمه أنّ حبّ الله يسمو على تلك الانقسامات الاجتماعية ولاحقاً يقضي عليها ؟

تحلیل دوكينز هنا غير مقبول. ثمة نقاط في إنكاره للدين تصل إلى حد التسلية وببساطة تغدو مضحكة .في تعامله مع هذه المسألة هو يتوجّه على نطاق واسع إلى مقالة كتبها جون هارتونغ في مجلة سكبتيك في عام 1995، ويؤكد فيها أن:

يسوع كان متعصباً لأخلاق الجماعة نفسها - مع كراهية ضدّ من هم ليسوا ضمن الجماعة - وكان أمراً مفروغاً منه في العهد القديم كان يسوع يهودياً مخلصاً. وكان بول من استنبط فكرة نقل الإله اليهودي إلى الوثنيين وهارتونغ يتحدّث عن هذا الأمر بصراحة لا أجرؤ أنا عليها لكان يسوع تململ في قبره لو علم بأنّ بول سيأخذ خطته إلى الخنازير»(1).

كثيرون هم المسيحيون الذين سيندهشون بعد قراءة هذه الكلمات جرّاء التحريف الغريب للأمور حيث تُقدّم كما لو أنّها حقيقة مجرّدة. وآسف لأقول إنّه أسلوب دوكينز: السخرية والتحريف والتحقير والتشويه. لكن على الأقل هي أمور تكشف للقرّاء المسيحيين كيف يكون هناك افتقار إلى أيّ موضوعية علمية أو شعور الإنسان بعدالة تسود الآن الأصولية الإلحادية.

هناك نقطة صغيرة في محاججة هراء أصولي كهذا. هي جديرة بالاهتمام كمحاولة إقناع من يعتقد بسطحيّة الأرض بأنّ الكون في الواقع دائري. ويبدو أنّ دوكينز أسير وجهة نظره بأنّه لا يستطيع تقييم البدائل. لكنّ كثيرين من القرّاء يُقيمون ردّاً أكثر

ص: 88


1- Dawkins, God Delusion, p. 257.

اطلاعاً ويمكن الاعتماد عليه أكثر من قبول خطابات دوكينز المعادية للدين. فلننظر إلى الأشياء كما هي في الواقع.

في المقام الأول، يمدّ يسوع بوضوح أمر العهد القديم «أحبّ الجار» ليشمل «أحب عدوّك» (متى إصحاح 5:44). أبعد من تأييد العدائية تجاه من هم خارج الجماعة، يسوع أثنى على التأكيد العرقي خارج الجماعة وأمر به. وبما أن هذه الميزة من تعاليم المسيح لمتى معروفة ومميزة، ليس مغفوراً أنّ لا يأتي دوكينز على ذكرها. قد يتهم المسيحيون بالتأكيد أنّهم أخفقوا في الرقيّ إلى هذا المستوى. لكنّها ميزة موجودة، وهي في قلب الأخلاق المسيحيّة(1).

ثانياً، قرّاء كثيرون قد يُشيرون إلى أنّ الرواية المعروفة عن السامري الصالح (لوقا 10) توضح أنّ الأمر ب_«حبّ الجار» يتعدى بكثير اليهودية (بالفعل، هذه السمة من تعاليم يسوع الناصري يبدو أن لها انعكاساً على الناس المشتبهين بأنَّ المسيح فعلاً سامري؛ أنظر يوحنا 8:48 ). من المؤكد أن المسيح، وهو يهودي فلسيطيني، منح أفضليّة لليهود على أنهم شعب الله المختار، لكن تعريفه عن «اليهوديّ الحقّ» كان واسعاً للغاية. فتضمّن أولئك الذين سلخوا أنفسهم عن اليهودية عبر التعاون المطلق مع القوات الرومانية المحتلة . في العهد الجديد هذه الجماعة يُشار إليها بطرائق مختلفة على أنّهم «الخطاة » و «جامعو الضرائب» و «العاهرات» (على سبيل المثال متى 21: 31-32 لوقا 15 :2-1) . وإحدى التهم الأساسية التي وجهها المنتقدون من داخل اليهودية للمسيح كانت قبوله المفتوح لأولئك من هم خارج الجماعة. وفعلاً

ص: 89


1- Dawkins cites the Jewish prayer thanking God for not making the supplicant a Gentile, a woman or a slave (ibid., p. 259). He fails to point out that Jesus repudiated such sentiments (Luke 18:9-14).

جزء كبير من تعاليمه يمكن اعتباره دفاعاً عن سلوكه اتجاههم(1). إنّ ترحيب يسوع بالجماعات المهمّشة التي اتخذت موقفاً غامضاً ما بين من هم «داخل» الجماعة وخارجها يشهد أيضاً على مدى رغبته في التواصل مع أولئك الذين يُعتبرون بناءً على ثقافته أنّهم مذنبون عقائدياً (مثلاً متى 8:3؛9: 20-25).

إنّ موقف المسيح من الوثنيين اليونانيين - الرومانيين كما رُوي في الأناجيل هو أكثر حذراً وتناقضاً في كلّ حسابات الشفاء لأشخاص كهؤلاء على يد المسيح (متى

8: 13-5؛ 15: 28-22 )يوصف على أنّه منفتح على الإقناع. (بلي-عكس ما يدعيه دوكينز، المسيحية الأرثوذكسية تعتبر المسيح إنساناً تاماً وليس العالم بكل شيء)(2).

صحيح أنّ تحوّل الوثنيين الكبير نحو الطائفة الجديدة في اليهودية حصل بعد موت المسيح فحسب، لكن من الصحيح أيضاً أنّ ذلك كله كان بسبب ما قام به بولس.

مجموعة حميمة من تلامذة المسيح من الجليل من بينهم بطرس ويوحنا وفيلبس ،كان لهم علاقة. هذه الخلافات التي ظهرت داخل الكنيسة القديمة تعلقت بما هي الطقوس والشعائر المطلوبة من قبل الوثنيين الذي اعتنقوا الدين الجديد، وليست قضية التحوّل الوثني بذاته.

ربما يكون انتقاد دوكينز للمسيح جراء تعزيزه «القيم الأسرية المراوغة» ممكناً فهمه أكثر(3) .فدوكينز مَحِقٌ في تحديد تعريف لأولويات الأسرة كواحد من المطالب المتطرّفة التي أمر به يسوع أتباعه. في الواقع المسيح يُعيد تحديد الأسرة وتعريفها

ص: 90


1- See Jeremy Duff and Joanna Collicutt McGrath, Meeting Jesus: Human Responses to a Yearning God (London: SPCK, 2006), pp. 20- 25, 58 -62.
2- Theologically alert readers will note that Dawkins seems docetic in his understanding of Christ at this point (God Delusion, p. 253).
3- Dawkins, God Delusion, pp. 250- 51 .

ارتباطاً به، ثمّ يوسع العلاقة لترحب بمن هم خارج الجماعة. لكن يجدر التأكيد أنّ معظم تعاليم يسوع تؤيّد القيم والعلاقات الأسرية، بما في ذلك استعادة العلاقات الأسرية من خلال كهنوته الشفائي.

أمثلة قليلة كافية لتبيان هذه النقطة. تعاليم المسيح في ما خصّ «القربان» (مرقس (7:11 تمثّل انتقاداً لتقليد ديني ضلَّ طريقه من جهة، وتأكيد مسؤوليات الأسرة من جهة أخرى. ويبدو أنّ فكرة «القربان» (قربان للمعبد أسيء استخدامها ، ما سمح للابن بادعاء أنّه مبرّر له عدم دعم أهله بعد كبرهم في السن ببساطة لأنه حدّد ملكيّته أو جزء منها كهدية إلى المعبد هذه النقطة عزّزها اهتمام يسوع بضمان الاعتناء بوالدته بعد صلبه (يوحنا 19: 26-27). هذا القلق على حياة الأسرة ينعكس أيضاً في تشديد المسيح على أهمية الزواج والحاجة إلى تقدير الأطفال (مرقس 10: 16-1). قرّاء كثر سيُشيرون أيضاً إلى أنّ مثل الابن الضال (لوقا 15: 11-32) تمثل علاقة أسريّة مُرمّمة بين والد وابنه كتشبيه إيجابي لمواضيع الإنجيل.

من المثير للاهتمام أنّ دوكينز يعتقد بأنّه من المهم أنَّ لا تُلغي الثقافة الغربية الإنجيل من برامجها التعليمية. ويقول «يمكننا التخلّي عن الاعتقاد بالله مع عدم خسارة التراث الغالي»(1) بعدها لماذا يُحرّف أحد أهم وأكثر الأجزاء تأثيراً في الصعيد الثقافي لذاك «التراث الغالي» - تعاليم يسوع الناصري؟ لا يتطلب الأمر أيّ شيء أكثر من إلمام عام بالأناجيل للإدراك بأنّه استناد دوكينز على تعاليم يسوع الناصري قابلة للطعن القضية الثقافيّة هنا ليس ما إذا كان ما قاله المسيح صحيحاً أو لا؛ إنَّها تتعلّق بأن نكون على حق في ما قاله المسيح.

ص: 91


1- Ibid p. 344.

المسيحيّة ونقد الدين

إن إخفاق دوكينز في التمييز بين «الإيمان بالله » و «الدين» يجعل من الصعوبة عليه فهم أحد أهم المواضيع في الكتب اليهوديّة والأناجيل على حد سواء- نقد الدين. واحد من أعظم المواضيع في التقاليد النبويّة في الكتب العبرية (بالمناسبة لا يجري التطرّق إليها في شجب دوكينز للإنجيل )هو أن دين بني إسرائيل أصبح فاسداً وبعيداً عن الطاعة المخلصة لإله يُحبّ العدل والرحمة والنزاهة وتُشكّل طبيعة الإله وجهة نظر خارج الدين حيث يمكن الحكم على الشعائر الدينية.

هذا الموضوع يمكن إيجاده في الكتابات النبوية التي تعود إلى ثمانية قرون قبل الميلاد، ومتأصل بطبيعة دين العهد القديم والتقليد النبوي هو غالباً لكن ليس حصراً في توتر مع العبادة خلال مرحلة العهد القديم، خصوصاً حيث يعتبر الملك والعبادة الكهنوتية قد فقدا روح الشريعة والأقوياء يستغلّون الضعفاء . في انتقاد هام للعبادة، يُقارن النبي ميخا المطالب الطقوسية «للقرابين المحروقة» أو

«الآلاف من الأكباش» بمطلب حقيقي لله هو : «بسط العدل وحب الرحمة والمشي متواضعاً أمام

ربك »(ميخا 6 :6-8)

وكان انتقاد النبي إشعياء أنّ إسرائيل كانت مهووسة للغاية بالشعائر الطقوسية التي أخفقت في إنقاذ المظلومين والدفاع عن اليتيم والذود عن الأرملة» (أشعياء 1: -1712).

دوكينز محق حين يقول إنّه من الضروري انتقاد الدين؛ لكنه يبدو غير مدرك أنَّ الدين عنده الوسائل الداخلية للإصلاح والتجدّد. وهذا بيّن خصوصاً في كهنوت يسوع الناصري حيث أخذ في أغلب الأحيان شكل الانتقاد أو الهجوم الصارخ على الأنظمة أو الشعائر الطقوسية، إذ كانت تأتي بين الله وشعبه .وتفكك قوانين السبت يُعد

ص: 92

تجسيداً مثالياً. إنّ ظاهرة الدين هي مؤسسة بشريّة مؤقتة، منفتحة على الإصلاح والتجدّد . وكانت مهمة المسيح تحدّي الأشكال الدينية في زمانه وهذا ما أدّى به في نهاية المطاف إلى الصلب.

في قراءة العهد القديم

مما قيل تواً ، من الواضح أنّ لدوكينز موقفاً سلبياً للغاية تجاه الإنجيل، استناداً على اطلاع سطحي عموماً على مواضيعه وأفكاره الأساسية وإلمام غير ملائم بالنصّ نفسه .عندما يُخبرنا دوكينز بأنّ القديس بول كتب رسالة إلى العبرانيين، تدرك حينها مدى سوء الأمور(1).

ونقاشه الانتقائي للغاية للكتب العبريّة خصوصاً يتخلّله الغضب والسخط، حيث من المحتمل أن ينقلا العدوى إلى كثيرين من قرائه (2). يمكن أن نفهم الحيرة التي

ص: 93


1- Dawkins, God Delusion, p. 253. It has been accepted for several centuries that the author of this letter is not Paul. Other errors and misunderstandings include the bald statement that original sin "lies at the heart of New Testament theology" (p. 251). It does not; it is an Augustinian development, dating from centuries later. Jesus rarely talked about sin at all, and he certainly did not link it with Adam. Jesus' notion of forgiveness was really about liberation from bondage, not moral exoneration. On the face of it, Paul talks quite a lot about sin in the first half of his letter to the Romans. Yet his point is not so much that all have sinned but that all have sinned. His agenda is to establish a level playing field between Jew and Gentile. Dawkins also fails to understand the genre of apocalyptic, as found in the book of Revelation, which Dawkins dismisses as one of the "weirdest books in the Bible." He represents the interpretations of this book associated with the Jehovah's Witnesses as normative for Christianity-for example, the assertion that none of the saved could be women. The 144,000 "sealed" are not identical with the "saved" (p. 257), in that people from every tribe and tongue are saved (Revelation 7:9; 14:6). The 144,000 are probably Christian ascetic "warriors" who are using pacifist means and spiritual warfareto resist secular atheist powers and cosmic evil powers.
2- Twelve of the fourteen references Dawkins cites are taken from the Pentateuch or Torah. The remaining two are from Judges; none are cited from the remaining thirty-six books of the Old Testament.

يعيشها دوكينز في قراءة مقاطع من التوراة الذي يحمله للدلالة على كره النساء وحبّ الانتقام من الأعداء مع تركيز غير مفهوم في وساوس غريبة مثل التضحية بالدم وطقوس الطهارة.

بالطبع كثيرون من القرّاء اليهود وغير اليهود المعاصرين يجدون أجزاءً كثيرةً من حيرة الكتب العبريّة، وربما المروّعة منها، عبر بعدهم الثقافي عن حقبة بعيدة للغاية. تاريخياً من المهم أن نعي أنّ هذه النصوص القديمة بقيت في صدور أناس قاتلوا من أجل الحفاظ على جماعتهم أو هويتهم الوطنيّة في وجه اعتداءات انقضّت عليهم من جميع الجهات أناس كانوا يعطون معنى لوضعهم البشريّ في ما يتعلّق بإله أصبح حيث أصبحت طبيعة تفكيرهم بشأنه تتطوّر أكثر فأكثر خلال الألفية التي خلالها كانت المواد التي تشكّل تلك الكتب تُنتج، شفوياً وخطيّاً (يُقدر دوكينز أنّها «كانت مرصوفة بعضها مع بعض عشوائياً» (1)، والدليل أنّها حُرّرت بعناية وأعيد تحريرها على مر السنين) .

الفقرات التي يعتبرها دوكينز صادمة للغاية تظهر إلى جانب مواد أخرى في التوراة الذي يتجاهله تتطرّق إلى المغفرة والرحمة - قوانين الحثّ على إكرام الغرباء (سفر التثنية 10 :19-17) ووضع حدود لأفعال الأخذ بالثأر (سفر اللاويين 19: 18) تحريم العبودية (سفر اللاويين 25: 43-39 )وإعلان يوبيل للدين (سفر اللاويين 25:-25 28) وتحريم التضحية بالرضع (سفر اللاويين 18: 21؛ 20 :2). كما يتجاهل الأنبياء وأدبيّات الحكمة حيث يُعبّر عن سمو الرؤية الأخلاقيّة اليهودية _ رؤى تستمرّ

ص: 94


1- Dawkins, God Delusion, p. 237.

في تشكيل وتغذية السعي البشري إلى القيم الأخلاقية.

لذا كيف نفهم نحن الكتب العبرية ؟ يطالب دوكينز وهو محق بأنّه لا بدّ من معيار خارجيّ للتعامل مع تفسير تلك النصوص (1). لكن يبدو أنه لا يعي الإصرار المسيحيّ على وجود معيار كهذا - حياة يسوع الناصري وتعاليمه .

يستند المسيحيون في مقاربتهم إلى تعليم المسيح نفسه الذي اعتبر نفسه قد أتى لإتمام الشريعة اليهودية لا محوها متى (5 :17 ). يتبنّى دوكينز وجهة النظر التي تقول إنّ المسيح اعتبر العهد القديم على خطأ وبحاجة إلى تصحيح؛ لكنّ يسوع اعتبر نفسه متمّماً للعهد القديم. ولاستخدام صورة مألوفة للعهد الجديد، لم يخلق المسيح نبيذ الأناجيل من جديد، بل أخذ المياه من الشريعة اليهودية وحوّلها إلى شيء أفضل. تُقرأ الكتب العبرية وتُفسّر من خلال مرشّح أو موشور كريستولوجي. لهذا السبب لا يُطبق المسيحيون - ولم يُطبقوا - الشريعة الطقوسية الموضوعة في صفحات العهد القديم(2).

كعادته ،يتجاهل دوكينز عدم الملاءمة هذا، مُصرّاً على أنّ أخذ الإنجيل على محمل الجدّ يعني« الالتزام التام بيوم السبت والاعتقاد بأنّه من العدل والصواب إعدام أيّ أحد لا يكون ملتزماً». أو «إعدام الأطفال العاصين» (3). يعلم دوكينز أنّ ذلك ليس صحيحاً؛ وهناك ما يكفي من المسيحيّين الذين قالوا له ذلك. لكن تكراره لهذا الهراء يوحي ببساطة أنّه يتوقع من قرائه الاعتقاد جديّاً بأنَّ المسيحيين لديهم عادة رجم

ص: 95


1- Ibid., p. 243.
2- For its basic elements, see Joel Marcus, The Way of the Lord: Christological Exegesis ojthe Old Testament in the Gospel of Mark (Louisville, Ky.: Westminster John Knox, 1992).
3- Dawkins, God Delusion, pp. 249 -50.

الناس بالحجارة حتى الموت. ومن الواضح أنّ التحقق من الواقع أمر سليم.

الدين والرفاهية

لفترة ليست ببعيدة، بقي دوكينز مُصراً على أنّ الدين سيء لك. على مرّ العقد المنصرم كان ثمة تراكم للأدلة الرصدية التي تشير وأعتقد من غير الحكمة استخدام كلمة أقوى - إلى أنّ الاعتقاد الديني والالتزام قد يكون لهما تأثير إيجابي عموماً في الرفاهية وطول العمر. لا بد من التأكيد، في المقام الأول، أن مزيداً من العمل يبقى مطلوباً في هذا المضمار، وثانياً أنّ هذا لا «يُثبت» لحظة أن الدين «صحيح» (كيف يمكن ذلك؟). لكنّه يُشير إلى الأهمية المتنامية لكشف العلاقة بين الروحانية والرفاهية البشرية، دون عوائق من القيود العقائديّة للجدل العلماني أو الديني. والدليل الذي

يربط الرفاهية بالروحانيّة ينمو. وثمة انعكاسات واضحة هنا لسياسة الرعاية الصحية العامة وممارستها فلم يجب استثناء الروحانية من الرعاية الصحية عندما تكون بوضوح تعني الكثير للمرضى في أيّ مقاربة مرتكزة على الهدف من الواضح أنّها إدراج ملائم. هي ليست ما يرغب فيه العلمانيّون المنتشرون على الساحة، بل السبيل الذي يقودنا الدليل إليه(1).

تحدّيتُ دقة شعار «الدين سيء لكم في كتاب إله دوكينز، لافتاً الانتباه إلى الحجم المتنامي للدراسات المبنية على الدليل التي بينت أنّها شيء من هذا القبيل. لكن فيما سُجّلت عليه هذه النقطة، ليس دوكينز راغباً في تعديل سجالاته المعادية

ص: 96


1- See, for example, David Myers, "The Funds, Friends and Faith of Happy People," American Psychologist 55 (2000): 56-67; Harold G. Koenig and Harvey J. Cohen, The Link Between Religion and Health: Psychoneuroimmunology and the Faith Factor (New York: Oxford University Press, 2002); Marc Galanter, Spirituality and the Healthy Mind: Science, Therapy, and the Need for Personal Meaning (New York: Oxford University Press, 2005).

للدين. وتبدو حجّته الآن كما لو أنّنا نقول: « حتّى إن لم يكن الدين دائماً سيئاً ، فهذا لا يُثبت أنّه صحيح». لا يزال دوكينز يُصرّ في عرضه للدين على أنّه حاقد على نحو مُميّز، إن لم يكن عالميّاً. لكن بعيداً عن الاستناد إلى تحليل علميّ موضوعي، نقاش دوكينز حول أثر الدين في الصحة العقلية يستند إلى القصص والإشاعات والبيانات العقائدية

والأفكار النمطية التمييزية.

فلنأخذ هذا البيان التمثيلي: «على سبيل المثال من الصعب الاعتقاد بأن الصحة تتحسّن جرّاء حالة شبه دائمة من الشعور بالذنب المرَضي يعانيه كاثوليكي روماني امتلك ضعفاً بشرياً عادياً وأقلّ من الذكاء العادي»(1). هذه هي نظرة دوكينز للأمور: لا أستطيع فهم ذلك - لذا لا بد أن يكون خطاً. لكن الحقيقة لا تُحدّد من خلال ما يجد دوكينز صعوبة في الاعتقاد به بل ما يُشير إليه الدليل التجريبي العلمي - سواء أحبّ دوكينز ذلك أو لا، أو اختار أنّ يعتقد به أو لا. إلا أنّه في كتاب «وهم الإله» حيث النقاش كامل يحق لنا توقّع كميات هائلة من الأدبيّات العلمية بناء على علاقة الجوانب الضارّة والصحيّة للدين على سبيل المثال كما يتبيّن في البحوث واسعة النطاق لكنيث بارغامنت وزملائه(2). لكن هو مثال آخر على تحيّز دوكينز المعرفّي المتفشّي، حيث يُبرز الدليل الذي يرغب فيه ويُهمل أو يُسقط الدليل الذي لا يُعجبه.

دوكينز أيضاً ينتقد بشدّة الممارسات الدينية التي يعتبرها غريبة الأطوار أو بلا جدوى أو ضارّة. ويبدأ قائمته من الأمثل بتلك الممارسات الدينية البغيضة ذات العلاقة

ص: 97


1- Dawkins, God Delusion, p. 167.
2- Kenneth I. Pargament, The Psychology of Religion and Coping: Theory, Research, Practice (New York: Guilford Press, 1997); Kenneth I. Pargament et al., “Patterns of Positive and Negative Religious Coping with Major Life Stressors," Journal for the Scientific Study of Religion 37 (1998): 710-24.

بالصيام(1). لكن حرمان النفس المتعمّد من الطعام هو ميزة مشتركة للحياة البشرية ،سواء اتَّبع من وجهة نظر دينيّة أو غير دينيّة. في كلّ من الحالتين، يمكن للمرء تحديد المقاربات «الصحيّة» وغير الصحيّة كما يُبيّن الجدول في الأسفل.

المقاربات الصحيّة وغير الصحية للصيام

الصورة

هذا يُظهر أنّه من المحتمل الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الحقيقي بين ما هو

ص: 98


1- Dawkins, God Delusion, p. 166.

«ديني» و«غير ديني» كما هو واقع ليس في السلوك نفسه بل في المعنى المنسوب إليه والهدف الموجّه إليه(1). إضافة إلى ذلك السلوك الديني ليس صحياً في جوهره أو غير صحي في جوهره .

قد يقول دوكينز إنّه بنظره الصوم ليس له هدف مفيد؛ لكن هذه الحجة تنبثق من نفور أساسي من جانبه للسماح بأنّ الدين يمكن أن يكون صالحاً أو مساعداً أو مهماً، أو أن تحقيق أو تعزيز الأهداف الروحيّة هو مُرضِ على الصعيد الشخصي أو يؤدّي إلى الرفاهية.

أريد أن أختم هذا الفصل بتعليق حكيم لمايكل شارمر، رئيس جمعية الارتياب العلميّ. في استكشافه للانبعاث المعاصر للدين ، أشار شارمر إلى أن للأديان دوراً في بعض المآسي البشرية، مثل الحروب المقدّسة. ومع انتقاد محق لذلك - انتقاد أؤيده بسرور- يواصل شارمر الإشارة إلى نقطة يوافق عليها معظم الملحدين الذين أعرفهم. من الواضح أنّ ثمة جانباً إيجابياً هاماً للدين:

برغم ذلك ،في كلّ واحدة من تلك المآسي العظمى هناك عشرات آلاف الأعمال التي تنمّ عن رحمة شخصية وخير اجتماعي ولم يأت على ذكرها.... والدين، كسائر المؤسسات الاجتماعية لعمق تاريخي وأثر ثقافي كهذا، لا يمكن تصغيره إلى خير أو شرّ لا لبس فيه (2) .

لِم مفكّرون مُلحدون كُثر يؤيدون تعليق شارمر؟ لأنّ ذلك بالضبط ما يُظهره الدليل.

ص: 99


1- See especially Nicholas Lash, Easter In Ordinary: Reflections on Human Experience and the Knowledge of God (Charlottesville: University Press of Virginia, 1988).
2- Michael Shermer, How We Believe (New York: Freeman, 2000), p. 71.

لكنّ الغزّل التحقيري والعدائي الذي يُمارسه دوكينز دون هوادة على الدين يفضي إلى الاعتقاد بأنّه شرّ عالميّ لا لبس فيه وهو تهديد خطير على الحضارة. وفيما يعتبر دوکینز بوضوح أنّ شارمر سلطة مختصة ومتعاطفة للحكم من خلال طعنه في كتاب «وهم الإله»، هو ليس لديه الرغبة في اعتماد التحليل المتوازن والحصيف الذي يمثله شارمر(1) . لِمَ لا؟ أخاف أن يكون الجواب بسيطاً: لأنّه لا ينفع الكلام الماهر والبسيط الذي سيعيد تأكيد عدم الإيمان بالله.

هذه هي ميزة العمل التي تؤدّي إلى انتقاده من خلال انتقادات مطلعة كثيرة من كل جوانب النقاش وكما يقول تيري إيجلتون، مع سخرية تعكس سخطاً واضحاً على الكاريكاتيرات المضحكة عن الدين في كتاب «وهم الإله»:

هكذا هو الحياد العلمي الهادئ عند دوكينز بحيث إنّه في كتاب يتألّف تقريباً من أربعمائة صفحة، يمكنه بشق الأنفس الاعتراف بأنّ منفعة بشريةً واحدةً تتدفق من اعتقاد ديني، وجهة نظر بديهيّة لكنّها بعيدة الاحتمال كما لو أنّها خطأ من

الناحية التجريبية (2).

لا بدّ أنّ يكون الإلحاد فعلاً في حالة مزرية إذا كان المدافع المعاصر الريادي عنه يجب أن يعتمد بهذا الثقل - وبهذا الوضوح - على غير المحتمل والخطأ لتدعيم قضيّته.

ص: 100


1- Dawkins, God Delusion, p. 102 (see also pp. 127, 168), citing approvingly Shermer's How We Believe.
2- Terry Eagleton, “Lunging, Flailing, Mispunching: A Review of Richard Dawkins' The God Delusion," London Review of Books, October 19, 2006. For Eagleton's own perceptive and critical comments on this important issue, see Terry Eagleton, Holy Terror (New York: Oxford University Press, 2005).

الخاتمة

كلّ وجهة نظر عالميّة، سواء كانت دينيّة أو لا، لديها نقطة ضعف. وثمة توتّر بين النظرية والتجربة، ما يطرح أسئلةً بشأن تماسك وموثوقية وجهة النظر نفسها. في حالة المسيحيّة، كثيرون يُحدّدون نقطة الضعف بأنّها في وجود المعاناة في العالم. وفي حالة الإلحاد هي الإصرار على الإيمان بالله، حين يكون من المفترض أن لا وجود لإله يُعتقد بوجوده.

إلى فترة ليست ببعيدة، انتظر الإلحاد الغربي بصبر، مُعتقداً أنّ الإيمان بالله ببساطة سيزول. لكن الآن من الواضح أنّ حالة من الذعر تسود بدل أن يزول الإيمان بالله ينتعش ويبدو أنّه لا يزال يحظى بتأثير أكبر على الساحتين العامة والخاصة على حدّ سواء. وكتاب «وهم الإله» يُعبّر عن هذا القلق العميق ممّا يعكس جزئياً حالةً من النفور الشديد تجاه الدين. لكنّ ثمة أمراً أعمق ها هنا، وغالباً ما يجري التغاضي عنه في غمرة النقاش الساخن. القلق هو أنّ تماسك الإلحاد بحدّ ذاته على المحك. فهل من المحتمل أن يؤدّي الانبعاث غير المتوقع للدين إلى إقناع الكثيرين بأنّ الإلحاد بذاته فيه عيوب قاتلة باعتبارها وجهة نظر عالميّة ؟

يبدو أن الغاية من كتاب «وهم الإله » إعادة طمأنة الملحدين الذين يترنّح إيمانهم لا بهدف تحقيق مناقشة منصفة أو قوية مع المتدينين أو أولئك الساعين إلى إيجاد الحقيقة (يتساءل المرء عمّا إذا كان مردّ ذلك لكون الكاتب نفسه ملحداً يترنّح إيمانه).

ص: 101

إنّ المتدينين سينزعجون جرّاء صورة النمطية الطقوسية عن الدين وسيجدون أن افتقار الكتاب الواضح إلى العدل يُعدّ رادعاً هاماً عن أخذ حججه ومخاوفه على محمل الجد. أما الباحثون عن الحقيقة الذين يعتبرون أنفسهم غير متدينين

قد يعيشون الصدمة جرّاء كلام دوكينز العدائي وإحلاله التصريحات العقائدية الشخصيّة محلّ المشاركة الموضوعية المبنيّة على الدليل ونبرة البلطجة والغطرسة تجاه المتدينين ،وتصميمه التام على عدم إيجاد أيّ شيء سوى العيب في الدين من أي نوع كان.

هو هذا القلق العميق بشأن مستقبل الإلحاد ما يُفسّر «درجة الدوغمائية العالية» و«الأسلوب الخطابي العدائي» لهذه الأصولية العلمانية الجديدة (1). والأصولية تعلو وتيرتها حين تشعر أي وجهة نظر عالميّة أنّها في خطر، فتستشرس ضدّ أعدائها حين تتخوّف على مستقبلها إن كتاب «وهم الإله» عبارة عن عمل مسرحيّ لا علميّ - هجوم كلامي شرس على الدين والتماس عاطفي بأنّه يخبو إلى قعر المجتمع بحيث لا يستطيع إلحاق أي ضرر. لا أحد لديه الشك بالإغراء الحشوي الذي سيكون لهذا الكتاب على جمهور علماني يُحذِّر من الأهمية السياسية الجديدة المرتبطة بالدين وتأثيره المتنامي وحضوره على الساحة العامة. إن موقفه الرافض للدين دون أدنى شك سيحظى باستحسان أولئك الذين يمقتون الدين بشدّة.

لكن آخرين كانوا أكثر حذراً .فنتيجة إدراك الالتزام الأخلاقي لأي ناقد للدين يتطرّق إلى هذه الظاهرة على أفضل وجه وعلى نحو أكثر اقناعاً، كثيرون شعروا بالانزعاج جرّاء الصور النمطية الفظة التي لجأ إليها دوكينز، إضافة إلى المعارضات

ص: 102


1- See the points made by Nicholas D. Kristof, “A Modest Proposal for a Truce on Religion," New York Times, December 3, 2006.

الثنائية المبسطة إلى حدٍّ كبير (العلم حسن؛ الدين سيء ) ، والمغالطات البهلوانية، والعدائية تجاه الدين. هل من المحتمل أن يكون لكتاب « وهم الإله» نتائج عكسية ويؤدّي في نهاية المطاف إلى إقناع الناس بأنّ الإلحاد متعصّب ومذهبي وبغيض بقدر السوء الذي يتميز به الدین؟

يبدو أنّ دوكينز يعتقد بأنّ قول شيء ما بصوت مرتفع جداً وبثقة عالية، مع تجاهل أو تحقير الدليل المضاد، من شأنه أنّ يُقنع أصحاب العقول المنفتحة أنّ الاعتقاد بالدين هو نوع من الوهم . للأسف، تشير الأبحاث الاجتماعية عن القادة الذين يتمتعون بالكاريزما - سواء كانوا متدينين أو علمانيين إلى أنّ دوكينز قد يكون محقاً في وضع أمل ما على هذه الإستراتيجيا. بالنسبة للبسطاء والسذج هي الثقة بما يُقال ما يُقنع لا الدليل المقدّم لدعمه. لكن الحقيقة هي أنّ دوكينز يستند إلى حدّ بعيد على البلاغة لا على الدليل الذي من ناحية أخرى هو رأس ماله الطبيعي ما يُشير بوضوح إلى أنّ ثمة أمراً خاطئاً في هذه المسألة. ومن المفارقات أنّ الإنجاز النهائي لكتاب «وهم الإله» للإلحاد المعاصر قد يكون الإيحاء بأنّ هذا الإمبراطور ليس لديه ثياب ليلبسها. فهل من المحتمل أن يكون الإلحاد وهماً حول الله ؟

ص: 103

هذا الكتاب

تصدى مؤلفا هذا الكتيب لدحض مزاعم دوكينز في كتابه (وهم الاله)، وقد كان انطباعهما العام عن هذا الكتاب في نظرة تقييمية محايدة أنه يستند إلى تحليل علمي بسيط وفيه تكهنات زائفة أغلبها مستعار من كتابات ملاحدة أقدم

وفي كلمة أخيرة: (إنّه في أغلبه ليس سوى مجموعة من الأخبار الموجزة الملائمة والمبالغ فيها بغية تحقيق أقصى الأثر، وهو مرتب بصورة فضفاضة من أجل الإيحاء بأنه يملك حجة).

لذا يغوصان معه في نقد الأسس والبنى التي اعتمدها في كتابه (وهم الاله) ليثبتا أنّ الدين ليس خرافة والإله ليس وهماً.

المرة العام للدراسات الامة النحة

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 104

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.