بسم الله الرحمن الرحیم
التوحید
محاولة هادفة لقراءة التوحید فی ضوء نهج البلاغة
تحقیقاً لمقاربةٍ فکریةٍ في فاعلیّة الدَّلیل ومستویاته، ومقارنة ذلك بموضوعیّةٍ مع رؤیً أُخری، ثم الاحتکام للمعاییر العلمیَّة
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1517 لسنة 2019
مصدر الفهرسة: IQ-KAPLI ara IQ-KaPLI rda
رقم تصنيف LC: BP217.4. K4 T3 2019
المؤلف الشخصي: الخرسان، محمد صادق السید محمد رضا - مؤلف.
العنوان: التوحيد: محاولة هادفة لقراءة التوحيد في ضوء نهج البلاغة تحقيقًا لمقاربة فكرية في فاعلية الدليل ومستوياته، ومقارنة ذلك بموضوعية مع رؤىً أخرى، ثم الاحتكام للمعايير العلمية /
بیان المسؤولیة: بقلم محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، تقديم مؤسسة علوم نهج البلاغة / السيد نبيل الحسني.
بیانات الطبع: الطبعة الاولی.
بیانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسینیة المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.
الوصف المادي: 136 صفحة؛ 24 سم.
سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 652).
سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية؛ 169).
سلسلة النشر: (الدراسات والبحوث العلمية؛ 19).
تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 130 - 134).
موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 406 - 359 للهجرة - نهج البلاغة.
مصطلح موضوعي: التوحيد.
مصطلح موضوعي: التوحيد - آراء.
مصطلح موضوعي: التوحيد في القرآن.
مصطلح موضوعي: التوحيد - احاديث.
مصطلح موضوعي: علم الكلام - الشيعة الامامية.
مؤلف اضافي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 -، مقدم.
اسم هيئة اضافي:العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.
تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية
ص: 1
رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1517 لسنة 2019
مصدر الفهرسة: IQ-KAPLI ara IQ-KaPLI rda
رقم تصنيف LC: BP217.4. K4 T3 2019
المؤلف الشخصي: الخرسان، محمد صادق السید محمد رضا - مؤلف.
العنوان: التوحيد: محاولة هادفة لقراءة التوحيد في ضوء نهج البلاغة تحقيقًا لمقاربة فكرية في فاعلية الدليل ومستوياته، ومقارنة ذلك بموضوعية مع رؤىً أخرى، ثم الاحتكام للمعايير العلمية /
بیان المسؤولیة: بقلم محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، تقديم مؤسسة علوم نهج البلاغة / السيد نبيل الحسني.
بیانات الطبع: الطبعة الاولی.
بیانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسینیة المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.
الوصف المادي: 136 صفحة؛ 24 سم.
سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 652).
سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية؛ 169).
سلسلة النشر: (الدراسات والبحوث العلمية؛ 19).
تبصرة ببليوجرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 130 - 134).
موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 406 - 359 للهجرة - نهج البلاغة.
مصطلح موضوعي: التوحيد.
مصطلح موضوعي: التوحيد - آراء.
مصطلح موضوعي: التوحيد في القرآن.
مصطلح موضوعي: التوحيد - احاديث.
مصطلح موضوعي: علم الكلام - الشيعة الامامية.
مؤلف اضافي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 -، مقدم.
اسم هيئة اضافي:العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.
تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية
ص: 2
سلسلة الدراسات والبحوث العلمية (19)
وحدة الدراسات العقدية
التوحید
محاولة هادفة لقراءة التوحید فی ضوء نهج البلاغة
تحقیقاً لمقاربةٍ فکریةٍ في فاعلیّة الدَّلیل ومستویاته، ومقارنة ذلك بموضوعیّةٍ مع رؤیً أُخری، ثم الاحتکام للمعاییر العلمیَّة
بقلم
محمد صادق السید محمد رضا الخرسان
اصدار
مؤسسة علوم نهج البلاغة
فی العتبة الحسینیة المقدسة
(169)
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة
العتبة الحسينية المقدسة
الطبعة الأولى 1440 ه - 2019 م
العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام
مؤسسة علوم نهج البلاغة
هاتف: 07728243600 - 07815016633
الموقع الألكتروني: www.inahj.org
الإيميل: Info@Inahj.org.
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
فلم يزل كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يقتصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية فحسب، بل شمل غيرها من العلوم التي تسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام: 38)، كذا نجد يجري مجراه
ص: 5
في قوله تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» (يس: 12)، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضرًا وشاهدًا فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية (علیه السلام) فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.
من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات العلمية المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب(سلسلة الدراسات والبحوث العلمية) التي يتم عبرها طباعة هذه الكتب وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه بغية إيصال هذه العلوم إلى الباحثين والدارسين وإعانتهم على تبيين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين (علیه السلام) والسير على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.
ص: 6
وما هذه الدراسة التي بين أيدينا إلا واحدة من تلك الدراسات التي أسهمت في بيان مطالب معرفية عديدة ارتبطت بأهم ركن من أركان الفكر الإسلامي ألا وهو التوحيد لا سيما والباحث قد غار في بحر معارف كتاب نهج البلاغة وانتهل من فكر جده أمير المؤمنين (علیه السلام) مظهرًا أن قراءة الإمام أمير المؤمنين للتوحيد (قد شكلت علامة بارزة في التعريف به كمفهوم، والتعرّف على براهينه وأدلته، حتى تجاوز التأثير المعرفي للإمام (علیه السلام) حدود هذه الأمة أو تلك، فاستقطب الباحثين عن قنوات الفكر الأصيل، والمعرفة النقية، واجتذبهم إلى محاور علومه، مع تنوع انتمائاتهم وتعدد ثاقفاتهم).
فجزى الله الباحث خير الجزاء فقد بذل جهده وعلى الله أجره لنصرة الحق وأهله.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
السيد نبيل الحسني الكربلائي
رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة
ص: 7
ص: 8
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله الطاهرين.
وبعد.. فإنَّ البحث حول «التوحيد» في ضوء نهج البلاغة، يكتسب أهميته من محور البحث ومصدره؛ إذ يهدف الباحث للتعرف على أهم محاور العقيدة، وتقديم رؤية فكرية حوله، وبلورة نتائج ذلك، بقراءة متأملة في نصوص أحد المصادر المهمة للمعرفة الانسانية، بما يضيف قناة أمينة لفهم حقيقة التوحيد ومعطياته، في ظل تعددية الأفهام في الساحة الفكرية، بما يثير هواجس القلق من الابتعاد عن البوصلة، وتضييع الهدف، في زحمة الرؤى المعروضة، والأفكار المتعارضة، بين إفراطٍ وتفريطٍ، فكان التطرّف من نصيب الأطروحتين، وهو خطر عظيم يلزم تدارك أضراره، وتحجيم مساحة آثاره؛ وذلك عبر مراجعة
ص: 9
فاحصة للعقائد ومصادرها، لتأمين عقيدة سليمة، ومعرفة صحيحة، تقوم على أسس الاستدلال العلمي في هذا المجال المهم، الذي يحدد موقف الانسان دنيوياً، ونجاته أخروياً، كما أنه يساعد على تنقية المجتمع من شوائب الأفكار، وإفرازات ردود الأفعال، التي انتشرت سريعاً أفقياً وعمودياً، بما يدعو لدراسة الأسباب، ومعالجة النتائج، وتطويق الآثار السلبية لظاهرة التمرّد على دلالة العقل والفطرة، وما يقدِّمان من البراهين المتاحة كونياً للمتأملين.
وبعد هذه المقدمة، سيتضمن البحث تمهيداً للإجابة عن عدة أسئلة:
لماذا البحث حول التوحيد؟؛ مع أنه من الموضوعات التراثية، التي قد تعددت حولها جهودُ الكُتّاب، ولا موجب لبحثه مجدداً في هذه المرحلة، بل يجب تناول قضية معاصرة ومعالجتها وفق رؤية علمية جديدة.
ولماذا كان اختيار كتاب «نهج البلاغة» كمصدر أساس للبحث؟، مع أنه مصدر قديم، لم يختص بعلم الكلام، بينما التوحيد من الموضوعات الكلامية.
على أنْ يتم بعد التمهيد، تعريف التوحيد والبرهنة عليه عقلیاً، مع الاستدلال بنصوص ذات إطار فطري؛ ليتعرّف مع
ص: 10
القاريء بوجدانه على التوحيد، ويتابع خطوات البرهنة والاستدلال عليه بعقله وفطرته وذوقه الحسي؛ فيستشعر متانة البرهان وجمالية النصوص وقوة أصدائها في النفس، حتى يتبلور لديه فهمٌ قويمٌ للتوحيد، عبر رؤية الإمام أمير المؤمنین علي علیه السلام ومعطيات قراءته التوحيدية الأصيلة، وما قدّمه من براهين وأدلة متنوعة تُثبِت المطلوب؛ حيث أنه علیه السلام قد راعی تعدد مستويات المتلقين، واختلاف مداركهم الذهنية، وتنوّع مصادر معارفهم وثقافاتهم، فوفّر للجميع قاعدة بيانات سليمة، تتيح لهم معرفة التوحيد بوضوح، والقدرة على إثباته للآخر.
وبذلك قد شكّلت قراءةُ الإمامِ أميرِ المؤمنین علیه السلام علامةً بارزةً في التعريف بالتوحيد كمفهوم، والتعرّف على براهينه وأدلته، حتى تجاوز التأثير المعرفي للإمام علیه السلام حدودَ هذه الأُمة أو تلك، فاستقطب الباحثين عن قنوات الفكر الأصيل، والمعرفة النقية، واجتذبهم الى محاور علومه، مع تنوّع انتماءاتهم، وتعدد ثقافاتهم، لكنه علیه السلام كان مُعلِّماً للجميع، قوياً على التعليم، أميناً على العقول، فحافَظَ على إنسانية المتلقين، وحفَظَ منظومة الفكر؛ حيث عرَضَ مفاهيم الدين وأوضحها؛ لئلا تختلط بغيرها من الدخيل غير الأصيل، وحذّر من اتباع الأهواء عند اختلاف الأجواء؛ قال علیه السلام:
ص: 11
(إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ، أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه، ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه،
فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ،
ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ
الْمُعَانِدِينَ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ
فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنى)(1)، أعان الله تعالى الجميعَ على الأخذ بأسباب النجاة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
النجف الأشرف
ليلة 21 / رجب / 1440 ه 29 / 3 / 2019 م
محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان
ص: 12
إنَّ موضوعة التوحيد، من موضوعات المعرفة الفاعلة حياتياً؛ لأنها ذات حيوية متجددة في حياة الإنسان؛ لاحتياجه المستمر الى ما يحدّد موقفه الصحيح من علاقته بخالقه، التي على أساسها تتشكل عقيدته بطابع إيجابي أو سلبي، فهي علاقة في صميم الوجدان.
ولذا لابد من البحث الواعي في ذلك، والحوار حوله، وتحديث المعلومات بما يقدِّم فهماً صحيحاً للتوحید، يوضّح معالمه، ويقاوم مؤثرات الأفكار الأخرى؛ لانقسام أفراد المجتمع بين معوّل على مرتكزات فطرته، وبين مجادل فيها، وما بينهما اصطفافات فكرية أخرى، مما يدعو لاختيار أساليب علمية قادرة على قراءة التوحيد بموضوعية، تتناسب مع أنه عقيدة ومنهج فكري في الحياة، وليس من الترف الفكري؛ بما أوجب التعرّف عليه من المصادر الرصينة، القادرة على عرض المفهوم، وتوضيح الحقيقة؛ لتتحدّث قاعدة بيانات الفرد، وإلا
ص: 13
كان اجتراراً للمعلومات، وإبقاءً على أسلوبها الرتيب، وهو ما لا يناسب أهمية السؤال عَمَنْ خَلَقَ الكون؟، فهو سؤال مازال يتردد في مختلف الأمكنة، ومع تنوّع مصادر الثقافة عبر الأزمنة، مما يؤكد عمق حضور محتوى السؤال، وقوة صداه في النفس، بحيث لم يكفِ لجوابه: أنه وُجد صدفة، أو بالانفجار العظيم «الكبير»؛ لأنه جواب غير مقنع؛ إذ كما قال:
1. الفيزيائي الرياضي آلبرت إنشتاین (1879 - 1955 م):
(الله لا يرمي النرد)(1)، أي لا مجال للاحتمال والصدفة؛ وذلك رداً منه على الفيزيائي الألماني فيرنر هایزنبرج (1901 - 1967 م)(2)، القائل بمبدأ: الاحتمال وعدم اليقين(3)، الذي يكفي لنفيه، قولُهُ تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ»(4)، «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(5)؛ وأثبته فعلاً انتظامُ ما في الكون وفقاً لتقدير دقیق، في إطار
ص: 14
أنظمة علمية، تشهد بعدم حدوث ذلك كله صدفةً، بل لغايةٍ وحكمةٍ، ما زال الإنسان يسعى للتعرّف على معادلاتها، ويبحث عن قوانينها.
2. الفيزيائي البريطاني: ستيفين هو کِنج (1942 - 2018 م): (إذا كانت هناك معادلات تشير الى احتمالية نشأة شيء من لا شيء، فستظل هذه المعادلات دائماً في حاجة الى مَنْ ينفخ فيها القدرة على الفعل، فالمعادلات لا تخلق، لكنها تصف الفعل.
ويقول في حوار أُجري معه بعد نشر کتاب موجز تاریخ الزمن: إنَّ توصلَنا لمعادلات تشرح كيف بدأ العالَم، لا يعني أنَّ الإله غير موجود، ولكن يعني أنه لم يخلق الكون عشوائياً، ولكنه خلَقَهُ تبعاً لقوانين)(1).
وبهذا فقد (أقرَّ هوکِنج بأنَّ قوانين الفيزياء حددت كيف بدأ الكون، فكأننا نقول فقط: إنَّ الإله لم يختر أنْ يسلك الكونُ بصورة اعتباطية مزاجية، ولا نقول شيئاً عن أنَّ الإله موجودٌ أو غير موجود، فقط تقول: إنه ليس اعتباطياً مزاجياً)(2).
ص: 15
كما أنَّ (فكرة حدوث الانفجار الكبير، تقودنا إلى السؤال عن ماذا حصل قبل ذلك؟ ومَنْ الذي كان يدبِّر الأمور؟، إنَّ الطبيعة كانت لها بداية محدّدة، لا أستطيع أنْ أتصور طبيعةً تخلق نفسها، فقط قوة خارج الزمان والمكان قادرة على ذلك، ولكن ما الذي حدَثَ بعد الانفجار الكبير؟، ما الذي أوصلنا الى الوجود بعد ما يقرب من عشر بلايين سنة من الانفجار العظيم؟)(1).
فكان لزاماً تقدیم جواب علمي منطقي؛ حتى:
1. يضيف شيئاً في المعادلة، فيتجه السائل الى برمجة حياته وفقاً لذلك، ولا تخترقه الشوائب «الفيروسات» الفكرية، بل يتحصن منها باتباع دلالة عقله.
2. يترشد المنتَج الفكري، فتتاح فرصةُ تهذيبِ المجتمعِ، وتعزيزِهِ ببراهين مَحْكَمَةٍ وأدلة مُقْنِعَةٍ، وليست بالقناعات الشخصية، والإملاءات المؤدلجة، بل بما ينسجم وضوابط البحث الموضوعي.
ص: 16
3. يتاح للمهتمين تطوير بحوثهم التخصصية، بتحديث مفاتیح البحث، وتجديد آليات الخطاب، وتقديم مستويات جديدة في العرض أو الاستدلال، ليفي ذلك باستحقاقات التوحید کموضوعة علمية حفّزت الباحثين لمداومة البحث، وتحقيق مرحلة جديدة من التكامل المعرفي.
وبذلك اتّضحت أهمية البحث حول التوحيد.
وأما لماذا كان اختيار «نهج البلاغة» كمصدر أساس للبحث؟، فكون كتاب «نهج البلاغة» وهو: ما جمعَهُ الشريف الرضي السيد: محمد بن الحسين الموسوي (ت 406 ه) من کلام الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، من مصادر المعرفة الإنسانية وتراثها الفكري(1)، لامتداد أثره إنسانياً،
ص: 17
وعدم تحدده موقعياً بمكان أو زمان أو أشخاص(1)؛ وذلك لما امتاز به من معالجات لمختلف قضايا الإنسان والحياة، وتنوّع أدوات معالجاته بين الخُطبة والمراسلة والوصية والكلمة القصيرة، فقارَبَ أفهام مختلف المستويات، وأوضح لهم أنماط الاستدلال المتعددة، بما يضيف للمتلقي أفقاً جديداً في
ص: 18
قراءة مشهد المعرفة العام؛ إذ احتوى نهج البلاغة فكراً وعی حجمَ المسئولية، فأدى الرسالة للإنسان كله، واهتم بترشیده فكره وفعله.
ومن دلائل ذلك: قراءة نهج البلاغة للتوحيد، واهتمام الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام به كأحد محاور العقيدة؛ بما يوضح منهجه الفكري، ويحدد معالم عقيدته، ويضيف مصدراً مهماً لفهم التوحيد والبرهنة عليه، وعندها تعرف الأجيالُ كافة هويةَ أتباعِ الإمام أمير المؤمنین علیه السلام، بما يُبطل الإتهام بالشرك أو غيره؛ حيث تلقي الاتباع من إمامهم أمير المؤمنین علیه السلام نصوصاً في توحيد الخالق تعالی، مؤطرةً بالبراهين والأدلة، المطابقة للعقل، والموافقة للوجدان، بما يشهد بصحة صدورها منه علیه السلام؛ لما في هذا التوافق العلمي من دلالة على الواقعية، وهو من القرائن والشواهد المهمة التي يذعن بها جميع العقلاء، ولا يُناقشوا معه بضعف السند، أو سلامة النص، أو صحة الدلالة، بل يحتكم الجميع للبرهان العقلي في حوارات المسائل العقدية ونحوها، وعدم إملاء النتائج على أحدٍ مسبقاً، أو تجييرها لطرفٍ على حساب غيره، بل عبر عقلنة الاستدلال، ومتابعة خطواته المبرهن على صحتها وقوة أسسها، والا لما تحقق الغرض المرجو من الاستدلال.
ص: 19
فامتاز کتاب نهج البلاغة، بقدرة فائقة على تقديم رؤى الإسلام وتقريبها، عبر تمثّله لها فكراً حيوياً، يلامس مشکلات الحياة بحلول مستدامة، تتيح للمتأملين الإفادة منها، واستشعار جدواها، كأطروحة فاعلة في تحريك أجواء البحث العلمي، المقارَن مع دراسات تهتم بإثبات التوحيد عبر تحلیلٍ عامٍ للطبيعة، ومحاولة فهم ديناميكية عمل مختلف الظواهر الكونية، ودراسة النتائج المرصودة، بما يؤكد وجود مدبّرٍ عاقلٍ قادرٍ حکیمٍ، يدير نظام الكون بجميع ما فيه، بنسق واحد، في مختلف الزمان والمكان، والا فلو لم يوجد هذا المدبّر، كيف كان التعاطي مع مجموعات متكاثرة، عبر أنظمة مقننة دقيقة؟، وفي ظل التزام الجميع بتلك الأنظمة، وعدم حدوث أزمةٍ في القيادة، أو اعلانِ أحدٍ عن مشاركته في الخلق أو التنظيم؟!، بما يبرهن على وحدة مصدر القرار والإدارة؛ «هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا»(1).
كما امتاز نهج البلاغة بتأصيل الفهم الصحيح لقضايا المعرفة، في عرضٍ أدبيٍّ بليغٍ، جامعٍ بين التزامات الماضي واستحقاقات الحاضر وتطلّعات المستقبل، بما يوثِّق لاهتمامٍ واضحٍ بالأجيال كافة.
ص: 20
(ويستمر تولّد الأفكار في نهج البلاغة من الأفكار، فإذا أنت أمام حشدٍ منها لا ينتهي، وهو مع ذلك لا يتراكم، بل يتساوق ويترتب بعضُهُ على بعض، ومن ذكاء عليٍّ المفرط في نهجه، أنه نوّعَ البحثَ والوصفَ، فأحكم في كل موضوع، ولم يَقصِر جهدَهُ العقلي على ناحيةٍ واحدةٍ من الموضوعات، فهو يتحدث بمنطق الحكيم الخبير عن أحوال الدنيا، وهو يصف البرق والرعد والأرض والسماء، ويُسهب في القول في التاريخ الطبيعي، فيصف خفايا الخلق، في الخفاش والنملة والطاووس والجرادة وما اليها، ويضع للمجتمع دساتير، وللأخلاق قوانين، ويُبدع في التحدّث عن خالق الكون وروائع الوجود، وإنك لا تجد في الأدب العربي كلِّه هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم والمنطق المُحكم في مثل هذا الأسلوب النادر)(1).
ولهذه الخصائص كانت لنهج البلاغة الصدارة الفكرية بعد القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة؛ فقد (بَلَغَ عليٌ قمةَ المستوى الإنساني، فما هو بعربي يتحدث الى عرب، ولا بمسلم يحدِّث مسلمين، إنما هو مفکِّر مؤمن يخاطب البشر،
ص: 21
جميعَ البشر، منذ كان في الأرض بشر يعقلون، إلى أنْ يقرر اللهُ مصائرَ خلائقه)(1).
فكانت في خطاب نهجِ البلاغةِ حيويةٌ تأثّر بها الجميع؛ حيث لم تكن نصُوصُهُ باهتةً جامدةً، بل مازالت قادرةً على فتح آفاق المعرفة، واستثارة عقول الباحثين لاكتشاف المزيد، بما يحقق حراكاً علمياً، وينتج مناعةً فكريةً، قد يفتقدهما مَنْ لم يتلمس خصائص هذا الكتاب، الذي اغتني منه كثير، فاهتموا به وحفظوا كثيراً من نصوصه، وأوصوا غيرهم بذلك(2)، (ولا يحصى الا الله عددَ حُفّاظ النهج ونُسّاخه)(3)، لأنَّ (الحكمة عند علي بن أبي طالب وافرة المعنى، جميلة المبنى، يأخذها
ص: 22
عقليةً لا لون لها ولا رسم فتمرُّ في مخيلته، فإذا هي صورة جميلة تترجرج فيها الحياة)(1)، (فقد سبَقَ عصرَهُ بمئات السنين، وأنَّ الأجيال المقبلة ستكشف في شخصيته الفذة، عناصر جديدة من العظمة، وفي علومه و خُطَبِهِ أسراراً تحیّرهم)(2)، و (إنَّ جميع الفِرق الإسلامية، مَدينةٌ للإمام علي، من اليوم الذي برزت فيه للوجود، وإنَّ له أفكاراً في التنظيم الاجتماعي ومكافحة الفقر وحقوق الإنسان... إنَّ له من الآراء الحية التي لا تموت حظاً غير منقوص)(3)، و (إنَّ أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علي علیه السلام وخُطبِهِ، وانها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه، ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه، عَلِمَ أنَّ جميع ما أسهب المتكلمون من بعدُ في تصنيفه وجمعه، إنما هو تفصيلٌ لتلك الجمل وشرحٌ لتلك الأصول)(4)؛ إذ (أشرف العلوم هو العلم الإلهي، ومن كلامه علیه السلام اُقتبس، وعنه نُقِل،
ص: 23
وإليه انتهى، ومنه ابتدأ؛ فإنَّ المعتزلة تلامذته؛ لأنَّ كبيرهم واصل بن عطاء، تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه علیه السلام، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب علیه السلام)(1)، إنه الإمام الذي (أقرَّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله؛ فقد استولی بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعایب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديثٍ يتضمن له فضيلةً، أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يُسمى أحدٌ باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعةً وسمواً، وكان كالمسك كلّما سُتر انتشر عَرفه، وكلما کُتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تُستر بالراح، وكضوء النهار إنْ حُجبت عنه عينٌ واحدةٌ، أدركته عيون كثيره، وما أقول في رجلٍ تُعزى إليه كل
ص: 24
فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئیس الفضائل وينبوعها - بعد رسول الله صلی الله علیه وآله - كلُّ مَنْ بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى)(1)، حتى كان (أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم من الفضائل، ما جاء لعليِّ بن أبي طالب)(2).
ص: 25
التوحيدُ لغةً: مصدر الفعل وحَّد، يوحِّد، توحیداً، فهو موحِّد؛ إذا وصف الله تعالی بالوحدانية، وأنه منفردٌ عما يشاركه في ذاته، أو يشابهه في صفاته.
وهو مشتق من مادة الواو والحاء والدال: أصل يدل على الانفراد(1)، وهو: الإيمان بالله وحده لا شريك له(2).
واصطلاحاً: إثبات صانع واحد موجِدٍ للعالَم، ونفي ما عداه(3)، وأنَّ الله عز وجل واحد لا قدیم سواه، ولا إله غيره، ولا يشبه الأشياء، ولا يجوز عليه ما يصح عليها من التحرك والسكون، وأنه لم يزل ولا يزال حياً قادراً عالماً مدركاً، لا يحتاج إلى أشياء يعلم بها، ويقدر ويحيي(4).
ص: 26
وإنَّ هذا التقارب بين التعريفين اللغوي والكلامي للتوحيد، إما لتأثر الباحث اللغوي بالمنظومة الكلامية، وإما لتحدد الباحث الكلامي بإطار مفردات تعبيرٍ معينةٍ، ومعه فلا يُتوقع اختلافهما في المقام وأمثاله، فكان التوحيد عند الجميع هو: الاعتقاد بإله واحد أحد، لا شريك له.
ص: 27
إنَّ التوحيد (هو: رأسُ كلِّ حكمةٍ وملاكُها، ومَنْ عَدِمَهُ لم تنفعه حِکَمُهُ وعلومُهُ وإن بذَّ فيها الحكماء، وحكَّ بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفارُ الحِكم، وهم عن دین الله أضل من النِعم)(1)، ومن نماذج ما تضمنه القرآن المجید والسُنّة المطّهرة:
1. قال تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(2).
2. «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ»(3).
3.«وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ»(4).
ص: 28
4. «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»(1).
5. «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(2).
6. «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ»(3)
7. قال رسول الله صلی الله علیه وآله: (بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت وصوم رمضان)(4)، وقال:
8. (بُني الإسلام على خمس خصال: على الشهادتين والقرينتين. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفناهما، فما القرينتان؟ قال: الصلاة والزكاة؛ فإنه لا يقبل أحدهما إلا بالأخرى، والصيام، وحج البيت مَنْ استطاع إليه سبيلاً، وختم ذلك بالولاية، فأنزل الله عز وجل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(5))(6).
ص: 29
9. (بُني الإسلام على عشرة أسهم: على شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة، والصلاة وهي الفريضة، والصوم وهو الجُنة، والزكاة وهي الطُهر، والحج وهي الشريعة، والجهاد وهو الغزو، والأمر بالمعروف وهو الوفاء، والنهي عن المنكر وهو الحجة، والجماعة وهي الألفة، والعصمة وهي الطاعة)(1)، وقد كان الاقتصار على الخَمس أو إتمامها عشراً، بسبب تعدد المقام المذكور فيه مجمل ما يجب الالتزام به أو تفصيله، مما يؤكد إقرار اللسان بالتوحيد، والالتزام العملي بأداء غيره من ركائز هذا البناء، وقال:
10. الإمام أمير المؤمنین علیه السلام: (فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ، الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِه تعالى، وأَعْلَامُ حِكْمَتِه، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً
لَه ودَلِيلاً عَلَيْه، وإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُه بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، ودَلَالَتُه عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ)(2)؛ بما يختصر الدليل على وجود الخالق سبحانه؛ إذ كانت آثارُ بديعِ ما خلقه تعالی، دالةً على وجوده؛ لاستحالة وجود المعلول بلا علة، أو السبب بدون مسبِب.
ص: 30
إنَّ التوحيد هو: إثباتُ صانعٍ واحدٍ موجِدٍ للعالَم، ونفي ما عداه.
ويمكن معرفة ذلك وإثباته والصيرورة اليه من عدة جهات؛ فقد يُراد إثبات أصل وجوده تعالى وأنّه واجب الوجود، كما قد يُراد ادراك حقيقة ذاته ومعرفتها، ولكلٍ منهما اعتباره وحدوده الخاصة به؛ وذلك لاختلاف زوايا النظر، وتعددية الاعتبار الملحوظ، وبذا كانت أقسام التوحيد ومراتبه هي:
وهو: الاعتقاد بأنَّ الله تعالى واحدٌ ذاتاً لا شريك له؛ قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، الأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَه والآخِرُ لَا غَايَةَ لَه، لَا تَقَعُ الأَوْهَامُ لَه عَلَى صِفَةٍ، ولَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْه عَلَى كَيْفِيَّةٍ، ولَا تَنَالُه التَّجْزِئَةُ والتَّبْعِيضُ، ولَا تُحِيطُ بِه الأَبْصَارُ والْقُلُوبُ(1)؛ فقد
ص: 31
أوضح علیه السلام أنَّ أحدية ذات الله تعالى وواحديته(1)عينُ ذاته سبحانه؛ لأنه لو كان مركباً، فإما يتركب من أجزاءٍ عقلية فقط، أو منها ومن أجزاءٍ خارجية كالمادة والصورة، أو من أجزاءٍ مقدارية؛ كأجزاء الخط والسطح، والكل منتفٍ عنه تعالى؛ وذلك حيث تنزه عن الماهية؛ لأنه واجب الوجود بالذات فلا ماهية له، ولا تعدد فيه؛ لأنه صِرف الوجود، والا كان ممكناً حتى تكون له ماهية، وهذا خلاف كونه واجب الوجود بالذات، فليس له أجزاء عقلية - من الجنس والفصل -،كما ليس له أجزاء خارجية أو مقدارية؛ لأنه تنزّه عن الجسم والمادة؛ بل هو كما قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:
1. (الأَحَدِ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ)(2).
2. (وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ)(3).
3. (كُلُّ مُسَمّىً بِالْوَحْدَةِ غَيْرَه قَلِيِلٌ)(4)؛ إذ وحدتُهُ تعالى عينُ ذاته ونفسُها، دون أنْ تتخللها شوائب الممكنات؛ إذ لا
ص: 32
حيثية أخرى له تعالى سوى الوجود الأصيل؛ لأنه لو كانت وحدته تعالى عددية، لأمكن فرض الثاني والثالث وهكذا صعوداً؛ كما هو حال الوحدة العددية التي تنطبق على ما يتكرر وجوده؛ فيقال: واحد، اثنان، ثلاثة...، لكنّ ذلك مستحيل في الوحدة الإلهية الحقّة؛ لأنَّ معنى: إنَّ الله تعالى واحد، أنه لا يفترض له ثان أصلاً؛ إذ وحدته سبحانه ليست بعددية، والا كان محدوداً بزمان ومكان، وهو خلاف كونه تعالى أزلياً قديماً، فيستحيل فرض تعدد الوحدة الإلهية؛ لأنها ليست بصفة زائدة على ذاته تعالى، لتوصف بالتثنية والتثليث أو غيرهما من الأعداد، بل هي عينُ الموجود واجبِ الوجودِ بالذات سبحانه، الذي لا تركّب في وجوده الصِرْف؛ قال علیه السلام:
4. (مَنْ وَصَفَه فَقَدْ حَدَّه، ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه، ومَنْ عَدَّه فَقَدْ
أَبْطَلَ أَزَلَه)(1).
5. (لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ ولَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ
أَنْفُسَهَا، وتُشِيرُ الآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا)(2).
فالتوحيد في الذات يعني نفي الشريك والتشبيه والجزء
ص: 33
عنه تعالى، والا كان مركباً، وقد تقدم إثبات بطلانه، كما ويشهد به دليل الفطرة؛ حيث لا يتوجه القلب إلا إلى حقيقة واحدة، ولا يتعلق الرجاء عند تقطّع الأسباب، إلا بقادر مطلق واحد، فلو كان غيره، لتوجه القلب اليه، وتعلق الرجاء به، فعدمُ حصولِ ذلك من أحدٍ - ولو في مرة واحدة - دلالةٌ على عدم وجود شريك لله تعالى؛ رُويَ: (إنَّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: إنَّ الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين علیه السلام من تقسّم القلب؟، فقال أمير المؤمنين علیه السلام: دعوه؛ فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا أعرابي إنَّ القول في أنَّ الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه، فأما اللذان لا يجوزان عليه: فقول القائل: «واحد»؛ يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز؛ لأنَّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفَرَ مَنْ قال: ثالث ثلاثة؟، وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه؛ لأنه تشبيه، وجَلَّ ربُنا عن ذلك وتعالى، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه: فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، وقول القائل: «إنه عز وجل أحدي
ص: 34
المعنى»؛ يعني به: أنه لا ينقسم في وجودٍ ولا عقلٍ ولا وَهْمٍ كذلك ربنا عز وجل)(1).
وهو: الاعتقاد بأنَّ الله تعالى متفردٌ بكون صفاته تعالى عينَ ذاته ولا تزيد عليها، ولا يشبهه في ذلك أحد؛ لأنَّ صفاته تعالى الكمالية الثبوتية(2)إما:
أ - حقيقية؛ كالعلم والقدرة والحياة والغنى؛ فهي صفات اتّصفت بها ذاته، فيمتنع اتصافه بضدها.
ب - إضافية؛ كالخالقية والرازقيّة والإحياء والإماتة؛ فهي صفات أفعاله التي اتّصف تعالى بها وبضدها؛ إذ يقال: إنّ الله تعالى خلق هذا ولم يخلق أخاه بعد، ورزَقَ هذا ولم يرزق ذاك بعد.
ص: 35
التوحيد كما أنَّ:
أ - تعدد الذات والصفات، يستلزم الترّكب من أجزاء، بما يعني الاحتياج إليها وإلى الذي يركّبها، وهو خلاف أنه تعالی قادر؛ حسب ما دلَّ عليه الوجدان والبرهان.
ب - زيادة الصفات على الذات، وأنَّها ليست عين ذاته، فيحتاج الى غيره، ومعه فلا يتصف بصفات الكمال، بل تكون ممكنة الوجود والعدم، وعندها فلا يكون واجبَ الوجود؛ الذي دلّت عليه البراهين والأدلة؛ قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:
1. (كَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه؛ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ
أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ،
فَمَنْ وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه، ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه، ومَنْ جَهِلَه فَقَدْ
أَشَارَ إِلَيهْ، ومَنْ أَشَارَ إِلَیهْ فَقَدْ حَدَّه ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه)(1).
2. (الأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَه قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَه، والآخِرُ
الَّذِي لَيْسَ له بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَه، والرَّادِعُ أَنَاسِيَّ
الأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَه أَوْ تُدْرِكَه، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْه دَهْرٌ
ص: 36
فَيَخْتَلِفَ مِنْه الْحَالُ، ولَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْه
الِنْتِقَالُ،...الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُه سُؤَالُ السَّائِلِينَ، ولَا يُبْخِلُه إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ)(1).
3. (لَا تُدْرِكُه الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ، ولَكِنْ تُدْرِكُه الْقُلُوبُ
بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ، قَرِيبٌ مِنَ الأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلَابِسٍ، بَعِيدٌ مِنْهَا
غَيْرَ مُبَايِنٍ، مُتَكَلِّمٌ لَا بِرَوِيَّةٍ، مُرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ، صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ، لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ، كَبِيرٌ لَا يُوصَفُ
بِالْجَفَاءِ، بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ، رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ)(2).
4. (الَّذِي لَا يُدْرِكُه بُعْدُ الْهِمَمِ، ولَا يَنَالُه غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِي
لَيْسَ لِصِفَتِه حَدٌّ مَحْدُودٌ، ولَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ ولَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ، ولَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ، فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِه، ونَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِه، ووَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِه)(3).
5. (الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا تُدْرِكُه الشَّوَاهِدُ، ولَا تَحْوِيه الْمَشَاهِدُ،
ولَا تَرَاه النَّوَاظِرُ، ولَا تَحْجُبُه السَّوَاتِرُ؛ الدَّالِّ عَلَى قِدَمِه
بِحُدُوثِ خَلْقِه، وبِحُدُوثِ خَلْقِه عَلَى وُجُودِه، وبِاشْتِبَاهِهِمْ
ص: 37
عَلَى أَنْ لَا شَبَه لَه، الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِه، وارْتَفَعَ عَنْ
ظُلْمِ عِبَادِه، وقَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِه، وعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي
حُكْمِه، مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِه، وبِمَا
وَسَمَهَا بِه مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِه، وبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْه مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِه)(1).
6. (هَيْهَاتَ إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ والأَدَوَاتِ،
فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِه أَعْجَزُ، ومِنْ تَنَاوُلِه بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِينَ أَبْعَدُ)(2).
وهو: الاعتقاد بأنَّ اللهَ تعالى وحده خالقُ العبادِ ورازقُهم والقادرُ على العناية بهم، وأنَّ غيرَهُ محتاجٌ اليه في أصل وجوده واستمراره؛ حيث لا يستغني الممكن - أصلاً - عن الواجب، بل يفتقر في ذاته وفعله الى واجب الوجود تعالى؛ منذ أنْ خلَقَ الله تعالى الخلْقَ من العدم، الى أنْ يفنى الخلق؛ إذ ليس سواه سبحانه خالق مستقل بالذات.
نعم، قد تقتضي الحكمة - أحياناً - أْن يأذن تعالى لبعض
ص: 38
عباده بالخلق؛ قال تعالى: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ»(1)؛ وذلك من خلال ما أودعه تعالى من قانون السببية للأشياء، وسائر ما جعله في النظام الكوني الثابت من أنظمة وأدوار، تجري بموجبها الآثار الطبيعية، وأفعال البشر وغيرهم مما يسير بنظام دقيق، على مدى الزمان، وفي مختلف المكان، بما يدل على وجود الخالق، والا لما أمكن لأحدٍ أنْ يخلق شيئاً؛ كما يوثِّق له عجزُ المعترضين أو المشككين عن خلق شيءٍ مهما كان حجمه ودوره الإنتاجي، وبما يدل أيضاً على بطلان الصدفة؛ بما تعنيه من حصول الفعل بلا قصدِ فاعلٍ وإرادته؛ إذ تكون في وضوح بطلانها كتصحيح وجود الأثر بلا مؤثر، أو المسبَّب بلا سبب، فالجميع في استحالته كاستحالة كون الجزء أعظم من الكل؛ لأنَّ العكس هو الصحيح، والا كان القول
ص: 39
بوجود المعلول بلا علة، مناقضٌ لقانون العِلّيَّة نفسه، المعلوم بالفطرة؛ إذ (كلُّ أحدٍ لو شاهَدَ أيّ أثرٍ من الآثار، لا يشك أنَّ لذلك البناء بانياً، ولذلك الزرع زارعاً، ولهذه الصنائع صانعاً، بحيث يستنكر وجود الدار من نفسها، أو أوجدتها الطبيعة، وأحدثتها المادة؛ فطرةً من نفسه، وغريزةً من ذاته، لم يستفدها من معلِّمٍ، ولا اكتسبها من مدرسة)(1)؛ إذ (أنَّ العملية التي تأخذ بها النباتاتُ الطاقةَ، تسمى بالتمثيل الضوئي، هناك حوالي سبعين تفاعل كيميائي منفصل في عملية التمثيل الضوئي، هل حدَثَ ذلك بالصدفة؟ هل هذا معقول؟، لا، لا يمكن تصديق ذلك)(2).
فاتضح أنَّ القول بوجود الإله، ليس بديلاً عن الصدفة؛ بعد ثبوت عدم معقوليتها، ولا أنه ردة فعلٍ لذلك، بل لقيام البرهان على وجود الفاعل، ولقصور العلوم الطبيعية عن تفسير ذاتية
ص: 40
الذاتيات؛ إذ يستمر معها السؤال عن علة ذلك، الذي لا تجيب عنه اللاسببية؛ لأنها هي العشوائية والفوضى، فتتعارض مع قانون العِلّيَّة المعلوم بالفطرة، ومعه لابد من وجود المؤثر والفاعل، وهو الله تعالى؛ قال تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(1)، أو إقدارِهِ تعالى لغيره على الفعل؛ قال تعالى: * «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ»(2)؛ فهو سبحانه يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا؛ باعتبار أنه الخالق المستقل الإرادة بذاته أصالةً، ولم يكتسبه من أحد، وأما غيره: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»، أو ما كان لعيسى علیه السلام من الخلق أو الإبراء أو الإخراج، كما تقدم؛ فجميع الأفعال حاصلة بإذنه تعالى؛ حيث أتاح للفاعل ذلك، فالفاعل المباشر متأخر رتبةً عن فاعليته تعالى، وفي طولها؛ لاستمدادهم جميعاً منه سبحانه؛ لاحتياج الممكن للواجب - فلا تنافي بين الآيتين المباركتين -؛ قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:
ص: 41
1. (فَإِنَّمَا أَنَا وأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُه، يَمْلِكُ
مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا)(1).
2. (قَدَّرَ الأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وقَلَّلَهَا، وقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ والسَّعَةِ، فَعَدَلَ فِيهَا؛ لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا ومَعْسُورِهَا؛
ولِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ والصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وفَقِيرِهَا)(2).
3. (أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِه، وعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِه آثَارُ
حِكْمَتِه، واعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ
قُوَّتِه، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَه عَلَى مَعْرِفَتِه)(3).
4. (أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِه وجَلَالِ كِبْرِيَائِه، مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِه، ورَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ
عِرْفَانِ كُنْه صِفَتِه)(4).
5. (الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وعَوَائِدِ الْمَزِيدِ والْقِسَمِ، عِيَالُه
الْخَلَائِقُ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ... الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُه سُؤَالُ السَّائِلِينَ، ولَا يُبْخِلُه إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ)(5).
ص: 42
6. (قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وخَبَرَ الضَّمَائِرَ، لَه الإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ
والْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ، والْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)(1).
وهو: الاعتقاد بأنه لا يستحق أحدٌ العبادة الا الله تعالى، فلابد للعبد أنْ يُخلص في عبادة ربه، قاصداً التعبّد بها خضوعاً لله سبحانه، فبهذا جاءت الرسالات السماوية، وبلّغت الرسل والأنبياء، والا بطلت العبادة، وكانت رياء؛ حيث يُظهر العبدُ جميلَ الفعلِ رغبةً في حمد الناس لا في ثواب الله تعالى(2)؛ قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام:
1. (اعْلَمُوا: أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ)(3).
ص: 43
2. (الْحَمْدُ لِلَّه خَالِقِ الْعِبَادِ... خَرَّتْ لَه الْجِبَاه، ووَحَّدَتْه
الشِّفَاه... لَمْ يَخْلُقِ الأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ، ولَا مِنْ أَوَائِلَ
أَبَدِيَّةٍ، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّه، وصَوَّرَ فَأحْسَنَ صُورَتَه،
لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْه امْتِنَاعٌ، ولَا لَه بِطَاعَةِ شَيْءٍ انْتِفَاعٌ، عِلْمُه
بِالأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِه بِالأَحْيَاءِ الْبَاقِينَ، وعِلْمُه بِمَا فِي
السَّمَاوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِه بِمَا فِي الأَرَضِينَ السُّفْلَى منها)(1).
3. (لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَه فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً، ولَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ
مَوْرُوثاً هَالِكاً، ولَمْ يَتَقَدَّمْه وَقْتٌ ولَا زَمَانٌ... بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ، والْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ؛ فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِه خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ، قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ)(2).
فيكون استحقاقه تعالى للعبادة؛ بدلالة البراهين العقلية، والدلائل المبثوثة في الآفاق، على أنه المؤثر في ذلك كله؛ بما يكشف عن علمه وتدبيره وقدرته وعظمته، حتى أوجدَ الموجودات، بمختلف أجناسها وأصنافها وأشكالها، وأقدرَها على أدائها لأدوارها الحياتية المتنوعة، التي صيّرها فيها، مما أتاحها لها، فكانت محتاجةً في بدء ايجادها واستمرار وجودها
ص: 44
اليه، ومعتمدةً في ديمومة حركتها الكونية عليه؛ «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ»(1)، «إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ»(2)، «فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»(3)، كما اختصّ تعالى بأنه: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»(4)، «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي»(5)، بما يبرهن على عدم قدرة الخلق، بل عجزهم عن نفخ الروح في شيءٍ، أو منعها عنه؛ لأنَّ حتى إعدام أحدٍ لحياة مَنْ يُتوقع طول بقائه، إنما كان بعلِم الخالق تعالى وحده بمدة حياته، لكنه خفيَ على المخلوق، فظنَّ أنه نزع منه الروح، ولم يعلم بأنَّ أقصى قدرته، أنْ يتوقع حياة أحدٍ أو موته، ولا يمكنه الجزم بذلك، فلو تجاوز الحدّ، لخاب سعيه.
ووهو الاعتقاد بأنَّ الله تعالى وحده تشريعَ الأَحكامِ وتقنينَها؛ إذ له الحقُّ في ذلك، والولاية بالذات على جميع المخلوقات؛ لأنه خالقها ومدبِّرها، والا فلا ولاية لأحدٍ على غيره إلا بجعلٍ
ص: 45
منه تعالى، واستناداً لولايته سبحانه، فمنه تستمد شرعيةُ ولايةِ غيرِهِ، وبذلك يتم تكييفها فقهياً، والا ما كانت لأحدٍ على غيره ولايةٌ بالمفهوم الشرعي؛ «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1)، «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(2)؛ قال الإمام أمير المؤمنین علیه السلام:
1. (قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِه، وعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِه)(3).
2. (إِنَّه لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِه
الْمُؤْمِنُ، ويَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، ويُبَلِّغُ اللَّه فِيهَا الأَجَلَ ويُجْمَعُ بِه الْفَيْءُ، ويُقَاتَلُ بِه الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِه السُّبُلُ، ويُؤْخَذُ بِه لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ)(4)، مما يقرِّر حكمَ العقل بضرورة تدبير أمور المجتمع، وإقامة نظام يُؤمِّن مصالح الناس جميعاً؛ لأنَّ استتباب الأمن مقدّم عقلاً على حدوث الفتنة والهرج والمرج، وما تسببه من سلبيات كثيرة، فولاية الحكم والحاكمية الله تعالى أولاً وبالذات، ثم يجعلها سبحانه
ص: 46
لغيره؛ قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا»(1)؛ لأنَّ الحُكم: (القَضاءُ في الشَّيْء بأنّه كَذا، أو لَيْس بِكَذا)(2)، فهو نوع تأثيرٍ وجعلٍ، ولمّا كان تعالى هو المؤثر المُوجد للأشياء، اختص - دون غيره - بالحكم تكوينياً وتشريعياً؛ «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(3)، «أَلَا لَهُ الْحُكْمُ»(4)، «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ»(5)؛ فلو كان حكمٌ لغيره، لأمكنه التعقيبُ على حكمِ اللهِ ومعارضتُهُ، لكنه لم يحدث ذلك مطلقاً - مع كثرة إدعاءات المدّعين والمشككين - «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ»(6)، ولا يشاركه فيه غيره، فإذا نسَبَ تعالى الحكمَ التشريعيَّ إلى غيره؛ كقوله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(7)، فهو
ص: 47
لبيان: أنَّ الحكم أصالةً لله سبحانه، فلا يستقل به غيرُهُ إلا بإذنه؛ «وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ»(1)، «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ»(2)؛ إذ ذلك هو مقتضی استقلاله تعالى بالحكم، ومن لوازم ثبوته له بالأصالة، ولغيره تبعاً(3).
وهو: الاعتقاد بأَنَّ الله تعالى مستحقٌ للطاعة؛ لكونه الحاكم الولي، فتكشف مخالفة العاصي عن عدم إخلاص توحيده الله تعالى في الحكم، فلا يؤمن بأنَّ «لَهُ الْحُكْمُ»(4)؛ إذ مخالفةُ أَمرِهِ تعالى وحكمِهِ معصيةٌ، وإذا لم يكن العبد مطيعاً، فهو عاص؛ إذ ليس بينهما وصفٌ ثالث للعبد.
بل ما لم يتيقن المخالفُ - حين مخالفته - باستحقاق الله - تعالى للعبادة والطاعة دون غيره، فيكون في بعض درجات الشرك؛ «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ»(5)، وأما لو تيقن بذلك،
ص: 48
ثم خالَفَ يقينَهُ، فهو مشرك؛ لمخالفته تشريع الله تعالى، وعدم التزامه عملياً بما اعتقده من استحقاق الله تعالى للطاعة دون غيره؛ ولذا خالَفَ أوامره ونواهيه؛ قَالَ الإمام الصادق علیه السلام: (خَفِ اللَّه كَأَنَّكَ تَرَاه وإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاه فَإِنَّه يَرَاكَ؛ فَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّه لَا يَرَاكَ فَقَدْ كَفَرْتَ، وإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّه يَرَاكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَه بِالْمَعْصِيَةِ، فَقَدْ جَعَلْتَه مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْكَ)(1).
وقد كان من مميزات التوحيد الإلهي: إنَّه لم توجب أقسامُهُ ومراتبُهُ تعدداً فيه، بل بقي التوحيد مقسمَها، جامعاً بين وحدة اللحاظ وتعدده، فافترقت وحدته تعالى عن وحدة العدد؛ إذ أنَّ واحد الأعداد: هو ما يمكن تكرر وجوده، حتى اختلف بذلك عن سائر الأعداد، وأما أنَّ الله تعالى واحدٌ، فيعني أنه لا يفترض له ثان، ولا يتكرر وجودُهُ، فلا تعدد له مع وحدته؛ حيث أنَّ وحدته ليست بعددية؛ إذ لو كان مما يتكرر وجوده كالواحد العددي، لاستلزم احتياجه الى حدود المكان والزمان، فكان محدوداً متحيّزاً بحيز، لكنه تعالى (الأَحَد بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ)(2)، (بَانَ مِنَ الأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا والْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وبَانَتِ الأَشْيَاءُ مِنْه
ص: 49
بِالْخُضُوعِ لَه والرُّجُوعِ إِلَيْه، مَنْ وَصَفَه فَقَدْ حَدَّه، ومَنْ حَدَّه فَقَدْ
عَدَّه، ومَنْ عَدَّه فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَه)(1)، (لاَ يُشْمَلُ بِحَدٍّ ولاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا، وتُشِيرُ الآلَاتُ إِلَى
نَظَائِرِهَا)(2)، و(كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَه قَلِيلٌ)(3)، الأمر الذي يوضح الفرق بين الوحدة الإلهية الحقّة «العَقَدية»، والوحدة الرياضية العددية؛ لأنه «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(4)؛ قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام: (اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، ولَا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ؛ لأَنَّ
الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً، والْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ
مُسْتَخْلَفاً)(5)، بما يؤكد حقيقة وحدته تعالى واختلافها عن الوحدة عدداً؛ حيث لا يمكن لغير الله تعالى، الجمع بين كينونته المسافر، وبين وجوده مع الأهل الحاضرين في بلدهم، وإنما اختص تعالى بحفظه ورعايته للجميع في وقت واحدٍ، وإنْ تعدد المكان، وما ذاك إلاّ لأنَّ الاعتقاد بوحدته تعالى، مختلف عن ادراك وحدة غيره من الكائنات، وهذا ما يستلزم
ص: 50
استعراض براهين وأدلة عقلية فطرية، حتى يتأملها الإنسان فيدرك حقيقة ذلك بوضوحٍ تامٍ؛ كما حرص الإمام أمير المؤمنين علیه السلام على الاستدلال بطريقة تستثير همة المتلقي؛ ليتفكر في مظاهر دقة الإبداع الكوني، وما خلَقَهُ الله تعالى بمختلف الصور والصفات، والمنافع والمميزات؛ ومن نماذج ذلك:
1. (مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ،
ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ)(1)، فهل وُجدت صدفة؟، أم أوجدها موجدٌ؟، ومَنْ هو؟، فلو كان سوى الله تعالى، فمَنْ هو، وما دلائل وجوده وقدرته؟، وإنْ كان هو الله تعالى، فقد ثَبُتَ المطلوب؛ إذ يستحيل وجود نظام كوني دقيق بلا صانع؛ لما فيه من عجائب الكائنات، ودقائق الخصائص والمعطيات، التي لم تختلف طيلة حقب الزمان، وتعدد المكان عما كانت له وعليه من أدوار
ص: 51
حياتية، ينتفع منها جميع المخلوقات، بما يدعو للتأمل والتدبر في الظواهر الكونية؛ لقوة دلالتها على وجود الخالق تعالى، لكن (لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِه عَهْدَ اللَّه إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّه واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَه، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِه، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِه، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِه، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ)(1).
(فَتَبَارَكَ اللَّه الَّذِي لَا يَبْلُغُه بُعْدُ الْهِمَمِ، ولَا يَنَالُه حَدْسُ
الْفِطَنِ، الأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَه فَيَنْتَهِيَ، ولَا آخِرَ لَه فَيَنْقَضِيَ)(2).
فكان وما زال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام مهتماً جداً بتحفيز الأفراد والأجيال كافة للتفكير المتأمِل في ما يستعرضه من براهين الوجود المُعجز؛ لأنها ميسّرة لمختلف الأفهام، بما ينتج
ص: 52
أنه هناك أله(1)، ويقود الى الإيمان بوجود الخالق؛ لما تحسه الحواس، وتدركه العقول من براهين وأدلة كونية كثيرة، متاحة للتمعن بدلالاتها، وما تحويه من مظاهر القدرة، فسبحان الله:
ص: 53
1. (الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الأَمُوُرِ، ودَلَّتْ عَلَيْه أَعْلَامُ الظُّهُورِ،
وامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ، فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَه تُنْكِرُه، ولَا
قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَه يُبْصِرُه، سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْه،
وقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلَا شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْه، فَلَا اسْتِعْلَاؤُه بَاعَدَه
عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِه، ولَا قُرْبُه سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِه، لَمْ
يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِه، ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ
مَعْرِفَتِه، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَه أَعْلَامُ الْوُجُودِ عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ
ذِي الْجُحُودِ)(1).
2. (إِنَّه لَبِكُلِّ مَكَانٍ وفِي كُلِّ حِينٍ وأَوَانٍ، ومَعَ كُلِّ إِنْسٍ وجَانٍّ،
لَا يَثْلِمُه الْعَطَاءُ ولَا يَنْقُصُه الْحِبَاءُ، ولَا يَسْتَنْفِدُه سَائِلٌ، ولَا
يَسْتَقْصِيه نَائِلٌ، ولَا يَلْوِيه شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ، ولَا يُلْهِيه صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ، ولَا تَحْجُزُه هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ، ولَا يَشْغَلُه غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ، ولَا تُولِهُه رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ، ولَا يُجِنُّه الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، ولَا يَقْطَعُه الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ، قَرُبَ فَنَأَى، وعَلَا فَدَنَا، وظَهَرَ فَبَطَنَ، وبَطَنَ فَعَلَنَ، ودَانَ ولَمْ يُدَنْ، لَمْ يَذْرَأِ الْخَلْقَ باِحْتِيَالٍ، ولَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلَالٍ)(2).
ومن الواضح اهتمام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، بدلالة
ص: 54
مختلف الشرائح على التوحيد، من خلال مرتكزات النفوس من بديهيات العقل، ومسلّمات الفطرة، ودلالاتهما المنطقية، ليقرأ كلُ أحدٍ صفحةَ هذا الكون بجميع حروفها وسطورها، وما فيها من آثار قدرة الله تعالى وعظمته، المتجلية بتطويعه المخلوقات - إرادياً - لإنجاز المهام الموكلة اليهم، وعدم تخلّف أحدٍ منهم عن المسيرة الكونية، بما يدل على وجود مدير يدبِّر نظام الكون، فتنتظم - آثار القدرة - في سلسلة براهين علمية على التوحيد، يفهمها المتلقي العاقل بفطرته، ويُذعن لحقيقة وجود الخالق تعالى، ويعرف:
إنَّ الدين رؤية كونية ذات فلسفة واقعية، ومنظومة أخلاق إنسانية، له أصولٌ ومباديء عقلية، تدل على أصالته، وتشهد لدقة رؤيته في قضايا الحياة، فتوثِقه حقيقةً ذات جذور في وجدان الإنسان، وتمنحه طابعاً من النقاء الفِطري يمتاز به عن الأفكار التي تحاول مقاربة الدليل، الا أنها لم تُثبِت قربها منه، بقدر ما صوّرت معاناةً نفسيةً، وصدمةً أثّرت في صاحبها، حتى لم يقوَ على تجاوز آثارها التي حددت مسارَهُ الفكري في الحياة:
ص: 55
قال دوكنز: (سمعت مرةً شبحاً، وكأنه يتلو صلوات، وكنت سمعت الكثير من القصص عن الرهبان في البيوت القديمة، وأصابني الذعر، ولكن نهضت من السرير، وزحفت نحو مصدر الصوت، وفجأة فهمت: كانت الريح تعصف من خلال ثقب المفتاح، لتخلق صوتاً، استخدمه برنامج المحاكاة في عقلي، ليبني نموذجاً لصوت رجلٍ يتلو الصلوات بجديّة، في مناسبة أخرى كنت في نفس العمر رأيت وجهاً عملاقاً وشريراً بشكلٍ لا يوصف، يحدّق من النافذة في بيتٍ عاديٍّ في قريةٍ على البحر، اقتربت منه بهلع؛ لأتبين الأمر: شيءٌ مبهمٌ...)(1)، وقد (تركت قصةُ صديقِهِ انطباعاً قوياً عنده في فترة شبابه)(2)، مما زاد لديه شحنات رفضه للدين، بل قد أنتج خصومة شخصية بينهما، في ظل انحياز واضح للإلحاد، فألغى جميع احتمالات وجود الإله، في الوقت الذي يفترض بحساب الاحتمالات أنها قائمة، فله طلب ضمانات كونية لقيامها
ص: 56
كحقيقة ماثلة للمتأملين؛ حيث يمكن لأي أحدٍ اختيار أي مخلوقٍ، ليُراقب كيفية نموه وتأثيره بمحيطه وتأثره بغيره، ثم يحكم هل تسير المخلوقات بأنظمة دقيقة، ومعادلات رياضية ذكية؟، ومعه فلابد من وجود خالق لها، أم أنها وُجِدت صدفةً؟، لكن كيف تكون صدفةً؟، مع وجود هذا النظام الدقيق في حركة الكائنات وسيرها بما يعمِّر الأرض، وينمِّي الطاقات، ويتيح الانتفاع منها لمختلف المخلوقات، وما لهذا الحراك من دلالةٍ على إرادة فاعلٍ عاقلٍ قادرٍ على ذلك كلّه، فمَنْ هو؟:
هل هو الله تعالى؛ كما تدل عليه آثار القدرة. أو غيره؟، فمَنْ هو؟، ولماذا لم يبرهن على وجوده؟!، كما دلَّ اللهُ تعالى عبادَهُ على وجوده، حتى صار ما خلَقَهُ وأتقن صنعه، براهين تنطق بالدلالة على وجود خالقها، ومن نماذج دلالات التوحيد؛ قوله تعالى:
1. «اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»(1)؛ أي جعلكم قادرين على عمارة الأرض، ومكّنكم من عمارتها، والاستعمار: جعل القادر يعمِّر الأرض(2)؛ فإنَّ في قابليةِ الأرضِ للتعميرِ،
ص: 57
وقدرةِ الإنسانِ على إعمارها بما ينفعه، دلالة على وجود خالقٍ للكون؛ إذ حدوث الإنسان بعد أنْ كان عدماً، وجعله عاقلاً مختاراً، دليلٌ على وجود مَنْ خَلَقَهُ كذلك، وليس هو الا الله تعالى؛ إذ لو كان غيره، لدلَّ على وجوده، لكنه لم يحدث ذلك مطلقاً، مضافاً الى أنَّ خلق الأرض بما يجعلها مطابقة للمصالح موافقة للمنافع، دليلٌ آخر على وجود الخالق الحكيم تعالى(1)، الذي يستجيب لمَنْ احتاج مساعدته، ولو لم يؤمن به إلهاً خالقاً، الأمر الذي يؤدي بالعاقل المتأمل في هذه المنظومة الكونية بمفرداتها المتنوعة، واختلاف أدوارها، الى الإيمان بوجود الإله الخالق القادر على تحقيق ما يعجز الإنسان عنه لنفسه فضلاً عن غيره، مما يدلّ على وجود الخالق تعالى.
2. «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٭ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٭ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ٭ قُلْ هَلْ مِنْ
ص: 58
شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٭ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٭ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ»(1)؛ فقد سلطت
هذه المحاورة الأضواءَ على عدة مفاصل فاعلة في تكوين
الإنسان وإدامة حركته في الأرض، من الخلق والرزق والهداية، وذلك من خلال إثارة التفكير عن مصدر طاقة
هذه الفعاليات كلها؟ هل كانت بنفسها لنفسها؟، أم بفاعل
لها؟ ومَنْ هو الفاعل؟ فإنْ كان سوى الله فمَنْ هو؟، ولو
كان هو سبحانه، فهو المطلوب.
3. «قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٭ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٭ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ٭ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٭ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٭ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ٭ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ٭ «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ
ص: 59
عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ٭ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(1).
4. «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ٭ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ»(2).
الأمر الذي يستنهض همة الإنسان ويستحثه ليتفكّر في دلائل القدرة الإلهية ومؤشراتها، التي تقوده الى الاعتقاد الواعي بالتوحيد، الثابت ببراهين وأدلة متناغمةٍ مع أصول المنهج العلمي، وليست مجرد نقدٍ فلسفي؛ كما هي طبیعة الفكر الآخر، الذي تمت صياغته كحقيقةٍ مطلقةٍ، وأنَّ ناقدَها متخلِّفٌ فكرياً، لكن يشهد الواقع بغير ذلك؛ ف (آراء دوكنز، ليست كلها موضع اتفاق، وفيها أحياناً ما هو مثار خلاف بين العلماء، على الرغم مما يبذله في البرهنة على آرائه بكل السُبل العلمية، وثمة انتقادات توجه له من المدارس الداروينية المختلفة، ماديةً أو مثالية، ومن أهم الانتقادات التي وُجِّت لآرائه: أنها لا تفسر كيف بدأ الانتخاب الطبيعي، ودوكنز يقرّ بوجود بعض غموض، لكنه يرى أنَّ هذا لا يؤدي الى تفنيد
ص: 60
النظرية، كذلك هناك مَنْ نقَدَ آراءه باعتبار أنَّ فيها ما يطرح وجود حتمية وراثية، مبعثها نظرة أحادية، لا تكاد ترى في الحياة الا عوامل الوراثة والجينات)(1)، بما ينتج أنها مجموعة رؤى وفرضيات تقوم على:
1. افتراض وجود فعل ذاتي للقانون الطبيعي، واستغنائه عن المصمم المدبِّر.
2. عدم التمييز بين دور القانون الطبيعي، وما يعنيه من ظواهر طبيعية كما هي عليه، وبين دور القانون الفيزيائي، وما يعنيه من فهمٍ شخصٍ لتلك الظواهر.
والفرق بينهما كالفرق بين:
أ - الاحتمال الرياضي، وبين الإمكان الفعلي؛ فليس كل - محتمَل الحصول، بواقعٍ فعلاً، بل لابد من حصول شرائطه ليقع خارجاً، وعليه فلا يقع كلُّ حدثٍ فيزيائيٍ، بمجرد احتمالية وقوعه صدفة؛ إذ ليست الصدفةُ سبباً، بل دورها ربط العلاقة بين الأسباب.
ب - احتراق الخشب بالنار، وبين تحليل ذلك الاحتراق بأنه
ص: 61
تفكك جزيئات الخشب وتأكسدها، لتتكوّن لاحقاً مركبات جديدة أخرى، فالأول من الثابت؛ لأنه قانون معزَز بالوجدان والبرهان، والآخر من المتغيّر؛ لأنه اكتشافٌ قد يُطوّر مستقبلاً أو يُلغى أصلاً، فاختلف القانونان جذرياً، وينتج عن عدم تمييز خصائصهما: توهمُ قدرةِ القانون الطبيعي على الفعل ذاتياً، مع أنّه عاجز عن ذلك تلقائياً؛ لاحتياج الطبيعة الى الفاعل القادر العالِم الذي «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(1)؛ لأنه يفعل الفعل فيكوّنه، والقانون الطبيعي يصف الحدث الكائن؛ قال الإمامُ أميرُ المؤمنين علیه السلام: (عَجِبْتُ لِمَنْ شَكَّ فِي اللَّه، وهُوَ يَرَى خَلْقَ اللَّه... وعَجِبْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ
النَّشْأَةَ الأُخْرَى، وهُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الأُولَى)(2)؛ إذ يدل كلٌّ منهما على وجود المؤثر، فكيف يُنكره عاقل أو يشكك فيه؟!، إلَّا أنْ يعترضه حاجز (الإلحاد العابر، أو الانتقامي، أو التمردي، أو العُصابي، أو القصور العقلي)(3)، فيُلغي أمامه جميع الدلائل الكونية، فلا
ص: 62
يقرأها توحيدياً، أو يشكك في دلالتها على ذلك، مع أنَّ هذه الدلائل تستنهضه للتأمل، وتساعده على أنْ يخطو في طريق المعرفة، لكن يقطع عليه الطريق:
1. اهتمامه بالمنهج الحسي، وإهماله المنهج العقلي؛ فيبدأ بتحليل ما يحيط به مادياً، ويناقشه فيزيائياً، ليزيح بذلك عالَم ما وراء المادة، المحسوسة آثارُ وجودِهِ، ولا يقرأ دلالات ذلك على وجود مرکز سیطرة للكون، له دلائل غير متناهية، ورسائل متواصلة تؤكد البرهان الكوني، المنبسط في جميع الأنحاء الوجودية؛ لاجتذاب المتأملين في منظومة الخلق، بما يفوق قدرة الصدفة على إنتاجه، لو لم يكن خالق قادر قد أوجد ذلك كله؛ بما يمثِّل مجموعة الحقائق المذهلة التي يستحيل وجودها عشوائياً أو عبر مراحل تطورية؛ لما هو المحسوس من دقتها وإحكام نظامها وخصائصها الفائقة، مثل:
أ - البصمة الوراثية ودور الحمض النووي في تحديد هوية الشخص.
ب - تكوين الدماغ وما يحتويه من المخ والمخيخ وسواهما،
ص: 63
وما يتصل به من خلايا وأنسجة، وما فيه من غدد مع ما تفرزه من الهرمونات.
ت - الذرة ومكوناتها وخصائصها ونماذجها، مع ما توفره من الطاقة، وما لها من أدوار كبرى في إدامة حركة قوانين الطبيعة بمعادلاتها الثابتة.
ث - جماليات بل تكوينات البشر والحيوانات والنباتات والمعادن والمجرات وغيرها، مما يكشف عن وجود مصممٍ لخرائطها المتسعة باتساع الكون، يديرها ويدبِّرها وحده، ولم تكن من أنفسها؛ بعد دلالة سيرها المنضبط بأنظمة دقيقة على ذلك، مع ما يدل عليه تواصل جهود المتخصصين في الحقول المختلفة، في البحث والاستكشاف، ثم تطوير نتائجهم الأولى بأخرى أحدث؛ بما يشهد بأنها جهود المتناهي لإدراك حقائق غير متناهية.
2. عدم استيعاب المشكك لفلسفة وجود الشرور، أو أسباب الفوارق الطبقية بين الناس، وغيرهما، فيتسرّع الى التشكيك بوجود الإله قبل البحث العلمي في الأسباب والنتائج؛ فيكون بذلك متأثراً بفهمه المادي للأمور، فيفسر ذلك على أنَّ الإله قد جبَرَ الخلق على ارتكاب الشرور،
ص: 64
والتسبّب بأنواع الأذى كالمرض والفقر والتشرّد والاضطهاد وغيرها من الآم، مع أنَّ الإله الخالق القادر، قد زوّد الخلق بما يميِّز به النافع من الضار، ولم يشأ مطلقاً إجبار أحدٍ وقسره على خيار محدد، بل أتاح له عدة خيارات، وزوّده بالعقل ليقتدر به على حُسنِ الاختيار، فلو أساء أحدٌ الاختيار، فهو المسبِّب بأذى نفسه؛ حسب تقييمات العقلاء؛ إذ لا يتهمون القانون لو مات أحدٌ أو أصابه أذى بسبب حادث سیرٍ أو غيرِهِ، مع أنَّ أدوات الحادث، مقننٌ لاستعمالها بقوانين ولوائح رسمية، بل يُلام مرتكب ذلك؛ لأنَّ الشرور مسببات عن سوء التطبيق والاستخدام؛ بدليل عدم حصولها لآخرين، مضافاً الى أنَّ وصفها بالشرور نِسبی؛ باعتبار المتضرر منها وليس مطلقاً؛ فبعض أنواع الميكروبات مفيدة، في إنتاج المضادات الحيوية، أو المصنوعات الغذائية بل الصناعية، كما تدخل نِسبة محددة من بعض السموم، في علاج بعض الأعراض الصحية، ومعه فلا يصح توهم عبثية وجود بعض الكائنات، فضلاً عن أنْ تقود الى التشكيك بوجود الإله.
3. عدم معرفته ببعض المفاهيم أو المصطلحات: الدين،
ص: 65
التوحيد، العليّة والسببية، واجب الوجود وغيرها فيخطيء بالتصور أو التطبيق، ولا يحاول تحديث قاعدة بياناته ليطلع على الصحيح، ويتيقن أنَّ المتناهي محدودٌ أمام اللامتناهي، فلا يتأثر كثيراً بالأنا أو الوعود؛ لأنها مؤقتة مهما دامت، بل يحتكم الى ثوابت إنسانيته، ويتجرد عن الرفض المشخصن، مع أنه لا تخلو بعض معالجات الشبهات عن ضعف الأداء؛ بسبب تفاوت قابليات الأفراد في إقناع الآخر، لكن مع ذلك يصلح مع ضعفه للدلالة على أول الطريق، فعليه استكماله بالبحث العلمي؛ تنميةً للفكر، وترسيخاً للحقائق.
4. توتره النفسي من أحدٍ(1)، فينعكس ذلك على خارطة وصوله للحقيقة؛ حتى يترك استنطاقَ البرهانِ الكوني المعروض أمامه، ويلجأ الى ترويج أفكارٍ تكررت محاولاتُ تدويرِها والتثقيفِ عليها كحقيقة مطلقة، مع أنَّ مروجيها لم يضيفوا جديداً لاعتراضاتهم، بل يُعاد إنتاجها،
ص: 66
كما يتم تأكيد الردود العلمية عليها، بكونها شبهة فكرية إزاء البراهين العقلية والفطرية، بما يحتِّم تحديث قراءة الأجوبة ودراستها بتجرّد، كآراء معززة بظواهر كونية، ما زالت قادرة على تقديم البرهان المنطقي، في مقابل ترديد الدعوى؛ قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ»(1)؛ بما يشير الى سببية التكبر والاستعلاء، كدافع للجدال في واضح الدليل، وإنْ اتخذ طابعَ الإنكارِ: «مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ» (2)، أو التحدي: «ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(3)، فلا يختلف جوهر الجواب المعزز ببراهين القدرة الإلهية: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٭
ص: 67
«قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٭ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ»(1)؛ بما يرسِّخ مباديء الحوار العلمي، المتقوّم بالدليل وعدم رفضه مسبقاً، بل بعد تداول المعلومة والاستعانة بالمختص؛ لمعرفة الرأي العلمي، في ظل نظام التخصص المعمول به عالمياً، وكما هو أسلوب العقلاء دائماً في اختبار جديد الأطروحات، وعدم اكتفائهم بمعلوماتهم الثقافية العامة، بل بالرجوع للمختصين؛ تأكيداً لنزاهة الحكم، ومنعاً لاستنزاف الوقت والجهد بما لا يثمر، ولئلا يتسبب غياب المعايير العلمية في حدوث فراغ معرفي، وتشنج نفسي، فيكتفي كلُ طرفٍ بوصف الآخر بما لا يُحب، حتى تُشحن الأجواء بتراشق الأوصاف، بما يحوِّل الحوار الى خصومة نفسية، فتغادرُهُ عواملُ نجاحِهِ، ويُعْرَضُ التشكيكُ كظاهرةٍ مستعصيةٍ على الحلول، مع أنه ليس كذلك؛ إذ تراجع فعلاً بعض المشككين(2)، بما يؤسس لفهمٍ معتدلٍ، فلا كل مشكك
ص: 68
معاند دائماً، ولا المؤمن دائماً كما وصفَهُ دوكنز: (من المؤكد بأنَّ المؤمن الجاد عنده مناعة هائلة ضد الحجج والنقاش العقلاني، ومن أشد أجهزة المناعة نجاحاً تحذيرات خطرة لتجنّب حتى فتح کتاب مثل هذا، والذي هو بالتأكيد من عمل الشيطان، لكنني مؤمن بأنَّ هناك العديد من العقول النيرة هنا وهناك، يكفيها القليل من التشجيع كي تتحرر من كل رجال الدين وتعاليمهم)(1)؛ إذ يتضح من كلامه مدى تأثره بمعاناة قديمة(2)، بما انعكس على أفكاره وأدائه؛ لأنه مهما تنوّعت أسباب التشكيك بين تأثرٍ نفسي، أو فشلٍ سياسي، أو إحباطٍ
ص: 69
مجتمعي، فلا خيار للعاقل الا البحث عن الحقيقة؛ لئلا يندم لاحقاً، أو يستمر مكابراً ويتبادل الإتهامات؛ قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام: (الإنصاف راحة)(1).
5. تأثره بقراءاتٍ معينةٍ للدين، فيتابع أحداً ثقةً به، ولا يبحث عن الرأي الآخر؛ توتراً نفسياً من أحد، أو تعصباً لأحدٍ، فتفوته الحقيقة، المتضحة لمَنْ خاض تجربة سابقة؛ مثل:
أ - (لا تشكّوا في الخالق؛ فإنه مما لا يُعقل أنْ تكون الضرورةُ وحدها، هي قائدةُ الوجودِ؛ لأنَّ ضرورةً عمياء متجانسة في كل مكان، وفي كل زمان، لا يُتصوّر أنْ يصدر منها هذا التنوّع في الكائنات، ولا هذا الوجود كلّه بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها، مع تغيّرات الأزمنة والأمكنة، بل أنَّ كل هذا لا يُعقل أنْ يصدر الا من كائنٍ أولي، له حكمة وإرادة)(2).
ب - (الكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة، وكل شيءٍ
ص: 70
يتحرك بحساب من الذرّة المتناهية في الصغر، الى الشمس وكواكبها، الى المجرّة الهائلة، الى السماء المترامية، هناك وحدة بينها، تعني جميعها أنَّ خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه، الكون إذن ليس أزلياً، وإنما كان له بدء؛ بدليل «القانون الثاني للدينامیکا الحرارية»: إنَّ الحرارة تنتقل من الساخن الى البارد، من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراري، ولو كان الكون أبدياً أزلياً بدون ابتداء، لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة، وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة، ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع، وانتهى كل شيء، إنَّ هذا القانون هو ذاته، دليلٌ على أنَّ الكون كان له بدء)(1)، وغيرها(2)من نصائح صقلتها براهین علمية وتجارب عملية؛ إذ يمكن الوصول الى الحقيقة،
ص: 71
عبر التأمل في البرهان الكوني، والبحث الواعي في معطيات العقل والفطرة ودلالاتهما على التوحيد؛ ليبني الإنسان موقفه من الدين على أساسٍ سلیمٍ، وليس على ردود الأفعال وما تُحدِثُهُ من مواقف ضعيفة، لا تقوى على الاستدلال أو التبرير لما اتخذه من قرار الإيمان أو التشكيك؛ لأنها جاءت مواقف مفروضة عليه بتأثير خارجي، ولم تكن عن قناعة تستند إلى البرهان؛ لذا فسرعان ما تتغير، وتتعدد اتجاهات بوصلته في أوقات متلاحقة، بما يشتت رؤيته للواقع، فتحجب عنه محددات الطريق الى الحقيقة، وقد يتيه فيحتاج الى دلالات سالكي طريقه ونجدتهم له؛ لئلا يُمضي عمره بين إنكار الحقيقة، أو التشكيك بما أوضحه الدليل العقلي، ودعمته الفطرة
ص: 72
النقية، أو المكابرة في قبول نصح أو إعادة تأهيل، مع أنه لا يستطيع البرهنة على ما اختار.
ولذلك اهتمت منظومة الدين في برنامجها لتأهيل الفرد، ضمن حقل التنمية المستدامة، بتوسيع خيارات الإنسان في تنمية نفسه لنفسه بنفسه وصولاً للأفضل، وتحقيق ذاته وأمنياته ضمن المعقول؛ لئلا تتعارض مع الثوابت العامة المتفق عليها بين العقلاء، مؤكدةً عليه وعلى كل باحثٍ بضرورة التفرّغ الذهني عن المسبّقات، والتجرّد للحقيقة التي ينتجها البرهان، ويلتزمها الواعون من النخبة في مجتمعاتهم أو سائر الباحثين، الذين تفوق أعدادهم أعداد المشككين، بما يؤكد سلامةَ المنهجِ العلمي في مقابل غيره، وأصالةَ الإيمانِ بالخالقِ والالتزامِ بقيمِ منظومة الأخلاق، والا كيف استقطب الدین مختلف شرائح المجتمع ولم تنحصر فئات المؤمنين بذوي فهمٍ أو دخلٍ محدود؟، بما يشهد بعدم التعارض بين الدين والعلم، بل أنَّ دور العلم مشهود في بلورة براهين التوحيد وأدلته المتنوعة بما لبّي حاجات مختلف الشرائح، وأتاح لهم إثبات وجود الإله من خلال تخصصاتهم؛ لأنَّ من خصائص الدين هو قدرته على التأصيل الفكري في
ص: 73
مختلف المكان والزمان؛ لبيان ما يُثبته کحقيقة، وليست کنزعة تقتحم حياة هذا أو ذاك، بتأثير فعلٍ أو ردة فعل، ولذا لم يهدف الدين الى مجرد توسيع خيارات الإنسان، بل تعمیق مدارکه، وترشيد اختیاراته، كما لم يكتفِ من دور التنمية بمجرد أنها «عملية ترمي إلى توسيع نطاق خيارات الأفراد وحرياتهم»، وإنما جعلها عملية تطوير الكفاءات البشرية وتحسين أدائها بصورة شاملة، في مختلف الميادين الحياتية، مما يشارك كمدخل لحصول عملیات تغییر نوعي في المجتمع، مع المحافظة على أصوله، والمساهمة في الانسجام بين الأفراد، بما لا يتعارض وثوابت الإنسان النوعية(1)؛ إذ لابد للفرد من مراقبة أفكاره وأفعاله، وتقييمها بموازين عادلة، ومعايير مستقيمة؛ ليُحصن ذاته من الاختراق، ولا يصيّرها أداةً المشروع آخر، والا لكانت حرية الشخص تضييقاً لحريات غيره، وهو عكس المطلوب؛ ولذلك يرفض العقلاء ممارسةَ العنفِ، أو استعمالَ الموادِ الفتّاكةِ أو أسلحةِ الدمارِ الشاملِ، أو غيرها بسبب أضرارها الفادحة بمقياس القيم والأخلاق، حتى لو كانت لهذه المواد المضرّة منافع
ص: 74
معينة، لكنها لأنها ضئيلة جداً مقارنة بالأضرار، فقد أدان العقلاء استعمالها.
وكذلك يلزم ترشيد الأفكار وعرضها على الثوابت؛ لئلا يتوهم أحدٌ أنها في مقابل البرهان الكوني وما يُثبته من حقيقة وجود الإله، وبذلك تحفظ حقوق الفرد والمجتمع، وتتضح معالم الدين كمنهج فكري، عن عادات مجتمع أو تصرفات فرد؛ إذ يجب التفريق بين النظرية والتطبيق؛ لكيلا تُصطنع حواجز مع الدين والإله، بدوافع صدمة من هذا وانزعاج من ذاك؛ لأنها من أكثر أسباب التشكيك تأثيراً في المشكك، حتى مع علمه أنه شخصياً مستاءٌ من فعل بعض المتطرّفين، أو متأثرٌ بفهمٍ لمتعصبٍ، لكن يحاول إخراج ذلك الاستياء والتأثر، بصورة ممارسة حريته في إعادة قراءة الدين، مع أنه لا يقضي وقته بالبحث الجاد عن الحقيقة، والا لاتضحت له كما بانت لغيره؛ لأنَّ خيار العاقل، هو التأمل في مشهد الإبداع الكوني واستنطاقه، ليرشده الى الخالق؛ إذ الوجود دليلُ التوحيد؛ لاشتماله على المكوّن المعرفي المتزايد، بما يُثبت الضبط
ص: 75
الدقيق لإيقاعات الحياة ومظاهر الجمال المتناسق في أنحائها أينما اتجه العاقل؛ فكلها نسيج واحد، يكشف عن صانعٍ واحدٍ، والا لاختلف النسج، وتبايَنَ الصنع.
ص: 76
إنَّ البرهنة والاستدلال على توحيد الخالق تعالی، يتم عِبر عدة مستويات، تؤدي - جميعاً - بالمتأمل فيها الى الإيمان بوجود الله سبحانه:
المستوى الأول: برهان النظم، باصطلاح المتكلّمين؛ وهو: إنَّ الكون وما فيه من مختلف المخلوقات بنظمها وتناسقها مضموناً وشکلاً، يوجب للعاقل المتأمل فيه، اطمئناناً تاماً بوجود صانعٍ أراد ذلك، فأوجده بقدرته، ولم يوجد صدفةً؛ إذ أنَّ انتظامه الدقيق، واتساقه ضمن الإرادة الإلهية، دلیلٌ واضحٌ على قدرة الفاعل وعلمه وحياته؛ إذ اتقان الصنعة، وبديع الخلقة، يدلان على وجود صانع خالق، والا فلماذا لم يُخترَق هذا النظام طولَ الزمان؟، وكيف نجَحَ في مختلف
ص: 77
المكان؟، من العالَم المشهود، فضلاً عن غيره مما أُخبِرَ عنه، فاتساق النظام واستقامة التصميم، برهانٌ على وجود المصمم الغني عن غيره؛ قال الإمام أمير المؤمنین علیه السلام:
1. (ولَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى
الطَّرِيقِ وخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، ولَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ والْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ(1).
2. أَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَه، وأَتْقَنَ
تَرْكِيبَه، وفَلَقَ لَه السَّمْعَ والْبَصَرَ، وسَوَّى لَه الْعَظْمَ والْبَشَرَ.
3. انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا ولَطَافَةِ هَيْئَتِهَا(2)، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ ولَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا، وصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا،
ص: 78
وتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وفِي وِرْدِهَا
لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، ولَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، ولَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ والْحَجَرِ الْجَامِسِ(1)، ولَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا، فِي عُلْوِهَا وسُفْلِهَا، ومَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا(2)، ومَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، ولَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً، فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا، لَمْ يَشْرَكْه فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، ولَمْ يُعِنْه عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ.
4. ولَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِه، مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ، هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ؛ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ، وغَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ، ومَا الْجَلِيلُ واللَّطِيفُ، والثَّقِيلُ والْخَفِيفُ، والْقَوِيُّ والضَّعِيفُ فِي خَلْقِه إِلَّا سَوَاءٌ.
5. وكَذَلِكَ السَّمَاءُ والْهَوَاءُ والرِّيَاحُ والْمَاءُ؛ فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ
ص: 79
والْقَمَرِ، والنَّبَاتِ والشَّجَرِ، والْمَاءِ والْحَجَرِ، واخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ والنَّهَارِ، وتَفَجُّرِ هَذِه الْبِحَارِ، وكَثْرَةِ هَذِه الْجِبَالِ، وطُولِ هَذِه الْقِلَالِ، وتَفَرُّقِ هَذِه اللُّغَاتِ، والأَلْسُنِ
الْمُخْتَلِفَاتِ.
6. فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وجَحَدَ الْمُدَبِّرَ؛ زَعَمُوا أَنَّهُمْ
كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ، ولَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ، ولَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا، ولَا تَحْقِيقٍ لِمَا أَوْعَوْا، وهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ، أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ؟!.
7. وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فيِ الْجَرَادَةِ؛ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ،
وأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ، وجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ،
وفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، ونَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، ومِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ، ولَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا ولَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا، وتَقْضِيَ مِنْه شَهَوَاتِهَا، وخَلْقُهَا كُلُّه لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً، فَتَبَارَكَ اللَّه الَّذِي يَسْجُدُ لَه [مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ، طَوْعاً وكَرْهاً] ويُعَفِّرُ لَه خَدّاً ووَجْهاً، ويُلْقِي إِلَيْه بِالطَّاعَةِ سِلْماً وضَعْفاً، ويُعْطِي لَه الْقِيَادَ
رَهْبَةً وخَوْفاً، فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لأَمْرِه، أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ
مِنْهَا والنَّفَسِ، وأَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى والْيَبَسِ، وقَدَّرَ
ص: 80
أَقْوَاتَهَا، وأَحْصَى أَجْنَاسَهَا، فَهَذَا غُرَابٌ وهَذَا عُقَابٌ، وهَذَا
حَمَامٌ وهَذَا نَعَامٌ، دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِه وكَفَلَ لَه بِرِزْقِه،
وأَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا، وعَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ
الأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا، وأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا)(1).
فقد ابتدأ الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في رحلته مع المتلقي، من مرحلة التفكر ثم الإبصار، مروراً بمرحلة التعقل والتبصّر، وصولاً الى مرحلة الاستنتاج والبرهان على أنَّ هذا النظام الدقيق للكون وموجوداته، وما لها من سجل تراكميّ في مراحل التشكّل والتطوّر، لم يحدث تلقائياً بنفسه، ولا وضعت خرائطَهُ صدفةٌ، ولا اجتمعت لبرمجته مجموعة من التخصصات، بل كان من تصميم مصممٍ واحدٍ، عالِمٍ بأسراره، قادرٍ لوحده على إدارته بتمامه.
وبذلك يُدرك المتأمل بوضوح: بأنَّ مُنظِّم هذا النظام: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ٭ «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٭ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
ص: 81
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(1)؛ لأنَّ ظواهر الطبيعة حتى الجماد، ومظاهر الحياة حتى ما لا يُرى، وما فيهما من دقة الأنظمة العجيبة، وجمال النظرة البديعة، تشهد في طول الزمان وعرض المكان، بوجود فاعلٍ يهدف الى فعل ذلك كله بما ينسجم مع الحكمة من إيجاده وخلقه؛ إذ من الواضح جداً اختلاف الأحجام والأشكال والخصائص والمنافع، بما يثير التساؤل حول سبب تعددها في ذلك أو غيره، وعدم اتحادها صورةً أو غايةً، ولماذا اتساع التأريخ والجغرافية لنماذج من مخلوقات منقرضة أو موجودة؟؛ بحيث يعدّ العادّون منها ولا يحصوها جميعاً، مما يكشف عن عدم استيعابها رقمياً.
وكان الجواب بطريقة تحفيز المتلقي ليشارك في الوصول للمطلوب؛ من خلال إثارة مجموعة علامات استفهام أمامه: هل وُجدت هذه المخلوقات صدفة بلا خالق؟!، أم لها خالق؛ إذ يستحيل وجود بِنَاء مِنْ غَيْرِ بَانٍ، أَوْ جِنَايَة مِنْ غَيْرِ جَانٍ، فإنْ كان هو الله تعالى كما دلّت عليه البراهين فصحيح، وإنْ كان غيره فمَنْ هو؟.
ولتحديد الجواب الصحيح، لابد من استنّطاق العقل
ص: 82
والفطرة، والتأمل بشهادتهما، بما يُثبِت أنَّ منكر براهين النظام الكوني، لَمْ يَلْجَأ إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَى؛ لأنه قد أهمل دلالات البراهين، وحجَبَها عن إرشاده وإنقاذه؛ فأنها صريحة البيان بأنَّ اتقان الصنع وتناسقه البديع، دليل على وجود صانعٍ مريدٍ لما يصنع، عالِمٍ به؛ لاستحالة كينونة ذلك كله صدفة بلا إرادة فاعل مدبّر، وبلا غاية له من وراء ذلك، والا فلماذا لم يكن شيءٌ آخر غير ما كان؟!، ولو جاز الوجود صدفة؛ لأدى ذلك الى اجتماع النقيضين - الوجود والعدم - وهو مستحيل؛ لاحتياج المعدوم الى مؤثر يتسبب في وجوده، والا لكان باقياً على عدميته التي كان عليها، فهي الأصل الطبيعي في الأشياء الممكنة، ولابد للمعلول من علة، وللمسبَّب من سبب.
وإنَّ هذا المستوى من الاستدلال ببرهان النظم - أو حجة التصميم -، متاحُ فهمه لعموم شرائح المجتمع؛ حيث يمكن لكل أحدٍ استيعاب أنَّ التصميم في الطبيعة، يدل على وجود مصممٍ له؛ لأنَّ هذا النظام الكوني المحسوس بتفاصيله ومعطياته، لم يوجد صدفة؛ لاستحالة صدور ذلك التصميم بلا سبب؛ كما برهن على استحالتها:
1. ما عرَضَهُ الفيزيائي والعالِم النووي جيرالد شرويدر من
ص: 83
(تجربة قام بها المجلس الوطني البريطاني للفنون؛ حيث تم وضع كمبيوتر في قفصٍ بداخله ستة قرود، وبعد شهر من العبث بالكمبيوتر، أنتجت القرود خمسين صفحة مكتوبة، لكن دون كلمة واحدة تامة، بالرغم من أنَّ الكلمة باللغة الإنجليزية يمكن أنْ تتكوّن من حرفٍ واحدٍ فقط؛ فالحرف A يمكن أنْ يمثِّل كلمة إذا كان هناك مسافة إما عن يمينه أو يساره، فإذا أخذنا بالاعتبار أنَّ هناك ثلاثين حرفاً ورقماً على لوحة المفاتيح، فإنَّ احتمال الحصول على كلمة مكوّنة من حرف واحد هو: (30×30×30)، أي: (27,000)، وعندها يكون احتمال الحصول على كلمةٍ من حرفٍ واحدٍ هو (27,000:1))(1)، فهل يعتني عاقل بقيمة هكذا احتمال ضئيل؟!، بما يُثبت حتمية وجود مصممٍ لهذا التصميم الكوني البديع الدقيق.
2. (إنَّ اكتشاف الحمض النووي (DNA)، أوضَحَ التعقيد الشديد غير القابل للتصديق للترتيبات اللازمة لخلق حياةٍ، وهو الأمر الذي يوجب أنْ يكون هناك ذكاءٌ خارقٌ يجعل
ص: 84
هذه العناصر المختلفة تعمل معاً، إنه التعقيد الخارق لهذه العناصر والدقة الهائلة في الطرق التي تتفاعل فيما بينها، اجتماعُ التعقيد والدقة، في الوقت المناسب بالصدفة، أمرٌ مستحيلٌ، لابد من أنْ الأمر يتعلق بتعقيدٍ هائلٍ أنتج ما وصلنا اليه)(1)؛ بما يدل على وجود المصمِّم.
إلَّا أنَّ دوكنز اكتفى بأنه: (في مرحلةٍ من المراحل تكوّن جُزيء مميّز بالصدفة، لكنه تحلّى بالمقدرة الاستثنائية على استحداث نُسخٍ منه)(2)!!، فيكون بذلك مخالفاً لبرهان النظم - أو حجة التصميم - الذي توثقه البراهين والأدلة العلمية والوجدانية الفطرية، من حقيقة وجود خالقٍ للكون؛ حيث يعتمد هذا المستوى من الاستدلال، على التتبع والاستقراء وحساب الاحتمالات الرياضي، في إظهار النتائج وعرضها؛ ليتيقن العاقل بأنَّ الطبيعة لا تصنع نظاماً للكون بديعاً دقيقاً، متناسقاً منتظِماً، بل لابد من وجود فاعلٍ قد صمّمه على ذلك؛ لأنَّ اللا نظام لا ينتج هذا النظام الدقيق، بل حتماً أوجده عالِمٌ بما صنَعَ، مريدٌ له، ولم يحدث عفوياً بلا إرادة؛ إذ (العلم سلّط
ص: 85
الضوء على ثلاثة أبعاد للطبيعة تشير الى الإله: 1 - حقيقة أنَّ الطبيعة تخضع لقوانين، 2 - الحياة في الكائنات الذكية المُنظَّمة والمسوقة بغايات، والتي نتجت عن المادة، 3 - الوجود الفعلي للطبيعة)(1)، والا فكيف اتسق بهذا النسق المُعجب المُدهش للعقول، المُحيّر للعقلاء؟!؛ قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(2)، وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام: (الْحَمْدُ لِلَّه الدَّالِّ عَلَى وُجُودِه بِخَلْقِه، وبِمُحْدَثِ خَلْقِه عَلَى أَزَلِيَّتِه، وبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَه لَه؛ لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ والْمَصْنُوعِ، والْحَادِّ والْمَحْدُودِ، والرَّبِّ والْمَرْبُوبِ)(3)، وهو ما يشهد باعتماد برهان النظم أو التصميم، في خطوات مرحلة الإدراك والتأمل، دون مرحلة الاستنتاج والقياس فقط.
3. (بحسب عالِم الرياضات الفرنسي بليز باسكال؛ فإنه مهما قلّت الدلائل على وجود الله، فإنَّ العقوبة التي تنتظر الاختيار الخاطيء هي أكبر، أحكمُ الطرقِ هي
ص: 86
الإيمانُ بالله؛ لأنك لو كنتَ مصيباً فستربح النعمة لكبرى، ولو كنتَ مخطئاً فلن يكون هناك فرقٌ، بينما إنْ لم تؤمن بالله، وكنتَ مخطئاً، فأنت محكوم للعنةٍ أبديةٍ، ولو كنتَ مصيباً، فلن يكون هناك أيّ فرقٍ، وعلى ذلك فالقرار لا يحتاج لذكاءٍ، عليك الإيمان بالله)(1)؛ بما يؤكد حقيقة اختيار الإنسان وعدم جبره على ما يصدر منه، وأنه يملك القرار؛ لتمتعه بالإرادة الكاملة - ما دام عاقلاً مختاراً -، ولا يُمكن الإملاء عليه الا بعد اقتناعه - ولو نِسبياً -، ولمّا كان الإيمان هو: التصديق(2)، ولا يكون الا بعد التصديق بالبرهان، فيتبعه الاعتقاد بصحة ما آمن به، فالإيمان ممكن لمَنْ أراده وعرف دوره في إنقاذه من العقوبة.
لكن قال دوكنز: (الإيمان ليس شيئاً تقرره كالسياسة، وعلى الأقل فأنا لا أستطيع فعلَهُ بإرادتي)(3)!!، مع أنَّ
ص: 87
الإيمان مما لا يُصنفه العلم من المستحيل(1)، فكيف نفی فعلَهُ بإرادته؟!، وأخبر عن أنه ليس شيئاً يقرره الإنسان؟!، وإذا لا يقرر الإنسان أنْ يؤمن أو لا، فمَنْ يقرر بدلاً عنه؟، وهل من حاجةٍ لقوله: (أنا أهاجم أيَّ نوعٍ من الآلهة، كل ما هو خارق وماورائي أينما وحيثما وُجد أو سيوجد)(2)؟!، مع أنه قد فهِمَ الدين، مما تلقاه في بيئة محيطه من قراءةٍ مسيحيةٍ، مع أنها ليست الوحيدة؛ إذ يوجد غيرها، وليته صرّح بأنه قرأ الدين بمنظارٍ معينٍ، وفي جوٍ حجَبَ عنه قراءات أخرى، فكان مؤدلجاً محدداً برؤية خاصة، حتى انساق معها، لكنه سرعان ما تخلّى عنها الى الضد، وصار الإله وهماً!!، في الوقت الذي كانت إشكاليته مع بعض أتباع الإله!!، فانتقل بسرعة من مناخ الجزء الى اتخاذ موقفٍ من الدين كلّه، حتى ألغى احتمال صحته كمنهج فكري، يعتمد منظومةً من البراهين والأدلة الفلسفية والوجدانية والبيانية، بما يجعله في عداد القضايا المحتملَة لا المستحيلة أو المنفية!، وبذلك قد خالَفَ
ص: 88
دوكنز (قوانين الاحتمالية، - لأنَّ وجود الله إما - نظرية علمية كغيرها، تدخل ضمن اللاأدرية المؤقتة، - أو - وجود الله حقيقة علمية عن الكون، وقابلة للاكتشاف من حيث المبدأ على الأقل إنْ لم يكن عملياً، - وعلى الاحتمالين فهل يصح القول -: أعيش حياتي بفرض أنه غير موجود... بأنه ليس هناك إله)(1) ؟!، مع أنَّ برهان السبر والتقسيم(2)الذي اعتمده عالِمُ الرياضات: باسكال (ت 1662 م)، يؤكد حقيقةَ وجودِ الإلهِ، وهو:
4. البرهان الذي اعتمده الإمامُ جعفر الصادق علیه السلام (ت 148 ه / 765 م)، - قبل باسكال - منذ تسعمئة عام، حينما أجابَ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ(3): (قَالَ: إِنْ يَكُنِ الَأمْرُ
كَمَا تَقُولُ - ولَيْسَ كَمَا تَقُولُ - نَجَوْنَا ونَجَوْتَ، وإِنْ يَكُنِ
ص: 89
الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ - وهُوَ كَمَا نَقُولُ - نَجَوْنَا وهَلَكْتَ)(1)؛ انطلاقاً من:
5. الضرورة العقلية ومقتضى الفطرة والوجدان، من لزوم
ص: 90
دفع الضرر ولو كان محتمَلَ الحصول، ولابدية توقي
ص: 91
التضرر به، فضلاً عن مظنون الحصول أو معلومه.
وقد جرى على هذا القانون الفطري، حتى غيرُ العاقل؛ إذ يتحاشى الخطر، ويتحامي الإصابة به - مع اختلاف درجات إدراك ذلك، بين العاقل وغيره طبعاً -.
ولا يشك العاقل في أنَّ العقوبة واللعنة الأبدية التي تنتظر الاختيار الخاطيء - كما ذكر باسكال - ضررٌ محتمَلٌ، بل متيقنٌ، وسبب عدمِ شكه في ذلك، وتيقنه منه، هو أنه قد تتابعت تحذيراتُ المصلحين، وتوالت تخويفاتُهم من عذاب العاصي، بما يوجب الحذر على مَنْ عرف ذلك واطلع عليه؛ إذ لا يمكن للعاقل أنْ ينفي احتمالَ حصولهِ، بل المحسوس بالوجدان أنَّ العاقل يحرص دائماً على النجاة، بقدر خطورة الضرر المُحتمل؛ إذ يُدرك بعقله
ص: 92
وجود قيمة حقيقية للضرر واحتمال حدوثه، فتُلزمه بالابتعاد عنه، مما يصيّر منها ضرورة عملية لا خلاف بشأنها؛ إذ يجري العقلاء وغيرهم على الابتعاد عن مصدر الضرر، بلا فرقٍ بين أنواعه، فيشمل ما حذّر منه باسكال وغيره من سابقيه ولاحقيه.
ولذا لا يصح الاستخفاف بذلك التحذير؛ لأنه كما يؤكد:
أ - الفيلسوف الأمريكي: ألْفِن بلانتِينْغا (1932 م...): (إنَّ لإيمان بالإله، هو اعتقاد أساسي تماماً، مشابه للاعتقاد بالحقائق الأساسية)(1)، (يعتبر شعوراً فطرياً بديهياً، لا یحتاج الى دليل، تماماً كمفاهيم بديهية أخرى؛ مثل أنَّ الكل أكبر من الجزء، ومثل أننا موجودون)(2)، و (من الطبيعي للإنسان أنْ يعتقد بالإله؛ بسبب النظام والترتيب والقوانين التي تحكم الأحداث التي تقع في الطبيعة، ولذلك كثيراً ما يقول:
ب - الفيلسوف الأمريكي: رالف ماكلنيرني (1929 -
ص: 93
2010 م): إنَّ فكرة وجود الإله هي فكرة فطرية، وتبدو کمُسلَّمةٍ تقف ضد الإلحاد، إنَّ الملحدين هم مَنْ يتحمل عبءَ الإثبات)(1).
ولما لم تثبت دعوى «وَهْمُ الإله» أو غيرها، بل سُجلت عليها - وما تزال - اعتراضاتٌ علميةٌ كثيرةٌ، لم يستطع المدّعون إبطالها وردّها، بل كان العلم الحديث من مثبتات حقيقة وجود الإله، وليس دالاً على وهميته؛ ولذا فيُلحظ - بوضوح - عدمُ استقطاب هذه الدعوى لعدد آخر يؤمن بالفكر المادي؛ (فإنَّ مجموع الملحدين، صغيرٌ بالقياس الى مجموع سكان العالَم المؤمنين؛ تبلغ نِسبتهم بالقياس الى مجموع سكان العالَم 14%، وأسس الإلحاد تضعف يوماً بعد يوم؛ بسبب الفشل النظري في مواكبة التطور الحادث في العلم وفلسفة العلوم، وقد عجزت حركات الإلحاد بمختلف تياراتها عن تقديم بديل للدين، ولم تقدِّم أيَّ حلٍّ للمسائل الفلسفية الكبرى التي تشغل الإنسان، وقد أنكر الملحدون وجودَ اللهِ؛ لأنهم لا يستطيعون أنْ يستدلوا عليه حسياً، ولا يستطيعون مشاهدته
ص: 94
أو لمسه، ولا تحديده بالتجربة!، ولقد أثبتت الحقائق التاريخية والفكرية أنَّ الإلحاد غريبٌ على المجتمعات)(1).
وأنَّ ما أوجب تنشيطه أحياناً في بعض المجتمعات، هو سوءُ أداءِ بعض مَنْ يؤمن؛ حيث لم يتطابق قولُهُ مع فعلِهِ، بما سبّبَ ردود أفعالٍ كثيرة عند آخرين، فاتجهوا للتشكيك، الذي ما كان تداوله عن قناعة شخصية، وفلسفة فكرية، بل لصدمة نفسية أو مجتمعية؛ لمناقضة تلك الأفكار الغريبة، مع دلائل الوجود من تناسق الموجودات وتقنينها وجدولة أدوارها التكاملية - التضامنية -، حتى كان التشكيك بدلالات ذلك، إنكاراً للواضحات البديهيات؛ حتى قال:
أ - الفيلسوف الإنجليزي: جون لوك (1632 - 1704 م): (فإنكار الله حتى لو كان بالفكر فقط، يفكك جميع
ص: 95
الأشياء، أما بالنسبة الى الآراء العلمية، وإنْ لم تكن خالية تماماً من الخطأ، فأنها إذا لم تكن تود الهيمنة على الآخرين، فليس ثمة مبرر لعدم تسامحنا معها)(1).
ب - الفيلسوف الفرنسي: فولتير (1694 - 1778 م): (إنَّ الاعتقاد القاطع بعدم وجود إله، خطأ أخلاقي مروّع... إنه من الأفضل بكثير من الناحية الأخلاقية أنْ نؤمن بوجود إله من عدم الإيمان بوجوده... مصلحة جميع البشر تقتضي الإيمان بوجود إله يعاقب ما تعجز العدالة الإنسانية عن عقابه)(2).
ت - الفيلسوف البريطاني: أنتوني فلو (1923 - 2010 م): (إنْ كان هناك أله أو آلهة لهم علاقة بأحوال البشر، فإنَّ من الطيش أنْ لا نحاول أنْ نقف في الجانب الذي يقف فيه هؤلاء الآلهة)(3)،؛ (فإنَّ ما أثبته العلم الحديث من تعقيدٍ مُذهلٍ في بنية الكون، يشير الى وجود مصممٍ ذكي)(4).
ص: 96
ث - الفيلسوف البريطاني: ريتشارد سوینبرن (1934 م...): (إنَّ نظام الطبيعة يوجد فيه تخطيط وغاية يتجه اليها، وأنَّ الموجودات الواعية تحتاج الى الله الذي يكون مسئولاً عن هذه الظاهرة)(1)، (إنَّ موجِدَ الكون المادي المحدود، لابد أنْ يكون غير مادي، وأنْ يكون كلي الوجود)(2)، (وإذا كان من المستحيل التعرّف على حقيقة الإنسان، فإنَّ هذا العجز أولى في حق الإله)(3)، (إذا كان العدم يمتد الى ما لا نهاية في القِدم، وإذا كان للكون بداية، فلِمَ نشأ الكون في هذا الوقت الذي نشأ فيه؟، لِمَ تُرِكَ الكون دون نشأة لفترة، ثم حدث في وقت مّا في الزمن اللانهائي أنْ خرج الكون للوجود؟، لابد أنَّ هناك عاملاً مُرَجِّحاً دفَعَهُ للوجود)(4).
وغيرهم ممَنْ يقرر تلك الحقائق ويبديها بأسلوبه الخاص، مما ينسجم مع دلالة برهان النظم، على وجود
ص: 97
مصممٍ أبدع قوانين نظام الكون وأوجدها، حتى يَسّرَ فهمها للناظر المتأمل، وأتاحها برهاناً على عظمته، فاكتشفها العلماء بمختلف علومهم ولم يوجدوها، بل إنما أظهروا ما وجدوه، فسبحان الله الخالق الذي أتاح لكل فرد وفئة معرفتَهُ، وحثَّ على التعرّف عليه من خلال ما أوجد؛ قال تعالى: «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ»(1)، «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ٭ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(2).
المستوى الثاني: برهان الصديقين: وهو ما يتيح للعقل معرفة وجود الخالق، من خلال وجوب وجوده وحتميته؛ لأن حقيقة الوجود إما واجبة وإما تستلزمها، فإذن الواجب بالذات موجود، وهو المطلوب(3)؛ إذ (كل موجود إذا التُفت إليه، فإما
ص: 98
أنْ يجب له الوجود في نفسه، أو لا، فإن وجب، فهو الواجب وجوده من ذاته، وإن لم يجب، فلا يقال إنه ممتنع بذاته؛ بعد ما فرض موجوداً، فيكون الذي لا يجب ولا يمتنع، وهو الممكن)(1).
ويعتمد هذا البرهان، على منهج الكشف الذاتي؛ إذ يحاول الصِّديقون معرفة الله تعالى به لا بغيره؛ وذلك عِبر الانتقال من لازم من لوازم الوجود إلى لازمٍ آخر(2)؛ لأنَّ الوجود من الحقائق الثابتة، فإنْ كان بنفسه فهو، وإن ارتبط بغيره، فمَنْ غيره؟، فالوجودُ برهانٌ على الموجود؛ لانتهاء ما بالعرض إلى ما بالذات، وهذه قضايا يقينية واقعية، لا يقبل العقل بخلافها، وقد عرضها الإمام أمير المؤمنين علیه السلام عندما:
1. قال: (اعْرِفُوا اللَّه بِاللَّه)(3)، (يَعْنِي: أَنَّ اللَّه خَلَقَ الأَشْخَاصَ والأَنْوَارَ والْجَوَاهِرَ والأَعْيَانَ؛ فَالأَعْيَانُ: الأَبْدَانُ، والْجَوَاهِرُ: الأَرْوَاحُ، وهُوَ جَلَّ وعَزَّ لَا يُشْبِه
ص: 99
جِسْماً ولَا رُوحاً، ولَيْسَ لأَحَدٍ فِي خَلْقِ الرُّوحِ الْحَسَّاسِ
الدَّرَّاكِ أَمْرٌ ولَا سَبَبٌ، هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ الأَرْوَاحِ والأَجْسَامِ، فَإِذَا نَفَى عَنْه الشَّبَهَيْنِ شَبَه الأَبْدَانِ وشَبَه الأَرْوَاحِ فَقَدْ عَرَفَ اللَّه بِاللَّه، وإِذَا شَبَّهَه بِالرُّوحِ أَوِ الْبَدَنِ
أَوِ النُّورِ فَلَمْ يَعْرِفِ اللَّه بِاللَّه)(1).
2. أجاب مَنْ سأله: (بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟، قَالَ: بِمَا عَرَّفَنِي نَفْسَه، قِيلَ: وكَيْفَ عَرَّفَكَ نَفْسَه؟، قَالَ: لَا يُشْبِهُه صُورَةٌ، ولَا يُحَسُّ باِلْحَوَاسِّ، ولَا يُقَاسُ باِلنَّاسِ، قَرِيبٌ فِي بُعْدِه، بَعِيدٌ فِي قُرْبهِ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، ولَا يُقَالُ شَيْءٌ
فَوْقَه، أَمَامَ كُلِّ شَيْءٍ، ولَا يُقَالُ لَه أَمَامٌ، دَاخِلٌ فِي الأَشْيَاءِ لَا كَشَيْءٍ دَاخِلٍ فيِ شَيْءٍ، وخَارِجٌ مِنَ الأَشْيَاءِ لَا كَشَيْءٍ خَارِجٍ مِنْ شَيْءٍ، سُبْحَانَ مَنْ هُوَ هَكَذَا ولَا
هَكَذَا غَيْرُه، ولِكُلِّ شَيْءٍ مُبْتَدَأٌ)(2)؛ بما يوثق لتعددية أنماط الاستدلال، واختلاف فاعليتها في تقريب الفكرة، والتعريف بها، وأهمية التسبب بها الى توضيح المشهد للمتلقي، فيعرف ربّه تعالى ويعبده عن وعي وبصيرة؛ لإدراكه بأنَّ في معصية الربٍّ مخالفةً
ص: 100
للعقلِ؛ الذي دلَّ على توحيد الخالق تعالی؛ عندما ألزم بشكر المنعم.
ومن المعلوم أنَّ الله تعالی منعمٌ بنِعَمٍ يعدّها العباد ولا يحصوها؛ لعدم انقطاعها في مختلف الزمان والمكان وسائر الأحوال، فيلزم عقلاً شكره والاعتراف بالنعمة على جهة التعظيم للمُنعِم وإظهار الحال الجميل(1)، لأنه مُنعم، ومن لوازم ذلك ألا تُجحد نعمُهُ، والا لخالَفَ الجاحدُ حكمَ العقلِ، فتلزمه الحجة عقلاً.
ومع أنه توجد مستويات عقلية وحسية أخرى، للبرهنة على التوحيد، بما يوضح أدلته لمختلف الشرائح(2)، لكن مما امتاز به دلیلا النظم والصديقين، هو وضوح خطوات
ص: 101
الاستدلال على التوحيد، لجميع الفئات العمرية والعلمية،
ص: 102
من عموم المتلقين والنخب، وهو الوضوح كما هو من سمات البرهانين، كذلك هو من أولويات المرحلة؛ إذ يجب الاهتمامُ بعرض براهين التوحيد العقلية والفطرية - الفلسفية والوجدانية - عند الحوار مع الآخر، وتحديث وسائل بيانها، وتجديد آليات الخطاب عبرها؛ تيسيراً للفهم، وتنقيةً للفكر من الأوهام وشوائب الفكر؛ حيث تضرّ جداً بالفرد والمجتمع، بما يصعب تحجيم آثاره وتبعاته، فيلزم تزويد المتلقي بقاعدة بيانات وافية حول الموضوعات العلمية الدقيقة كافة، من مصادر أمينة على فكر الفرد، وثقافة المجتمع، من دون تأثيرٍ على حريته الشخصية في ما يختار ويؤمن به؛ إذ أنَّ إهمال توعيته، وتركه وشأنه - أخذاً بخيارات الحرية -، يمثِّل اعتداءً على حريةِ آخرين، ممَنْ دلّته الأدلة
ص: 103
العلمية على التوحيد، وأوصلته الى رحاب الإيمان بوجود الخالق، وعندها تتعارض الحريتان، فلابد من الاحتكام للعقل، الذي يقضي على جميع العقلاء بلزوم شكر المنعم، واستحالة وجود المعلول بلا علة.
نعم، لابد من مراعاة ذوي الاستفهامات الخاصة، وتقديم الأجوبة المقنعة عما يدور بينهم، ومعالجة ذلك الخلل بحكمة؛ ترشيداً للمجتمع، وترسيخاً للمفاهيم الصحيحة فيه، وحدّاً من انتشار مظاهر الجهل والتسطيح العلمي، وظواهر التشكيك، وموجات ردود الأفعال، المسبّبَة عن أزمات شخصية، وانعكاسات لحالات نفسية أو مجتمعية، كما توثِّقه تجارب المشككين(1)، بما يوجب عقلنة الخطاب الفكري، مع توضيحه وتعزيزه بالدليل النقلي، وذكر الشواهد والأمثلة التي تقرِّبه للفهم، وتعزز من دلالة البرهان الكونية على التوحيد الخالق تعالى؛ لأنه منهج قرآني، التزمه المعصومون علیهم السلام، وثبتت جدواه في الحوار مع الآخر.
ص: 104
أولا: «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ»(1)؛ فقد دعا سبحانه الى نظرة تأمل في هذا النظام الكوني، والتفكر في خلق السماوات والأرض، وهل كان ذلك صدفة واتفاقاً، أم هو بصنع صانع، ومَنْ هو، فلو كان غير الله تعالی فمَنْ هو؟ ولماذا لم يعرِّف بنفسه، ولم يكشف عن أمره؟، كما عرّف الله تعالى بأنه خالق الكون؛ إذ قال: «أو لم ينظروا» أو لم يتفكروا «في ملكوت السماوات والأرض» وعجیبِ صنعهما، فينظروا فيها نظرَ المستدل المعتبِر، فيعترفوا بأن لهما خالقاً، ويستدلوا بذلك عليه، «وما خلق الله من شئ» أي: وينظروا فيما خلق الله من أصناف خلقه فيعلموا بذلك أنه سبحانه خالق جميع الأجسام، فإنَّ في كل خلق الله عز وجل، دلالة واضحة على إثبات وجوده وتوحيده، «وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم» أي: أو لم يتفكروا في احتمال اقتراب أجل موتهم؛ ليدعوهم ذلك إلى أن يحتاطوا لدينهم ولأنفسهم، مما يصيرون إليه بعد الموت،
ص: 106
ويزهدوا في الدنيا، «فبأي حديث بعده» بعد القرآن « يؤمنون» مع وضوح أنه كلام الله المُعْجِز؛ إذ لم يقدر أحد منهم أن يأتي بسورةٍ مثله(1).
فقد حثت الآية المباركة على النظر والاستدلال والتفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره؛ لأنها براهين على وجود الخالق تعالى وحكمته وقدرته، وقد حذّر تعالى من التفريط بترك النظر إلى وقت حلول الموت، وفوات فرصة التفكر والاستدلال على معرفة الله تعالى وتوحيده؛ وذلك قوله تعالى: وأن عسی أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون.(2)
ثانياً: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(3)؛ حيث أوضح تعالى للعبد أنه أمام أحد اختيارين: إما يعمل بما يُجزي عليه يوم القيامة 1 - بالنار، وهو أسوء اختیار؛ لأنَّ العقل المستقل يحكم بلزوم دفع الضرر ولو كان محتملاً، ولا يشك عاقلٌ في ضررية النار وما تسببه للمكتوي
ص: 107
بها فضلاً عمَنْ يُلقى فيها، فيلزم - العبد عقلاً - اجتناب ما يؤدي به للنار؛ لأنه ولو لم يتيقن منها، لكنه لا يجزم بعدمها، فلا يمكنه نفي العقوبة بها مطلقاً، فيلزمه الحذر من عمل يُعاقب عليه بالنار، 2 - بإتيانه آمناً، وهو أحسن اختيار؛ لأنه يكون بعد العمل بما حكَمَ به العقل المستقل من لزوم شكر المنعمِ على نِعمِهِ، الذي جسّد العبد بإطاعة أوامر المنعِم، واجتناب نواهيه، فكان جزاؤه الأمن من العقوبة، والعاقلُ لو لم يرغب بهذا الجزاء، لكنه يحتمل الضرر، فيلزمه دفعه؛ لأنه أهم - عقلاً - من جلب المنفعة ولو كانت قطعية، فيلزم العاقل أنْ يتأكد من صحة هذا الوعد أو الوعيد؛ وذلك عِبر البحث حتى يتيقن بتوحيد الخالق تعالی؛ فالآيات الكونية ذات صفحات متعددة بتعدد الظواهر السماوية، والكائنات الأرضية، مما يُحس به مادياً، من عاقلٍ وغيره، أو يُتعقَل ذهنياً، وكلها دوال توحيدية، متاحة لفهم مختلف الأفراد أو الفئات، فلو تأمل العاقل بواحدة منها، آمن بوجود الإله الخالق الصانع لهذا الكون؛ لاستحالة وجوده صدفة؛ لعدم إنتاج العشوائية تصميماً هندسياً، أو لوحة فنية، أو منظراً جميلاً، الا بنسبة احتمال ضئيلة جداً، لا يعتني بها العقلاء؛ لضعفها أمام قوة احتمال العدم.
فكان في صفحات الآيات الكونية، ما يهتدي به القاريء
ص: 108
المتأمل، مهما كان مستواه الذهني والعلمي؛ لأنها ميسّرة لهداية الجميع؛ حتى تُستنفد جميع المحاولات الممكنة لإنقاذ مَنْ لا يصغي لدلالة عقله، من أنْ يُلقى في النار، مع أنه يقدر أنْ يحفظ نفسه؛ ولهذا قال تعالى: (إنَّ الذين يلحدون في آياتنا)، الذين يميلون عن الحق في أدلتنا، (لا يخفون علينا) شيءٌ من أحوالهم، ثم قال تعالى مستنكراً فعلهم: (أفمَنْ يُلقى في النار) جزاءً على معاصيه، (خیرٌ؟، أم مَنْ يأتي آمناً) من عذاب الله؛ جزاءً على معرفته بالله وعمله بالطاعات؟، ثم قال: (اعملوا ما شئتم)، ومعناه التهدید - وإن كان بصورة الأمر -؛ لأنه تعالی نھی عن القبائح كلها، ولكن خالَفَهُ العاصي، ثم قال: (إنه بما تعملون بصير) أي عالم لا يخفى عليه شئ فيجازيكم بحسب أفعالكم(1).
وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار، بدخول الجنة، لكنه عدل عنه؛ اعتناءً بشأن المؤمنين؛ لأن الأمن من العذاب أعم وأهم؛ ولذا عبر في الأول بالإلقاء الدال على القسر والقهر، وفيه بالإتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا مع الأمن، والآية عامة في كل كافر ومؤمن(2).
ص: 109
ثالثاً: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٭ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ٭ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ٭ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1)؛ حيث تعددت مساقط الضوء في الحوار مع الآخر على كلٍ من:
1. القدرة على إحياء الموتى، وعلى كل شيء.
2. خلق السماوات والأرض.
3. جعل المجانسة بين الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان.
4. انعدام المِثل والشبيه.
5 - 8 الولي السميع البصير العليم.
9. ملكية السماوات والأرض والحاكمية فيهما.
10. بسط الرزق وتقديره.
لكونها براهین توحيدية لمَنْ تأملها؛ فيجدها من مظاهر
ص: 110
القدرة والعظمة، التي لا نظير لها، وتبرهن على توحيد الخالق تعالی؛ إذ قال تعالى: (أم اتخذوا من دونه أولياء) أي: بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام والأوثان، يوالونهم (فالله هو الولي) المستحق للولاية في الحقيقة دون غيره؛ لأنه المالك للنفع والضر (وهو يحي الموتی) أي يبعثهم للجزاء (وهو على كل شئ قدير) من الإحياء والإماتة وغير ذلك، (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) أي: إنَّ الذي تختلفون فيه من أمور دينكم ودنیاکم، وتتنازعون فيه، فحكمه إلى الله، فإنه الفاصل بين المحق والمبطل فيه، فيحكم للمحق بالثواب والمدح، وللمبطل بالعقاب والذم، (ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) أي: إليه أرجع في جميع أموري، ثم وصف سبحانه نفسه بما يوجب أن لا يُعبد غيرُهُ، فقال: (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما ومبدعهما ابتداء، (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) أي أشكالاً مع كل ذكرٍ أنثى يسكن إليها ويألفها، (ومن الأنعام أزواجاً) أي: ذكوراً وإناثاً لتكمل منافعكم بها، (يذرؤكم فيه) أي يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج، (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) لمّا نفى أن يكون له نظير وشبيه، بيّن أنه مع ذلك سميع بصير، فإنما المدحة في أنه لا مثل له مع كونه سميعاً بصيراً لجميع المسموعات والمبصرات، (له مقاليد السماوات والأرض)
ص: 111
أي: مفاتيح أرزاق السماوات والأرض وأسبابها، فتمطر السماء بأمره، وتنبت الأرض بإذنه، (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي: يوسع الرزق لمَنْ يشاء، ويضيق على مَنْ يشاء على ما يعلمه من المصالح للعباد، (إنه بكل شئ عليم) فيفعل ذلك بحسب المصالح(1).
رابعاً: قال الإمام أمير المؤمنین علیه السلام - بیانین مجمل ومفصَّل -: (ولَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ؛ أَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى:
1. صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَه، وأَتْقَنَ تَرْكِيبَه، وفَلَقَ
لَه السَّمْعَ والْبَصَرَ، وسَوَّى لَه الْعَظْمَ والْبَشَرَ.
2. النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا ولَطَافَةِ هَيْئَتِهَا... كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى
أَرْضِهَا، وصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا، وتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا، تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا، وفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا، مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا، لَا
يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ، ولَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ، ولَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ
والْحَجَرِ الْجَامِسِ، ولَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا، فِي
ص: 112
عُلْوِهَا وسُفْلِهَا، ومَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا، ومَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، ولَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً، فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا، لَمْ يَشْرَكْه فِي فِطْرَتِهَا
فَاطِرٌ، ولَمْ يُعِنْه عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ.
3. فَاطِرِ النَّمْلَةِ، هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ؛ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ، وغَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ، ومَا الْجَليِلُ واللَّطيِفُ، والثَّقِيلُ والْخَفِيفُ، والْقَوِيُّ والضَّعِيفُ فيِ خَلْقِه إِلَّا سَوَاءٌ.
4 - 7 السَّمَاء والْهَوَاء والرِّيَاح والْمَاء.
8 - 20 الشَّمْسِ والْقَمَرِ، والنَّبَاتِ والشَّجَرِ، والْمَاءِ والْحَجَرِ،
واخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ والنَّهَارِ، وتَفَجُّرِ هَذِه الْبِحَارِ، وكَثْرَةِ هَذِه الْجِبَالِ، وطُولِ هَذِه الْقِلَالِ، وتَفَرُّقِ هَذِه اللُّغَاتِ، والأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ.
21. الْجَرَادَةِ؛ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ، وأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ، وجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، ونَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، ومِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي
زَرْعِهِمْ، ولَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا ولَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ، حَتَّى
ص: 113
تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا، وتَقْضِيَ مِنْه شَهَوَاتِهَا، وخَلْقُهَا كُلُّه لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً.
22. الطَّيْر مُسَخَّرَةٌ لأَمْرِه، أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا والنَّفَسِ، وأَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى والْيَبَسِ، وقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا،
وأَحْصَى أَجْنَاسَهَا، فَهَذَا غُرَابٌ وهَذَا عُقَابٌ، وهَذَا حَمَامٌ وهَذَا نَعَامٌ، دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِه وكَفَلَ لَه بِرِزْقِه.
23. السَّحَاب الثِّقَال فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا، وعَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الأَرْضَ
بَعْدَ جُفُوفِهَا، وأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا)(1).
فقد اتبع عليه السلام أسلوب الاستدلال المبرهن؛ ليتواصل مع مختلف شرائح المجتمع فيوضح لهم الدليل العقلي الفطري على توحيد الخالق تعالي، من خلال خطاب عام، يسلّط الضوء على عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وجَسِيمِ النِّعْمَةِ، مما يذکِّر العاقل بلزوم اجتنابه لما فيه الضرر المحتمل، وهو النار الذي حذّر منها تعالى وأنبياؤه.
ثم كان استدلال تفصيلي يقترب وجدانياً من طريقة كل فرد أو فئة في الحياة، وعيشهما اليومي؛ حيث:
ص: 114
أ - استعان علیه السلام بنماذج توضيحية من عالَم الحيوان مبتدأَ من صغاره، النملة والجرادة، في عرض تشريحي لجسم كلٍ منهما ودقائق ما فيهما، وتفصيل دوريهما، وتنوّع أنشطتهما(1).
ب - أشار الى السَّمَاء؛ لما فيها من الشَّمْسِ والْقَمَرِ، وما لكلٍ منهما من أدوار في حياة الإنسان، والدورة الزمنية، بفصولها الدورية، وتعاقباتها اليومية باختلاف اللَّيْلِ والنَّهَارِ.
ت - ألمح الى دور الْهَوَاء والرِّيَاح في كلٍ من: هطول المطر بعد تكوّن السُحب والغيوم، ونمو النَّبَاتِ والشَّجَرِ، وجريان الْمَاءِ وما يحدث من عمليات الري المتنوعة، والمتعددة الأغراض والفوائد، وعملية تبخره بعدئذ، وما تمثله من عملية الخزن، وصلابة الْحَجَرِ، ومنافعه في البناء والإعمار.
ث - ذكّر بما يعنيه تَفَجُّرِ هَذِه الْبِحَارِ؛ من ایجاد منافذ جديدة
ص: 115
سوى البر والجو؛ للتنقل عبر البلدان، بما تعنيه من انسيابية حركة النقل، وتعدد محاور التجارة ومراكزها، مما تتكاثر معه فرص العمل، وتتزاید رءوس الأموال، وتزدهر البقاع، فتكون السياحة بما لها من فوائد للعباد والبلاد.
ج - بيّن فوائد كَثْرَةِ هَذِه الْجِبَالِ، وطُولِ هَذِه الْقِلَالِ، وما تُحدثه، من توازنات أرضية، ومناظر جمال طبيعية، تستقطب العباد في أغراض سياحية أخرى، كما تجتذب رءوس الأموال أيضاً، فتوجد فرص استثمار كثيرة، تُسهم في تحسين الاقتصاد، وتحقيق الاستقرار.
ح - عرّف بفوائد تَفَرُّقِ هَذِه اللُّغَاتِ، والأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ وتعددها؛ لما تمثله من تنوع ثقافي، وتراث حضاري، وثراء أممي، بما يقرّب البعيد، ويوصل القريب بغيره؛ ليتكامل الجميع في عدة مجالات.
وإنَّ في جميع ذلك، أدلةً توحيديةً متاحةً لكل أحد حسب فهمه، بما يرسخ لديه الاعتقاد بالتوحيد كعقيدة؛ لأنَّه من المفاهيم التي يلزم تنوّع عرضها ميسراً؛ ليستوعبه الجميع، فكانت الدعوة للتأمل في هذه المخلوقات المتعددة، والتفكر
ص: 116
في أدوارها الحيوية المتنوعة، بما يؤدي للإذعان للحقيقة، والإيمان بالحق.
خامساً: قال الإمام أمير المؤمنین علیه السلام: (أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وابْتَدَأَه ابْتِدَاءً، بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا ولَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا،
ولَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا، ولَا هَمَامَةِ نَفْسٍ(1)اضْطَرَبَ فِيهَا، أَحَالَ الأَشْيَاءَ لأَوْقَاتِهَا، ولأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا(2)، وغَرَّزَ غَرَائِزَهَا، وأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وأَحْنَائِهَا، ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه فَتْقَ الأَجْوَاءِ، وشَقَّ الأَرْجَاءِ، وسَكَائِكَ الْهَوَاءِ(3)، فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُه، مُتَرَاكِماً زَخَّارُه(4)، حَمَلَه عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، والزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ(5)فَأَمَرَهَا بِرَدِّه، وسَلَّطَهَا عَلَى
ص: 117
شَدِّه، وقَرَنَهَا إِلَى حَدِّه، الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ، والْمَاءُ مِنْ
فَوْقِهَا دَفِيقٌ(1)، ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا(2)، وأَدَامَ مُرَبَّهَا(3)، وأَعْصَفَ مَجْرَاهَا، وأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا، فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ
ص: 118
الْمَاءِ الزَّخَّارِ، وإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْه مَخْضَ السِّقَاءِ(1)، وعَصَفَتْ بِه عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ، تَرُدُّ أَوَّلَه إِلَى آخِرِه، وسَاجِيَه إِلَى مَائِرِه حَتَّى عَبَّ عُبَابُه(2)، ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُه(3)، فَرَفَعَه فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وجَوٍّ مُنْفَهِقٍ(4)، فَسَوَّى مِنْه سَبْعَ سَمَوَاتٍ، جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً، وعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً،
وسَمْكاً مَرْفُوعاً(5)، بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا، ولاَ دِسَارٍ(6) يَنْظِمُهَا،
ص: 119
ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ، وضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ(1)، وأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً(2)، وقَمَراً مُنِيراً، فِي فَلَكٍ دَائِرٍ، وسَقْفٍ سَائِرٍ، ورَقِيمٍ مَائِرٍ(3)، ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلاَ، فَمَلأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِه)(4).
وهو عرض آخر لاستدلال عقلي فطري على التوحيد، بأسلوب يجذب المتلقي الى جولةٍ كونيةٍ منذ ابتداء الخلق،
ص: 120
وتحليلٍ عامٍ للطبيعة، وتوضيح عناصرها وخصائصها، وتفسير أدوار مخلوقاتها.
سادساً: قال علیه السلام: (ونَظَمَ بِلا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا(1)،
ولاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا(2)، ووَشَّجَ بَيْنَهَا وبَيْنَ أَزْوَاجِهَا(3)، وذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِه، والصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِه حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا(4)، ونَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا(5)، وفَتَقَ بَعْدَ الارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا(6)، وأَقَامَ
ص: 121
رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا(1)، وأَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِه، وأَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لأَمْرِه(2)،
وجَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا، وقَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا، وأَجْرَاهُمَا فيِ مَناَقِلِ مَجْرَاهُمَا(3)، وقَدَّرَ سَيْرَهُمَا فيِ مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا؛ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ بِهِمَا، ولِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنيِنَ والْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا، ثُمَّ عَلَّقَ فيِ جَوِّهَا فَلَكَهَا ونَاطَ بِهَا زِينَتَهَا، مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا ومَصَابيِحِ كَوَاكِبِهَا، ورَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا(4)، وأَجْرَاهَا عَلَى أَذْلالِ(5)تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ
ص: 122
ثَابِتِهَا، ومَسِيرِ سَائِرِهَا وهُبُوطِهَا وصُعُودِهَا ونُحُوسِهَا وسُعُودِهَا)(1).
سابعاً: قال علیه السلام: (وأَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِه، وعَظِيمِ قُدْرَتِه، مَا انْقَادَتْ لَه الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِه ومَسَلِّمَةً لَه، ونَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلائِلُه عَلَى وَحْدَانِيَّتِه(2)، ومَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الأَطْيَارِ، الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الأَرْضِ، وخُرُوقَ فِجَاجِهَا ورَوَاسِيَ أَعْلامِهَا(3)، ومِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً: الطَّاوُسُ الَّذِي أَقَامَه فِي أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ، ونَضَّدَ أَلْوَانَه فِي أَحْسَنِ
تَنْضِيدٍ)(4)
ثامناً: قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في وصيةٍ لولده الإمام الحسن علیه السلام: (لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُه، ولَرَأَيْتَ آثَارَ
ص: 123
مُلْكِه وسُلْطَانِه، ولَعَرَفْتَ أَفْعَالَه وصِفَاتِه، ولَكِنَّه إِلَه وَاحِدٌ كَمَا
وَصَفَ نَفْسَه)(1)؛ فقد أثبت علیه السلام التوحيد من خلال نفي الشريك؛ إذ لو كان سوى الله تعالى، لعرّف بنفسه ودعا لاتباعِهِ، ولدلَّ على وجوده بآثاره، مع أنه لم يحصل ذلك، فانتفى احتمال وجود الشريك، وثبُتَ أنْ لا إله الا الله؛ لأنه إما أنْ يوجد شريك، وهو مالا دليل على وجوده، بل البرهان على عدمه؛ إذ لو كان شريكٌ، لكان ممكناً وليس بواجب الوجود، وعندها فيبطل وجود الموجودات؛ لانعدام علة وجودها، لكنها موجودة، فثبت أنَّ سبب وجودها والعلة فيه، هو واجب الوجود دون غيره؛ لأنه القادر على إدارة أنظمتها الدقيقة البديعة؛ «قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ٭ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»(2)، وعندها فلابد للمشكك أنْ ينقدها علمياً، ويحاكمها في إطار منظومة القوانين العلمية، التي تمنحه فرصة التأمل، وتمنعه عن التعجّل؛ قال تعالى: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
ص: 124
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٭ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ٭ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ٭ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٭ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ٭ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ»(1).
وعلى نسقِ اهتمام القرآن الكريم بتبيان الحجة، عبر التذكير بمختلف الصور الكونية الدالة على القدرة والإبداع، كان اهتمام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام بتبيين أصول الاستدلال وتنويع أساليبه؛ لتتم مقاربة التوحيد ومعالجة الشبهات، وإشاعة ثقافة الحوار المباشر مع الآخر، والحرص على إحاطته بما لا يعرفه عن الحقيقة؛ حيث:
تاسعاً: قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام جواباً لرجلٍ (قال: ي أمير المؤمنين بماذا عرفتَ ربَّكَ؟ قال: بفسخ العزم ونقض الهم؛ لمّا هممتُ فحيل بيني وبين همي، وعزمتُ فخالَفَ
ص: 125
القضاءُ عزمي، علمتُ أن المدبِّر غيري، قال: فبماذا شكرتَ نعماءَهُ؟ قال: نظرتُ إلى بلاءٍ قد صرَفَهُ عني وأبلى به غيري، فعلمتُ أنه قد أنعم عليَّ فشكرتُهُ، قال: فلماذا أحببتَ لقاءَهُ؟، قال : لمّا رأيتُهُ قد أختار لي دِينَ ملائكته ورسله وأنبيائه، علمتُ أنَّ الذي أكرمني بهذا، ليس ينساني فأحببتُ لقاءَهُ)(1).
عاشراً: قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام؛ بعدما قَالَ لَه رجلٌ: (يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لَنَا رَبَّنَا مِثْلَ مَا نَرَاه عِيَاناً؛ لِنَزْدَادَ لَه حُبّاً وبِه مَعْرِفَةً:
ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَه، ولَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْه
مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَه، وأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِه، وعَجَائِبِ
مَا نَطَقَتْ بِه آثَارُ حِكْمَتِه، واعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِه، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَه عَلَى
مَعْرِفَتِه؛ فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِه وأَعْلَامُ
حِكْمَتِه، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَه ودَلِيلًا عَلَيْه، وإِنْ كَانَ خَلْقاً
صَامِتاً، فَحُجَّتُه بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، ودَلَالَتُه عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ)(2)؛ فقد اختار علیه السلام عدة وسائل لتوضيح الجواب؛ لإيمانه بأنه لا يثبت المطلوب، بإملاء قناعات أحدٍ على غيره، بل بقوة
ص: 126
البرهان، وسلاسة البيان؛ لتتجلى الحقيقة، وتعزز قناعة المشكك بعدم تقاطع منظومة الدين مع تحديث الأسلوب وتجديده، ما دامت الأسس محفوظة؛ إذ لا مانع من استعمال العلوم الأمينة على المجتمع، الصديقة لأفراده، والاستعانة بها على إخراج الفكرة وتقريبها للمتلقين؛ فقد (أَبَى اللَّه أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ، فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)(1)، ومن بين تلك الأسباب: التفنن في البيان والأسلوب، وتوظيف آليات معاصرة، بما يوثِّق لعمق الارتباط الأصيل بين ظواهر الكون ومظاهر القدرة فيه؛ حيث يُستعان بقدرات الإنسان على تأكيد الحقائق في النفوس.
وعليه فلا يعني الإيمانُ بوجودِ الإله، الدعوة الى الاكتفاء بذلك عن عمل قوانين الأشياء وخصائصها الفيزيائية والكيميائية والرياضية وغيرها مما أودعه الله سبحانه بقدرته في مخلوقاته؛ لحفظ توازنات الطبيعة، وليفيد منها الإنسان في سعيه الدنيوي وما بعده.
ص: 127
والمأمول بعد هذه الرحلة الفكرية مع التوحيد في ضوء نهج البلاغة، أنْ تكون عاملاً مساعداً في تبيين معالم التوحيد للمتلقي، من خلال هذه النصوص المختارة، وما قدّمته من أدلة علمية، عقلية وتجريبية غير مباشرة؛ اعتماداً على الآثار الحسية لوجود الخالق تعالى، فقد كانت محاولة جادة لقراءة التوحيد بعقلانيته الفطرية، مما أثبتت فاعلية هذا النمط من الاستدلال على التوحيد، وقدرته على إسناد المتلقي بقاعدة بيانات، لتوضيح المفهوم والمدلول،؛ فكانت قراءة التوحيد في أفق نهج البلاغة:
1. متوافقة مع مخرجات العقل والفطرة والمنطق ومعطياتها بهذا الشأن، وكانت لها القدرة على استيعاب مختلف الشرائح واجتذابهم للإصغاء لهذا البيان العربي المبين، المتناسق مع مناهج التفكير الإنساني؛ حيث عالج الإمام أمير المؤمنين على علیه السلام موضوعة التوحيد بعمق، وقارَبَ
ص: 128
تفاصيلها بموضوعية، محافظاً على رصانة التعبير، في تكوينٍ جُمليٍ متين، حتى عرضها علیه السلام ميسرّة على فهم عامة المهتمين بقضايا الحياة والدين، فأتاح لهم فهماً حيوياً للتوحيد مؤطراً باستدلالٍ عقليٍ وجداني، بما يشدهم للتحاور في المفاهيم العقدية.
وهذه أحدى ضرورات المرحلة؛ حيث يلزم إعداد بعض الشرائح للمشاركة في برامج تأهيل المجتمع فكرياً، بخطاب علمي ميّسر لجميع مستويات الفكر والثقافة.
2. قادرة على تحديد أولويات الخطاب؛ إذ تم تنويع العروض في معالجة موضوعات المعرفة المختلفة، مع مراعاة مقتضيات الأحوال، والجمع بين التدرّج الذهني والترقي العلمي؛ وذلك بسبب تعددية مستويات المتلقين في مختلف الزمان والمكان، فبادَرَ الإمام عليه السلام الى تطويع مفردات النصوص، حتى تبيين المعلومة بأوضح أسلوب ممكن.
وما هذه القدرة البيانية، الا لوضوح الرؤية لديه علیه السلام في تحديد المشكلة وعلاجها، بلا استعانة بالمصطلحات الصِرفة، أو تعقيد الاستعمال والتركيب، وإنما باستحضار البراهين الفطرية القريبة من الجميع، فكان أنْ نجحت
ص: 129
نصوص «نهج البلاغة»، في اقتدارها على معالجة عدة قضايا فكرية.
3. مبادرة بتقديم ورقة عملٍ للنهوض بالمسئولية الإنسانية والشرعية في تصحيح المسار، وتطويق المشكلة، مما يسببه نقص المناعة الفكرية، وأزمة فهم النصوص الدينية، وسوء تحليل القضايا المعرفية الدقيقة، فكانت مبادرة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ذات حلول ديناميكية، في مواكبة الحدث، ومعايشة المناخ، مما أكسبها حضوراً مؤثراً في المشهد العام؛ عند تشابه الأفكار، واختلاف الآراء؛ كما تدلِّل عليه هذه القراءة التوحيدية الواعية؛ لنجاحها في تجذير المفاهيم، وتعميق الاعتقاد بالتوحيد، عبر سياقات الاستدلال العلمي، والبرهنة على القضايا، بما يؤدي الى اليقين بوجود الإله واجب الوجود، بدون تقليد أحدٍ، أو تأثرٍ بجو معين، وإنما بالبرهان.
4. مقنّنة لتقييم الأفكار ونقدها بالدليل العلمي، وتحديث طرق إثبات الحقائق، بما يؤصلها ويتيح فهمها لأكثر عدد؛ حفظاً لهم من الشبهات، التي قد تتسبب انفعالات شخصية وأزمات مجتمعية في حدوثها، بعدما كانت علامات استفهام حول قضايا جوهرية مثل: أصل العالَم، وجود
ص: 130
الخالق، حرية الإرادة، خلود الروح، لكن حيث عجز المُشكك عن تفسيرها، فلم يتفاعل مع دلائل وجود الخالق تعالى، أو لجأ لفهمٍ علميٍ متطرفٍ في تلك القضايا، رافضاً الاستماع لخطاب الدين والتأمل في براهینه؛ مستمعاً للأطروحة الأخرى، متناسياً أنَّ للمعرفة جانبين، مادي ومعنوي، فلا يصح التفكيك بينهما؛ إذ لا يؤدي أحدهُما دورَ الآخر، بل (إنَّ الشعور بثنائية الجسد والروح، أمرٌ فطريٌ مزروعٌ فينا منذ ولادتنا)(1)، و (أنَّ رموزنا لها من التأثير علينا بحيث إذا ما فقدناها نشعر باضطراب في أنفسنا قد لا يكون له بديل جاهز)(2)؛ فالإنسان وغيره من الكائنات، روح وجسد والا فكيف أدرك الإنسان الحقائق الكونية؟!، مع أنه لا يحسها بحواسه الخمس، وإنما يدركها بعقله، وكيف له أنْ يُثبت ما يحس به من أحاسيس ومشاعر ووجدانيات؟!، لو لم تكن الروح جزء من تركيبته؟، بل كيف لم يناقش بوجود
ص: 131
اللامتناهي في الرياضيات، لكنه يمتنع عن الإيمان بما وراء المادة؟!، مع أنَّهما غير متناه، ولا يحسه بحواسه، بل يتصوره بذهنه، مما يشهد للإنسان بوجود ما وراء المادة؟!، كما يشهد عليه بانتقائيته في المعايير والأحكام - أحياناً - حتى بدت كظاهرة واضحة في خصائص هذه الموجة الرافضة لمعطيات البراهين، والمستبدلِة لها بمجموعة أفكارٍ أبطلتها الدلائل الكونية.
لكن ما زال الأمل منعقداً في قدرة العاقل على استبدال الرفض بالتعرّف على التوحيد في أفق نهج البلاغة، وما احتواه من منهجٍ معرفيٍّ، يحمي الأجيال مما يخترق نفوسهم وبياناتها الفطرية الوجدانية، مع ممارسته عملياً لاحترام حرية الآخر في التفكير والاختيار، وحرصه على مخاطبته إياه عدة مرات، وحثه على التفكّر في البرهان الكوني، الذي لا تبطله المناورة بتضعيف نصٍ، أو تشكيكٍ بدلالةٍ؛ لأنه برهان عقلي فطري.
5. مشاركة في إثراء مشروع التنمية الفكرية المستدامة، بالبرهنة على التوحيد، بما يوسِّع خيارات المتلقي، ويساعده على فهم التوحيد كمفهومٍ أصيل، بعيداً عن الإتهام بالشرك.
ص: 132
وبذلك يكون الإمام علیه السلام دعا الى ترسيخ ثقافة التكامل المعرفي في ضوء قراءة متأملة للمشهد ومعطياته، واستنطاق الأدلة، وتوظيف الطاقات، عبر مقاربة فكرية رصينة، تساعد على تنقية الفضاء العام من شوائب التشكيك، وتستنقذ المتورطين، وتعيدهم الى صفاء الفطرة، «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(1).
ص: 133
1. القرآن الكريم.
2. أحكام القرآن، الجصاص، دار الكتب العلمية - بيروت 1415 ه - 1994 م.
3. الإشارات والتنبيهات، أبو علي ابن سینا، نشر البلاغة - قم 1383 ش.
4. الإلحاد في الغرب، د / رمسیس عوض، سينا للنشر - القاهرة 1997 م.
5. الإلحاد مشكلة نفسية، د: عمرو شريف، نشر: نيو بوك - القاهرة 2016 م.
6. الأمالي، الشيخ الطوسي، دار الثقافة - قم 1414 ه.
7. الإمام الصادق عليه السلام والتنظير للتنمية البشرية، محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، ط: الخامسة، دار البذرة - النجف الأشرف 1438 ه، 2017 م.
8. الإمام علي أسدُ الإسلامِ وقديسُهُ، دار الكتاب العربي - بيروت 1399 ه.
9. الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق، نشر: طليعة النور 1425 ه.
ص: 134
10. الإمام علي في الفكر المسيحي المعاصر، راجي أنور هيفا، دار العلوم - بیروت 2007م.
11. تاج العروس، الزبيدي، دار الفكر 1994 م.
12. التوحيد، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.
13. تقريرُ التنميةِ الإنسانيةِ العربيةِ، الصادرِ عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2002 م.
14. التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، مكتب الإعلام الإسلامي 1409 ه
15. تصنيف نهج البلاغة، لبيب بیضون، مكتب الإعلام الإسلامي 1408 ه، ط: الثانية.
16. تفسير الآلوسي، بدون معلومات.
17. تفسير الرازي، ط: 3.
18. جامع البیان، محمد بن جرير الطبري، دار الفكر - بيروت 1415 ه - 1995 م.
19. الجديد في الانتخاب الطبيعي، ريتشارد دوكنز، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
20. الخصال، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي - قم 1403 ه.
21. دائرۃ معارف القرن العشرين، محمد فريد وجدي، دار الفكر - بیروت 1399 ه، 1979 م.
22. الدين والإسلام، الشيخ محمد حسین کاشف الغطاء، (موسوعة الإمام محمد الحسين آل کاشف الغطاء، الآثار الكلامية)، مرکز إحياء التراث الإسلامي، طهران 1439 ه، 2018 م.
23. الذريعة، الشيخ آغا بزرك الطهراني، دار الأضواء - بيروت 1403 ه، 1983 م.
ص: 135
24. رحلة عقل، د / عمرو شريف، نیو بوك - القاهرة، ط: العاشرة 2017 م.
25. رحلتي من الشك الى الإيمان، د / مصطفى محمود، دار المعارف بمصر 1970 م.
26. الرسائل العشر، الشيخ الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.
27. رسالة في التسامح، جون لوك، ترجمة منى أبو سنه، المجلس الأعلى للثقافة - مصر 1997 م.
28. سلسلة عجائب المخلوقات في نهج البلاغة، محمد حمزة الخفاجي، مؤسسة علوم نهج البلاغة - كربلاء 1437 ه، 2017 م.
29. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية 1378 ه - 1959 م.
30. الشواهد الربوبية، صدر الدين محمد الشيرازي، نشر: ستاد انقلاب فرهنگي.
31. الصحاح، أسماعيل بن حماد الجوهري، دار العلم - بیروت 1407 ه، 1987 م
32. الصراع من أجل الإيمان، جيفري لانغ، دار الفكر - دمشق، ط: الثانية 2000 م.
33. العين، الفراهيدي، مؤسسة دار الهجرة 1409 ه.
34. العلم والحقيقة، ريتشارد دوكنز، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة 2005 م.
35. علوم الطبيعة في نهج البلاغة، لبيب بیضون، بدون معلومات.
36. عيون المواعظ والحِكَم، علي بن محمد الليثي الواسطي، دار الحديث.
37. الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري، مؤسسة النشر الإسلامي - قم 1412 ه.
ص: 136
38. في خُطي علي، نصري سلهب، دار الكتاب اللبناني، ط: الأولى 1973 م.
39. الكافي، الشيخ الكليني، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط: الثالثة 1388 ه.
40. الكشاف، الزمخشري، مطبعة مصطفى البابي - مصر 1385 ه - 1966 م.
41. الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية 1998 م.
42. لسان العرب، ابن منظور، نشر: أدب الحوزة - قم 1405 ه.
43. لسان الميزان، ابن حجر، مؤسسة الأعلمي - بيروت، ط: الثانية 1390 ه - 1971 م.
44. لغة الإله، فرانسیس کولنز، ترجمة / د: صلاح الفضلي، ط: الأولى - الكويت 2016 م.
45. اللاهوت المعاصر، نشر المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 2017 م.
46. مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، مؤسسة الأعلمي - بيروت 1415 ه - 1995 م،
47. مسند أحمد، دار صادر - بيروت.
48. المعجزة الخالدة، السيد هبة الدين الشهرستاني، ط: الثانية.
49. معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي، دار النفائس - بیروت، ط: الثانية 1408 ه - 1988 م.
50. مفهوم الألوهية في فلسفة ريتشارد سوین بیرون، عماد الدين إبراهيم عبد الرزاق، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط - المملكة المغربية.
51. مقاییس اللغة، ابن فارس، نشر: مكتب الإعلام الإسلامي 1404 ه
ص: 137
52. مناقب الأسد الغالب علي بن أبي طالب، شمس الدين محمد بن الجزري، دار الكتب العلمية - بیروت 2005 م.
53. المنطق، الشيخ محمد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.
54. من عجائب الخلق في عالَمِ الحشرات، محمد إسماعيل الجاویش، الدار الذهبية - القاهرة 2006 م
55. الميزان، السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة النشر الإسلامي - قم.
56. نهج البلاغة، الشريف الرضي، تحقیق صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني - بيروت 1387 ه - 1967 م.
57. نهج الحق وكشف الصدق، العلامة الحلي، دار الهجرة - قم 1421 ه.
58. نهاية الحكمة، السيد محمد حسين الطباطبائی، مؤسسة النشر الإسلامي - قم 1417 ه، ط: 14.
59. نظرات في القرآن، الشيخ محمد الغزالي، نهضة مصر، ط: السادسة 2005 م.
60. هناك إله، أنتوني فلو، ترجمة د. صلاح الفضلي، 196، ط 2، 1438 ه.
61. هكذا عرفتهم، جعفر الخليلي، مطابع الدستور التجارية - عَمّان 1993 م.
62. وهم الإله، ريتشارد دوكنز، ترجمة بسام البغدادي، الطبعة العربية الثانية.
ص: 138
مقدمة المؤسسة...1
مقدمة...5
تمهيد...9
تعريفُ التوحيدِ لغةً واصطلاحاً...22
التَوحيدُ في القرآنِ المجيدِ والسُنّةِ المُطّهَرَةِ «نماذج»...24
أقسامُ التوحيدِ ومراتِبُهُ...27
الأول: التوحيد في الذات...27
الثاني: التوحيد في الصفات...31
الثالث: التوحيد في الأفعال «الآثار»...34
الرابع: التوحيد في العبادة...39
الخامس: التوحيد في الحكم والحاكمية...41
السادس: التوحيد في الطاعة...44
من مميزات التوحید...45
قراءةٌ في صفحات البرهان الكوني...47
الدين رؤية كونية...51
ص: 139
دو کنز ابتدأ مع «شيء مبهم»، وانتهى الى «وهم»!!...52
من أسباب التشكيك ودوافعه...59
مستوياتُ البراهين والأدلة على التوحيدِ...73
برهان النظم...73
هل الصدفة قادرة؟!...79
التشكيك فعلٌ؟ أم ردّةُ فعلٍ؟...91
برهان الصديقين...94
الدليل النقلي...101
خاتمة...124
المصادر...131
الفهرس...135
ص: 140