منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة

هوية الکتاب

اعمال المؤتر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3663 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

ص: 1

المجلد 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3663 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احاديث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الاخلاق الاسلامية مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق - تاريخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية -مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية المؤتمر العلمي الثاني (2)

اعمال المؤتمر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

الجزء الأول للمدة 13 - 14 / ربیع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 3 / 12 / 2017 م

اصدار مؤسسة علوم البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1440 ه - 2019 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Info@Inahj.org

تنویه: إن الأفکار والآراء المذکورة في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة تخلي العتبة الحسینیة المقدسة مسؤولیتها عن أي انتهاك لحقوق الملکیة الفکریة

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»

صَدَقَ الله العَلِيُّ العَظِيم

مریم: 55

ص: 5

ص: 6

مقدمة المؤسسة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرين أما بعد: فإنّ جوهر بعث الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) هو بناء الإنسان، وما ارتبط به من شؤون حياتية بناءً صلباً، يؤمّنُ له حفظ نفسه وما تعلق به من الأضرار أو التلف والهلاك.

ولا شك أن عملية البناء هي منظومة فكرية وآليات تطبيقية تأخذ جميع ما له علاقة بالنفس الإنسانية ضمن اهتمامها وغايتها وهدفها.

لذا: فإن المكونات الفكرية لهذه المنظومة لم تقتصر على ما جاءت به الرسالات السماوية، وإنما ما توصلت إليه الحركة العلمية والبحثية منذ أن شرعت الإنسانية بوضع أسس البحث والتنقيب والتحقيق والدراسة، فكان من بين أهم عملها المعرفي بناء الإنسان، وما للمؤسسة الحكومية من أثر كبير في تكامل العملية البنائية للإنسان والأسرة والمجتمع.

(فبناء الإنسان بناء للوطن)

من هنا: اتخذت مؤسسة علوم نهج البلاغة من وحي فكر أمير المؤمنين (عليه السلام) رائد عملية بناء الإنسان والوطن هدفها في إقامة هذا المؤتمر العلمي وتحت شعار (منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في بناء الإنسان وإنسانية الدولة).

ضمن مجموعة من المحاور العلمية سعياً منها في استلهام الحلول العلمية لتحقيق عملية البناء، والله الموفق لكل خير.

والحمد لله رب العالمين

السید نبیل قدوري حسن الحسني

عن: اللجنة التحضیریة

ص: 7

شعار المؤتمر:

(منهج الإمام علي (علیه السلام) في بناء الإنسان وإنسانية الدولة).

أهداف المؤتمر:

1. استلهام الحلول العلمية المستوحاة من فكر الإمام علي (علیه السلام) في بناء الإنسان وتجلي إنسانية المؤسسة الحكومية.

2. تنمية الحركة العلمية والبحثية وخلق سبل التواصل بين الباحثين والمفكرين.

3. إسهام العتبة الحسينية المقدسة ومؤسسة علوم نهج البلاغة في دعم الحركة العلمية وذلك من خلال الإضافات المعرفية في محاور المؤتمر.

4. رعاية النخب العلمية والفكرية من خلال هذه المشاركات البحثية ونشر فعاليات المؤتمر.

5. تحفيز المؤسسات العلمية ومؤسسات المجتمع المدني على ممارسة دورها في بناء الإنسان.

ص: 8

اللجنة العلمية

(1) أ. د. صلاح مهدي الفرطوسي

جامعة الكوفة - كلية التربية الأساسية

(2) أ. د. سعد خضير عباس الرهيمي

جامعة بابل - كلية القانون

(3) أ. د. حسين علي الشرهاني

جامعة ذي قار - كلية التربية - قسم التاريخ

(4) أ. د. علي عبد الفتاح الحاج

فرهود جامعة بابل - كلية الدراسات القرآنية

(5) أ. د. هيثم عبد الله سلمان جامعة

البصرة - مركز دراسات البصرة والخليج العربي / قسم الدراسات الاقتصادية

(6) أ. د. یوسف حجیم سلطان الطائي

جامعة الكوفة - كلية الإدارة والاقتصاد

(7) أ. د. صالح کاظم عجيل الجبوري

جامعة بابل - كلية الآداب

(8) أ. د. رؤوف أحمد الشمري

جامعة الكوفة - كلية الفقه

(9) أ. د. يوسف كاظم الشمري

جامعة بابل - كلية التربية

(10) أ. م. د. عدنان مارد جبر

ص: 9

جامعة كربلاء - كلية التربية - قسم العلوم النفسية والتربوية

(11) أ. م. د. صباح صاحب العریّض

جامعة الكوفة - كلية العلوم السياسية

(12) أ. م. د. جميل محسن منصور

جامعة واسط - كلية الآداب - قسم علم الاجتماع

(13) أ. م. د. مصطفی کاظم شغيدل

جامعة بغداد - كلية الآداب

(14) أ. م. د. حسن حميد فياض

جامعة الكوفة - كلية التربية الأساسية

(15) أ. م. د. فليح خضير شني

جامعة واسط - كلية الآداب

(16) أ. م. د. عبد علي كاظم الفتلاوي

جامعة كربلاء - كلية العلوم السياحية

(17) أ. م. د. عدنان عاجل عبيد

جامعة القادسية / كلية القانون

(18) أ. م. د. محمد حسين الطائي

جامعة كربلاء - كلية العلوم الإسلامية

(19) أ. م. د. فهد نعيمة البيضاني

جامعة كربلاء - كلية التربية للعلوم الإنسانية

(20) أ. م. د. خالد عليوي العرداوي

جامعة كربلاء - مركز الدراسات الاستراتيجية

ص: 10

اللجنة التحضیریة:

1. السيد نبيل قدوري الحسني - رئیساً

2. د. لواء عبد الحسن عطية - عضوا

3. د. خالد جواد جاسم - عضواً

4. م. م. عمار حسن الخزاعي - عضواً

5. م.م. خالد عدنان حسن - عضواً

6 . م. م. علي عباس فاضل - عضواً

7. م. م. عماد طالب موسى - عضواً

8. علي جاسم محمد علي - عضواً

9. أحمد عباس مهدي عباس - عضواً

10. أحمد عدنان المعمار - عضواً

ص: 11

محاور المؤتمر:

أولاً: المحور العقدي والفقهي:

1. آلية تحصين الشباب من الأفكار المضطربة في عقيدة التوحيد في ضوء نهج البلاغة.

2. الإيمان باليوم الآخر وأثره في تقويم السلوك في نهج البلاغة.

3. حدود التزيين بين المواكبة العصرية والضوابط الشرعية عند الإمام علي (علیه السلام).

4. منزلة الصلاة وتعاهد أمرها وأثرها في بناء الإنسان والأسرة في ضوء نهج البلاغة.

5. أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوابط بناء الإنسان والمجتمع في ضوء نهج البلاغة.

ثانياً: المحور القانوني والسياسي:

1. التكافل الاجتماعي وانعكاساته على صلاح الرعية في ضوء نهج البلاغة.

2. رعاية الأيتام وبناء أسرهم أثناء الحرب وتجلّياتها الإنسانية في فكر الإمام علي (علیه السلام).

3. السياسة بين تصريف المصالح و تجنب المآثم وأثره في إنسانية الدولة في ضوء نهج البلاغة.

4. تشريع الأحكام بين الضوابط القانونية والقيم الإنسانية، العهد العلوي إنموذجاً.

5. آليات بناء الثقة بين الفرد والسلطة عبر المشاريع الخدمية في ضوء العهد العلوي المالك الأشتر (رضي الله عنه)

ثالثاً: المحور الإداري والاقتصادي:

1. تنمية الموارد البشرية وانعكاساته في بناء الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام).

2. محاربة البطالة وأثره في بناء الإنسان والوطن في فكر الإمام علي (علیه السلام).

ص: 12

3. آليات بناء العلاقة بين الموظف والمسؤول في مواجهة الفساد الإداري في فكر الإمام علي (عليه السلام).

4. بناء النظم الإدارية في مؤسسات الدولة على قاعدة المواطنة في فكر الإمام علي (عليه السلام).

5. تشجيع الاستثمار في القطاع الاقتصادي والزراعي وأثره في بناء الإنسان، في فكر الإمام علي (علیه السلام).

رابعاً: المحور الاجتماعي والنفسي:

1. آليات بناء العلاقة الزوجية وتجنب العنف الأسري في فكر الإمام علي (علیه السلام).

2. احتضان ذوي الاحتياجات الخاصة ودور المؤسسة الحكومية الإنساني في ضوء فكر الإمام علي (علیه السلام).

3. تزويج الشباب وإسكانهم وأثره في تجليات إنسانية الدولة في فكر الإمام علي (علیه السلام).

4. أثر القيم الأخلاقية في بناء النفس وانعكاساتها السلوكية في المجتمع في ضوء سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام).

5. التدين بين متطلبات الحداثة وثبات الهوية الإسلامية للمجتمع في فكر الإمام علي (علیه السلام)

خامساً: المحور التربوي والأخلاقي:

1. الإرشاد التربوي في الأسرة والمدرسة وأثره في مواجهة التطرف في ضوء فكر الإمام علي (عليه السلام).

2. أثر الثقافة المغايرة في الفرد والأسرة وآلية تحصينها في فكر الإمام علي (علیه السلام)، مواقع التواصل الاجتماعي أنموذجاً.

3. تعزيز المناهج التربوية والتعليمية بالقيم الإسلامية وأثرها في بناء المتعلم في ضوء

ص: 13

فكر الإمام علي (علیه السلام).

4. بر الوالدين يبدأ من الآباء وأثره في بناء الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام).

5. حصانة المرأة وأثرها في بناء المجتمع في فكر الإمام علي (علیه السلام).

سادساً: المحور اللغوي والأدبي:

1. تسطيح المفردات العربية بدعوى العصرنة وأثرها في هدم الإنسان العربي وآليات المعالجة في ضوء كلام الإمام علي (علیه السلام).

2. أثر المعجم العربي في بناء الهوية الإسلامية في ضوء كلام الإمام علي (علیه السلام).

3. أثر النظريات اللسانية في بناء المفاهيم الإنسانية في ضوء الدراسات التطبيقية في نهج البلاغة.

4. اعتماد كلام الإمام علي (علیه السلام) في المناهج التعليمية وأثره في بناء الشخصية الإسلامية.

5. نشر ثقافة قصار الحكم للإمام علي (علیه السلام) وأثره في صيانة اللسان العربي؛ المؤسسة التعليمية ومواقع التواصل الاجتماعي أنموذجاً

المحور السابع: القضايا المعاصرة:

1. تنمية العلاقة بين المؤسسة الأكاديمية والمؤسسة الدينية لبلورة تحديات الهوية الإسلامية وبناء الذات في فكر الإمام علي (علیه السلام)

2. الشباب وضياع الهدف في ظل اضطراب فرص العمل وأثره السلبي في بناء الإنسان في ضوء فكر الإمام علي (علیه السلام).

3. الخطاب الديني ونفور الشباب منه، وآليات بناء الثقة في ضوء فكر الإمام علي (علیه السلام).

4. كبت الطاقات الشبابية في عملية بناء الوطن وكاشفيته لضعف أداء المؤسسة

ص: 14

الحكومية والحاكم في فكر الإمام علي (علیه السلام).

5. آليات مواجهة الفقر وانعكاساته على إنسانية الدولة في ضوء سياسة الإمام علي (علیه السلام).

ص: 15

ص: 16

المحور العقدي والفقهي

ص: 17

ص: 18

التراث العَلوي ودوره في نمو الأحكام الخلقية لدى الشباب (دراسة تحليلية)

اشارة

د. حليم صخيل العنكوشي

وزارة التربية

مديرية تربية الديوانية

م. حلا يحيى البديري

جامعة القادسية

كلية التربية للبنات

ص: 19

ص: 20

تعريف بالبحث

المقدمة:

إن ازدياد النمو العقلي للشباب من كلا الجنسين يتيح لهم التعامل مع الأمور المجردة مثل الحقيقة والجمال والخلود والعدالة والمساواة، مما يساعد على تشكيل اطار للقيم والمعتقدات لديهم وتصبح لهم نظرة فاحصة متأملة، فنجدهم مثلاً، ينظرون الى مجموعة قواعد السلوك على أنها من صنع الإنسان ومن ثمة يمكن تغيرها. ومن هنا فمرحلة الشباب تعد مرحلة حاسمة للبناء الخلقي للشخص اذ أن تطور الهوية لديهم يتطلب منهم أن يبنوا لأنفسهم فلسفة خلقية (منصور وعبد السلام، 1981: 542 - 544)، لذلك نجد أن اهتمام الشباب بالمشكلة الخلقية واستعدادهم الجوهري لممارسة ذلك النوع العميق من التبصر بالذات وفهمها ما هو الا دليل على سعيهم لبناء فلسفتهم الخاصة بالحياة (عريفج، 2000: 272).

وتعرّف الأخلاق على أنها مجموعة الضوابط ذات المنشأ العقلي أو الالهي، الغرض منها ضمان الروابط الاجتماعية الصحيحة وهذه الضوابط لبني البشر والمجتمعات وهي تتبع قواعد ومقررات معينة (القائمي، 1998: 15).

إن للأخلاق أهمية كبيرة في الدين الاسلامي بل أن الرسول الكريم محمد صلی الله علیه وآله وسلم قد جعل الرسالة الإسلامية متممة للقيم الاخلاقية النبيلة لقوله صلى الله عليه وسلم: (انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)، ومما تقدم نرى أهمية الأخلاق في تقويم سلوك الفرد وفي بنائه النفسي والاجتماعي فهي تعتني به وتهذب شخصيته وكذلك تتجه في الوقت ذاته نحو اصلاح المجتمع الإنساني بأسره وأن تأكيد الدين اياها يعطيها خصوصية

ص: 21

أخرى يجب التمسك بها لأنها أصبحت جزءاً من الدين فيجب أن يتربى الفرد ويتشبع بالقيم الخلقية الفاضلة، فإن الاهتمام بها هو لرفع مكانة الإنسان وحثه على الالتزام بالقيم والمبادئ الخلقية السامية. وقد اكدت عليها النظم التربوية وأعطتها خصوصية في مناهجها التعليمية وهذا الاهتمام نابع من مسلمة أساسية مفادها أن الاخلاق والتربية متلازمتان فلا تربية بدون أخلاق ولا أخلاق بدون تربية (النوري، 1985: 115).

كما يُعد النمو الخلقي في هذه المرحلة أحد أهم مظاهر النمو الاجتماعي والعقلي والانفعالي عند الفرد وهو يمثل جانباً مهماً في بناء الشخصية وعلى الرغم من أن بناءه يتكامل مع بناء جوانب الشخصية الأخرى فإنه يُعد جانباً راقيا فيها إذ يختص بالقيم والعادات والتقاليد والمعايير الاجتماعية، الذي يمكن من خلاله الحكم على مدى سوء الشخصية أو انحرافها (قناوي، 1987: 67)، والاحكام الخلقية لا تصدر أو تتم في فراغ وانما يُمثل العنصر الموقفي عاملاً حيوياً في كل حكم خلقي ولذا فإن الاحكام الخلقية تتفاوت من موقف الى آخر وبذلك يتعين رصدها في عدد من المواقف (حجاج، 1985: 148).

وقد تناول هذا البحث مفهوم الحكم الخلقي والذي يُعد مفهموا نفسياً يحوي الكثير من السلوكيات وهو جانب مهم من جوانب النمو المختلفة وذلك لعلاقته بالنمو النفسي والاجتماعي والذكاء وسمات الشخصية ومفهوم الذات والبعض من الامراض النفسية، فضلاً عن أهميته في السلوك والتقبل الاجتماعي، وأن كثيراً مشکلات مجتمعنا الراهنة هي مشكلات أخلاقية في صميمها، فما يدور حوله الحديث على كل لسان من نفاق ومظاهر التسيب والاهمال والفساد وانحرافات المراهقين وغيرها إنما هي جميعها تعبر عن أزمة خلقية وعن قصور في النمو الخلقي.

ص: 22

وإن القيم والمفاهيم والسلوك الخلقي مستمدة من منطلقات حددها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وتراث الأئمة عليهم السلام، وأصالة مجتمعنا تمنحه الاستعداد لتلقي الواجبات الالهية المتمثلة بالأحكام والتعاليم والأوامر والنواهي والالتزام والعمل بها في اطار السلوك الخلقي السامي فكراً وتطبيقاً، وأن شخصية الإمام علي عليه السلام تُعد من أبرز الشخصيات الإسلامية التي امتازت بنفاذ الذهن، وضخامة الفكر وتكامل الشخصية والقدرة على مخاطبة العقول، ورسم نظام خلقي متكامل فقد ترك لنا موروثاً ضخماً ساهم ويساهم في نمو الاحكام الخلقية لدى جميع شرائح المجتمع، والشباب أحوج ما يكون لكي ينهلوا من هذا الفكر كي تستقيم حياتهم وتتسق أنساقهم القيمية والخلقية مع ما يتوجب أن يكونوا علیه ضمن المجتمع الاسلامي، فكان علينا المساهمة في إحياء هذا التراث العظيم، ونشره وفاءً لأئمتنا، واعترافا بفضلهم، وهذا هو ما دفع الباحثين في عرض هذا البحث.

ونظرا لأهمية مفهوم الحكم الخلقي وحداثته على حد علم الباحثان، فضلاً عن ارتباطه بكل جوانب الحياة السوية، لذا شرع الباحثان بتتبعه والوقوف عند مكوناته ومعرفة الآراء النفسية التي تفسره، فضلاً عن معرفة الوصايا والأحاديث والمواقف والخطب التاريخية التي وردت عن الإمام علیه السلام والتي ساهمت في تطور الحكم الخلقي لدى الشباب.

مشكلة البحث:

لاشك أن علم النفس الديني يُسهم في تفسير كيفية اكتساب الأفراد سلوكهم الديني، وهذه المعلومات يمكن أن تستخدم في نشر الدين، كما يمكن لعلم النفس أن يوضح التأثير الذي يملكه الدين على الجوانب الأخرى من السلوك، مثل

ص: 23

السلوك الحسن والأخلاق الحميدة واحترام الآخرين واختيار المثل الأعلى وتقبل الآخر وغيرها، وهذا قد يساعد في تخفيف مشاكل اجتماعية معروفة وتربوية كثيرة مما يسهم في رسم خارطة طريق خلقية للشباب لتجنب الانزلاق في مغريات الحياة العصرية والابتعاد عن المعايير الخلقية التي ينادي بها الدين الاسلامي.

ترجع معظم الكتابات والأبحاث العديد من المشكلات التي يعاني منها الشباب اليوم إلى اضطراب النسق الأخلاقي والقيمي لديهم فقد يحدث الصراع بين ما تربي عليه الفرد وبين ما يراه وما يسمعه يوميا في تعاملاته من آراء تدعو إلى اعتناق الأخلاق الغير مرغوب بها هذا الصراع يؤدي به إلى اضطراب في هويته ويفقده الإحساس بالهوية ويصبح مضطربًا وجدانيا مما يؤثر على سلوكه وأفكاره.

ولما كان مفهوم الحكم الخلقي من المفاهيم الحديثة على حد علم الباحثان وحيث أنه يمثل خليط متجانس من السلوكيات التي تجعل حاملها يبدو في أروع صوره الفكرية والنفسية والاجتماعية وترتقي كي تكون بمستوى المثل العليا التي يستوجب الاقتداء بها، لذي شرع الباحثان في تقصي هذا المفهوم والوقوف على النظريات والآراء التي فسرته ومعرفة مكوناته وطرق التعرف عليه، فضلا عن تحليل الوصايا والآراء والخطب التي وردت عن الإمام علي عليه السلام التي تؤكد على الجوانب الخلقية كي تكون نبراساً وطريقاً يحتذي به شباب اليوم وقادة المستقبل، وبالتالي يمكن لهذا الإرث العلوي أن يعمم ويطبق كي ننشئ جيلاً بمستوى لائق من السلوك الديني والاجتماعي الذي امتازوا به ائمتنا الأبرار سلام الله عليهم.

أهمية البحث:

يبرز هذا البحث أهميته من خلال ما يأتي:

ص: 24

أولاً: أهمية التراث الفكري والخلقي للإمام علي علیه السلام الذي يروم الباحث دراسته وتحليل محتواه. فهو يُعد واحداً من أبرز الشخصيات الاسلامية التي أحدثت تغيراً فكرياً واجتماعياً وخلقياً لدى المسلمين وأحد أبرز المرجعيات التي تنظم جوانب المجتمع المختلفة.

ثانياً: حداثة وندرة البحوث حول مفهوم الحكم الخلي على حد علم الباحثان.

ثالثاً: الحدود الزمنية التي أُجري فيها البحث وما يتعرض له الشباب من هجات فكرية وخلقية تستهدف النيل من ثوابتهم (الاجتماعية والخلقية) تتطلب منا ابراز جوانب مهمة من التراث الفكري والخلقي للإمام علي عليه السلام وغرسه في نفوس الشباب.

رابعاً: تنبع أهمية البحث من أهمية الموضوع الذي يُبحث فيه، والمتعلق بالأحكام الخلقية ودور الموروث العلوي في تطورها.

خامساً: الاستفادة من وصايا الإمام علي علیه السلام في تطور النمو الخلقي لدى الشباب والتي تناسبت مع الظروف المحيطة والعمل على تعميم تلك الوصايا للارتقاء بالفرد العراقي.

سادساً: يمكن أن يستفيد من نتائج هذه البحث:

أ. القادة السياسيين والعسكريين والقائمين بالأعمال الإدارية وبالأخص التربوية منها من خلال التعرف على النمط القيادي الذي يفعّل أداء العاملين.

ب. قد يقدم هذا البحث تغذية راجعة للأفراد القائمين على التربية والتعليم بتطوير أدائهم وتحسين مهاراتهم.

ص: 25

ج. ربما تكون هذه الدراسة مفيدة لمراكز إعداد وتدريب الخطباء المميزين من حيث الارتقاء بمستوى الشباب والتركيز على الجوانب الإنسانية والخلقية للأئمة الأطهار عليهم السلام وعدم الاقتصار على الجوانب العاطفية.

د. قد يفتح هذا البحث أفاقاً جديدة للباحثين في أنماط التعامل الخلقي اتبعها الإمام سلام الله عليه أثناء حياته ليواصلوا البحث في هذا المجال.

أهداف البحث

يستهدف البحث الحالي الى ما يأتي:

1 - تعرف مفهوم الحكم الخلقي وتحديد مكوناته.

2 - الكشف عن الحكم الخلقي والحث على نموه وتطوره في الوصايا والحطب والمواقف التي وردت عن الإمام علي علیه السلام.

3 - تعرف مدى الإفادة من الموروث الفكري والأخلاقي للإمام علي علیه السلام في عليه تطور الحكم الخلقي لدى الشباب .

حدود البحث:

اقتصرت حدود البحث الحالي على البعض من الوصايا والأحاديث والمواقف والخطب الواردة عن الامام علي علیه السلام والمتفق عليها، واتبع الباحث المنهج الوصفي التحليلي من خلال تحليل النصوص الواردة واستنتاج مدى تأثيرها في نمو الاحكام الخلقية لدى الشباب.

منهج البحث:

إن سلامة المنهج تقتضى منا قبل الحديث عن أية شخصية أو أي فكر أن تتحدث عن البيئة أو الظروف التي أنتجت لنا تلك الشخصية أو ذلك الفكر، وانسجاماً

ص: 26

ومنهج البحث التحليلي التاريخي فقد قسمت بحثي هذا على أربعة مباحث وخاتمة. شمل المبحث الأول تعريفاً بالبحث، فيما جاء المبحث الثاني ليقف عند مفهوم نمو الأحكام الخلقية، اما المبحث الثالث فهو لدراسة القيم الخلقية والحث على تطور الحکم الخلقي في البعض من الأحاديث والخطب والمواقف الواردة عن الامام علي علیه السلام وخصص المبحث الرابع لمناقشة مدى الإفادة مما ورد عن الإمام من حث وإثابة للحكم الخلقي الذي يطابق الشريعة الإسلامية في تربية الجيل الجديد للسير على خطى الائمة الأطهار وامتلاكهم أحكام خلقية ترتقى للمستوى الذي يطمح اليه أئمتنا عليهم السلام.

وخلص البحث الى أن الاساليب والأدوار والوصايا التي اتبعها سلام الله عليه طيلة فترة حياته الشريفة كانت تمثل بحق الرافد الحقيقي لتمسك الشباب بمبادئ وقيم وثوابت الدين الاسلامي، وعلينا أن نتخذ من شخصه وحياته وتراثه أنموذجاً يحتذي به للوصل الى درجة عالية من الرقي النفسي والتطابق الفعلي لقيمنا الشخصية مع قيم المجتمع وثوابت الدين الحنيف.

واستكمالاً لمتطلبات البحث العلمي أوصى الباحثان بمجموعة من التوصيات والمقترحات.

التعريف بمصطلحات البحث:

أولاً - الحكم الخلقي: عرفه كل من:

- (Good، 1973): بأنه حكم يشتمل على اختيار مبدأ، أو سياسة أو سياقات عمل، ويتضمن معياراً للسلوك الصحيح، ويمكن أن يتضمن الحكم أساساً اختيار المبدأ الصحيح وتطبيقه وربما يتضمن الخيار من بين عدة مبادئ أو حل الصراع (Good، 1973: 353.p).

ص: 27

- (جبس، 1977): يَعده وصف وتقييم، وتبرير، ما يتعلق بالعمل الصحيح، والسلوك المقبول اجتماعيا (p: 1977 ،Gibbs. 44).

- (ریست، 1979): يعتقد بأنه البناء الفعلي الأساس الذي يدرك الناس بواسطته الحقوق والمسؤوليات ويتخذون القرارات حولها (p : 1979 ،Rest. 76).

- (الغامدي، 2004): يرى بأنه القرار الذي يتوصل إليه الفرد عندما يواجه مشكلة تتعلق بالصواب والخطأ (الغامدي، 2004: 6)

وقد تبنى الباحثان تعريف (الغامدي، 2004) كونه الأحدث من بين التعريفات وأكثرها شمولاً لمكونات الحكم الخلقي ويتماشى مع أهداف البحث الحالي.

ثانياً - الموروث العلوي:

عرّفه الباحثان بأنه المستودع الثري والضخم الذي تركه الإمام علي بن أبي طالب ال للإنسانية من خطب وأحاديث ومواقف ووصيا ومعالجات علِه السلام اجتماعية وردت عنه ومتفق عليها في أثناء حياته الشريفة.

ص: 28

إطار نظري

النظريات التي تناولت نمو الأحكام الخلقية

إن المفاهيم الخلقية من المفاهيم التي اختلف المنظرون في تفسير طبيعتها، وقد نتج عن ذلك ثلاثة مداخل أساسية لتفسير السلوك الخلقي والحكم الخلقي وتطورهما فضلا عن وجود نظريات لم تحظ باهتمام الباحثين وسوف نستعرضها كما يأتي:

1. المنظور السلوکي Behaviorism perspective))

يعتقد أصحاب هذا المنظور أن النمو الخلقي يخضع لقوانين التعلم شأنه في ذلك شأن أي سلوك مثل (التقليد والتعزيز والثواب والعقاب والإنطفاء والتعميم والتمييز)، لذلك تركزت معظم الدراسات والبحوث التي اجريت وفق هذا المنظور على السلوك الخلقي، وليس على الحكم أو التعليل أو الحكم الخلقي (Greif، 1081: 223.p).

أ. (سكنر) يرى أن السلوك الخلقي يتشكل من خلال التنشئة الاجتماعية، فمن خلال سلسلة من الإجراءات يبدأ الفرد برؤية أنماط معينة من السلوك، فيقوم بتطوير أنماط سلوكه الأخلاقي لكي يتناسب وهذه الاجراءات، وأن قدرة الفرد على اكتساب هذه الأنماط تتأثر بقدرته على الحكم وتنظيمه الذاتي وكذلك على التعزيز المصاحب لذلك السلوك (عباس، 1988: 33 - 34)، فمن خلال استعمال التعزيز الايجابي يمكن أن تتطور سلوكيات خلقية مرغوب فيها ومن ضمنها السلوك اللفظي والنشاط المعرفي.

ب. دولارد وميلر (Dollard Miller) يعطيان الأهمية عينها للتعزيز في

ص: 29

عملية التعليم، فاذا اردنا أن ندعم سلوكا معينا او ان نوقف سلوكا معينا فيمكن فعل ذلك من خلال نمط التعزيز المستعمل، فالسلوك الذي يثاب يميل الى أن يتكرر في مواقف مماثلة، كما أن السلوك الذي ينتهي بالعقاب يميل الى التوقف ويمتنع عن الحدوث (توق، 1980: 24 - 25).

ت. باندورا وولترز (Bandura Walters) يؤكدان على أن التعزيز وحده لا يكفي لحدوث عدد من أنماط السلوك، وأن التعلم عن طريق التقليد مهم في تعلم أي نوع من أنواع السلوك والتعلم عن طريق النمذجة ينطبق على تعلم السلوك الخلقي (Graham، 1972 : 2. 113).

ماورر(Mowrer) اهتم بالآليات التي تتضمنها عملية التقليد والتي تُعد عاملاً جوهرياً لتطور السلوك الخلقي، فالفرد الذي یكون سلوكه متأتياً من خلال تقليد سلوك الراشد، فإن ذلك يعد بمثابة مكافأة لسلوكه اللاحق، وبذلك يزداد احتمال تكراره (p 1972 ،Graham.100-99).

وقد حدد (سيرز وماكوبي وليفين) ثلاثة معايير لنمو الحكم الخلقي، تتعلق بالضمير بوصفه ظاهرة سلوكية متعلمة وهي:

1. مقاومة الاغراء (Resistance of Temptation) وتتضح هذه الظاهرة حين يعزف الفرد عن الاقدام نحو مثير يجذبه أو يغريه لكونه غير أخلاقي من وجهة نظر الثقافة التي ينتمي اليها.

2. توجيه الذات أو التعلم الذاتي: (Self-instruction): إن الفرد يتعلم طاعة القواعد الأخلاقية والمبادئ الأخلاقية من خلال ما يملكه والده من تلك المبادئ والقواعد الأخلاقية. فمن تفاعلات والديه معه ومن خلال ملاحظاته الأناط السلوكية اللفظية لهما، يتعلم هذه الأنماط من دون الحاجة الى من يعلمه اياها.

ص: 30

3. المظاهر السلوكية الدالة على الشعور بالذنب في حالة الخروج على القواعد: إن الفرد عندما يقوم بعمل خاطئ غالبا ما يتعرض لعقاب، أو عدم رضامن الوالدين، ولكي يسترد الفرد عطف والديه: إذا ما اقترف عملاً خاطئا فانه يعترف بخطئه ويكف عن تلك الأفعال (العبيدي، 1995: 44).

2. النظرية المعرفية (Cognitive perspective):

يرى المعرفيين الادراكيين أن اكتساب الأخلاق عملية إصدار أحكام ترتبط بنمو الحكم عند الأفراد، وأن النمو الخلقي جزء من عملية النضج ضمن إطار خبرة العمر العامة، وهو يرتبط بسلسلة من المراحل شبيهة بمراحل النمو المعرفي الإدراكي للفرد، والسلوك الخلقي هو أحد جوانب السلوك الإنساني الذي تحكمه تصورات الفرد وأبنيته المعرفية، وهو أحد نواحي تكيف الفرد المعرفي مع تغييرات بيئته وواقعه الاجتماعي وأدناه آراء أهم المنظرين المعرفيين:

أ. وجهة نظر بياجيه:

الذي يرى أن النمو الخلقي يتضمن مظهرين، هما احترام الفرد للمعايير الاجتماعية وإحساسه بالعدالة.

وقد وضع (بياجيه) إجابات عن التساؤلات التي تمحورت حولها بحوثه في السلوك الخلقي وقدم إجاباته هذه في سياق تطوري نسائي متسق مع نظريته في النمو المعرفي، وتوصل من هذه الصياغة الى تحديد نظريته في الأحكام الخلقية التي حددها بثلاث مراحل:

المرحلة الاولى: هي مرحلة ما قبل الخلقية (Pre moral stage) وفي هذه المرحلة لا يمتلك الأفراد الا معرفة يسيرة عن القواعد الخلقية، وموقع هذه المرحلة هو ما

ص: 31

قبل السنة الخامسة من عمر الفرد (p:1991 ،Turner .134).

المرحلة الثانية: تسمى مرحلة الخلقية التابعة (Heteronomous morality) أو الواقعية الخلقية (Moral Realism) أو خلقية الجبر (Morality of constrain) وتستغرق هذه المرحلة من السنة السادسة الى العاشرة من عمر الفرد، ويتوفر للطفل فيها مستوى من الالتزام الخلقي غير ناضج فكريا، ومما يؤثر فيه على نحو أساس هو احترام الفرد للراشدين.

المرحلة الثالثة: وتدعی الخلقية المستقلة (Autonomous morality) أو خلقية التعاون (Morality of cooperation) يمكن للفرد في هذه المرحلة فهم معنی القاعدة وتعليلها على نحو منطقي، فمع ازدياد سعته المعرفية يكتسب الاستقلالية في أحكامه الخلقية ( p:1991 ،Turner .135).

ومن الملاحظ أن بياجيه يرى أن نضج الأحكام الخلقية يعني مقدرة الفرد على فهم العلاقة بين مصلحة الجماعة والقوانين الموضوعة، بما يكون الحكم الخلقي معه أكثر من مجرد الامتثال الأعمى للقوانين، وبما لا يعكس تصورات ذاتية شخصية لا تراعي وجهات نظر الآخرين، بل يمكن أن يلاحظ من خلاله اعتبار الفرد لمصالح الآخرين وحقوقهم.

ب. وجهة نظر كولبرج:

اهتمت نظريته بمستوى نمو الأحكام الخلقية والمفاهيم الخلقية عن طريق تقديم اجاباته على مواقف اشكالية تولد صراعات. وتتميز المعضلات المقدمة بأنها يمكن أن تتجاذبها عدة وجهات نظر، ولقد خرج کولبرج من دراساته المتعددة بتحديد ثلاثة مستويات أساسية لنمو الحكم الأخلاقي يحتوي كل منها على مرحلتين، وتعبر كل مرحلة من هذه المراحل عن تغير نوعي في البنية المعرفية

ص: 32

واعادة لتنظيمها، فتكون وحدة بنائية معرفية مختلفة عن سابقتها إذ تكون أكثر تركيباً وأكثر اتساقاً مع معيار النضج أو الكفاية الأخلاقية (الغامدي، 2004: 13).

ونوجز هذه المستويات فيما يأتي: المستوى الأول: اخلاقية ما قبل العرف الاجتماعي (The pre-conventional morality)

ترتبط فيه أحكام الفرد الأخلاقية بالالتزام بالقواعد الاجتماعية المحددة لما هو مقبول أو مرفوض وذلك من خلال القوى الخارجية التي تفرضها هذه القواعد والنتائج المادية السارة او غير السارة المترتبة عليها ويشمل هذا المستوى مرحلتين هما :

- المرحلة الأولى: اخلاقية العقاب والطاعة (Punishment and obedience (morality

- المرحلة الثانية: اخلاقية الفردية والغائية النفعية وتبادل المصالح Individualism instrumental purpose and exchange morality.

المستوى الثاني: اخلاقية العرف الاجتماعي Conventional morality

وتسمى اخلاقية التمسك بالقانون نقلة كيفية من الذاتية الى الاجتماعية في الحكم الأخلاقي، إذ ترتبط أحكام الفرد الأخلاقية بالمحافظة على السلوك المتوقع منه، اذ يقوم تفكيره على اساس فكر المجموعة (فتحي، 1983: 39).

ويشمل هذا المستوى مرحلتين هما:

- المرحلة الثالثة: اخلاقية التوقعات المتبادلة والعلاقات والمسايرة Mutual ص: 33

interpersonal expectation: relationships، and conformity morality

- المرحلة الرابعة: اخلاقية النظام الاجتماعي والضمير Social system and conscience morality

- المستوى الثالث: مرحلة ما بعد العرف الاجتماعي - The post morality conventional

وفيه تظهر محاولة واضحة لتحديد واتباع القيم والمبادئ الأخلاقية الإنسانية واتباعها بصرف النظر عن مدى ارتباطها بالقانون والعرف الاجتماعي ويشمل هذا المستوى مرحلتين هما:

- المرحلة الخامسة: اخلاقية العقد الاجتماعي والحقوق الفردية Social contract and individual rights morality

هذه المرحلة يتمكن فيها الفرد من ادراك نسبية القيم والحاجات الفردية، مما يعني تطور نظرته للقانون لا بوصفه قواعد جامدة للمحافظة على النظام الاجتماعي فحسب ولكن بوصفه قواعد متفقاً عليها بوصفها عناصر لعقد اجتماعي بين الأفراد يحمي الجميع، ومن هذا المنطلق ترتبط أحكام الفرد الأخلاقية بقيمه الشخصية المرتبطة بهذا الفهم الجديد لمعنى القانون القائم على احترام الحقوق الفردية والاجتماعية وتحقيق العدالة الاجتماعية وهذا يعني امكان تغيير هذه القواعد عند فشلها في تحقيق العدالة للجميع (p:1986 ،Kohlberg .296).

- المرحلة السادسة: اخلاقية المبادئ العالمية (الإنسانية) universal ethical و ادب principles morality

وهي مرحلة افتراضية ترتبط حسب بمبادئ عدد من النماذج النادرة، إذ

ص: 34

ترتبط أحكام الفرد الأخلاقية فيها بمبادي اخلاقية مجردة ذاتية الاختيار (-Self chosen ethical principles) ترتبط بالفهم المنطقي والعالمية والضمير مما يعني النظر للعدالة والمساواة والتبادلية وحقوق الأفراد بوصفها مبادئ انسانية عامة تعنى باحترام حقوق الإنسان والإنسانية من دون اعتبار لأية مؤثرات اخرى ( الغامدي، 2004: 16).

ج. وجهة نظر بروفينبرينر Brofenbernner theory

يعتقد أن النمو الخلقي يرتبط بالثقافة وذلك لاعتقاده أن محتوى الأخلاق والقيم التي تكون الحكم الخلقي تتمثل في انماط ثقافية مختلفة، أي أن هنالك أنماطاً معينة تكون موجودة في ثقافة وغير موجودة في ثقافة أخرى.

وقد حدد خمسة أنماط معينة تحكم النمو الخلقي وهي:

1. النمط المتجه نحو الذات (Self - Oriented type) في هذا النمط تتشكل بواعث الاشباع الذاتي للفرد، بغض النظر عن رغبات الآخرين وتوقعاتهم.

2. النمط المتجه نحو السلطة (Authority - oriented type) : يقبل الفرد قيود الوالدين وقيمها كونها قيما مقدسة وينتقل هذا القبول الى الأفراد الآخرين ذوي السلطة المتشابهة (فتوحي، 1994: 56).

3. النمط المتجه نحو الاقران (Porr-oriented type) یکون الفرد ملتزما بكل قواعد الجماعة والأقران. وهذه القواعد تكون مستقلة عن قوانين المجتمع.

4. النمط المتجه نحو المجتمع (Collectively - oriented type) يلتزم الفرد بقواعد ثابتة ترتبط بأهداف المجتمع. لأنها تأخذ الأولوية على رغبات الفرد الخاصة وعلاقته بالآخرين (الزبيدي، 1990: 68 - 69).

ص: 35

5. النمط المتجه نحو الموضوعية (Objectively - oriented type) تتخذ قيم الفرد الذاتية على الرغم من انبثاقها من العلاقات برفاقه وتفاعله داخل المجتمع، لأنها تكتسب الاستقلالية (فتحي، 1983: 152 - 156).

د. وجهة نظر نومان بل (Norman.J. Bull) في النمو الخلقي الشامل:

یری (نومان بل) أن النمو الخلقي لا يعتمد أساسا على النمو العقلي وإنما على النمو الشامل للشخصية الإنسانية ولا يقتصر هذا النمو معه على العقل وإنما يشمل كذلك الرغبات والشعور والعواطف والارادة، ويرى بل أن النمو الخلقي يمر بأربع مراحل:

المرحلة الأولى: (ما قبل القيم الخلقية) وفي هذه المرحلة يكون أبرز سمات السلوك عدم وجود القيم الخلقية، لأن الفرد لم يكون ضميره بعد.

المرحلة الثانية: (القيم الخلقية الخارجية) وفي هذه المرحلة توجه السلوك عوامل الثواب والعقاب، فما يعاقب الفرد عليه فهو سيء، وما يثاب عليه فهو حسن، وأبرز سمات السلوك في هذه المرحلة هو التبعية.

المرحلة الثالثة: (القيم الخارجية - الداخلية)

في هذه المرحلة توجه التقاليدالاجتماعية سلوك الفرد الناشئ ويترجم هذا التوجيه عمليا بوسائل الثناء والذم، ومع أن هذه التقاليد عوامل خارجية الا انها تشكل رصيدا قويا في نفس الفرد وتفكيره، وابرز سمات السلوك في هذه المرحلة هو التبادلية (Reciprocity) أي أن الفرد في هذه المرحلة يتبادل الأخذ والعطاء مع بيئته الاجتماعية.

المرحلة الرابعة: (القيم الداخلية) وهنا يتحرر سلوك الناشئ من الضغوط الخارجية، سواء كانت مادية أو نفسية، لذلك فابرز سمة لهذا السلوك هی

ص: 36

الاستقلالية، وأبرز مظاهره الاستقلال العاطفي، واستقلال الحكم النفسي، واستقلال الحكم الخلقي وفي هذا المستوى ينضج الضمير ويتمثل في أربعة أنواع:

الأول: الضمير الصارم السلبي، وهو صدى الوالدين اللذين يشتدان في العقوبة.

الثاني: الضمير السلبي المتمسك بالتقاليد والموروثات الاجتماعية.

الثالث: الضمير الجاف المتعصب الدوجماتي.

الرابع: الضمير الملتزم بالمبادئ الخلقية المنفتح على التجارب الجديدة الكيلاني، 1992: 48)

وبعد أن أوجز الباحثان أبرز من كتب في تطور الحكم الخلقي تبنيا وجهة نظر نومان بيل كونه يتماشى مع أهداف البحث وما يرمي الباحثان للتوصل الية.

القيم الخلقية والحث على تطور الحكم الخلقي في البعض من الأحاديث والخطب والمواقف الواردة عن الامام علي (علیه السلام)

إن الحقبة الزمنية التي تولى بها الإمام علیه السلام الخلافة الفعلية للمسلمين وقيادتهم على الرغم من إدارته لشؤونهم الدينية قبل توليه الخلافة، فقد امتازت بكثرة القلاقل والاضطرابات الداخلية والفتن والتناقضات التي نشأت في عهده، فقد عاش الإمام علیه السلام فترة استثنائية فلم يستطع فيها من تحقيق كل ما كان يطمح إليه، وقد بُويع بالإمامة والخلافة العامة يوم الغدير في (18) من شهر ذي الحجة عام (11) للهجرة، وبويع ثانية بعد مقتل عثمان وحصول الفتنة وكان

ص: 37

أعلم الصحابة شجاعاً و حکیماً وقاضياً ومتسماً بالشمائل الحسنة المتكاملة، رجل الإنسانية الذي تدفقت منه الحكمة، والفلسفة، والعلم، استشهد في رمضان ليلة القدر على يد الخارجي ابن ملجم في مسجد الكوفة، وكانت حياته علیه السلام عظيمة زاخرة بالفضائل ولقد تربى سيد الفصاحة والبلاغة والفروسية في كنف وأحضان النبوة، ليترجم ذلك عملياً في أفعاله وأقواله، وهذا ما جسد أحد ركائز نمو الأحكام الخلقية لدى الأفراد من خلال اتخاذه قدوه ومثل أعلى لسلوكهم اليومي.

وسنعرض البعض من المواقف والخطب والوصايا التي تركها لنا سلام الله عليه لتكون نبراساً يضيء لنا دورب المعرفة وينظم انساقنا القيمية بما يحقق لنا السعادة والرضا عن أنفسنا وعن الآخرين، ولا ندعي أننا أحطنا بكل التراث العلوي المبارك ولكننا حاولنا جاهدين انتقاء ما يتلاءم ومجريات البحث الحالي.

إن في قولة العلي علیه السلام ((أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ أو يَتُوبَ)) أراد سلام الله عليه من الفرد المسلم أن يكون عادلاً منصفاً لرعيته سواء أكانت اسرة ام مجموعة فإن شعور الرعية بالعدل والإنصاف يجعلها متفاعلة مع ولي أمرهم (الأب، أو قائد المجموعة) ما يزيد من دافعيتها للإنجاز والعطاء وهذا يجسد مستوى العدل والتحلي بالحكم الخلقي الذي يتماشى مع المنظومة الاسلامية.

ومن الموضوعات المتعاقد عليها في المجتمع والتي تعد من مكارم الأخلاق حماية الجوار أو الدخيل، وقرن معها كظم الغيظ، وعدّهما من مکارم الخصال التي ينبغي للفرد أنْ يتمسك بها، ويحرص عليها: (فإنَّ كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت

ص: 38

فيها المُجَداء والجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة، فتعصبوا لخِلِال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض).

وقوله سلام الله عليه في عهده لمالك الأشتر رضوان الله عليه (فَلَا تُشْخِصْ

هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ

الْعُيُونُ وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لأولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ) يدفع بالولاة على الرغم من أنهم ذوي المناصب السيادية والسلطة المطلقة الى التواضع وسماع شكوى الرعية وتفقد أحوالهم مهما كانت منزلته بين الناس، فكل ذلك يجعل القائد متواصل مع رعيته فلا ينظرون اليه على أنه متجبر متسلط عليهم وهذا قطعاً سيدفعهم إلى العمل بوصاياه وطاعة أوامره والاخلاص له، فيلهمهم سلوك قائدهم نحو العمل المثمر وعدم عرقلة أوامر القائد أو من ينوب عنه، وحرص الامام علیه السلام أن يعالج المنظومة القيمية والمعرفية والفكرية الاجتماعية للمجتمع، ويٌقرن صلاحها وصلاح الرعية بصلاح ذات القائد وسلامة منظومته المعرفية والاخلاقية.

والذي يظهر من تتبع ما ورد عن الإمام عليه السلام أنَّ نهجه قد ضم بين طياته نهجًا يختص بالصداقة في ضوء بیان مفهوم الصاحب والصديق وإدراك الفرق بينهما: (والصاحب مناسب، والصديق من صدق غيبه) وفي هذا يعطينا خطوط واضحة عن كيفية التعامل مع الآخرين كل بحسب قربه ومنزلته من النفس، فضلاً عن واجباتنا تجاه الصديق والصاحب والجار والأخ وغيرهم.

في قوله علیه السلام (وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا،

ص: 39

وَلا يَتشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا، وَمَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْه أُلْزِمْتَهُ) يدعو مالكاً رضي الله عنه الى تقريب ذوي الرأي والمشورة وتشجيعهم على التقرب من القائد والاهتمام بآرائهم والاستئناس بأفكارهم مما يؤيد ذهاب الباحثان إلى أن أمير المؤمنين علي علیه السلام كان يشجع على الاهتمام بذوي الخبرة والدراية من المسلمين في تسيير أمورهم وجعلهم القدوة الحسنة كي يقارن المسلم بين افعاله وبين ما يصدر من هؤلاء وبالتالي يجعل له محك للحكم على سلوكه قريب منه، يستطيع من خلاله تغيير مساره وتصحيح اخطائه بما يتماشى مع الشارع المقدس، فنراه سلام الله عليه يحث على تقريب الأفراد ذوي الدراية والبصيرة والابتعاد عن الجهلة وقليلي الحيلة والبصيرة ففي النص الوارد عنه سلام الله عليه (ثُمَّ اخْتَرْ

لِلْحُكْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الأمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَلاَ يَتَادَى فِي الزَّلَّةِ وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ) يذهب الى اختيار وانتقاء ذوي الحكمة والقدرة على الإدارة للفصل بين الناس وهؤلاء قطعاً يمتلكون دراية وقدرات عقلية عالية تمكنهم من الخوض في أحكام الدين واستخراج ما يتلاءم مع القضايا المعاصرة والشائكة.

إن تشديد الإمام على ضرورة كظم الغيظ وضبط النفس إنما هو دليل على دراية الإمام وعلمه أن الغيظ والغضب يشتت العقل ويقلل من التركيز ويؤخر الوصول إلى حلول ناجعة للمشاكل بطرق سليمة، وكذلك يعيق الحكم الخلقي لدى الشخص الغاضب فالتركيز وصفاء الذهن والهدوء النفسي من مقومات الوصول إلى أحكام خلقية متوازنة، كما اشار الى ذلك في قوله سلام الله عليه (وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَتَأْخِیرِ السَّطْوَةِ، حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ

فَتَمْلِكَ الاخْتِيَارَ.

ص: 40

كما أوصى في الكثير من كلامه سلام الله عليه باليتيم وضرورة الاهتمام به فهو فرد له حقوق وعلينا احترامه والالتزام تجاهه بمقتضى القيم الخلقية على ادنی تقدير فإنَّه يوصي به کما أوصى به القرآن الكريم: (والله الله في الأيتام، فلا تُغبوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم(، ولم يقف الإمام سلام الله عليه عند المنطلق القرآني في الالتزام بالنظام الاجتماعي ولاسیَّما كفالة اليتيم وعدم تكميم فيه، وطي لسانه؛ بغية تربيته التربية الحسنة، بل وجه الفرد الى مراعاة القيم العربية الأصيلة التي توارثوها من قيم قبل الإسلام وهي حسن الجوار، وأسند الأمر فيها إلى توصية النبي به عبر توظيف التكرار في لفظ الجلالة، وهو ما يبين قيمة الجار (والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنَّه سيورثهم).

في هذه النصوص: (وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْوٍ، وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ) ((ولْيكُن أَحَبَّ

الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَ الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ

سُخْطَ الْعَامَّةِ يُحْحِفُ بِرِضَ الْخَاصَّةِ وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ)) يشدد الإمام علیه السلام على ضرورة الاهتمام بمشاعر الآخرين، وما قولة سلام الله عليه (ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِين وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً) (ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ. وَفِي اللهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ، وَلِكُلٍّ عَىَ الْوَالِي حَقٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ) دليل بيّن ومثال على مدى اهتمام الإمام عليه السلام بكل شرائح المجتمع فهو لم يؤثر الخاص منهم على العامّ، ولم يميز ما بين قريب منه، أو بعيد عنه، فالكل عنده سواسية في النظرة وفي العطاء كذلك، فهو يدعوا إلى التعامل بالتساوي مع كل الفئات والشرائح إذ هم سواسية أمام الشرع والقانون، وهذا يمثل الرؤيا الإنسانية والدور الأبوي لهذه الأمة، أوليس هو ورسول الله

ص: 41

صلى الله عليه وآله وسلم أبوا هذه الأمة، فهو عليه السلام يعطينا دروساً بليغة في كيفية التعامل بعضنا مع البعض الآخر ويحثنا إلى امتلاك منظومة خلقية عالية المستوى فلو تمسكنا بهالعاش أفراد هذا المجتمع بأمن وأمان وراحة وسعادة وطمأنينة.

وفي قوله علیه السلام (وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لاَ حِيلَةَ لَهُ، وَلاَ يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ، وَذلِكَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ) أكد على الرحمة بالآخرين واللطف بهم، وعدم ظلمهم، والحذر من دعوة المظلوم، وعدم المساواة بين المحسن والمسيء، وقد أراد منا أن نولي إهتماماً خاصاً بذوي الحاجات والفقراء، وأن نعمل على مداراة اليتامى وكبار السن، والابتعاد عن المَنِّ، ووجوب التواضع ونشر العدل والإنصاف والعفو والصفح، وقضاء حاجات الناس، وقول الحق، والعمل على نشر المساواة بين الناس، كما أشار في احدى وصاياه سلام الله عليه إذ قال (فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أو نَظِرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلَی أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ). وهذا يمثل قمة الإنسانية وغاية الكمال الروحي والفكري الذي يتوجب أن يكون عليه المسلم الحق.

وإن عدم تأخير حاجات الناس اذا احتاجوا منك والإسراع في تلبية مطالبهم دليل الاهتمام بهم وعدم تجاهل مشاعرهم، كما أكد ذلك الإمام علیه السلام في قوله ((ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لاَبُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا: مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّلِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ، وَمِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وَرُودِهَا عَلَيْكَ)

إن التواضع يُعد من القيم الأخلاقية المهمة واواجب توافرها لدى المسلمين، ص: 42

والتي يتمكن من خلالها التغلغل إلى القلوب، حتى قلوب الأعداء، وذلك مما يكشف عن طيب السريرة وطراوة النفس وحسن العشرة وإدامة الشكر لله تعالى علی عظیم نعمه، فقد قال الإمام علي علية السلام) وبالتواضع تتم النعمة) ويقول علية السلام (وأعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب) فإن الفرد الذي يقدّر نفسه تقديراً مبالغاً فيه، بحيث لا يرى إلا نفسه، مثل هذا الشخص ستنفر عنه الناس وسيرى نفسه أنه يعيش لوحده في هذا العالم أو أنه الوحيد الذي يستحق العيش. وقال سلام الله عليه ايضاً (ولا وحدة أوحش من العجب) ويشير إلى خطر الغرور والتكبر والتعالي وعدم تقدير الذات بشكل يتلاءم مع الإمكانات المتاحة والقابليات المتوافرة وهذا يؤدي الى عدم التوافق الذاتي لدى الفرد، وكذلك للشعور بالاستقلالية وميول النفس إلى الأنانية والنرجسية.

وفي قوله علیه السلام (وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَی رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْفِعْلِكَ، أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الإحْسَانَ) يشير الى أن المَن على الناس يبطل الإحسان، ونعتقد أن عدم المَن هو نوع من أنواع الاهتمام بمشاعر الآخرين والاهتمام بهم، فنجاح المسلم في تأديته لواجباته الاجتماعية يكمن في كسب رضا الناس المحيطين به فهو جزء منهم ولا يمكنه العيش دون وجود مجتمع متكامل يحتاج بعضهم بعض ويعول بعضهم على البعض الآخر.

إن قوله عليه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه (أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ؛ فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ) يؤكد فيه على ضرورة تحلي القائد أو الحاكم بکاریزما خاصة تؤهله لقيادة الجماعة وتؤدي إلى رغبة الآخرين

ص: 43

فيه وطاعتهم له فإن أرقى أنواع الكاريزما تلك التي من الله سبحانه وتعالى فهو إن أطاع الخالق فإن الله تعالى يتكفل بنصره ويضفي الهيبة والوقار على شخصيته و قطعاً سيؤدي هذا إلى رغبة الآخرين اليه وسماع قوله وامتثال أوامره كونه يعطي للقائد حصانة نفسية ومعرفية وأخلاقية تجعله مقبولاً من الرعية، وبعد أنموذج يحتذى به ويطمح الناس الى تقمص شخصيته وتمثيل أدوارها وفي هذا دعوته عليه السلام إلى مالك بضرورة الإبتعاد عن العٌجب بالنفس ((وَإِيَّاكَ وَالاْعْجَابَ

بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الإطْرَاءِ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ)) وما أحوجنا إلى هذه الكلمات في زمن يتناسى المتنفذين وصايا إمامهم وقائدهم ويتشبثون بأمور زائلة لا ترضي الله سبحانه وتعالى ولا أئمتنا الاطهار سلام الله عليهم.

ويجسد الإمام علیه السلام في قوله ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ)) وجوب الاهتمام بالآخرين بنظرة الفرد العطوف والرحيم الذي يجب اتباعه، ويذكره بقدرة الله عليه إذا ما ظلم أو استكبر، فهو يعطيه الحرية بالسلوك لكنه يقيده بضوابط لابد له من عدم تجاوزها فهي معيار طاعته لله سبحانه وتعالى.

وفي قول الإمام علیه السلام في عهده المالك الأشتر علیه السلام (وَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَی لِمَنْ تَقَدَّمَكَ: مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ، أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وآله أَو فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا، وَتَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عهْدِي هذَا، وَاسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِيِ

عَلَيْكَ، لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَّرُعِ نَفْسِكَ إِلَی هَوَاهَا)، نرى فيه أنه يحث الأفراد بضرورة النظر في شؤون اسلافهم وأخذ العبر وتجاوز الأخطاء، وهذا

ص: 44

التوجيه المراد منه تقمص الأدوار الحسنة الاعتماد على القدوة ممن سبقوه. کما تبين ذلك في قوله سلام الله عليه (وَلاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِمَا صُدُورُ هذِهِ الأمَّةِ، وَاجْتَمَعتْ بِمَا الألْفَةُ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ، لاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا)

وفي قوله سلام الله عليه ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْضٍ، وَلاَ غِنَىً بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، ومِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ؛ وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ وَوَضَعَ عَىَ حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ

أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً)) دليل على اهتمامه سلام الله عليه بالفروق الفردية لدى المجتمع كما أنهم يتمايزون بالميول والإتجاهات ولابد من احترام خصوصية وتوجهات الأفراد والافادة من قدراتهم المتنوعة فلا يمكن لمجتمع أن يعيش دون وجود طبقات متنوعة تحتاج بعضها البعض ويكمل بعضها دور بعض کي تستمر الحياة.

ولاشك أن القدرات والامكانات والاستجابات متفاوتة بين الأفراد فالفروق الفردية من الأمور المسلم بها ولابد أن تكون الإثابة بقدر ما قدم الفرد واستمرار التعزيز يؤدي إلى زيادة دافع الإنجاز، فإذا شعر الأفراد بأنهم يقيمون على وفق عطائهم وطاعتهم ومدى ممارستهم للقيم والمعايير ويفرق بينهم وبين من لا يلتزم تلك القواعد والأحكام مؤكد سيكون اطمئنان نفسي لدى المحسن (أي الأفراد ذوي السلوك المتسق مع المنظومة القيمة الإسلامية)، ومعاقبة المنحرفين عن هذه المنظومة يعطي دافع للمحسنين بالاستمرار والتشبث بتلك المنظومة القيمية

ص: 45

ولاشك أن إثابة المحسنين هي بحد ذاتها عقوبة للمسيئين أو المنحرفين عن تلك المنظومة، وهذا نجده في هذا النص من قوله علیه السلام: (وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيِءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ).

ونستشف مما تقدم أن الإمام علي عليه السلام قد قدم للبشرية منظومة متكاملة من الأحكام الخلقية ولم يترك شاردة ولا وارده الا وقد أشار اليها في خطبة أو وصية او موقف له سلام الله عليه.

ولما كانت الأخلاق الفاضلة والسيئة لها منشأ واحد وهو التجربة والتربية والتعليم فإنها قابلة للإنشاء والتكوين وكذلك للتغيير والتبديل، أي أن أخلاق الإنسان تتغير بمرور الزمن واختلاف التجارب والتربية والتعليم؛ فيمكن أن تحل الأخلاق الفاضلة محل السيئة وبالعكس، ولكن عندما يكون لدينا رصيد خلقي ومثل عليا نقتدي بها ونجعلها میزان لسلوكياتنا مؤكد سوف تكون رادع لنا عند الانحراف عن الطريق السليم. فهو أنه سلام الله عليه كان صاحب التجربة العملية الواقعية الساعية لتأسيس دولة إسلامية على أسس أخلاقية في مواجهة كل خطوط الانحراف عن الدين.

مدى الإفادة مما ورد عن الإمام (علیه السلام) في حث وإثابة للحكم الخلقي الذي يطابق الشريعة الإسلامية في تربية الجيل الجديد

إن مجتمعنا اليوم يمتاز بالتغير السريع وما يتبع ذلك من تغير في نظام القيم والمعايير مما يزيد من عدم وضوح دور الشباب، فقد يثوروا على عدد من القيم والمعايير السائدة في مجتمعه، ليس لمجرد عدم ایمانهم بها، ولكن لعدم قدرتهم على التبصر والتفضيل بينها، لذا تعد مسألة تعلم الشباب وتنشئتهم والاهتمام بمشكلاتهم وقضاياهم الاخلاقية في المجتمعات الحديثة من أهم المسؤوليات التي

ص: 46

تقع على عاتق كل من الأسرة والمجتمع على حد سواء، فبقدر ما ينال هؤلاء الناشئة من اهتمام وحسن تربية وتوجيه ينعكس ذلك على مستقبل الأمة وتطورها.

لقد أفرزت التغيرات الهائلة في البيئة المجتمعية نتيجة للثورة المعلوماتية العديد من الضغوط وأفرزت أنواع من الصراعات والتحديات التي باتت تؤثر بشكل كبير على أداء الأفراد وقد تنذر بخطر الابتعاد عن المنظومة القيمية الاسلامية وبالتالي أصبح للمفكرين دور كبير ووسيلة فعالة في مساعدة الآخرين من أجل تخطي الأزمات النفسية التي قد تحدثها هذه التغيرات. بما يساعد في خلق بيئة خالية من التوتر والازمات، ومما لاشك فيه أن مقدار النجاح الذي تحققه أي أمة من الأمم يتوقف إلى حد كبير على مدى تمسكها بالموروث الاجتماعي والخلقي الذي ترکه هم اسلافهم.

ولا يستطيع أي مجتمع أن يبقى ويستمر من دون أن تحكمه مجموعة من القوانين المعتمدة في توجيه سلوك أبنائه فالمبادئ الأخلاقية تهدف إلى تقوية العلاقات الاجتماعية وتعزز تكيف المراهق مع نفسه وتعزز تكوين هويته على وفق معتقداته الخاصة، وما يحقق هذا المنظور هو تبني الأنماط والسبل والاستراتيجيات التي تبناها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، في ترسيخ مبادئ الاسلام والنظم الخلقية

ويُعد الإرث العلمي والفكري والاجتماعي والخلقي الذي تركه الإمام علي علیه السلام من أهم المصادر والمراجع التي يفترض العودة لها كلما ضاقت بنا السبل فهو نسق علمي معرفي حضاري للأسلوب الحياة فهو يعكس صورة عملية لسياسة الإسلام الحكيمة ونظامه، وهو يُعد دستور حکم ناضج ومكتمل القواعد والشروط، وبما يوفر العدل والمساواة ويحفظ كرامة الانسان وحقوقه، ويؤكد على

ص: 47

الالتزام الخلقي، والابتعاد عن الطمع وحب الشهوات، والالتزام بالذكر الحسن، والعمل الصالح.

ولابد للشباب ومن يقوم برعايتهم في مختلف درجات مسؤوليتهم ابتداءً من الأسرة إلى المؤسسات التربوية والمهنية والخدمية ودوائر العمل وانتهاءً بالحكومة والدولة أن يستفيدوا من هذا الإرث العلوي الذي أبدع سلام الله عليه في صياغته وكال فصوله.

وعلينا أن نتمسك بما ورد عن الإمام عليه السلام في تشديده على الأخلاق وتجنب سفك الدماء کا ورد ذلك في: (إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ

لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ،

مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَیْرِ حَقِّهَا).

ونرى أن للأخلاق أهمية في تقويم سلوك الفرد وفي بنائه النفسي والاجتماعي فهي تعتني به وتهذب شخصيته و كذلك تتجه في الوقت ذاته نحو اصلاح المجتمع الإنساني بأسره، وأن تأكيد الدين اياها يعطيها خصوصية أخرى يجب التمسك بها لأنها أصبحت جزءاً من الدين فيجب أن يتربى الفرد ويتشبع بالقيم الخلقية الفاضلة، فإن الاهتمام بها هو لرفع مكانة الإنسان وحثه على الإلتزام بالقيم والمبادئ الخلقية السامية. وقد اكدت عليها النظم التربوية واعطتها خصوصية في مقرراتها التعليمية وهذا الاهتمام نابع من مسلمة أساسية مفادها أن الاخلاق والتربية متلازمتان فلا تربية بدون أخلاق ولا أخلاق بدون تربية.

وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال في احدى وصاياه (أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإنْ بغتكما أوصيكما، وجميع ولدي، وأهلي، ومن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم).

ص: 48

نرى هنا وصيته سلام الله عليه ليس فقط لمن عاصروه وإنا للأجيال اللاحقة وكأنه سلام الله عليه يشير إلى موروثه الخلقي والاجتماعي سيكون نبراس وطريق هدى لبناء مجتمع متكامل وتنشئة جيل خالي من التناقضات الفكرية والعقائدية.

وقد قارن الإمام سلام الله عليه في احدى خطبه بينه وبين معاوية وقد اكد فيها أن الإنسان قادر على ترك الفضيلة وطريق الشر يسهل ركوبه لكنه عليه أن يتمسك بما وهبه الله سبحانه وتعالى من روح انسانية ومبادیء سامية عليه أن يرتقي لها ويتقمصها فقد ذكر عليه السلام: ((والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجُر، ولولا كراهية الغدر لکنت من أدهى الناس، ولكن كل غَدْرَةٍ فَجْرَةٍ، وكل فَجْرَةٍ کَفْرَةٍ)، ففي قوله هذا يرشدنا ويحثنا إلى التمسك بالطريق الحق وعدم الانجراف مع الأهواء التي تؤدي بنا إلى مزلق لا تحمد عواقبه.

ونستشف من وصيته لولده الإمام الحسن عليه السلام أنه يحثه على تبني الحكم الخلقي وعلينا أن نتخ من ذلك أنموذجاً لحث الآخرين وبالأخص الشباب الى تبني مشروع الإمام عليه السلام في نمو الحكم الخلقي فقد روي عنه سلام الله عليه أنه قال: (يا بني إجعل نفسك میزانًا في ما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره ما تكره لها، ولا تظلم کا تحب أنْ لا تظلم، وأحسِن کما تحب أنْ يُحسَن إليك)، وقد ناقشت تلك الوصية موضوعًا مهماً يُعد من أبرز المواضيع الاجتماعية وقضايا المجتمع المعاصر، فقد حولها إلى ممارسات اجتماعية نحو: صلة الرحم، والتكافل الاجتماعي، وإصلاح ذات البين، والأُخوة في الله، والتواضع، والتكبر، وحسن الجوار، والأيتام، ونفاق المجتمع، وغير ذلك من ممارسات المجتمع التي قدمتْ بكيفيات أو استراتيجيات معينة حاملة بداخلها النهي، والأمر، والشكوى من بعض المجتمع، والوصف، والوصية، والتوجيه،

ص: 49

وغير ذلك مما يعزز القيم التربوية للفرد، وللمجتمع بالابتعاد عن المنكرات، والآفات، والأوهام الاجتماعية التي لا تسهم في تنظيم حياة الفرد وإسعاده.

التوصيات:

ضرورة تدريس فكر الإمام علي علیه السلام من أجل تنشئة جيل يمتلك الحصانة الفكرية والخلقية بوجه الهجمات التي تروم النيل منهم.

إن الإرث الفكري والخلقي للإمام علي علیه السلام بحاجة إلى دراسة وبحث أكثر لأن هناك مواضع كثيرة فيه تحتاج إلى دراسة وتأمل، يجب أن يتوقف عندها الباحثون، لأنها تعطي توضيح لبعض الحقائق الاجتماعية والنفسية.

تنفيذ برامج تدريبية لاكتساب أحكام خلقية على وفق ما ورد عن أئمتنا الأطهار سلام الله عليهم.

زيادة الاهتمام بالمراهقين والنظر اليهم كقادة للمستقبل وحثهم على تنبني السلوك الخلقي لماله من دور في خلق وصياغة الروح الاسلامية الأصيلة.

تبني المؤسسات التربوية تضمين ما ورد عن الإمام علي علیه السلام في المناهج الدراسية بجميع المراحل الدراسية لتعليم الطلبة الواجبات والحقوق والقيم الخلقية.

المقترحات:

دراسة تحليلية للأحكام الخلقية استعملها بقية الأئمة سلام الله عليهم سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة.

إجراء دراسة مقارنة لدور الإمام علي علیه السلام في نمو الحكم الخلقي بين المسلمين وغير المسلمين.

دراسة السمات النفسية والخلقية لدى الإمام علي علیه السلام.

ص: 50

المصادر العربیة

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. توق، محيي الدين (1980): «المستوى الاقتصادي والاجتماعي والترتيب الولادي وتأثيرها على النمو الخلقي عند عينة ن الأطفال الأردنيين: دراسة تجريبية «، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد3 ، السنة 8، الكويت.

2. حجاج، عبد الفتاح (1985): التربية الخلقية نظرة تحليلية، بحوث ودراسات، مركز البحوث التربوية، مجلد 12، منشورات جامعة قطر، قطر.

3. الزبيدي، بشار خليل اسماعيل (1990): أساليب ضبط الولدين وعلاقتها بالنمو الخلقي لأبناء الشهداء واقرانهم الآخرون، رسالة ماجستير (غير منشورة)، كلية الآداب، جامعة بغداد.

4. عباس، مضر طه (1988): النمو الأخلاقي للأحداث الأسوياء والعدوانيين، رسالة ماجستير (غير منشورة)، كلية الآداب، جامعة بغداد.

5. العبيدي، نوري جودي (1995): النمو الخلقي للمراهق العراقي وعلاقته بالاتجاه الديني ومراقبة الذات والعمر، أطروحة دكتوراه (غير منشورة)، كلية التربية (ابن رشد)، جامعة بغداد.

6. عريفج، سامي سلطي (2000): مقدمة في علم النفس التربوي، ط 2، دار الفكر، عمان، الأردن.

7. الغامدي، حميد الفارس (2004): النمو الأخلاقي لدى الجانحين وغير

ص: 51

الجانحين بالمنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، مكة، السعودية.

8. فتحي، محمد رفقي محمد (1983): في النمو الأخلاقي (النظرية، البحث، التطبيق)، ط 1 دار القلم، جامعة الكويت.

9. فتوحي، فاتح أبلحد (1994): أثر المناقشة في تعديل الأحكام الخلقية للمراهقين، أطروحة دكتوراه (غير منشورة)، كلية التربية (ابن رشد)، جامعة بغداد.

10. القائمي، علي (1998): الأسرة والمشاكل الأخلاقية للطفل، ط 1، دار النبلاء، بيروت

11. قناوي، هدى محمد (1987): دراسة مقارنة بين أطفال مصر والبحرين في النمو الخلقي، دراسات تربوية، مجلد 2، جزء 6.

12. الكيلاني، ماجد عرسان (1992): اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية، دار البشير، عمان، الأردن.

13. المعتزلي، ابن ابي الحديد (2007): شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابراهيم، دار الكتاب العربي - دار الأميرة للنشر والتوزيع، بغداد، العراق.

14. منصور، محمد جميل وفاروق عبد السلام (1981): النمو من الطفولة الى المراهقة، دار تهامة، جدة، السعودية.

15. النوري، عبد الغني فتاح (1985): التربية الاسلامية بين الأصالة والمعاصرة، مجلة التربية، العدد 74، منشورات جامعة قطر، قطر.

ص: 52

المصادر الأجنبية:

1. Gibbs, J.G (1977): Kohlberge Stage of Moral Judgment A Constructive Critique". Harvard Educational Review, Vol.47, PP. (4449-).

2. Good G.V.(1973): Dictionary of Education. (3rd ed). McGraw - Hill: New York P.353.

3. Graham. D.(1972): Moral learning and Development Theory and research. Wiley and Sons New York.

4. Greif. E.B.(1981): "Father Children and Moral Development". In Lamp (M.E.): The Role of the Father in Child Development.

Wiley, New Yourk.

5. Kohlberg. L. (1984): The Psychology of Moral development.

Harper and Row: San Francisco.

6. Rest J. R. (1979a): Development in Judging moral Issues University of Minnesota press Minneapolis Minn.P.(76.49).

7. Turner J. Helms D. B. (1991): Life Span Development (4th ed). Holt Rinehart and Winston Inc. London.

ص: 53

ص: 54

رد الشمس للإمام علي (علیه السلام) الدكتورة زهور كاظم زعيميان وزارة التربية المديرية العامة لتربية الكرخ الثالثة

اشارة

ص: 55

ص: 56

المقدمة

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، نعبده بذّل مخلصين له الدين، اللهم إنا نسألك العفو، والعافية، وحسن العاقبة، وأن تقبل أعمالنا، وتغفر ذنوبنا، وبعد فقد اشتد الخلاف حول كرامة ردّ الشمس للإمام علي (علیه السلام)؛ وذلك لأنه يتعارض مع حديث أخرجه أحمد في مسنده: «ما حُبِسَتِ الشمسُ على بشَرٍ قطُّ، إلَّا على يوشَعَ بنِ نونٍ، ليالِيَ سارَ إلى البيتِ المُقَدَّسِ». وهذا يعني أنها لم ترد للإمام علي (علیه السلام)؛ لأن الحديث حصر الكرامة للنبي يوشع بن نون (علیه السلام) وسوف نثبت في هذا البحث أن الحديث لا يتعارض مع كرامة رد الشمس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام)) وبالأدلة فحوادث الشمسِ مذكورةٌ في الكتب القديمة وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة» ومن هذه علیه واله الحوادث:

وقوف الشمس لنبي الله يوشع بن نون (علیه السلام)(3)

وقصة وقوف الشمس للنبي يوشع بن نون(ال): كما جاء في الكتاب المقدس أن أهل جيعون أرسلوا إلى يشوع - هكذا جاءت تسميته في العهد القديم -، يقولون له: لا تترك عبيدك في الضيق، تعال إلينا سريعاً وخلصنا وانصرنا على أعدائنا الآموريين سكان الجبل وأن النبي موسى (علیه السلام) أمر يشوع أن يأخذ خيرة رجاله لمحاربة العاليق، وأن النبي موسى (علیه السلام) سيقف أعلى التل وعصا الله في يده إذا رفع يده ينتصر بنو إسرائيل وإذا حط يده ينتصر العاليق فهزم يشوع بني عماليق بحدّ السيف. بعد أن أمضى الليل كله صاعداً إلى الجلجال وهو يضر بهم ويلحق بهم وساعده الربّ بأن ضربهم بحجارة عظيمة من السماء لكن النصر

ص: 57

لم يتم فدعا يشوع ربه بأن يوقف الشمس وكلم يشوع الرب يوم سلم الرب الأموريين إلى بني إسرائيل، فقال على مشهد من بني إسرائيل: يا شمس قفي على جيعون، وعلى وادي أيلون اثبت يا قمر، فوقفت الشمس وثبت القمر إلى أن انتقم الشعب من أعدائهم وذلك مكتوب في كتاب ياشَرَّ. فتوقفت الشمس في أعلى السماء ولم تغب مدة یوم كامل)). واستراحت الأرض من الحرب.

ووقوفها كان استجابة لدعائه ومعجزة من الله له لتنفيد أوامر الله تعالى.

وكذلك فقد جاء في سفر نحميا أن نحميا بنى سوراً لم تبق فيه فجوة وأنه عيّن حنَنْيا حارساً على السور وأن أبواب السور لا تفتح حتى تحمى الشمس وتقفل قبل أن تميل إلى المغيب وأنه أقام حراساً من سكان أورشليم، بعضهم في مراكز الحراسة، والآخرون كل واحد قبالة بيته.

وقد عاد يشوع من السبي البابلي بعد بناء السور. وكذلك محاربته للعماليق بعد عودته من السبي.

فقد يكون دعاؤه بوقوف الشمس لأن أبواب السور تغلق قبل المغيب فلا يتمكن من الخروج من أورشليم لمحاربة العماليق.

يقول الطبري في تاريخه: ((ثم إن موسى قدّم يوشع بن نون إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، وأصاب من أصاب منهم، وبقيت منهم بقية في اليوم الذي أصابهم فيه، وجنح عليهم الليل، وخشي إن لبسهم الليل أن يُعجزوه، فاستوقف الشمس، ودعا الله أن يحبسها، ففعل الله عز وجل حتى استأصلهم)).

فهي وقفت للنبي يوشع بن نون لأنه كان يحارب يوم الجمعة وعندما صار

ص: 58

النصر قاب قوسين أو أدنى كان وقت العصر قد أزف واليوم التالي هو يوم السبوت ولا عمل فيه لدى اليهود ومنه القتال، وإن دخل عليهم المغیب لدخل بغياب الشمس يوم السبت، فلا يتمكنون معه من القتال فنظر إلى الشمس ودعا ربه بأن لا تغيب حتى يتم استثمار الهجوم والنصر، وبقدرة الله كان له ذلك. لذا وقفت الشمس كرامة له لينتصر على أعدائه قبل مجيء يوم السبت - وجدير بالملاحظة أن الأرض هي التي وقفت أو تباطأت وعبر عن وقوفها بوقوف الشمس لأن ذلك هو الظاهر للرائي، وهو كما نقول أشرقت الشمس، والأرض هي المتحركة، وكذلك فإن ظاهرة الليل والنهار تحدث بدوران الأرض وليس الشمس.

وهناك إشارة لتلك الحادثة في سفر حبقوق: ((الشمس والقمر في برجيهما وقفا، لتطاير سهامك، وضیاء بريق رمحك)).

ولهذه الحادثة حضور في الأحاديث النبوية الشريفة فعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((غزا نبيٌّ من الأنبياءِ، فقال لقومِهِ: لا يَتِّبِعْنِي رجلٌ ملكَ بضعَ امرأةٍ، وهو يريدُ أن يَبْنِيَ بها ولمَّا يَبْنِ بها، ولا أَحَدٌ بنى بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا أَحَدٌ اشترى غنمًا أو خَلِفَاتٍ، وهو ينتظرُ ولادها، فغزا، فدنا من القريةِ صلاةَ العصر، أو قريبًا من ذلك، فقال للشمسِ: إنكِ مأمورةٌ وأنا مأمورٌ، اللهمَّ احبسها علينا، فحُبِسَتْ حتى فتحَ اللهُ عليهِ)).

ومن الغريب أن نجد خلطاً في نقل الأحاديث الشريفة فهي تارة تذكر حبس الشمس كالحديث أعلاه وتارة تذكر ردّ الشمس فقد ذكر الطبري (ت 311 ه) أن يوشع بن نون قاتل الجبارین يوم الجمعة قتالًا شديدًا حتى أمسوا وغربت الشمس، ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله، اللهم اردد علي الشمس، فردت عليه الشمس، فزيد في النهار يومئذ ساعة

ص: 59

كما نقل الحافظ ابن شهر آشوب (ت 588 ه) عن ابن عباس بطرق كثيرة: انّه لم تردّ الشمس إلّا لسليمان وصيّ داود، وليوشع وصي موسى، ولعليّ بن أبي طالب وصي محمد (صلوات الله عليهم أجمعين).

کما ذكر الشيخ الصدوق (رحمه الله) ((إن الله تبارك وتعالى ردّ الشمس على يوشع بن نون وصي موسى (علیه السلام) حتى صلى الصلاة التي فاتته في وقتها)).

والحق أن الشمس لم ترد ليوشع بن نون وإنما توقفت أو حبست أو تباطأ سيرها.

وربما تكون قد فاتته الصلاة والصلاة في اليهودية ثلاث مرات، عند الفجر، وفي الظهيرة، وعند غروب الشمس. وهذا يعني أنها وقفت له في وقت وردّت له في وقت آخر وأنه انفرد بكرامة حبس الشمس واشترك مع غيره في كرامة رد الشمس.

وقد ذكر قصة ردّ الشمس للنبي يوشع بن نون عدد كبير من المفسرين منهم السيوطي، وذكرها السيد الطبطبائي.

وقد أنكر بعضهم هذه الكرامة للإمام علي (علیه السلام) وذلك بحجة تعارضه مع حديث أحمد في مسنده: «ما حُبِسَتِ الشمسُ على بشَرٍ قطُّ، إلَّا على يوشَعَ بنِ نونٍ، ليالِيَ سارَ إلى البيتِ المُقَدَّسِ».

وواضح من نص سفر يوشع أن الأمر مختلف بين الإمام علي (العلیه السلام) والنبي يوشع (علیه السلام) فهي وقفت للنبي يوشع بن نون أما حادثة الإمام عليّ (علیه السلام) فهي ليست وقوفاً للشمس وإنما ردّ لها وهو في حقيقة الأمر انعكاس دوران الكرة الأرضية استجابة لدعاء رسول اللہ (صلى الله عليه وسلم) وكرامة لصهره عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام).

ص: 60

والحادثة وقعت للنبي يوشع (علیه السلام) قبل الغروب أما للإمام عليّ (علیه السلام) فهي بعد الغروب، حيث إن المطلب مختلف بینهما فالنبي يوشع أراد إطالة النهار بوقوف الشمس بينما رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) طلب من الله عز وجلّ ردّها لرجوع النهار.

وعند البحث في المعاجم العربية فإن الأمر يزداد وضوحاً بأن معنی حبس أي وقف وتأخر، فقد جاء في معنى حبس: وحبسه: أمسكه عن وجهه، ... والحبس، بالضم: ما وقف... وفي الحديث: ذلك حبيس في سبيل الله؛ أي موقوف.

ولوقوف الشمس للنبي يوشع أدلة تاريخية إذ يستدل بعض مفسري الكتاب المقدس بدليل صحة وقوع هذه الحادثة باليوم المفقود وأنه يصادف يوم الثلاثاء وهذا يتعارض مع ما ذكره ابن حجر العسقلاني وبقية المفسرين الذين ذكرناهم بأن تكون الحرب وقعت يوم الجمعة.

ونرى أن يوم الجمعة أصح لأن فيه علة وقوف الشمس.

((وهذا الحدث بالفعل كان مسکوني شوهد في كل العالم في هذا الزمان وارخ تقريباً في معظم الحضارات مع ملاحظة اننا نتكلم عن حدث تم من 3400 سنه مضت اي تقريباً سنة 1400 ق م... فقد سجله هیرودیت المؤرخ الذي لقب بأبي التاريخ قال في تسجيلاته نقلا عن الكهنة المصريين الذين أروه مخطوطات قديمة تتحدث عن يوم أطول بكثير من المعتاد يصل إلى ضعف اليوم العادي)).

وأيضا دليل آخر قدمه فيرنارد کروبتي الفرنسه وهو ترجمه لنص فرعوني قدیم:

((الشمس ألقيت في الحيرة واستمرت منخفضة في الأفق. وبسبب عدم صعودها انتشر الرعب بين الاطباء. يومين اندمجوا في واحد. الصباح طال إلى مرة

ص: 61

ونصف طول فترة نور النهار. بعد هذه الظاهرة الالهية بفتره معينة السيد بني صورة ليحفظ البلاد من أي كارثة أخرى...)).

أيضاً في بابل الأستاذ جانسون سجل أن هناك تقليد قديم عن يوم طوله ضعف المعتاد، ونشرت الجمهورية المصرية مقالة عن عالم روسي من علماء الطبيعة اسمه إيمانوئيل فليکوفسكي جاء فيها: إن نیزكاً هائلاً مرّ إلى جوار الكرة الأرضية في عهد يوشع خليفة موسی (عليهما السلام) ثم عادت الظاهرة إلى الوجود بعد ذلك بسبعمائة عام... - وهو تقريبا نفس تاریخ رد الشمس للنبي حزقيا، لأن الفرق بينهما 700 عام تقريباً؛ لأن الحادثة للنبي يوشع حدثت قبل 1400 (ق.م) تقريبا وللنبي حزقيا قبل اكثر من 666 (ق.م) - وهذه الظاهرة الكونية الهائلة التي تسيّرها قوى خارقة غير مرئية، تفسّر المعجزات التي جاء ذكرها في الكتب السماوية والتوراة والإنجيل والقرآن.

إنّ اقتراب کوکب أو نیزك كبير من الأرض يحدث ظواهر متعدّدة:

منها: إنّ دوران الأرض حول نفسها يقلّ أو يقف، حتى يخيّل إلى الناس أن الشمس قد وقفت في كبد السماء.

ويقول المؤلّف: أنه في العهد الّذي يقابل عهد موسى يقول المؤرخون الصينيون: إنّ الشمس آنذاك لم تغرب.

وفي نصّ العهد القديم دليل على صحّة حادثة وقوف الشمس فقد جعل وقوف القمر تابعاً لوقوف الشمس وهو ماعرف حدیثاً بأن القمر تابع للأرض.

وفي العهد الجديد: ((وإذا زلزال عظيم يقع، والشمس تسودّ كثوب الحداد، والقمر كله يصير مثل الدم وكواكب السماء تتساقط إلى الأرض.... والسماء تنطوي

ص: 62

على اللفافة)).

وممن صرح بذلك جازماً به الإمام حازم القرطاجني فقال في مقصورته:

والشمس ما ردتّ لغير يوشع *** لماغزا ولعلي إذ غفا.

رد الشمس للنبي حزقيا (سنة 612 ق.م، ونبوته بعد 666 ق.م)

جاء في العهد القديم أن النبي حزقيا مرض مرضا شديدا وبُلّغ أنه سيموت لكنه بعد أن صلی وبکی بلّغه إشعيا أن الله أطال الله عمره خمسة عشر عاماً فقال له حزقيا: وما العلامة أن الرب سيشفيني، فقال إشعيا: ((هذه هي العلامة أن الرب يحقق ما قاله: ما تختار أن يتقدم الظلّ عشر درجات أم يرجع عشر درجات؟ فصلّى إشعيا إلى الرب فتراجع الظل إلى الوراء عشر درجات على الدرج الذي بناه الملك آحاز)).

وفي أخبار الأيام الثاني مرض حزقيا وكبرياؤه ((وحتى أحين أرسل إِلَيْهِ أعيان بابل يَسْأَلُونه عَنِ الأُعْجُوبَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الأَرضِ، فقط لِيُجَرِّبَهُ وِيَعرف کُلَّ مَا فِي قَلْبِهِ).

يقول مفسر العهد القديم: ((الوقت الذي حدثت فيه المعجزة، في أوقات معينة من النهار كان ظل أحد الأشياء يسقط على الدرجات. ونعلم من سفري الملوك الثاني ونبوة إشعياء أن هذا الظل كان قد نزل - على الأقل - عشر درجات، کما نعلم من نبوة إشعياء أيضاً أن الشمس كانت في طريقها إلى المغيب، فمن ثم لابد أن المعجزة قد حدثت بعد الظهيرة حين كانت الشمس في طريقها إلى المغيب، وعندئذ تمتد الظلال نحو الشرق)).

وهذا يعني أيضاً أن الشمس لم تتوقف وإنما ردت.

ص: 63

((وهذا حسب التقويم الصيني وتقاويم كثيره اكدت انه حدث في يوم 23 مارس 687 ق. م وهو ما يوازي 40 دقيقه)).

ردّ الشمس لنبي الله سليمان بن داود (علیه السلام) (عاش 970 ق.م حتى 931 ق.م)

وهو ما ذكرته كتب التفاسير والأحاديث النبوية الشريفة منه ما روي عن الصادق (ت 148 ه) (علیه السلام) أنه قال: (( إن سلیمان بن داود (علیه السلام) عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردّوا الشمس عليّ حتى أصلي صلاتي في وقتها فردوها، فقام فمسح ساقيه وعنقه، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك، وكان ذلك وضوءهم للصلاة، ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس، وطلعت النجوم، وذلك قول الله عز وجل: «وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * «رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ» (ص / 30 - 33).

وقد ورد في تفسير الآيتين: إنّ ابن عباس حكى للإمام قول کعب الأحبار اليهودي - أنّه قال: (رُدُّوهَا) يعني الأفراس.

فقال الإمام (علیه السلام): كذب کعب، لكنّ سلیمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتی توارت؛- أي غربت الشمس بالحجاب، فقال بأمر الله للملائكة الموكلّين بالشمس: (رُدُّوهَا) یعنى الشمس، فردّوها حتى صلّى العصر في وقتها، وإنّ أنبياء الله لا يَظلمون لأنّهم معصومون.

وهو ما ذكره كثير من المفسرين أن يكون المراد بقوله: (تَوَارَتْ بِالْحِجَاب) هي الشمس، والمراد بقوله: (رُدُّوهَا) يعني: الشمس.

ص: 64

وأتفقوا كذلك على أن عرض الخيل شغله عن صلاة العصر حتى فات وقتها، ولم يكن ذلك عن تجبر.

ونقل الطبري حديثاً عن أبي الصهباء البكري: ((سألت علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر، وهي التي فتن بها سليمان بن داود)).

قال الشيخ روزنبهان البقلي (ت 606ه): ((من غار لله وتحرك له فإن الله يشكر له ذلك ألا ترى سليمان لما شغله الأفراس عن الصلاة حتی توارت الشمس بالحجاب قال ردّها عليّ)).

وقال الرازي: ((وفي قوله: (رُدُّوهَا) يحتمل أن يكون كل واحد منهما عائداً إلى الشمس، لأنه جرى ذكر ماله تعلق بها وهو العشي...... وروي أنه (صلی الله علیه وآله وسلم) لما اشتغل بالخيل فاتته صلاة العصر، فسأل الله أن يرد الشمس فقوله: (رُدُّوهَا عَلَيَّ) إشارة إلى طلب رد الشمس)).

وذكر القرطبي (ت 671 ه) أن الهاء للشمس ونقل حديث عليّ بن أبي طالب (علیه السلام): ((وقد قيل: إن الهاء في قوله: «رُدُّوهَا عَلَيَّ» للشمس لا للخيل... قلت: ومن قال إن الهاء في (رُدُّوهَا) ترجع للشمس فذلك من معجزاته، وقد اتفق مثل ذلك لنبينا (صلی الله علیه وآله وسلم)).

وعلل الطبطبائي جمع الضمير في قوله (ردوها) بأن الأمر كان منه إلى الملائكة: ((قيل: الضمير في (ردوها) للشمس وهو أمر منه للملائكة برد الشمس ليصلي صلاته في وقتها)) وذكر أيضا حديث الامام علي بن أبي طالب (علیه السلام).

وفي العهد القديم: ((تجلى الرب لسليمان في الحلم ليلا وقال له أطلب ما ترید... فأنا ألبي طلبك وأعطيك أيضا ما لم تطلبه... وأطيل عمرك إذا سلكت في

ص: 65

طريقي حافظا فرائضي ووصایای))، فإن سلكت طريقي وحفظت وصایای کما سلك داود أبوك فإني أطيل أيامك

...وقد أخفق سليمان في تحقيق هذا الشرط... وكان لسليمان اثنا عشر ألف فرس.

وفي سفر التثنية فإن النبي سليمان (علیه السلام) إشارة إلى نهي النبي عن الاكثار من الخيل لأنه سيشغله عن عبادة الله ويزيغ قلبه ((لاَ يُكَثِّرْ لَهُ الْخَيْلَ.. وَلاَ يُكَثِّرْ لَهُ نِسَاءً لِئَلاَّ يَزِيغَ قَلْبُهُ))

وذكر القصة السيد نعمة الله الجزائري في كتابه قصص الأنبياء: ((وذلك أن سليمان (علیه السلام) كان يحب الخيل ويستعرضها فعرضت عليه يوماً إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر، فاغتم من ذلك ودعا الله أن يرد عليه الشمس حتى يصلي العصر فردها عليه إلى وقت العصر فصلاها)).

حبس الشمس للنبي موسى (علیه السلام)

وجاء أيضاً أنّها حبست لموسى لما حمل تابوت یوسف، ((وأخذ موسی عظام يوسف معه؛ لأن يوسف قال لبني إسرائيل محلّفاً: الله سيتفقد كم يوما، فاخرجوا عظامي من هنا معكم)).

وهو ما ذكره ابن إسحاق في المبتدأ من طريق يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه: ((أن الله لما أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمره أن يحمل تابوت يوسف فلم يدل عليه حتى كاد الفجر أن يطلع، وكان وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر الطلوع حتى فرغ من أمر يوسف ففعل)).

وهو أيضا مختلف عما وقع في حق يوشع بطلوع الشمس فالنبي موسى (علیه السلام)

ص: 66

دعا ربه أن يحبس طلوع الفجر، ويطيل الليل.

حبس الشمس وردها لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)

أما حبس الشمس فهو ما ذكره البخاري في صحيحه: ((إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) لما أخبر قريشا صبيحة الاسراء إنه رأى العير التي لم تقدم مع شروق الشمس فدعا الله فحبست الشمس حتى دخلت العير)).

وقد ذكره عدد كبير من المفسرين القدماء والمحدثين نذكر من المحدثين الآلوسي الذي أقرّ الحبس وأنكر الرد: ((لفظ الخبر أنه لما أسرى بالنبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير قالوا: متى يجيء؟ قال: يوم الأربعاء فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم يجيء فدعا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس والحبس غير الرد ولو كان هناك رد لأدرکه قریش و لقالوا فيه ما قالوا في انشقاق القمر ولم ينقل، وقيل: كأن ذلك كان بركة في الزمان نحو ما يذكره الصوفية ممايعبرون عنه بنشر الزمان)).

وهذا يفند حيث أحمد بأن الشمس لم تحبس إلا ليوشع بن نون.

أما ردّها فقد روي في كتب الصحاح ((أن نبينا (صلی الله علیه وآله وسلم) حبست له الشمس مرتين: إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتی غربت فردها الله عليه حتى صلى العصر، ذكر ذلك الطحاوي في شكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين وقال: رواته ثقات)).

وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ((قال: وقد حبست الشمس لرسول الله مرتين: إحداهما ما رواه الطحاوي، وقال رواته ثقات وساهم وعدهم واحدا واحدا وهو أن النبي كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي (رضي الله عنه) فلم يرفع رأسه

ص: 67

حتی غربت الشمس ولم يكن علي صلى العصر، فقال رسول الله :» أصلیت یا علي قال: لا. فقال رسول الله - صلی الله علیه وآله وسلم - اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس» قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر. قال الطحاوي: وهذان الحديثان ثابتان، ورواتهما ثقات)).

وفي الحديث خلط للحبس مع الرد وهو كما ذكرنا مختلف المعني.

والثانية ذكرت في البداية والنهاية أيضاً ففي صبيحة الإسراء، أخبر رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قريشا عن مسراه من مكة إلى بيت المقدس فسألوه عن أشياء من بیت المقدس فجلاه الله له حتى نظر إليه ووصفه لهم، وسألوه عن عير كانت لهم في الطريق، فقال: إنها تصل إليكم مع شروق الشمس فتأخرت، فحبس الله الشمس عن الطلوع حتی کانت العصر، روى ذلك ابن بكير في زياداته على السنن)).

وهو مشابه لتأخير الفجر مع النبي موسى (علیه السلام)

ومما ذكر يتبين لنا أن ابن كثير أيضاً خلط بين الرد والحبس وهما مختلفان.

ردّ الشمس للإمام علي (علیه السلام)

ولردّ الشمس لأمير المؤمنين ذكر في كتب المفسرين والأحاديث الصحيحة، وهو مما يعتقد به الشيعة وتؤكده المصادر المعتبرة، وللحادثة أثر تاريخي يتوافد إليه المؤمنون من كل مكان.

وقد ردّت الشمس لأمير المؤمنين (علیه السلام) مرّتين

ص: 68

المرة الأُولى: مكاناً وزماناً بالصهباء من أرض خيبر في العهد النبوي الشريف:

خرّج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عُمَيْس من طريقين: ((أن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) كان يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ، فلم يصلّ العصر حتى غربت الشمس؛ فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله): «أصليت ياعلي» قال: لا، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس» قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض، وذلك بالصَّهْباء في)).

ونفهم من بعض المفسرين أنهم جعلوا المعجزة لنبينا (صلی الله علیه وآله وسلم) وكرامة لوصيه أمير المؤمنين علي (علیه السلام).

وقال السيوطي في الخصائص: ((أوتي يوشع حبس الشمس حين قاتل الجبارين وقد حبست لنبينا في الإسراء وأعجب من ذلك رد الشمس حين فات عصر علي)).

ونقل الشيخ الصدوق ابن بابویه عن الشيخ المفيد أنه قال: وممّا أظهره الله تعالى من الأعلام الباهرة على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ما استفاضت به الأخبار، ورواه علماء السير والآثار، ونظمت فيه الشعراء الأشعار: رجوع الشمس له (علیه السلام) مرّتين، في حياة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) مرّة، وبعد وفاته أُخرى.

وقد ذكر عدد كبير من الشعراء هذه الكرامة نذكر منهم.

قول الأصفهاني:

أمن عليه الشمس ردت بعدما *** کسى الظلام معاطف الجدران

حتى قضى مافات من صلواته *** في دبر يوم مشرق ضحيان

ص: 69

والناس من عجب رأوه وعاينوا *** يترجون ترجح السكران

ثم انثنت المغيبها منحطة *** کالسهم طار بريشة الظهران

وقال السريجي الأوالي (ت 750 ه).

في قصيدته الغديرية:

وآية الشمس إذ ردت مبادرة غراء *** أقصر عنها كل انسان

قال ابن الجوزي:

أول الناس صلاة *** جعل التقوى حلاها

ردت الشمس عليه *** بعد ما غاب سناها

وقال ابن كثير: ((من طريق أبي العباس بن عقدة، حدّثنا يحيى بن زکریا، ثنا يعقوب بن سعيد، ثنا عمرو بن ثابت قال: سألت عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عن حديث ردّ الشمس على علي بن أبي طالب هل يثبت عندكم؟ فقال لي: ما أنزل الله في كتابه أعظم من ردّ الشمس، قلت: صدقت جعلني الله فداك، ولكنّي أحب أن أسمعه منك.

فقال: حدّثني أبي الحسن عن أسماء بن عمیس ونقل حدیث أسماء الذي ذكرناه.

ثم قال: ((قالت أسماء: فأقبلت الشمس ولها صریر کصرير الرحى حتی كانت في موضعها وقت العصر، فقام علي متمکناً فصلّی، فلما فرغ رجعت الشمس ولها صریر کصرير الرحي، فلما غابت اختلط الظلام وبدت النجوم)).

ويمكن أن نستنتج من حديث أسماء بنت عمیس دليلاً على صحة الحديث

ص: 70

بأنه من لا ينطق عن الهوى.

ففي قولها فأقبلت الشمس ولها صریر کصرير الرحي يدل على أن الذي تحرك هو الأرض وليست الشمس، فبدوران الأرض یکون الليل والنهار، والصرير ربما كان من تحرك الأرض فبُعد الشمس کما أُثبت علمياً يمنع وصول صوت الانفجارات وصوت فوران الشمس.

فالذي سمُع هو صوت الأرض وليس الشمس، والذي تحرك ليعود النهار هو الأرض، فهو إعجاز علمي ذكر قبل أن يكتشفه العلم الحديث، وأيضا ففي القرآن الكريم قال: ((ردوها عليّ)) لا يمنع تحرك الأرض لتعود الشمس والله أعلم.

أما المرة الثانية في بابل (الحلة).

فقد ذكر الشيخ الصدوق أن الشمس ردّت على أمير المؤمنين علي (علیه السلام) عدة مرات: منها ما ((روي عن جويرية بن مسهر أنه قال: ((أقبلنا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام من قتل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر فنزل أمير المؤمنين عليه السلام ونزل الناس، فقال علي (علیه السلام) إن هذه أرض ملعونة قد عذبت في الدهر ثلاث مرات وفي خبر آخر مرتين - وهي تتوقع الثالثة وهي إحدى المؤتفکات وهي أول أرض عبد فيها وثن، وأنه لا يحل لنبي ولا لوصي نبي أن يصلي فيها، فمن أراد أن يصلي فيصل، فمال الناس عن جنبي الطريق يصلون وركب هو (علیه السلام) بغلة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ومضى، قال جويرية: فقلت: والله لأتبعن أمير المؤمنين (علیه السلام) و لأقلّدنه صلاتي اليوم، فمضيت خلفه فو الله ما جزنا جسر سوراء حتى غابت الشمس فشککت، فالتفت إليّ وقال: يا جويرية أشككت؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فنزل علیه السلام عن ناحية فتوضأ ثم قام فنطق بكلام لا أحسنه إلا كأنه بالعبراني، ثم نادى الصلاة فنظرت

ص: 71

والله إلى الشمس وقد خرجت من بين جبلين لها صرير فصلى العصر وصليت معه، فلما فرغنا من صلاتنا عاد الليل کما کان فالتفت إليّ وقال: يا جويرية بن مسهر إن الله عزّ وجلّ يقول: ((فسبح باسم ربك العظيم)) وإني سألت الله عزّ وجلّ باسمه العظيم فردّ عليّ الشمس، وروي أن جويرية لما رأى ذلك قال: أنت وصي نبي ورب الكعبة.

وذكره البخاري في باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، إذ ذكر إن الإمام علياً (علیه السلام) کره الصلاة بخسف بابل.

وذكر الخطيب البغدادي أنه ردت الشمس على علي (علیه السلام) وهو في طريقه إلى صفين في بابل.... عن عبد خير قال: كنت مع علي أسير في أرض بابل وحضرت الصلاة (صلاة العصر) قال: فجعلنا لا نأتي مكاناً إلا رأيناه أقبح من الآخر قال: حتى أتينا على مكان أحسن ما رأيناه وقد كادت الشمس أن تغيب قال: فنزل علياً (علیه السلام) ونزلت معه، قال: فدعا الله فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر، قال: فصلينا العصر ثم غابت الشمس.

ويوجد في المدينة مسجد رد الشمس (مسجد الفضيخ) وقد هدمه الوهابيون لمحو معالم الإسلام وبقي أرض المسجد يقصده المؤمنون للصلاة خفيةً.

وهو اسم مسجد من مساجد المدينة، روي أن فيه ردّت الشمس لأمير المؤمنين (علیه السلام).

ويعرف بمسجد الشمس اليوم، وهو شرقي مسجد قبا على شفير الوادي مرصوم بحجارة سود، وهو مسجد صغير.

کما جاء في سنن أبي داود ((أن عليا [رضي الله عنه] مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن

ص: 72

يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال إن حبي (صلی الله علیه وآله وسلم) نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة)).

لكنه لم يذكر السبب.

ومسجد الشمس ببابل - الحلة - معلَمٌ قائم خالد وخير شاهد، وموقعه على يسار الخارج من الحلة إلى كربلاء على ربوة عالية وعليه قبة مثلها.

وينقل الحسني عن كتاب الهروي المتوفي في حلب (ت 611 ه) قوله ان في مدينة الحلة مشهد الشمس «يقال ردّت لحزقيال النبي (علیه السلام) ويقال ليوشع بن نون (علیه السلام) وقيل لعليّ بن ابي طالب والله اعلم».

إن معجزة ردّ الشمس لعلي (علیه السلام) تدخل في دائرة الألطاف والرعاية الإلهية، من حيث إنها تيسر عليهم قبول إمامة أمير المؤمنين، وسيد الوصيين (علیه السلام)؛ لما تظهره من مقام له عند الله، ومن محل له لديه، من حيث إنه استحق أن يستجيب الله تعالى له إذا دعاه، بسبب انقياده (علیه السلام) له تعالى، وظهور عبودیته وطاعته حتی إن الشمس حين دعاها على قاعدة: (عبدي أطعني تكن مَثَلي).

ص: 73

الخاتمة

بعد هذه الرحلة القصيرة إلى حيث رُدّت الشمس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) لا يسعنا سوى أن نذكر أهم ما توصلنا إليه بهذا المبحث المتواضع:

حادثة وقوف الشمس لوصي النبي موسى يوشع بن نون (عليهما السلام) متفق عليها لدى الأديان السماوية والمذاهب الإسلامية فهي حبست في كتب الصحاح والتفاسير ووقفت وحبست وكذلك توقف القمر في العهد القديم.

هناك خلط لدى المفسرين بين (ردّ الشمس) و (وقوف أو حبس الشمس)، هذا الخلط جعل بعض المفسرين ينكر هذه الحادثة بالدليل المنقول عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) (ما حُبِسَتِ الشمسُ عى بشَرٍ قطُّ، إلَّا على يوشَعَ بنِ نونٍ، ليالِيَ سارَ إلى البيتِ المُقَدَّسِ».

أن العلل مختلفة لحوادث الشمس كرامة لأنبياء الله فقد حبست ليوشع بن نون (علیه السلام) کي يطول النهار وينتصر على أعدائه، و للنبي موسى (علیه السلام)؛ أخر الله عز وجل طلوع الفجر حتى فرغ من أمر تابوت يوسف، واختلفت العلة مع حزقيا فالشمس ردّت؛ كعلامة على شفائه وإطالة عمره. وتشابهت علة ردّ الشمس للنبي سليمان (علیه السلام) ولرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وللإمام علي (علیه السلام) فقد ردّت؛ ليقيما صلاة العصر بعد أن فاتهم وقتها.

إن الأوقات متباينة فقد ردت للنبي سليمان علیه السلام)) ولرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وللإمام علي علیه السلام)) بعد غياب الشمس أما النبي موسى فردت له فجراً وردّت قبل الغروب للنبي حزقيا.

وقد كشف هذا البحث عن تجذر هذه المعجزة وتكرارها مع أنبياء سبقوا

ص: 74

رسول الله والإمام علي (صلوات الله عليهم) وتبلورت ملامح المعجزة ولكن بشكل آخر فقد بينا فيه أن وقوف الشمس يختلف عن ردها لكن علاقته بالزمن واحدة.

إن الذين ردت لهم الشمس خمسة وهم النبي موسى (علیه السلام) والنبي حزقيا (علیه السلام) والنبي سليمان (علیه السلام) والنبي محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) والإمام علي (علیه السلام)

حديث البخاري ((إن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) لما أخبر قريشا صبيحة الاسراء إنه رأى العير التي لهم تقدم مع شروق الشمس فدعا الله فحبست الشمس حتى دخلت العير)) يتناقض مع ما أخرجه أحمد في مسنده: «ما حُبِسَتِ الشمسُ على بشَرٍ قطُّ، إلَّا على يوشَعَ بنِ نونٍ، ليالِيَ سارَ إلى البيتِ المُقَدَّسِ».

هوامش البحث:

(1) الإمام أحمد: 2 / 325، المجلد الثاني الحديث 7964 .

(2) عيون أخبار الرضا: 2 / 200، حلية الأبرار: 2 / 301، بحار الأنوار: 53 / 59 .

(3) وهو الذي ذكر في سورة الكهف / 60 بلفظة فتاه. (يَشُوعُ بْنُ نُونٍ (عند المسيحيين) أو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ (عند المسلمين) يقال أنه نبي من أنبياء الله (יְהוֹשֻׁעַ يَهُوشُوع بالعبرية) هو شخصية في العهد القديم المذكور في سفر يشوع عاش بن القرنن ال 13 ق م وال 12 ق م. من قبيلة إفرايم بن يوسف بن يعقوب، وكان قائد بني إسرائيل بعد موت النبي موسى وكان نبياً. انظر: تاريخ

الطري: ذكر يوشع بن نون: 1 / 435.

(4) وهم العماليق الجبارون كما جاء في تاريخ الطبري: 1/ 439.

(5) الكتاب المقدس: الخروج: 17 / محاربة العماليق: 9 - 13 / صفحة 90.

(6) ياشر: هذا السفر أو الكتاب ليس سفرًا من أسفار الكتاب المقدس، لكنه سفر غالبًا سجله رجل علماني أحب الشعر والأدب، فيه سجل بعض الأحداث الهامة الدينية والزمنية، وإذ شاهد

تأخر غروب الشمس أو سمع عنها سجل ذلك في قصيده ضمنها كتابه. وكأن كاتب سفر يشوع يستشهد بهذا الحدث العجيب بكتابات رجل علماني. ينظر: تفسر الكتاب المقدس - العهد القديم

- القمص تادرس يعقوب: / http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations

ص: 75

Old-01-Holy-Bible-Tafsir

(7) انظر: سفر يشوع: 10 / 6 - 13 / صفحة 273.

(8) سفر يشوع: 11 / 23 / ص 275

(9) أنظر: نحميا، اتمام بناء السور: 6 / 15. و 7 / 2 - 3 / ص: 592.

(10) أنظر: نحميا، أسماء العائدين من السبي، / 7 / 7: ص 592

(11) تاريخ الطبري: 1 / 441.

(12) البداية والنهاية: لابن كثر: الجزء السادس. وقد حدد يوم الجمعة في الرابع عر من حزيران في فتح الباري، ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي

صلى الله عليه وسلم أحلت لكم الغنائم، رقم الحديث: 2956.

(13) سفر حبقوق / 3، صفحة 1175. ويذكر ان سفر هذا النبي دون في القرن السادس ق.م ينظر: حبقوق من العهد القديم صفحة 1172.

(14) أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحلت لكم الغنائم» (4 / 86) برقم (3124)، ومسلم، كتاب الجهاد والسر، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة

خاصة (3 / 1366) برقم (1747).

(15) أنظر: تاريخ الطبري: ذكر يوشع بن نون: 1 / 440.

(16) مناقب ابن شهرآشوب 2: 145.

(17) من لا يحضره الفقيه: 1 / 145 وذكره أحمد: 2 / 325

(18) ينظر: الصلاة في اليهودية، الموقع: /https://ar.wikipedia.org/wiki

(19) الخصائص الكبری: السيوطي: 2 / 183.

(20) تفسير الميزان: السيد الطباطبائي: 17 / 206.

(21) مسند أحمد: 2 / 325، المجلد الثاني الحديث 7964.

(22) ينظر: الجزء الرابع من لسان العرب، مادة (حبس).

(23) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، رقم الحديث: 2956..

(24) راجع قاموس الكتاب المقدَّس ص 1069. ينظر: تفسر الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب: - http://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy

Old-01-Bible-Tafsir . و 10764/https://drghaly.com/articles/display

(25) ينظر: مزيل اللبس في مسألتي شق القمر و ردّ الشمس، محمد مهدي الخرسان: 271، نقلا عن جريدة الجمهورية - المصرية - عدد 13 / 12 / 1957 م.

ص: 76

(26) المصدر نفسه: 272.

(27) رؤيا يوحنا / 6 الختوم: 391.

(28) ينظر: أمن اللبس: 423.

(29) ينظر: العهد القديم: الملوك 2 / 20 مرض حزقيا وشفاؤه: 476 - 477.

(30) ينظر: العهد القديم: أخبار الأيام الثاني: 32، صفحة 563.

(31) ينظر: شبهات حول الأسفار التاريخية - تاريخ النر: 2011 - 06 - 04 هل رجوع الشمس عشر درجات مقبول علميا؟: 8.

(32) ينظر: 10760/http://drghaly.com/articles/display.

(33) من لا يحره الفقيه: 144: 1 - 145، وتفسر الصافي: 4 / 298، وتفسر الميزان للسيد الطبطبائي: 17 / 203.

(34) ينظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 404، وجامع البيان، الطري: 21 / 194. ومجمع البيان، للطرسي: 8 / 272. و تفسر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي: 15 / 176. وفتح القدير الجامع بین فني الرواية والدراية، للشوكاني: 1 / 1263.

(35) جامع البيان: 21 / 194.

(36) عرائس البيان في حقائق القرآن، روزنبهان البقلي: 847.

(37) التفسير الكبير/ الرازي: 7 / 397. وينظر: الجامع لأحكام القرآن / القرطبي: 15 / 177.

(38) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي: 15 / 177. وينظر: معالم التنزيل للبغوي: 7 / 90.

(39) الميزان في تفسير القرآن / الطبطبائي: 17 / 202.

(40) الملوك الأول / 3: 412.

(41) تثنية 17: 16، 17.

(42) قصص الأنبياء: السيد نعمة الله الجزائري: 344.

(43) العهد القديم، سفر الخروج / 13: 84.

(44) فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي ((أحلت لكم الغنائم، رقم الحديث: 2956.

(45) فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أحلت لكم الغنائم، رقم الحديث: 2956.

(46) تفسير روح المعاني، للآلوسي: 23: 175 - 176.

(47) ينظر: شرح النووي على مسلم، باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة، الحديث: 1747.

ص: 77

(48) البداية والنهاية، ابن كثر: الجزء السادس قصة حبس الشمس، . https://ar.wikisource

org/wiki. وينظر: الجامع لأحكام القرآن: 15 / 177.

(49) البداية والنهاية، ابن كثر: الجزء السادس قصة حبس الشمس، . https://ar.wikisource

.org/wiki

(50) ينظر: مجمع البيان في تفسر القرآن: 8 / 273. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي: 15 / 177،

أخرجه الطحاوي في - مشكل الآثار: 2 / 9، ومن لايحره الفقيه: 1 / 145، والغدير: 3 / 125 - 142، وذكره الشيخ الكليني في الكافي: 4 / 561 - 563.

(51) الخصائص الكبرى: 2 / 183.

(52) ينظر: مزيل اللبس في مسألتي شق القمر ورد الشمس: 481 - 487.

(53) مناقب ابن شهر آشوب 2: 148.

(54) الغدير: 6 / 20.

(55) تذكرة الخواص: السبط ابن الجوزي: 31.

(56) البداية والنهاية: 6 / 83، وينظر: فرائد السمطين، الحمويني: 1 / 32، وتلخيص المتشابه، الخطيب البغدادي: 1 / 225، ومسند أسماء بنت عميس 24: 117، ط الموصل.

(57) من لايحره الفقيه: 1 / 146، الحديث 611، وينظر: المناقب للخوارزمي: 236، ومقتل الحسن: 1 / 47، وغاية المرام: 629، و البحار: 41 / 173 - 174، عن مناقب آل أبي طالب: 1 / 359 - 365.

(58) صحيح البخاري: 1 / 90، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب.

(59) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ البغداد: 12 / 305.

(60) .3329/http://www.alnassrah.ccom/threads

(61) ينظر: لسان العرب، مادة (فضخ) وتاج العروس مادة (فضخ)..

(62) الحدائق الناضرة: المحقق البحراني: 17 / 419.

(63) سنن أبي داود: 4 / 113.

(64) مناقب آل أبي طالب: 2 / 44 - 45.

(65) الاشارات الى معرفة الزيارات" لأبي الحسن علي بن ابي بكر الهروي: 144.

(66) جعفر مرتضى العاملي: 15 - 16.

ص: 78

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. الإشارات إلى معرفة الزيارات» لأبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي، ط دمشق 1953 م.

2. بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه) تحقیق: محمد الباقر البهبودي ط 2.

3. البداية والنهاية، للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 ه)، تحقيق: عبد الله بن عبد الحسين التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية، ط 1، دار هجر، 1997 م.

4. تذکرة الخواص، المعروف بتذكرة خواص الأمة في خصائص الائمة: العلامة شمس الدين سبط الحافظ إبن الجوزي (ت 654 ه) ط 1، دار العلوم بيروت 1425 ه / 2004 م.

5. التفسير الكبير (مفاتیح الغيب) للإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني (ت 604 ه) ط 1، دار الكتب العلمية 1425 ه - 2004 م بيروت.

6. تفسير الصافي، المولي محسن الملقب بالفيض الكاشاني (ت 1091 ه)، ط 3 مکتبة الصدر، إيران - طهران.

7. تلخيص المتشابه في الرسم، ط دمشق.

8. الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت

ص: 79

671 ه)، دار إحياء الفكر.

9. جامع البيان عن تأویل آي القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه)، تحقيق: محمد محمود شاکر، دار المعارف - مصر.

10. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: الشيخ يوسف البحراني حققه وعلق عليه: محمد تقي الايرواني، ط 2، دار الاضواء - بيروت لبنان.

11. الخصائص الكبرى أو كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب: عبد الرحمن أبي بكر السيوطي جلال الدين، تحقيق: محمد خليل هراس، المكتبة الوقفية 2011.

12. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: لأبي الثناء السيد محمود بن عبدالله الآلوسي (ت 1270 ه)، تحقيق: محمد أحمد الأمد، وعبدالسلام السلامي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000 م.

13. سنن أبي داود لأبي داود السجستاني، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط دار الفكر مصر.

41. : شبهات حول الأسفار التاريخية - تاريخ النشر: 2011 - 06 - 04 موقع انترنت.

15. شرح النووي على مسلم: يحيي بن شرف أبو زکریا النووي، دار الخير 1416 ه - 1996 م.

16. صحيح البخاري: ط بولاق.

17. عرائس البيان في حقائق القرآن، تفسیر صوفي كامل للقرآن الكريم: الشيخ روزنبهار البقلي الشيرازي (ت 606 ه)، دراسة وتقديم المستشرق آرثر

ص: 80

أربري، دار ومكتبة بيبليون، جبيل لبنان، 2009.

18. عيون اخبار الرضا: الشيخ الأقدم والمحدث الأكبر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق (ت 381 ه): ط 1، منشورات الشريف الرضي.

19. الغدير، الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي ط 2.

20. فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث 1407 ه - 1986 م.

21. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية: محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت 1250 ه)، تحقيق: يوسف الغوث، دار المعرفة، بيروت لبنان، 1423 ه / 2004 م.

22. قصص الأنبياء والمرسلين: السيد نعمة الله الجزائري، قدم له وعلق عليه علاء الدين الأعلمي، ط بهمن قم - ايران 1426 ه - 2005 م.

23. الكتاب المقدس أي كتب العهد القديم ط 3، 1995 والعهد الجديد ط 30، دار الكتاب المقدس، الشرق الأوسط - 1993. لبنان.

24. لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (ابن منظور)، دار صادر: 2003 م.

25. مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو علي الفضل بن المحسن الطَبرسي (ت 548 ه)، ط 2، دارالمرتضى، بيروت - لبنان، 1430 ه - 2009 م.

26. مزيل اللبس في مسألتي شق القمر و ردّ الشمس: السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان عفي عنه.

ص: 81

27. مسند أسماء بنت عميس، ط الموصل.

28. مسند الإمام أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد، دار إحياء التراث العربي 1414 ه - 1993 م.

29. معاني القرآن: أبو زكريا يحبى بن زياد الفراء (ت 207 ه) تحقيق: محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي ط 2، عالم الكتب، بيروت 1980 م.

30. مناقب أبي طالب، أبي جعفر محمد بن علي بن شهر اشوب المازندراني، ط الحيدرية 1376 ه.

31. مناقب الخوارزمي: الموفق بن أحمد بن محمد المكي الخوارزمي (ت 568 ه) تحقيق: فضيلة الشيخ مالك المحمودي، تقديم العلامة الشيخ جعفر السبحاني.

32. من لا يحضره الفقيه: للشيخ الجليل الأقدم الصدوق أبي جعفر محمد بن على بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه) ط 1 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت لبنان، 1406 ه - 1986 م.

33. الميزان في تفسير القرآن: السيد محمد حسين الطباطبائي، ط 3، دار الكتب الاسلامية (د.ت).

ص: 82

السؤال ودوره في الإثراء المعرفي دراسة في ضوء نهج البلاغة

اشارة

م. د. عدنان عباس البطاط م. م. اركان حسين التميمي

كلية الإمام الكاظم (عليه السلام)

ص: 83

ص: 84

مقدمة

حياة الأُمم المعنوية رهينةٌ باعتزازها بنتاجاتها العلمية والأدبية والثقافية، والحفاظِ عليها، وأُمة لا تعي قيمة نتاج مفكريها وقممها أُمة ميتة، وأُمة لا تحافظ على تراثها الفكري أُمة غادرت الحياة وإن كانت تعيش على الأرض.

عندما تُدير الأُمة ظهرها لإرثها الحضاري والفكري وتمنحه الإهمال فهي تقضي على وجودها، فحياة الأُمم بنتاج مفكريها ومبدعيها.

نهج البلاغة نتاجُ قِمة وتراث أُمة، علينا أن نتساءل كم بلغ اعتزازنا به وحفاظنا عليه، وكم وعيناه ورعيناه؟!!

عندما نعرف أن هناك من سدد سهام التشكيك له، وأثار اللغط حوله، نعرف أن الأُمة تطعن نفسها حين تقضي على مفاخر تراثها.

نهج البلاغة ذلك القنديل المضيء في سماء الإنسانية، ومن الآثار القليلة في مسيرتها الفكرية التي لا تزال غضة طرية، تقفز على الزمان ولا تتحدد بمكان، وهو من الآثار التي «لم توضع لفريقٍ دون فريق، ولم يراع فيها شعبٌ دون شعب، الا وإنما خوطب بها الإنسان أنى وجد وكان، ولأنها تلامس كل قلبٍ، وتضمّد كلّ جرحٍ، وتكفكف كل دمعةٍ، كانت ملكاً للناس أجمعين، وكانت خالدة عند الناس أجمعين»(1)

ووقع اختيارينا في هذا البحث على موضوع حيوي متواجد في كل مفاصل الحياة، وهو موضوع (السؤال وآليته) ففي كل ناحية من نواحيها هناك سائل وسؤال ومسؤول، ونحن يوميا نشهد هذا الموضوع فاعلاً في حياتنا، فما أهمية السؤال، وما هي معالمه وسماته، وما هي الآداب المحمودة في السائل والمسؤول،

ص: 85

وما هي الآداب المذمومة فیهما؟

كل ذلك حاولنا الإجابة عنه باستنطاق نصوص نهج البلاغة، لتتجلى لنا صورة كاملة عن آلية السؤال على لسان سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، سائلين المولى العلي القدير التوفيق والنجاح.

مفهوم السؤال

السؤال في اللغة:

قال الخليل في العين في مادة سأل: "سَأَلَ يَسْأَلُ سُؤالا ومَسأَلةً. والعَرَبُ قاطبةً تحذفُ همزةً سَلْ، فإذا وُصِلَتْ بفأ أو واوٍ هُمِزَتْ، كقولك: فاسأل، واسأل وجَمعُ المَسأَلة: مسائل، فإذا حذفوا الهمزة، قالوا: مَسَلة. والفقير يُسمَّى: سائلاً"(2).

وقال الجوهري في الصحاح: السُؤْلُ: ما يسأله الإنسان. وقرئ " أُوتيتَ سُؤلَكَ يا موسى "بالهمز وبغير الهمز. وَسَأَلْتُهُ الشيءَ وَسَأَلْتُهُ عن الشيء سُؤَالاً ومَسألةً. وقوله تعالى: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» أي عن عذابٍ. قال الأخفش: یقال خرجنا نسأل عن فلانٍ وبفلانٍ. وقد تخفَّف همزته فيقال: سالَ يَسْالُ. وقال: ومُرْهَقٍ سالَ إمْتَاعاً بأُصْدَتِهِ... لم يَسْتَعِنْ وحَوامي الموتِ تَغْشاهُ

والأمر منه سَلْ بحركة الحرف الثاني من المستقبَل، ومن الأوّل: اسْأَلْ. ورجلٌ سُؤَلَة: كثيرُ السؤال، وتَسألوا، أي سَأَلَ بعضهم بعضاً، وأَسْأَلْتَهُ سُؤْلَتَهُ ومسأَلَتَهُ، أي قضيتُ حاجته"(3).

قال الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن، في مفردة (سأل): «السُّؤَالُ: استدعاء معرفة، أو ما يؤدّي إلى المعرفة، و استدعاً مال، أو ما يؤدّي إلى المال، فاستدعاء المعرفة جوابه على اللسان، واليد خليفة له بالكتابة، أو الإشارة،

ص: 86

واستدعاً المال جوابه على اليد، واللّسان خليفة لها إمّا بوعد، أو بردّ.

إن قيل: كيف يصحّ أن يقال السّؤال يكون للمعرفة، ومعلوم أنّ اللهّ تعالى: يَسْأَلُ عباده نحو: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة / 116]؟

قيل: إنّ ذلك سُؤَالٌ لتعريف القوم، وتبكيتهم لا لتعريف اللهِ تعالى، فإنه علّام الغيوب، فليس يخرج عن كونه سؤالاً عن المعرفة.

والسُّؤَالُ للمعرفة يكون تارة للاستعلام، وتارة للتّبكيت، كقوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) [التكوير/ 8]، ولتعرّف الْمَسْئُولِ(4).

والسُّؤَالُ إذا كان للتّعريف تعدّى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه، وتارة بالجارّ، تقول: سألته كذا، وسألته عن كذا، وبكذا، وبعن أكثر: قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء / 85]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) [الكهف / 83]، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) [الأنفال / 1]، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) [البقرة / 186](5)، وقال تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) [المعارج / 1]، وإذا كان السّؤال لاستدعأ مال فإنه يتعدّى بنفسه وأبدلت الهمزة ألفا. أو بمن، نحو: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الأحزاب / 53]، (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) [الممتحنة / 10](6)، وقال: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء / 32](7).

ويعبّر عن الفقير إذا كان مستدعيا لشيء بالسّائل، نحو: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) [الضحى / 10]، وقوله: لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات / 19]. (8)(9)، انتهى كلام الراغب.

إذن السؤال يكون لطلب المعرفة أو طلب مال، ومن هنا طُرح رأيان في معنى

ص: 87

السائلين في الآية المباركة: «وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ»، قال الزجاج "إِنما قال سَواءً للسائلين لأَن كُلاًّ يطلب القُوتَ ويَسْأَله وقد يجوز أَن يكون للسائلين لمن سَأَل في كم خُلِقَت السمواتُ والأَرضُ فقيل خلقت الأَرض في أَربعة أَيام سواء لا زيادة ولا نقصان جواباً لمن سَأَل."(10)

السؤال في الاصطلاح

لا يختلف السؤال في استخدامه الاصطلاحي عن معناه اللغوي، إذ يطلق السؤال ويراد منه اصطلاحاً طلب المال أو طلب المعرفة بحسب الحال والسياق، وبحثنا هنا عن المعنى الثاني للسؤال وهو آليته في طلب المعرفة، سنتناوله في ضوء نصوص نهج البلاغة بإذن الله وتوفيقه.

السؤال في نهج البلاغة

ورد استعمال السؤال في نهج البلاغة في كلا المعنيين المتقدمَين لغةً واصطلاحاً، وهما:

المعنى الأول: السؤال بمعنى طلب المال، وقد ورد بهذا المعنى في النهج في غير موضع، فقال عليه السلام: «مَاءُ وَجْهِكَ جَامِدٌ يُقْطِرُهُ السُّؤَالُ، فَانْظُرْ عِنْدَ مَنْ

تُقْطِرُهُ.»(11)، وقال عليه السلام: «السَّخاءُ ما كانَ ابْتِداءً، فَأمّا ما كانَ عَنْ مَسْألَةٍ فَحَياءٌ وَتَذَمُّمٌ.»(12)

وهذا اللون من السؤال أي التكفّف، وسؤال الناس مذمومُ، ينبغي للإنسان تجنبه، نعم هذا لا يعني إهانة السائل أو عدم اجابته، ولو صدق السائل لهلك المسؤول، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إِنَّ اللهَّ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أمْوَالِ الْغْنِيَاء

أقْوَاتَ الْفُقَرَاء، فَمَا جَاعَ فَقِیرٌ إِلا بِمَا مَتعَ بِهِ غَنِيُّ، وَاللهُّ تَعَالَی سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.»(13)

ص: 88

أما السؤال من الله تعالى فهو الطلب الممدوح، «لِنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِى لاَ يَغِيضُهُ

سُؤالُ السَّائِلِينَ وَلاَ يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّنَ.»(14)، وهو الذي يُعطي سُئل أم لم يُسأل: «الْحَمْدُ لله الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجَمُودُ وَلاَ يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَالْجُودُ إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَكُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ ما خَلاَهُ وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَعَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَالْقِسَمِ عِيالُهُ الْخَلاَئِقُ ضَمِنَ أرْزَاقَهُمْ وَقَدَّرَ أقْوَاتَهُمْ وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِنَ إِلَيْهِ وَالطَّالِبِنَ مَا لَدَيْهِ وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأجْوَدَ مِنْهُ بِاَ لَهْ يُسْألْ.»(15)

بل سؤال الله والطلب منه قد أُمرَ به المؤمن: «وَاعْلَمْ أنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ

السَّمَاَوَاتِ وَالْرْضِ قَدْ أذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَتَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ، وَأمَرَكَ أنْ تَسْألَهُ

لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ..»(16)

المعنى الثاني: وهو السؤال بمعنى آليته في طلب المعرفة، وهو مورد بحثنا، وسنبين بإذن الله تعالى ما يرتبط به من أهمية وآداب، حريّ بطالب العلم الاطلاع عليها ووضعها موضع الاهتمام والتطبيق.

أهمية السؤال (طلب المعرفة)

السؤال نافذة هامة من نوافذ المعرفة، وكم من المعلومات وكم من المعارف التي حصلنا عليها بطريقة السؤال؟

لو تصورنا والتفتنا إلى هذا الكم المعر في الهائل من المعلومات والمعارف المختلفة عند ذلك نعرف أهمية السؤال..

السؤال عملية تنقيب عن المعلومة كما ينقب الإنسان بحثاً عن الماء أو النِّفط أو المعادن الثمينة، وغالباً ما يشعر الإنسان بالارتياح للجواب المقنع له، كما يفرح بالعثور على ضالته المنشودة..

ص: 89

كم تكشفت لنا أُمور، وكم أحطنا علماً بقضايا بعد سؤالنا عنها!! وكم بقي الجهلُ يلفُّ أموراً لأننا لم نسأل عنها لسبب أو لآخر.

شفاء العمى طول السؤال وإنّما *** تمامُ العمى طولُ السكوتِ عن الجهلِ

وقالوا: الأجوبة أمهات الفوائد، تلدها بتلقيح السؤال.

نلمس ذلك ونحن نطالع نهجَ البلاغة فنرى الكثير من الخطب أثارها السؤالُ ونرى علومَ عليٍّ عليه السلام تنساب لنا بعد أن فجّرها سؤالٌ سأله سائل.

يتألمُ عليٌّ (عليه السلام) أن يصل الحال بالأُمة أن تترك السؤال عما تجهله فيقول: «أَيُّهَا النَّاسُ - إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وَزَمَنٍ كَنُودٍ، يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ

مُسِيئا، وَيَزْدادُ الظّالِمُ فِيهِ عُتُوّا، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا وَلا نَسْألُ عَمّا جَهِلْنَا»(17)، وعلي عليه السلام وهو باب مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله يقول إنّه لم يكن يتوانى عن سؤال رسول الله صلّى الله عليه وآله عما يعنّ له من أسئلةٍ واستفسارات وهذا الأمر كان يتفرد به عن الصحابة: «وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحابِ رَسُولِ اللَّه صلّى اللهُ عليه وآله مَنْ كانَ يَسْألُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ حَتَّى إِنْ كانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يحجِيءَ الْأَعْرابِيُّ أَوَ الطَّارِئُ فَيَسْألَهُ عليه السام حَتَّى يَسْمَعُوا، وَكانَ لا يَمُرُّ بِي مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ إِلا سَألْتُهُ عَنْهُ وَحَفِظْتُه..»(18)

وفي مسند أحمد ما يقرب ويعضد هذا الحديث: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا

قَدْ نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَحجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ..»(19)

كان أمير المؤمنين عليه السلام يحثّ الناسَ على السؤال ويطلب منهم أن يقصدوه بأسئلتهم، فهو خزانة علم النبيِّ، صلّى الله عليه وآله، وعيبةُ علمه، وقد

ص: 90

اشتُهر عنه قوله: (سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي)، وقد ورد في نهج البلاغة في موضعين:

الأول: في الخطبة رقم 189، والتي يتحدّث فيها عن الخوارج: «أمَّا بَعْدَ

أيُّهَا النَّاسُ، فَأنَا فَقَأتُ عَنْهَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أحَدٌ غَیْرِي بَعْدَ أنْ مَاجَ

غَيْهَبُهَا، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا.

أيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِ فَلَأنَا بِطُرُقِ السَّمَأ أعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْرْضِ

قَبْلَ أنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا، وَتَذْهَبُ بِأحْاَمِ قَوْمِهَا.»

الثاني: في الخطبة رقم 93، «فَاسْألُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي فَوَالَّذِي نَفْيِ بِيَدِهِ لاَ

تَسْألُونِي عَنْ شَيْءٍ فِياَ بَيْنَكُمْ وَبَیْنَ السَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلا

أنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أهْلِهَا

قَتْلاً وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتا.»

لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يريد التباهي والتعالي بهذه الكلمة، وإنما هي دعوة للاغتراف من نمير علمه الذي أخذه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، والسؤال كفيلٌ بتعريف الناس بالكثير من تلك المعارف والعلوم، ولذا نجد في نهج البلاغة دقائق المعارف جاءت على لسان أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن سُئل، فنقرأ مثلا عن التوحيد وصفات الله أن ذِعلبُ اليماني سأل الإمام عليه السلام فقال: هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين؟، فقال عليه السلام: أفَأعْبُدُ مَا لاَ أرَي؟ فَقَالَ: وَكَيْفَ تَرَاهُ؟، قَالَ عليه السلام: لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ

وَلَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، قَرِيبٌ مِنَ الْشْيَاءِ غَیْرَ مُلاَبِسٍ، بَعِيدٌ مِنْهَا

غَیْرَ مُبَايِنٍ، مُتَكَلِّمٌ لاَ بِرَوِيَّةٍ، مَرِيدٌ لاَ بِهِمَّةٍ، صَانِعٌ لاَ بِجَارِحَةٍ، لَطِيفٌ لاَ يُوصَفُ

بِالْخَفَاءِ، كَبِیرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ، بَصِیرٌ لاَ يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ، رَحِيمٌ لاَ يُوصَفُ

بِالرِّقَّةِ، تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وَتَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ.(20)

ص: 91

وسأله سائلٌ شاميٌّ عن القضأ والقدر فقال: أكانَ مَسِرُنا إِلَ الشّامِ بِقَضأ مِنَ

اللَّهِ وَقَدَرٍ؟ بَعْدَ كَلامٍ طَوِيلٍ هَذا مُخْتارُهُ:

«وَيْحَكَ! لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضاءً لازِما وَقَدَرا حاتِما، لَوْ كانَ ذلِكَ كَذلِكَ لَبَطَلَ الثَّوابُ وَالْعِقابُ، وَسَقَطَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، إِنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أمَرَ عِبادَهُ تَخْيِیرا، وَنَهاهُمْ

تَحْذِيرا، وَكَلَّفَ يَسِرا، وَلَمْ يُكَلِّفْ عَسِیرا، وَأعْطَى عَلَی الْقَلِيلِ كَثِرا، وَلَمْ يُعْصَ

مَغْلُوبا، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرِها، وَلَمْ يُرْسِلِ الْنْبِياءَ لَعِبا، وَلَمْ يُنْزِلِ الْكُتُبَ لِلْعِبادِ عَبَثا، وَلا

خَلَقَ السَّاواتِ وَالْأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ

كَفَرُوا مِنَ النّارِ.»(21)

وَسُئِلَ عليه السلام عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ عَلَى أرْبَعِ دَعائِمَ: عَلَی الصَّبْرِ

وَالْيَقِینِ وَالْعَدْلِ وَالْجِهادِ.»(22)

وخطبة المتقين الشهيرة إنما جاءت على أثر سؤال من رجل عابد اسمه همّام توجّه به لأمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمِیرَ الْمُؤْمِنِنَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِنَ حَتَّى

كَأنِّي أنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَتَثَاقَلَ عليه السام عَنْ جَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: يا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَأحْسِنْ

(فَإِنَّ اللَّ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ محْسِنُونَ)، فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِذِلِكَ الْقَوْلِ حَتَّى

عَزَمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأثْنَى، عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَی النَّبِيِّ صلّی الله عليه وآله، ثُمَّ قَالَ:

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَ خَلَقَ الْخَلْقَ حِینَ خَلَقَهُمْ غَنِيّا عَنْ طاعَتِهِمْ، آمِنا

مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِنَّهُ لا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصاهُ، وَلا تَنْفَعُهُ طاعَةُ مَنْ أطاعَهُ، فَقَسَمَ

بَيْنَهُمْ مَعايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيا مَواضِعَهُمْ، فَالْمُتَّقُونَ فِيها هُمْ أهْلُ الْفَضائِلِ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصادُ، وَمَشْيُهُمُ التَّواضُعُ، غَضُّوا أبْصارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللُّهَ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أسْاعَهُمْ عَلَی الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخاءِ، ..»(23)

ص: 92

إذن هذه العلوم الغزيرة والمعارف الدقيقة لم يُثرها غيرُ السؤال، فهو الذي أثارها وأخرجها من مكنونها.

ومن أجلّ خطب الإمام علي عليه السلام عن الله تعالى وصفاته الخُطبة المعروفة بخُطبة الأشباح، وسميت بذلك لذكر الأشباح فيها أو لأنها من الطول ما يجعل لها ظلاً وشبحاً، وهذه الخطبة جاءت على أثر سؤال سأله رجلٌ، ولذا قال الشريف الرضيّ رحمه الله تعالى عنها: «وهي مِن جَلائِل خُطبه عليه السلام، رَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام أَنَّه قَالَ: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِه الْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ وذَلِكَ أنَّ رَجُلاً أتاهُ فَقَالَ يا أمِیرَ الْمُؤْمِنِينَ

صِفْ لَنَا رَبَّنَا مِثْلَ مَا نَرَاهُ عِيَاناً لِنَزْدادَ لَهُ حُبّا وَبِهِ مَعْرِفَةً فَغَضِبَ وَنَادَى الصَّلاَةَ

جَامِعَةً فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَتَّى غَصَّ الْمَسْجِدُ بِأهْلِهِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُغْضَبٌ مُتَغَیِّرُ

اللَّوْنِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ وَصَىَّ عَلَی النَّبِيِّ صلّی الله عليه وآله، ثُمَّ قَالَ:

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجَمُودُ وَلاَ يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَالْجُودُ إِذْ كُلُّ مُعْطٍ

مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَكُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ ما خَلاَهُ وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَعَوَائِدِ الْمَزِيدِ

وَالْقِسَمِ عِيالُهُ الْخَلاَئِقُ ضَمِنَ أرْزَاقَهُمْ وَقَدَّرَ أقْوَاتَهُمْ وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِنَ إِلَيْهِ

وَالطَّالِبِنَ مَا لَدَيْهِ وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْألْ..»(24)

وعلّق ابن أبي الحديد المعتزلي على هذه الخطبة فقال: «هذا موضع المثل إذا جاء نهرُ الله بَطَلَ نهر مَعْقِل(25)، إذا جاء هذا الكلام الرباني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب وكانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص ولو فرضنا أن العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ من أين لهم المادة التي عبرت هذه الألفاظ عنها ومن أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه واله هذه المعاني الغامضة

ص: 93

السمائية ليتهيأ لها التعبير عنها أما الجاهلية فإنهم إنما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات و نحو ذلك وأما الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنما كان منتهی فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة أما في موعظة تتضمن ذكر الموت أو ذم الدنيا أو يتعلق بحرب و قتال من ترغيب أو ترهيب.. ثم قال: وأقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب اقشعر جلده ورجف قلبه واستشعر عظمة الله العظيم في روعه وخلده وهام نحوه وغلب الوجد عليه وكاد أن يخرج من مسکه شوقا وأن يفارق هیکله صبابة ووجدا.»(26)

وهكذا يتوضح لنا أن للسؤال آليته وحضورَه في نهج البلاغة وتأثيرَه ووقعَه، في تعزيز الثقة وتحصيل المعرفة وكأنّ السؤال في نهج البلاغة دلوٌ بدلو به السائلُ في بئرٍ لا يجفُّ ماؤه ولا ينضب، فيأتيه مملوءً بالمعارف والعلوم والجواهر والكنوز..

هل يُزعجُ السؤالُ علياً عليه السلام؟

قد يتسأل البعض فيقول: هل كان أمير المؤمنين عليه السلام ينزعج من بعض الأسئلة؟ فقد يظهر ذلك من بعض المواقف، کجوابه المتقدم للرجل الشامي الذي سأله عن القضاء والقدر فقال: وَيْحَكَ! لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضاءً لازِما وَقَدَرا حاتِما، أو کجوابه للرجل الذي سأله لماذا لم يمت هو کما مات همام عند سماعه للموعظة البليغة فقال عليه السلام: أما وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أخافُها عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ: هَكذا تَصْنَعُ الْمَواعِظُ الْبالِغَةُ بِأهْلِها، فَقالَ لَهُ قَائِلٌ: فَما بالُكَ يا أمِیرَ الْمُؤْمِنِنَ؟ فَقالَ عليه السلام: وَيْحَكَ! إِنَّ لِكُلِّ أجَلٍ وَقْتا لا يَعْدُوهُ، وَسَبَبا لا يَتَجاوَزُهُ، فَمَهْاً لا تَعُدْ لِمِثْلِها، فَإِنَّما نَفَثَ الشَّيْطانُ عَلَى لِسانِكَ.»(27)

أو كما مرّ في خطبة الأشباح: «وَكانَ سائِل سَألَهُ أنْ يَصِفْ الله لَهُ حَتى كَانَّه يَراه

ص: 94

عَيانا فَغَضَبُ لذلِك»؟!.

والجواب: في كل الحالات حتى التي قد يبدو فيها انزعاج من قبل أمير المؤمنين عليه السلام لم نلحظ أنه ترك السؤال من دون أن يجيب عنه، بل في السؤال الذي غضب عند سماعه، وصعد المنبر وهو مغضب كان الجواب مفصلاً بخطبة من أطول خطب النهج، ومع ذلك علينا أن نلحظ صيغة السؤال، فصيغة السؤال تكشف عن أن السائل يظن أن الله صفات كصفات المخلوقات، ومن السؤال نستظهر أن هناك ميلاً ولو كان خفياً إلى التجسيم «مثلا نراه عياناً»، ومثل هذا الفهم الساذج للركيزة الأولى والرئيسة للدين وهي التوحيد، أو لمسألة مهمة كالقضاء، وممن يعتبر الرعيل الأول للإسلام لا شك أنه أمرٌ يدعو للتأسف، وأن کون المسلمين بهذا الوعي الساذج لأُمورهم العقائدية مدعاة للغضب والتأسف والحسرة، الغضب والتأسف للحال التي وصل إليها المسلمون لا من السؤال کسؤال ولا من السائل كسائل فكأن غضبه جزء لا يتجزء من الجواب عن السؤال.

معالم السؤال في نهج البلاغة

من خلال مطالعة نصوص نهج البلاغة تظهر لنا معالم السؤال وملامحه کما یعدها أمير المؤمنين عليه السلام، ونستشفها من ثنايا كلامه المبارك، وأبرز معالم السؤال في النهج:

أولاً: السؤال حاجة نفسية ضرورية عند الإنسان، إذ أن حب الاستطلاع بُعدٌ نفساني مهم عند الإنسان، جُبل عليه وفُطر، وهو المحرك والدافع في الحياة الإنسانية لاكتساب العلم والمعرفة، والسؤال آلية مهمة لتلبية هذه الرغبة، ولذا يقول عليه السلام: ««مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ؛ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا.»(28)، ومن هنا

ص: 95

كان عليه السلام يحرك في الناس هذه الغريزة والفطرة الإنسانية المتمثلة بحب الاستطلاع، فيقول لهم: سلوني قبل أن تفقدوني، ويحدثهم عن العلوم التي يحملها صدرُه الشريف: «هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْما جَمّا (وَأشَارَ بِيَدِهِ إِلَ صَدْرِهِ) لَوْ أصَبْتُ لَهُ

حَمَلَةً»(29)

وقال عليه السلام: ««بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَی مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ

اضْطِرَابَ الْرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ.»(30)

ثانياً: السؤال قناة لنقل الأفكار والعلوم من جيل إلى جيل، ولهذا وصلتنا الكثير من العلوم والمعارف على أكف السؤال، ونقرأ في نهج البلاغة أن الناس يسألون علياً عليه السلام عن أُمور وهو يخبرهم أنه سأل عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله، فيجيبهم بما أجاب به الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله.

في كلامه عليه السلام في نهج البلاغة والمرقّم ب: 155، وقد خاطَبَ بِهِ أهْلَ

الْبَصرَةِ عَلی جَهَةِ اقْتِصاصِ الْملاحِمِ.. وَقامَ إلَيهِ رَجُلْ وَقالَ: أخْبِرْنا عَنِ الْفِتْنَةِ،

وَهَلْ سَألْتَ رَسُولَ اللِّه صَلَّى اللِّه علَيْهِ وَآلِهِ؟ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إِنَّهُ لَّمَا أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَوْلَهُ: (الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) عَلِمْتُ أنَّ الْفِتْنَةَ لا تَنْزِلُ بِنا وَرَسُولُ اللِّهَ صَلّی اللُّه عَلَيهِ وَآلِه بَیْنَ أظْهُرِنا، فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ، ما هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِى أخْبَرَكَ اللَّهُ بِما؟ فَقالَ: «يا عَلِيُّ إِنَّ أمَّتِى سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: يا رَسُولُ اللَّهِ، أوَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحِيزَتْ عَنِّى الشَّهادَةُ، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: «أبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهادَةَ مِنْ وَرائِكَ»؟ فَقالَ لِي: «إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذن»؟ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ هَذا مِنْ مَواطِنِ الصَّبْرِ، وَلكِنْ مِنْ مَواطِنِ الْبُرْى وَالشُّكْرِ، وَقالَ: «يا عَلِىُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بَعْدِى بِأمْوالِهِمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ

ص: 96

رَحْمَتَهُ، وَيَأمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَفيَسْتَحِلُّونَ حَرامَهُ بِالشُّبُهاتِ الْكاذِبَةِ وَالْأهْوأ السّاهِيَةِ،

فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالرِّبا بِالْبَيْعِ.»، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَبِأىِّ الْمَنازِلِ أنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ أبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟ فَقالَ «بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ».

ثالثاً: السؤال أسلوب تربوي ناجح، لأنه يتواصل مع حاجة وجدانية عند الإنسان، لأن السؤال يتحدث عن قضية تهم المتلقي وتضغط على وجدانه وتفكيره فيندفع في الاستفسار عنها، فينجذب إلى هذا الأسلوب انجذاباٌ وجدانياٌ بفكره وشعوره، ويبتعد عن الشرود الذهني والابتعاد الروحي الذي قد يعاني منه وهو يستمع إلى المحاضرة والدرس..

ولهذا یُعدّ السؤال من الافتتاحيات المميزة التي يبدأ بها المتحدث لاستدراج الجمهور واستنهاض تفكيره، وحثه على الانشداد إليه.

والسؤال الافتتاحي هو واحد من أبسط وأضمن الطرق لكسب تفاعل المتلّقي.

في حديثه عليه السلام مع بَعْضِ أصْحابه لِما عِزْمِ عَلَى الْمَسير إلى الخَوارج، وقَدْ قالَ له: يا أمير المؤمنين إن سَرت فِي هَذا الْوَقت، خَشيت أن لا تَظْفر بِمُرادك، مِنْ طریق عِلم النُجوم فقال عليه السلام: «أتَزْعُمُ أنَّكَ تَهْدِي إلَی السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيها صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ؟ وَتُخَوِّفُ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ؟ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَتَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأمْرِكَ أنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ، لِنَّكَ بِزَعْمِكَ أنْتَ هَدَيْتَهُ إلَی السَّاعَةِ الَّتِي نالَ فِيهَا النَّفْعَ، وَأمِنَ الضُّرَّ.!

ثُمَّ أقْبَلَ عليه السام عَلَی النَّاسِ فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ وَتَعَلُّمَ النُّجُومِ إلّا

ما يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرِّ أوْ بَحْرٍ، فَإِنَّمَا تَدْعُو إلَی الْكَهَانَةِ، وَالْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ، وَالْكَاهِنُ

ص: 97

کَالسَّاحِرِ، وَالسَّاحِرُ کَالْكَافِرِ، وَالْكَافر فِي النَّارِ، سِیرُوا عَلَى اسْمِ اللهِ.»(31)

رابعاً: السؤال أسلوبٌ ناجح في تنبيه السامع، فهو يثير اهتمامه ويحرك غريزة حب الاستطلاع لديه، وقد يثير السؤال من الاهتمام والالتفاف عند السامع مالا يثيره نفس الكلام إذا جاء بصياغةٍ أُخرى.

فعندما يتحدّث الإمام عليه السلام عن مَلَكِ الموت وتوفيه الأنفس يصوغ الكلام بجملةٍ من الاستفهامات المؤثرة التي تأخذ بمجامع القلوب وتهيمن على النفوس وتشدها شدّاً إلى الكلام لا يمكن أن يكون بطرح الكلام بصيغته التقريرية، وذلك في الخطبه رقم 111، حيث قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى: ومن خطبة له عليه السلام ذَكَرَ فِيها مَلَكَ الْمَوْتِ وَتَوَفِّيَةُ الأنفُسَ:

هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً أمْ هَلْ تَراهُ إذا تَوَفَّ أحَدا؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّ الْجَنِینَ

فِي بَطْنِ أمِّهِ؟ أيَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوارِحِها؟ أمْ الرُّوحُ أجابَتْهُ بِإ ذْنِ رَبِّها؟ أمْ هُوَساكِنٌ مَعَهُ فِي أحْشَائِها كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؟!

خامساً: السؤال طريقة ناجحة في رفع الرتابة وكسر الروتين، فعن طريق السؤال يُستجلَب التأثير في المتلقي، وترفع الرتابة التي قد تستولي على الكلام، ويشعر معها السامع بالملل وعدم الانجذاب للكلام.

ومع جمالية كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وهو أمير الكلام وسلطان البيان، كان عليه السلام حریصاً أن يضمّن كلامه بالسؤال ويصوغ الحديث بصيغة الاستفهام ليحرز شدّ السامع إليه، وبذلك نتعلم درساً أن السؤال في وسط الكلام يعمل على ربط المستمع بالمتكلم وشدّه إليه، ونقرأ كمثال على ذلك حديثَ أمير المؤمنين عليه السلام عن الدنيا في الخطبة رقم 110 من خطب النهج: «أمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أحَذِّرُكُمُ الدُّنْيا، فَإِنَّا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ،

ص: 98

وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ، وَتَحَلَّتْ بِالْمَالِ، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لا تَدُومُ حَبْرَتُا، وَلا تُؤْمَنُ

فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ، زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ، بَائِدَةٌ، أكَّالَةٌ، غَوَّالَةٌ، لا تَعْدُو إِذا

تَناهَتْ إِلى أمْنِيَّةِ أهْلِ الرَّغْبَةِ فِيها؛ وَالرِّضَأ بِهَا أنْ تَكُونَ كَما قَالَ اللهُ تَعَالَی: (كَم أأنْزَلْن اهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيما تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وَكانَ اللُّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا.) لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْها فِي حَبْرَةٍ إلا أعْقَبَتْهُ بَعْدَها عَبْرَةً، وَلَمْ يَلْقَمِنْ سَرَّائِها بَطْنا إلا مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْرا، وَلَمْ تَطُلَّهُ فِيها دِيمَةُ رَخَاءٍ إلا هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَاءٍ، وَحَرِيُّ إذا أصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً، وَإنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَ أمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأوْبَى.

لا يَنالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضارَتِهَا رَغَبا إلا أرْهَقَتْهُ مِنْ نَوائِبِها تَعَبا، وَلا يُمْيِ مِنْهَا

فِي جَناحِ أمْنٍ إلا أصْبَحَ عَلَی قَوادِمِ خَوْفٍ، غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ فانٍ مَنْ عَلَيْها، لاَ خَیْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أزْوَادِها إلا التَّقْوَى، مَنْ أقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ، وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ، وَزالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ.

كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِها قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ

حَقِیرا، وَذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِياً، سُلْطانُها دُوَّلٌ، وَعَيْشُها رَنِقٌ، وَعَذْبُا أجَاجٌ،

وَحُلْوُها صَبِرٌ، وَغِذاؤُها سِامٌ، وَأسْبابُا رِمَامٌ، حَيُّها بِعَرَضِ مَوْتٍ، وَصَحِيحُها

بِعَرَضِ سُقْمٍ، مُلْكُها مَسْلُوبٌ، وَعَزِيزُها مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُها مَنْكُوبٌ، وَجَارُها

مَحْرُوبٌ.

ألَسْتُمْ فِي مَساكِنِ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ أطْوَلَ أعْمارا، وَأبْقَى آثَارا، وَأبْعَدَ آمالاً، وَأعَدَّ

عَدِيدا، وَأكْثَفَ جُنُودا، تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيا أيَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوها أيَّ إِيْثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْها

بِغَیْرِ زادٍ مُبَلِّغٍ، وَلا ظَهْرٍ قَاطِعٍ؟!

فَهَلْ بَلَغَكُمْ أنَّ الدُّنْيا سَخَتْ لَهُمْ نَفْسا بِفِدْيَةٍ، أوْ أعانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ، أوْ أحْسَنَتْ

ص: 99

لَهُمْ صُحْبَةً؟

بَلْ أرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوادِحِ، وَأوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ، وَضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَناخِرِ، وَوَطِئَتْهُمْ بِالْمَناسِمِ، وَأعانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ، فَقَدْ رَأيْتُمْ تَنَكُّرَها لِمَنْ دانَ لَا، وَآثَرَها وَأخْلَدَ إِلَيْها حِینَ ظَعَنُوا عَنْها لِفِراقِ الْبَدِ، وَهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلا السَّغَبَ، أوْ أحَلَّتْهُمْ إِلا الضَّنْكَ، أوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلا الظُّلْمَةَ، أوْ أعْقَبَتْهُمْ إِلا النَّدَامَةَ؟

أفَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ، أمْ إِلَيْها تَطْمَئِنُّونَ، أمْ عَلَيْها تَحْرِصُونَ؟»

سادساً: السؤال أسلوب قرآني حاكاه الامام علي عليه السلام، فقد جاءت كثير من الآيات المباركات تحمل مضامينها بقوالب سؤال، لما لأسلوب السؤال من جمال وتأثير وبصمة، ومن هنا نلحظ تأثير الاستفهام القرآني في نهج البلاغة، حيث نلحظ المقاربة بين أشكال الاستفهام القرآني وأشكاله في نهج البلاغة، فمن الأساليب التي استخدمها القرآن الكريم في الاستفهام فعلُ الرؤية: قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) (الفيل:1)، وهذا الأسلوب نجده كثيراً في نهج البلاغة، فعلى سبيل المثال لا الحصر قال عليه السلام: ««أوَ لَمْ تَرَوْا إلَی الْماضِینَ مِنْكُمْ لا يَرْجِعُونَ؟ وَإلَی اْخَلَفِ الْبَاقِنَ لا يَبْقَوْنَ؟ أوَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أهْلَ الدُّنْيَا يُمْسُونَ وَيُصْبِحُونَ عَلَى أحْوَالٍ شَتَّى؟ فَمَيِّتٌ يُبْكى وَآخَرُ يُعَزَّى، وَصرِيعٌ مُبْتَى، وَعَائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ، وَطالِبٌ لِلدُّنْيا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ، وَعَلَى أثَرِ الْاضِ مَا يَمْضِيِ الْبَاقِي.»(32)

وحاكى الإمام عليه السلام أُسلوباً آخر من الأساليب الاستفهامية في القرآن الكريم وهو الاستفهام بصيغة ليس المسبوقة بهمزة الاستفهام كقوله تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ» (العنكبوت: 68)، وقال تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ» (الزمر: 60)، فقال عليه السلام: «أوَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثارِ الْأوَّلِينَ

ص: 100

مُزْدَجَرٌ؟ وَفِي آبَائِكُمُ الْاضِنَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟!»(33)، وقال عليه السلام: «ألَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعا عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَالْعاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ؟!(34)»(35)

آدابُ السؤال

للسؤال أدب وفن، ومن يُتقن فن السؤال وأُسلوبه سيجني ثمار ذلك نجاحاً ومعرفة، ولا بد لنا ونحن نبحث في السؤال في رحاب نهج البلاغة أن نتبع الآداب التي ينبغي أن تكتنف السؤال، ومن بعد ذلك نثرها في سلوكية السؤال عندنا، لكي يأتي سؤالنا دقيقاً أنيقاً مثمراً، فمَن يُرد أن يكون ناجحاً في سؤاله فعلیه أن يعرف كيف يطرحُ السؤال ومتي، ليكون بذلك ملمّاً ب«فن السؤال»، ونحن نلحظُ أدب السؤال وفنّه في جانبي السؤال، وهما: السائل والمجيب، ولهذا سنقف عند كل واحدٍ منهما على حدة.

أولاً: آداب السائل

يُمكننا إجمال آداب السائل في نهج البلاغة بما يأتي:

أولاً: أن يكونَ الهدفُ من سؤال السائل هو معرفةُ الحقيقة، فالسؤال النموذجي والمثالي هو الذي ينطلق من ساحة الرغبة في العلم والتطلع للمعرفة والاحاطة بالحقيقة، وهذا هو الهدف السامي للسؤال، وهكذا يجب أن يكون، لذا وصف أمير المؤمنين عليه السلام المؤمن العارف بأن غايتَه المعرفة وضالتَه الحكمة: «قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَها، وَأخَذَها بِجَمِيعِ أدَبِها، مِنَ الْإِقْبالِ عَلَيْها، وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَالتَّفَرُّغِ لَا، فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُها، وَحاجَتُهُ الَّتِي يَسْألُ عَنْها.»(36)

فهدفه ومنشوده الحكمة، وهي مطلوبه و ضالته، قال عليه السلام: «الْحِكْمَةُ

ضالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أهْلِ النِّفاقِ.»(37)

ص: 101

وقال عليه السلام: ««خُذِ الْحِكْمَةَ أنّى كانَتْ، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ

الْمُنافِقِ فَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَی صَواحِبِها فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ.»(38)

إذن فالسؤال ينبغي أن لا يكون من أجل السؤال، بل من أجل التعرّف والتعلّم والاطلاع، فلا يكن السؤال للتباهي، ولا يكن لإحراج المسؤول، وهذا من أهم آداب السائل وأدب السؤال.

قال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام لسائل سأله عن مُعضلةٍ (أي مسألة شديدة) والسائل ابن الكواء الخارجي: «سَلْ تَفَقُّها، وَلاَ تَسْألْ تَعَنُّتا، (أي لیکن سؤالك للتفقه والتعلم وليس للعنت وهو المشقة تريد أن تدخل المشقة على مَن تسأله وتوقعه في الخطأ )فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ الْمُتَعَنِّتِ.»(39)

يقول الشيخ التستري رحمه الله في شرحه: «فان الجاهل المتعلّم شبيه بالعالم»، حيث أن قصده التفقّه فيتعلّم فيصير عالما بما تعلّمه «و ان العالم المتعسّف» أي: الآخذ على غير الطريق «شبيه بالجاهل» حيث أن عمله نوع جهالة.

إذن من أدب السؤال أن يكون لطلب التعلم والمعرفة لا لحب الظهور وایقاع المقابل في المشقة. وفي (العقد الفريد): كان ابن سیرین إذا سئل عن مسألة فيها أغلوطة، قال للسائل: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس.

ومن جميل إشارات القرآنُ الكريم قوله: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7) فحدد السؤال بعدم العلم.

بل هناك تفسير للرسوخ في العلم في قوله تعالى والراسخين في العلم بأن الرسوخ قد حصل بمعرفتهم حدود علمهم، فقال عليه السلام: «وَاعْلَمْ أنَّ

ص: 102

الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ

الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ ما جَهِلُوا تَفْسِرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ فَمَدَحَ اللَّهُ تَعالى اعْتِرَافَهُمْ

بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْما وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِياَ لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ

عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخا فَاقْتَصِرْ عَلَی ذَلِكَ وَلاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللِّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ

فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِنَ.»(40)

ثانياً: أن يكون السؤال للعلم وللعمل فيما يقتضي العمل به، وما فائدة أن يسأل السائل ويتعلّم ولا يعمل بها علم، لننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يسألُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) فيتعلّم ويعمل ويعلِّم، ففي عهده لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) من ضمن ما أوصاه أن يكون وسطياً و معتدلاً في صلاة الجماعة: «وَإِذَا قُمْتَ فِ صَلاَتِكَ لِلنَّاسِ فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفِّرا وَلاَ مُضَيِّعا، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ، وَقَدْ سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّی الله عليه وآله حِینَ وَجَّهَنِي إِلَی الْيَمَنِ كَيْفَ أصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: (صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أضْعَفِهِمْ، وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَحِيما).»(41)

ثالثاً: أن يكون السؤال عن الأُمور المهمة، والتي هي مورد الابتلاء، لا أن يترك السائلُ الأُمورَ الواجبة ويسأل عن ماهو أقل من المستحب، فالأهم ثم المهم. فالسؤال المثمر هو الذي يكون عن المهم من الأُمور التي نعيشها وتؤثّر في حياتنا، وفي هذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: ««لاَ تَسْألْ عَمَّا لاَ يَكُونُ، فَفِي الَّذِي

قَدْ كَانَ لَكَ شُغُلٌ.»(42)

فالسؤال فرصة للتعلم وينبغي استثمارها في أحسن ما یکون، والسؤال عن اُمور ليست من صلب الحياة والواقع إضاعةٌ للفرصة، وقال عليه السلام: «إِنَّ اللَّهَ

افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَمَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ لَكُمْ حُدُودا فَمَا تَعْتَدُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ

ص: 103

أَشْيَاءَ فَمَا تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَلَمْ يَدَعْهَا نِسْيَانا فَمَا تَتَكَلَّفُوهَا.»(43)

وفي نهاية خطبة الأشباح التي أجاب فيها الإمام عليه السلام عن ذلك السائل الذي سأله عن صفات الله قال عليه السلام: «فَانْظُرْ أيُّهَا السَّائِلُ فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ

عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ

فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ وَلاَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلِّی اللُّه عَلَيهِ وَآلِه وَأئِمَّةِ الْهُدَى أثَرُهُ فَكِلْ

عِلْمَهُ إلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ.»(46)

رابعاٌ: أن يكون السائلُ حَسَنَ السؤال، أي يعرف فنَّ السؤال وأدبَه، لأن السؤالَ نصف الجواب کما یقال. ومن أقوال الإمام عليّ عليه السلام: «مَن أحسنَ السؤالَ عَلِمَ.»(45)

لنقرأ سؤالاً حسناً جميلاً في النهج وفي نفس الوقت هو سؤال دقيق: سأل أميرَ المؤمنين عليه السلام سائلٌ: أيُّما أفضلُ العدل أوِ الجُود؟ فَقَالَ عليه السلام:

«الْعَدْلُ يَضَعُ الْمُورَ مَوَاضِعَهَا، وَالْجُودُ يخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا، وَالْعَدْلُ سَائِسٌ عَامُّ،

وَالْجَودُ عَارِضٌ خَاصُّ، فَالْعَدْلُ أشْرَفُهُمَا وَأفْضَلُهُمَا»(46)

العدل يختلف عن الجود، فالعدل يضع الأُمور في مواضعها، أما الجود فيخرجها من مواضعها إلى جهة الخير والإحسان، فإذا كان لك حق على شخص فإن أخذته بإنصاف فهو عدل، وان عفوت عنه فهو جود، هذا أولا، وثانيا: العدل سائسٌ عام أي نظام شامل للحياة بينما الجود عارض خاص، أي له حالات خاص في مواقع معينة في الحياة.

وبهذا يكون السؤال الواضح المختصر الدقيق يعبّر عن فنّ خاص ينبغي أن يتحلّى به السائل.

ص: 104

خامساً: أن يكون السائلُ لطيفاً في سؤاله، فيطرح سؤاله بأدبٍ ولطف ويبتعد عن الخشونة والجفوة، لأنّ السائل بحاجة إلى المجيب فعليه أن يتلطّف في سؤاله، وهذا هو الأدب القرآني الذي نقرؤه في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع العالَم فلقد كان موسى عليه السلام في غاية التلطف عند سؤال الخضر في اتباعه والتعلم منه، قال تعالى: «قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا». ولذا يقول الرازي الآداب التي اشتملتها الآية: «اعلم أن هذه تدل على أن موسى عليه السلام راعي أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فأحدها أنه جعل نفسه تابعاً له لأنه قال «هَلْ أَتَّبِعُكَ»، وثانيها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.»(47)

وهذا ما نلمسه في نهج البلاغة من استحسان للسؤال اللطيف وذمّ للسؤال الخشن، ومثال السؤال اللطيف كثير ومنها سؤال همّام وكان رجلاً عابداً حيث قال لأمير المؤمنين عليه السلام: يا أمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِینَ حَتَّى كَأنِّ أنْظُرُ

إِلَيْهِمْ، فَتَثَاقَلَ عليه السلام عَنْ جَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: يا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَأحْسِنْ (فَإِنَّ

اللَّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). فَلَمْ يَقْنَعْ هَّمَامٌ بِذِلِكَ الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ

عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّی عَلَی النَّبِيِّ صلّی الله عليه وآله، ثُمَّ قَالَ..(48)

ومثال السؤال الخشن المتعنت سؤال ابن الكواء الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه السلام: «سلْ تفقّهاً ولا تسل تعنتاً»(49)

ثانياً: آداب المجيب

كما أن على السائل أن يُحيط بأدب السؤال فعلى المُجيب أن يتحلّى أيضاً بأدب الجواب وفنّه.

ص: 105

عند التأمل في نصوص نهج البلاغة يمكننا أن نقف عند تصريحات وإشارات الآداب المجيب تحدّث عنها سيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ومنها:

أولاً: احترام السائل واحترام السؤال، وهذا أدب مهم يجب أن نُدرکَه ونستوعبه إذ على المسؤول أن يُبدي احترامه للسؤال وللسائل ولا يتسهزءُ به لأنه استهزاء بالعلم والمعرفة، فالسائل يُريد أن يسير في طريق العلم ويبتغي التعلّم والتزوّد من المعرفة، وعلى المجيب إعانته على ذلك، بل عليه أن يعرف أن هناك حقّاً للسائل ويجب عليه أن يؤدي هذا الحقّ بإجابته.

قال أمير المؤمنين عليه السلام لبعض أصحابه وقد سأله: كَيْفَ دَفَعكُمْ

قَوْمُكُمْ عَنْ هذَا الْمَقامِ وَأنْتُمْ أحَقُبِهِ؟

فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «یَا أخَا بَنِي أسَدٍ، إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ(50)، تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ(51) وَلَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ(52) وَحَقُّ الْمَسْألَةِ، وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ، أمَّا

الِاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَنَحْنُ الْأعْلَوْنَ نَسَبا وَالْأشَدُّونَ بِالرَّسُولِ صَلّی اللُّه

عَلَيهِ وَآلِه نَوْطا فَإِنَّمَا كَانَتْ أثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ

آخَرِينَ، وَالْحَكَمُ اللُّهَ وَالْمَعْوَدُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةِ.

وَدَعْ عَنْكَ نَهْبا صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ (وَلَكِنْ حَدِيثا مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلَ)

وَهَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أبِ سُفْيَانَ، فَلَقَدْ أضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ وَلاَ غَرْوَ

وَاللَّهِ فَيَا لَهُ خَطْبا يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ وَيُكْثِرُ الْأوَدَ، حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ مِنْ

مِصْبَاحِهِ، وَسَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ، وَجَدَحُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شِرْبا وَبِيئا، فَإِنْ تَرْتَفِعْ

عَنَّا وَعَنْهُمْ مَحِنُ الْبَلْوَى أحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَی مَحْضِهِ، وَإِنْ تَكُنِ الُأُخْرَى (فَلا

تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَر اتٍ، إِنَّ اللَّه عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).»(53)

ص: 106

وقال الراوندي في شرحه: «ويقال للرجل غير الثابت القدم في الأمر هو «قلق الوضين» أي هو مضطرب شاك فيه»(54)، وقوله عليه السلام «ترسلُ من غیر سدد»، قال التُّستري في شرحه: والمراد تتكلم في موضع لا ينبغي التكلم فيه العدم قدرتك على جبران ما يحدث منه لأنه عليه السلام كان في أصعب موقف بصفين.(55)

والمهم عندنا الآن قوله عليه السلام: «وَلَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وَحَقُّ الْمَسْألَةِ

وَقَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ.» فالإمام عليه السلام يعدُّ من حقوق السائل على المسؤول أن يُجيبه عن مسألته إذا توفرت شروط الإجابة، بل السؤال هنا قد جاء في غير محله، لأن في أصعب موقف من مواقف حرب صفين، وأنه لن يغير شيئاً بمعرفته ولن يستدرك ما فات.

ثانياً: أن يعتذرَ عن الإجابة إذا كان جاهلاً بها، إذ ليس من العيب أن يقول الإنسان إذا سُئل عن شيء لا يعرفه «لا أدري»، ولكن العيب أنه لا يدري ويستحي من قول «لا أدري»، أو يأنف أن يقولها!!

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: مَنْ تَرَكَ قَوْلَ لاَ أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ.(56)، ومقاتل الإنسان: المواضع التي إذا أُصيبت قتلته، ولذا قيل: لا أعلم نصفُ العِلم.

لماذا التارك لقول «لا أدري» تُصابُ مقاتلُهُ؟

لأن الذي يُريد أن يجيب عن كل سؤال ويظنّ أنه يعرف كلَّ شي ولا حاجة القول لا أدري فهذا لن يسعَ لكسب علمٍ ولا لتحصیل معرفة، ومن شعر الغرور بالعلم قول عَدي بن الرِّقاع:

وعَلِمْتُ حَتَّى ما أُسائِل عالماً عَنْ عِلْم واحدةٍ لكيْ أَزْدَادَها(57)

ص: 107

ومَن ادعى الاحاطةَ بالعلوم والأشياء فهو جاهل.

قل للذي يدعي في العلم معرفةً عرفتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ

ولهذا قال الله تعالى لنبيه الكريم صلّى الله عليه وآله: (وقل ربي زدني علماً)(58)، ومن يظن أنه يعرف كلّ شيء وبمقدوره الإجابة عن كل سؤال فسيوقع نفسه بالمهالك ففي (العقد الفريد) قال مقاتل وقد دخلته أبهة العلم: سلوني عمّا تحت العرش إلى أسفل من الثرى، فقام إليه رجل وقال: ما نسألك عمّا تحت العرش ولا أسفل من الثرى، ولكن نسألك عمّا كان في الأرض، وذكره اللهّ في كتابه، أخبرني عن كلب أهل الكهف ما كان لونه؟ فأفحمه.

وفيه أيضا قال قتادة: ما سمعت شيئا قط ولا حفظت شيئا قط فنسيته، ثم قال: ياغلام هات نعلي، فقال هما في رجليك!(59)

إذن على المرء ألا يستحي ولا يأنف من قول «لا أدري» جواباً عما لا يعلمه، ولا ينبغي له أن يتحرج من ذلك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «أُوصِيكُمْ

بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ اَلْإِبِلِ لَكَانَتْ لِذَلِكَ أَهْاً لاَ يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ

رَبَّهُ، وَلاَ يَخَافَنَّ إِلاَّ ذَنْبَهُ، وَلاَ يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لاَ أَعْلَمُ،

وَلاَ يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ اَلشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ اَلصَّبْرَ مِنَ

اَلْإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ اَلْجَسَدِ، وَلاَ خَیْرَ فِي جَسَدٍ لاَ رَأْسَ مَعَهُ، وَلاَ فِي إِيمَانٍ لاَ صَبْرَ

مَعَهُ.»(60)

إذن على الإنسان ألا يستحي من: قول لا أعلم إذا سُئل عما لا يعلمه، وأن يتعلّم ما لم يعلم.

وهكذا يرشدنا أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأدب الكبير في الإجابة وفي

ص: 108

تواضع الإنسان للعلم وإقراره بالجهل، وهو أدب غائب عند الكثير من الناس فلذا يقول الإمام عليه السلام: «وَاَلنَّاسُ مَنْقُوصُونَ مَدْخُولُونَ إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اَللَّهُ

سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ وَمُجِيبُهُمْ مُتَكَلِّفٌ يَكَادُ أَفْضَلُهُمْ رَأْياً يَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْيِهِ اَلرِّضَا

وَاَلسُّخْطُ وَيَكَادُ أَصْلَبُهُمْ عُوداً تَنْكَؤُهُ اَللَّحْظَةُ وَتَسْتَحِيلُهُ اَلْكَلِمَةُ اَلْوَاحِدَةُ.»(61)

ومدخولون أي مصابون بعقولهم، قد دخلت فيها العيوب، كيف ذلك؟ قال: سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ وَمُجِيبُهُمْ مُتَكَلِّفٌ.

وقال عليه السلام في الحكمة 182: «لاَ خَیْرَ فِي اَلصَّمْتِ عَنِ اَلْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لاَ

خَیْرَ فِي اَلْقَوْلِ بِالْجَهْلِ».

ثالثاً: أن يكون الجواب مناسباً للسائل ملائماً له، وقد ورد الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «إنا معاشرَ الأنبياء، أُمرنا أن نكلمَ الناس على قدر عقولهم»(62)، إذن على المجيب أن يجيب السائل على قدر عقله وبجواب مناسب ومفهوم وواضح، ومثاله من النهج قَوله عليه السلام وقد سُئِلَ عَنْ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ اَلْمَشْرِقِ وَاَلْمَغْرِبِ، فَقَالَ عليه السلام: مَسِیرَةُ يَوْمٍ لِلشَّمْسِ.

يعلق ابن أبي الحديد المعتزلي على هذا الجواب فيقول: وهذا الجواب تسمیه الحكماء جوابا إقناعياً لأن السائل أراد أن يذكر له كمية المسافة مفصلة نحو أن يقول بينهما ألف فرسخ أو أكثر أو أقل فعدل عليه السلام عن ذلك و أجابه بغيره و هو جواب صحیح لا ريب فيه لكنه غير شاف لغليل السائل وتحته غرض صحيح وذلك لأنه سأله بحضور العامة تحت المنبر فلو قال له بينهما ألف فرسخ مثلا لكان للسائل أن يطالبه بالدلالة على ذلك والدلالة على ذلك يشق حصولها على البديهة ولو حصلت لشق عليه أن يوصلها إلى فهم السائل، ولو فهمها السائل لما فهمتها العامة الحاضرون ولصار فيها قول وخلاف وكانت تكون فتنة أو شبيهاً

ص: 109

بالفتنة، فعدل إلى جواب صحيح إجمالي أسكت السائل به وقنع به السامعون أيضاً واستحسنوه، وهذا من نتائج حكمته عليه السلام.»(63)

رابعاً: توضيح الجواب ما أمكنَ للسائل، وهذا من آداب الإجابة عن السؤال، إذ ينبغي للمجيب أن يوضّح الجواب ما أمكن للسائل، وقد يحتاج المجيب إلى استخدام الإشارة وغيرها في توضيح جوابه، وهذا ما نستنتجه من فعل عليِّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يوضّح للسائل جوابه عن سؤاله، عندما قال: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَسَدَادَ طَرِيقٍ فَمَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ اَلرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي اَلرَّامِي وَتُخْطِئُ اَلسِّهَامُ وَيُحِيلُ اَلْكَلاَمُ وَبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ وَشَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَیْنَ اَلْحَقِّ وَاَلْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، فَسُئِلَ عليه السلام عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا، فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَوَضَعَهَا بَیْنَ أُذُنِهِ وَعَيْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: اَلْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَاَلْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ.(64)

خامساً: ألا يطرح الجواب الصحيح في زحمة الأجوبة العديدة، فيخفي الجواب الصائب في زحمة الأجوبة الكثيرة، يقول الإمام عليٌّ عليه السلام: «إِذَا ازْدَحَمَ

الْجَوَابُ خَفِيَ الصَّوَابُ»(65)

فإذا سُئلتَ عن شيءٍ وأعطيت الأجوبة العديدة ستُعطي معها الحيرةَ للسائل بأيها يأخذ، وكذلك إذا كثر المجيبون عن السؤال، كلُّ واحد منهم بجوابٍ مختلفٍ فيكون الجواب كسفينةٍ كثُر سَفَنُها، ولذا قيل: اللغطُ يوجِبُ الغَلط.

وهكذا نعرف أنه في زحمة الأجوبة وازدحامها يخفى الصواب.

وبهذا نكون قد تعرفنا على ما يمتلكه السؤال من أهمية تحدونا للالتفات إليها بغية استثمار السؤال كفرصة ثمينة للتعلم والتزود من المعرفة، وتعرفنا على معالم السؤال وملامحه في نهج البلاغة، وماذا يمثل السؤال في نظر أمير المؤمنين

ص: 110

علي عليه السلام، ثم توقفنا عند أدب السؤال وفنه من خلال تتبع نصوص نهج البلاغة، وما أكدت عليه من أدب وفن في طرفي السؤال وهما السائل والمجيب.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل النفع والفائدة فيها كتبته، وأن يضيف شيئاً ولو يسيراً إلى مكتبة نهج البلاغة الفاخرة.

نتائج البحث

أولاً: السؤال حاجة نفسية ضرورية عند الإنسان.

ثانياً: السؤال قناة لنقل الأفكار والعلوم من جيل إلى جيل.

ثالثاً: السؤال أسلوب تربوي ناجح، لأنه يتواصل مع حاجة وجدانية عند الإنسان.

رابعاً: السؤال أسلوبٌ ناجح في تنبيه السامع، فهو يثير اهتمامه ويحرك غريزة حب الاستطلاع لديه.

خامساً: السؤال طريقة ناجحة في رفع الرتابة وكسر الروتين، فعن طريق السؤال يُستجلَب التأثير في المتلقي.

سادساً: السؤال أسلوب قرآني حاكاه الامام علي عليه السلام، فقد جاءت كثير من الآيات المباركات تحمل مضامينها بقوالب سؤال، لما لأسلوب السؤال من جمال وتأثير على المتلقي.

سابعً: للسؤال أدبٌ وفن، ومن يُتقن فن السؤال وأُسلوبه سيجني ثمار ذلك نجاحاً ومعرفة

ثامناً: آداب السائل: يُمكننا إجمال آداب السائل في نهج البلاغة بما يأتي: 1 - : أن

ص: 111

يكونَ الهدف من سؤال السائل هو معرفةُ الحقيقة، فالسؤال النموذجي والمثالي هو الذي ينطلق من ساحة الرغبة في العلم والتطلع للمعرفة والاحاطة بالحقيقة.

2 - أن يكون السؤال للعلم وللعمل فيما يقتضي العمل به.

3 - أن يكون السؤال عن الأُمور المهمة، والتي هي مورد الابتلاء.

4 - أن يكون السائلُ حَسَنَ السؤال، أي يعرف فنَّ السؤال وأدبَه، لأن السؤالَ نصف الجواب.

5 - أن يكون السائلُ لطيفاً في سؤاله، فيطرح سؤاله بأدبٍ ولطف ويبتعد عن الخشونة والجفوةّ.

تاسعاً: آداب المجيب: كما أن على السائل أن يُحيط بأدب السؤال فعلى المُجيب أن يتحلى أيضاً بأدب الجواب وفنّه.

1 - احترام السائل واحترام السؤال، وهذا أدب مهم يجب أن نُدرکَه ونستوعبه إذ على المسؤول أن يُبدي احترامه للسؤال وللسائل ولا يتسهزءُ به لأنه استهزاء بالعلم والمعرفة.

2 - أن يعتذرَ عن الإجابة إذا كان جاهلاً بها، إذ ليس من العيب أن يقول الإنسان إذا سُئل عن شيء لا يعرفه لا أدري».

3 - أن يكون الجواب مناسباً للسائل ملائماً له.

4 - توضيح الجواب ما أمكنَ للسائل.

5 - ألا يطرح الجواب الصحيح في زحمة الأجوبة العديدة، يقول الإمام عليٌّ عليه السلام: «إِذَا ازْدَحَمَ الْصَّوَابُ خَفِيَ الصَّوَابُ.»

هوامش البحث:

(1) شمس الدین، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، ص 5.

(2) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العین، ج 7 ص 301.

(3) الجوهري، الصحاح في اللغة، ج 5 ص 1723.

(4) ومن أمثلة السؤال الاستنكاري في نهج البلاغة قوله عليه السلام: وَقَدْ سَمِعَ رَجُلاً يَذُمُّ الدُّنْيَا: «أيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا الْمَنْخَدِعُ بِأبَاطِيلِهَا إتَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تَذُمُّهَا، أنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أمْ هِيَ الْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ؟ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أمْ مَتَى غَرَّتْكَ؟ أبِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِىَ، أمْ بِمَضَاجِعِ

أمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى؟ كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ؟ وَمَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ؟ تَبْغِي لَهُمُ الشِّفَأ وَتَسْتَوْصِفُ لَهُمُ

ص: 112

الْطِبَّأ غَدَاةَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَلاَ يجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ، لَمْ يَنْفَعْ أحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَلَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطَلِبَتِكَ وَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ! وَقَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَبِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ.» الخطبة رقم: 131

(5) ومن أمثلة السؤال المتعدي إلى مفعوله بعن في نهج البلاغة قوله عليه السلام لشريح القاضي: ««يَا

شُرَيْحُ أمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ وَلاَ يَسْألُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصا، وَيُسْلِمَكَ إِلَ قَبْرِكَ خَالِصا..» الكتاب رقم: 3

وقوله لأخيه عقيل: «وَأمَّا مَا سَألْتَ عَنْهُ مِنْ رَأيِي فِ الْقِتَالِ، فَإِنَّ رَأيِي قِتَالُ الْمُحِلِّینَ حَتَّى ألْقَى اللَّهَ، لاَ يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِ عِزَّةً وَلاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً..» الكتاب رقم: 36

(6) ومن الأمثلة في نهج البلاغة للسؤال بقصد الحصول على المال في حال تعديه إلى المفعول بنفسه قوله عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام: وَرُبَّمَا سَألْتَ الشَّيْءَ فَمَا تُؤْتَاهُ، وَأوتِيتَ

خَیْرا مِنْهُ عَاجِلاً أوْ آجِلاً، أوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَخَیْرٌ لَكَ..»، وقوله عليه السلام: «نَسْألُ اللَّهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاء، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَأ، وَمُرَافَقَةَ الْنْبِيَاء. الخطبة رقم: 23

(7) ومثال السؤال باستدعا المال المتعدي ب"من" في نهج البلاغة قوله عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: «وَسَألْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَی إِعْطَائِهِ غَیْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الْأعْمَارِ، وَصِحَّةِ

الْأبْدَانِ، وَسَعَةِ الْرْزَاقِ.» الكتاب رقم: 31

(8) و مثال هذا كثير في النهج ومنه قوله عليه السلام: وَبُؤْسا لِمَنْ خَصْمُهْ عِنْدَ اللهِ الْفُقَرأ وَالْمَساکِینُ، وَالسّائِلُونَ وَالْمَدْفُوعُونَ، وَالْغارِمُ وَابْنُ السَّبِيلِ!» الكتاب رقم: 29

(9) الإصفهاني، الراغب، المفردات في غريب القرآن، ص 250.

(10) ابن منظور، لسان العرب، ج 11 ص 318.

(11) الحكمة رقم: 346

(12) الحكمة رقم:53

(13) الحكمة رقم: 328

(14) الخطبة رقم:91

(15) الخطبة رقم: 91

(16) الكتاب رقم: 31

(17) الخطبة رقم 32

(18) الكلام رقم: 210 .

ص: 113

(19) ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج 3 ص 143.

(20) الخطبة رقم: 189

(21) الخطبة رقم: 78

(22) الخطبة رقم 31

(23) الخطبة رقم 193

(24) الخطبة رقم 91

(25) هذا من الأمثال ونهر الله أي البحر والمد والسيل فإنه يعلو كل الأنهار، وعقل هو الصحابي مَعْقِل بن يسار المزني و كان زیاد قد حفر النهر وأحضر مَعْقِل المزني تبركاً به فسُمّي بنهر مَعْقِل وتُرك زیاد. (انظر ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزمخشري، ج 1 ص 189)

(26) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 6 ص 425

(27) الخطبة رقم 193

(28) الحكمة رقم: 457

(29) الخطبة رقم: 197

(30) الخطبة رقم: 5

(31) الخطبة رقم: 79

(32) الخطبة رقم: 99

(33) الخطبة رقم: 99

(34) الخطبة رقم: 99

(35) انظر كتاب الأثر القرآني في نهج البلاغة دراسة في الشكل والمضمون، د. عباس الفحام، ص 134.

(36) الخطبة رقم 182

(37) الحكمة رقم 80

(38) الحكمة رقم: 79

(39) الحكمة رقم: 320

(40) الخطبة رقم: 91

(41) الكتاب رقم:53

(42) الحكمة رقم: 346

ص: 114

(43) الحكمة رقم: 105

(44) الخطبة رقم: 91

(45) الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 424.

(46) الحكمة رقم: 437

(47) الرازي، فخر الدين، تفسير الرازي ج 21 ص 151.

(48) الخطبة رقم: 193

(49) الحکمة رقم: 320

(50) الوضين: بطان القتب وحزام السرج، أي أنك مضطرب.

(51) أي أنه يتكلم في غير قصد وصواب.

(52) لأنّ النبيَّ (صلی الله علیه وآله وسلم) كان متزوجاً من زینب بنت جحش وهي أسدية و أمها أميمة بنت عبد المطلب فهي ابن عمة النبيّ ص، وردّ ابن أبي الحديد على الراوندي قوله إن علياً ع كان متزوجاً من بني أسد. (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 243)

(53) الخطبة رقم: 162

(54) الراوندي، قطب الدین، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج 2 ص 122.

(55) التستري، محمد تقي، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة ج 1 ص 19.

(56) الحکمة: 80

(57) البغدادي، خزانة الأدب ج 11 ص 183

(58) سورة طه: 114

(59) الأندلسي، ابن عبد ربه، العقد الفريدج 1 ص 160

(60) الحكمة: 82

(61) الحكمة رقم 344

(62) الكليني، محمد بن یعقوب، الكافي، ج 1 ص 23

(63) المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 19، ص 200.

(64) الخطبة رقم: 141.

(65) الحكمة رقم: 243.

ص: 115

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1 - ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، دار صادر، لبنان - بیروت، دت ط.

2 - ابن منظور، لسان العرب، أدب الحوزة، إيران - قم، محرم 1405 ه.

3 - البغدادي، خزانة الأدب، تحقيق محمد نبيل طرفي - إميل بديع اليعقوب، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1998 م، الطبعة الأُولى.

4. الجوهري، الصحاح في اللغة، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1407ه - 1987 م.

5 - الرازي، فخر الدين، تفسير الرازي، الطبعة الثالثة.

6 - الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، مفردات غريب القرآن، مکتب نشر الكتاب، إيران، الطبعة الثانية، 1404 ه.

7. الراوندي، قطب الدين، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق: عبد اللطيف الكوهكمري، مكتبة آية الله المرعشي النجفي العامة، إيران - قم، 1406 ه.

8. الزمخشري، جار الله، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، تحقيق: عبد الأمير المهنا، مؤسسة الأعلمي، لبنان - بیروت، الطبعة الأُولى، 2012 م.

9 - شمس الدين، محمد مهدي، دراسات في نهج البلاغة، دار الزهراء، بیروت، 1392 ه - 1972 م، الطبعة الثانية.

10 - عبده، محمد، شرح نهج البلاغة، دار الذخائر، إيران - قم، 1412 ه -

1370 ش.

11 - الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين، تحقيق د. مهدي المخزومي و د. إبراهيم

ص: 116

السامرائي، مؤسسة الهجرة، إيران، 1410 ه، الطبعة الثانية.

12. الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، تحقيق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، الطبعة الخامسة، 1363 ش.

13. المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مؤسسة إسماعلیان، إيران - قم، د ت.

14. الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق: حسن البيرجندي، دار الحديث، إيران - قم، الطبعة الأُولى، د ت.

ص: 117

ص: 118

دور الفرائض الشرعية في التكافل الاجتماعي عهد الإمام علي أنموذجا

اشارة

د. خديجة حسن علي القصير

ص: 119

ص: 120

المقدمة

خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وهو مفطور على حب الاجتماع والعيش مع بني جنسه وبما انه غير منعزل عن أبناء جلدته فهو عليه حقوق وواجبات مثلما له احتياجات و مطالب ومن بين الحقوق التي تقع على عاتقه هو المساواة في مجتمعه بين أفراد أمته وعدم وجود فوارق تحد وتصنع الحواجز فيما بينهم وهنا تبرز أهمية التكافل الاجتماعي بوصفة الوسيلة والغاية التي من خلالها تتحق المساواة الاجتماعية ويصبو المجتمع إلى الوحدة والحد من الطبقية أو تقليلها.

أهداف البحث:

يتضمن البحث الأهداف التالية:

1 - تحديد مفهوم التكافل الاجتماعي من حيث تعريفه ونظرة الفقهاء والعلماء له وتركيز الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه واله وسلم وأهل بيته عليهم السلام على أهميته في المجتمع

2 - إبراز بعض الأمثلة عن التكافل الاجتماعي في عهد الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام.

3 - بیان الروافد المالية التي اعتمدت عليها الدولة الإسلامية في عهد الخليفة أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام لتطبيق التكافل الاجتماعي في المجتمع.

وقد اعتمدت في بحثي هذا على المنهج التحليلي وذلك بإيراد بعض الأمثلة التي تدل على مبدأ التكافل الاجتماعي وتوضيح مضامينها، يتألف بحثي هذا من مقدمة ومبحثين وخاتمة تتلو هما قائمة بأهم المصادر والمراجع المعتمدة في إعداد

ص: 121

هذا البحث، يشتمل المبحث الأول: مفهوم التكافل الاجتماعي على تعريف التكافل الاجتماعي في اللغة والاصطلاح وبيان مفهومة في االقرآن الكريم والسنة النبوية للرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديث الإمام علي عليه السلام وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أما المبحث الثاني: دور الفرائض الشرعية في التكافل الاجتماعي عهد الإمام علي عليه السلام وقد وضحت فيه بعض الموارد المالية التي استخدمت في رفد بيت مال المسلمين لتحقيق التكافل الاجتماعي في عهد الإمام علي عليه السلام.

اعتمدت في إعداد هذا البحث على مجموعة من المصادر يأتي في مقدمتها كتاب نهج البلاغة الذي يضم خطب وأقوال الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام فضلا عن كتب أخرى منها كتاب الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، فضلا عن كتاب الامالي للشيخ الطوسي، وغيرها من المصادر الأخرى التي سوف يأتي ذكرها تباعا في قائمة المصادر والمراجع في نهاية البحث.

وقد توصلت في بحثي هذا الى مجموعة من النتائج ومنها: إن التكافل الاجتماعي بمفهومه العام والشامل يعني التزام الأفراد فيما بينهم لإشباع الحاجات المادية والمعنوية لكافة أفراد المجتمع الذي ينتمون له.

فضلا عن تتعدد وتتنوع الموارد المالية للتكافل الاجتماعي في الدولة العربية الإسلامية وبما ان بحثنا يتحدث عن التكافل الاجتماعي في عهد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام فان موارد التكافل الاجتماعي في عهده اعتمدت على صور متعددة تأتي في مقدمتها الزكاة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 122

المبحث الأول: مفهوم التكافل الاجتماعي

أولا: التكافل في اللغة والاصطلاح

التكافل في اللغة مشتق من الفعل کفل ومادة كفل في اللغة اشتقاقات كثيرة ومعاني متعددة منها:-

- الكفل بمعنى الضعف والنصيب والحظ ومنه قوله تعالى:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَیْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ

وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللُّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»(1) أي ضعفين و نصيبين من الأجر، وقوله تعالى:» مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَىَٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا»(2) أي: حظ ونصيب(3).

- الكافل بمعنى العائل والضامن ومنه قوله تعالى :» فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ

وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّاَ دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا

رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللِّهَ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ

بِغَیْرِ حِسَابٍ»(4) أي: ضمن القيام بأمرها والكافل الذي كفل إنسانا يعوله وينفق عليه(5) وفي الحديث الشريف:» أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا إذا اتقي الله عز وجل وأشار بإصبعيه، يعني السبابة والوسطى(6)

- الكفيل بمعنى الشاهد والرقيب ومنه قوله تعالى: »وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا

عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِياً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ

مَا تَفْعَلُونَ»(7) أي: شاهدا ورقیبا ویأتي الکفیل بمعنی الضامن(8).

- والكفل المكافل أي المجاور المحالف والمعاقد المعاهد(9) وهناك من أورد أن ص: 123

الكافل اسم فاعل والعائل الذي جعل على نفسه أن لا يتكلم في صيامه(10).

تخلص الباحثة مما سبق أن لفظ التكافل في اللغة والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تتمثل في كافل وكفيل ومكافل.

أما في الاصطلاح فقد وردت عدة تعريفات للتكافل الاجتماعي فقد عرفه البعض على انه: أن يتضامن أبناء المجتمع الواحد ويتساند فيما بينهم سواء أكانوا أفرادا أم جماعات حكاما أم محكومين على اتخاذ مواقف يدعم بها بعضهم بعضا کرعاية الأيتام ونشر العلم وصلة الرحم وسوى ذلك من مظاهر التكافل الاجتماعي المعروفة(11). ويعرفه أبو زهرة بقوله: يقصد بالتكافل الاجتماعي في معناه اللفظي أن يكون آحاد الشعب في كفالة جماعتهم، وان يكون كل قادر أو ذوي سلطان كفيلا في مجتمعه يمده بالخير، وان تكون كل القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية في المحافظة على مصالح الآحاد ودفع الضرر ثم في المحافظة على دفع الأضرار عن البناء الاجتماعي وإقامته على أسس سليمة(12). ويعرفه البعض الآخر على انه: يعني التساند والتضامن والاجتماع بمعنى الالتقاء ويقوم بين مجموعة من الناس التي تكون مجتمعا وهي جزء من أمة وقد يكون على مستوى الأمة الإسلامية كله(13).

وبالاعتماد على هذه التعاريف نجد إن المفهوم الاصطلاحي يتألف من كلمتي التكافل الاجتماعي والذي بدوره يدل على التضامن والمساندة بين أبناء المجتمع الواحد لإيجاد المجتمع الأفضل ودفع الضرر عن أفراده وهذا يتفق مع ما يقرره النص القرآني الصريح بقوله تعالى:» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا

الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّنَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبّهِمْ

وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ

ص: 124

الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(14).

ومن هذا نلاحظ إن التكافل الاجتماعي هو ليس بالظاهرة المستحدثة في تاريخنا وفي مجتمعاتنا وإنما هي ظاهرة قديمة جدا قدم وجود الإنسانية نفسها والدين الإسلامي الحنيف يعده ركيزة أساسية في المجتمع البشري فهناك العديد من الأدلة القرآنية التي تدل على أهمية وجوده في المجتمع ومنها ما ورد في قوله تعالى:»لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّنَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِینَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(15) وفي قوله تعالى: »مَا أَفَاءَ اللُّهَ عَلَیٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(16).

أما عن الأدلة الشرعية على أحقية نظام التكافل الاجتماعي ومشروعية وجودة فهي مأخوذة من القرآن الكريم كتاب الله المنزل والذي قال عنه سبحانه وتعالى: «لا يأتيه الباطل»، فضلا عن السنة النبوية المطهرة والمتمثلة بأحاديث الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إضافة الى أحاديث أهل البيت عليهم السلام في أهمية التكافل الاجتماعي وضرورة وجودة في أي مجتمع من المجتمعات، وعلى الرغم من ان الإنسان لم يجد لفظ التكافل بمعناه الصريح في الآيات الكريمة، أو في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعترة الطاهرة عليهم السلام، وإنما

ص: 125

ورد ما يؤدي معناه، فهناك العديد من الآيات والروايات التي تتحدث عن البذل والإنفاق في سبيل الله وتحث على إعانة المحتاجين والفقراء وقضاء حوائج المؤمنين بل كل إنسان. ففي القرآن الكريم وردت العديد من الآيات القرآنية التي تدل على أهمية التكافل الاجتماعي منها ماورد في قوله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(17)، وقد أورد الطباطبائي (18) في تفسيره لهذه الآية ما نصه: إن الأنصار بعد أن هاجر اليهم المهاجرون من مكة في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم قد قدموا المهاجرين على أنفسهم في الفيء وغيره ففي قوله تعالى:» و يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» إيثار الشيء اختياره و تقديمه على غيره، و الخصاصة الفقر والحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فرجه وعبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلة و المعنى: و يقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم فقر و حاجة، وهذه الخصيصة أغزر و أبلغ في مدحهم من الخصيصة السابقة فالكلام في معنى الإضراب كأنه قيل: إنهم لا يطمحون النظر فيما بأيدي المهاجرين بل يقدمونهم على أنفسهم فيما بأيديهم أنفسهم في عين الفقر والحاجة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على التكافل الاجتماعي فيما بينهم وضرورة إعطاء الغني الفقير من ما يحتاجه. وكذلك في قوله تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ

ص: 126

قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا»(19)، وفي قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(20)، وجاء في سورة البقرة قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(21)، وغيرها من الآيات القرآنية التي تدل على أهمية ومشروعية التكافل الاجتماعي.

أما في السنة النبوية المطهرة فقد وردت الكثير من الأحاديث عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحث على التكافل الاجتماعي وأهميته في تدعيم الألفة والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد فقد كان السنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأثر البالغ في تدعيم وترسيخ مبدأ التكافل من خلال تأكيدها على مبدأ الأخوة وما يستلزمه من التزامات اجتماعية كقضاء حوائج الإخوان وإعانتهم، قال رسول الله صلى الله علية وآله وسلم: «من سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنّما عبد الله تسعة آلاف سنة، صائماً نهاره، قائماً ليلة»(22)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من قضى لأخيه المؤمن حاجةً، كان كمن عبد الله دهره»(23). وقال صلى الله عليه و آله: «أكرموا ضعفاءكم فإنا ترزقون وتنصرون بضعفائكم»(24).

وفي أقوال العترة الطاهرة عليهم السلام فقد أورد عن أمير المؤمنين عليه

ص: 127

السلام أنه قال: «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما منع غني والله تعالى سائلهم عن ذلك»(25).

وأورد عن معلى بن خنيس عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قلت له ما حق المسلم على المسلم؟ قال عليه السلام: «له سبع حقوق وواجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واج-ب، إن ضيع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن الله فيه من نصيب، من حق المؤمن على أخيه المؤمن: أن يشبع جوعته، ويواري عورته، ويفرج عنه كربته، ويقضي دينه، فإذا مات خلفه في أهله وولده...» فهنا قد ورد معنى التكافل بمعنى إعطاء الحق والوفاء به(26).

وقال أبو عبد الله الحسين عليه السلام: «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه»(27). وعن أبي جعفر عليه السلام قال: «من طلب الرزق في الدنيا استعفافاً عن الناس وتوسيعاً على أهله وتعطفاً على جاره لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(28).

ص: 128

المبحث الثاني الفرائض الشرعية ودورها في التكافل الاجتماعي

في عهد الإمام علي عليه السلام

كما هو معروف للجميع وبالشكل الذي لا يختلف عليه اثنين إن أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام كان يعالج مشاكل الأمة وقضايا الدولة بموقف علمي ونظري في آن واحد ونجد هذا الأمر راسخا في نهج البلاغة والذي يشتمل على الخطب والرسائل والكلمات القصار التي قالها أمير المؤمنين عليه السلام في مناسبات مختلفة وأوقات متباينة وكان الهدف منها هو تغيير أوضاع الأمة الإسلامية وتحقيق السعادة المنشودة لها، والمتمعن النظر في كتاب نهج البلاغة يجد العديد من خطب الإمام علي عليه السلام والرسائل التي يحث فيها عليه السلام على التكافل الاجتماعي وإرساء مبادئه وعمليا فقد باشر عليه السلام بنفسه هذه المهمة حتى استطاع السيطرة على ظاهرة الفقر التي نجمت عن سوء التطبيق في عهد عثمان بن عفان ففي كلمته الرائعة التي تعتبر آية من آيات الجال الأدبي والحكمي قوله عليه السلام الذي أصبح مثلا يضرب في كل مكان: «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك»(29). وهنا يعتبر الإمام علي عليه السلام مبدأ التكافل الاجتماعي امرأ واجبا لا مجال للتملص منه وفي نهج البلاغة إشارات عديدة لهذا الأمر منها ما وجهه الإمام علي عليه السلام الى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة عندما بلغ الإمام انه قد دعي إلى وليمه من أهلها: «أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْف فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَ مَأْدَبَة فَأَسْرَعْتَ إلَيْهَا

ص: 129

تُسْتَطَابُ لَكَ الاَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إلَ طَعَامِ قَوْم

عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ. وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إلَی ما تَقْضَمُهُ مِنْ هذَا الْمُقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ

عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ»(30)، وأيضا في كلام قاله عليه السلام لكميل بن زياد النخعي: »یا کمیل، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، و يدلجوا في حاجة من هو نائم. فو الّذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلآ و خلق اللهّ له من ذلك السّرور لطفا. فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه کما تطرد غريبة الإبل(31).

أما فيما يتعلق بالموارد الضرورية لتنفيذ حق التكافل الاجتماعي فهي وكما يحددها الإمام علي عليه السلام تعتمد على مسألة مهمة ألا وهي إيصال الفقير إلى حد الاكتفاء أي إن التكافل الاجتماعي يحدث عندما تؤدي الفرائض الشرعية الكفاية للفقير ومن المحتمل أن تعجز بعض جوانب هذه الفرائض عن القيام بذلك الأمر فقد تعجز أموال الزكاة عن البلوغ الى هذا المستوى من الحالة الاقتصادية للفقراء فهنا لابد من وجود أموال غير الزكاة والخمس هي المعول عليها لسد الثغرات الاقتصادية في المجتمع وقد تكون أموال الزكاة والخمس جزء منها(32). أما في كيفية توزيع أموال الزكاة في عهد الخليفة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام فكانت توزع حسب ما جاء في القران الكريم على مجموعة من الفئات هي: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»(33)، أي إن مال الزكاة لا يشمل المقاتلين أو غيرهم، بل يشمل الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم فقط. وثبت عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من انه وضع الزكاة على أموال غير الأموال التي وضعت عليها الزكاة في الصيغة

ص: 130

التشريعية الثابتة فكما هو معروف إن الصيغة التشريعية الثابتة وضعت الزكاة على تسعة أقسام من الأموال غير انه ثبت عن الإمام علي عليه السلام انه وضع الزكاة في عهده على أموال أخرى أيضا كالخيل مثلا وهذا عنصر متحرك يكشف عن إن الزكاة كنظرة إسلامية لا تختص بمال دون مال وان من حق ولي الأمر أن يطبق هذه النظرية في أي مجال يراه ضروريا(34).

أما الرافد الثاني الذي دعا الإمام الى تطبيقه وتفعيله تأكيداً للضمان الاجتماعي فهو الاعتماد على (خمس المكاسب) والذي يتضمن استنادا الى أدلة شرعية من القران لاسيما قوله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ»(35) وما ورد في السنة النبوية من إن خمس أرباح التجارات والصناعات والاجارات والعمل والوظائف والهدية والوصية وأرباح مالك المنجم والمدخرات من الكسب الحرام إذا اختلط بالحلال ولم يتميز، فان تميز اخرج كله واللؤلؤ المستخرج والمواريث التي لم يؤد عنها الخمس، وذلك بعد أن يستنزل المكلف مؤنة الحفظ ومؤنة الذين يعولهم ومركبه ومسكنه ونفقات إضافية لمدة سنة كاملة وما زاد عن ذلك ففيه الخمس(36)، ويمكن القول أن مبدأ خمس المكاسب يمكن أن يكون إحدى الوسائل المجدية لتحقيق الضمان الاجتماعي في مجتمعاتنا المعاصرة. والرافد الثالث هو إشاعة فلسفة البذل والسخاء من الأغنياء إزاء الفقراء إذ يقول الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام: «داووا الفقر بالصدقة والبذل»(37).

أما الرافد الرابع في تغطية نفقات حق الضمان الاجتماعي فنجده في قوله عليه السلام لأحد ولاته:»اجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد» ناهيك عن إلقاء الإمام عليه السلام لمسؤولية الضمان ص: 131

الاجتماعي على عاتق المجتمع وبجميع أفراده ومؤسساته، مع تأكيده عليه السلام على الحفاظ على هذا الأموال، إذ يقول عليه السلام:» كن سمحاً ولا تكن مبذرا، وكن مقدرا ولا تكن مقترا» وتخصيصه للفئات والحالات المشمولة بحق الضمان حيث يقول علیه السلام:» إن إعطاءك المال في غير وجهه تبذير وإسراف»(38).

مما تقدم نلاحظ ان للتكافل الاجتماعي جانبان جانب مادي وجانب معنوي، أما الأول: فيتمثل على نحو المساعدات المادية النقدية والعينية التي تقسم وتوزع على الأفراد من الفئات الفقيرة والمعوزة، في حين إن الجانب الثاني: يتمثل فيها يؤسسه هذا النهج من تواصل وتراحم وتآخي وتعاون اجتماعي ونفسي فيما بين الأغنياء الميسورين من جهة وبين الفقراء والمعوزين من جهة أخرى فالغني يعطف على الفقير والقادر يساعد العاجز والمريض ويساعد الكل والمقعد وهكذا تمت آليات التكافل وآثاره لتعم جميع أفراد المجتمع وشرائحه.

ص: 132

الخاتمة

تستنتج الباحثة من هذا البحث مايلي:

1 - إن التكافل الاجتماعي بمفهومه العام والشامل يعني التزام الأفراد فيها بينهم لإشباع الحاجات المادية والمعنوية لكافة أفراد المجتمع الذي ينتمون له.

2 - تتعدد وتتنوع الموارد المالية للتكافل الاجتماعي في الدولة العربية الإسلامية وبما إن بحثنا يتحدث عن التكافل الاجتماعي في عهد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام فان موارد التكافل الاجتماعي في عهده اعتمدت على الصور التالية وسوف أورد البعض منها» الزكاة - خمس المكاسب - إشاعة فلسفة البذل والسخاء من الأغنياء إزاء الفقراء - فضلا عن انه عليه السلام حث ولاته على تغطية نفقات الضمان الاجتماعي من خلال قوله عليه السلام له أن يخصص قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد» ناهيك عن إلقاء الإمام عليه السلام لمسؤولية الضمان الاجتماعي على عاتق المجتمع وبجميع أفراده ومؤسساته، مع تأكيده عليه السلام على الحفاظ على هذه الأموال من التبذير والإسراف.

3 - التكافل الاجتماعي له جانبان جانب مادي وجانب معنوي، أما الأول: فيتمثل على نحو المساعدات المادية النقدية والعينية التي تقسم وتوزع على الأفراد من الفئات الفقيرة والمعوزة، في حين إن الجانب الثاني: يتمثل فيما يؤس النهج من تواصل وتراحم وتآخي وتعاون اجتماعي ونفسي فيکا بين الأغنياء الميسورين من جهة وبين الفقراء والمعوزين من جهة أخرى فالغني يعطف على الفقير والقادر يساعد العاجز والمريض ويساعد الكل والمقعد وهكذا تمت آليات التكافل وآثاره لتعم جميع أفراد المجتمع وشرائحه.

ص: 133

هوامش البحث:

(1) سورة الحديد، الآية: 28.

(2) سورة النساء، الآية: 85.

(3) ابن منظور، محمد لن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت:711 ه)، لسان العرب، الناشر: دار صادر، بيروت - لبنان، ج 11، ص 589.

(4) سورة آل عمران، الآية: 37.

(5) ابن منظور، لسان العرب، ج 11، ص 589.

(6) الكليني، ثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق رحمه الله (ت: 328 أو 329 ه)، الكافي، ط 5، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، 1363 ه، مطبعة حيدري، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران - ایران، ج 1، ص 406.

(7) سورة النحل، الآية: 91.

(8)ابن منظور، لسان العرب، ج 11، ص 590.

(9) الفيروز أبادي، مجد الدين (ت: 817 ه 1414 م)، القاموس المحيط، مطبعة السعادة، مصر، د.ت، ج 4، ص 45.

(10) البستاني، عبد الله، معجم البستان، المطبعة الأمريكانية، بيروت، 1967، ج 2، ص 2100.

(11) محمد، عبد الرزاق هوبي، التشريعات في إدارة الوقف، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1989، ص 61.

(12) محمد، التكافل الاجتماعي في الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1991، ص 7.

(13) الخياط، د. عبد العزيز، المجتمع المتكافل في الإسلام، ط 1، مؤسسة الرسالة، مكتبة الأقصى، عمان، 1981، ص 74.

(14) سورة المائدة، الآية: 2.

(15) سورة البقرة، الآية: 177.

(16) سورة الحشر، الآية: 7.

(17) سورة الحشر، الآية: 9.

(18)العلامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن الكريم، صححه واشرف على طباعته: الشيخ حسين الاعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 1997، ج 19، ص 213 - 214.

(19) سورة النساء، الآية: 36 - 39. (20) سورة البقرة، الآية: 177.

ص: 134

(21) سورة البقرة، الآية: 261 - 262.

(22)الشيخ الصدوق، ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي(ت: 381 ه)، من لا يحضره الفقيه، اشرف على تصحيحه والتعليق عليه: العلامة الشيخ حسين الاعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 1986، ج 2، ص 190.

(23) الشيخ الطوسي، شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي(ت: 460 ه)، الأمالي، تحقي-ق وتصحيح: بهراد الجعفري - الاستاذ علي اکبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية، المجلس السابع عشر، ص 481.

(24)المالكي الاشتري، أبي الحسين ورام بن ابي فراس بن حمدان (ت: 605 ه)، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، تحقيق وتعليق: باسم محمد مال الله الاسدي، اصدار قسم الشؤون الفكرية العتبة الحسينية المقدسة، ج 2، ص 221

(25) العاملي، المحدث الشيخ محمد بن الحسن (ت: 1104 ه)، وسائل الشيعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، طبع ونشر: مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، قم - ايران، بلا.ت، ج 9، ص 29.

(26) الكليني، الكافي: ج 2، ص 169، ح 2.

(27) العاملي، وسائل الشيعة، ج 7 ص 142، 8953.

(28) الكليني، الكافي: ج 5، ص 78، ح 5.

(29) نهج البلاغة - باب المختار من حكم أمير المؤمنين - رقم: 328.

(30) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 4، ص 553.

(31) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام،

(32) ص 166.

(33)سورة التوبة، الآية: 60.

(34) الصدر، الشهيد محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، ط 2، إصدار وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، 1403 ه، ص 50.

(35) سورة الأنفال، جزء من الآية: 41 (36) السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام رؤية علمية، ط 2، بغداد، 2008، ص 360.

(37) السعد، حقوق الإنسان عند الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام رؤية علمية، ص 361.

(38) السعد، حقوق الإنسان عند الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام رؤية علمية، ص 361.

ص: 135

المصادر والمراجع

خير مانبتدئ به الكلام القرآن الكريم

1. أحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديث أهل البيت عليهم السلام

2. ابن منظور، محمد لن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت: 711 ه)، لسان العرب، الناشر: دار صادر، بيروت - لبنان.

3. الامام علي ابن ابي طالب عليه السلام، نهج البلاغة

4. البستاني، عبد الله، معجم البستان، المطبعة الأمريكانية، بيروت، 1967.

5. الخياط، د. عبد العزيز، المجتمع المتكافل في الإسلام، ط 1، مؤسسة الرسالة، مكتبة الأقصى، عمان، 1981.

6. السعد، غسان، حقوق الإنسان عند الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام رؤية علمية، ط 2، بغداد، 2008.

7. الشيخ الصدوق، ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت: 381 ه)، من لا يحضره الفقيه، اشرف على تصحيحه والتعليق عليه: العلامة الشيخ حسين الاعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 1986.

8. الشيخ الطوسي، شيخ الطائفة ابي جعفر محمد بن الحسن بن علي (ت: 460 ه)، الأمالي، تحقيق وتصحيح: بهراد الجعفري - الاستاذ علي اكبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية.

ص: 136

9. الصدر، الشهيد محمد باقر، الإسلام يقود الحياة، ط 2، إصدار وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، 1403 ه.

10. العاملي، المحدث الشيخ محمد بن الحسن (ت: 1104 ه)، وسائل الشيعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، طبع ونشر: مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، قم - ایران، بلا.ت.

11. العلامة السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن الكريم، صححه واشرف على طباعته: الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، 1997.

12. الفيروز أبادي، مجد الدين (ت: 817 ه - 1414 م)، القاموس المحيط، مطبعة السعادة، مصر، د.ت.

13. الكليني، ثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق رحمه الله (ت: 328 أو 329 ه)، الكافي، ط 5، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، 1363 ه، مطبعة حيدري، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران - ايران.

14. المالكي الاشتري، أبي الحسين ورام بن ابي فراس بن حمدان (ت: 605 ه)، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، تحقيق وتعليق: باسم محمد مال الله الاسدي، اصدار قسم الشؤون الفكرية - العتبة الحسينية المقدسة.

15. محمد، عبد الرزاق هوبي، التشريعات في إدارة الوقف، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1989.

ص: 137

ص: 138

عقيدة التوحيد في شرح نهج البلاغة للسيد هادي كمال الدين الحلي (ت 1406 ه)

اشارة

م. د كريم حمزة حميدي جاسم كلية الإمام الكاظم عليه السلام / أقسام بابل

ص: 139

ص: 140

بسم الله الرحمن الرحيم

المُقدِّمة

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على حبيبِ إله العالمين، الرَّسول الأكرم، مُحَمَّد صلى الله عليه وآله، وعلى آله الطيبين الطاهرين. وبعدُ.

فإنَّ مباحثَ التوحيد تُعدُّ من أهم موضوعات العقائد التي تصدرت المفاهيم والتعاليم السماوية على الإطلاق؛ لِمَا فيها من بحثٍ عميقٍ، ودلائل متعددة، فضلًا عن خطورتها؛ إذ قد ينزلق الإنسان فيهاعن جادة التنزيه، كما انحرفت فرق كثيرة. وإنَّ الخوضَ في مباحث التوحيد ليس وليد اليوم، وإنَّما كان مادَّةً دسمة لأرباب الفرق والمذاهب.

وبعد أن وفقني الله في تحقيق شرح نهج البلاغة، للسيد هادي کمال الدين الحليّ؛ إذ وقفتُ عندها على آراءٍ عقائدیَّةٍ كثيرةٍ للسيد المرحوم عزمتُ على جمع ما تعلَّق منها في مباحث التوحيد، و درستها دراسة تحليليَّة، فجاء البحثُ على تمهیدٍ، وأربعة محاور، وَسَمْتُ التمهيد بعنوان: (السيد هادي کمال الدين وشرحه على نهج البلاغة)، في حين تناولتُ في محاور البحث ما يأتي: معرفة الله وتوحيده، والصفات الإلهية، وإبطال رؤية الله، ونفي التجسیم. وقد ختمتُ البحث بخُلاصةٍ بيَّنتُ فيها أهم ما جاء في البحث، ثم ذكرتُ قائمةً بمصادر البحث ومراجعه.

وأخيرًا أسألُ الله تعالى أن يوفقني في عملي هذا، الذي رجوتُ فيه رضا صاحب النهج، وإمام الموحدين، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). وأسأله الرحمة والغفران لشارح النهج السيد هادي کمال الدين.

ص: 141

التمهيد: السيد هادي كمال الدين وشرحه على نهج البلاغة

السيد هادي بن فاضل بن حمد کمال الدين الحسيني الحِلِّي. ولد في الحِلَّة سنة (1326 ه) جمع بين العلوم الدينية واللغوية والشعر والأدب والسياسة وتوفي سنة (1406 ه)(1).

كان والد المرحوم السيد حمد عالمًا فقيهًا، مما كان له الأثرُ الأكبرُ في توجهات المرحوم السيد هادي العلميَّة والأدبيَّة والسياسيَّة؛ إذ شارك والده في بداية حياته في ثورة العشرين بقصائده الحماسية، وكذلك الاشتراك الفعلي ضد الاحتلال الإنكليزي، وهزموهم في معركة (بَتَّة) الشهيرة(2). وقد كتب له والده کتاب (محجة الاعتقاد في الوصية لثمر المهجة والفؤاد)(3). قال الطهراني عن هذا الكتاب: «للسيد حمد بن السيد فاضل بن السيد حمد آل کمال الدين الحلي المعاصر، كتبه لولده السيد عبد الهادي الشهير بالسيد هادي کمال الدين مؤلف «فقهاء الفيحاء» و»جريدة التوحيد» الصادرة من الحلة وهو في الرد على الطبيعيين وطبعه 1351 «(4).

نال السيد هادي ثقة المراجع، وأصبح وكيلهم في الحلَّة، فقد اتجه إلى الدراسة الحوزويَّة في النجف الأشرف في مدرسة (الشربياني)، وعلى يد أساتذتها، ومنهم العلّامة المرحوم محمد طه نجف، وغيره من علماء ذلك الوقت، فدرس الحاشية، والشمسية، والمعالم، واللمعة. ثم اتجه إلى خدمة أهالي الحلَّة، فقام بتأسيس مدرسة العلوم الدينية، وهي مجازة من وزارة المعارف، وهي المدرسة الدينيَّة الوحيدة المجازة رسميًّا(5). وأصدر جريدة (التوحيد) في مدينة الحلة، مطبعة القضاء 1378 / 1958 م، وهي جريدة أسبوعية، وبعد صدور أعداد منها انتقل بها إلى بغداد واحتجبت(6). يقول نجله السيد علي في مدونته: إنَّ الجريدة أُغلقت؛ لاختلافه مع

ص: 142

الدكتور عبد الحميد شلاش رئيس صحة بابل؛ كونه يتلاعب بالأدوية، ويحرم الفقراء منها، مما اضطره إلى إصدار عد خاص في جريدة التوحيد، موضحًا فيه فساد رئيس الصحة، وقد أغلقت بسبب جهود عم رئيس الصحة، وهو وزير المالية محسن شلاش(7).

للمترجم أكثر من (53) مؤلفا طبع منها (36) كتابا وكراسًا منها: (تحفة الحضر والأَعراب في علم النحو والإعراب) و(مقتبسات من أرجوزة الرياض المشمسة في علم الهندسة) وهو مطبوع، في 102 صفحة، مطبعة النعمان النجف، سنة، 1974، وجناح النجاح أرجوزة في توضيح غريب اللغة، وغير ذلك(8).

أمَّا كتابه شرح نهج البلاغة، فهو واحدٌ من مؤلفاته المخطوطة التي تعرضت إلى الفقدان، أو ربما عدم الإكمال؛ إذ تبقى منه مجلدان فقط، مكتوبة بخط المؤلف، قمنا بتحقيق الجزء الأول منها، وهو قيد الطبع، وبانتظار تحقيق الجزء الثاني إن شاء الله.

أولًا: معرفة الله وتوحیده

إنَّ معرفة الله تعالى واجبة على كل مكلف، بدليل أنه منعم، لذا يجب شكره، فتجب معرفته(9). وتحدث العلماء في هذه الجزئية عن مصطلح واجب الوجود في جواب من سأل عن معرفة الله، قال الشهيد الثاني: «أنْ يعرف أنّ الله تعالى موجود واجب الوجود. والدليل على ذلك أنّ العالمَ وهو ما سوى الله تعالى حادث ممكن، فلو لم يكن واجبُ الوجود موجوداً لم يكن للعمالمَ وجود؛ لأنّ وجود الممكن من غيره، ولا خارج عنه من الموجودات غير الواجب تعالى. وإذا ثبت كونه موجوداً واجبَ الوجود لزم كونه قديماً أزليّاً باقياً أبديّا؛ لأنّه لو جاز عليه العدم لكان ممكناً. وكونُه واحداً ليس بجسم، ولا عرض، ولا في مكان، ولا مَرْئي، ولا مركَّب،

ص: 143

ولا حال في غيره، ولا غيرُه حالّ فيه؛ لاستلزام ذلك كلَّه كونه ممکناً حادثاً، وقد ثبت أنّه واجبُ الوجود»(10). فنفي الجسم والمكان والعرض والمكان والرؤية والتركيب عن الذات الإلهيَّة يؤكِّد أنَّه واجبُ الوجود.

وقد تحدَّث السيد هادي کمال الدين (رحمه الله) عن معرفة الله عند شرحه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) ((أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ))، قائلًا: «عدم قبول الدين من الإنسان بدون معرفته بالله تعالى وذلك لا إشكالَ فيه، فإنه إذا لم يعرف الله، فكيف يعبد ما لا يعرف؟ وعبادةُ مثل هذا باطلةٌ؛ ولذلك كانت معرفته تعالى أول الدين، فوجب النظرُ في طريق معرفته سبحانه؛ إذ لا يخلو جلَّ شأنه من أن يكون معلوماً بالبداهة، أو تحتاج معرفته للدليل، والأول باطلٌ وإلّا لتساوی أهل النظر في معرفته كما تساوی بأنَّ الشمس أضوءُ من النجوم، وإنَّ السيفَ أقطعُ من العصا. والثاني ما اخترناه»(11). فاستدلالُ السيد هادي كان عقليًّا منطقيًّا؛ إذ كيف يعبدُ الإنسانُ ما لا يعرف؟ فهو - جلَّ جلاله - معروفٌ بالبداهة، ولم يكتفِ السيد بهذا الدليل، فقد استدلَّ بالسباع المتمثل بقوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» [سورة آل عمران / الآيتان: 190 - 191] قائلًا: «ووجهُ الدلالة في هذه الآية على توحيد الله تعالى أنَّ تعاقبَ الليل والنهار دلیلُ حدوثهما، والحادثُ محتاجٌ إلى الحد الموجِد، وهو الله سبحانه کما أن انتظارهما دلَّ على علمه وقدرته، وحدوثهما دلَّ على قدمه؛ إذ لو كان مثلهما حادثاً؛ لافتقر کما افتقرا إلى مُحدِث. فأمَّا أن يدور أو يتسلسل، وكلاهما ظاهر البطلان، فتعین کون الصانع

ص: 144

قدیمًا»(12). ويستمر السيد هادي کمال الدين في دائرة الاستدلال القرآني لمعرفة الله وتوحيده، مستدلًّا بقوله تعالى: «وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» المذكور آنفًا، قائلًا: «حصولُ معرفته أولاً وبالذات؛ إذ مَن يتفكر فيهما يعلم بالبداهة أن لهما صانعاً قادراً»(13).

وقد عزَّز السيد هادي استدلاله القرآني بقولين أحدهما للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والآخر للإمام علي (عليه السلام)، وهما قول النبي صلی الله علیه وآله وسلم: ((أعْرَفَكُم بِنَفْسِهِ أعْرَفَكُم بِرَبِّهِ))(14). وقول أمیر المؤمنین (عليه السلام): ((مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ))(15) وقوله: ((بِصُنعِ اللهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ، وبِالعُقولِ تُثْبَتُ مَعرِفَتُهُ،

وبِالفِكرِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ، مَعْرُوفٌ بالدَّلالاتِ مَشْهُورٌ بالبياناتِ...))(10). فمن يرتبط بالله عزَّ وجل صاحب النعم والكمالات ويعرفُهُ ويتقرَّبُ إليه، فإنَّه سيستغني عن كلِّ شيء آخر.

ومن استدلاله على معرفة الله تعالى شرحه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «((وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ))؛ قائلاً: «أي أنَّ التصديقَ به وجهُ کمالٍ لمعرفته، فكأنَّ معرفةَ الله وحدها لا تأتي على الوجه الأكمل بدون التصديق به سبحانه؛ إذ يجوز أن تعرفه ولا تصدق به، فهذه المعرفةُ ناقصةُ»(17) . فعلى هذا من ادَّعی معرفته تعالى وألحَدَ في توحيده، فليس بالضرورة أن يكون قد عرف الله، فالمراد من معرفة التوحيد معرفته تعالى متوحدًا بالألوهية. وهكذا الكلام في جميع نعوته تعالى(18).

وختم كلامه - رحمه الله - في ربط التوحيد بالتصديق به تعالی عند شرحه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَکَمَالَ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِیدُهُ)) قائلًا: «فالتصديقُ بالله بدون توحيده تصدیقٌ ناقصٌ تمامه التوحيد، فبانتفاء التوحيد

ص: 145

تقتضي الشركة فإما يحصل فرقٌ ومايز أولاً والثاني تبين عدم الشركة وكونه واحدًا، وعلى الأول يلزم التركيب لاشتمال الشركاء على ما به الافتراق وما به الاشتراك، وهذا يستلزم الحدوث؛ لاحتياجه إلى المركِّب (بكسر الكاف)، فمن عرف الله بكونه واحداً كانت معرفته أكمل من عرفه بدون توحيده كمعرفة النصارى»(19). فالتوحيدُ هو أساسُ الإيمان به تعالى، فبه يأتي التصديق به، وكذلك الإخلاص له جل جلاله، کما قال (عليه السلام): ((وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ))، لذا هو الرُّكنُ الأساس في أصول الدين، ومن أجله نزلت التشريعات السماويَّة.

ثانيًا: الصفات الإلهيَّة

من يتتبع آيات القرآن الكريم يجد الكثير منها يشير إلى الأدلَّة على وجوده تعالى، وفي الوقت نفسه لا يجد آية واحدة تشير إلى تحديد ذاته القدسية وبيان كنهها وحقيقتها. فالله سبحانه وتعالى يوصف بكل ما وصف به نفسه في كتابه العزيز، قال الشيخ الطوسي: «وإذا ثبت بذلك كونه قادرا عالما بنفسه لوجب أن يكون قادرا على جميع الأجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى؛ لأنَّه لا مخصص له بقدر دون قدر. ويجب مثل ذلك في كونه عالما أن يكون عالما بجميع المعلومات؛ إذ لا مخصص له ببعضها دون بعض، فيجب من ذلك كونه عالما قادرا على ما لا يتناهى. وإذا ثبت كونه قادرا عالما في الأزل وجب كونه حيا موجودا في الأزل، إذ القادر العالم لا بد أن يكون حيا موجودا»(20).

إذن صفاته ضربان: صفات ذات، وصفات فعل، فصفات ذاته، مثل قوله: «وعظمة الله، وجلال الله، وقدرة الله، وعلم الله، وكبرياء الله، وعزة الله»، فإنه إن به المعنى الذي يكون به عالما، وقادرا على ما يذهب إليه الأشعري، لم يكن

ص: 146

يمينا بالله، وإن قصد به گونه عاملا وقادرا. كان يمينا، فإن ذلك قد يعبر به عن کونه عالما وقادرا(21). وإنَّ صفات الأفعال أبعد في الانعقاد من صفات الذات؛ لأنَّ صفات الأفعال مشتركة بينه وبين خلقه، فإنه يقال: خالق الخلق له تعالى، وخالق الافك لغيره تعالى، ويقال: رازق الخلق له تعالى، ورازق الجند لغيره تعالى، وربّ العالمين له تعالى ورب البيت لغيره، وصفات الذات مختصة به تعالى(22).

وذهب بعضهم إلى أنَّ صفاته تعالى غير ذاته وزائدة عليها. ونُسبَ مثل هذا القول إلى الأشاعرة، وقد ردَّ عليهم العلّامة الحليّ بعد أن ذكر معتقدهم، قائلًا: «وقالت الأشاعرة: إنه تعالى يستحقها، لمعان قديم قائم بذاته، فلزمهم المحال من وجوه:

أ - يلزم افتقار الله تعالى إلى غيره، في كونه: قادرا، عالما حيا، وغير ذلك من الصفات؛ لأن المعاني أمور مغايرة لذاته، وكل مفتقر ممكن، والله تعالى ليس بممکن فلا يكون مفتقرا، ولا تكون صفاته تعالى معللة بغيره.

ب - يلزم أن يكون مع الله تعالى في الأزل قدماء كثيرة، بقدر صفاته، وهو محال لاختصاصه سبحانه وتعالى بالقدم»(23). لذا ينبغي نفي الصفات عنه تعالى؛ لأنه لا صفات لذات الله تزيد على ذاته، بل هي نفس الذات القدسية التي تقدر على كل شيء وتعلم كل شيء.

وتحدث السيد هادي کمال الدين عن نفي الصفات عند شرحه لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَ كَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ)) قائلًا: «فالمراد بنفي الصفات العرضية أي: التي فسرها بقوله علیه السلام: إنها غيرُ الموصوف؛ لأنَّ صفاته سبحانه عین ذاته، وإلّا لتعددت القدماء، وذلك كنفي الجسمية والعرضية ولوازمها عنه تعالى»(24).

ص: 147

ثم استعرض أدلَّة أمير المؤمنين عليه السلام في نفي الصفات مع تعليقه على كل عبارة، قائلًا: «وقوله علیه السلام: ((فَمَنْ وَصَفَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ...)) أي: جمعه إلى تلك الصفات. وقوله علیه السلام: ((وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ...)) أراد بالتثنية هو وصفته. وقوله علیه السلام: ((وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ...)) فق صد عليه السلام أنه لو كان الله غير صفته لكان ممكنا؛ لافتقاده إليها، والافتقار من خواص الممكن، وكلُّ ممكنٍ متحيِّز، وكل متحيِّز متجرئ، وهذا جهلٌ في معرفة الخالق؛ لاقتضائه وجود المرکِّب، وهو المراد بقوله: فقد جزأه، والمركَّبُ حادثٌ، وهو يحتاجُ إلى المُحْدِث کالكتابة تحتاجُ إلى الكاتب، فإن كان محدثه قديماً فهو الله، وإلّا الزمه التسلسل إلى ما لا نهاية له، وذلك باطلٌ بالضرورة، أو يدور وهو مثله في البطلان»(25). فمدرسة أهل البيت عليهم السلام تذهب إلى أنَّ صفاته عين ذاته، أي إنها تُثبت الصفات، ولكن من دون تشبيه وتنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين، وهذا هو الرأي التنزيهي الذي استند إليه السيد هادي أيضًا.

ومن استدلاله على قدرة الله من دون الاعتماد على التوصيفات الماديَّة ما ذكره في شرحه قول الإمام علي عليه السلام: «وقوله علیه السلام: ((بِغَیْرِ عَمَدٍ

يدَعْمَهُمَا)) أي بغير عمد يسندها فيمنعها من السقوط تبيّنها للناس على قدرته تعالى، وهذا نحو قوله تعالى: «بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» [سورة الرعد / من الآية: 2]، ثم نفي (عليه السلام) رفع السماء بدسارٍ(26) ينظمها وهو الحبل، فتكون معلقة في الفضاء لانتظامها بدسار ونحوه، بل جعل السبب الوحيد تعلق قدرة الله في رفعها، وهو الأبلغ في وصف قدرته تعالى، ومن هنا ننفي کون الأرض على قرن ثور، والثور على سمكة، والسمكة في بحر؛ لأن هذه خرافة لا أصل لها في الكتب الصحيحة(27)؛ إذ وجود الأرض بدون الثور الذي

ص: 148

يحملها أعظم دليل على قدرة الله تعالى»(28). فالسيد هادي - رحمه الله - نفى بشكل قاطع الاستناد إلى خرافة تناولها بعض المفسرين في الاستدلال على رفع السماء بوساطة شيء مادي، مشيرا إلى قدرة الله تعالى في رفع الساء من دون عمد.

ثالثًا: إبطال رؤية الله

ذهب معظم علماء السلفية إلى إمكان رؤية الله تعالى، وقد قسموا رؤية الله سبحانه وتعالى إلى أقسام، منها رؤيته في الآخرة، أو في الدنيا، أو في المنام، نقل عضد الدين الإيجيِ عن الْآمِدِيّ قوله: «اجْتمعت الْأَئِمَّة من أَصْحَابنَا على أَن

رُؤْيَته تَعَالَی فِي الدُّنْيَا وَالْخِرَة جَائِزَة عقلا. وَاخْتلفُوا فِي جَوَازهَا سمعًا فِي الدُّنْيَا فأثبته بَعضهم ونفاه آخَرُونَ. وَهل يجوز أَن يرى فِي الْمَنَام فَقيل لَا، وَقيل نعم»(29). أمَّا مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فقد ذهبت إلى تنزيه الله تعالى من هذه الفرية؛ إذ إنَّ الله تعالى لا تُدركه الأبصار، ولا تقع عليه الرؤية بالعين الباصرة لا في الدنيا ولا في الآخرة. قال العلّامة الحلي: «إن أهل السنة والجماعة التزموا برؤية الله تعالى، وهذا اعتقاد مخالف لما قضت به بديهة العقل، فإن الضرورة قاضية بأن الرؤية إنما تكون للمقابل أو في حكمه، وهو مخصوص بذوات الأوضاع، فما لا وضع له لا يمكن رؤيته بضرورة العقل، وكيف يحكم عاقل بأنا ترى ما ليس في جهة ولا يشار إليه إشارة حسية إنه هنا أو هناك»(30). فهذا دليلٌ عقليٌّ على عدم رؤية الله، وهناك أدلَّة قرآنية متعددة سنكتفي بما سيذكره السيد هادي كمال الدين - رحمه الله - منها.

أمَّا موقف السيد هادي كمال الدين من رؤية الله، فقد استدلَّ بأدلَّة كثيرة، منها(31):

ص: 149

- ذهبت أهلُ السنةِ إلى إمكانِ رؤيته جزماً في الآخرة والدنيا إلّا أنَّهم خصصوا رؤيته في الدنيا صلی الله علیه وآله وسلم فقط. وأمَّا في الأحلام، فقد أكثروا من دعوى رؤيته، وإذا امتنعت شرائطُ الرؤية في الدنيا عليه تعالى كان ذلك حاصلاً أيضاً في الآخرة؛ لأنَّ اللهَ لا يتغيرُ؛ إذ كلُّ متغيرٍ حادث محتاج إلى مَنْ يُحْدِثُه، ولوجوب حصول ما يميز ذاته عن غيرها عند رؤيته، والمميز هذا زائدٌ عن الذاتِ، فلَزِمَ بالقول به القول بالترکیب ممَّا به الاشتراك، وممَّا به الامتياز، وكلُّ مرکَّبٍ حادثٌ؛ لاحتياجه للمرکِّب کما مر، وهو محالٌ عليه.

- استدلَّ على عدم الرؤية بقوله تعالى: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(32)، فأخرجه مخرج التمدح، وهذا يفيدُ عموم السلب منعًا لمن يقولُ: إنَّ هذا السَّلبَ سلبُ العموم لا عموم السلب، ويُعضِّدُهُ قولُه تعالى لموسى کلیم الله: «لَنْ تَرَانِي»(33)، ويمنع تجویزها وقوع العذاب على بني إسرائيل عند سؤالهم الرؤية، ولو كانت أمراً ممكنا في ذاته، لما استحقوا العذاب على أمرٍ جائز.

- أمَّا ما يروونه عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم أنه قال: ((سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَر لَا تُضَامُونَ))(35). فأولاً نناقشهم بصحة الرواية، وعلى فرض صحتها فمعنى الرؤية المشاهدة سواء كانت المشاهدة بالبصر، كقولك: رأيت زيدًا، أو بالبصيرة وهي العلم، كقول الشاعر(35):

رَأيْتُ اللهَ أكْبَرَ كُلِّ شَيْءٍ *** مُحَاوَلَةً وَأكْثَرَهُمْ جُنُوْدَا

ومن البديهي أنَّ الشاعرَ لم يرَ الله ببصره مع قرينة نصب المفعولين؛ لأنَّ (رأی) البصرية تتعدى لمفعولٍ واحدٍ(36).

- يعضد هذا قول أمير المؤمنين علیه السلام في هذه الخطبة البليغة عند صفة

ص: 150

الملائكة: إنَّهم ((لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ * وَلاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ اَلْمَخْلُوقینَ كالجسمية والعرضية * وَلاَ يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ))؛ لأنَّه غيرُ جسمٍ منزَّه عن الحركات والسكون، فكلُّ ما جازت عليه الحركة والسكون كان حادثًا؛ لأنَّهما حادثان، وما لا ينفكُّ عنهما مثلهما في الحدوث، وقلتُ في هذا المعنى من الرجز:

لقد رآك العقل يا ربَّ الورى *** لكنَّما عن بصري احتجبتا

إن قلت جسم كل جسم حادث *** أو جوهر أو عرض باينتا

أمَّا الصواب أن أقرَّ عاجزاً *** لم يدر كيف أنت إلّا أنتا

وقلت من بحر الكامل:

بك يا إلهي ظلَّ عقلي حائراً *** دوماً وأنك حيرة الألباب

فبعثت عقلي نحو كنهك مرة *** فأتى وقد لاقاه ألف حجاب

فسألته عن كنه ذاتك مذ أتى *** فأجابني في لهجة المرتاب

لما ذهبتُ وجدته في قبةٍ *** فوقفت أنظره وراء الباب

ولي من مجزوء الكامل:

هيهات یدرك النظر *** إذ قد علوت على الفكر

كالشَّمسِ يزهو نورها *** واليوم يعجزها النظر

فالعقل غاب لكشف كنه_ *** _ك ما أتى حتى عثر

لم يلق كنهك مذ مضى *** لكنّه وجد الأثر

فهذه الأدلَّة كلُّها تؤكِّد صحة رأي مدرسة أهل البيت عليهم السلام، والتي

ص: 151

استعرض السيد هادي كمال الدين - رحمه الله - الجزء الكبير منها، فمنها ما اعتمد فيه على العقل من قبيل قوله إنَّ استحالة رؤيته تعالى في الدنيا تؤكِّد عدم حصول ذلك في الآخرة أيضًا؛ لأنَّ اللهَ لا يتغيرُ. وكذا استدلاله بالقرآن الكريم، وردّ من تأوَّل بعض الآيات القرآنية، كلُّ ذلك يؤكِّد الثقافة الدينية العقائدية التي يملكها السيد هادي - رحمه الله -.

رابعًا: نفي التجسيم

لا شك في أنَّ من اعتقد بتجسيم الذات الإلهية، فإنّه - قطعًا - سيبتعدُ عقيدة التوحيد، فالتجسيمُ يترتبُ عليه التعدد، ومن ثم التشريك كما سيتبين لاحقًا. فعلماء السلفية يعتقدون أنَّ اللهَ تعالى جسمٌ طوله ستون ذراعًا(37)، وله حقوٌ(38)، ينزل كلَّ ليلة جمعة إلى سماء الدنيا نزولاً يليق به(39)، ويأتي يوم القيامة بغير صورته، فينكره أهل المحشر (40)، وأنه يضحك(41)، وأنه يحمل الأرض على أصبع، وغير ذلك ممَّا اعتقدوا به. ويُمكننا أن نثبت ما ذهب إليه علماء السلفية من قول أبي العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (ت 1188 ه): «ومَذْهَبُ السَّلَفِ الْأُوَلِ، وَالرَّعِيلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَعَوَّلُ أَنَّ الْوَجْهَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ للهِ تَعَالَی، وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ فَتُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ. وَيُبْطِلُ مَذْهَبَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ،

وَالْخَطَابِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَی «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ» [سورة الرحمن: 27] فَأَضَافَ الْوَجْهَ إِلَی الذَّاتِ، وَأَضَافَ النَّعْتَ إِلَی الْوَجْهِ، فَقَالَ (ذُو الْجَلَالِ) وَلَوْ كَانَ ذَكَرَ الْوَجْهَ وَلَمْ يَكُنْ صِفَةً لِلذَّاتِ لَقَالَ ذِي الْجَلَالِ، فَلَاَّ قَالَ ذُو الْجَلَالِ عَلِمْنَا أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْوَجْهِ صِفَةٌ لِلذَّاتِ»(42). وهذا القول هو امتدادٌ لروايات وأقوال لأئمة السلف من أبي هريرة وأحمد بن حنبل وغيرهما إلى علمائهم المتأخرين.

أمَّا رأي مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فيتمثل بقول الإمام الرضا عليه

ص: 152

السلام الذي نقله الكليني عن ««مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِْ الْحُسَیْنِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَزَّازِ ومُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَیْنِ قَالا دَخَلْنَا عَلَی أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا [عليه السلام] فَحَكَيْنَا لَه أَنَّ مُحَمَّداً ص رَأَى رَبَّه فِي صُورَةِ الشَّابِّ الْمُوفِقِ فِي سِنِّ أَبْنَاءِ ثَلَثِنَ سَنَةً وقُلْنَا إِنَّ هِشَامَ بْنَ سَالِمٍ وصَاحِبَ الطَّاقِ والْمِيثَمِيَّ يَقُولُونَ إِنَّه أَجْوَفُ إِلَی السُّرَّةِ والْبَقِيَّةُ صَمَدٌ فَخَرَّ سَاجِداً للهَّ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ مَا عَرَفُوكَ ولَا وَحَّدُوكَ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَصَفُوكَ، سُبْحَانَكَ لَوْ عَرَفُوكَ لَوَصَفُوكَ بِمَا وَصَفْتَ بِه نَفْسَكَ سُبْحَانَكَ كَيْفَ طَاوَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يُشَبِّهُوكَ بِغَیْرِكَ؟ اللَّهُمَّ لَا أَصِفُكَ إِلَّا بِمَا وَصَفْتَ بِه نَفْسَكَ ولَا أُشَبِّهُكَ بِخَلْقِكَ أَنْتَ أَهْلٌ لِكُلِّ خَیْرٍ، فَمَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمینَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: مَا تَوَهَّمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَوَهَّهُوا اللَّ غَیْرَه»(43). وقول الإمام المعصوم عليه السلام خيرُ دليلٍ على تنزيه الذات الإلهية عن الجسم والجسمانية، وأنه ليس له مثل ولا نظير، ولا ند ولا كفو.

وقد عالج السيد هادي كمال الدين موضوع التجسيم والروايات المأثورة ذلك بإيمانٍ كبير ينمُّ عن ثقافته بفكر أهل البيت عليهم السلام، ومن ذلك قوله عند شرحه قوله علیه السلام: ((ومن جهله فقد أشار إليه...)) قائلا: «إنَّ المادي الذي ينكر وجوده المقدس لا يشير إليه، وكيف يشيرُ إلى معدومٍ في نظره القاصر، ولكن من يشير إليه يقول بوجوده إلّا أنَّه لم يعرف الله تعالى كما ينبغي أن يعرفه، فيزعمه جسماً يروح ويجيء، ووجهه كالقمر ليس دونه سحاب، ومن كان كذلك تصح الإشارة إليه، ومن يُشار إليه لا يخلو من الجهة والحيّز، وقد أفسدنا ذلك باقتضائه الافتقار والتركيب، وهذا معنى قوله علیه السلام: ((وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ))، وقوله علیه السلام: ((وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ)) أي: من جعله

ص: 153

محدوداً جعله جسماً مركباً محتاجاً إلى المركِّب فتعدد الواجب»(44). فردَّ السيد هادي الاعتقاد بالتجسيم باقتضائه الافتقار والتركيب، فالافتقار من خواص الممكن، والتركيب من صفات المُحدث المجزء.

وقال في موضعٍ آخر في شرح قول الإمام علیه السلام: ((وَمَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ)): «أي من تصور أنه كائن في شيء فقد جعله في ضمن ذلك الشيء، فلا يخلو من أن يكون إما عرضا فيحتاج إلى ما يعرض عليه، أو جسماً فيحتاج إلى محلِّه، والمحتاج إلى محلِّه باطل، وقد أسلفنا القول فيه. وأمّا قوله علیه السلام: ((وَمَنْ قَالَ عَاَمَ فَقَدْ أَخْىَ مِنْهُ)) أي: إن من تصوره على شيء فقد أخلى منه غيره، وحصره في جهة، والجهة من خصائص الأجسام، والله منزَّهٌ عن الجسمية»(45).

وقد أشار السيد هادي كمال الدين إلى موضوع التجسيم عند حديثه عن الآيات المتشابهة، فبعد أن ذكر عددًا منها قال: «فكلُّ واحدةٍ من هذه الآيات الشريفة تحتاجُ إلى تحقيقٍ ونظرٍ لإخراجها عن مفاهيمها اللغوية؛ لاقتضائها التجسيم المحال الذي يمنعه العقل الصحيح؛ ولقوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»(46)، فإن فرضناه جسماً كان مثله شيء، وهو ينافي ما وصف به نفسه بعدم وجود شيء مثله تعالى؛ ولأنَّ الجسم لازمه وجهة واحدة، والله يقول: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»(47)، فهو ليس بجهة، وإذا صح هذا فهو ليس بجسم، فصحة اللازم تقتضي صحة الملزوم والعكس بالعكس، وقد نص تعالى على وجود المتشابهات والمحكات في قرآنه المجيد»(48). فالآيات المتشابهة تحملُ الكثير من المفاهيم المبهمة التي لا يعلم تأويلها إلّا الله والراسخون في العلم. ومنْ يأخذ بظاهر هذه النصوص المقدسة، فسوف يقع بالتجسيم الذي أنكره الله تعالى في آياته المحكمة، وزاد السيد هادي باستدلالات عقلية منطقية.

ص: 154

خلاصة البحث

1. خَلُص البحث إلى عدد من النتائج التي يُمكنُ إجمالها على النحو الآتي:

2. حفل شرح نهج البلاغة للسيد هادي كمال الدين الحلِّي بعد كبير من المباحث العقائديَّة التي وقف عندها في شرحه للخطب الأولى من النهج التي تضمنت الأسس العقائدية لفكر الإمام عليّ (عليه السلام)، الذي يُعدُّ بحق إمام الموحدين.

3. مصطلح واجب الوجود من أدلَّة العلماء في معرفة الله وتوحيده، فنفي الجسم والمكان والعرض والمكان والرؤية والتركيب عن الذات الإلهيَّة يؤكِّد أنَّه واجبُ الوجود.

4. استدلَّ السيد هادي كمال الدين - رحمه الله - بأدلَّة عقلية منطقية في معرفة الله؛ إذ كيف يعبد الإنسان ما لا يعرف؟ فهو - جلَّ جلاله - معروفٌ بالبداهة، ولم يكتفِ السيد بهذا الدليل، فقد استدلَّ بالسماع أيضًا.

5. انطلق السید هادي في شرح كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من مبدأ أنَّ التوحيدَ هو أساسُ الإيمان به تعالى، فبه يأتي التصديق به، وكذلك الإخلاص له جلَّ جلاله، لذا هو الركن الأساس في أصول الدين، ومن أجله نزلت التشريعات السماويَّة.

6. الله سبحانه وتعالى يوصف بكل ما وصف به نفسه في كتابه العزيز، لذا ينبغي نفي الصفات عنه تعالى؛ لأنَّه لا صفات لذات الله تزيد على ذاته، بل هي نفس الذات القدسية التي تقدر على كل شيء وتعلم كل شيء.

7. استعرض السيد هادي أدلَّة أمير المؤمنين (عليه السلام) في نفي الصفات

ص: 155

مع تعليقه على كل عبارة، فمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تذهب إلى أنَّ صفاته عين ذاته، أي إنها تُثبت الصفات، ولكن من دون تشبيه، وتنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين، وهذا هو الرأي التنزيهي الذي استند إليه.

8. نفى السيد هادي - رحمه الله - بشكل قاطع الاستناد إلى خرافة تناولها بعض المفسرين في الاستدلال على رفع السماء بوساطة شيء مادي، مشيرًا إلى قدرة الله تعالى في رفع السماء من دون عمد.

9. ذهب معظم علماء السلفية إلى إمكان رؤية الله تعالى، وقد قسموا رؤية الله سبحانه وتعالى إلى أقسام، منها رؤيته في الآخرة، أو في الدنيا، أو في المنام. أمَّا مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فقد ذهبت إلى تنزيه الله تعالى من هذه الفرية؛ إذ إنَّ الله تعالى لا تُدركه الأبصار، ولا تقع عليه الرؤية بالعين الباصرة لا في الدنيا ولا في الآخرة. أمَّا موقف السيد هادي كمال الدين من رؤية الله، فقد استدلَّ بأدلَّة كثيرة كلّها تؤكِّد صحة رأي مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وقد اعتمد فيها على العقل من قبيل قوله إن استحالة رؤيته تعالى في الدنيا تؤكِّد عدم حصول ذلك في الآخرة أيضًا؛ لأنَّ اللهَ لا يتغيرُ. وكذا استدلاله بالقرآن الكريم، ورّد من تأوَّل بعض الآيات القرآنية، وذكر جملةً من الأشعار التي نظمها، وقد ضمَّنها عدد من الأدلَّة، كلُّ ذلك يؤكِّد الثقافة الدينية العقائدية التي يملكها السيد هادي - رحمه الله -.

10. من يعتقد بتجسیم الذات الإلهية، فإنَّه - قطعًا - سيبتعدُ عن عقيدة التوحيد، فالتجسيمُ يترتبُ عليه التعدد، ومن ثَمَّ التشريك.

11. إنَّ قول الإمام المعصوم عليه السلام خيرُ دليلٍ على تنزيه الذات الإلهية عن الجسم والجسمانية، وأنه ليس له مثل ولا نظير، ولاند ولا كفو. وقد

ص: 156

عالج السيد هادي كمال الدين موضوع التجسيم والروايات المأثورة عن ذلك بإيمانٍ كبير ينمُّ عن ثقافته بفكر أهل البيت عليهم السلام. فردَّ الاعتقاد بالتجسيم باقتضائه الافتقار والتركيب، فالافتقار من خواص الممكن، والتركيب من صفات المُحدث المجزء.

12. أشار السيد هادي كمال الدين إلى موضوع التجسيم عند حديثه عن الآيات المتشابهة. فالآيات المتشابهة تحملُ الكثير من المفاهيم المبهمة التي لا يعلم تأويلها إلّا الله والراسخون في العلم. ومنْ يأخذ بظاهر هذه النصوص المقدسة، فسوف يقع بالتجسيم الذي أنكره الله تعالى في آياته المحكمة، وقد زاد السيد هادي على تفسير هذه الآيات استدلالات عقلية منطقية.

هوامش البحث:

(1) ينظر موسوعة أعلام الحلة منذ تأسيس الحلة حتى نهاية 2000 م (1101 م - 2000 م / 495 ه - 1421 ه)، سعد الحداد، مكتب الغسق للطباعة، الحلة 2001 م: 216.

(2) ينظر مدونة السيد علي الهادي نجل السيد هادي كمال الدين.

(3) ينظر الذريعة، آقا بزرگ الطهراني ت 1389 ه، دار الأضواء - بيروت - لبنان، الطبعة الثانية: 20 / 144.

(4) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

(5) ينظر مدونة السيد علي الهادي.

(6) ينظر معجم المطبوعات النجفية، محمد هادي الأميني، مطبعة النعمان - النجف الأشرف، مطبعة الآداب - النجف الأشرف، ط 1 / 1385 ه - 1966 م: 131.

(7) ينظر مدونة السيد علي الهادي.

(8) ينظر مقدمة كتاب فقهاء الفيحاء وتطور الحركة الفكرية في الحلة، للسيد هادي حمد كمال الدين، تقديم نجله السيد علي هادي، مطبعة الزين / 2008 م: 1 - 8.

(9) ينظر الرسائل العشر، الشيخ الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: 93.

ص: 157

(10) رسائل الشهيد الثاني، الشهيد الثاني ت 965 ه، تحقيق: رضا المختاري، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي - قم - ايران، ط 1 / 1422 ه - 1380 ش: 2 / 727.

(11) شرح نهج البلاغة، للسيد هادي كمال الدين الحلي، بتحقيق الباحث (قيد الطبع): 27.

(12) المصدر نفسه: 27 - 28.

(13) المصدر نفسه: 28.

(14) ينظر روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، تقديم: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي - قم: 20، والجواهر السنية، الحر العاملي، مطبعة النعمان - النجف الأشرف، طبع على نفقة المكتبة العلمية لصاحبها محمد جواد الكتبي الكاظمي - بغداد / 1384 ه - 1964 م: 116.

(15) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عیسی البابي الحلبي وشركاه، مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان، ط 1 / 1378 ه - 1959 م: 20 / 292.

(16) ينظر التوحيد، الشيخ الصدوق، تصحيح وتعليق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: 35، وروضة الواعظين: 20.

(17) شرح نهج البلاغة: 28.

(18) ينظر توحيد الإمامية، الشيخ محمد باقر الملكي، تنظيم: محمد البياباني الاسكوئي، اهتمام: علي الملكي الميانجي، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي - مؤسسة الطباعة والنشر، ط 1 / 1415: 86 - 87.

(19) شرح نهج البلاغة: 28.

(20) الاقتصاد، الشيخ الطوسي (ت 460 ه)، مطبعة الخيام - قم، منشورات مكتبة جامع چهلستون - طهران / 1400 ه: 34.

(21) ينظر السرائر، ابن إدريس الحلي (ت 598 ه)، تحقيق: لجنة التحقيق، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط 2 / 1410 ه: 3 / 37.

(22) ينظر غاية المرام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ المفلح الصميري البحراني (ت 900 ه)، تحقيق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1 / 1420 ه - 1999 م: 3 / 462.

(23) الرسالة السعدية، العلامة الحلي (ت 726 ه)، إشراف: السيد محمود المرعشي، إخراج وتعلیق وتحقيق: عبد الحسين محمد علي بقال، المطبعة: بهمن - قم، ط 1 / 1410 ه: 51.

ص: 158

(24) شرح نهج البلاغة: 30.

(25) المصدر نفسه: 30 - 31.

(26) الدِّسارُ: واحد الدُسُرِ، وهي خيوطٌ تُشَدُّ بها أَلْواحُ السفينة، ويقال هي المَساميرُ. ينظر الصحاح، (دسر): 2 / 657.

(27) وردت مثل هذه الرواية - بطرق ضعيفة - عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)» [سورة طه / الآية: 6]، ومضمونها: «الْأَرْضُ عَلَی نُونٍ وَالنُّونُ عَلَی الْبَحْرِ وَأَنَّ طَرَفَيِ النُّونِ رَأْسُهُ وَذَنَبُهُ يَلْتَقِيَانِ تَحْتَ الْعَرْشِ وَالْبَحْرُ عَلَی صخرة خضراء خضرة السَّمَاءُ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَی فِيهَا: «فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ» [سورة لقمان / من الآية: 16]، وَالصَّخْرَةُ عَلَی قَرْنِ ثَوْرٍ والثور على الثرى ولا يَعْلَمُ مَا تَحْتَ الثَّرَى إِلَّ اللَّهُ تَعَالَی». ينظر الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبي)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط 1 / 1422 ه - 2002 م: 6 / 238، والهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب القيسي، مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث العلمي جامعة الشارقة، بإشراف أ.د: الشاهد البوشيخي، مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة، ط 1 / 1429 ه - 2008: 7 / 4612، والجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط 2 / 1384 ه - 1964 م: 11 / 169.

(28) شرح نهج البلاغة: 41.

(29) المواقف: 3 / 172.

(30) تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، طبعة حجرية: 2 / 470.

(31) ينظر شرح نهج البلاغة: 44 - 47.

(32) سورة الأنعام / الآية: 103.

(33) سورة الأعراف/ من الآية: 142.

(34) ورد هذا الحديث بروايات مختلفة في صحيح البخاري، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقیم محمد فؤاد عبد الباقي)، ط 1 / 1422 ه: 1 / 115، 119، 6 / 139، 9 / 127، وصحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج النيسابوري، المحقق:

ص: 159

محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت: 1 / 439، وسنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر وآخرون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، ط 2 / 1395 ه - 1975 م: 4 / 688.

(35) البيت لخِداش بن زهیر العامريّ، ينظر شعره، صنعة الدكتور يحيى الجبوريّ، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، دمشق / 1986 م: 41. والروايةُ فيه: (أكثرَ) كلِّ شيءٍ بدلًا من (أكبر).

(36) ينظر المقتضب، للمبرِّد، المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة، عالم الكتب. - بيروت: 3 / 277، وشرح المفصل، لابن يعيش، قدم له: الدكتور إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1 / 1422 ه - 2001 م: 4 / 324، وشرح التصريح، لخالد الأزهري، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط 1 / 1421 ه - 2000 م: 1 / 364.

(37) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَی صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا». ينظ-ر صحيح البخاري: 8 / 50. رقم (6227).

(38) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّی اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ». ينظر صحيح البخاري: 6 / 134. رقم (4830).

(39) ينظر صحيح البخاري: 2 / 53. (1145)، 9 / 143. (7494)، ونصُّ رواية الحديث: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَی كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَی السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِنَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِ، فَأَسْتَجِيبَ

لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِ فَأَغْفِرَ لَهُ».

(40) ينظر صحيح البخاري: 1 / 160. رقم (806)، 8 / 117. رقم (6573).

(41) ينظر صحيح البخاري: 1 / 160. رقم (806)، 4 / 24. رقم (2826).

(42) لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، مؤسسة الخافقين ومكتبتها - دمشق، ط 2 / 1402 ه - 1982م: 1 / 226.

(43) الكافي، الشيخ الكليني، تصحيح وتعليق: علي أك-بر الغفاري، المطبعة الحيدرية، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط 5 / 1363 ش: 1 / 100 - 101.

(44) شرح نهج البلاغة: 31.

(45) المصدر نفسه: 31.

(46) سورة الشورى / من الآية: 11.

(47) سورة البقرة / من الآية: 115.

(48) شرح نهج البلاغة: 105.

ص: 160

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. الاقتصاد، الشيخ الطوسي (ت 460 ه)، مطبعة الخيام - قم، منشورات مكتبة جامع چهلستون - طهران / 1400 ه.

2. تذكرة الفقهاء (ط. ق)، العلامة الحلي (ت 726 ه)، منشورات المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، طبعة حجرية.

3. التوحيد، الشيخ الصدوق (ت 381 ه)، تصحیح و تعليق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

4. الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (ت 671 ه)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط 2 / 1384 ه - 1964 م.

5. الجواهر السنية، الحر العاملي (ت 1104 ه)، مطبعة النعمان - النجف الأشرف، طبع على نفقة المكتبة العلمية لصاحبها محمد جواد الكتبي الكاظمي - بغداد / 1384 ه - 1964 م.

6. الذريعة، آقا بزرگ الطهراني (ت 1389)، دار الأضواء - بيروت - لبنان، الطبعة الثانية.

7. الرسائل العشر، الشيخ الطوسي (ت 460 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

ص: 161

8. رسائل الشهيد الثاني، الشهيد الثاني (ت 965 ه)، تحقيق: رضا المختاري، مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي - قم - ایران، ط 1 / 1422 ه - 1380 ش.

9. الرسالة السعدية، العلامة الحلي (ت 729 ه)، إشراف: السيد محمود المرعشي، إخراج وتعليق و تحقيق: عبد الحسين محمد علي بقال، المطبعة: بهمن - قم، ط 1 / 1410 ه.

10. روضة الواعظين، الفتال النيسابوري ت 508 ه، تقديم: السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي - قم.

11. السرائر، ابن إدريس الحلي (ت 598 ه)، تحقيق: لجنة التحقيق، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ط 2 / 1410 ه.

12. شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو، خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد الجرجاويّ الأزهري، زين الدين المصري، وكان يعرف بالوقاد (ت 905 ه)، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط 1 / 1421 ه - 2000 م.

13. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديدت 656 ه، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، مؤسسة مطبوعاتي إسماعیلیان، ط 1 / 1378 ه - 1959م.

14. شرح المفصل للزمخشري، يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع (ت 643 ه)، قدم له: الدكتور إميل بديع يعقوب، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1 / 1422 ه - 2001 م.

ص: 162

15. شعر خِداش بن زهير العامريّ، صنعة الدكتور يحيى الجبوريّ، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، دمشق / 1989 م.

16. صحيح البخاري الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، ط 1 / 1422 ه.

17. صحيح مسلم المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (ت 261 ه)، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

18. غایة المرام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ المفلح الصميري البحراني (ت 900 ه)، تحقيق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، ط 1 / 1920 ه - 1999 م.

19. فقهاء الفيحاء وتطور الحركة الفكرية في الحلة، السيد هادي حمد کمال الدين، مطبعة الزين / 2008 م.

20. الكافي، الشيخ الكليني ت 329 ه، تصحیح و تعليق: علي أكبر الغفاري، المطبعة الحيدرية، دار الكتب الإسلامية - طهران، ط 5 / 1363 ش.

21. الكشف والبيان عن تفسير القرآن، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (ت 427 ه)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط 1 / 1422 ه - 2002 م.

ص: 163

22. لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، مؤسسة الخافقين ومكتبتها - دمشق، ط 2 / 1402 ه - 1982 م.

23. معجم المطبوعات النجفية، محمد هادي الأميني، مطبعة: النعان - النجف الأشرف، مطبعة الآداب - النجف الأشرف، ط 1 / 1385 ه - 1966 م.

24. المقتضب، محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد (ت 285 ه)، المحقق: محمد عبد الخالق عظيمة، عالم الكتب.

- بيروت.

25. المواقف، عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو الفضل، عضد الدين الإيجي (ت 756 ه)، المحقق: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل - لبنان - بیروت، ط 1 / 1417 ه - 1997 م.

26. موسوعة أعلام الحلة منذ تأسيس الحلة حتى نهاية 2000 م (1101 م - 2000 م/ 495 ه - 1421 ه)، سعد الحداد، مکتب الغسق للطباعة، الحلة 2001 م

27. الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه، أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي (ت 437 ه)، المحقق: مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث العلمي - جامعة الشارقة، بإشراف أ.د الشاهد البوشيخي، مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة، ط 1 / 1429 ه - 2008 م.

ص: 164

المحور القانوني والسياسي

ص: 165

ص: 166

إصلاح النظم الإسلامية في فكر الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

الدكتور: محمد خضير عباس كلية الشيخ الطوسي الجامعة - النجف الأشرف

ص: 167

ص: 168

المقدمة:

الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين وصحبه المنتجبين.

وبعد: إنَّ الكلام عن الإمام علي (عليه السلام) ليس بالأمر السهل على الاطلاق؛ لأننا لسنا أمام شخصية تاريخية احتلت مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي فحسب، حتى نقدم ضبطاً لمفردات هذه الشخصية وحركتها الإصلاحية عن طريق التراث التاريخي المكتوب، کما نتعاطى مع أي مصلح وإمام في العالم بلْ نحن أمام شخصية قدمها اللهَّ تعالى كإنسان كامل. ولذا حينما نكتب عن الإمام (عليه السلام) فنحن نقدم الإسلام بأبهى صورة وأدق تطبيق، فعلينا أنْ لا ننظر للإمام (عليه السلام) كشخص عاش في التاريخ؛ بلْ الإمام (عليه السلام) تجاوز زمانه ومكانه ليكون المحور الذي يصاغ على أساسه الحضارة الإسلامية بكل جوانبها. نحن بحاجة لكي نقرأ تاريخ الإسلام، وتاريخ أئمته، قراءة جديدة تساعدنا على معالجة قضايانا، وترفع من مستوى أوضاعنا المترديَّة، ولسنا بحاجة إلى قراءة ترفع من وتيرة البغض والكراهية بيننا، لذلك نبسط الحديث عن سيرة الإمام علي (عليه السلام) في هذا البحث حول إصلاحاته في النظم الإسلامية.

واقتضت الدراسة تقسيم البحث على ستة مباحث، وسبق هذه المباحث تمهید بینت فيه التعريف بمفردات البحث وهي كلّ من: (الإصلاح، النُظم، الفِكر)، لمشاركتها في إعطاء صورة واضحة عن عنوان موضوع البحث.

أما المبحث الأول: فكتبت فيه عن فلسفة وعوامل الإصلاح ونبذة تاريخية عن الإصلاح.

والمبحث الثاني: تكلمت فيه عن الإصلاحات الإدارية للنظم الإسلامية في

ص: 169

فكر الإمام. فكان (عليه السلام) میّالاً بحزم إلى خاصّية النظم الإدارية، ولا سيما الأُمور ذات الصلة بالحُكم.

والمبحث الثالث: تطرقت فيه إلى الإصلاح الاجتماعي؛ إذْ كانت أول مسألة قام بها (عليه السلام) في برنامجه الإصلاحي، ضرب النظام الطبقي الذي خلفته السياسات التي كانت قبله.

والمبحث الرابع: تحدثت فيه عن الإصلاح الاقتصادي؛ إذْ جعل الإمام (عليه السلام) الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الاجتماعي.

والمبحث الخامس: تناول الإصلاح القضائي، وقد تضمن إصلاحاته (عليه السلام) في القضاء ونظام الحُسبة والنظر في المظالم.

وتضمن المبحث السادس: الإصلاح الثقافي والديني في فكر الإمام (عليه السلام) فقد كان (عليه السلام) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام. وكان يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله تعالى، وإظهار فلسفة التوحيد، وبَثّ الآداب والأخلاق الإسلامية.

هذا وختمت البحث بخاتمة أو جزت فيها إلى أهم ما توصلت فيها من نتائج.

وكانت قائمة المصادر التي نهل منها البحث حاضنة لمظان كثيرة ومتنوّعة، منها: المعجمات اللغويّة، وكتب التاريخ والسير، وكتب الحديث وهي التي تطلّبها موضوع البحث.

ص: 170

التمهيد: التعريف بمفردات البحث

لابدّ من تعريف مصطلحات عنوان البحث، وهي كلّ من: (الإصلاح، النُظم، الفِكر)، لمشاركتها في إعطاء صورة واضحة عن موضوع البحث.

1 - الإصلاح لغةً:

صلح: الصَّلاح: ضدّ الفساد؛ صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً.

وأصلح الشَّيء بعد فسادِه: أقامه. وأصلحَ الدّابّة: أحسن إليها فصلحت. والصُّلح: تصالح القومُ بينهم. والصُّلح: السِّلم(1).

وقال الراغب الأصفهاني (ت 502 ه): الصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحاً، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده، وتارة يكون بالحُكم له بالصلاح(2).

والإصلاح: التغير إلى استقامة الحال على ما تدعو إليه الحكمة. ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى، ومن هذا التعريف يتبين أنَّ كلمة (إصلاح) تطلق على ما هو مادي أو على ما هو معنوي، فيقال: أصلحت العمامة وأصلحت بين المتخاصمين(3).

ويتبين أيضاً أنَّ الإصلاح من الناحية اللغوية، الانتقال أو التغير من حال إلى حال أحسن، أو التحول عن شيء والانصراف عنه الى سواه.

الإصلاح اصطلاحاً:

عرفه الإمام الغزالي (ت 505 ه) بعدما وضح واجب المسلم تجاه نفسه بالإصلاح فقال: فحق على كل مسلم أنْ يبدأ بنفسه فيصلحها، ثمَّ يُعلم ذلك أهل بيته، ثمَّ يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه، ثمَّ إلى أهل محلته، ثمَّ إلى أهل

ص: 171

بلده، ثمَّ إلى أهل السواد المكتنف ببلده، ثمَّ إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم وهكذا إلى أقصى العالم(4).

وقال الآلوسي (ت 1270 ه): الصلاح عبارة عن الإتيان با ينبغي والاحتراز عما لا ينبغي(5).

عُرف الإصلاح اصطلاحاً بعدة تعريفات، ويأتي غالباً بالمعنيين التاليين:

1 - التوفيق بين المتخالفين والمتنازعين، وهو أكثر تداولاً.

2 - إزالة الفساد وإقامة الشيء، ومنه إصلاح العمل، وإصلاح المال، وإصلاح المعيشة، وإصلاح الظاهر، وإصلاح الباطن، ونحو ذلك. لكن المستفاد من الموارد السابقة: إنَّ الإصلاح ربما يكون دفعاً للفساد ولا يلزم أنْ يكون إزالة له بعد وجوده دائماً(6).

إنَّ كلمة الإصلاح ليست جديدة على الفكر الإسلامي، فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم وعلى مستوى جذر كلمة الإصلاح (صلح) في أكثر من (مئة وسبعين موضعاً)(7). ومن ثمَّ فانَّ مفهوم الإصلاح ليس جديداً في العقل الإسلامي؛ بلْ هو مفهوم قديم لم يبدأ بظهور الأفكار والتيارات الإصلاحية في القرون الماضية أو المبادرات الإصلاحية في الوقت الراهن، فالدعوة إلى الإصلاح بدأت قديماً في الدولة الإسلامية منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله).

2 - النظم لغةً:

النظم: هي من نَظَمَ أي ألَّفَ، ومنها نَظَمْتُ اللؤْلؤَ أي جمعته في السِّلْك(8).

والنِّظامُ: ما نَظَمْتَ فيه الشيء من خيط وغيره(9). ونِظامُ كل أَمر: مِلاکُه، والجمع أَنْظِمة وأَناظيمٌ ونُظُمٌ. ويقال ليس لأمره نظام، أي لا تستقيم طريقته(10).

ص: 172

والنظم: هي الخطط، وتعني نظام الحكم والإدارة وما يرتبط بها من تشريعات، وأحكام مما يحقق للإنسان الأمن والعدالة والحُكم الصالح.

النظم اصطلاحاً:

مجموعة من التشريعات، والقوانين، والأحكام، والتنظيمات التي شرعها الله تعالى لعباده على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبني البشر ليستقیم بها أمر الناس في معاشهم ومعادهم في كل مفاصل الحياة. والنظم ليست مجرد عقائد دینية فقط؛ بلْ هي تقوم بعملية التنسيق بين الروح والمادة والعقيدة والتشريع، وبين العبادات والمعاملات.

ونظم أي دولة تتكون من مجموعة من القوانين والمبادئ والتقاليد التي تقوم عليها الحياة في هذه الدولة ومن هذه النظم: النظام السياسي، والإداري، والاجتماعي، والمالي والقضائي، وهناك نظم أخرى كالعبادات العملية من صلاة وصوم وحج وزكاة(11).

نشأة النظم الإسلامية:

لمْ تنشأ النظم الإسلامية عند ظهور الإسلام، ولمْ تنضج في وقت قصير؛ بلْ ترجع أصولها إلى الأنظمة العربية قبل الإسلام، وحين جاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أوجد مبادئ أنظمة جديدة وتعرض لبعض تلك الأنظمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام بالتعديل أو التبديل، في حين ترك القسم الآخر على حاله.

وعندما افتتح العرب بلاداً جديدة أفادوا مما كان فيها من الأنظمة ولا سيما تلك التي وجدوها في العراق، وبلاد الشام، ومصر، فتظافرت المبادئ الإسلامية، وبعض التقاليد العربية والمحلية على تكوين نواة الأنظمة الإسلامية.

ص: 173

وبمرور الزمن، وبتأثير الحاجة والتجارب والتطور خلال القرون الثلاثة الأولى نمت تلك النواة وتوسعت وتشعبت وتكونت منها أنظمة اتخذت أشكالاً معينة نطلق عليها اسم: الأنظمة الإسلامية(12).

3 - الفكر لغةً:

قال ابن فارس (ت 395 ه): فکَرَ؛ الفاء والكاف والراء: تردّد القلب في الشيء، يقال: تفکَّر، إذا رَدَّدَ قلبه. معتبراً، ورجل فِکِّیرٌ: كثير الفكر(13).

وقال ابن سيده (ت 458 ه) الفكرة: إعمال الخاطر في الشّيء والجمع فِكَرٌ وهو الفكر(14). ويقول صاحب لسان العرب: الفَكْر والفِکْر: إعمال الخاطر في الشيء(15).

الفكر اصطلاحاً:

معنى الفكر: التحقيق والبحث في موضوع من الموضوعات للحصول على نتيجة معينة. فكما أنَّ المراد من الفكر الرياضي مثلاً، هو الفكر الذي يعطي النتيجة لنظرية رياضية معينة، أو يحل مسألة رياضية. فكذلك الفكر في مثل هذه الموضوعات للوصول إلى توضيح نتيجة معينة.

والفكر هو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان في المجالات العلميّة والأدبيّة المختلفة، وعن طريق الفكر يتحقّق الإبداع والتطوّر والتنمية، ولولا الفكر الإنساني وما نتج عنه من الحصيلة المعرفية المتراكمة عبر القرون الطويلة الماضية، لما وصلت البشريّة إلى ما وصلت إليه الآن في زماننا من تقدّم وتطوّر، ففي زماننا قد تنامي الفكر وثارت المعرفة بشكل كبير.

والفكر الإسلامي يعني: الحُكم على الواقع من وجهة نظر الإسلام.

ص: 174

وورد الفكر عند الراغب الأصفهاني فقال: الْفِكْرَةُ: قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتَّفَکُّرُ: جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أنْ يحصل له صورة في القلب(16). وقيل الفكر: ترتيب أمور للتوصل إلى مجهول(17).

وقد وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم في نحوِ عشْرین موضعاً(18).

ص: 175

المبحث الأول

فلسفة وعوامل الإصلاح

فلسفة الإصلاح:

تحتاج المجتمعات البشرية إلى مراجعة دائمة، وإلى تفحُّص مستمر لواقعها وأوضاعها، من أجل معالجة نقاط الخلل والنقص؛ لأنَّ كل مجتمع بشري لا يخلو من نقاط ضعف تحتاج إلى تقوية، أو ثغرات تحتاج إلى سدٍّ، لكي يصل ذلك المجتمع إلى مصافِّ المجتمعات المتحضِّرة.

إنَّ الخلل الذي لا يسلم منه أيُّ مجتمع بشري، له أسباب عدَّة، نسرد منها ثلاثة أسباب:

1 - وجود الخطأ: فلا أحد يستطيع ادعاء العصمة والكمال إلا المعصومون الذين عصمهم الله تعالى، أما المجتمعات، والقيادات، والفئات، فوارد أنْ تقع في الخطأ، ف: ((كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطّائين التوابون))(19).

وقد تتخذ أمة من الأمم مساراً خطأً، وقد تسلك قيادة من القيادات نهجاً غير صحيح، وقد يبدي عالم من العلماء أو مجموعة من العلماء آراء وأفكاراً بعيدة عن الصواب.

2 - وجود الانحراف: لا يختلف اثنان على أنَّ الناس في المجتمعات البشرية ليسوا ملائكة، وليسوا أطهاراً لا يحصل منهم الانحراف، فقد يحصل الانحراف من المواقع المتقدمة في الأمة، أو لدى عامة الناس، أو من الجهات الوسيطة بين قيادات الأمة وجمهورها.

ص: 176

هذا الانحراف، سواء كان مقصوداً أم غير مقصود، فهو قد يحصل في طرح الآراء، وفي تطبيق البرامج والخطط، فعلى المجتمع أنْ يتأكد من صحة مسيرته وعدم تعرضها للانحراف.

3 - طبيعة الصيرورة والتطور: قد يكون الرأي صواباً، والاتجاه صحيحاً، ضمن زمن معيَّن، وواقع معيَّن، وحينما تتغير الأوضاع، وتتطور الحياة، فإنَّ ذلك القرار قد يحتاج إلى تغيير وتطوير، فإذا لم تحصل متابعة في التغيير والتطوير يحدث هناك خلل، وهذا الخلل ليس ناتجاً من الرأي ذاته، وليس من وجود انحراف، وإنما هو ناتج من عدم المواكبة للتطورات. ولهذا فإنَّ المجتمعات المتحضِّرة والمتقدِّمة تدرك الحاجة إلى المراجعة الدائمة والتغيير والإصلاح(20).

عوامل الإصلاح والتغيير

من أجل أنْ تحصل نهضة الإصلاح والتغير في أي مجال من مجالات حياة الأمة، لا بد من توافر ثلاثة عوامل:

الأول: مبادرة القيادات: القيادات الدينية والسياسية في الأمة يجب أنْ تبادر، وأنْ تتصدى للإصلاح والتغيير، وإلاَّ فالوضع ينذر بخطر كبير.

الثاني: ثقافة الإصلاح: أيّ قيادة تريد الإصلاح ينبغي أن تفكر في إنتاج الثقافة الداعمة لتوجهات الإصلاح؛ لأنه لا يمكن أنْ يحصل الإصلاح في بيئة ثقافية متخلفة. لا بد من تشجيع ثقافة الانفتاح، والوعي بمتطلبات الزمن، وإتاحة الفرصة لحرية الرأي والتعبير عن الرأي، على المستوى السياسي والديني والاجتماعي.

الثالث: تفاعل الجمهور: وعي جمهور الأمة، واستجابتهم لبرامج الإصلاح والتغيير، هو الذي يؤذن بانطلاق نهضة الإصلاح، أما الاكتفاء باجترار الشعارات،

ص: 177

وتمنيات التغيير، من دون رفع مستوى الفاعلية والإنتاج، والالتفاف حول القيادات المخلصة، والبرامج الصالحة، فإنه لن يغيّر من واقع الأمة شيئاً(21). ولكي تشق برامج الإصلاح طريقها في ساحة الأمة، لابُدَّ من ثقافة داعمة، تشجع الناس على تجاوز ما ألفوه من عادات سيئة، وأفكار غير صحيحة، وتحصّنهم من تأثيرات مراكز القوى المضادة لعملية الإصلاح، وتخلق بيئة مناسبة للتغيير.

وهذا ما توجَّه إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مسيرة حُكمه؛ إذْ أردف قراراته الإصلاحية بهجوم ثقافي، لإحياء قيم العدل والصلاح في نفوس الناس، ولمواجهة تيارات الفساد والانحراف. فهو يقوم بمهمتیه کخليفة حاکم وكإمام مرشد في الوقت نفسه. لذلك كان التراث الفكري والمعرفي للإمام علي (عليه السلام) متميزاً في الكم والكيف عن بقية الخلفاء؛ إذ نقلت عنه المصادر عدداً كبيراً من الخطب التي ألقاها على جماهير الناس، والرسائل التي وجهها إلى ولاته وموظفيه، والوصايا التي خاطب بها أصحابه ومن حوله.

نبذة تاريخية عن الإصلاح

إنَّ التاريخ يحدثنا بأنَّ الإصلاح ظهر مع ظهور أولى حالات الفساد في الأرض، عندما قتل قابيل أخاه هابيل، وحيرته في أمر أخيه المقتول الذي يحمل جثته؛ إذْ أرسل ربَّ العزة سبحانه وتعالى - في درس إصلاحي للبشرية - غراباً لمواراة سوءة غراب آخر میت، لكي يتعلم منه ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه - تعفن جثته و فسادها - وعندما سأل قابيل نفسه السؤال المحير عن عجزه عن مواراة سوءة أخيه، برزت إلى حيز المعرفة الإنسانية ظاهرة (الإصلاح) كمعاكس للفعل الفاسد الذي أتت به ید ابن آدم هذا. کما جاءت به الآيات البينات من سورة المائدة، (الآية ثلاثون والآية احدى وثلاثون).

ص: 178

فضلاً على ما تقدم يحدثنا التاريخ أيضاً، أنَّ السلالات السومرية في أرض العراق عرفت شكل الإصلاح؛ إذْ عثر المنقبون في آثار مملكة أشنونة على رقم طينية لم يتم التعرف على مشرعها وفيها كثير من نواحي الإصلاح، كتحديد أسعار المواد، وتحديد أسعار العبيد، فضلاً عن قوانين عدة تنظم الحياة الاجتماعية.

بعد ذلك ومع تطور شكل الدولة ومعرفة القوانين يذكر لنا التاريخ بأنَّ أهم إصلاحي عرفه عند فجره هو العراقي سادس ملوك سلالة بابل الأولى (حمو - رابي) الذي سن قانوناً موحداً للبلاد في مسلته الشهيرة مضمناً إياه العديد من المناحي الإصلاحية كمعالجة الاتهام بالباطل وشهادة الزور، وتغيير القاضي حُكمه بعد إصداره، ومواد خاصة بالأموال والسرقات، فضلاً عن الأحوال الشخصية وتوجيه المجتمع ضد الفساد الاجتماعي(22).

وبانتقالة من حضارة وادي الرافدين إلى الإغريق يظهر لدينا أنهم عرفوا ظاهرة الإصلاح أيضاً على صعيد ممارستهم السياسية فهذا (سولون)(23) وفي نطاق الإصلاح نراه قد صاغ مبدأ يدعى (حق الجماعة) فيه أنَّ أي جماعة لها عبادة مشتركة - أي مبدأ ما - لها أنْ تضع لنفسها قوانين تعترف دولته بصلاحيتها وشرعيتها. فكانت هذه الجماعات وطبقاً للمبدأ والحق المذكور هي النواة لما يعرف اليوم بالأحزاب، النقابات، والجمعيات(74).

جدير بالذكر أنَّ بروز الأديان إشارة إلى ظهور الإصلاح في الأرض بعد فسادها، لهذا نلحظ أنَّ سيدنا موسى (عليه السلام) ما جاء إلا ليصلح فرعون الذي ادعى الألوهية لقوله تعالى: «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ»(25).

وعلى السبيل نفسها جاءت رسالة سيدنا عيسى (عليه السلام) لقوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ

ص: 179

اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»(22). نرى من الآية دعوة سيدنا المسيح (عليه السلام) الإصلاحية لبني إسرائيل إلى عبادة ربهم والسير في جادة الصواب. فضلاً على ذلك أنَّ المسيحية كانت تحذر وتحث على الإصلاح لهذا نرى أنَّ (الكتاب المقدس) يحدثنا ما نصه: (لا يقدر أحد أنْ يخدم سیدین؛ لأنه إما أنْ يبغض أحدهما ويحب الآخر، وإما أنْ يتبع أحدهما وينبذ الآخر، فأنتم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال)(27).

أما الرسالة المحمدية المطهرة فقد جعلت الإصلاح مبدأً رئيساً من مبادئها شأنها شأنْ سائر الأديان السماوية التي سبقتها في تقويم السلوك الإنساني ونشر عقيدة الطاعة لله تعالى وحده لا شريك له، ونبذ كل شكل من أشكال الفساد في الأرض وجعل العمل الصالح منهاجاً للحياة. لهذا نلحظه في النص القرآني الوارد في سورة الأعراف لقوله تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(28).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ((إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللِّهَ عَلَی مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِنِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِینٌ. الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا))(29).

الذي يستشف من الحديث الحث على ضرورة صلاح الحُكم في جميع مناحيه والقسط في ذلك. وجدير بالذكر أنَّ بعض النظم السياسية اليوم تلزم أعضاء الحكومة والنواب فيها بتقديم كشف تفصيلي عن ممتلكاتهم قبل تولي المنصب وبعد تركهم له وهو أمر تناوله وعالجه الأثر الإسلامي منذ الصدر الأول الإصلاح حال العامل - الموظف المسؤول عن إدارة منطقة ما - الحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول))(30). وهذا يعني أنَّ للعامل أنْ يأخذ ما تحت يده مسکناً

ص: 180

لائقاً به، وزوجة ما يلزمها إذا شاء فإنْ زاد فهو (غال) أي خائن، وهذا إذا لم يجعل له مالاً معيناً، وإلا فلا يجوز له أخذ شيء سواه لأنه أجره وقد رضي به.

إصلاح النظم الإسلامية في فكر الإمام علي (عليه السلام)

الحديث عن الإصلاح في منهج أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) فيه مضامین واسعة جداً. ولكن سوف نختصر على قسم من هذه الإصلاحات وفي مختلف الجوانب.

في وقت مبكر من تاريخ الأمة الإسلامية، تبنَّى الإمام (عليه السلام) نهجاً إصلاحياً جريئاً. فقد وصل إلى الخلافة بمبايعة شعبية جماهيرية، تختلف عن طريقة مبايعة الخلفاء السابقين. وذلك أنَّ جماهير الأمة ازدحمت عليه وطلبت منه تولي الخلافة كما قال فيها روي عنه: (فَمَا رَاعَنِي إلا والنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ(32).

وامتنع الإمام علي (عليه السلام) عن قبول البيعة أياماً كما تشير بعض مصادر التاريخ، إلّا أنه استجاب إنقاذاً للموقف، وتحملاً للمسؤولية، وصارح الجمهور منذ البدء بأنه سيعتمد سياسة الإصلاح والتغيير، وفق ما يراه من تحقيق القيم الإسلام ومبادئ تعاليمه.

وجاء في تاريخ الأمم والملوك للطبري (ت 310 ه): «عن أبي بشير العابدي قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان، واجتمع المهاجرون والأنصار، فيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً، فقالوا: يا أبا حسن هلّم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك. قال فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان مراراً»(33).

ص: 181

وذكر الطبري أكثر من رواية تؤكد هذا المضمون، وأنَّ الإمام (عليه السلام) كان يذكر لهم أنه إنْ تولى الخلافة، فسيطبق منهجه في الإصلاح، كقوله: (واعْلَمُوا

أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ)(34).

ومن المعروف تاريخياً أنه في عهد الخليفة عثمان بن عفان، حصلت أوضاع للمم يكن أكثر الصحابة يحبذونها ويرضون عنها، وكانت جماهير الأمة منزعجة منها؛ لأنَّ بطانة قد التفت حول الخليفة من أقربائه، الذين كانوا محل ثقته، وهؤلاء أساؤوا استغلال ثقة الخليفة بهم. فأصبح هناك تلاعب بالثروات من هذه البطانة، مما سبَّب حالة من الغضب في أوساط جماهير من الأمة، انتهى بالهجوم على دار الخليفة وقتله بصورة بشعة، مما کرَّس حالة العنف السياسي في تاريخ الأمة.

جاء بعد ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) للحُكم، فطرح نهجه الإصلاحي، ولا ننسى أنَّ الإمام (عليه السلام) عُرض عليه أنْ يصبح هو الخليفة بعد مقتل الخليفة عمر، ولكن بشرط تصادر فيه حريته في الإصلاح والتغيير، تحت عنوان: (الالتزام بسيرة الشيخين)، فرفض الإمام الخلافة بهذا الشرط، وقَبِلها عثمان(35).

بدء برنامج الإصلاح

استلم الإمام علي (عليه السلام) الخلافة بعد مقتل عثمان بسبعة أيام، وذلك في الخامس والعشرين من ذي الحجة عام خمسة وثلاثين هجرية، فوجد الأوضاع متردّية بشكل عام، وعلى أثر ذلك وضع خطة إصلاحية شاملة، ركّز فيها على وحدة المسلمين، وشؤون الإدارة، والاقتصاد، والحُكم، والعدالة والحرية.

ص: 182

المبحث الثاني: الإصلاح الإداري

كان الإمام (عليه السلام) میّالاً بحزم إلى خاصّية النظام والانضباط في الشؤون الفرديّة

والاجتماعيّة والإدارية، لا سيما الأُمور ذات الصلة بالحُكم؛ ففي فلسفة الإمام (عليه السلام) كانت واحدة من حِکَم القرآن الكريم إيجاد النَّظم في المجتمع؛ إذْ يقول في وصفه: (أَلَا إِنَّ فِيه عِلْمَ مَا يَأْتِ، والْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، ودَوَاءَ دَائِكُمْ ونَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ)(36).

فكان الإمام (عليه السلام) يحثّ العاملين معه على الدوام أنَّ لا يغفلوا عن خاصّية الانضباط الإداري في ممارسة العمل، وأن يبذلوا جهدهم لإنجاز كلّ واجب في وقته المحدّد.

وقد بلغ من اهتمام الإمام (عليه السلام) و فائق عنايته بالنظم، أنه راح يوصي بذلك أولاده حتى وهو على فراش الشهادة(37).

ويركز الإمام (عليه السلام) على أنّ من لوازم الحؤول دون الفساد الإداري، أنْ يتمتّع العاملون في النطاق الحكومي والوظائف العامة بحدٍّ كاف من الحقوق الماليّة تؤمن لهم الحياة الكريمة، لكي تتوافر الأرضيّة المناسبة لإصلاح هؤلاء، ولا يطمعوا بالمال العامّ، ومن ثَمّ تنتفي في حياتهم دوافع الاتّجاه صوب الفساد والخيانة، ومن خرج عن الطريق الصحيح من العاملين فيجب عزله ومحاسبته.

فبادر الإمام عليّ (عليه السلام) من بداية حُكمة لتنفيذ برامج الإصلاح، فعزل الولاة غير الصالحين للولاية، الذين أخذوا مواقعهم ضمن معادلة المحسوبيات،

ص: 183

واستأثروا بالامتيازات وثروات الأم، واسترد أموال بیت المال من أيدي الحائزين عليها بطرق غير مشروعة، ولم يقبل التغاضي في ذلك؛ بلْ أجاب المعترضين بقوله: (وَاللِّهَ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، ومُلِكَ بِهِ الإمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً،ومَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ)(38).

ووضع (عليه السلام) الرقابة على الولاة والعمال، واستخدم الحزم مع أي انحراف أو مخالفة من أحد منهم. ولم يستعمل (عليه السلام) من الولاة أحداً مُحاباة، وإنما استعمل خيار المسلمين على أسس موضوعية لا تعتمد على الحسابات الشخصية والفئوية، أمثال: مالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وسهل بن حنیف، وعبد الله بن عباس، ونظرائهم من الذين توافّرت فيهم الخبرة التامة في شؤون الحُكم والإدارة.

فأرسل عثمان بن حنيف بدلاً عن عبد اللهَّ بن عامر (ابن خالة عثمان) إلى البصرة.

وعمارة بن شهاب بدلاً عن أبي موسى الأشعري إلى الكوفة. وعبد اللهَّ بن عباس بدلاً عن يعلى بن منبه إلى اليمن.

و قیس بن سعد بدلاً عن عبد اللهَّ بن سعد إلى مصر.

وسهل بن حنیف بدلاً عن معاوية بن أبي سفيان (ابن عم عثمان) إلى الشام.

ويقول المؤرخون: إنه أشار إليه جماعة من المخلصين بإبقاء معاوية في منصبه ريثما تستقر الأوضاع السياسية ثمَّ يعزله فأبى الإمام (عليه السلام)، وأعلن أنَّ ذلك من المداهنة في دينه، وهو مما لا يُقرّه ضميره الحي، الذي لا يسلك أي طريق يبعده عن الحق ولو أبقاه ساعة لكان ذلك تزكية له، وإقرارا بعدالته، وصلاحيته

ص: 184

للحُكم(39).

وقد زوّد (عليه السلام) عماله برسائل مهمّة عرض فيها لشؤون الحُكم وسياسة الدولة، وكذلك حدّد من صلاحياتهم ومسؤولياتهم.

وكان من أروع تلك الوثائق السياسية عهده (عليه السلام) لمالك الأشتر، فقد حفل بتشريع ضخم لإصلاح الحياة السياسية، والإدارية، والاقتصادية، والقضائية والعسكرية، وهو أرقى وثيقة سياسية تهدف إلى ارتقاء المجتمع وتحقيق مصالحه.

وقد ألزم الإمام (عليه السلام) عُمّاله وَوُلاته بتطبيق المساواة بين الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم. وقال (عليه السلام) في حق الولاة وحقوق الرعية على الولاة: (حَقُّ الْوَالِ عَلَی الرَّعِيَّةِ وحَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَی الْوَالِي، فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّه سُبْحَانَه لِكُلٍّ عَلَی كُلٍّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لأُلْفَتِهِمْ وعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَةِ، ولَا تَصْلُحُ الْوُلَةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ، فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَی الْوَالِي حَقَّه، وأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، واعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وجَرَتْ عَلَی أَذْلَلَهِا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ)(40).

ويقول (عليه السلام) في بعض رسائله إلى عماله: (واخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ

وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ والإِشَارَةِ

والتَّحِيَّةِ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَاَءُ فِي حَيْفِكَ، ولَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ)(41).

يوصي الإمام (عليه السلام) عامله في معاملته مع الرعايا المطيعين بمراعاة أربعة أمور:

1 - التواضع لهم وخفض الجناح تجاههم لحفظ حرمتهم وعدم إظهار الكبرياء في وجوههم كما أمر اللهَّ نبيّه (صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم) في السلوك مع المؤمنين

ص: 185

فقال تعالى: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(42).

2 - لقائهم بالبشر والبشاشة والفرح للدلالة على مودّتهم ولتحكيم الرابطة الأخوية معهم.

3 - الاستیناس بهم والتلطف معهم ليطمئنوا برحمة الحكومة ويخلصوا لها ایمانهم بها.

4 - المواساة بينهم ورفع التبعيض فينسلكون في نظم الأخوّة الاسلامية كمالاً، ولا يطمع العظماء وأرباب الثروة والنفوذ في سوء الإفادة من الحاكم في الظلم على الضعفاء، ولا ييئس الضعفاء من عدل الحاكم والشكاية عن الظالم(43).

وكان (عليه السلام) يتفقّد شؤون ولاته وعمّاله، ويرسل العيون لتحري أعمالهم، فإنْ رأى منهم خيانة أو تقصيراً في واجبات أحد منهم عزله، وأنزل به أقصى العقوبات(44).

وقد تحرّى (عليه السلام) كل بادرة تصدر من ولاته، وقد بلغه أنَّ عامله على البصرة قد دعي إلى وليمة قوم من أهلها، فكتب إليه يلومه على ذلك. وقد جاء في رسالته (عليه السلام) لسهل بن حنيف: (أَمَّا بَعْدُ: يَا ابْنَ حُنَيْفٍ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، دَعَاكَ إِلَی مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، ومَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَی طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَی مَا تَقْضَمُه مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ)(45).

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وخان في بعض ما ولاه من أعماله: (اَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِ مِنْكَ، وظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ

هَدْيَه، وتَسْلُكُ سَبِيلَه، فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً، ولَ تُبْقِي

ص: 186

لِآخِرَتِكَ عَتَاداً، تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ، وتَصِلُ عَشِرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ،

ولَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وشِسْعُ نَعْلِكَ خَیْرٌ مِنْكَ، ومَنْ كَانَ

بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِه ثَغْرٌ، أَوْ يُنْفَذَ بِه أَمْرٌ أَوْ يُعْىَ لَه قَدْرٌ، أَوْ يُشْرَكَ فِي

أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَىَ جِبَايَةٍ، فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِینَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي)(46).

ومدار الفصل (عليه السلام) على توبيخه للمنذر بسبب خيانته. فذكر سبب غروره وهو قياسه في الصلاح عن أبيه الجارود العبدي في أنّه يتبع ما كان عليه من الهدى(47).

ويرى الإمام (عليه السلام) أنَّ الإمارة وسيلة من وسائل الإصلاح الاجتماعي، ولا يجوز أن تمنح إلا للمتحرّجين في دينهم، والذين لا يخضعون للرغبات والأهواء، ويجب أن تُستغلّ لتحقيق ما ينفع الناس، فلا يجوز أنْ تمنح مُحاباة. يقول (عليه السلام) في رسالته لقاضيه رفاعة بن شدّاد: اعلم یا رفاعة أنّ هذه الإمارة أمانة؛ فمن جعلها خيانةً فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة، ومن استعمل خائناً فإنّ محمّداً بريء منه في الدنيا والآخرة)(48).

وفي رؤية الإمام (عليه السلام) ينبغي انتخاب العاملين في النظام الإسلامي على أساس الجدارة لا على أساس المحسوبيّة والمنسوبيّة. وفي هذا السياق ينبغي أنْ تُراعي في عمليّة الاختيار ما يحظى به هؤلاء من تأهيل أخلاقي، وأصالة أسرية، وما يتحلّون به من كفاءة وتخصّص. ولا يجوز للمدراء في النظام الإسلامي أنْ یوزّعوا المناصب على أساس الصلات الأسرية والعلاقات السياسيّة. ولا يحقّ أنْ يلي أمور الناس المحروم من الأصالة الأسرية، ولا أنْ تناط المسؤوليّة بسيّئ الأخلاق، أو أنْ يُعهد بشؤون المجتمع لمن يفتقر إلى الكفاءة والتخصّص ويفتقد للحيويّة اللازمة(49).

ص: 187

وكان (عليه السلام) إذا شعر من أحد أنَّ له میلاً أو هوى في الإمارة فلا پرشحه لها؛ لأنه يتخذ الحُكم وسيلة لتحقيق مآربه وأطماعه. ولما أعلن طلحة والزبير عن رغبتها المُلحّة في الولاية امتنع (عليه السلام) عن إجابتهما(50).

ويعد الإمام (عليه السلام) أول من اوجد نظام التفتيش. فقد كان يكتب إلى ولاته: (وإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ)(51).

و نهی الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بشدّة عن ممارسة التجسّس والتدخّل بالأُمور

الشخصيّة للمجتمع في أثناء عهده السياسي، بيدَ أنّه مع ذلك كان يرى من الضروري فرض رقابة على العاملين في النظام الإسلامي، وممارسة ذلك عبر جهاز رقابي خاص، وعن طريق موظّفين سريّين (عيون)، لئلاّ يتوانى هؤلاء في أداء وظائفهم، أو يتعدّوا على حقوق الناس بالاتّكاء على ما لديهم من سلطة.

إنَّ عهود الإمام (عليه السلام) واللوائح التي أصدرها بهذا الشأن، وما بعث به من رسائل للولاة المتخلّفين مثل الأشعث بن قیس، وزياد بن أبيه، وقدامة بن عجلان، ومصقلة بن هبيرة، والمنذر بن الجارود، كلّها تحكي تأسيس الإمام (عليه السلام) لجهاز رقابي مقتدر كان ينهض بمهمّة مراقبة العاملين معه في عهده السياسي.

وقد بلغ المخبرون السّريّون والعاملون في جهاز الرقابة الخاصّ في حكومة الإمام (عليه السلام)، حدّاً من العدالة والوثاقة؛ إذْ تحوّلت تقاريرهم وما يُدلون به من معلومات إلى قاعدة تستند إليها سياسة التحفيز الإداري للعاملين؛ إذْ يُشجع المحسنون، ويُعزل الخونة والفاسدون بعد إثبات جرمهم مباشرة، وينزل بهم من العقوبة ما يكون عبرة للآخرين، وعِظة لمن اتّعظ(52).

ص: 188

وشرَّع النظام العلوي مبدأ منع أخذ العاملين في الدولة الهدايا من الناس، فضلاً على حرمة تعاطي الرشوة، إمعاناً في القضاء على الفساد الإداري. فيعدّ (عليه السلام) من (أخذ هدية كان غلولاً، وإنْ أخذ رشوة فهو مشرك)(53).

المبحث الثالث الإصلاح الاجتماعي

كانت أول مسألة قام بها الإمام علي (عليه السلام) في برنامجه الإصلاحي وفي اليوم الثاني من بيعته، ضرب النظام الطبقي الذي خلفته السياسات الخاطئة قبله وذلك عن طريق المساواة بين الناس في العطاء، بعدما عانى الناس من التمييز بينهم، مما عمَّق الطبقية، وراكم الثروات عند طبقة، وزاد الفقر عند باقي الطبقات. وقد واجهته ضغوط كبيرة، لكنه ثبت أمامها، وأصرّ على نهج العدل والمساواة، صارخاً في وجوه المعترضين: (أَتَأْمُرُونِّ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟ واللَّهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْاً، لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ الله)(54). وقال (عليه السلام): (وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الاسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بینکم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد)(55).

وأول شيء کرهه بعض الناس من الإمام علي (عليه السلام) بعد خلافته تقسيمه العطاء بالسوية، فقد قال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين! هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم! فقال (عليه السلام): (نعطيه كما نعطيك)!! وأمر الإمام (عليه السلام) أنْ يبدأوا في العطاء بالمهاجرين، ثمَّ يثنون بالأنصار، ثمَّ من

ص: 189

حضر من الناس كلهم، الأحمر والأسود. «وتخلف عن هذه القسمة يومئذ طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قریش»(56)، ومن هنا بدأت التفرقة، ونشب الخلاف، وتولدت الفتنة.

وقد أدت التغييرات الاجتماعية التي أوجدتها حكومة الإمام (عليه السلام) إلى زيادة الأزمات النفسية في نفوس القرشيين وغيرهم من الحاقدين على الإصلاح الاجتماعي، فأيقنوا أنَّ حكومة الإمام (عليه السلام) ستدمر مصالحهم الاقتصادية وغيرها، فهبوا متضامنين إلى اعلان المعارضة، ومن المؤسف - حقاً - أنَّ تضم المعارضة بعض أعلام الصحابة كطلحة والزبير، ...ومن المؤكد أنه لم تكن للمعارضين أية أهداف اجتماعية أو اصلاحية، وإنما دفعتهم الأنانية والأطماع حسب التصريحات التي أدلوا بها في كثير من المناسبات، وقد كان في طليعة القوى المتآمرة على الإمام (عليه السلام) الحزب الأموي فقد سخر جميع أرصدته المالية التي حصل عليها أيام خلافة عثمان، فجعلها تحت تصرف المعارضين فاشتروا جميع أدوات الحرب ووهبوا كثيراً من الأموال للمرتزقة وقد اندلعت بذلك نار الحرب التي أسماها بعض المؤرخين بحرب الجمل، وقد أسرع الإمام (عليه السلام) إليها فأخمد نارها، وقضى على معالمها، إلا إنها أسفرت عن أفدح الخسائر التي مني بها المسلمون، فقد فتحت باب الحرب بين المسلمين، ومهدت الطريق إلى معاوية أنْ يعلن تمرده على الإمام (عليه السلام)، ويناجزه أعنف الحروب، وأشدها ضراوة، وأخذت الأحداث الجسام يتصل بعضها ببعض، ويتفرغ بعضها على بعض حتى انتهت بمقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)(57).

إنَّ الإصلاح الاجتماعي لا يتم من وجهة النظر الإسلامية السليمة، إلا عن طريق إصلاح الفرد نفسه، ولن يصلح حال الجماعة إلا بصلاح حال الفرد. والعدالة الاجتماعية والإصلاح الاجتماعي المحور الأكثر بروزاً في منهج الحُكم

ص: 190

العلوي، وقد بلغ من اقتران اسم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالعدالة وامتزاجه بها، قدراً بحيث صار اسم «عليّ عنواناً للعدالة، وعنوان العدالة باعثاً للإيحاء باسم عليّ»(58).

المبحث الرابع: الإصلاح الاقتصادي

جعل الإمام (عليه السلام) الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الاجتماعي. وقد كان من الطبيعي جداً - حتى عند المفكرين والمصلحين - في عصر الإمام (عليه السلام) وقبله أنْ يوجد أناس جائعون فقراء، وأنْ يوجد أغنياء يحارون كيف ينفقون أموالهم، فلم يكن الفقر بذاته والغنی بذاته مشكلة اجتماعية تطلب حلاً؛ لأنها في نظرهم أمر طبيعي لا محيد عنه. إنما المشكلة هي: كيف السبيل إلى اسکات الفقراء وحماية الأغنياء؟ فكان الامام (عليه السلام) بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أول من کشف أنَّ الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة، ونظر إليها على أساس أفاعيلها الاجتماعية(59).

فالعمال ومن لا يستطيعون عملاً هذه الطبقة، طبقة الفقراء تتألف ممن لا يستطيعون عملاً، لعاهة فيهم لا يقدرون معها على العمل، أو لا يستطيعونه لكبر السن وضعف البنية، أو لا يستطيعونه لصغر السن کالأيتام الذين لا كافل لهم، أو يستطيعون ويعملون، ولكن عملهم لا يمُدهم بالكفاية، ولا ييسر لهم مستوى لائقاً من العيش.

هذه الطبقة تتألف من هذه الطوائف، وإذا لم تلاق عناية من المجتمع ينحرف قويها إلى طريق الجريمة، ويموت ضعيفها جوعاً، وهي في الحالين سبة وخطر على المجتمع.

ص: 191

اذن فلا بد من تدبير يدفع البؤس عن أفرادها، ويحول قويهم إلى خلية إنسانية عاملة وينهض بهم إلى مستوى الحياة الحرة الكريمة.

وقد سن الإمام (عليه السلام) قانوناً تعامل به هذه الطبقة طبقاً إلى أحكام الاسلام.

وفي كلام الإمام (عليه السلام) عن هذه الطبقة نرى تشريعاً عمالياً ناضجاً إلى أبعد الحدود، ومستوعباً تمام الاستیعاب، وهو على نضجه الكامل واستيعابه التام، سابق للتشريعات العالية الحديثة بأكثر من ألف ومائتي عام.

ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهرت طلائع الثورة الصناعية في انكلترا، وهي أول بلد أوربي شهد الانقلاب الصناعي الحديث. وقد تمت للثورة الصناعية عناصرها المكونة حين اخترع البخار كقوة محركة، وعمم في صناعة المحركات. واستتبع ذلك اتساع نطاق الصناعة وتركزها في المدن، وحينئذ حدثت الهجرة من الريف إلى المدينة، فقد باع الفلاحون أرضهم من كبار الملاك، وانتقلوا إلى المصانع الجديدة كعمال، وعند ذلك ظهرت طبقة العمال إلى الوجود على نحو فعال، وانتقلت مراكز الكثافة في المجتمع من الفلاحين إليها. ومن هذا الحين بدأت هذه الطبقة تستشعر الظلم أفدح وأقسی ما یکون، فلم يكن لمطامع أصحاب المصانع حد ولا غاية، وكان العامل يعمل أكثر ساعات نهاره بأجر زهيد، فإذا ما استغني عنه صاحب العمل، أو حلت به آفة، أو اعتراه وهن، أو بلغ سناً لا يقوى فيها على العمل، طرد من عمله.

وبدا كأنَّ هذا الوضع الشائن سیستمر إلى الأبد. وبدا كأنَّ الكيان الاقتصادي القائم على هذا الاستغلال سيبقى منيعاً. وبدا كأنَّ واقع العمال التعس أمر لا مفر منه. ولكنَّ شيئاً من هذا لم يستمر، فقد نبهت هذه المظالم الوعي العالي، ودفعتهم

ص: 192

إلى تحسين مستواهم الاقتصادي عن طريق الصراع. وقد عملوا كثيراً، وقد أخفقوا كثيراً، ولكنهم وفقوا أخيراً إلى تخفيض ساعات العمل ورفع الأجور، والتعويض عند الصرف من العمل، والضمان الاجتماعي بإعانة مالية تدفع للعامل المتعطل من صندوق الدولة.

وإذا رجعنا إلى عهد الإمام (عليه السلام) لنقارن بينه وبين ما حصل من النتائج هذه ؟ فماذا نجد؟ نلحظ:

أولاً: أنَّ التشريعات الكافلة للطبقة العاملة ومطلق من لا يستطيع العمل للمرض أو لكبر السن أو لصغره - هذه التشريعات صدرت من فوق - من طبقة الحاكمين، ومغزى أنْ تكون التشريعات الحامية لطبقة العمال قد صدرت من فوق من دون أنْ يحدث من هذه الطبقة تحسس يلجئ إلى هذا، كبير القيمة، فهو يدل على أنَّ الإمام (عليه السلام) كان يفكر في هذه الطبقة ويعمل لخيرها.

وثانياً: أنَّ ما تدفعه الدولة إلى هؤلاء ليس احساناً منها إليهم، وإنما هو حق لهم عليها، يجب أنْ تؤديه.

ومغزى هذه الملحوظة عظيم، فعندما يأخذ المعوز ما يأخذه على أنه (إحسان) يشعر بالدونية، أما حين يأخذه على أنه (حق) فإنه يشعر بشيء من هذا.

وثالثاً: أن التشريع الذي سنه الإسلام وذكره الإمام (عليه السلام) يشمل كل حالة عجز، فمن لا يستطيعون عملاً لمرض أو هرم أو صغر سن، أو يعملون ولكن أجرهم لا يكفيهم هؤلاء جميعاً تكفلهم الدولة، وتعد نفسها مسؤولة عنهم.

وعهد الإمام (عليه السلام) صريح في أنَّ على الحاكم أنْ ينشئ لهذه الطبقة دائرة خاصة ترعى شؤونها، فهو يقول: (فَفَرِّغْ لأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ

ص: 193

والتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ)(60).

إذن، فعلى الرغم من سبق عهد الإمام (عليه السلام) على التشريعات العمالية الحديثة بأكثر من ألف ومائتي عام نلحظ أنه أوعى لحاجات هذه الطبقة وأرعی لشؤونها، وأشمل لطوائفها من هذه التشريعات.

نعم تمتاز هذه التشريعات بأنها أكثر تفصيلاً من عهد الإمام (عليه السلام)، وبأنها تشتمل على ملحوظات لم ترد في هذا العهد، ولكن ذلك لا يكسبها ميزة حقيقية، فالعبرة بروح التشريع وبشموله، ولا شك، بعدما عرفت، في أنَّ عهد الإمام (عليه السلام) أشمل. قال (عليه السلام): (ثُمَّ اللَّ اللَّ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَ مِنَ الَّذِينَ لَ حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِنَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِه الطَّبَقَةِ قَانِعاً ومُعْرَّاً، واحْفَظِ للهَّ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّه فِيهِمْ، واجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ، وقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّه...)(61).

ولطالما كرّر (عليه السلام): (وإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ ويُقِيمُ أَوَدَكُمْ، ولَكِنِّي لَا

أَرَى إِصْلَحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِيِ)(62).

يُشير الإمام (عليه السلام) في هذا الكلام إلى تلك السياسات والوسائل الفاعلة على صعيد فرض الحُكم التسلّطي على المجتمع، بيد أنّه لا يستطيع أنْ يلجأ إليها؛ لأنّها تنتهي إلى ثمن باهض هو فساد السياسي نفسه! أجل، إنّه الإصلاح الذي يكون ثمنه فساد المصلح! وهذا الكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) يعلن أنّ حركة الإصلاح قد تنتهي أحياناً إلى فساد المصلح. ومن ثَمّ فإنّ أُصول المنهج السياسي العلوي لا تسمح لحُكم الإمام (عليه السلام) أنْ يلجأ إلى ممارسة ذلك النمط من الإصلاحات القائم على مرتكزات غير مشروعة، مثل

ص: 194

الإصلاح الاقتصادي الذي يكون ثمنه التضحية بالعدالة الاجتماعيّة، ممّا هو سائد في العالم المعاصر.

إنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يعرف جيّداً كيف يخدع المعارضين الأقوياء ذوي النفوذ السياسي الهائل، ويُغريهم بأنّ مصالحهم سوف تتأمّن في إطار حُکمه، ثمّ يعمد إلى استئصالهم والقضاء عليهم تدريجيّاً، كما يعرف أيضاً كيف يخدع الشعب، ويُغريه بأنّ حقوقه الواقعيّة سوف تتأمن، وأنّه سوف يحترم القيم الإسلاميّة، على حين ينهج في العمل سبيلاً آخر، ليرخ بذلك قواعد حُكمه ويحافظ على استقراره. ولو أنَّ ذلك قد حصل، لما كان عليُّ (عليه السلام) عندئذ، هو عليَّ بن أبي طالب؛ بلْ لكان رجل سياسة محترف مثله كمثل بقيّة السياسيّين المحترفين في التاريخ، له أُسوة بهم وهم يتّخذون السياسة أداة لفرض السلطة على الناس، لا أنْ تكون وسيلة لإقامة الحقّ وتأمين حقوق المجتمع. فلم يكن لحركة الإصلاح العلوي من هدف سوى إحياء منهج الحُكم النبوي، ومن ثَمّ لم يكن بمقدورها أنْ تتحرّك على أسس غير مبدئيّة، مناهضة للقيم والدين و كلّ ما هو غير إنساني.

من هذا المنطلق راحت هذه الحركة الإصلاحيّة تواجه ذات العقبات والمشكلات التي اصطدم بها الحُكم النبوي. لكن الإمام (عليه السلام) استطاع عن طريق تحمله كافّة المشكلات، أنْ يُعيد في التاريخ الإسلامي - ولمرّة أخرى - المعالم الوضّاءة المنهج الحُكم النبوي، وأنْ يُعلّم الآخرين ممّن يأتي في المستقبل منهج حكومة القلوب(63).

ص: 195

المبحث الخامس الإصلاح القضائي

أولى الإسلام القضاء أهمية كبرى، فعدّه من أرفع المناصب وأسماها، وهو من «الوظائف الداخلة تحت الخلافة، لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعا للتنازع»(64).

ويعد القضاء شجرة الرئاسة العامّة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه، وهو المراد من الخليفة في قوله تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»(65).

فالقضاء، منصب حسّاس ومهامّه حيوية ودقيقة لتعلّقها بحقوق الناس وحرّياتهم، فضلاً على حقوق الباري عزَّ وجلَّ، وحسبه درجة أنْ يكون بادئ ذي بدء من حقوق الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ إذْ أنّه أول قاض في الإسلام، ثمّ أناط أمر القضاء لبعض أصحابه ممّن توسّم فيهم الكفاءة في مركز ولايته وغيرها من الأمصار.

وسلك نهجه المقدّس من بعده الإمام علي (عليه السلام). فكان قد قضى بين الناس في خصوماتهم على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي عهود من تولّى الخلافة من بعده. وحسبه منزلة أنْ وصفه نبي الأمة (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه: (أَقْضَاکُمْ عَلَيَّ)(66).

وعندما آلت الخلافة إليه (عليه السلام)، واتخذ من الكوفة مركز خلافته، اشترط على قاضيه شریح بن الحارث فيها أنْ لا ينفذ القضاء في ما يخص الحدود وبقيّة حقوق الله تعالى حتى يعرضه عليه، ولقد قال له يوماً: (یَا شُرَيْحُ قَدْ

ص: 196

جَلَسْتَ مَجْلِساً لَا يَجْلِسُه إِلَّ نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ)(67).

وروي عن الإمام عليۀ (عليه السلام): (أنّه كان يفعل ذلك - أي القضاء - في مسجد الكوفة، وله به دكّة معروفة بدكّة القضاء)(68).

وعلى الرغم من اختفاء كثير من آثار الإمام علي (عليه السلام) في هذا الجانب، بفعل الظروف المعروفة التي أعقبت استشهاده، إلاّ أنّ ما بقي منها فيه ما يكفي للوقوف على خصوصيته الفذّة في فقه القضاء وفنّه. فقد أظفرتنا أقواله الشريفة وسوابقه الفريدة في جزئيات المسائل الخاصّة بمفردات الحياة اليومية للإنسان، بكنوز نفيد منها في معرفة ما ينبغي أنْ يكون عليه القاضي من ضوابط و مواصفات، سواء في شخصه أم في سيرته داخل مجلس القضاء أو خارجه.

ويتبين مبلغ اهتمام الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالقضاء عند توليته مالك الاشتر قضاء مصر، وقد جاء في الكتاب من مواعظ وحكم، فقال (عليه السلام) لمالك: (اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَیْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ

بِهِ اْلأُمُورُ، ولاَ تُمْحِكُهُ الْخُصُومُ، ولاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ، ولاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيءِ إِلَی الْحَقِّ إِذا عَرَفَةُ، لاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع ولاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ؛ وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجِعَةِ الْخَصْمِ، وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ اْلأُمُورِ، وأَصَرَمَهُمْ عِنْدَ اتَّضَاحِ الْحُكْمِ؛ مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ، ولاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، أولئِكَ قَلِيلٌ، ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وافْسَحْ لَه فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَه،

وتَقِلُّ مَعَه حَاجَتُه إِلَی النَّاسِ، وأَعْطِه مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيه غَیْرُه مِنْ

خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَه عِنْدَكَ، فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً)(69).

إنَّ ما فعله الإمام (عليه السلام) هو فصل الجهاز القضائي عن السلطة وتأمين الحصانة الكاملة للقاضي؛ إذْ لا يتأثر بحكمة القضائي أي جهة أخرى

ص: 197

وهذا بالضرورة يعطي للقانون صفة النزاهة والموضوعية في الأحكام الصادرة من ذلك الجهاز ويؤمن للمجتمع الحقوق المدنية الكاملة وكانت السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية موحدة غير منفصلة في زمن الإمام علي (عليه السلام) فإذا به يخطو خطوة مبدئية إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية كي يكسب القضاة حصانة ويؤمنهم من عقاب السلطة. وهذا ما نراه في الوثيقة المبعوثة لمالك الأشتر بقوله (عليه السلام): (واعطه - القاضي - من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من حاجتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً). وبهذا يكون الإمام (عليه السلام) أحد المؤسسين للدولة المدنية الحديثة التي تكون فيها الحريات مكفولة مع حماية القانون.

وقالوا: إنَّ (جون لوك)(70) قد قسم السلطة إلى تشريعية تحفظ مصالح المجتمع بوضع القوانين، وسلطة لتنفيذ هذه القوانين، ثمَّ جاء من بعده (مونتسکیو)(71) فزاد عليها سلطة ثالثة، وهي السلطة القضائية، وطالب بفصلها عن السلطتين ضماناً للحرية، فارتبط مبدأ فصل السلطات الثلاث باسم (مونتسکیو)، وأصبح (جون لوك) في خبر كان(72).

ولم يقصد (مونتسكيو) الفصل التام بين السلطات وإنما الفصل المرن بمعنى أنْ يكون هناك توازن و تعاون بين السلطات الثلاث في تحقيق الصلاح العام، وبذلك دعا إلى أنَّ القانون هو الوحيد القادر على حماية الأفراد من السلطة التي تمثل الجهاز التشريعي والتنفيذي وحماية من الأفراد أنفسهم. وبذلك يكون المؤسس الأول لدولة القانون هو الإمام علي (عليه السلام) وهو ما نراه من سيادة المساواة والعدل في دولته التي لم يشهد التاريخ مثلها فقد سبق إنسان العصور الحديثة(73).

وبلغ مدى اهتمام الإمام (عليه السلام) بالقضاء عن طريق توصياته للقضاة

ص: 198

فقد اوصى ب: التحكيم الاختياري، وإحياء روح الصلح بين الخصمين كأصل من أصول القضاء، فكان يدعو (عليه السلام) الخصوم قبل المحاكمة إلى الصلح کما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في القضاء. وأمر (عليه السلام) بسهولة القضاء وسرعة تنفيذه، وخلوه من التعقيدات الموجبة لفوات الوقت، وتضرر أصحاب الدعوى. وأعطى (عليه السلام) الحق للدفاع والتوكيل عن المتهم. وكان (عليه السلام) پری تهذیب وإصلاح المجرم لا تحقيره ولا تعذيبه(74).

آداب القضاء في فكر الإمام علي (عليه السلام):

ذكر الفقهاء في كتبهم عندما تطرقوا إلى القضاء وآدابه، مسائل عدة منها:

1 - المواساة بين الخصوم: قال (عليه السلام) لشريح القاضي: (ثُمَّ وَاسِ بَیْنَ

الْمُسْلِمِينَ بِوَجْهِكَ ومَنْطِقِكَ ومَجْلِسِكَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ قَرِيبُكَ فِي حَيْفِكَ ولَا يَيْأَسَ

عَدُوُّكَ مِنْ عَدْلِكَ)(75).

وفي كتاب له (عليه السلام) إلى محمّد بن أبي بكر حين قلده مصر. قال: (فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وآسِ بَيْنَهُمْ فِي

اللَّحْظَةِ والنَّظْرَةِ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَاَءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ، ولَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ

عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ)(76).

وعنه (عليه السلام) قال: (مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَلْيُوَاسِ بَيْنَهُمْ فِي الإِشَارَةِ وفِي

النَّظَرِ وفِي الْمَجْلِسِ(77).

وعنه (عليه السلام) قال: (ينبغي للحاكم أنْ يدَعَ التلفّت إلى خصم دون خصم، وأنْ يقسم النظر فيما بينهما بالعدل، ولا يدَعُ خصماً يُظهر بغياً على صاحبه(78).

ص: 199

2 - أن لا يعلو كلامه كلام الخصم. قال (عليه السلام) لأبي الأسود الدؤلي لما سأله عن علة عزله من القضاء وهو لم يخن ولم يجن: (إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك)(79).

3 - أن لا يتضجر في مجلس القضاء. قال (عليه السلام) لشريح: (إياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء، الذي أوجب الله فيه الأجر، ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق)(80).

4 - أنْ لا يضيف أحد الخصمين دون صاحبه، إما أنْ يضيفهما معاً، أو يدعهما معاً.

روي أنَّ رجلا نزل عند الإمام علي (عليه السلام)، فأدلى بخصومة، فقال له (عليه السلام): (ألك خصم)، قال: نعم، قال (عليه السلام): (تحول عنا، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين، إلا ومعه خصمه)(81).

5 - أنْ لا يسار أحداً في مجلس القضاء. قال (عليه السلام) لشريح: (لَا تُسَارَّ أَحَداً فِي مَجْلِسِكَ)(82).

6 - التأمل والتروي قبل الحُكم. قال (عليه السلام) لشريح: (لسانك عبدك ما لم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده، فانظر ما تقضي؟ وفيم تقضي؟ وكيف تقضي؟)(83).

7 - أنْ لا يقضي القاضي وهو غضبان أو نعسان. قال (عليه السلام) لرفاعة بن شداد: (لا تقض وأنت غضبان ولا من النوم سكران)(84). (إِنْ غَضِبْتَ فَقُمْ فَلَا تَقْضِيَنَّ فَأَنْتَ غَضْبَانُ)(85).

ص: 200

8 - أنْ لا يقضي القاضي وه-و جوعان أو عطشان. قال (عليه السلام) لشريح: (ولَا تَقْعُدَنَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ حَتَّى تَطْعَمَ)(86).

9 - أن لا يقضي قبل سماع كلام أحد الخصمين. قال (عليه السلام): (بعثني رسول الله إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟)، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنَّ الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أنْ يتبين لك القضاء))(87). قال (عليه السلام): (فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعد)(88).

10 - يجب أن يكون مکان القضاء في المسجد. قال (عليه السلام) لمّا بلغه أنّ شريحاً يقضي في بيته: (يا شريح، اجلس في المسجد؛ فإنّه أعدل بين الناس، وإنّه وهنٌ بالقاضي أنْ يجلس في بيته)(89).

11 - على القاضي الصبر وعدم الملل وهناك أمور أخ-رى ع-لى القاضي الالتزام بها.

قال (عليه السلام) من كتابه إلى رفاعة لما استقضاه على الأهواز: (نِعْمَ عون الدينِ الصبرُ، لو كان الصبرُ رجلاً لكان رجلاً صالحاً. وإيّاك والملالةَ؛ فإنّها من السخف والنذالة، لا تُحضِر مجلسك من لا يشبهك، وتخيّر لوردك، اقضِ بالظاهر، وفوّض إلى العالم الباطن، دع عنك: أظُنُّ وأحسِبُ وأرى، ليس في الدين إشكال، لا تمارِ سفيهاً ولا فقيهاً، أمّا الفقيه فيحرمك خيره، وأمّا السفيه فيحزنك شرّه. لا تجادل أهل الكتاب إلا بالّتي هي أحسن بالكتاب والسنّة. لا تعوِّد نفسك الضحك؛ فإنّه يذهب بالبهاء، ويجرّئُ الخصوم على الاعتداء، إيّاك وقبولَ التحف من الخصوم. وحاذر الدُّخْلَة. من ائتمن امرأةً حمقاء، ومن شاورها فقبل منها ندم، احذر من

ص: 201

دمعة المؤمن؛ فإنّها تقصِف من دَمَّعها، وتطفِئُ بَحُورُ النَيِّران عن صاحبها، لا تَنبُزِ الخصُومَ، ولا تنهر السائل، ولا تُجالس في مجلس القضاء غير فقيه)(90).

إصلاحاته (عليه السلام) في نظام الحُسبة

الحسبة: من الناحية الفقهية الأمر المعروف إذا اظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا اظهر فعله، لقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (91).

وجاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث طويل قوله: (إِنَّ الأَمْرَ

بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبِيلُ الأَنْبِيَاءِ ومِنْهَاجُ الصُّلَحَاءِ فَرِيضَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا تُقَامُ الْفَرَائِضُ وتَأْمَنُ الْمَذَاهِبُ وتَحِلُّ الْمَكَاسِبُ وتُرَدُّ الْمَظَالِمُ وتُعْمَرُ الأَرْضُ ويُنْتَصَفُ مِنَ الأَعْدَاءِ ويَسْتَقِيمُ الأَمْرُ)(92).

والحسبة كوظيفة القاضي، استحدثت لتطبيق أسس العدالة في المجتمع ولتنفيذ مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). من هنا كانت وظيفة الحُسبة ذات سلطة قضائية، تتوسط بين القضاء والمظالم. ومع أنَّ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كقاعدة اجتماعية تدخل في مجال الأخلاق والتشريع، لا يمكن تحديد اطارها بشكل دقيق، فإنَّ الحسبة، كوظيفة إدارية، اختصت بشكل أساس في تنظيم أحوال السوق ومعاملاته(93). وكان القضاء والحُسبة يسندان بعض الأحيان إلى رجل واحد مع ما بين العملين من التباين فعمل القاضي مبني على التحقيق والأناة في الحكم. أما عمل المحتسب فمبني على الشدة والسرعة في الفصل(94).

ص: 202

واجبات المُحتسب:

من الأمور التي ينظر فيها المحتسب: أنه يحول دون مضايقة الناس في الطرقات، ويمنع الحمالين وأهل السفن من المبالغة في الحمل أو شحن السفن، ويحكم بهدم المباني المتداعية للسقوط حتى لا تقع على المارة، ويمنع معلمي الكتاتيب من ضرب الصبيان، ويحكم في الدعاوى المتعلقة بالغش والتدليس، ويحمل المماطلين على أداء ما عليهم من الديون، مراقبة المكاييل والموازين ويحول دون ارتفاع مباني أهل الذمة على مباني المسلمين.

ومن هذا يظهر بأنَّ هذه الوظيفة تجمع بين صلاحيات القاضي والشرطة؛ بلْ وحتى تفتيشية تربوية تعليمية(95).

نشأة الحُسبة:

ترد بعض الإشارات التاريخية إلى أنَّ الحسبة نشأت منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد مارسها بنفسه، ولاسيما في مراقبة الطعام، فيعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أول محتسب في الإسلام.

خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البقيع، فرأى طعاماً يباع في غرائر، فأدخل يده، فأخرج شيئاً كرهه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((مَنْ غَشَّنا

فليس مِنَّا))(96).

وكان الإمام علي (عليه السلام) في خلافته يتجول يومياً في الأسواق، ويرشد الناس للتمسك بالآداب الإسلامية، ويحذر من الغش فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويمارس ذلك كل يوم، فكان يقف في السوق ويقول: (يا معشر التجار إياكم واليمين الفاجرة فإنها تنفق السلعة، وتمحق البركة)(97).

ص: 203

وعن أبي جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (كان علي عليه السلام كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة على عاتقه وكان لا طرفان، وكانت تسمى: السبيتة(98)، فيقف على سوق سوق فينادي: يا معشر التجار قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا، عن الكذب واليمين وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم)(99).

مرّ الإمام (عليه السلام) بالسوق مجتازاً بأصحاب التّمر، فقال: (يا أصحاب التمر اطعموا المساكين فيربو كسبكم، ثمَّ مرّ مجتازاً ومعه المسلمون حتى أتى أصحاب السّمك، فقال: لا يباع في سوقنا طافٍ، ثمَّ أتى دار فرات وهو سوق الكرابيس، فقال: يا شيخ، أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، ثم أتى آخر فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ولبسه)(100).

وكان (عليه السلام) يمشي في الأسواق وبيده درّةٌ يضرب بها من وجد من مطفف أو غاش في تجارة المسلمين، قال الأصبغ بن غياث: (قلت له يوماً: أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين، واجلس في بيتك، قال: ما نصحتني يا أصبغ، وكان يركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهباء ويطوف في الأسواق سوقاً سوقاً فأتى يوماً طاق اللّحامين، فقال: يا معشر القصّابين لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق، وإيّاكم والنّفخ في اللّحم، ثم أتى إلى التّمارين فقال: أظهروا من ردي بيعكم ما تظهرون من جيده. ثم أتى الشاكين، فقال: لا تبيعوا إلا طيبا وإياكم وما طفا، ثم أتى الكناسة، وفيها من أنواع التجارة من نخاس وقاط وبائع إبل وصيرفي، وبزّاز، وخياط، فنادى بأعلى صوت: يا معشر التّجار، إنّ

ص: 204

أسواقكم هذه تحضرها الإيمان فشوبوا إيمانكم بالصّدقة، وكفّوا عن الحلف، فإنّ الله تبارك وتعالى لا يقدس من حلف باسمه كاذباً)(101).

وفي باب تأديب الصبيان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم، فقال: أما إنّها حكومة! والجور فيها كالجور في الحُكم، أبلغوا معلّمكم إنْ ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه)(102).

إنَّ الضرب بالمقدار المذكور في الأخبار جائز وليس بحرام ولا يوجب دية ولا قصاصاً، وأمّا الزائد عليه فهو حرام يوجب الدية على الأب والجدّ والقصاص على المعلَّم كما يشير إليه الحديث(103).

وأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) مالكاً الأشتر بمنع التجار من الاحتكار ومعاقبة من يفعل ذلك بعد نهيه. فقال (عليه السلام): (فامنع من الاحتكار، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقبه من غير إسراف)(104).

س وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام رَأَى قَاصّاً فِي الْمَسَجِدِ فَضَرَبِه بِالدِّرَّةِ وطَرَدَه)(105).

الظاهر أنَّ المقصود من القاصّ من يقصّ قصصاً لهويّةً تشغل الناس عن عبادة الله تعالى، وهو المشار إليه في قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ»(106).

وعن مختار التمار - كان من أهل البصرة -، قال: كنت أبيت في مسجد الكوفة

ص: 205

وأنزل الرحبة وآكل الخبز من البقّال، فخرجت ذات يوم فإذا رجل يصوّت بي: (ارفع إزارك فإنّه أنقى لثوبك وأتقى لربّك)، فقلت: من هذا؟ فقيل: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فخرجت أتبعه وهو متوجّه إلى سوق الإبل، فلمّا أتاها وقف، قال: (يا معشر التجار إيّاكم واليمين الفاجرة فإنّها تنفق السلعة وتمحق البركة)، ثمّ مضى حتى أتى إلى التمارين، فإذا جارية تبكي على تمّار، فقال: (ما لك؟) قالت: إنّي أَمَة أرسلني أهلي أبتاع لهم بدرهم تمراً، فلمّا أتيتهم به لم يرضوه، فرددته فأبى أنْ يقبله، فقال: (يا هذا خذ منها التمر وردّ عليها در همها)، فأبى، فقيل للتار: هذا علي بن أبي طالب، فقبل التمر ورد الدرهم على الجارية، وقال: ما عرفتك يا أمير المؤمنين فاغفر لي، فقال (عليه السلام): (يا معشر التجار اتّقوا الله وأحسنوا مبايعتكم يغفر الله لنا ولكم.

ثمّ مضى وأقبلت السماء بالمطر، فدنا إلى حانوت فاستأذن صاحبه فلم يأذن له صاحب الحانوت ودفعه، فقال: (يا قنبر أخرجه إليّ) فعلاه بالدرّة، ثمّ قال: (ما ضربتك لدفعك إيّاي ولكنّي ضربتك لئلاّ تدفع مسلماً ضعيفاً فتكسر بعض أعضائه فيلزمك)(107).

إصلاحاته (عليه السلام) في النظر في المظالم

ناظر المظالم: ينظر في كل حكم يعجز عنه القاضي، فينظر فيه من هو أقوى منه یداً. كظلم الأمراء والعمال فهذا مما نصب له الخلفاء أنفسهم للنظر فيه(108).

وديوان المظالم: عبارة عن هيئة قضائية عالية يشرف عليها شخص يدعى: (قاضي المظالم)، أو (صاحب المظالم) وهو أعلى مرتبة من القاضي، وأنَّ صلاحياته أوسع، ويمكنْ إجمال مهامه بما يأتي:

1 - النظر في الشكاوى التي يرفعها أفراد الرعية ضد الولاة، والحُكام، وكُتاب

ص: 206

الدواوين، وجباة الضرائب، وإنزال العقوبات بمن تثبت إدانته.

2 - تنفيذ ما وقف من أحكام القضاة؛ لأنَّ والي المظالم أقوى نفوذاً وسلطة منهم.

3 - النظر في تظلم الجند ولاسيما المرتزقة منهم إذا نقصت أرزاقهم، أو تأخر دفعها.

4 - مراعاة إقامة الشعائر والعبادات كالجمع، والأعياد، والحج، والجهاد وغيرها، وقد أصبحت بعض هذه الصلاحيات في ما بعد من مهام المُحتسب.

5 - النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحُسبة في المصالح العامّة، كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه والتعدّي في طريق عجز عن منعه والتحيّف في حقّ لم يقدر على ردّه(109).

وكانت محكمة المظالم تنعقد برئاسة الخليفة، أو الوالي، أو من ينوب عنه، ولمْ تكن هناك مباني خاصة بالمحاكم، وإنما كانت تنعقد المحكمة بالمسجد، فكان الناس يدخلون عليهم مباشرة في اليوم المخصص (الجمعة أو السبت) لعرض ظلاماتهم.

وتعرض ظلامات الناس في رقاع (عرائض)، ينظم ترتيبها موظف خاص، ويعرضها على الخليفة ليتدارسها مع مجموعة من الفقهاء، والعلماء، والقضاة المحيطين بمجلسه، فإذا استقر رأيه فيها أصدر حكمه مثبتاً إياه في العريضة نفسها، وما على الجهة المسؤولة أياً كانت، إلا تنفيذ حُكم الخليفة فوراً.

ومن هنا نرى سلطة ناظر المظالم ونفوذه يفوقان بكثير ما يحظى به القاضي المقيد في إجراءات وأصول النظر في الدعاوى، حتى أنَّ الماوردي (ت 450 ه) يعدد لنا عشر صفات لناظر المظالم يفوق فيها بسلطته سلطة القضاة(110).

أول من نظر في المظالم في الإسلام:

أول من نظر في المظالم في الإسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في

ص: 207

الشرب الذي تنازع به الزبير بن العوام ورجل من الأنصار، فحضره بنفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال للزبير: ((اسْقِ أَنْتَ يَا زُبَیْرُ ثُمَّ الْأَنْصَارِيُّ)). فقال الأنصاري: إنّه لابن عمّتك يا رسول اللهّ. فغضب من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: ((يَا زُبَیْرُ أَجْرِهِ عَلَی بَطْنِهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ إلَی الْكَعْبَیْنِ)). وإنّما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أجره على بطنه أدباً له لجرأته عليه))(111).

وظهرت وظيفة المظالم في عهد الخلفاء الراشدين، وكان الإمام علي (عليه السلام) أول من نظر في المظالم وذلك ليرسي العدل، ويرد مظالم الناس(112).

وإِذا تتبّعت كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبه وفي كتبه إِلى عمّاله تجد عنايته واهتمامه كثيراً إِلى ردّ المظالم وإحقاق الحقوق من الوالي نفسه؛ إذْ إنّه بقدرته وقوّته يكون أقدر على ذلك من كلّ أحد.

وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بيت سماه: (بيت القصص)، يلقى الناس فيه رقاعهم(113).

ولم يعرف الإسلام قبل الإمام عليّ (عليه السلام) هذه البادرة، فلأوّل مرّة في التاريخ الإسلامي بادر الإمام (عليه السلام) في أثناء تولّيه السلطة، إلى تأسيس (بيت القصص) لكي يكون موضعاً لمعالجة مشكلات الناس وتظلّماتهم؛ فمن لا يستطيع من أبناء الشعب أنْ يوصل مشكلته شفوياً أو لا يرغب أن يُعبِّر عنها بهذه الصيغة، بمقدوره أنْ يكتب قصّته، ويوصل قضيّته عن هذا الطريق.

وكان (عليه السلام) يشرف بنفسه على (بيت القصص) ولا يدع أحداً يصل إليه فيطّلع على الرقاع، ويبعث خلف المظلوم ويأخذ بحقّه من الظالم.

ومن جملة الكتب التي أرسلها إلى عماله يحثهم فيها على النظر في المظالم، قال

ص: 208

(عليه السلام) في كتابه لمالك الاشتر: (واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلس عامّاً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللهّ يقول في غير موطن: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متتعتع)(115).

بعد ما فرغ (عليه السّلام) من تشريع النّظام العام وتقرير القوانين لتشكيلات الدّولة وتنظيم أمر طبقات الامّة، توجّه إلى بيان ما يرتبط بالوالي نفسه وبيّنه في شعب ثلاث:

الأولى: ما يلزم على الوالي بما يتعلق بعموم من يرجع إليه في حاجة ويشكو إليه في مظلمة ووصّاه بأنْ يعين وقتاً من أوقاته لإجابة المراجعين إليه وشرط عليه:

1 - أنْ يجلس لهم في مكان بلا مانع يصلون إليه ويأذن للعموم من ذوى الحاجات في بالدخول عليه.

2 - أنْ يتلقّاهم بتواضع وحسن خلق مستبشراً برجوعهم إليه في حوائجهم.

3 - أنْ يمنع جنده وأعوانه من التعرّض لهم وينحّى الحرس والشّرطة الَّذين يرعب النّاس منهم عن هذه الجلسة ليقدر ذوو الحاجة من بيان مقاصدهم وشرح مآربهم ومظالمهم بلا رعب وخوف وحصر في الكلام.

4 - أنْ يتحمّل من السّوقة والبدويّين خشونة آدابهم وكلامهم العاري عن كلّ ملاحة وأدب.

5 - أنْ لا يضيّق عليهم في مجلسه ولا يفرض عليهم آداباً يصعب مراعاتها ولا يلقاهم بالكبر وأبهّة الولاية والرّياسة.

ص: 209

6 - أنه إنْ كان حاجاتهم معقولة ومستجابة فأعطاهم ما طلبوا لم يقرن عطاءه بالمنّ والأذى والخشونة والتأمّر حتّى يكون هنيئاً، وإنْ لم يقدر على إجابة ما طلبوا يردهم رداً رفيقاً جميلاً ويعتذر عنهم في عدم إمكان إجابة طلبتهم.

الثانية: ما يلزم عليه فيما بينه وبين أعوانه وعمّاله المخصوصين به من الكتّاب والخدمة كما يأتي:

1 - يجيب عمّاله وكتّابه في حلّ ما عجزوا عنه من المشاكلات المهمة.

2 - يتولَّى بنفسه اصدار الحوائج الَّتي عرضت على أعوانه ويصعب عليهم انفاذها لما يعرض عليهم من التّرديد في تطبيق القوانين أو الخوف ممّا يترتّب على انفاذها من نواح شتّی.

3 - أن لا يتأخر أي عمل عن يومه المقرّر ويتسامح في إمضاء الأمور في أوقاتها المقرّرة.

الثالثة: ما يلزم عليه فيما بينه وبين الله فوضاه بأنّ الولاية بما فيها من المشاغل والمشاكلات لا تحول بينه وبين ربّه وأداء ما يجب عليه من العبادة والتوجّه إلى اللهَّ تعالى(116).

ووقع في كلام الإمام علي (عليه السلام) اهتمام كبير في رفع المظالم الواردة من جانب الوالي وغيره؛ إذْ للحاكم أذناب وأتباع يرون سلطانه سلطاناً لهم، فيشمخون ويتغطرسون زاعمين بأنَّ لهم أنْ يصدروا الأوامر، وأنَّ على الناس أنْ تسمع وتطيع.

وإذا كان الحاكم شخصية ضعيفة تغلبوا على أمره، واتخذوا مال اللهَّ دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فقال (عليه السلام): (ثُمَّ

ص: 210

إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ، وتَطَاوُلٌ، وقِلَّةُ إِنْصَاف فِي مُعَامَلَة فَاحْسِمْ

مَادَّةَ أوُلئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ اْلأَحْوَالِ ولاَ تُقْطِعَنَّ لأحَد مِنْ حَاشِيَتِكَ وحَامَّتِكَ

قَطِيعَةً لاَ يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَة تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيَها مِنَ النَّاسِ فِي شِرْب أوْ عَمَل مُشْتَرَك يَحْمِلُونَ مَؤُونَتَهُ عَلى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وعَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي

الدُّنْيا والآخِرَةِ. وَأَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ، وكُنْ فِي ذلِكَ صَابِراً

مُحْتَسِباً، واقِعاً ذلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وخَاصَّتِكَ حَيْثُ وَقَعَ)(117).

من أصعب نواحي العدالة للولاة والحكَّام والسّلاطين والزّعماء العدالة هو في ما يتعلق بالأولياء، والأحبّاء والأقرباء والأرحام من حيث منعهم عن الظلم بالرّعيّة اعتماداً على تقربهم بالحاكم ومن بيده الأمر والنّهي، وقد اهتمّ النبيّ (صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم) في ذلك فحرّم الصّدقات على ذوي قرباه لئلَّا يشتركوا مع النّاس في بیت المال فيأخذون أكثر من حقّهم، ومنع بني عبد المطَّلب من تصدّي العمل في جمع الصّدقات لئلَّا يختلسوا منها شيئاً بتزلَّفهم إلى النبيّ (صلَّى اللهَّ عليه وآله).

وقد عرف الإمام (عليه السّلام) ما لحق من الأضرار بالإسلام من استثار خاصّة الوالي وبطانته وأنّ فيهم تطاولاً وقلَّة انصاف، فأمر الوالي بقطع مادّة الفساد ونهاه مؤكَّداً أقطاع الأراضي لحاشيته و قرابته، زاد عليه أنْ لا يسلَّطه على ما يمسّ بالرّعيّة بواسطة عقد إجارة أو تقبّل زراعة الأراضي ونحوهما لئلَّا يظلمهم في الشّرب ويحمّلهم مئونة لانتفاعه عنهم بلا عوض وأشار إلى أنّ ذلك صعباً فأمره بالصبر وانتظار العاقبة المحمودة لإجراء هذه العدالة الشاقة عليه.

ثمّ توجّه (عليه السّلام) إلى أنّه قد ينقم الرّعيّة على الوالي في أمور يرونها ظلماً عليهم فيتّهمونه بالمظالم والجور فيتنفّر عنه قلوبهم ويفکَّرون في الخلاص منه، وربّما كان ذلك من جهلهم بالحقيقة، فلا بدّ للوالي من التماس معهم وكشف الحقيقة

ص: 211

لهم وإقناعهم وتنبيههم على جهلهم وحلّ العقدة الَّتي تمكَّنت في قلوبهم(118).

وقال (عليه السلام) في ضمن كتاب كتبه إلى بعض عمّاله حين اختطف بعض ما كان في يده من أموال المسلمين: (أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّ كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وجَعَلْتُكَ شِعَارِي وبِطَانَتِي، ولَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِيِ، لِمُوَاسَاتِي ومُوَازَرَتِي وأَدَاءِ الأَمَانَةِ إِلَيَّ، فَلَاَّ رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَی ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ، والْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وأَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ، وهَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ فَنَكَتْ وشَغَرَتْ، قَلَبْتَ لِبْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ، فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِنَ وخَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِینَ، وخُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِینَ، فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ ولَا الأَمَانَةَ أَدَّيْتَ، وكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللَّهً تُرِيدُ بِجِهَادِكَ، وكَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَىَ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وكَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وتَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ، فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وعَاجَلْتَ

الْوَثْبَةَ واخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ، الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ وأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ

الذِّئْبِ الأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِرَةَ، فَحَمَلْتَهُ إِلَی الْحِجَازِ رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَیْرَ

مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ لَا أَبَا لِغَیْرِكَ، حَدَرْتَ إِلَی أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وأُمِّكَ،

فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ، أَو مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ، أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِ الأَلْبَابِ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وطَعَاماً، وأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وتَشْرَبُ حَرَاماً، وتَبْتَاعُ الإِمَاءَ وتَنْكِحُ النِّسَاءَ، مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْمُؤْمِنِینَ والْمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللُّهَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْوَالَ، وأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِاَدَ، فَاتَّقِ اللَّهً وارْدُدْ إِلَی هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللُّهَ مِنْكَ، لأُعْذِرَنَّ إِلَی اللِّهَ فِيكَ، ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً، إِلَّا دَخَلَ النَّارَ، ووَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ والْحُسَیْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ ولَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا)(119).

ص: 212

ممّا يوجب الأسف المحرق هذا الكتاب المخاطب به أحد خواصّه من بني عشيرته والأكثر أنه عبد اللهَّ بن عبّاس، فالظاهر أنه لما كتب (عليه السّلام) إليه كتابه بعد مقتل محمّد بن أبي بكر... أيس ابن عبّاس من إدامة حكومته العادلة وعلم أنَّ الحكومة تقع في يد أعدائه وأعداء بني هاشم وأقلّ ما ينتقمون منهم منعهم عن حقوقهم وايقاعهم في ضيق المعاش وضنك العيش فادّخر من بیت مال البصرة مقادير يظهر من كتابه (عليه السّلام) أنها كثيرة تسع لابتياع العقار في مكَّة والمدينة والطائف وابتياع العبيد ونكاح الأزواج.

وقد أثر عمله هذا في قلبه الشریف؛ إذْ يتوجّه إلى تأمین معاش عشرات الألوف من الأرامل والأيتام اللَّاتي قتل أزواجهنّ وآباؤهم في معارك الجمل وصفيّن ولا کفیل لهنّ في معاشهنّ، وكان ما يجمع في بيت مال البصرة مبلغاً كثيراً يسدّ كثيراً من حاجته في هذه الأرامل والأيتام فالتهب قلبه الشريف من هذا الاختطاف والاختلاس الَّذي ارتكبه مثل ابن عبّاس أو من يقارنه أو يقاربه من أهله وعشيرته، فرماه من لسانه الشّريف بسهام ما أغرزها في القلب وسيوف ما أقطعها للوتين وكان ابن عباس يتوجّه إلى حالة الإمام (عليه السّلام) الروحيّة فيبادر إلى جوابه بأخصر عبارة ويشير إلى عذره في خيانته. قال ابن أبي الحديد (ت 656 ه): وقد روی أرباب هذا القول - أي القول بأنّ هذا الكتاب خطاب إلى عبد اللهَّ بن عبّاس - (أنّ عبد اللهَّ بن عباس کتب إلى عليّ (عليه السّلام) جواباً عن هذا الكتاب، قالوا: وكان جوابه، أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تعظَّم على ما أصبت من بيت مال البصرة، ولعمري إنّ حقي في بيت المال أكثر ممّا أخذت، والسّلام)(120).

فكتب إليه علي (عليه السلام): (أما بعد: فإنَّ من أعجب العجب تزیین نفسك لك أنَّ لك في بيت المال من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين، ولقد

ص: 213

أفلحت إنْ كان ادّعاؤك ما لا يكون وتمنيك الباطل ينجيك من الإثم، عمرك الله إنك لأنت السعيد إذًا! وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطناً، وصيّرتها عطناً، واشتريت مولدات المدينة والطائف، تتخيرهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك، والله ما أحب أنْ يكون الذي أخذت من أموالهم لي حلالاً أدعه میراثاً فكيف لا أتعجب من اغتباطك بأكله حراماً!)(121).

فكتب إليه ابن عباس: (والله لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملّنه إلى معاوية يقاتلك به. فكفّ عنه عليّ)(122).

لم يكن ابن عباس وحده من عمل ذلك من الولاة في خلافة الإمام علي (عليه السلام)، فقد كان النعمان بن عجلان والي البحرين قد أخذ مال البحرين وهرب إلى الشام. ففي تاريخ اليعقوبي: بلغ علياً أنّ النعمان بن عجلان قد ذهب بمال البحرين فكتب (عليه السلام) إليه: (أمّا بعد: فإنه من استهان بالأمانة ورغب في الخيانة ولم ينزّه نفسه ودينه أخلّ بنفسه في الدنيا، وما يشقى عليه بعدُ أمرّ وأشقى وأطول، فخف الله إنّك من عشيرة ذات صلاح، فكن عند صالح الظنّ بك، وراجع إنْ كان حقّاً ما بلغني عنك). فلما جاءه کتاب عليّ، وعلم أنه قد علم حمل المال، ولحق معاوية(123).

كان الإصلاح الاستراتيجي لأمير المؤمنين (عليه السلام) يكمن في معرفة موارد الإصلاح في كافة النظم الإسلامية، ولذا يجب أنْ لا نتصور أنَّ ثبات الإمام علي (عليه السلام) وفرار كبار الصحابة في أهم المواقع دليل على بطولة الإمام علي (عليه السلام!! يجب أنْ لا نحصر الأمر في ذلك، فثبات الإمام علي (عليه السلام) بُعد من أبعاد الحِكمة الوجودية له. وفي فلسفة الأخلاق كل الفضائل تترتب على الشجاعة والحكمة، ولا تفيد الشجاعة إلا بالحكمة.

ص: 214

المبحث السادس الإصلاح الثقافي والديني في فكر الإمام علي (عليه السلام)

أولاً - الإصلاح الثقافي:

الإصلاح الثقافي فوق كل إصلاح، فقد كانت الثقافة الإسلامية بجميع أبعادها ومجالاتها هي السبب في تقدم الأمة الإسلامية في جميع مناحي الحياة، وبلوغها ذروة الحضارة والرقي.

ولم يعهد عن أحد من الخلفاء أنه عنى بالناحية الثقافية أو التربوية أو بشؤون التعليم الإمام (عليه السلام)، وإنما عنوا بالشؤون العسكرية، وعمليات الحروب، وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، وبسط نفوذها على أنحاء العالم.

فقد كان الإمام (عليه السلام) المؤسس الأعلى للعلوم والمعارف في دنيا الإسلام، وقد بذل جميع جهوده في إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين، وكان دوماً يذيع بين أصحابه قوله: (سَلوني قَبلَ أنْ تَفقدوني! سَلونِي عَنْ طُرُقِ السَّمَاءِ فَإِنِّي أَعْلَمُ بِهَا مِنْ طُرُقِ الْأَرْضِ)(124).

فكانت الأوضاع في خلافته موائمة لبدء الإصلاح الإداري والاقتصادي نتيجةً لقيام عامّة الناس ضدّ الفساد الإداري والاقتصادي المستشري على عهد من كان قبله. على هذا الأساس انطلق الإمام (عليه السلام) بهذه الإصلاحات منذ الأيّام الأولى لتسنّمه أزمة السلطة على الرغم من تقديره لجميع التبعات التي تترتّب عليها، والمشكلات التي تؤدّي إليها. على عكس حركة الإصلاح الثقافي التي لم يكن الشروع الفوري بها ممکناً؛ بلْ كانت تحتاج إلى زمان حتى يستقرّ حُكمه. ولذلك كان (علیه السلام) يقول في هذا المضمار: (لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ

ص: 215

الْمَدَاحِضِ لَغَیَّرْتُ أَشْيَاءَ)(125).

لم يكن سهلاً على الإمام (عليه السلام) أنْ يواجه بشكل مباشر وفوري الإرث الثقافي الذي تطبّع عليه الناس واعتادوه في ربع قرن من الزمان؛ لأنّ هذه العمليّة - لو تمّت - كانت تجرّ إليها نفور الجمهور وسخطه، وتستتبع اختلاف الأُمّة. لذلك كلّه ترك الإمام (عليه السلام) موضوع مواجهة الانحرافات الثقافيّة إلى فرصة مؤاتية(126).

وعندما حانت الفرصة بعث بكتبه إلى عماله، ومن كتاب له (عليه السلام) إلى قُثَم بن العبّاس، وهو عامله على مكّة: (أَمَّا بَعْدُ: فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، وذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله، واجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ، فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ، وعَلِّمِ الْجَاهِلَ وذَاكِرِ الْعَالِمَ)(127).

أمر الإمام (عليه السلام) قشم بإقامة الحجّ للناس. وإقامته القيام بأعماله، وتعليم الجاهلين کيفيّته، وجمعهم عليه. وأنْ يذکَّرهم بأیّام اللهَّ. أي عقوباته الَّتي وقعت بمن سلف من المستحقّين لها كي يحترزوا بطاعته من أمثالها. وعبّر عنها بالأيام مجازاً إطلاقاً لاسم المتعلَّق على المتعلَّق.

وأنْ يجلس لهم العصرين: أي الغداة والعشيّ لكونها أطيب الأوقات بالحجاز، وأشار إلى أعظم فوائد جلوسه في الوقتين وهي فائدة العلم، وحصره وجوه حاجة أهلها إليها و أمره بسدّ تلك الوجوه، وبيان الحصر أنّ الناس إمّا غير عالم أو عالم، وغير العالم إمّا مقلَّد أو متعلّم طالب، والعالم إمّا هو أو غيره. فهذه أقسام أربعة. فوجه حاجة القسم الأوّل وهو الجاهل المقلَّد أن يستفتي فأمره أنْ يفتيه، ووجه حاجة الثاني وهو المتعلَّم الجاهل أنْ يتعلم فأمره أنْ يعلَّمه، ووجه حاجة الثالث هو مع الرابع وهو العالم أنْ يتذاكرا فأمره بالمذاكرة له(128).

وكان الإمام (عليه السلام) يختار ولاته وعماله على البلدان من ذوي المعرفة

ص: 216

ومن أهل البصائر الذين يحظون بالمعرفة والوعي والصلابة في العقيدة ليكونوا - إلى جانب عملهم الإداري - معلمين ورجال رسالة، وكان يوجههم نحو هذه المهمة التعليمية والتوجيهية. من ذلك ما كتب به إلى قثم بن العباس عامله على مكة.

ومن خطبة له (عليه السلام) في النهي عن كتان العلم وعدم تعليمه، قال: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً ولَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وتَوْفِرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا)(129).

الحقوق متبادلة بين الراعي والرعية، وهذا التبادل طبيعي يرتبط بشخصية الاثنين تماماً وهو شرعي؛ لأنَّ واضع الشريعة هو خالق الطبيعة. وأشار الإمام (عليه السلام) إلى (وتعليمكم كيلا تجهلوا). أي: إرشادكم السبيل التي أرشد إليها كتاب اللهَّ وسنّة نبيه؛ لأنَّ جهلكم بدين الحق يبتعد بكم عن مكارم الدنيا وحسناتها، ويغريكم بأقذارها وسيئاتها(130).

فكانت أبرز مرتكزات السياسة الثقافيّة للإمام (عليه السلام)، في المنطلقات الآتية:

1 - تنمية التربية والتعليم: إنّ حاجة الروح إلى التربية والتعليم أكثر من حاجة الجسد إلى الطعام والشراب. وأساساً لا تزيد فلسفة الوحي والنبوّة وفلسفة الحُكم في منهج الأنبياء الإلهيّين، على تربية الإنسان وتعليمه، وإنَّ جميع الجهود ما هي إلاّ مقدّمة لبناء الإنسان الكامل. على هذا الأساس كان الأنبياء والأوصياء يتولّون شخصياً تعليم الناس وتربيتهم، وعلى هذا مضت أيضاً سيرة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) و سیاسته.

2 - تصحيح الثقافة العامّة: تكمن واحدة من أبرز العناصر الأساسيّة لمنهج الحكم العلوي في الإقدام على تصحيح الثقافة العامّة للمجتمع. فعلى قدر ما كان

ص: 217

الإمام (عليه السلام) يدافع عن السنن والتقاليد الاجتماعيّة البنّاءة، كان يهاجم بعنف الأعراف والتقاليد الخاطئة، ولم يكن يسمح أنْ تواصل التقاليد الخاطئة والأعراف الضارّة، حضورها في المجتمع الإسلامي.

3 - النقد البنّاء بدلاً من الإطراء والتملّق: تكمن واحدة من أهمّ مبادرات الإمام عليّ (عليه السلام) وأكثرها ألقاً لجهة تصحيح الثقافة الاجتماعيّة العامّة، بمواجهته لحالة تملّق الأُمراء ومديح القادة السياسيّين.

4 - معیاريّة الحق في اتباع الرجال: تتمثّل واحدة من أهمّ توجيهات الإمام (عليه السلام) لتصحيح الثقافة العامة في نصب الحقّ میزاناً في اتباع الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة وموالاتها. وتنشأ أغلب الانحرافات السياسيّة والاجتماعيّة من التمحور حول مفهوم الشخصيّة. وفي هذا الاتّجاه حذَّر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المجتمع من أنّ الشخصيات مهما عظمت، ولحظتها العيون بالحبّ والتقدير والإجلال، فلا يمكن أنْ تتحوّل إلى معيار للحقّ والباطل، وإلى ميزان لهما، ثمّ سعى أنْ يرفع المجتمع من زاوية الوعي الثقافي، ويرتقي به إلى المستوى الذي يزن به الشخصيّات الكبيرة ويعرفها بمعيار الحقّ، لا أنْ يزن الحقّ بمعيار الرجال(131).

ثانياً - الإصلاح الديني:

أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) المزيد من اهتمامه بالإصلاح الديني، فاتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية.

وكان (عليه السلام) يشغل أكثر أوقاته بالدعوة إلى الله تعالى، وإظهار فلسفة التوحيد، وبَثّ الآداب والأخلاق الإسلامية مستهدفاً من ذلك نشر الوعي

ص: 218

الديني، وخلق جيل يؤمن بالله تعالى إيماناً عقائدياً لا تقليدياً.

وقد ركز الإمام (عليه السلام) على الحفاظ على الشريعة الاسلامية كمنهج للحياة من ضمن الواجبات التي يجب أنْ يضطلع بها الحاكم؛ إذْ قال (عليه السلام) مخاطباً الأمة عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة: (لَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَی، وسِیرَةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم والْقِيَامُ بِحَقِّه والنَّعْشُ لِسُنَّتِه)(132). وقال ايضاً: (إِنَّه لَيْسَ عَىَ الِإمَامِ إِلَّ مَا حُّمِلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّه، الِإبْاَغُ فِي الْمَوْعِظَةِ، والِجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ، والإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ)(133)؛ بلْ نجده يعلن أنه: (حقّ على الإمام أنْ يحكم بما أنزل اللهّ)(134).

أما في اطار تجربة الإمام (عليه السلام) السياسية فإنه قد عدّ هذا الواجب هو محور حركته السياسية كحاکم؛ اذْ قال: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ، أَنَّه لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، ولَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحَطَامِ، ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ،

ونُظْهِرَ الإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ)(135).

وقال (عليه السلام): (والله ما تقدّمتُ عليها - الخلافة - إلاّ خوفاً من أنْ ينزو على الأمر تَيْس من بني أُميّة، فيلعب بكتاب الله عزَّ وجلّ)(136).

إذن الحفاظ على الدين وصيانته هو تنفيذ أوامر ونواهي الكتاب والسنة وتفعيلها كمنهج للحياة في المجتمع وكأسلوب للاستجابة الفكرية والعملية لأي تحدٍ فكري أو تشريعي.

وحدد الإمام (عليه السلام) أسباب انحراف الأمة بكلمات مختصرة قال فيها: (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّ، ويَتَوَلَّی

عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالً عَلَی غَیْرِ دِينِ اللَّ، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَوْ يَخْفَ عَلَی الْمُرْتَادِينَ، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ،

ص: 219

ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِ الشَّيْطَانُ

عَلَى أَوْلِيَائِه، ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنى)(137).

وقام من أجل هذا الإصلاح (عليه السلام) بالخطوات الآتية: فتح باب العلم والحوار وكل ما يتعلق بأمور الدين، والاهتمام بقراءة القرآن الكريم، وربطه بالسنة النبوية الشريفة، والاهتمام بالتدوين. وهو القائل: (قيّدوا العلم بالكتابة)(138).

ص: 220

الخاتمة:

لخلص البحث إلى ما يأتي:

حين تسلم الإمام علي (عليه السلام) الخلافة بدأ في تطبيق منهجه الإصلاحي، على الرغم من علمه بالعوائق الضخمة والعراقيل الهائلة التي ستواجهه. وقد ارتکز برنامجه الإصلاحي على العدل والمساواة، والمحاسبة الدقيقة، والرعاية الكبيرة لجميع أصناف الناس.

في النظام الإداري: لم يستعمل من الولاة أحداً مُحاباة، وإنما استعمل خيار المسلمين على أسس مهنية بعكس ما يحدث في البلاد حالياً. ووضع الرقابة على الولاة والعمال، واستخدم الحزم مع أي انحراف أو مخالفة من أحد منهم. وشرَّع مبدأ منع أخذ العاملين في الدولة الهدايا من الناس، فضلاً على حرمة تعاطي الرشوة، إمعاناً في القضاء على الفساد الإداري.

في الإصلاح الاجتماعي: كانت أول مسألة قام بها في برنامجه ضرب النظام الطبقي الذي خلفته السياسات الخاطئة التي كانت قبله وذلك عن طريق المساواة بين الناس في العطاء.

في الإصلاح الاقتصادي: سن الإمام (عليه السلام) قانوناً للطبقة الفقيرة لضمان حقوقهم. وجعل الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الاجتماعي.

في الإصلاح القضائي: اهتم الإمام بالقضاء عن طريق توصياته للقضاة بكتب عدة. وقد مارس هو بنفسه القضاء. وكذلك الحُسبة؛ إذ كان يتجول يومياً في الأسواق، ويرشد الناس إلى التمسك بالآداب الإسلامية. وقد كان الإمام (عليه السلام) أول من نظر في المظالم وذلك ليرسي العدل، ويرد مظالم الناس.

ص: 221

أما في الإصلاح الثقافي فلم يعهد عن أحد من الخلفاء أنه عنى بالناحية الثقافية أو التربوية أو بشؤون التعليم الإمام (عليه السلام)، وقد بذل جميع جهوده في إشاعة العلم ونشر الآداب والثقافة بين المسلمين.

في الإصلاح الديني أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) المزيد من اهتمامه به، واتخذ جامع الكوفة معهداً يلقي فيه محاضراته الدينية والتوجيهية، مستهدفاً من ذلك نشر الوعي الديني.

هوامش البحث:

(1) ينظر: ابن منظور، لسان العرب، (مادة: صلح)، 2 / 516 - 517.

(2) ينظر: المفردات في غريب القرآن، 284.

(3) محمود عبد الرحمن، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، 1 / 204.

(4) إحياء علوم الدين، 7 / 67.

(5) روح المعاني، 7 / 214.

(6) الشيخ محمد علي الأنصاري، الموسوعة الفقهية الميسرة، 3 / 390.

(7) عماد صلاح عبد الرزاق، الفساد والإصلاح، 29.

(8) ينظر: الجوهري، الصحاح، 5 / 2041.

(9) ابن منظور، لسان العرب، 12 / 578.

(10) الخليل الفراهيدي، كتاب العين، 8 / 165.

(11) ينظر: محمد خضير عباس، النظم الإسلامية، 2.

(12) ينظر: عبد العزيز الدوري، النظم الإسلامية، 13.

(13) معجم مقاییس اللغة، (مادة فكر)، 4 / 446.

(14) المخصص، (مادة: فکر)، 75.

(15) ابن منظور، (مادة: فكر)، 5 / 65.

(16) المفردات في غريب القرآن، 384.

(17) السيد السيستاني، الرافد في علم الأصول، 313.

ص: 222

(18) ينظر: محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، 525.

(19) ابن أبي شيبة الكوفي، مصنف ابن أبي شيبة، 8 / 108.

(20) ينظر: حسن الصفار، الإمام علي (عليه السلام) رائد الإصلاح، 2.

(21) ينظر: من، 4.

(22) تقي الدباغ، العراق في التاريخ، 87، 185.

(23) سولون، أحد الفلاسفة الحكماء، وهو جد أفلاطون لأمه. وكان عند الفلاسفة من الأنبياء العظام بعد هرمس وقبل سقراط وأجمعوا على تقديمه والقول بفضائله. ينظر: الشهرستاني، الملل والنحل، 2 / 57؛ 2 / 104.

(24) ينظر: طه حسين، نظام الاثنين، 51 - 65.

(25) سورة الفجر، الآية 11 - 12.

(26) سورة المائدة، الآية 72.

(27) الكتاب المقدس (العهد الجديد)، 11.

(28) سورة الأعراف، الآية 56.

(29) الإمام مسلم، صحیح مسلم، 6 / 7.

(30) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، 1 / 406.

(31) ينظر: عماد صلاح عبد الرزاق، الفساد والإصلاح، 30.

(32) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 49.

(33) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 3 / 450.

(34) م ن، 3 / 456.

(35) ينظر: عبد الله الحسن، مناظرات في الإمامة، 551 - 552.

(36) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 217.

(37) الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 26.

(38) الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 57.

(39) باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، 1 / 403.

(40) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 333.

(41) م ن، 421.

ص: 223

(42) سورة الحجر، الآية 88.

(43) الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 128.

(44) باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، 1 / 19 4.

(45) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 416.

(46) من، 461.

(47) ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5 / 227.

(48) القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 531.

(49) الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 24.

(50) باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، 1 / 421.

(51) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 383.

(52) الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 25.

(53) الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، 261.

(54) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 183.

(55) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 37.

(56) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7 / 38.

(57) ينظر: باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، 2 / 10. (58) الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 32.

(59) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، دراسات في نهج البلاغة، 39.

(60) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 439.

(61) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 17 / 80.

(62) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 99.

(63) ينظر: محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 55.

(64) ابن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر (تاریخ ابن خلدون)، 1 / 220.

(65) سورة ص، الآية 26.

(66) الشريف المرتضى، الشافي في الإمامة، 1 / 202؛ التفتازانی، شرح المقاصد، 2 / 300.

(67) الشيخ الكليني، الكافي، 7 / 4 - 6.

ص: 224

(68) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، 2 / 344.

(69) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 434 - 435.

(70) جون لوك: فیلسوف انكليزي (ت 1704 م) عده البعض أول من جدد نظرية المعرفة البشرية.

(71) مونتسکیو: مؤلف فرنسي له «أصول النواميس والشرائع» (ت 1755 م).

(72) ينظر: محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، 4 / 64.

(73) ينظر: حامد السعيدي، الإمام علي (عليه السلام) و نظام الحكم، 3.

(74) محمد خضير عباس، النظم الإسلامية، 69.

(75) الشيخ الكليني، الكافي، 7 / 413.

(76) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 383.

(77) الشيخ الطوسي، تهذیب الأحکام، 6 / 226.

(78) القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 533.

(79) الطبرسي، مستدرك الوسائل، 17 / 359.

(80) الريشهري، میزان الحكمة، 3 / 2089.

(81) ابن إدريس الحلي، السرائر، 2 / 166.

(82) الشيخ الطوسي، تهذیب الأحکام، 6 / 227.

(83) ابن عساکر، تاریخ دمشق، 23 / 24.

(84) القاضي النعان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 537؛

(85) الشيخ الطوسي، تهذیب الأحکام، 6 / 227.

(86) الخوانساري، جامع المدارك، 9 / 13.

(87) ابن حزم، المحلى، 9 / 397.

(88) أبو داوود، سنن أبي داوود، 2 / 190.

(89) الطبرسي، مستدرك الوسائل، 17 / 308.

(90) القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 536.

(91) سورة آل عمران، الآية 104.

(92) العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، 9 / 440.

(93) ابراهيم سليان الكروي وعبد التواب شرف الدين، المرجع في الحضارة العربية الإسلامية، 92.

ص: 225

(94) حسن الأمين، مستدركات أعيان الشيعة، 5 / 76.

(95) ينظر: م ن.

(96) النووي، المجموع، 12 / 9.

(97) ابن کثیر، البداية والنهاية، 8 / 5.

(98) السبتية: وكانت تسمى: (السبيبة) السب بمعنى الشق و وجه تسمية درته بذلك لكونها ذا اسبابتين وذا شفتين (كذا في هامش الكافي).

(99) المجلسي، بحار الأنوار، 100 / 94.

(100) الموفق الخوارزمي، المناقب، 122.

(101) القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، 2 / 538.

(102) الشيخ الكليني، الكافي، 7 / 268.

(103) المدني الكاشاني، کتاب الديات، 47.

(104) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة، 17 / 83.

(105) الشيخ الطوسي، تهذیب الأحکام، 10 / 149.

(106) سورة لقمان، الآية 6.

(107) الشخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، 100.

(108) ينظر: ابن العربي، أحكام القرآن، 4 / 61.

(109) ابراهيم سلمان الكروي وعبد التواب شرف الدين، المرجع في الحضارة العربية الإسلامية، 90.

(110) ينظر: الماوردي، الأحكام السلطانية، 84.

(111) م ن، 77.

(112) ابراهيم سلمان الكروي وعبد التواب شرف الدين، المرجع في الحضارة العربية الإسلامية، 89.

(113) ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة، 17 / 87.

(114) الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 36.

(115) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 439.

(116) الخوئي، منهاج البراعة، 20 / 282.

(117) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 442.

(118) ينظر: الخوئی، منهاج البراعة، 20 / 290 - 294.

ص: 226

(119) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 414؛ ابن میثم البحراني، شرح نهج ای البلاغة، 5 / 89.

(120) شرح نهج البلاغة، 16 / 170.

(121) البلاذري، أنساب الأشراف، 2 / 175.

(122) ابن عبد ربة، العقد الفريد، 5 / 107.

(123) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، 2 / 201.

(124) العلامة الحلي، منهاج الكرامة، 163.

(125) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 523.

(129) الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 18.

(127) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 457.

(128) ينظر: ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5 / 217.

(129) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 79.

(130) ينظر: محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، 1 / 229.

(131) ينظر: الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، 27 - 28.

(132) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 9 / 295.

(133) ابن میثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 3 / 24.

(134) ابن أبي شيبة الكوفي، مصنف ابن أبي شيبة، 7 / 566.

(135) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 189.

(136) البلاذري، أنساب الأشراف، 2 / 103.

(137) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نهج البلاغة، 88.

(138) ابن میثم البحراني، شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، 261.

ص: 227

المصادر والمراجع:

- خير ما نبتدئ به القرآن الكريم.

- الكتاب المقدس (العهد القديم)، (دار الكتاب المقدس، 1401 ه).

المصادر:

ابن ادریس الحلي، أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد (ت 598 ه):

1 - السرائر، (مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1410 ه).

البلاذري، أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه):

2 - جمل من أنساب الأشراف، تحقيق محمد باقر المحمدي، (مؤسسة الأعلي، بيروت، 1394 ه).

التفتازاني، السعد بن مسعود بن عمر بن عبد الله (ت 791 ه):

3 - شرح المقاصد في علم الكلام، (دار المعارف النعانية، باكستان، 1401 ه).

ابن أبي جمهور، محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي (ت 880 ه):

4 - عوالي اللئالي العزيزة في الأحاديث الدينية، (مطبعة سيد الشهداء، قم، 1403 ه).

الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت 393 ه):

5 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، (دار العلم للملايين، بیروت، 1407 ه).

الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله العتبي بن البيع (ت 405 ه):

6 - المستدرك على الصحيحين، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي، (دار المعرفة، بیروت، دت).

ابن أبي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي (ت 656 ه):

7 - شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العلمية، بیروت، 1378 ه).

ص: 228

ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري (ت 456 ه):

8 - المحلى، تحقیق احمد محمد شاكر، (دار الفکر، بیروت، د ت).

ابن خلدون، عبد الرحمن محمد بن خلدون المغربي (ت 808 ه):

9 - العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم، المسمى (تاریخ ابن خلدون)، (دار إحياء التراث العربي، بیروت، د ت).

الخليل الفراهيدي، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد (ت 175 ه):

10 - کتاب العین، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، (دار الهجرة، إيران، 1409 ه).

الخوارزمي، الموفق بن أحمد بن محمد المكي (ت 568 ه):

11 - المناقب، تحقيق مالك المحمودي، (طبع و نشر مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1414 ه).

أبو داوود، سلیمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 ه):

12 - سنن أبي داوود، تحقیق سعید محمد اللحام، (دار الفكر، بیروت، 1410 ه). الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل (ت 502 ه):

13 - المفردات في غريب القرآن الكريم، (الطبعة الثانية، إيران 1404 ه).

ابن سِيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل (ت 458 ه):

14 - المخصص، تحقیق دار إحياء التراث العربي، (الناشر دار إحياء التراث العربي، بیروت، دت).

الشريف المرتضى، أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى الموسوي (ت 436 ه):

15 - الشافي في الإمامة، تحقيق عبد الزهراء الحسيني الخطيب، (مؤسسة إسماعیلیان، قم، 1410 ه).

الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم (ت 548 ه):

16 - الملل والنحل تحقيق محمد سید گیلاني، (دار المعرفة للطباعة، بیروت، دت).

ص: 229

ابن أبي شيبة، أبو عبد بكر عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة الكوفي (ت 235 ه):

17 - مصنف بن أبي شيبة في الحديث والآثار (المصنف)، تحقيق سعيد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1409 ه).

الشيخ الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن بابویه (ت 381 ه):

18 - ثواب الأعمال وعقب الأعمال، (مطبعة أمير، قم، 1368 ش).

الشيخ الطبرسي، أبو نصر رضي الدين الحسن بن الفضل (ت 548 ه):

19 - مكارم الأخلاق، (منشورات الشريف الرضي، 1392 ه).

الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 ه):

20 - تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، (مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، 1403 ه).

الشيخ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن (ت 460 ه):

21 - تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد رضوان الله عليه، حققه وعلق عليه السيد حسن الموسوي الخرسان، (مطبعة خورشید، طهران، 1390 ه).

ابن عبد ربة، أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي (ت 328 ه):

22 - العقد الفريد، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، 1404 ه).

ابن عساکر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي (ت 571 ه):

23 - تاريخ مدينة دمشق حماها الله وذكر فضلها وتسمية من حل بها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها (تاریخ ابن عساکر)، تحقیق علي شيري، دار الفكر، بیروت، 1415 ه).

ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري المالكي (ت 453 ه):

24- أحكام القرآن، تحقيق محمد عبد القادر عطا، (دار الفکر، بیروت، د ت).

العلامة الحلي، أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726 ه):

25 - تذكرة الفقهاء، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، (مطبعة

ص: 230

ستارة، قم، 1419 ه).

26 - منهاج الكرامة، في معرفة الإمامة، (مطبعة الهادي، قم، 1379 ش).

الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطل (ت 40 ه):

27 - نهج البلاغة، مجموع ما اختاره الشريف ابو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب، ضبط نصّه وابتكر فهارسه العلميّة وحققه صبحي الصالح، (الطبعة الأولى، بيروت، 1387 ه).

الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي (ت 505 ه):

28 - إحياء علوم الدين، (دار الكتاب العربي، بيروت، د ت).

ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي (ت 395 ه):

29 - معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، (مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1414 ه).

ابن كثير، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر القيسي الدمشقي (ت 774 ه):

30 - البداية والنهاية في التاريخ، تحقيق علي شيري، (دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1408 ه).

الشيخ الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الرازي (ت 328 ه):

31 - الكافي (الأصول من الكافي)، تحقيق علي أكبر الغفاري، (دار الكتب الإسلامية، طهران، 1388 ه).

الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي (ت 450 ه):

32- الأحكام السلطانية والولايات الدينية جمع بين المسائل الشرعية والسياسية، (مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1386 ه).

المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه):

33 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، (مؤسسة الوفاء، بيروت، ص: 231

1403 ه).

الإمام مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه):

34 - صحیح مسلم، (دار الفكر، بيروت، د ت).

ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي المصري (ت 711 ه):

35 - لسان العرب، (نشر أدب الحوزة، قم، 1405 ه).

ابن ميثم البحراني، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه):

36 - شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، تحقيق مير جلال الدين الحسني (منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، د ت).

37 - شرح نهج البلاغة، عنى بتصحيحه عدة من الأفاضل وقُوبِلَ بعِدَّة نُسَخ مَوثوقٌ بها، (الناشر مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1404 ه).

القاضي النعمان المغربي، النعمان بن محمد التميمي المغربي (ت 363 ه):

38 - دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن علي أصغر، (دار المعارف، القاهرة، 1383 ه).

النووي، أبو زكريا محي الدين بن شرف (ت 676 ه):

39 - المجموع في شرح المهذب، (دار الفكر، بيروت، د ت).

اليعقوبي، أحمد بن يعقوب بن واضح (ت 297 ه):

40 - تاريخ اليعقوبي، (دار صادر، بيروت، د ت).

المراجع:

الآلوسي، أبو الثناء شهاب الدین محمود بن عبد الله الحسيني (ت 1270 ه):

41 - تفسير الآلوسي (روح المعاني)، (د مط، قم، د ت).

ابراهيم سلمان الكروي وعبد التواب شرف الدين:

42 - المرجع في الحضارة العربية الإسلامية، (منشورات ذات السلاسل، الكويت، دت).

الشيخ باقر شريف القرشي:

ص: 232

43 - حياة الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة وتحليل، (مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1395 ه).

تقي الدباغ:

44 - العراق في التاريخ، (دار الحرية للطباعة، بغداد، 1983 م).

حسن الأمين:

45 - مستدركات أعيان الشيعة، (دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1408 ه).

الخوانساري، السيد أحمد الميرزا يوسف (ت 1405 ه):

46 - جامع المدارك في شرح المختصر النافع، علق عليه علي أكبر الغفاري، (الناشر، مكتبة الصدوق، طهران، 1355 ه ش).

الخوئي، العلامة المحقق الحاج ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي (ت 1324 ه):

47 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق السيد إبراهيم الميانجي، (منشورات دار الهجرة، قم، 1403 ه).

الريشهري، محمد:

48 - موسوعة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسنّة والتاريخ بمساعدة محمّد كاظم الطباطبائي ومحمود الطباطبائي، (دار الحديث، قم، 1421 ه).

49 - ميزان الحكمة، (دار الحديث، قم، 1416 ه).

السيد السيستاني، السيد علي الحسيني:

50 - الرافد في علم الأصول، محاضرات آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، بقلم السيد منير السيد عدنان القطيفي، (مطبعة مهر، قم، 1414 ه).

الطبرسي، ميرزا حسين النوري (ت 1320 ه):

51 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، (مؤسسة آل البيت، بيروت، 1408 ه).

طه حسين:

ص: 233

52 - نظام الاثنين، (دار المعارف، القاهرة، 1921 م).

عبد العزيز الدوري:

53 - النظم الإسلامية، (دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، 1988 م).

عماد صلاح عبد الرزاق الشيخ داود:

54 - الفساد والإصلاح، (منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003 م).

محمد جواد مغنية (ت 1400 ه):

55 - في ظلال نهج البلاغة، (مطبعة ستار، قم، 1427 ه).

محمد خضير عباس:

56 - النظم الإسلامية، (النجف الأشرف، 2015 ه).

الشيخ محمد علي الأنصاري:

57 - الموسو. الموسوعة الفقهية الميسرة، (مطبعة باقري، إيران، 1415 ه).

محمد فؤاد عبد الباقي:

58 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، (المكتبة الإسلامية، إسطنبول، د ت).

الشيخ محمد مهدي شمس الدين:

59 - دراسات في نهج البلاغة، (دار الزه-راء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1392 ه).

محمود عبد الرحمن عبد المنعم: 60 - معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، (دار الفضيلة للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة، دت).

المدني الكاشاني، أغا رضا ملاَّ عبد الرسول (ت 1366 ه):

61 - كتاب الديات، (مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1408 ه).

ص: 234

الأقراص الليزرية:

عبد الله الحسن:

62 - مناظرات في الإمامة، (المكتبة الشاملة).

شبكة المعلومات (الأنترنيت):

حامد السعيدي،

الإمام علي (عليه السلام) ونظام الحكم.

annabaa.org/nba50 /nezam. -63

حسن الصفار:

الإمام علي (عليه السلام) رائد الإصلاح.

haydarya.com/maktaba_moktasah

ص: 235

ص: 236

الآثار الناجمة عن سياسة الامام علي (عليه السلام) الإدارية والمالية أساليب المعارضة أنموذجا

اشارة

أ. م. د. علاء كامل صالح العيساوي جامعة البصرة كلية الآداب

ص: 237

ص: 238

المقدمة:

أسفرت السياسة التي انتهجها الإمام علي (عليه السلام) في المجالين الإداري والمالي عن بروز آثار سلبية ومواجهة عنيفة تهدف إلى الانقضاض على الخلافة، حيث أن جهود الإمام (عليه السلام) لإصلاح الفساد الإداري الذي كان مستشرياً في كافة مفاصله وفي كل الولايات، فضلاً عن جهوده في تغيير النظم المالية المتبعة أبان خلافة عثمان والتي أدت إلى تردي الوضع الاقتصادي والاجتماع-ي وظه-ور الطبقية في المجتمع.

كل تلك الجهود المباركة اصطدمت بقوة بفئات عديدة كانت متنفذة ومنتفعة، وقد تضررت مصالحها للنهج الذي أتبعه الإمام علي (عليه السلام).

فعثمان وبشكل موجز اسند أدارة ولاياته لعدد من أقرباءه وأصهاره وخاصة ممن كانوا يفتقدون للكثير من المؤهلات الضرورية كالسابقة والكفاءة والصلاح وغير ذلك من الصفات الواجب توفرها في الاشخاص الذين تولون المناصب في الدولة الاسلامية، بل ان البعض منهم وصف بالفساد وشرب الخمر جهارا»(1).

أما من الناحية الاقتصادية فقد كان هناك جملة من المنتفعين السائرين بركاب السلطة، سواء من اقاربه او من غيرهم، الذين منح لهم الاموال والعطايا والاقطاعات، بل وبعض الحقوق الشرعية مثل خمس الغنائم الذي منحه لمروان بن الحکم(2).

هذا فضلاً عن الآثار السلبية الناتجة عن سياسة التفضيل في توزيع والتي أسهمت في أيجاد فوراق طبقية، وبروز فئات منتفعة ذات ثراء وترف ولا سيما من أهل قريش مقابل ذلك وجود الغالبية من أهل العوز والحاجة حيث وصف

ص: 239

الإمام (عليه السلام) الوضع المعاشي حال تسلمه الخلافة: ((...ألا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة(3)، فصار ذلك عليهم عار وشنار..))(4). وهذه الأسباب تضافرت مع أسباب أخرى كثيرة دفعت الجاهير للقيام بثورة شعبية أسفرت عن مقتل عثمان(5).

و بعد أن تسلّم الإمام علي (عليه السلام) الخلافة لم يكن أمامه سوى إصلاح الفساد ألإداري المستشري و إيقاف التجاوزات على أموال بيت المال دون وجه حق، فبدأ بالعديد من ألإصلاحات والتي يمكن إيجازها بالنقاط الآتية: -

1. إصدار الإمام (عليه السلام) أمراً بعزل أغلب الولاة و استبدالهم بولاة يتمتعون بصفات تؤهلهم للعمل في إدارة الولايات مع إخضاعهم للمراقبة الشديدة و المحاسبة الإدارية الصارمة(6).

2. أتباع سياسة التسوية في توزيع العطاء(7).

3. اتخاذ موقف حازم إزاء الغنائم في المناطق الإسلامية والوقوف بوجه المطالبين بها والاكتفاء بأخذ ما جلب في المعسكر(8).

4. استرداد القطائع التي منحها الخليفة الثالث لبعض الشخصيات من أقربائه وخاصته وأصحابه(9)، وحينما رد الإمام (عليه السلام) قطائع عثمان قام خطيباً وقال: ((والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء، فان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق))(10)، وفي رواية أخرى جاء انه (عليه السلام) قال: ((إلا أن كل قطيعة اقتطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فان الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لردته إلى حاله..))(11).

ص: 240

إن إجراءات الإمام (عليه السلام) الإصلاحية شكلت تهديداً سافراً لمصالح المنتفعين يقف على رأسهم بني أمية ومن لف لفهم من الذين تضررت مصالحهم وقضي على امتيازاتهم ونفوذهم فالتحدي الذي مارسه الإمام علي(عليه السلام) كان قوياً مما أدى إلى خلق مواجهة عنيفة تمثلت بالمواقف آلاتية:-

اولا: ظهور الاتجاهات المعارضة لخلافة الإمام علي (عليه السلام)

لاشك أن إصلاحات الإمام علي (عليه السلام) الإدارية والمالية أوجدت فئات معارضة ابتدأت عملها بإتباع أسلوب سلمي سلبي يتمثل بإعلان التذمر والاحتجاج والطعن بسياسته والتحريض ضده وانتهت بتكوين جبهات للعصيان المسلح وكما يلي:-

1 - السخط والتذمر

أسفرت إصلاحات الإمام علي (عليه السلام) الإدارية والمالية إلى خلق حالة من الاستياء والسخط من قبل الفئات المنتفعة سواء كانوا من أهل قريش أو من الأسرة الأموية بوجه خاص، فكان من الذين اظهروا استياء» وتذمراً كل من طلحة(12) والزبير(13) وسعيد بن العاص(14) والوليد بن عقبة(15) ومروان بن الحكم وعمر و بن العاص(16) ومن لف لفهم. فبالنسبة لسعيد والوليد ومروان فإنهم كانوا يكنون للإمام (عليه السلام) كرهاً وحقداً قدياً للدور الذي بذله الإمام علي (عليه السلام) في مواجهة آبائهم في السنوات الأولى للدعوة الإسلامية حيث شكلوا جناح المقاومة للإسلام، فالإمام (عليه السلام) قتل عقبة بن أبي معيط والد الوليد، والعاص(18) بن أمية في معركة بدر(19)، وكان للإمام (عليه السلام) مواقف مع الحكم بن أبي العاص(20) طريد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وكان من الرافضين للعفو عنه بل انه (عليه السلام) عاب على عثمان السماح له

ص: 241

بالعودة(21)، كما كان الإمام علي (عليه السلام) من الرافضين لفسق الوليد بن عقبة في الكوفة والداعين لإقامة الحد عليه بعد أن شهد وجهاء أهل الكوفة عليه، وقيل أن الإمام علي (عليه السلام) اجبر الخليفة على إقامة الحد عليه أو انه نفسه قام بذلك(22).

وما أن تولى الإمام علي (عليه السلام) الخلافة حتى عزل مروان عن منصبه لما أحدثه من جور وظلم، وعزل الوليد عن ولاية الصدقات أيضا»، أما بالنسبة لطلحة والزبير اللذان بایعا الإمام (عليه السلام) بالخلافة وكانا يطمعان في الحصول على بعض المناصب الإدارية وان تكون لهم المشورة كونهم من الصحابة القدماء، ومواقفهم المعادية للخليفة السابق بل أنهما كانا من المحرضين على قتل عثمان(33)، وقد عبرا عن مطامعهم تلك علناً حيث روي أن طلحة قال للإمام علي (عليه السلام): ((دعني فلات البصرة فلا يفجئوك إلا وأنا في خيل)) وقال الزبير: ((دعني آت الكوفة فلا يفجئوك إلا وأنا في خيل)) فطلب منهم الإمام (عليه السلام) أن يمنحاه الوقت للنظر في طلبيهما بقوله: ((حتى انظر في ذلك))(24)، وجاء في رواية أخرى إن الزبير كان يريد العراق وطلحة يريد اليمن (25)(26)، وفي كلا الحالتين فان الإمام (عليه السلام) رفض إسناد أي منصب إداري لها لأنهما طلبا الولاية وان الإمام (عليه السلام) أكد على ذلك بقوله: ((ولولا ما ظهر من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي))(27)، وأدلى اليعقوبي بان الإمام (عليه السلام) عهد لهما ولايتي اليمامة(28) والبحرين(29) فلما دفع لهما عهديهما قالا له: ((وصلتك رحم)) فقال (عليه السلام): ((وأنتما وصلتکما بولاية أمر المسلمين)) فاسترد العهد منهما وقال: ((لولا ما ظهر من حرصكهما فقد كان لي فيكما رأي))(30)، بينما ذكر ابن أبي الحديد بأنهما حينما قدما على الإمام (عليه السلام) طالبين منه إسناد أي ولاية كانت دون تحديد بقولهم:

ص: 242

((يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها، وعلمت رأي عثمان كان في بني أمية، وقد ولاك الله الخلافة من بعده، فولنا بعض أعمالك)) فطلب الإمام (عليه السلام) منهما أن يمنحانه بعض الوقت للنظر في الأمر مشيراً إلى أنها لا يصلحان للولاية لأنهما أصلاً لم يكونا من الموالين العارفين بحقه من أصحاب النوايا الحسنة و ليس من الطائعين بقوله: ((واعلما إني لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه و أمانته من أصحابي و من قد عرفت دخيلته)) فانصرفا عنه(31). فطلحة و الزبير لم يكونا مؤهلين للولاية لأنهما طلبا الولاية بأنفسهم وهذا فعل مكروه عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإمام علي (عليه السلام)(33)، كما أنهما ليسا من أنصار أو أتباع الإمام (عليه السلام)(33).

والمهم في الأمر أنه لم تتحقق رغبة طلحة والزبير و طمعهما في الولاية كما لم يستجب الإمام (عليه السلام) لطلبهما في أخذ مشورتهما بقولهما: ((.. أعطيناك بیعتنا على أن لا تقضي الأمور دوننا و أن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا..))(34)، فكان جواب الإمام (عليه السلام) لهما بعدم حاجته لأخذ رأيهما لأنه يعتمد في الأمور على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه واله وسلم) بقوله: ((.. فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته ولم احتج إلى أرائكما فيه ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بیانه ولا في السنة برهانه، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه..))(35).

والجانب الآخر والأكثر تأثيراً وأعظم وقعاً في النفوس والداعي للسخط والتذمر ذلك المتمثل في الإصلاح المالي الذي قام به الإمام علي (عليه السلام) في استرداد القطائع والأموال لبيت المال وفي أتباع سياسة التسوية في العطاء وقد اتفق اغلب الباحثين المحدثين على أن سياسة التسوية كانت الضربة القاصمة لجميع

ص: 243

أولئك المنتفعين من سياسة المفاضلة وكانت سبباً رئيسياً للتذمر والسخط ودافعاً للتمرد والعصيان(36).

حيث إن سياسة المفاضلة ساهمت في خلق مجتمع طبقي وقد شكلت قريش في هذا المجتمع رأس الهرم فهم الذين استأثروا بالامتيازات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حسب التقسيم التفاضلي يحظون بالأولوية كونهم من العرب ومن المهاجرين وذلك منذ عهد عمر بن الخطاب(37)، وزاد الأمر أكثر في خلافة عثمان الذي سار على نهج عمر في التفضيل فأرتفع المستوى المعاشي لعدد من الإفراد من قریش أو من أقرباءه وخاصة الذين شملتهم عطايا واقطاعات عثمان مما انعكس ذلك على وصف حياتهم بالرخاء والترف(38)، إذ أسهبت المصادر في ذكر مقدار ثروات الطبقة المتنفذة، فقيل أن زيد بن ثابت(39) حين مات خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس فضلاً عن الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار(40).

وقيل أن سعد بن أبي وقاص بنی داره بالعقيق(41) فرفع سمكها ووسع فضائها وجعل أعلاها شرفات، وابتنى المقداد(42) داره بالمدينة وجعل أعلاه شرفات وجعلها مجصصة الظاهر والباطن، وخلف يعلي بن منية الأموي خمسمائة ألف دينار إلى جانب العقارات و الأملاك الأخرى بقيمة ثلاثمائة ألف دينار(43). وقيل انه ترك مالاً جزيلاً من الذهب الذي كسر بالفؤوس حتى مُجلت أيدي الرجال(44)، أما الزبير بن العوام فقد بنى داراً له بالبصرة وبنى دور في مصر والكوفة والإسكندرية(45).

وقيل كانت له أحدى عشر داراً في المدينة وبلغ ماله بعد وفاته من الثروة والعقار خمسين ألف دينار وألف عبد وآمة، وغيرها من الأملاك والأموال التي تضاربت بشأنها المصادر(46)، وروي أن طلحة بن عبيد الله كان له قصر في الكوفة يطلق عليه اسم ((دار الطلحيين)) وبلغت غلة مزارعه في العراق كل يوم ألف

ص: 244

دینار، فضلاً عن داره بالمدينة التي بناها بالأجر والجص والساج(47) وضياع كثيرة واقطاعات تدر عليه عشرة ألاف كل سنة، وخلف ألفي ألف درهم ومائتين ألف درهم وغيرها من الأرقام الباهظة(48)، ويكفي للإشارة إلى أموال بني أمية قاطبة للاستدلال بقول معاوية: ((أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، و أما عمر فإرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فأصاب منها، وأما نحن فتمر غنا فيها ظهراً لبطن))(49). ومقابل ذلك كله كانت هناك طبقات مسحوقة تمثل الأعم الأغلب من الرعية فكان ذلك مدعاة إلى ظهور الصيحات المدوية والمواقف الجريئة لبعض الصحابة وعلى رأسهم الصحابي الجليل أبي ذر(50) الغفاري(51) وغيره(52).

ومن ذلك العرض الموجز نلحظ أمرين الأول أهمية تفعيل سياسة التسوية من قبل الخليفة الجديد الذي عبر عن ضرورة فعل ذلك حتى قبل توليه الخلافة بقوله: ((والله لئن وليتها لأنفضنهم نفض اللحام الوذام التربة))(53)، أي لأزيلهم کما یزیل عامل اللحام التراب عن الحديد بواسطة النار(54)، وحال توليه الخلافة أعلن الإمام (عليه السلام) إن التميز الطبقي الذي رفع من لايستحق وخفض من يستحق قد حان الوقت لتصفيته بقوله: ((والذي بعث محمداً بالحق انه لابد أن يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلکم وليسبقن سابقون كانوا قصروا وليقصرن سابقون كانوا ارتفعوا))(55)، والأمر الثاني هو حجم التذمر والاستياء الذي انتاب أولئك المتضررين من خلافة الإمام علي (عليه السلام) وإجراءاته، والذين عبروا عنه خلال مناظراتهم مع الإمام (عليه السلام) حيث ذكر أن أفاضل الصحابة نقلوا للإمام علي (عليه السلام) استياء طلحة والزبير من إجراءاته فأرسل إليهما عمار بن یاسر(56) وعبد الرحمن بن حسيل (57) لاستدعائهما فقال لهم: ((..نشدتکما الله، هل جئتماني طائعين للبيعة، ودعوتماني إليها وأنا کاره لها، قالا:نعم، فقال:

ص: 245

غير مجبرين ولا مقسورين، فأسلمتهالي بيعتكما وأعطيتاني عهد کما، قالا: نعم، قال: فيما دعاکما بعد إلى ما أرى؟ قالا: أعطيناك بیعتنا على إلا تقضي الأمور ولا تقطعها دوننا وان تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر وتمضي الحکم بغیر مشاورتنا ولا علمنا))(58)، وهنا أعلنا عن تذمرهما واستيائهما إزاء إجراءات الإمام (عليه السلام) ولا سيما في الجانب المالي، وقد كان جواب الإمام علي (عليه السلام) يؤكد على التسوية وتطبيق العدالة إذ لم يكن ظالماً بالإشارة إلى مالهم من الفضل بقوله (عليه السلام): ((لقد نقمتهما يسيراً وأرجأتما كثيراً، فاستغفرا الله يغفر لكما إلا تخبرانني أدفعتكما عن حق وجب لکما فضلمتكما إياه؟ قالا: معاذ الله، قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟ قالا: معاذ الله، قال: افوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجعلته أو ضعفت عنه؟ قالا: معاذ الله، قال: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟))(59).

وأمام تلك الحجج التي قدمها الإمام (عليه السلام) ما كان لهما سوى الإعلان عن تحديد سبب استيائهم الذي يكمن في سياسة التفضيل بشكل خاص القولهم: ((خلافك عمر بن الخطاب في القسم، انك جعلت حقنا في القسم کحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لايماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً قهراً، ممن الايرى الإسلام إلا كرهاً..))، فرد عليهم الإمام (عليه السلام) بأنه تولى الخلافة دون رغبة منه ولكنه خشى اختلاف الأمة لذا فانه استند في حكمه على كتاب الله والسنة وسياسة التسوية كانت متبعة من قبل الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بقوله: ((.. وأما القسم والأسوة فان ذلك أمر لم احكم فيه بادئ بدء! قد وجدت

ص: 246

أنا وأنتما رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكیم حميد.))، ثم اخذ الإمام (عليه السلام) بالرد على ما زعموه في أموال الفيء وهو في ذلك لم يختلف عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وما كان يفعله بقوله: ((.. فقديماً سبق إلى الإسلام قوم نصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في القسم، ولا أثرهم بالسيف، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم..))(60).

فالإمام (عليه السلام) يستند على القرآن الكريم والسنة النبوية فأيهما أحق بالاقتداء أسيرة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) أم سيرة عمر بن الخطاب؟، بل إن الإمام (عليه السلام) أبدى دهشته واستغرابه ممن تركوا سنة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) واكبوا على سيرة أو سنة غيره بقوله: ((العجب مما اشر أبت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله والتسليم له في شيء أحدثه..)) وقال: ((العجب لقوم يرون سنة نبيهم تتبدل وتتغير شيئاً فشيئاً وباباً باباً ثم يرضون ولا ينكرون بل يغضبون له ويعتبون ويتخذون أحداثه سنة وديناً ويتقربون بها إلى الله..))(61).

وقد تجسدت مواقف طلحة والزبير في إعلان السخط من الإمام علي (عليه السلام) بقول الزبير في ملا من الناس: ((هذا جزاؤنا من علي: أقمنا له في أمر عثمان حتى قتل، فلا بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه وقال طلحة أيضا»: ((ما اللوم إلا علينا، كنا معه أهل الشورى ثلاثة، فكرهه احدنا - يعني سعداً - وبايعناه، فأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس، ولا ترجو غداً ما اخطأناه اليوم))(62)، أي أنهما أقرا بدورهما في

ص: 247

التحريض على قتل عثمان وبنفس الوقت فأنهما حملا الإمام علي (عليه السلام) مسؤولية المشاركة في التحريض على قتله أيضا»، وهم بذلك يحاولون إلقاء تهمة باطلة على الإمام (عليه السلام) لتصعيد الموقف من مجرد التذمر والاستياء إلى التمرد تحت ذريعة المطالبة بالثأر لعثمان کما سیتم إيضاحه فيما بعد(63).

أما موقف الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم في التعبير عن استيائهم فقد تجسد في قدومهم للإمام علي (عليه السلام) وتحدث الوليد بن عقبة نيابةً عنهم بقوله: ((يا أبا الحسن، إنك قد وترتنا جميعاً أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس، وأما سعید فقتلت أباه يوم بدر في الحرب، وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه، ونحن أخوتك ونظراؤك من عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان، وان تقتل قتلته، وإنا إن خفناك تركناك، فالتحقنا بالشام..)(64)، وهذا الموقف لا يخلو من التهديد باتخاذ الخطوة الثانية وهي التمرد والعصيان من خلال الانضواء مع معاوية.

2 - العصيان والتمرد المسلح

لقد تفاقم الوضع حين لم يتراجع الإمام علي (عليه السلام) عن قراراته التي بدأ بتنفيذها فعلياً دون الامتثال للضغوطات السياسية والتهديدات الصادرة عن أولئك المتذمرين أن بدأت المرحلة الثانية والحاسمة في المعارضة والخروج عن الطاعة بإعلان العصيان والتحريض عليه إيذانا» يبدأ التمرد العسكري ومواجهة إجراءات الإمام (عليه السلام) تلك بالسيف والقتال، متخذين من حادثة مقتل عثمان ذريعة لإشعال نار القتال بعد أن لعبو بأوراق خاسرة في السخط والتذمر وتقديم المطالب المشروطة وما إلى ذلك، ولعل أول من أعلن عصیانه دون أية

ص: 248

مقدمات کان معاوية بن أبي سفيان حينما رفض الامتثال إلى أمر الإمام علي (عليه السلام) بعزله عن ولاية الشام، ومبايعته بالخلافة، كما انه رد الوالي الجديد ورفض تسليمه ولاية الشام(65)، وبهذا الإجراء يكون قد عصى الخليفة الشرعي وخرج عن طاعته وانه أصبح على أهبة الاستعداد لخوض المواجهة العسكرية حيث لاسبيل للتعامل معه سوى السيف، فقد روي أن معاوية كتب للإمام علي (عليه السلام) يطلب منه أقراره على الشام مقابل إعلان البيعة، فرفض الإمام (عليه السلام) طلبه بقوله: ((وأما طلبك ألي الشام فاني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس))(66).

وعلى الرغم من ذلك فان الإمام (عليه السلام) اتبع معه أسلوباً سلمياً في بداية الأمر بالاعتماد على المكاتبات والرسل للتوسط في الأمر والحصول على بيعة معاوية وأهل الشام ومن ذلك إرسال جریر بن عبد الله البجلي(67) إلا أن سفارة جرير باءت بالفشل حيث طلب معاوية تقديم الطاعة والبيعة مقابل إقراره على الشام وان يكتب له الإمام علي (عليه السلام) جباية مصر وفي حالة وفاة الإمام (عليه السلام) لايصبح لأحد بعده حق في مبايعته أي أن لا يجعل الإمام (عليه السلام) لأحد بعده في عنق معاوية بيعة وان يختار من أمره ما يحب، إلا إن الإمام (عليه السلام) رفض الاستجابة لمطالب معاوية وكتب لجرير قائلاً: ((.. ولم یکن الله ليراني اتخذ المضلين عضداً)) ثم أردف ذلك بالقول: ((فان بايعك الرجل، وإلا فاقبل والسلام))(68)، وجاء إن الإمام (عليه السلام) کتب لجرير: ((إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الحزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فان اختار الحرب فانبذ إليه، وان اختار السلم فخذ بيعته))(69)، ولكن يبدو أن جرير لم يكن حازما» ولم يكن سفير ذات ثقة وحريص على من ارسله رغم

ص: 249

المدة الطويلة التي بقى فيها في بلاد الشام، والتي قدرت بثلاثة اشهر(70) في حين ذهب ابن أعثم الكوفي انها بلغت اربعة اشهر(71)، وهذا الامر دفع احد الباحثين المحدثين الى تقدير المدة ب(83) يوم معتمدا» على دخول الامام علي(عليه السلام) للكوفة وخروجه منها الى معركة صفين، ووضح ان هذه الفترة الطويلة ساعدت معاوية بان يرتب اموره ويحصن نفسه ويجمع انصاره ومنهم عمرو بن العاص الذي ارسل في طلبه، واكد ان دليل خيانة جرير للإمام علي (عليه السلام) عدم رجوعه عندما سمع رد معاوية وعلى الملاء عندما خطب باهل الشام معلنا» الحرب، وان بقاء جرير لدى معاوية طول هذه المدة تمنع الامام علي (عليه السلام) ((من اتخاذ اي قرار لان رسوله لم يرد جواب معاوية بالدخول في البيعة او الحرب وهذا زاد من قوة معاوية واهل الباطل وضعف من موقف علي (عليه السلام) واهل الحق))(72). وهذا الراي يبدو مقبولا» خاصة وان هناك مواقف متعددة لجرير لا تصب في مصلحة خلافة الامام علي (عليه السلام) سواء قبل سفارته او بعدها(73).

وعلى كل حال وصلت المباحثات الى طريق مسدود، إذ أعطى معاوية للإمام (عليه السلام) الحجة في مقاتلته وهذا ما كان يرجوه، فضلاً عن استخدام معاوية لقميص عثمان حجة أخرى لخوض القتال(74)، وبهذا نجح معاوية في تبرير موقفه وإطماعه في نيل الخلافة بالاعتماد على المكر والخداع والدسائس. وقبل الإشارة إلى الأساليب التي اتبعها معاوية في الخداع والحيلة وصولاً لشن القتال المسلح لابد من الإشارة إلى جذور مطامع بني أمية بشكل عام ومعاوية بشكل خاص في الخلافة فكان حلم قديم راود بني أمية تغلغل في نفوسهم منذ وفاة عمر وترشيح عثمان ضمن الستة من أهل الشورى إذ بذل الأمويين جهوداً دعائية كبيرة لإنجاح عثمان وإيصاله للخلافة حيث لعبت العلاقات القبلية والمصاهرات والتحالفات

ص: 250

دوراً في إيصال عثمان للخلافة(75).

حتى وذكر المسعودي انه عندما بويع عثمان بالخلافة ودخل داره ومعه بنو أمية قال أبو سفيان: ((أفيكم احد من غيركم؟ وقد كان عمي، قالوا لا، قال: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما زلت ارجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة، فانتهره عثمان وساءه ما قال، ونمى هذا القول للمهاجرين والأنصار..))(76)، فكان وصول عثمان للخلافة قد مهد الطريق لنقل الخلافة لبني أمية بإطلاق يد معاوية في الشام وتقريب أقاربه بالمناصب الإدارية، وكان حصار عثمان فرصة ذهبية بالنسبة لمعاوية الذي اظهر تأييده لعثمان واستعداده لإرسال جند الشام، إلا انه لم يتحرك في تقديم أي مساعدة ولم يبعث إليه احد(77)، حتی أن عثمان عرف نوايا معاوية فبعث إليه يستعجله بإرسال المدد فجاء ومعه اثنا عشرة ألف مقاتل تركهم على أبواب الشام وذهب لعثمان وحده فسأله عن المدد فاعتذر بأنه قدم لأخذ رأيه فقال له عثمان: ((لا والله ولكنك أردت أن اقتل فتقول أنا ولي الثأر، ارجع فجئني بالناس فرجع فلم يعد حتى قتل))(78)، ويمكن الاستدلال بشأن خذلان معاوية لعثمان ورغبته في إيصاله لمصير مؤلم طمعاً في الحصول على الخلافة، بما دار بينه وبين عامر بن وائلة(79) من حدیث جاء فيه أن معاوية قال لعامر يوماً: ((الست من قتلة عثمان؟)) فأجابه عامر: ((لا ولكني ممن حضره فلم ينصره)) ثم سأله عامر عن سبب عدم تقديم المساعدة لنصرة عثمان، فأجاب معاوية: ((أليس طلبي بدمه نصرة له)) فضحك عامر

وقال واصفاً حال عثمان ومعاوية بقول الشاعر(80):

لا ألفينك بعد الموت تندبني *** وفي حياتي ما زودتني زاداً

ونجد مصداق ذلك في قول أبي أيوب الأنصاري(81) لمعاوية: ((أن الذي تربص

ص: 251

بعثمان وثبط أهل الشام عن نصرته لأنت))(82)، ولا شك أن انصع دليل نذكره هو توقف رغبة معاوية في المطالبة بدم عثمان بعد توليه الخلافة، لذا فانه رد على أحدى بنات عثمان التي بكت أمامه مطالبة بالاقتصاص والثأر من قتلة أبيها بأنها ينبغي أن ترضى بان تكون بنت عم الخليفة على أن تكون من عامة الناس.

أما عن أساليب المكر والخداع والدسائس التي اتبعها معاوية لتحقيق مبتغاه فكانت تتمثل بجانبين، الجانب الأول هو مد جسور المعارضة لخلافة الإمام علي (عليه السلام) بتحريض الإطراف الأخرى الساخطة على أن ينتقل نشاطهم من التذمر والاستياء إلى العصيان والتمرد العسكري، حيث وصل لأسماع معاوية موقف الزبير وطلحة في المدينة بعد أن باءت محاولاتهم بالفشل في الحصول على الولاية أو الامتيازات المالية وان تكون لهم معاملة خاصة، لذا فان معاوية شعر بان الفرصة مؤاتيه له لفتح جبهة في العراق معادية للخليفة وكان في ذلك ماكراً بارعاً - حينما أوهم الزبير و طلحة بحقهما بالخلافة و بمبايعتهما على التوالي و إن لهم الحق في المطالبة بدم عثمان و إشعال فتيل القتال، حيث ذكر أن معاوية بعد أن فشل في الحصول على موافقة الإمام (عليه السلام) بإقراره على الشام بعث من جانبه كتابا للزبير و طلحة جاء فيه ((لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا و استوثقوا، كما يستوثق الجلب فدونك الكوفة و البصرة و لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنه لا شيء بعد هذين المصرين، و قد بايعت لطلحة بن عبيد الله بعدك. فاظهرا الطلب بدم عثمان، و ادعوا الناس إلى ذلك و ليكن منكما الجدّ والتشمير أظفر كما الله و خذل مناوئكما)) فلما وصل الكتاب للزبير فرح به كثيراً و اعلم به طلحة و من تلك اللحظة أظهرا مخالفة الإمام علي (عليه السلام)(84).

ص: 252

و بذلك حرك معاوية ما كان يجول في نفس الزبير و طلحة من السخط و التذمر و ما يحملانه من أطماع ليس بالولاية فقط و إنما بأوسع من ذلك أي الخلافة، و الدليل على أنهما كانا يطمعان في الخلافة فعلاً أنهما حينما خرجا للبصرة لقيا سعيد بن العاص فسألهما لمن تكون الخلافة إذا ما انتصروا فكان الجواب ((لأحدنا أينا اختاره الناس)) فقال لهم سعيد: ((بل اجعلوه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطالبون بدمه))، فقالا: ((ندع شيوخ المهاجرين و نجعلها لأبنائهم))، فخرج عن مناصر تهم سعيد ابن العاص و آخرين عندما سمعوا قولهم(85).

فالزبير و طلحة فشلا في مداهنة الإمام علي (عليه السلام) أو كما قيل قد ((دخلهما اليأس فاستأذنا في العمرة))(86)، و قيل أنهما طلبا من الإمام (عليه السلام) الخروج من المدينة فقال لهم الإمام (عليه السلام): ((.. سأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بداً فآخر الداء الكي))(87).

وهذا يعني أن الإمام (عليه السلام) كان عارفاً بنواياهم السيئة و تحذيرهم من الغدر إذ عبّر عن ذلك بشكل صريح بقوله: ((ما العمرة تريدان و إنما تريدان الغدرة و نكث البيعة)) فحلفا له، فطلب (عليه السلام) أن يعيدا البيعة فأعاداها بأشد الأيمان و المواثيق، و على الرغم من ذلك فإنه (عليه السلام) كان متأكداً من غدرهما، و حينما تركا المدينة كانا كلما لاقوا أحداً قالوا له: ((ليس لعلي في أعناقنا بيعة))(88)، فنكثا البيعة و توجها للبصرة و هذا إيذاناً يبدأ إشعال نار حرب أهلية، فاضطر الإمام (عليه السلام) إلى خوض معركة فاصلة معهم سنة (36 ه / 656 م) المعروفة بمعركة الجمل(89).

فطلحة و الزبير كانا من اشد المحرضين للخروج على عثمان، و قد أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى دورهم في تألیب الناس على عثمان وادعاءهم فيما

ص: 253

بعد بالمطالبة بدم عثمان وبهذا الصدد قال الإمام (عليه السلام) عن طلحة: ((.. والله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاثة. لئن كان ابن عفان ظالماً كما كان يزعم حين حصره وألب عليه انه لينبغي أن يؤازر قاتليه وان يساند ناصريه، وان كان في تلك الحال مظلوما انه لينبغي أن يكون معه، وان كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي أن يعتزله ويلزم بيته ويدع الناس جانباً فما فعل من هذه الخصال واحدة، وها هو ذا قد أعطاني صفقة يمينه غير مرة ثم نكث بيعته))(90)، وجاء قول الاشتر في وصف الزبير وطلحة ليؤكد دورهما في معاداة عثمان والموالبة عليه ورد فيه قوله: ((.. فان زعما أنها يطلبان بدم عثمان فليقدا من أنفسهما، فأنهما أول من ألب عليه وأغرى الناس بدمه..))(91).

أما الجانب الثاني من الدور الماكر لمعاوية فكان يتمثل بإعلان التمرد داخل الشام وتحريض بني أمية بشكل خاص وأهل الشام بشكل عام على مجابهة الإمام (عليه السلام) تحت ذريعة المطالبة بدم عثمان أيضاً باعتباره صاحب الحق كونه ابن عمه، وهي حجة استخدمها معاوية لتبرير موقفه في عدم المبايعة والطاعة وان ذلك سوف لن يتم إلا بعد تمكينه من القتلة واخذ الثأر، وهذا ما أشار إليه في رسالة وجهها للإمام علي (عليه السلام) بيد أبي هريرة (92) وأبي الدرداء(93)، جاء فيها قوله: ((..وبلغني انك تعتذر من قتل عثمان وتبرئ من دمه وتزعم انه قُتل وأنت قاعد في بيتك وأنت قلت حين قتل اللهم لم ارض ولم أمال. وقلت له يوم الجمل حين نادوا يالثارات عثمان قلت: كب قتلة عثمان اليوم لوجوههم إلى النار. انحن قتلناه وإنما قتله هما وصاحبتهما وأمروا بقتله وأنا قاعد في بيتي، وأنا ابن عم عثمان والمطالب بدمه فان كان الأمر كما قلت فأمكنا من قتلة عثمان وادفعهم إلينا نقلتهم بابن عمنا ونبايعك ونسلم إليك الأمر))(94).

ص: 254

وقد أدرك الإمام علي (عليه السلام) ما كان يسعى إليه معاوية من أثارة الفتنة وما ينطوي عليه كلامه من مكر وحيلة ومراوغة للتشبث بالعصيان ولتأجيج الموقف كي يسفر عن حرب لا مبرر لها سوى الحصول على السلطة، لذا فان الإمام علي (عليه السلام) أجاب المبعوثين جواباً اسقط كل حجج معاوية وكذبّ مزاعمه وفضح نواياه مؤكداً على مسألة مهمة وضرورية ينبغي للإمام علي (عليه السلام) الحصول عليها إلا وهي وحدة الصف من خلال الطاعة والبيعة ليتسنى له فيما بعد النظر بقضية قتل عثمان والقصاص من قاتليه، فكيف للخليفة أن يقوم بهذه المهمة وهناك أطراف متمردة وخارجة عن الطاعة وهو ما أدلى بقوله: ((.. والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين، بعد ما يموت أمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدؤ بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم أماماً عفيفاً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم... ثم يحتكمون إليه في أمامهم المقتول ظلماً ليحكم بينهم بالحق، فان كان أمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه، وان كان قتل ظالماً نظر كف الحكم في ذلك..))(95).

ثم ينتقل الإمام علي (عليه السلام) إلى النقطة الثانية والمهمة وهي التأكيد على وصوله للخلافة باختيار الأمة ومبايعتهم له بعد أن نظروا في الأمر ثلاثة أيام بقوله: ((..أول ما ينبغي أن يفعلوه إن يختاروا أماماً يجمع أمرهم.. ويتابعوه ويطيعوه.. وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والأنصار بعدما تشاوروا بي ثلاثة أيام وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان..))(96)، وأشار إلى أن معاوية ما كان له أن يخرج عن الطاعة، وانه لا يجوز لكل من ظلم أو قتل له قتيل

ص: 255

إن يشق عصا الطاعة ويفرق جماعة المسلمين ويدعوا لنفسه ولم يغفل الإمام (عليه السلام) الإشارة إلى أصحاب الحق الشرعي في المطالبة بدم عثمان إلا وهم أولاد عثمان نفسه إذ أنهم ليسوا صغاراً ويحتاجون لوصاية معاوية أو غيره وهم وحدهم أصحاب الحق الشرعي في تحقيق حقهم بالمطالبة بدم أبيهم أما في حالة عجزهم فعليهم الإقرار بتوكيل معاوية في الأمر ولهم الحق في تقرير العقوبة الملائمة في القصاص أو اخذ الدية أو العفو، فأثنى المبعوثين على الإمام (عليه السلام) وأجابا بالقول: ((..قد والله أنصفت من نفسك وزدت على النصفة وأزحت علته وقطعت حجته وجئت بحج قوية صادقة ما عليها لوم..))(97). وعلى الرغم من ذلك كله فان معاوية رفض البيعة وأصر على العصيان حيث ذكر الهلالي العامري أن معاوية دعى طغاة أهل الشام للطلب بدم عثمان(98)، وروي أن النعمان بن بشير(99) نقل قميص عثمان الذي قتل فيه وعليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة(100) إلى الشام ووضعها بين يدي معاوية، فقام الأخير بتعليق القميص على المنبر لإثارة الناس ضد الإمام علي (عليه السلام) وتحريضهم على التمرد(101).

وبقى طرف مهم في المكر والدهاء والتآمر ضد الإمام علي (عليه السلام) إلا وهو عمر و بن العاص الذي خشى من إصلاحات الإمام علي (عليه السلام) الإدارية والمالية وأبدى استياءً منه، ولاشك انه كان يراقب سير الأحداث عن كثب فتحالف مع معاوية بضمان الحصول على الولاية والأثرة والمال حال نجاحه في الحصول على الخلافة، فقد ذكر انه حينما سمع بإجراءات الإمام علي (عليه السلام) كتب لمعاوية ((ما كنت صانع فاصنع إذا قشرك ابن أبي طالب من كل ما تملكه کما تقشر العصا لحاها))(102).

ويبدو إن الإصلاح المالي كان السبب والدافع الرئيسي لموقف عمر و بن العاص

ص: 256

وانه اعلم بهذا الكتاب تأييده لخطوات معاوية واستعداده للوقوف إلى جانبه لأنه سوف يلاقي نفس المصير من التسوية في العطاء وفي استرداد ما حصل عليه من قطائع وأموال دون وجه حق لبيت المال، وبعد أن حصل معاوية على دعم وتأييد عمر و بن العاص بعث إليه يطلب مؤازرته للعمل معاً، وحينما وصل كتاب معاوية استشار عمر و ولديه في الأمر فرفض عبد الله(103) وأيده محمد(104)، فقال عبد الله: ((باع الرجل دينه)) فقال عمر و بن العاص: ((أن عبد الله خير لي في ديني ومحمد خير لي في دنياي)) ولكن موافقة عمرو في مؤازرة معاوية كانت مشروطة بالحصول على مصر، فوافق معاوية على ذلك(105)، وبعد أن تكاملت حلقات التآمر وإزاء الفتنة التي آثارها معاوية رأى الإمام علي (عليه السلام) أن لا مفر من مواجهة الموقف بالقوة وخوض القتال لمقارعة المتمردين وإعادة وحدة الصف، فوقعت معركة صفين سنة (37 ه / 657 م)، بعد أن فشلت كل المساعي السلمية حيث أعلن الإمام علي (عليه السلام) عن استعداده لمقاتلة معاوية بقوله: ((.. وأنا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما انزل الله، واستأثروا بالفيء، وعطلوا الحدود، وأماتوا الحق، واظهروا في الأرض الفساد، واتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين، فإذا ولي الله أعظم أحداثهم ابغضوه وأقصوه وحرموه، وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه، وأدنوه وبروه، وكانوا ظالمين))(106).

3 - تفرق أصحاب الإمام (عليه السلام) وجنده والتحاقهم بمعاوية

ظهر اثر سياسة الإمام علي (عليه السلام) المالية بشكل كبير وواضح في تفرق العديد من أصحابه ورجاله وجنده عنه والتحاقهم بجبهة التمرد والعصيان في الشام حيث بذل معاوية جهوداً في استقطابهم أو في التحريض أصلا لترك الإمام (عليه السلام) والالتحاق بما وفّره لهم من عطايا وامتيازات لشرائهم وكسبهم

ص: 257

لصفوفه وهو أمر نبه إليه الاشتر الإمام علي (عليه السلام) مشيراً إلى أن معاوية كان يوزع الأموال في الوقت الذي لم يكن الإمام علي (عليه السلام) يفضل شريف ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل لذلك تفرق الناس عنه (107).

وعند التكلم عن اثر السياسة المالية التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام) لابد من الوقوف على الأثر الذي تركه مبدأ التسوية في العطاء بشكل خاص والذي مثل ضربة قاصمة لفئات عديدة كانت منتفعة من المفاضلة لذا فقد تخلف بعضهم عن حضور قسمة الأموال للمرة الأولى بعد تولي الإمام (عليه السلام) الخلافة كطلحة والزبير وابن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش وغيرهم (108)، وبدئوا بالتسلل والخروج من صفوف الإمام (عليه السلام) واخذ عددهم بالتزايد يوماً بعد أخر، ولعل اقرب مثال يمكن أن نذكره بهذا الصد قدوم عدد من رجال قريش فتكلم نيابة عنهم الوليد بن عقبة مشيراً إلى مقتهم من سياسة التسوية وأنهى كلامه بالقول: ((.. وأنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام))(109).

وبعد أن علم الإمام علي (عليه السلام) بذلك فانه لم يأسف عليهم وبعث إلى عامله على المدينة سهل بن حنيف(110) يدعوه إلى عدم الاكتراث لذلك بقوله: ((أما بعد، فقد بلغني أن رجالا من قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم، فكفى لهم غیا، ولك منهم شافياً، فرارهم من الهدى والحق، وايضاعهم(111) إلى العمى والجهل؛ وأنماهم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون إليها، وقد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة، فهربوا إلى الأثرة، فبعداً لهم وسحقاً! أنهم - والله - لم ينفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل..))(112)، فالإمام (عليه السلام) في

ص: 258

كتابه هذا أكد على سياسة التسوية بالتوزيع وليس للأثرة والتفضيل إذ انه (عليه السلام) لا يعطي على الاحساب أو الأنساب كما فعل غيره فهربوا إلى من يستأثر ويؤثر(113).

وحينما شعر الاشتر(114) بخطورة الأمر وان سياسة التسوية أدت إلى تفرق الناس وذهابهم للشام شرح للإمام (عليه السلام) خطورة الموقف وطلب منه بذل الأموال لغاية السيطرة على الوضع(115). إلا أن الإمام (عليه السلام) رفض الإذعان لطلب الاشتر في الانحراف عن العدالة وفي أتباع سياسة المراوغة لغرض كسب المؤيدين كما أبدى عدم تخوفه من قلة أتباعه بالتحاق العديد منهم لصفوف أعداءه، فالقلة القليلة المؤمنة قادرة على تحقيق النصر ومجابهة الباطل وهو ما عبر عنه بقوله: ((.. وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال، فانه لايسعنا أن نؤتي امرأ من الفيء أكثر من حقه وقد قال الله سبحانه وقوله الحق: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بأذن الله والله مع الصابرين)(116)، وقد بعث الله محمداً (صلى الله عليه واله وسلم) وحده، فكثره بعد القلة واعز فئته بعد الذلة، وان يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه، ويسهل لنا حزنه، وأنا قابل من رأيك ما كان الله عز وجل رضاً، وأنت من امن الناس عندي، وانصحهم لي، وأوثقهم في نفسي أن شاء الله))(117)، ونجد ابن عباس(118) أدرك هذه الحقيقة فكتب للإمام الحسن (عليه السلام) بعد استشهاد والده قائلا له: ((..واعلم أن علياً (عليه السلام) أباك أنا رغب الناس عنه إلى معاوية انه آسا - أي ساوى - بينهم في الفيء وسوى بينهم في العطاء فثقل عليهم))(119)، فكانت سياسة التسوية دافعاً رئيسياً في التفرق عن الإمام (عليه السلام) والانضمام لمعاوية.

والأمر الأخر ضمن سياسة الإمام علي (عليه السلام) المالية والذي ساهم في

ص: 259

تفرق أصحابه هو رفضه توزيع الغنائم في معركة الجمل على المقاتلين حيث طلبوا منه أن يقسم بينهم ذراريهم وأموالهم فقال لهم (عليه السلام): ((ليس لكم في ذلك))، فقالوا: ((كيف أحللت لنا دماءهم ولم تحل لنا سبي ذرا ريهم)) فأجاب (عليه السلام): ((حاربنا الرجال فقتلناهم فأما النساء والذراري فلا سبيل لنا عليهن لأنهن مسلمات وفي دار هجرة فليس لكم عليهن من سبيل وما اجلبوا به واستعانوا به على حربكم وضمه عسكرهم وحواه فهو لكم وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض الله لذراريهم وعلى نسائهم العدة وليس لكم عليهن ولا على الذراري من سبيل))(120)، فهذا الأمر بالطبع ولد رد فعل قوي لدى الكثير من أولئك الذين كانوا يرغبون في الحصول على السبايا والأموال كما كانوا يحصلون عليها في السابق(121).

ولا يمكن إغفال اثر سياسة الإمام (عليه السلام) في مراقبة ولاته وعماله ومحاسبته المسيئين منهم ولاسيما أولئك الذين تجاوزوا على أموال بيت المال وحقوق الرعية في أظهار التذمر من الإمام (عليه السلام) وفي تفرقهم عنه والتحاقهم بمعاوية كنا مر بنا(122).

کما تفرق العديد من الوجهاء والإشراف عن الإمام (عليه السلام) بسبب شدته في تطبيق العدالة والتسوية في المعاملة وإقراره للحق الذین هم له كارهون(123)، وهذا الأمر أكده طارق النهدي(124) الذي هرب مع عدد من أبناء قومه من اليانيين لمعاوية بعد أن فشلوا في التوسط لدى الإمام (عليه السلام) في عدم إقامة الحد على الشاعر الحارث النجاشي(125) وحبسه لشرب الخمر في شهر رمضان، فأثار ذلك غضب النهدي بقوله للإمام (عليه السلام): ((.. ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل

ص: 260

سيان في الجزاء، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا، وشتت أمورنا، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار.))(126)، فالنهدي اخطأ في معرفة عدالة الإمام (عليه السلام)، ظنا منه أن الذين بايعوا الإمام (عليه السلام) وابدوا خلافته سوف تصبح لهم مكانة ونفوذ ومفاضلة في المعاملة وبعكس ذلك أولئك الذين تمردوا وخرجوا عن الطاعة، وعلى الرغم من ذلك فان النهدي أكد لمعاوية أن تركه للإمام (عليه السلام) لم يكن سوى لشدته في الحق وبذلك صرح قائلاً: ((فلم يكن رغبة من رغب عنهم، وعن صحبتهم، إلا لمرارة الحق حيث جرعوها، ولوعورته حیث سلكوها غلبت عليهم دنیا مؤثرة، وهوى متبع، وكان أمر الله قدراً مقدوراً. فلقد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الايهم(137)، فراراً من الضيم، وأنفا» من الذلة.. فلا تفرحن يا معاوية أن نحن شددنا نحوك الرحال وأوضعنا أليك الركاب))(128)، وحينما بلغ الإمام (عليه السلام) قول النهدي قال: ((لوقتل النهدي يومئذ لقتل شهید..))(129)، لأنه قال كلمة حق عند سلطان جائر وهي أعظم من الجهاد(130)، فالنهدي لم يهرب لمعاوية لان الحق معه وإنا هرب لمرارة الحق التي لم يستطع تجرعها.

وتبقى نقطة جديدة بالوقوف عليها ألا وهي مسألة خروج عقيل بن أبي طالب(131) للشام والتحاقه بمعاوية بعد إن امتنع الإمام (عليه السلام) من أعطائه مبلغاً من المال، فالروايات تتضارب بشأن وقت خروجه هل كان عهد الإمام (عليه السلام) أم بعد وفاته، حيث روي إن معاوية أراد استغلال مجيء عقيل إليه للطعن في الإمام (عليه السلام) لذا فانه أعدله منبراً، وطلب منه أن يمدحه فقال عقيل (عليه السلام): ((أيها الناس إني أخبركم أني أردت علياً (عليه السلام) على دینه فاختار دينه، وأردت معاوية على دينه فاختارني على دينه..))(132)، وجاء أن

ص: 261

عقيل (عليه السلام) هرب لمعاوية وشارك في صفين إلا أنه لم يقاتل ولم يترك نصح أخيه والتعصب له حيث ذكر أن معاوية قال يوم صفين: ((لا نبالي وأبو يزيد معنا)) فقال عقيل (عليه السلام): ((وقد كنت معكم يوم بدر فلم اغني عنكم من الله شيئاً))(133)، وهنا شبه عقیل (عليه السلام) معاوية وجيشه بالكفار الذين حاربوا الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) في معركة بدر.

وهناك روايات تؤكد أن خروج عقيل (عليه السلام) کان بعد استشهاد الإمام علي (عليه السلام) وانه لم يترك أخاه طوال خلافته، مستدلين بالكتاب الذي بعثه عقیل (عليه السلام) للإمام (عليه السلام) في أواخر خلافته أو على وجه الدقة بعد غارة الضحاك بن قيس الفهري (134) سنة (39 ه / 659 م)، وجواب الإمام (عليه السلام) عليه حيث جاء في كتاب عقيل (عليه السلام) قوله: ((.. فان کنت تريد حملت إليك بني أخيك وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا مت، فو الله ما أحب أن أبقى في الدنيا بعدك فواقاً، واقسم بالأعز الأجل، أن عیشًا نعيشه بعدك في الحياة لغير هنيء ولا نجيع))(135).

ورأى احد الباحثين المحدثين أن حديث التحاق عقيل (عليه السلام) بمعاوية كان من موضوعات الأمويين بقصد الطعن بالإمام علي (عليه السلام) وبأخيه عقيل (عليه السلام) وموقف آل عقيل المناصر للحق والعدالة في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) المباركة سنة (61 ه / 680 م)، ولاشك أن يكون الحوار المنسوب لعقيل (عليه السلام) مع معاوية قد حدث بعد استشهاد الإمام علي (عليه السلام)(137)، حيث ظل عقيل (عليه السلام) مخلصاً وموالياً لأخيه ومدافعاً عنه حتى بعد استشهاده، فقد طلب منه معاوية أن يصف معسكر الإمام (عليه السلام) مقارنة بعسكره فمدح عقيل (عليه السلام) عسكر أخيه وذكر انه كان

ص: 262

يضم الكثير من أهل بدر وانه يشبه عسكر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، وأما عسکر معاوية ففيه المنافقين(137)، وكان عقيل (عليه السلام) مدافعاً عن أخيه في الكثير من المواقف الأخری(138).

ولم تقف معاناة الإمام علي (عليه السلام) في فترة خلافته المباركة عند حد هروب الخونة وأصحاب المنافع الدنيوية وممن لا يستطيع تحمل شدة الحكومة الإلهية العادلة وتحمل مرارة الحق عند ذلك، وإنما نجد مسألة مهمة أخرى وهي عدم طاعة أغلب أفراد جيش الإمام (عليه السلام) وأصحابه له رغم انه على الحق، في حين نجد في جیش معاوية وأصحابه الطاعة العمياء رغم انه على الباطل، فهناك الكثير من الخطب للإمام علي (عليه السلام) مع أفراد جيشه يحثهم فيها على الجهاد ومقارعة الأعداء، فلم يجد منهم إلا التباطؤ والتخاذل فكانوا نفوس موحدة وقلوب مشتتة(139). منها قوله (عليه السلام) في أحدى الغارات التي شنها جيش معاوية على أطراف دولة الإمام علي (عليه السلام): ((فيا عجباً عجباً، والله يمت القلب، ويجلب الهم، من اجتماع هؤلاء على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فقبحاً لكم وترحاً(140) حيث صرتم غرضاً یرمی، يغار علیکم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حماره الغيظ(141)، أمهلنا ينسلخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صباره القر(142)، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فانتم والله من السيف افر! یا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لو وددت أني لم أراكم ولم أعرفكم معرفة - والله - جرت ندماً وأعقبت سدماً. قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نُغب() التهام أنفاسا»،

ص: 263

وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان... ولكن لا رأي لمن لايُطاع))(143)، وقال (عليه السلام): ((أنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، واني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم، ولكني لا أری أصلا حكم بإفساد نفسي، اضرع إلى الله خدودكم، وأتعس جدودكم! إلا تعرفون الحق کما تعرفون الباطل، ولا تبطلون الباطل كأبطالكم الحق))(144). وهذين النصين يدلان على مدى معاناة الإمام (عليه السلام) مع أفراد جيشه والحجج الواهية التي كانوا يتحججون بها من اجل ترك واجبهم المقدس في الدفاع عن دولتهم والانصياع لأوامر خليفتهم.

في حين نجد الطرف الأخر وهم أصحاب معاوية وجيشه أكثر طاعة وتنفيذاً للأوامر رغم أن أميرهم كان عاصياً لله على حد تعبير الإمام (عليه السلام)(145)، والأمثلة على تلك الطاعة متعددة، منها قول النعمان بن بشير لمعاوية عندما أراد أن يرسل جيش ليغير على عين التمر(146): ((ابعثني فان لي في قتالهم نية وهوی))(147)، وقول عبد الله بن الحضرمي(148) لمعاوية: ((أنا سهم في كنانك، وأنا من قد جربت، وعدو أهل حربك، وظهرك على قتلة عثمان، فوجهني إليهم متی شئت))(149)، أي إن هناك تحمس من هؤلاء المرتزقة لأوامر أميرهم العاصي لله تعالى، مقابل تخاذل وتباطؤ عن نصرة أمام الحق والخليفة الشرعي، فما هي يا ترى الأسباب التي دعت إلى ذلك الموقف العجيب؟.

توجد هناك عدة أسباب لهذا الموقف منها ما ذكرناه سابقاً من سياسة الإمام علي (عليه السلام) المالية وشدته في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بحذافيرها وعدم التساهل في أدنی تجاوز عليها، وحتى ولو كان ذلك المتجاوز اقرب الناس إليه، وفي مقابل ذلك تساهل معاوية وتجاوزه على أحكام الشريعة الإسلامية في سبيل الملك و الحكم لا من اجل تثبيت أركان الدين الإسلامي والدليل على ذلك

ص: 264

قول معاوية: ((أني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا أنكم لتفعلون ذلك. ولكن قاتلتكم لأتأمر عليکم وقد أعطاني الله ذلك وانتم له کارهون))(150)، والسبب الأخر ما بينه الجاحظ في علة عصيان أهل الكوفة وطاعة أهل الشام بقوله: ((أن أهل العراق أهل نظر وذوا فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع البحث والتنقيب يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء، وإظهار عيوب الأمراء. وأهل الشام ذو بلادة وتقليد وجمود على رأي واحد؛ لايرون النظر، ولا يسألون عن مغيب الأحوال. وما زال العراق موصوفاً أهله بقلة الطاعة، وبالشقاق على أولي الرئاسة))(151)، أي أن الطبيعة النفسية والعقلية لأهل العراق تجعلهم دائمي الاستفسار والسؤال بعكس أهل الشام الموصوفين بالجمود والبلادة وهذا ما أكده الإمام علي (عليه السلام) لواليه على مكة قثم بن عباس(152) واصفاً آهل الشام بقوله: ((.. العمي القلوب، الصم الإسماع، الكمه الإبصار، الذين يلبسون الحق بالباطل، ويطيعون المخلوق في معصية الخالق، ويحتلبون الدنيا درهما بالدين، ويشترون عاجلها بأجل الإبرار المتقين..))(153)، وهناك الكثير من الروايات التي تدل على غباء وجمود أهل الشام كصلاة معاوية فيهم صلاة الجمعة في يوم الأربعاء وكادعاء الشامي على الكوفي بأنه سرق جمله وهو ناقة واقر ذلك معاوية(154).

ويضاف إلى ذلك الحملات الدعائية العشواء التي قام بها معاوية ضد الإمام علي (عليه السلام) وغسل أدمغة أهل الشام، الذين لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا الرسول (صلى الله عليه وآله) وان معاوية خال المؤمنين لان أخته أم حبيبة(155) زوجة الرسول (صلى الله عليه واله) وانه كاتب الوحي، وأن بني أمية وعثمان كان لهم الدور الكبير في الإسلام، ذلك التعتيم الإعلامي جعل هؤلاء لا يعرفون من

ص: 265

هو الإمام (عليه السلام) وكل ما يعرفونه عنه انه يجسد الخلفاء وقام بقتل عثمان، والدليل على ذلك ما ذكرته المصادر أن معاوية أرسل کتاب للإمام (عليه السلام) يبين فضائله المزعومة، فأجابه الإمام (عليه السلام) بكتاب يبين فيه فضائله و دوره في الإسلام مع أقربائه فأمر معاوية أصحابه بقوله: ((اخفوا هذا الكتاب لايقرؤه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب))(156)، بل أن أعلامه المغرض أوهم أهل الشام أن الإمام (عليه السلام) لايصلي، فقد ذكر انه عندما استشهد الإمام (عليه السلام) في محرابه استغرب أهل الشام من ذلك، لذلك نجد أن الإمام (عليه السلام) قد أشار إلى ما ذكرناه أنفا» بقوله: ((..جمعوا من كل أوب، وتلفظوا من كل شوب، ممن ينبغي أن يفقه ويؤدب، ويعلم ويدرب، ويولي عليه، ويؤخذ على يديه، ليسو من المهاجرين والأنصار))(157).

وهناك سبب أخر أشار إليه الإمام علي (عليه السلام) عندما أجاب على سؤال وجهه إليه عبيدة السلماني(158) عن سبب عزوف الناس عنه وعدم طاعته کما کانوا يفعلون ذلك مع أبي بكر وعمر بان ذلك يعود لتغيير طبائع الناس مع تغيير الظروف التي واكبت عهده(159).

وعلى الرغم من تلك الأسباب التي ذكرناها أنفا» كانت أسباب مهمة في عدم الطاعة، إلا أن هناك سبب مهم جداً أغفله الكثير، وهو أن الأغلبية من أهل الكوفة وجنده لم يكونوا ينظرون للإمام (عليه السلام) بأنه الوصي والولي المأمور بطاعته من قبل الله تعالى ومن قبل الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، وإنما كانوا ينظرون للإمام (عليه السلام) بأنه الخليفة الرابع حسب الترتيب وانه إنسان عادي كغيره ممن سبقه، لذلك كانوا يعترضون عليه ويؤذوه، فقد ورد أن الإمام (عليه السلام) وبخ أصحابه في أحدى الغارات وذكرهم بالرسول (صلى الله عليه واله

ص: 266

وسلم) وبأصحابه قام إليه أحد الأشخاص وقال له: ((ما أنت كمحمد ولا نحن أولئك الذين ذكرت، فلا تكلفنا ما لا طاقة لنا به..))(160)، فهم لاينظرون له نظرة المؤمنين بولايته والمجاهدين من اجلها، وهذا بالطبع عائد لطول الفترة التي مرت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وتسلم الخلافة أشخاص غيره، فإقرار المجتمع بالوصية والولاية أمر مهم جداً حتى يمتثلوا لأوامره وتوجيهاته ولأهميتها نرى بان الإمام (عليه السلام) يوصي رفاعة بن شداد(161): ((لاتستعمل من لايصدقك ولا يصدق قولك فينا وإلا فالله خصمك وطالبك))(162).

لذلك نجد أن الطاعة العمياء للإمام (عليه السلام) متمثلة بمجموعة من أصحابه الخاص الذين كانوا يشهدون بأنه الولي والوصي والمنصب من قبل الله تعالى وانه يجب أن يتسلم الخلافة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وعدوا من اخذ الخلافة غاصب لها كالأنصار وغيرهم من أصحابه الخلص(163)، فنجد أن المؤمن بأحقية الإمام (عليه السلام) حتى وان تعرض لعقوبات فانه لايهرب إلى معاوية أو يعصي أوامر الإمام (عليه السلام) و نجد ذلك واضح من قول نعیم بن دجاجة(164) للإمام (عليه السلام) عندما أمر بضربه ((يا أمير المؤمنين أن المقام معك لذل، وان فراقك لكفر))(165)، وهذا يدل على صعوبة تطبيق المبادئ التي يريدها الإمام (عليه السلام) من جهة، وإقراره بأحقيته وولايته من جهة أخرى، لذلك فان الابتعاد عنه يعد کفراً وخروجاً على الإيمان.

وعلى العموم فان الإمام علي (عليه السلام) لم يكترث لتفرق الناس من حوله والتحاقهم بعدوه وعدو الإسلام معاوية، وهو بذلك يقول: ((لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبن ابن أبيك - ولو أسلمه الناس - متضرعاً متخشعاً ولا مقراً للضيم واهناً، ولا سلس الزمام للقائد، ولا

ص: 267

وطئ الظهر للراكب المتعقد، ولكنه كما قال اخو بني سليم:

فأن تسألني كيف أنت فأنني *** صبور على ريب الزمان صليب

يعز عليّ أن ترى بي كآبة *** فيشمت عاد أو يساءُ حبيب)(166).

الخاتمة:

بسم الله أوله وأخره حمدا» كثيرا» وأصلي واسلم على نبي الرحمة محمد واله الطيبين الطاهرين المعصومين، لقد توصلت الدراسة إلى النقاط التالية:-

لقد جاء الامام علي (عليه السلام) بمنهج اصلاحي متكامل للدولة الاسلامية التي فقدت فيها مقومات العدالة في الفترة التي تلت استشهاد الرسول (صل الله عليه واله وسلم)، وخاصة في فترة حكم عثمان بن عفان الذي منح خيرات الدولة إلى اقاربه وغيرهم ممن سار بركاب السلطة.

أثبتت الدراسة مدى أثر السياسة الإدارية والمالية التي انتهجها الإمام علي (عليه السلام) على ظهور جبهات المعارضة التي شكلتها الفئات المتضررة وأصحاب المصالح والمطامع السياسية، حيث اتخذت المعارضة أسلوب التمرد والعصيان وصولاً إلى المواجهات العسكرية وخوض القتال.

للأسف الشديد لم يكن معارضي الامام علي (عليه السلام) متوقف على انصار السلطة السابقة، وانما تفرق عن الامام علي (عليه السلام) بعض المحسوبين عليه بسبب الطمع في الاموال او الحصول على المناصب والحرب الى معاوية وهذا لا يتناسب مع فكر الامام علي (عليه السلام) السياسي والاداري والمالي.

والبعض منهم لم يهربوا بسبب ماذكرنا وانا بسبب عدم تحملهم لطريق الحق الذي يمثله الامام علي (عليه السلام)، حتی وصف احدهم هروبه انه

ص: 268

بسبب ((مرارة الحق)).

هوامش البحث:

(1) اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي (تحقيق: العلامة محمد صادق ال بحر العلوم الطباطبائي، النجف الاشرف / 1939)، ج 2، ص 125، ص 15؛ المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر (تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط - 3، القاهرة / 1958)، ج 2، ص 344، ص 246؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة (تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، ط - 1، بيروت / 1987)، ج 5، ص 11 - 12.

(2) للاستزادة ينظر. ابن سعد: الطبقات الكبرى (تحقيق: محمود ابراهیم زايد، ط 10، بیروت د:ت)، ج 3، ص 64؛ ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء تحقيق: علي شري، بيروت / 1990)، ج 1، ص 50؛ اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 159؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 199.

(3) الروقة بالضم حسان جمع رائق، وغلام وجارية روقة وهي أيضا الشيء اليسير والجميل، وبالفتح الجمال الرائق. ينظر الفيروز آبادي: القاموس المحيط (د: م / د: ت)، ص 1147.

(4) الكليني: الأصول من الكافي (صححه وعلق عليه: علي اکبر الغفاري، ط. 6، طهران / 1998)، ج 8، ص 39؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 37.

(5) للاستزادة عن ذلك ينظر. ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 3، ص 71؛ ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة، ج 1، ص 62 - 64؛ البلاذري: انساب الأشراف (تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط - 2، قم المقدسة / 1995)، ص 206؛ اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 153، 158، 161؛ الطبري: تاريخ الأمم و الملوك (تحقیق وتعليق الاستاذ. عبد أ. علي مهنا، ط - 1، بیروت/ 1998)، ج 4، ص 16، 125، 199 - 1998؛ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم المنتظم في تاريخ الملوك والامم (تحقيق: محمد ومصطفى عبد القادر عطا، ط 10، بیروت / 1992)، ج 5، ص 44، ص 65؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ ( تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي، ط. 2 بیروت / 1995)، ص 284؛ ابن أبي الحديد المعتزلي:شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 39، ص 41 - 84؛ ابن كثير: البداية والنهاية (تحقيق: د. فالح حسين، ط -

ص: 269

1، بیروت / 1987)، ج 7، ص 188.

(6) ينظر. العيساوي، علاء كامل صالح: الإصلاح الإداري في عهد الإمام علي (عليه السلام) الرقابة والمكافاة في العمل الاداري انموذجا (بحث غير منشور)، ص 1 - 10.

(7) للاستزادة ينظر. اليعقوبي : تاریخ، ج 2، 170 - 171؛ ابن أبي الحديد المعتزلي:شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 38؛ النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب (تحقیق: محمد رفعت فتح الله، مراجعة: ابراهيم مصطفى، القاهرة / 1975) ج 11، ص 92؛ الحر العاملي: وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة (تحقيق: مؤسسة اهل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، ط. 1، قم المقدسة / 2003) ج 15، ص 107..

(8) للاستزادة ينظر. ابو يوسف: الخراج (د: م / د:ت)، ص 232؛ الضبي الاسدي: الفتنة ووقعة الجمل (تحقيق: احمد راتب عرموش، ط - 1، بيروت / 1971) ص 181؛ الطبري: تاریخ الأمم، ج 4، ص 250؛ ابو حنيفة الدينوري: الإخبار الطوال (تحقيق: عبد المنعم عامر، القاهرة / 1959)، ص 151؛ المغربي: دعائم الإسلام (القاهرة / 1965)، ج 1، ص 395.

(9) المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 362.

(10) نهج البلاغة (ضبط نصه ونظم فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، ط - 2 بیروت / 1982)، ص 57؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 269؛ محمد عبده: شرح نهج البلاغة (القاهرة / د:ت)، ج 1، ص 46.

(11) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 269.

(12) أبو محمد، طلحة بن عبيد الله بن عثمان ابن عمروا التيمي. من أوائل المسلمين اشترك في حروب الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بایع الإمام (عليه السلام) ثم نكث وخرج مع المتمردين في معركة الجمل قتله مروان ابن الحكم في نفس المعركة سنة (36 ه / 657 م) ينظر. ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 3 ص 244 - 250؛ ابن الجوزي :صفوة الصفوة (تحقيق: محمود فاخوري و د. محمد رواسي قلعة جي، بيروت / 1979)، ج 1، ص 336 - 361: الذهبي: تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والاعلام (القاهرة / 1968)، ج 2، ص 163 - 166.

(13) أبو عبد الله، الزبير بن العوام بن خویلد بن أسد بن عبد العزی بن قصي بن كلاب

ص: 270

القرشي الاسدي، اسلم في بداية الدعوة الإسلامية اشترك في جميع حروب الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بایع الإمام علي (عليه السلام) ونکث بیعته وخرج عليه في معركة الجمل قتله ابن جرموز بعد انسحابه في سنة(36 ه / 657 م) ينظر. البلاذري: انساب الإشراف، ص 161 - 170؛ ابن الجوزي: صفوة الصفوة، ج 1، ص 362 - 355، الذهبي: سير أعلام النبلاء (تحقیق: شعيب الأرناؤوط، ومحمد نعیم العرقسوسي، بيروت / 1993)، ج 2، ص 153 - 158.

(14) أبو عمرو، سعید بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، قتل والده يوم بدر کافراً على يد الإمام علي (عليه السلام)، نشأ في حجر عثمان - اشترك في الفتوحات الإسلامية وتولى الكوفة لعثمان والمدينة المنورة لمعاوية ثم عزله توفي سنة (53 ه / 673 م) وقيل سنة (59 ه / 679 م) ينظر. ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 5، ص 96 - 289؛ الذهبي تاريخ الإسلام، ج 2، ص 286 - 289؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 8، ص 83 - 87؛ ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة (تحقيق: علي محمد البجاوي، ط. 1، بيروت / 1992)، ج 3، ص 107 - 108.

(15) ابو وهب الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن ابي عمروابن امية بن عبد شمس وامه اروی بنت کریز من بني عبد شمش وهو اخو عثمان في ال رضاعة، ولاه الكوفة ثم عزله بعد آن شرب الخمر وصلى صلاة الصبح باربع ركعات، وصف بالفسق. توفي في الرقة. ينظر. ابن سعد: الطبقات الکبری، ج 6، ص 26 - 25؛ ابن خیاط: تاریخ خليفة ( تحقيق: د. اکرم ضیاء العمري، النجف الاشرف / 1967)، ص 118؛ ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة (طهران / 1957)، ج 5، ص 90 - 92.

(16) أبو عبد الله، عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي. كان من اشد الناس على الإسلام. اسلم في صلح الحديبية. ولاه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) إمرة جيش ذات السلاسل واستعمله على عمان. اشترك في العديد من الفتوحات في زمن عمر وولاه على مصر. انحاز إلى جانب معاوية وعرف بالمكر والدهاء والخديعة توفي في سنة ( 43 ه / 663 م). ينظر. الكندي: کتاب الولاة والقضاة (تصحیح:رفن کست، بيروت / 1908) ص 6 - 10؛ ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 4، ص 115 - 118؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، ج 2،

ص: 271

ص 35؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (تحقيق: محمود مصطفی عبد القادر عطا، ط - 1، القاهرة / 1980)، ج 1، ص 113 - 116.

(17) عقبة بن أبي معيط واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو واسم أبي عمرو ذکوان بن أمية القرشي، كان من ألد أعداء الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بالغ في إيذاء الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) حتى كان مع أبي لهب يطرحان الروث على بابه عرف بلقب عدو الله أهلكه الله تعالى في معركة بدر کافراً. ينظر. ابن سعد: الطبقات الکبری، ج 1، ص 201 - 202؛ ابن هشام: سيرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) (تحقیق: طه عبد الرؤوف، ط . 1، بیروت / 1991)، ج 2، ص 207، 263؛ ابن خياط: الطبقات (تحقيق د. اکرم ضیاء العمري، ط - 2، الرياض / 1982)، ص 11؛ ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الاصحاب (تحقيق: علي محمد البجاوي، ط - 1، بیروت / 1960)، ج 2، ص 789.

(18) أبو سعيد العاص بن أمية القرشي، كان عدواً لله ورسوله (صلى الله عليه واله وسلم) ومن المناوئين للدعوة الإسلامية أهلکه الله تعالى في معركة بدر کافراً على يد الإمام علي (عليه السلام) ينظر. ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 5، ص 31؛ ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 2، ص 622؛ ابن حجر العسقلاني: الإصابة، ج 3، ص 107.

(19)- ابن هشام: سيرة النبي، ج 3، ص 264؛ اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 165؛ ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 2، ص 622؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 38.

(20) أبو مروان الحكم ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي عم عثمان بن عفان، اسلم يوم فتح مكة مجبراً، أخرجه الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من المدينة إلى الطائف لأفعاله المشينة و محاولة إيذاء المسلمين ولعنه، أعاده عثمان في خلافته توفي سنة (31 / 651 م) وقيل سن(32 ه / 652 م). ينظر. ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 1، ص 395 - 360؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، ج 2، ص 95 - 97؛ ابن حجر العسقلاني: الإصابة، ج 2، ص 104 - 105.

(21) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 339.

(22) اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 153؛ الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 22 - 24؛

ص: 272

المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 160؛ ابن الأثير : الكامل في التاريخ، ج 3، ص 4؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 230، 234؛ المجلسي، بحار الأنوار (تحقیق و نشر: مؤسسة الوفاء، بیروت / 1984)، ج 76، ص 99.

(23) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 42.

(24) الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 622.

(25) اليمن: وحدودها مابين عمان إلى نجران ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشجر وسميت باليمن لأنها عن يمين الكعبة وقيل أنها سميت بذلك قبل إن تعرف الكعبة لأنها عن يمين الشمس أو بتیمن ابن قحطان لتیامنهم. ينظر. البكري: معجم ما استعجم من اسماء البلاد والمواضع (تحقيق: مصطفى السقا، ط . 3 / 1983)، ج 4، ص 1401؛ یاقوت الحموي: معجم البلدان (تحقيق: صلاح بن سالم المصراتي، ط. 1، بيروت / 1997)، ج 5، ص 447 - 449.

(26) ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة، ج 1، 71.

(27) العقاد، عباس محمود: عبقرية الإمام علي (بيروت / د:ت)، ص 92.

(28) اليمامة: مأخوذة من اسم طائر يقال له اليمام واحدته یمامة، وهي مدينة تقع في الإقليم الثاني وقيل الثالث وهي معدودة من نجد وتبعد عن البحرين عشرة أيام وقاعدتها حجر وهي من أحسن بلاد الله و أكثرها خيراً وشجر ونخل ينظر یاقوت الحموي: معجم البلدان، ج 5، ص 442.

(29) البحرين: بلد مشهور بين البصرة وعمان وهي في الإقليم الثاني وقيل في الثالث وهو اسم جامع لبلاد على ساحل بحر الهند. وهجر قصبتها. وقيل أنها من أعمال العراق. وحدها من عيان ويشمل اليمامة. ينظر البكري: معجم ما استعجم، ج 1، ص 228؛ یاقوت الحموي:

معجم البلدان، ج 1، ص 346 - 349.

(30) اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 167.

(31) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 231.

(32) وكيع: أخبار القضاة (تحقیق وتعليق: عبد العزيز مصطفى المراغي، بيروت / د:ت)، ج 3، ص 21؛ ابن عبد ربه: العقد الفريد (شرح وصححه وعنون موضوعاته ورتب

ص: 273

فهارسه: احمد الزين، احمد امین، ابراهيم الابياري، القاهرة / 1997)، ج 1، ص 121؛ الماوردي: أدب الدنيا والدين (تحقيق: مصطفى السقا، بغداد / 1983)، ص 220؛ محب الدين الطبري: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربی (تقديم ومراجعة: جميل ابراهيم حبيب، بغداد / 1984)، ص 212.

(33) ينظر. ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة، ج 1، 71؛ اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 167: الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 922.

(34) ابن عقدة الكوفي: 218 - فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (جمعه و رتبه وقدم له: عبد الرزاق حمد حسين حرز الدين، ط. 1، قم المقدسة / 2001)، ص 93؛ ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) (قم المقدسة، / 1909)، ج 2، ص 21؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 40.

(35) ابن عقدة الكوفي: فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ص 93 - 95؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 21؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 41 - 42.

(36) ينظر ذلك في. حسن، إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي (ط 7، القاهرة، / 1964)، ج 1، ص 267 - 268؛ جرداق، جورج: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية (بيروت / 1959) علي وحقوق الانسان، ج 1، ص 191؛ علي وعصره، ج 4، ص 64 - 66؛ احمد شلبي: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ج 1 - العرب قبل الإسلام السيرة النبوية العطرة - الدعوة الإسلامية وفلسفتها - الخلفاء الراشدون (ط - 5 القاهرة / 1970)، ج 1، ص 335، محمد: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية (ط - 2، بیروت / د: ت)، ص 112.

(37) عثمان، محمد عبد الزهراء: المعارضة السياسية في تجربة أمير المؤمنين (عليه السلام) (ط - 1، بيروت / 2003)، ص 47 - 48.

(38) یاسن، نجمان: تطور الأوضاع الاقتصادية في عصر الرسالة والراشدین (ط - 1، بغداد / 1991)، ص 294.

(39) ابو سعید ويقال ابو خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك بن زید بن لوذان بن عمرو من

ص: 274

بني النجار الخزرجي الانصاري، من صحابة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) توفي سنة (45 ه / 665) وعمره (65) سنة. ينظر. الذهبي: سير اعلاء النبلاء، ج 2، ص 426 - 441 .

(40) المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 342؛ عباس محمود العقاد: عبقرية الامام علي، ص 64.

(41) العقيق: يطلق هذا الاسم على كل مسيل ماء شقه السيل في الأرض فأنهره ووسعه عقیق، وفي بلاد العرب أربع اعقة وهي أودية عادية شقتها السيول، وهذا هو عقیق تابع للمدينة وفيه عيون ونخل وهو ما يلي الحرة مابين ارض عروة بن الزبير إلى قصر المراجل. ينظر. ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 4، ص 138 - 139. (42) أبو الأسود مقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة القضاعي الكندي، يقال له المقداد بن الأسود لأنه تربى في حجر الأسود بن عبد يغوث الزهري فتبناه وقيل بل انه اسود اللون وقيل انه أصاب دم في کنده فهرب إلى مكة وحالف الازد. وكان من السابقين في الإسلام وشهد بدر توفي سنة (33 ه / 653 م). ينظر أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (تحقيق: حسام الدين المقدسي، ط - 4، القاهرة / 1980)، ج 1، ص 172 - 186؛ ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 4، ص 1480 - 1482؛ ابن الجوزي: صفوة الصفوة، ج 1، ص 423 - 426؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 385 - 389.

(43) المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 342 - 343؛ عباس محمود العقاد: عبقرية الامام علي، ص 63 - 64.

(44) ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 3، ص 124 - 139؛ النويري: نهاية الأرب، 19، ص 452؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 7، ص 136 - 164.

(45) الإسكندرية: وهي مدينة في مصر بناها الاسكندر المقدوني فسميت باسمه وهي تقع قرب کوره الجوف الغربي وكورتا أخنا ورشيد ويقال أنها ذات العياد وهناك أيضا» الإسكندرية في العراق. ينظر. یاقوت الحموي: معجم البلدان، ج 1، ص 124، 155.

(46) ينظر ذلك في. ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 3، ص 108 - 110؛ المسعودي: مروج

ص: 275

الذهب، ج 2، ص 342؛ النويري: نهاية الأرب، ج 20، ص 97 - 100؛ ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب (تحقيق: شعيب الأرناؤوط، محمد نعیم العرقسوسي ط. 9، بیروت / 1993)، ج 1، ص 43؛ عباس محمود العقاد: عبقرية الامام علي، ص 63.

(47) الساج: ضرب من الشجر وهو أيضا» الطيلسان الأخضر والأسود و جمعه سیجان ينظر. الفيروز آبادي: القاموس المحيط، ص 249؛ الرازي: مختار الصحاح (تحقيق: محمود خاطر، بيروت / 1995)، ص 134.

(48) المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 342؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 316؛ السخاوي: التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (تحقيق: عزيز الله العطاري، ط - 1، بيروت / 1993)، ج 2، ص 145 - 146.

(49) ابن كثير البداية والنهاية، ج 7، ص 134.

(50) ابو ذر جندب بن جنادة الغفاري، من خيرة اصحاب الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، وصف بانه صادق اللهجة وعرف بالورع والتقوى والزهد والعلم. كان من الموالين للإمام علي (عليه السلام) . وقام بانتقاد عثمان والثورة بوجهه بسبب تبذيره لمال المسلمين فنفاه لبلاد الشام ثم اعاده معذبا» مهانا» ثم نفاه إلى الربذة وتوفي هناك وحيدا» في سنة (32 ه / 652 م). ينظر اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 159 - 161؛ الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 59؛ المسعودي: مروج الذهب، ج 2، 348 - 351؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 8، ص 256 - 257؛ الذهبي: تاريخ الاسلام، ج 2، ص 111 - 115.

(51) ينظر اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 159؛ الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج 3، ص 54، ج 4، ص 30 - 31؛ المسعودي: مروج الذهب، ج 2، 348 - 349؛ ابن الجوزي: صفوة الصفوة ج 1، ص 596؛ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 10؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 19، ص 442 - 446؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 70؛ الحارثي: منن الرحمن في شرح المنظومة المسماة بوسيلة الفوز والآمان (علق عليها وشرحها الشيخ جعفر محمد النقدي، النجف الاشرف / 1915)، ص 247.

(52) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 114.

(53) نهج البلاغة، ص 114.

ص: 276

(54) عمارة، محمد وآخرون: علي ابن ابي طالب - نظرة عصرية جديدة (ط - 3، د: م / 1980)، ص 272.

(55) نهج البلاغة، ص 42؛ الكليني: الأصول من الكافي، ج 1، ص 369؛ محمد عماره و آخرون: علي ابن أبي طالب نظرة عصرية جديدة، ص 27.

(56) ابو اليقضان، عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس المذحجي العبسي مولى بني مخزوم، من نجباء صحابة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من السابقين للاسلام ومن عذب في الله وابويه اول شهيدين في الاسلام شهد جميع معارك الرسول (صلی الله عليه واله وسلم). كان من الموالين للامام علي (عليه السلام) ومن المدافعين عن حقه اشترك في الجمل وقتلته الفئة الباغية في معركة صنين سنة(37 ه / 657 م)، وعمره (93) سنة ينظر: ابن سعد: الطبقات الکبری، ج 3، ص 246 - 254؛ ابن الجوزي: صفوة الصفوة ج 1، ص 442 - 446.

(57) لم اعثر على ترجمته.

(58) ابن عقدة الكوفي: فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ص 93؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 421؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 40 - 41.

(59) ابن عقدة الكوفي: فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ص 93 - 94؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 421؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: ش رح نهج البلاغة، ج 7، ص 41 - 42.

(60) ابن عقدة الكوفي: فضاءل الامام علي (عليه السلام)، ص 93 - 95؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 21؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغه، ج 7، ص 41 - 42.

(61) الهلالي العامري: السقيفة (تحقیق وتعليق: الحسني العلوي النجفي، د: م / د:ت)، ص 132.

(62) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 42.

(63) ينظر. 2 - من هذا البحث (العصيان والتمرد المسلح)، ص 6 - 11.

(64) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 38 - 39، ورواه اليعقوبي: تاریخ،

ص: 277

ج 2، ص 195 [بلفظ مختلف].

(65) الضبي الاسدي: الفتنة ووقعة الجمل، ص 99؛ الطبري: تاريخ الامم، ج 4، ص 165؛ أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، ص 141؛ النويري: نهاية الأرب، ج 20، ص 22.

(66) ابن أبي الحديد المعتزلي : شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 167؛ المجلسي، بحار الانوار، ج 33، ص 110.

(67) ابو عمرو جریر بن عبدالله بن مالك بن نضر بن ثعلبة بن جشم بن عوف البجلي القسري، أدرك النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) و بایعه في سنة (10 ه / 631 م)، اشترك في معركة القادسية وارسل من قبل الامام علي (عليه السلام) رسولا» إلى معاوية. توفي سنة (54 ه / 674 م). ينظر. الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 530 - 537؛ ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب (ط - 1، بیروت / 1984)، ج 2، ص 63 - 64.

(68) المنقري: وقعة صفين (ط - 2، قم المقدسة / 1983)، ص 55؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 87.

(69) نهج البلاغة، ص 318؛ المنقري: وقعة صفين، ص 55؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 87؛ ج 14، ص 45.

(70) الدمشقي: جواهر المطلب في مناقب علي (تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط 1، قم المقدسة / 1995)، ج 1، ص 371.

(71) کتاب الفتوح (تحقیق: علي شيري، ط 10، بیروت / 1991)، ج 2، ص 522.

(72) عبد الكاظم، حارس رمیلي: کتاب وقعة صفين للمنقري - دراسة تحليلية (رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة البصرة / 2014)، ص 144 - 145.

(73) للاستزادة ينظر. ابن ابي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 70؛ البحراني: غاية المرام و حجة الخصام في تعيين الامام من طريق الخاص والعام (تحقيق: علي عاشور، بیروت / د:ت)، ص 287؛

(74) ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة، ج 1، ص 103 بالمسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 362.

(75) ينظر ذلك في. نهج البلاغة، ص 49؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1،

ص: 278

ص 184 - 188؛ جعفر، نوري: علي ومناوئوه (قدم له: الأستاذ عبد الهادي مسعود، راجعه وعلق عليه: السيد مرتضى الرضوي، ط 4، القاهرة / 1976)، ص 69 - 70؛ عبد الزهراء عثمان محمد: المعارضة السياسية، ص 66.

(76) مروج الذهب و معادن الجوهر، ج 2، ص 351 - 352.

(77) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 139 - 140.

(78) اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 163.

(79) أبو الطفيل عامر بن واثلة وقيل واثلة بن عبد الله بن عمر الكناني الليثي رأى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهو شاب وحفظ عنه أحاديث، وهو من الفرسان، وعد أخر من توفي من الصحابة، توفي سنة (100 ه / 719 م) و قيل سنة (102 ه / 721 م) وقيل سنة (107 ه / 726 م). ينظر. أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، ج 1، ص 190؛ ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، ج 5، ص 205؛ تهذيب التهذیب، ج 7، ص 295.

(80) الشيخ المفيد: الأمالي (ط. 1، قم المقدسة / 1992)، ص 115؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 42.

(81) ابو ایوب خالد بن يزيد بن كليب الخزرجي الانصاري، من خيرة اصحاب الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، تولى ولاية المدينة المنورة بعد سهل بن حنیف الا انه ترکها في غارة بسر بن ارطأة في سنة (39 ه / 659 م). واستخلف شخص من الأنصار مکانه، استشهد في القسطنطينية سنة (51 ه / 671 م). ينظر. ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 3، ص 201، 384 - 385؛ ابن خياط: تاریخ خليفة، ج 1، ص 184؛ الذهبي: سیر اعلام النبلاء، ج 3، ص 404، 410؛ ابن حجر العسقلاني: الاصابة في تمييز الصحابة، ج 2، ص 234؛ السخاوي: التحفة اللطيفة، ج 1، ص 314ا.

(82) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، 8، ص 44.

(83) احمد شلبي: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ج 1، ص 330. (84) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 230 - 231.

(85) الطبري: تاريخ الأمم و الملوك، ج 4، ص 175؛ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 10.

ص: 279

(86) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة ج 1، ص 231.

(87) الضبي ألأسدي: الفتنة ووقعة الجمل، ص 101؛ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك و الأمم، ج 5، ص 179؛ النويري: نهاية الأرب، ج 20، ص 23؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 7، ص 230.

(88) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 232 - 233.

(89) للاستزادة عن معركة الجمل ينظر. الضبي ألأسدي: الفتنة ووقعة الجمل، بمختلف صفحاته؛ البلاذري: أنساب الأشراف، ص 129 - 161؛ اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 168 - 170؛ أبو حنيفة الدينوري الاخبار الطوال، 144 - 153؛ الشيخ المفيد: الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة (ط. 1، قم المقدسة / 1992)، بمختلف صفحاته.

(90) نهج البلاغة، ص 249 - 250؛ الشيخ الطوسي: الأمالي (قدم له: العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم، النجف الاشرف / 1964)، ص 172؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 4 - 5.

(91) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 311.

(92) أبو هُرَيْرَة عمير بن عامر بن عبد وقيل سكين بن عمر وقيل عبد الله بن عمرو وقيل عبد الرحمن بن صخر الدوسي وقيل غير هذا، صحابي محدث وفقیه و حافظ أسلم سنة (7 ه / 128 م)، كان من اكثر الصحابة روايةً وحفظًا للحديث النبوي. وأخذ عنه عبد الرحمن بن هرمز وغيره. تولى أبو هريرة ولاية البحرين في عهد عمر بن الخطاب، کمل تولى إمارة المدينة من سنة (40 ه / 660 م) حتى سنة (41 ه / 661 م). وبعدها لزم المدينة المنورة حتى وفاته سنة (59 ه / 178 م). ينظر. ابن الأثير: اسد الغابة، ج 3، ص 301؛ ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب، ج 12، ص 237 - 240.

(93) أبو الدرداء عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي، من صحابة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم). ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر. توفي في الشام سنة (32 ه / 652 م) والأصح توفي بعد صفين. ينظر. ابن الجوزي: صفوة الصفوة، ج 1، ص 627 - 643؛ ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، ج 4، ص 747.

(94) الهلالي العامري: السقيفة، ص 173 - 174.

ص: 280

(95) الهلالي العامري: السقيفة، ص 175 - 179.

(96) الهلالي العامري: السقيفة، ص 176.

(97) الهلالي العامري: السقيفة، ص 177- 178.

(98) السقيفة، ص 109.

(99) ابو عبد الله، النعمان بن بشير بن سعد من بني الحارث الخزرجي الانصاري. وهو اول مولود ولد للانصار بعد الهجرة، انضم إلى معاوية وقاد غاره على عين التمر. ولاه معاوية على الكوفة ثم عزله. قتله اهل حمص سنة (65 ه / 685 م). ينظر: الثقفي: الاستنفار والغارات: ج 2، ص 307 - 310؛ الطبري: تاریخ الامم والملوك، ج 4، ص 384؛ ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، ج 6، ص 44.

(100) نائلة بنت الفرافصه الكلابية. كانت نصرانية ثم أسلمت قبل أن يتزوجها عثمان في سنة (28 ه / 648 م). وهي التي أرسلت لمعاوية قميص عثمان بيد النعمان بن بشير. ينظر ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 8، ص 483؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 136؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 19، ص 284.

(101) المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 362؛ بروکلمان، کارل: تاريخ الشعوب الإسلامية (ترجمة: نبيه أمين ومنير البعلبكي، ط - 4، بيروت / 1965)، ص 115.

(102) المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 383؛ محمد عمارة: الخلافة، ص 113.

(103) أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هشام السهمي، هاجر مع والده بعد فتح مكة، اشترك مع معاوية في صفين وقيل انه لم يقاتل عدّ من المحدثين. اختلف في تاریخ وفاته والأرجح انه توفي ليالي الحرة سنة (62 ه / 182 م). وعمره (72) سنة. ينظر. البخاري: التاريخ الكبير (تحقيق: السيد هاشم الندوي، بيروت / د:ت) التاريخ الكبير، ج 5، ص 5؛ الربيعي: تاريخ مولد العلماء ووفياتهم (تحقيق د. عبد الله احمد سليمان الحمد، ط - 1، الرياض / 1990)، ج 1، ص 176، 186؛ ابن أبي حاتم: الجرح والتعدیل (ط - 1، بيروت / 1952)، ج 5، ص 16؛ أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء، ج 1، ص 283 - 293؛ القيسراني: تذكرة الحفاظ (ط - 1، الرياض / 1995)، ج 1، ص 41 - 42.

(104) محمد بن عمرو بن العاص بن وائل بن هشام السهمي، توفي النبي (صلى الله عليه واله

ص: 281

وسلم) وهو صغير السن، شهد صفين وقاتل مع والده فيها. ينظر ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 1375 - 1376.

(105) ينظر ذلك في ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 4، ص 259؛ البلاذري: انساب الاشراف، ص 193 - 199؛ اليعقوبي: المصدر السابق، ج 2، ص 60 - 64؛ النويري: نهاية الأرب، ج 20، ص 240؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 72.

(106) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 182.

(107) الثقفي: الاستنفار والغارات (ط. 1، قم المقدسة / 1989)، ج 1، ص 46؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 197؛ المجلسي، بحارالانوار، ج 1، ص 133.

(108) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 38.

(109)- اليعقوبي: تاریخ، ج 2، ص 195؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 39.

(110) ابو سعد وقیل ابو عبد الله سهل بن حنیف بن واهب الاوسي الأنصاري، ارسله الإمام علي (عليه السلام) واليا على الشام ففشل في الوصول اليها، وبعدها استخلفه على المدينة عند خروجه لمعركة الجمل ثم اقره عليها واليا. عزل في سنة (37 ه / 657 م) واستخلصه لنفسه في معركة صفين. وعين في نفس السنة عاملا على فارس فاخرجه اهل فارس منها سنة ( 39 ه / 659 م)، توفي سنة (ت 39 ه / 659 م). ينظر ترجمته. الطبري: تاریخ الامم والملوك، ج 4، ص 174 - 350؛ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 5، ص 82 - 137؛ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 114، 225؛ ابن حجر العسقلاني: الاصابة في تمييز الصحابة، ج 1، ص 375.

(111) الايضاع: الإسراع. ينظر نهج البلاغة، المحقق، ص 708، هامش 4386.

(112) نهج البلاغة، ص 461.

(113) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 18، ص 53.

(114) ابو ابراهيم مالك بن الحارث بن يغوث ابن مسلمة بن ربيعة النخعي المعروف بالاشتر، كان من خيرة اصحاب الامام علي (عليه السلام) ومن قادة جيشه الموصفين بالشجاعة والعلم والحكمة، تولى ولاية الجزيرة الفراتية منذ سنة (36 ه / 656 م) وكان

ص: 282

مقر اقامته في مدينة الموصل وظل واليا» عليها حتى سنة (39 ه / 659 م) عندما استدعاه الإمام علي (عليه السلام) وولاه على مصر. فدبر معاوية له مؤامرة دنيئة لاغتياله في نفس السنة قبل أن يصل إلى مصر استشهد سنة (39 ه / 659 م). ينظر ترجمته. ابن سعد: الطبقات الکبری، ج 6، ص 213؛ اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 181؛ الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 1، ص 46؛ الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 199 - 200، ص 209، 270، 278، 237 - 238.

(115) الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 1، ص 46؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 197؛ المجلسي، بحار الانوار، ج 1، ص 133.

(116) سورة البقرة، آية 249.

(117) - الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 1، ص 46؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 197 - 198؛ المجلسي: بحار الانوار، ج 41، ص 133

(118) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 23؛ محمد عمارة: الخلافة ونشأة الأحزاب، ص 114.

(119) ابو العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، من صحابة الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم، عرف بالعلم. ارسله الامام علي (عليه السلام) واليا» على بلاد الشام الأنه منع من دخولها، فعينه بعد معركة الجمل على ولاية البصرة وبقي واليا» حتى استشهاد الإمام علي (عليه السلام) واستمر واليا» حتى في خلافة الامام الحسن (عليه السلام). توفي سنة (68 ه / 687 م) وقيل في سنة (70 ه / 689 م) وقيل في سنة (71 ه / 690 م). ينظر. ابن خياط: طبقات، ص 4؛ الطبري: تاریخ الامم والملوك، ج 4، ص 164، 387؛ ابو حنيفة الدينوري: الاخبار الطوال، ص 142؛ ابن الجوزي: صفوة الصفوة، ج 1، ص 746 - 758؛ الذهبي: سیر اعلام النبلاء، ج 3، ص 136 - 139.

(120) المغربي: دعائم الإسلام، ج 1، ص 395؛ النوري، الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي: مستدرك الوسائل (قم المقدسة / 1988)، ج 11، ص 56. (121) المغربي : دعائم الإسلام، ج 1، ص 395؛ الحميري: قرب الإسناد (طهران / د:ت)، ص 62؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام في شرح المقنعة (طهران / 1945)، ج 6، ص 55؛

ص: 283

ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 250؛ الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 15، ص 78؛ الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي النوري: مستدرك الوسائل، ج 11، ص 56. (122) للاستزادة ينظر. الطبري: تاریخ الامم والملوك، ج 4، ص 115؛ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 171؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 262؛ ج 4، ص 84 - 87؛ ج 14، ص 10؛ ج 18، ص 54؛ النويري: نهاية الأرب، ج 20، ص 117. وغيرها من المصادر.

(123) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغه، ج 7، ص 38.

(124) طارق بن عبد الله بن کعب بن اسامة النهدي، من اصحاب الامام علي (عليه السلام) الا انه فارقه وهرب الى معاوية بعد ان اقام الامام علي (عليه السلام) الحد على النجاشي عندما شرب الخمر، الا أنه رفض المساس بامير المؤمنين (عليه السلام) عند معاوية. وزعم البعض انه عاد ومعه النجاشي الى الامام علي (عليه السلام). ينظر. الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 2، ص 539 - 544؛ ابن شهرآشوب، مناقب آل ابي طالب، ج 1، ص 408 - 409؛ المجلسي: بحار الانوار، ج 33، ص 273 - 274.

(125) الحارث اليماني النهدي المعروف بالنجاشي، كان شاعر الإمام (عليه السلام) والمدافع عن دولته بلسانه هرب إلى معاوية بعد أن ضربه الإمام علي (عليه السلام) . ينظر . الجاحظ: البيان والتبين (بيروت / د: ت)، ج 1، ص 133، 431، 440؛ أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني (تحقيق: سمير جابر ، دار الفكر، بيروت / 1989)، ج 13، ص 293؛ العسكري: جمهرة الأمثال (تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد الحميد قطامش، ط - 2، بیروت / 1988)، ج 1، ص 573؛ الميداني النيسابوري: مجمع الأمثال (تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد قطامش ط - 2، بیروت / 1988)، ج 1، ص 573.

(126) الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 2، ص 369؛ ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 147 - 148؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 89 - 90.

(127) جبلة بن الایهم الغساني ملك غسان، أرسل له الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) كتاب يدعوه فيه للإسلام، فاسلم على اثر ذلك وفي زمن عمر ضرب احد الأشخاص

ص: 284

فطلب منه أن يضربه الشخص المضروب فرفض وارتد نصرانياً وهرب للروم. ينظر. ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 1، ص 265؛ ابن عبد البر النميري: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 2، ص 707.

(128) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 91 - 92؛ عبد المقصود، عبد الفتاح: الإمام علي ابن أبي طالب (بيروت / د:ت)، ح 6، ص 95.

(129) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 91 - 92؛ عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي ابن أبي طالب، ح 6، ص 95.

(130) الترمذي: الجامع الصحيح . سنن الترمذي ( بيروت / 2000)، ص 597؛ النسائي: سنن النسائي (طبعة جديدة مدققه ومصححه عربي، بيروت / د:ت)، ص 717.

(131) أبو يزيد وقیل عیسی، عقیل ابن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، اسلم وشهد غزوة مؤتة. كان علامة بالنسب وأيام العرب توفي في حکم معاوية سنة (50 ه / 670 م) وقيل توفي في أول سنة من حكم يزيد الملعون ينظر ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 3، ص 295؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 1، ص 218 - 219؛ ابن حجر العسقلاني: الإصابة، ج 4، ص 513؛ ابن عنبة: عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب (تصحیح: السيد محمد صادق ال بحر العلوم الطباطبائي، بغداد / 1988)، ص 31 - 32.

(132) الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 2، ص 377؛ ابن شهر اشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 2، ص 109؛ الحارثي: منن الرحمان، 1، ص 329؛ عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، ص 55؛ عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي ابن أبي طالب، ج 4، ص 96.

(133) ابن عنبة: عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب، ص 32.

(134) أبو انس وقيل أبو عبد الرحمن، الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب الفهري، اختلف في صحبته للرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، ولاه معاوية على الكوفة سنة (53 ه / 673 م)، بعد وفاة زياد ثم عزله وولاه دمشق. قتله مروان بن الحكم في سنة (64 ه / 684) في معركة مرج راهط. ينظر. أبن سعد، الطبقات الکبری، ج 5، ص 39، 226، ابن خياط: تاریخ خليفة، ج 1، ص 29، المقدسي: البدء والتاريخ (تحقيق: علي محمد البجاوي، ط - 1، القاهرة / 1992)، ج 6، ص 18، ابن حجر العسقلاني: الإصابة، ج 3، ص 478 - 489.

ص: 285

(135) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 118 - 119؛ الحارثي: منن الرحمان، ج 1، ص 329؛ المجلسي: بحار الانوار، ج 3، ص 142.

(136) الحسني، هاشم معروف: سيرة الأئمة الاثني عشر (ط 1، طهران / 2004)، ج 1، ص 311.

(137) - ابن عقدة الكوفي: المصدر السابق، ص 60؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 124 - 125، ص 286.

(137) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 93.

(138) ينظر ذلك في. نهج البلاغة، ص 72 - 73، 81 - 83 وغيرها من الصفحات؛ الهلالي العامري: السقيفة، ص 123؛ الجاحظ: البيان، ج 2، ص 25 - 27؛ اليعقوبي : تاریخ، ج 2، ص 182- 183؛ الطبري: تاريخ الأمم والملوك، ج 4، ص 286؛ ابن عبد ربة الأندلسي: العقد الفريد، ج 1، ص 116؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 118، 300 - 301. وغيرها من المصادر.

(139) ترحاً: الترح بالتحريك أي الهم والحزن. ينظر نهج البلاغة، المحقق، ص 574، هامش 342.

(140) حماره الغيظ حماره الصيف وقاظ بالمكان وتغيظ به أقام في الصيف والموضع مقيظ وقاض يومنا هذا اشتد حره. ينظر. الرازي: مختار الصحاح، ص 233.

(141) صباره القر: أي البارد وليلة قارة بمعنی باردة ينظر الرازي: مختار الصحاح، ص 222.

(142) نُغب: بالضم الجرعة وجمعها انغب والإنسان في الشرب جرع.ينظر. الرازي: مختار الصحاح، ص 279؛ بالفيروزابادي: القاموس المحيط، ص 178.

(143) نهج البلاغة، ص 70، ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 76 - 80.

(144) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 102.

(145) الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 1، ص 27.

(146) عين التمر: بلدة قريبة من الانبار، تقع غربي الكوفة فتحها المسلمون سنة (13 ه / 634 م) عنوة. ينظر البلاذري: فتوح البلدان (تحقيق: رضوان محمد رضوان، القاهرة / 1959)، ص 118؛ یاقوت الحموي: معجم البلدان، ج 4، ص 176.

(147) ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 303.

ص: 286

(188) عبد الله بن عامر الحضرمي، ولاه عثمان بن عفان على مكة، وبعد مقتله كان أول من استجاب للطلب بدم عثمان. اشترك في معركة الجمل ضد الإمام علي (عليه السلام)، أرسله معاوية في غارة على البصرة. قتل في سنة(38 ه / 658 م) في هذه الغارة. ينظر. ابن سعد: الطبقات الکبری، ج 7، ص 59؛ ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج 5، ص 79 - 80، 152 - 153؛ ابن الأثير: الكامل في التاریخ، ج 3، ص 75، 101، 232 - 234.

(149) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 35.

(150) الشيخ المفيد: الإرشاد (قم المقدسة / 1992)، ج 2، ص 11؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 45؛ الاربلي : کشف الغمة في معرفة الأئمة (عليهم السلام) تبریز / 1961)، ج 1، ص 541 - 542؛ المجلسي: بحار الانوار، ج 44، ص 48.

(151) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 343.

(152) قثم بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. اسندت له ولاية مكة والطائف في خلافة الامام علي (عليه السلام) بعد عزل أبا قتادة الأنصاري. واستمر واليا حتى استشهاد الإمام علي (عليه السلام)، توفي سنة (56 ه / 675 م). ينظر. نهج البلاغة، ص 406 - 407، 457؛ الضبي الاسدي: الفتنة ووقعة الجمل، ص 108، 119؛ ابن سعد: الطبقات الکبری، ج 7، ص 397؛ ج 8، ص 278، الطبري: تاریخ الامم والملوك، ج 4، 350 - 476.

(103) نهج البلاغة، ص 406 - 407. (154) عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، ص 55 - 56؛ جورج جرداق: علي وعصره، ج 4، ص 956. (155) أم حبيبة، رمله بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، كانت متزوجة من عبيد الله بن جحش الاسدي وعندما تنصر تركته. تزوجها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) في سنة 6 ه وقيل 7 ه توفيت سنة(42 ه / 662 م) وقيل سنة ( 44 ه / 664 م). ينظر. ابن ماکولا: الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكني والألقاب (ط - 1، بیروت / 1991)، ج 2، ص 63؛ الذهبي: تاريخ الإسلام، ج 2، ص 253؛ ابن حزام: تهذيب الأسماء (ط - 1، بیروت / 1996)، ج 1، ص 48.

(156) الهلالي العامري: السقيفة، ص 209؛ الطبرسي: الاحتجاج (بيروت / د:ت)، ج 1،

ص: 287

ص 112.

(157) نهج البلاغة، ص 307؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 13، ص 309.

(158) أبو مسلم عبيدة بن عمرو بن ناجية بن مراد الكوفي السلماني، اسلم عام الفتح، عد من الفقهاء، سمع من الإمام علي (عليه السلام) وروى عنه ابن سیرین وإبراهيم النخعي توفي سنة (72 ه / 691 م). ينظر البخاري: التاريخ الكبير، ج 6، ص 82؛ مسلم: الكنى والأسماء (دراسة وتحقيق: عبد الرحمن احمد القشقري، ط - 1، المدينة المنورة / 1984)، ص 785؛ الربيعي: تاريخ مولد العلماء ووفياتهم، ج 1، ص 191؛ ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل، ج 6، ص 91؛ الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 4، ص 40 - 44.

(159) الطرطوشي: سراج الملوك (ط - 1، بیروت / 1990)، ص 272.

(160) الشيخ الطوسي: الامالی، ص 177؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 189.

(161) ابو عاصم رفاعة بن شداد بن عوسجة و قيل ابن عامر القتباني، كان عاملا» على مدينة الاهواز وعلى قضائها في خلافة الامام علي (عليه السلام) وبقي حتى استشهاده (عليه السلام)، توفي سنة ( 66 ه / 685 م). ينظر. البخاري: التاريخ الكبير، ج 3، ص 322؛ المنقري: وقعة صفين، ص 204، ص 488؛ المغربي: دعائم الاسلام، ج 2، ص 534 - 535؛ ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 329، ص 486؛ ج 4، ص 6 - 8؛ الذهبي: سیر اعلام النبلاء، ج 3، ص 395، ص 658؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 8، ص 254، ص 264، ص 267؛ المجلسي، بحار الانوار، ج 79، ص 101.

(162) المغربي : دعائم الاسلام، ج 2، ص 530.

(163) للاستزادة ينظر. المنقري: وقعة صفين، ص 204، ص 446، ص 474؛ اليعقوبي :تاریخ، ج 2، ص 166؛ البلاذری، انساب الاشراف، ص 151، ص 212، ص 369؛ الطبري: تاریخ الأمم والملوك، ج 4، ص 173؛ المسعودي: مروج الذهب، ج 3، ص 394؛ ابو الفرج الأصفهاني: الأغاني، ج 3، ص 57؛ ابو حنيفة الدينوري» الاخبار الطوال، ص 150 - 151، ص 154، ص 167؛ الشيخ المفيد، الارشاد، ج 2، ص 39؛ ابن الأثير» الكامل في التاريخ، ج 3، ص 114؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 157، ص 310 -

ص: 288

311؛ ج 5، ص 199 - 200؛ ج 18، ص 275. وغيرها من المصادر.

(164) نعیم بن دجاجة بن شداد بن حذيفة بن بكر بن قيس بن منقذ بن طریف بن عمرو بن الحارث الاسدي الكوفي، روي عن الامام علي (عليه السلام) وعن أبي مسعود الانصاري وغيرهم. ينظر. ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 6، ص 128؛ ابن حجر العسقلاني: تهذیب التهذیب، ج 10، ص 413؛ البستي: الثقات (حيدر اباد الدكن / 1973)، ج 5، ص 478.

(165) الثقفي: الاستنفار والغارات، ج 1، ص 71؛ الشيخ الطوسي: تهذیب الاحکام، ج 10، ص 87.

(166) نهج البلاغة، ص 409 - 410؛ ابن أبي الحديد المعتزلي: شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 199 - 200.

ص: 289

المصادر والمراجع

خير ما افتتح به القران الكريم

اولا: المصادر الأولية

* ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن بن أبي الكرم الجزري (ت 630 ه / 1231 م):

1 - أسد الغابة في معرفة الصحابة (المطبعة الإسلامية، طهران، 1377 ه / 1957 م).

2 - الكامل في التاريخ (تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي، ط - 2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 ه / 1995 م).

* الاربلي، علي بن عیسی (ت 693 ه / 1293 م):

3 - کشف الغمة في معرفة الأئمة (عليهم السلام) (مکتبة بني هاشم، تبریز، 1381 ه / 1961 م).

* ابن اعثم الكوفي، ابو محمد احمد (ت 1314 / 929 م):-

4 - کتاب الفتوح (تحقيق: علي شيري، ط - 1، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1411 ه / 1991 م).

* البحراني، المفلح الصميري (ت 900 ه / 1494 م):

5 - غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الامام من طريق الخاص والعام (تحقيق: علي عاشور، بیروت / د:ت).

* البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي (ت 256 ه / 869 م):

ص: 290

6 - التاريخ الكبير (تحقيق: السيد هاشم الندوي، دار الفکر، بیروت، د:ت).

* البستي، محمد بن حبان بن احمد بن حاتم التميمي (ت 354 ه / 965 م):

7 - الثقات (مطبعة مجلس دائة المعارف العثمانية، نشر: مؤسسة الكتب الثقافية، حیدر آباد الدكن، 1393 ه / 1973 م).

* البكري، أبو عبد الله بن عبد العزيز (ت 365 - 487 ه / 975 - 1094 م):-

8 - معجم ما استعجم من اسماء البلاد والمواضع (تحقيق: مصطفى السقا، ط - 3، عالم الكتب، بیروت، 1401 ه / 1983).

* البلاذری، احمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه / 892 م):-

9 - انساب الاشراف (تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط - 2، مطبعة باسدار اسلام، نشر مجمع احياء الثقافة الاسلامية، قم المقدسة، 1416 ه / 1995 م).

10 - فتوح البلدان (تحقيق: رضوان محمد رضوان، مطبعة السعادة، القاهرة، 1379 ه / 1959 م).

* الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة (ت 209 - 279 ه / 822 - 892 م):

11 - الجامع الصحيح . سنن الترمذي (دار احیاء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، 1421 ه / 2000 م).

* الثقفي، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد الأصفهاني (ت 283 ه / 896 م):

12 - الاستنفار والغارات (ط - 1، دار الكتاب، قم المقدسة، 1610 ه / 1989 م).

* الجاحظ، ابو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 ه / 868 م):

ص: 291

13 - البيان والتبين (دار الكتب العلمية، بيروت، د:ت).

* ابن الجوزي، ابو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 ه / 1116 م):

14 - صفوة الصفوة (تحقیق: محمود فاخوري و د. محمد رواسي قلعة جي دار المعرفة، بیروت، 1399 ه / 1979 م).

15 - المنتظم في تاريخ الملوك والامم (تحقيق: محمد ومصطفى عبد القادر عطا، ط - 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412 ه / 1992 م).

* ابن أبي حاتم، ابو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327 ه / 938 م):-

16 - الجرح والتعديل (ط - 1، دار احیاء التراث العربي، بیروت، 1371 ه / 1952 م).

* الحارثي، الشيخ محمد بهاء الدين (ت 1030 ه / 1620 م):-

17 - کتاب منن الرحمن في شرح المنظومة المسماة بوسيلة الفوز والامان، 2 ج (علق عليها وشرحها: الشيخ جعفر محمد النقدي، المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، 1344 ه / 1915 م)

* ابن حجر العسقلاني، ابو الفضل احمد بن علي (ت 852 ه / 1448 م):

18 - الإصابة في تمييز الصحابة (تحقيق: علي محمد البجاوي، ط - 1، دار الجيل، بیروت، 1412 ه / 1992 م).

19 - تهذيب التهذيب (ط - 1، دار الفکر، بیروت، 1404 ه / 1986 م).

* ابن ابي الحديد المعتزلي، عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه / 1258 م):-

ص: 292

20 - شرح نهج البلاغة (تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، ط - 1، دار الجيل، بیروت، 1407 ه / 1987 م).

*الحر العاملي، العلامة الشيخ محمد بن الحسن (ت 1104 ه / 1692 م):

21 - وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة (تحقيق: مؤسسة اهل البيت (عليهم السلام) لاحياء التراث، ط - 1، قم المقدسة، 1434 ه / 2003 م).

* ابن حزام، أبو زكريا محي الدين بن يحيى بن شرف بن مري:

22 - تهذيب الأسماء (ط - 1، دار الفکر، بیروت، 1617 ه / 1996 م).

* الحميري، عبد الله بن جعفر (ت - القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي):-

23 - قرب الإسناد (مكتبة نينوى، طهران، د:ت).

* ابو حنيفة الدينوري، احمد بن داود (ت 369 ه / 980 م):-

24 - الإخبار الطوال (تحقيق: عبد المنعم عامر، القاهرة، 1379 ه / 1959 م).

* ابن خیاط، خليفة (ت 260 ه / 540 م):-

25 - تاریخ خليفة (تحقيق: د. اكرم ضياء العمري، مطبعة الاداب، النجف الاشرف، 1386 ه / 1967 م).

26 - الطبقات (تحقيق د. اكرم ضياء العمري، ط - 2، دار طيبة، الرياض، 1402 ه / 1982 م).

* الدمشقي، شمس الدين ابي البركات محمد بن احمد الباعوني الشافعي (ت 871 ه / 1466 م):-

27 - جواهر المطلب في مناقب علي (تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ط 1،

ص: 293

مطبعة دانش، قم المقدسة، 1415 ه / 1995).

* الذهبي، ابو عبد الله شمس الدين محمد بن احمد عثمان بن قایماز (ت 748 ه / 1347 م):-

28 - تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والاعلام (مكتبة القدسي، القاهرة، 1368 ه / 1948 م).

29 - سير أعلام النبلاء (تحقیق: شعيب الأرناؤوط، ومحمد نعیم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413 ه / 1993 م).

*الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (ت 721 ه / 1321 م):

30 - مختار الصحاح (تحقيق: محمود خاطر، نشر مكتبة لبنان، بیروت، 1415 ه / 1995 م).

*الربيعي، محمد بن عبد الله احمد بن سليمان بن زیر (ت 298 - 397 ه / 910 - 1006 م):

31 - تاريخ مولد العلماء ووفياتهم (تحقيق د. عبد الله احمد سليمان الحمد، ط - 1، دار العاصمة، الرياض، 1410 ه / 1990 م).

* السخاوي، شمس الدين (ت 902 ه / 1496 م):

32 - التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (تحقیق: عزیز الله العطاري، ط -

1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 ه / 1993 م).

* ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع ابو عبد الله البصري الزهري (ت 168 -

230 ه / 784 - 941 م):-

ص: 294

33 - الطبقات الكبرى (تحقيق: محمود ابراهیم زايد، ط - 1، دار صادر، بیروت / د:ت).

* ابن شهر آشوب، محمد المازندراني (ت 489 - 588 ه / 1095 - 1992 م). 34 - مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) (نشر: مؤسسة العلامة للنشر، قم المقدسة، 1379 ه / 1959 م).

* الضبي الاسدي، سيف بن عمر (ت 180 ه / 796 م):

35 - الفتنة ووقعة الجمل (تحقیق: احمد راتب عرموش، ط - 1، دار النفائس، بیروت، 1391 ه/ 1971 م).

* ابن ابي طالب، الإمام علي (عليه السلام) (ت 40 ه / 660 م):

36 - نهج البلاغة ( ضبط نصه ونظم فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، ط - 2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1402 ه / 1982 م).

* الطبرسي، ابو منصور احمد بن علي بن أبي طالب (ت نحو 560 ه / 1165 م):

37 - الاحتجاج ( مؤسسة الأعلمي، بيروت / د:ت).

* الطبري، ابو جعفر بن محمد بن جرير (ت 310 ه / 922 م).

38 - تاریخ الأمم والملوك (تحقیق وتعليق الأستاذ. عبد أ. علي مهنا، ط - 1، منشورات: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1418 ه / 1998 م).

* الطرطوشي، محمد بن محمد بن الوليد (ت 520 ه / 1129 م).

39 - سراج الملوك (ط - 1، دار صادر، بیروت، 1415 ه / 1995 م).

* الطوسي، الشيخ ابو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه / 1067 م).

ص: 295

40 - الأمالي (قدم له: العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم، مطبعة النعمان، منشورات المكتبة الأهلية، النجف الاشرف، 1384 ه / 1964 م).

41 - تهذیب الاحکام في شرح المقنعة (دار الكتب الاسلامية، طهران، 1365 ه / 1945 م).

* ابن عبد البر النميري، ابو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 ه / 1070 م):-

42 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب (تحقيق: علي محمد البجاوي، ط - 1، دار الجيل، بیروت، 1380 ه / 1960 م).

* ابن عبد ربه، ابو عمرو احمد بن احمد (ت 328 ه / 939 م):-

43 - العقد الفرید (شرح وصححه وعنون موضوعاته ورتب فهارسه: احمد الزين، احمد امین، ابراهيم الابياري، القاهرة، ج 1 - 1368 ه / 1948، ج 2، 4، 5، 6، 7 - 1387 ه / 1997 م، ج 3 - 1373 ه / 1952 م).

* العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل (ت 395 ه / 1004 م):-

44 - جمهرة الأمثال (تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، عبد الحميد قطامش، ط - 2، دار الفکر بیروت، 1408 ه / 1988 م).

* ابن عقدة الكوفي، احمد بن محمد بن سعيد (ت 332 ه / 943 م):-

45 - فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (جمعه ورتبه وقدم له: عبد الرزاق حمد حسين حرز الدين، ط - 1، مطبعة نكارش، قم المقدسة، 1421 ه / 2001 م).

* ابن العماد الحنبلي، ابي الفلاح عبد الحي (ت 1089 ه / 1678 م):

ص: 296

46 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب (تحقیق: شعيب الأرناؤوط، محمد نعیم العرقسوسي، ط - 9، دار الكتب العلمية، بيروت ن 1413 ه / 1993 م).

* ابن عنبة، السيد جمال الدين احمد بن علي الحسيني (ت 828 ه / 1424 م):

47 - عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب (تصحیح: السيد محمد صادق ال بحر العلوم الطباطبائي، مطبعة الديواني، بغداد، 1408 ه / 1988 م).

* ابو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين (ت 356 ه / 966 م):

48 - الأغاني (تحقيق: سمير جابر، ط - 2، دار الفکر، بیروت، 1609 ه / 1989 م).

* الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 650 ه / 1252 م):

49 - القاموس المحيط ( د: م / د:ت).

* ابن قتيبة الدينوري، ابو محمد عبد الله بن مسلم (ت 276 ه / 889 م):

50 - الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء (تحقيق: علي شري، بیروت، 1411 ه / 1990 م).

* القيسراني، محمد بن طاهر (ت 448 - 507 ه / 1056 - 1113 م):

51 - تذكرة الحفاظ (ط - 1، دار الصميدعي، الرياض، 1415 ه / 1995 م).

* ابن کثیر، عماد الدین ابوالفداء اسماعيل بن عمر (ت 1774 / 1372 م):

52 - البداية والنهاية (تحقيق: د. فالح حسين، ط - 1، مكتبة المعارف، بیروت، 1607 ه / 1987 م).

* الكليني، ثقه الاسلام الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الرازي

ص: 297

(ت 328 أو 329 ه / 939 أو 940 م):-

53 - الأصول من الكافي (صححه وعلق عليه: علي اکبر الغفاري، ط - 6، مطبعة حيدري، نشر: دار الكتب الإسلامية، طهران، 1388 ه / 1968 م).

* الكندي، ابي عمر محمد بن يوسف (ت 350 ه / 961 م):-

54 - کتاب الولاة والقضاة (تهذیب و تصحیح: رفن كست، مطبعة الاباء اليسوعيين، بیروت، 1326 ه / 1908 م).

*ابن ماکولا، ابو نصر علي بن هبة الله (ت 475 ه / 1095 م)

55 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الاسماء والكني والالقاب، 5 ج (ط - 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411 ه / 1990 م).

* الماوردي، أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي (ت 650 ه / 1058 م):

56 - أدب الدنيا والدين (تحقيق: مصطفى السقا، مكتبة الشرق الجديدة، بغداد، 1403 ه / 1983 م).

* المجلسي، العلامة محمد باقر (ت 1037 - 1111 ه / 1627 - 1700 م):

57 - بحار الأنوار (تحقیق و نشر: مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه / 1984 م).

* المحب الدين الطبري، احمد بن عبد الله (ت 694 ه / 1294 م):

58 - ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى (تقديم ومراجعة: جميل ابراهيم حبیب، دار القادسية، بغداد، 1404 ه / 1984 م).

* المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين (ت 346 ه / 956 م):

ص: 298

59 - مروج الذهب ومعادن الجوهر (تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط - 3، مطبعة السعادة، القاهرة، 1377 ه / 1958 م).

*مسلم، ابو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري (ت 202 - 291 ه / 817 - 874 م):

60 - الكنى والأسماء (دراسة وتحقيق: عبد الرحمن احمد القشقري، ط - 1 المدينة المنورة، 1404 ه / 1984 م).

* المغربي، نعمان بن محمد التميمي (ت 259 - 360 ه / 872 - 970 م):

61 - دعائم الإسلام (دار المعارف، القاهرة، 1385 ه / 1965 م).

* المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان العبكري البغدادي (ت 413 ه / 1022 م):

62 - الإرشاد (طبع و نشر: المؤتمر العالمي لالفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413 ه / 1992 م).

63 - الأمالي (ط - 1، طبع ونشر: المؤتمر العالمي لالفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413 ه / 1992 م).

64 - الجمال والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة (ط - 1، طبع و نشر: المؤتمر العالمي لالفية الشيخ المفيد، قم المقدسة، 1413 ه / 1992 م).

* المقدسي، المطهر بن طاهر (ت 1322 / 933 م):

65 - البدء والتاريخ (تحقیق: علي محمد البجاوي، ط - 1، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1612 ه / 1992 م).

ص: 299

* المنقري، نصر بن مزاحم بن يسار (ت 120 - 212 ه / 737 - 827 م):

66 - وقعة صفين (ط - 2، نشر مكتبة اية الله المرعشي، قم المقدسة، 1403 ه / 1983 م).

* الميداني النيسابوري، ابو الفضل احمد بن محمد (ت 518 ه / 1126 م):-

67 - مجمع الامثال (تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط - 2، دار المعرفة بیروت، 1408 ه / 1988).

* النسائي، أبي عبد الرحمن احمد بن شعيب الشافعي (ت 303 ه / 915 م)

68 - سنن النسائي (طبعة جديدة مدققه ومصححه، دار احیاء التراث العربي، بيروت / د:ت).

* أبو نعيم الاصبهاني، احمد بن عبد الله (ت 630 ه / 1038 م):-

69 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (تحقیق: حسام الدين المقدسي، ط - 4، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1405 ه / 1985 م).

* النويري، شهاب الدین احمد بن عبد الوهاب (ت 177 - 723 ه / 1228 - 1322 م):

70 - نهاية الأرب في فنون الادب (تحقیق: محمد رفعت فتح الله، مراجعة:

ابراهيم مصطفی، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1395 ه / 1975 م).

* ابن هشام، ابي محمد بن عبد الملك بن هشام الحميري (ت 213 ه / 828 م):

71 - سيرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) (تحقیق: طه عبد الرؤوف، ط -

ص: 300

1، دار الجيل، بیروت، 1412 ه / 1991 م).

* الهلالي العامري، سليم بن قيس الكوفي (ت 90 ه / 708 م):-

72 - السقيفة (تحقیق وتعليق: الحسني العلوي النجفي، د: م / د:ت).

* وكيع، محمد بن خلف بن حیان (ت 306 ه / 918 م):-

73 - أخبار القضاة (تحقیق وتعليق: عبد العزيز مصطفى المراغي، عالم الكتب، بیروت / د:ت).

* ياقوت الحموي، شهاب الدين ابو عبد الله یاقوت بن عبد الله (ت 626 ه / 1238 م):

74 - معجم البلدان (تحقيق: صلاح بن سالم المصراتي، ط - 1، دار الفكر، بیروت، 1418 ه / 1997 م)

* اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب بن جعفر بن وهب الكاتب (ت 292 ه / 904 م):-

75 - تاريخ اليعقوبي (تحقيق: العلامة محمد صادق ال بحر العلوم الطباطبائي، مطبعة الغري، النجف الاشرف، 1358 ه / 1939 م).

* ابو يوسف يعقوب بن ابراهيم (ت 182 ه / 798 م):-

76 - الخراج (د: م / د:ت):-

ثالثاً المراجع الحديثة:

* برو کلمان، کارل:-

77 - تاريخ الشعوب الاسلامية (ترجمة: نبيه امين فارس ومنير البعلبكي،

ص: 301

ط 4، دار العلم للملايين، بیروت، 1385 ه / 1965 م).

* جرداق، جورج سجعان:-

78 - الإمام علي صوت العدالة الإنسانية (مطبعة الجهاد، نشر دار الفكر العربي، بیروت، ج 1 - علي وحقوق الإنسان ؛ ج 4 - علي وعصره، 1379 ه / 1959 م).

* الجعفر، د. نوري:-

79 - علي ومناوئوه (قدم له: الأستاذ عبد الهادي مسعود، راجعه وعلق عليه: السيد مرتضى الرضوي، ط 4، دار المعلم - مطبوعات النجاح، القاهرة، 1396 ه / 1976 م).

* حسن، د. حسن إبراهيم:

80 - تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي (ط 7، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1384 ه / 1964 م).

* الحسني، السيد هاشم معروف:-

81 - سيرة الأئمة الأثني عشر (ط 1، مطبعة شریعت، نشر: المكتبة الحيدرية، طهران، 1434 ه / 2004 م).

* شلبي، د. احمد:-

82 - التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ج 1 - العرب قبل الإسلام السيرة النبوية العطرة - الدعوة الإسلامية وفلسفتها - الخلفاء الراشدون (ط - 5، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1390 ه / 1970).

ص: 302

* عبدة، الشيخ محمد:-

83 - شرح نهج البلاغة (مكتبة النهضة العربية، القاهرة / د:ت).

* عبد المقصود، عبد الفتاح:-

84 - الإمام علي ابن أبي طالب (طبع: مطبعة الحرية، نشر مكتبة العرفان، بیروت / د:ت).

* العقاد، عباس محمود:-

85 - عبقرية الإمام علي (دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت / د:ت).

* عمارة، د. محمد:-

86 - الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية (ط - 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت / د:ت).

* عمارة، د. محمد و آخرون:-

87 - علي ابن ابي طالب - نظرة عصرية جديدة (ط - 3، المؤسسة العربية للدراسات، 1600 ه / 1980 م).

* محمد، عبد الزهراء عثمان:-

88 - المعارضة السياسية في تجربة أمير المؤمنين (عليه السلام) (ط - 1، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1434 ه / 2003 م).

* النوري، الميرزا حسين بن الميرزا محمد تقي (ت 1333 ه / 1914 م):

89 - مستدرك الوسائل (نشر مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام) قم المقدسة، 1408 ه / 1988 م).

ص: 303

*ياسين، نجمان:-

90 - تطور الأوضاع الاقتصادية في عصر الرسالة والراشدین (ط - 1، طبع ونشر: دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1411 ه / 1991 م).

رابعاً الرسائل والاطاريح الجامعية:-

*عبد الكاظم، حارس رميلي:-

91 - کتاب وقعة صفين للمنقري - دراسة تحليلية (رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاداب، جامعة البصرة / 1435 ه / 2016 م).

خامساً: الدوريات:

*العيساوي، علاء كامل صالح:-

92 - الاصلاح الاداري في عهد الإمام علي (عليه السلام) الرقابة والمكافاة في العمل الاداري انموذجا» (بحث غير منشور).

ص: 304

الجانب السياسي في رسائل الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

الدكتورة زينب سمير علي وزارة التربية العراقية

ص: 305

ص: 306

المقدمة

الحمد لله رب العالمين الآمر بالعدل والإحسان والصلاة والسلام علی سید المرسلين الهادي إلى الحق والى صراط الله المستقيم ومن دعا بدعوته وسار على نهجها إلى يوم الدين

أما بعد:

أن الكلام عن سيرة الإمام أبي الحسن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) تضيق به الأسفار الكبيرة، وفضلاً عن كوني في هذا المقام اركز في بحثي على إبراز جانب محدد من سيرة الإمام علي (علیه السلام)، ألا وهو الجانب السياسي من خلافته، تلك الفترة التي شهدت اضطرابات ومنازعات عديدة ومتواصلة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى الحد الذي طغت فيه على مجريات الإصلاح والتنظيم الإداري للدولة

فهي فترة كما وصفها الأمام (علیه السلام): ((أنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت وأستنارت))(1). فكان لابد له من اتباع سياسة حكيمة تهدف الى تهدئة النفوس ونشر الأمن والعدل وكان الأمام حريصا على قيادة الأمة وفق المبادئ والقيم التي جاءت بها الشريعة الإسلامية والتي آمن بها ودافع عنها والتزم بها واتخذها مسارا في سياسته، وهكذا وجد الإمام (علیه السلام) نفسه أمام موقف صعب جدا إذ يجب عليه أن يوازن بين القيم والمبادئ التي اتخذها مسارا لسياسته وبين الظروف الجديدة التي فرضت عليه واصبحت تتحكم في الأحداث وأفقدت منصب الخلافة هيبته بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)

وقد وصف عباس العقاد(2) موقف الأمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في تلك

ص: 307

الاحداث بقوله: ((انه اصعب موقف يتخيله العقل في تلك الأزمة المحفوفة بالمصاعب، فكان عليه أن يكبح الفرس عن الجاح، وكان عليه أن يرفع العقبات والحواجز عن طريق الفرس)).

فقد كانت الأضطرابات بفعل غضاضة قوى البيت الأموي ومواليه من تسلم الأمام (علیه السلام) منصب الخلافة فاتخذوا من حادثة مقتل الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) ذريعة وصاروا يطالبون الخليفة بالأخذ بالثأر لدم الخليفة عثمان (رضي الله عنه)، رغم معرفتهم بان مسالة تشخيص القتلة أمر ليس بالهين، وقد أكد ذلك امير المؤمنين علي (علیه السلام) عندما وفد عليه طلحه والزبير في عدد من الصحابة يطالبونه بالقصاص من القتلة، فأجابهم: ((يا أخوتاه أني لست اجهل ما تريدون، ولكن كيف اصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، و ثابت إليهم إعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا فهل ترون موضعاً لقدرة على شي مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأيا ترونه إن شاء الله إن هذا الأمر أمر جاهلية، أن لهؤلاء القوم مادة وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من اخذ بها أبداً أن الناس من هذا الأمر أن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لاترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتوخذ الحقوق فأهدءوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا))(3). ومن حواره معهم نطلع على أسلوب سياسته الهادف الى تهدئة النفوس وأعادة الأمن، واول عمل قام به امير المؤمنين (علیه السلام) طلب من الخارجين على الخليفة السابق ترك المدينة والعودة إلى أمصارهم، فقد خاطبهم (علیه السلام) قائلا: ((يا معشر الأعراب الحقوا بمياهكم))(4). کما طلب من اهل المدينه اخراج الاعراب بقوله: ((يا أيها الناس اخرجوا عنكم الأعراب))(5). ففي هذا

ص: 308

الطلب نجد الخليفة (علیه السلام) أراد إعادة الأوضاع إلى مجراها الطبيعي واعادة سيطرة الخلافة على الدولة ليتسنى له ادارة شؤونها بشكل سليم.

فخرج الخارجون على خلافته واختلفوا فيه وشقوا عصا الطاعة عنه فانشغل بقتالهم طوال فترة خلافته بمعارك متعددة، فمعركة الجمل مع طلحه والزبير وعائشة سنة 36 ه / 656 م(6). ومعركة صفين مع معاوية سنة 37 ه / 657 م التي كاد أن يقضي فيها على معاوية وجيشه لولا مسالة التحكيم التي تشبث بها معاوية و جنده للخلاص من الهزيمة فنتج عنها أنشقاق الخوارج من جيش الامام وخروجهم عليه ورفضوا التحكيم وعدوا ذلك مخالف للشريعة، فقضى الأمام علي (علیه السلام) عليهم في معركة النهروان سنة 37 ه / 657 م(6) وبقي الصراع مستمراً بينه وبين معاوية إلى أن استشهد (علیه السلام) على يد عبد الرحمن بن ملجم في رمضان سنة 40 ه / 660 م في العراق، ودفن في النجف(8) ودامت خلافته أربع سنين وتسعه اشهر وبضعة أيام. فنجد كثره الاحداث والصراعات في عهد امير المؤمنين (علیه السلام) قد استغلت من البعض للادعاء بانه رجل حرب وليس رجل دوله وسیاسه، وما يهمنا في هذا البحث هو بيان القدرات السياسية والاداريه لامير المؤمنين (علیه السلام) من خلال رسائله وكتبه الى عماله خلال فترة خلافته التي فيها ردا على كل من يدعي بانه (علیه السلام) رجل حرب وليس رجل دولة وسياسة.

أولا: عهود التولية:

عهد التولية هو إشارة رسمية بتوليه الأمر لحامله(9). فهو وثيقة رسمية توضح واجبات الوالي وحقوق الرعية وصلاحياته، وترسم له السياسة التي يجب السير عليها لتحقيق الأهداف المرجوة من توليته ويتوضح هذا بصورة جلية في عهد الإمام الى واليه مالك الأشتر عندما ولاه مصر، جاء فيه: ((هذا ما أمر به عبد

ص: 309

الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده اليه حينما ولاه مصر جباية خراجها، وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها، وأمره بتقوى الله وأيثار طاعته وأتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد الا بأتباعها..))(10). فمن النص اوضح الإمام علي (علیه السلام) صلاحيات واليه مالك الأشتر في مصر، وهي جهاد العدو وجباية الخراج وعمارة الارض والبلاد وتقوى الله وطاعته فيما أمر به في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فلا يتجاوز الحدود المرسومة له، وكذلك نجد نفس خطوات السياسة المرسومة لمالك رسمها الإمام علي (علیه السلام)، في نص عهد توليته

محمد بن أبي بكر لمصر حيث جاء فيه: ((هذا عهد عبد الله علي أمير المؤمنين الى محمد بن ابي بكر حين ولاه مصر، أمره بتقوى الله في السر والعلانية وخوف الله تعالى في المغيب والمشهد، وأمره باللين على المسلم والغلظ على الفاجر وبالعدل على اهل الذمة وبانصاف المظلوم وبالشدة على الظالم وبالعفو عن الناس وبالاحسان الى ما استطاع والله يجزي المحسنين ويعذب المجرمين وأمره أن يدعو من قبله الى الطاعة والجماعة فان لهم في ذلك من العاقبة وعظیم المثوبة ما لا يقدرون قدره ولا يعرفون كنهه وأمره أن يجبی خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينتقص منه ولا يبتدع فيه ثم يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل وان يلين هم جناحه وأن يواسي بينهم في مجلسه ووجهه وليكن القريب والبعيد في الحق سواء، وأمره أن يحكم بين الناس بالحق وان يقوم بالقسط، ولا يتبع الهوى ولا يخاف في الله عز وجل لومة لائم، فان الله جل ثناؤه مع من أتقي وأثر طاعته وامره على سواه))(11).

و من قراءة نصي هذين العهدين توضحت توجيهات الامام (علیه السلام) الدينيه و

ص: 310

السياسة والاقتصادية والاجتماعية وطرق تحقيقها ونشر الامن والعدل، فضلاً عن الوصايا الخاصة بشخص الولاة انفسهم وتحذيرهم من اتباع الهوى وترك طاعة الله سبحانه وتعالى، متبعا قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»(12).

ثانياً - سياسة الامام علي (علیه السلام) في عزل الولاة واستبدالهم

كانت أولى خطوات الخليفة علي بن أبي طالب (علیه السلام)، في الجانب الإداري هي القيام بعزل بعض ولاة الخليفة السابق عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وذلك بسبب سوء تصرفاتهم وخروجهم عن الخط الاسلامي، فعلى سبيل المثال قام عبد الله بن عامر والي افريقية بالاستحواذ على خمس غنائم جیش افريقية(13). وكما تصرف الامويون في عهد الخليفة عثمان بن عفان (رض) بالاموال العامة وكأنها أموالهم، فكان لسوء تصرفهم الاداري سببا في عزلهم، واستبدالهم بولاة جدد حيث أرسل الامام علي (علیه السلام) عماله الى الامصار كآلاتي:

عثمان بن حنیف(14) على البصرة، وعمارة بن شهاب(15) على الكوفة، وعبيد الله بن عباس(16) على اليمن، وقيس بن سعد(17) على مصر، وسهل بن حنیف(18) على الشام(19)، وابو ایوب الانصاري على المدينة وخليد بن قرة التميمي(20) على خراسان(21). وقثم بن عباس(23) على مكة(23). ومالك الاشتر(24) على الجزيرة(25).

وعمرو بن أبي سلمة(26) على البحرين ومن بعدة ولاها للنعمان بن العجلان(27) (28)، والحارث بن مرة العبدي(29) على السند(30)، وزياد بن ابيه(31) على فارس، ومخلف بن سلیم(32) علی اصفهان و همدان(33)، ربعي بن كأس العنبري على سجستان(34).

ص: 311

وعلى قضاء البصرة ابو الاسود الدؤلي(35)، وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث الكندي(36) وعلى الشرطة معقل بن قيس الرياحي(37) (38).

فكان الهدف من هذا التوزيع هو اخراج الامة الاسلامية من ازمتها التي تمر بها، غير أن هذا التوزيع للولاة اوجد مواقف متباينة في قبول ورفض هؤلاء الولاة، فوالي الشام سهل بن حنيف خرج إلى الشام وفي تبوك لقيته خيل، فقالوا: من انت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شئ؟ قال: على الشام، قالوا: ((اذا كان عثمان بعثك فاهلا بك وان بعثك غيره فأرجع، قال: اوما سمعتم بالذي حدث، قالوا: نعم، فرجع))(39).

نجد ان رفض أهل الشام للوالي المعين من قبل الخليفة علي بن ابي طالب (علیه السلام) جاء نتيجة مقتل الخليفة عثمان (رضي الله عنه)، واستغلال معاوية لهذه الحادثة في اتهام الخليفة علي (علیه السلام) بالتباطؤ في القصاص من القتلة، واتخاذه من أهل الشام جبهة ضد الإمام (علیه السلام)، فكان رفضهم للوالي المعين من قبل الخليفة علي (علیه السلام) طبيعيا.

اما قیس بن سعد فقد لقي معارضة في مصر لكنه استمر ودخل إلى مصر وتفرق اهلها إلى ثلاثة فرق واحدة دخلت معه واخرى اعتزلت والاخيرة عارضت فكتب بالأمر الى الامام علي (علیه السلام)(40). اما والي الكوفة عمارة بن شهاب فانه لقي طلحة بن خویلد، وهو يدعو بدم عثمان، فقال له: ((ارجع فان القوم لا يريدون بأميرهم بدلا وان أبيت ضربت عنقك))(41) فرجع.

وهكذا نجدان رجوع عمارة كان بسبب ظهور طلحة في الكوفة مطالبا بدم الخليفة عثمان (رضي الله عنه)، فنجد المعارضين للخليفة علي بن ابي طالب (علیه السلام) سواء كانوا ولاة أو أشخاصا من سكان الولايات، اتخذوا من مقتل الخليفة عثمان (رضي الله عنه) حجة للخروج على طاعة الخليفة علي (علیه السلام) في حين انه كان من الحق عليهم أن يدخلوا

ص: 312

في أمر البيعة ويبايعوا ثم يطالبوا بانزال القصاص بالقتلة لكن المطامع الشخصية هي التي تغلبت على الأمر.

اما دواعي استبدال ولاته بغيرهم فمنها ما كان بسبب وجود شخص يجد فيه الخليفة المقدرة والكفاية افضل من الوالي السابق على ادارة شؤون الولاية، هذا هو ما حدث في عزل الخليقة علي (علیه السلام) لمحمد بن أبي بكر(42) عن مصر وتوليتها الى مالك الأشتر اذ جاء في كتابه الذي يوضح فيه لمحمدان عزله لم يكن عن خيانة او قصور وانما لوجود من هو اكفأ منه على إدارة وسياسة المنطقة في خضم الاحداث الجارية بين الخليفة علي (علیه السلام) ومعاوية اذ جاء فيه بقوله (علیه السلام): ((اما بعد فقد بلغني مو جدتك من تسريح الأشتر الى عملك، وإني لم افعل ذلك استبطاء لك في الجهد ولا أزدياداً لك في الجدولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر عليك مؤونة عليك وأعجب اليك ولاية، أن الرجل الذي کنت وليته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحاً وهو على عدونا شديداً وناقماً))(43).

وفي مواقف أخرى قد يكون سبب العزل خيانة الوالي للأمانة التي أؤتمن عليها، فقد عزل الخليفة علي (علیه السلام) واليه مصقلة ابن هبيرة(44) بعدما وصلت اليه اخبار خیانته اموال المسلمين والتصرف بها على هواه، اذ بلغه (علیه السلام) انه يقسم اموال المسلمين التي حازته رماحهم على قومه الذين اتخذوه سیداً لهم فارسل له قائلا: ((بلغني عنك أمرء، إن كنت قد فعلته فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك، أنك تقسم فيء المسلمين الذي حازتها رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم فيمن إعتامك من اعراب قومك فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقا لتجدن لك عندي هواناً ولتخفَّنَّ عندي میزانا، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الاخسرين اعمالا، الا وإن

ص: 313

حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذه الفئة سواء يردون عندي عليه يصدون عنه))(45). وورد في كتاب له لبعض عماله قوله: ((فقد بلغني عنك أمراً ان كنت فعلته فقد أسخطت ربك وعصيت إمامك وأخزيت أمانتك، بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك واكلت ما تحت يديك فأرفع إلى حسابك وأعلم أن حساب الله اعظم من حساب الناس))(46).

نجد في نصوص هذين الكتابين تهديد الخليفة وتوعده بالحساب لكل من خان امانات المسلمين التي تحت يديه وفي ذات الوقت يذكرهم بأن حسابهم في الحياة هواهون من حساب الله لهم وبالتالي فقد أقسم بالله بأن حسابهم سيكون عسيرا لانهم بخيانتهم الأمانة خسروا دينهم ودنياهم.

وقد يكون من بين اسباب عزل بعض الولاة هو الحاجة اليهم في مهام أخرى ففي كتاب الإمام علي (علیه السلام) الى عامله على البحرين عمرو بن أبي سلمة المخزومي اوضح انه (علیه السلام) لم يعزله عن خيانة او شك وانما بسبب حاجة الخليفة اليه في حربه مع معاوية لانه من الأشخاص الذين يعتمد عليهم ويستقوي بهم على جهاد أعدائه واقامة حدود الدين فقد جاء فيه: ((اما بعد، فأني قد ولیت النعمان بن عجلان الزرقي، ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك فلقد احسنت الولاية وأدّيت الامانة، فاقبل غیر ضنين ولا ملوم، ولامتهّم ولا مأثوم، فلقد أردت المسير إلى ظلمة الشام، وأحببت أن تشهد معي، فأنك ممن استظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين إن شاء الله))(47).

وقد يكون الوالي دون مستوى المسؤولية المناطة به مما يجعل الخليفة يعدل إلى غيره، فقد جاء في كتاب الإمام (علیه السلام) الى واليه المنذر بن الجارود العبدي(48):

((أما بعد، فأن صلاح أبيك غرني منك وظننت انك تتبع هديه وتسلك سبيله

ص: 314

فإذا أنت فيما رقي إلى عنك، لا تدع هواك انقیادا، ولا تبقى لأخرتك عتاداً، تعمر دنیا بخراب أخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقا بحمل أهلك و شسع نعلك خير منك ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر أو ينفذ به أمر أو يعلى له قدر او يشرك في أمانة او يؤمن له خيانة فأقبل إلي حين يصل كتابي هذا إن شاء الله))(49).

ثالثا - أمر البيعة ومقتل الخليفة عثمان بن عفان:

كان من اول کتب الخليفة علي بن ابي طالب (علیه السلام) بعد مبايعته بالخلافة كتابه الى معاوية بن ابي سفيان والي الشام، مطالباً اياه بالبيعة والدخول فيما دخل فيه أهل الشوری، حيث جاء فيه: ((أنه قد بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم)، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا اللغائب ان يرد وانما الشورى للمهاجرين والأنصار فان أجتمعوا على رجل وسموه اماماً كان ذلك لله رضا «(50). وبهذا القول يتجلى المنظور الديمقراطي الشعبي الذي جمع اراء المهاجرين والأنصار لكونهم أهل الحل والعقد فمن يبايعونه ويسمونه إماما یکون اماماً للمسلمين، وقد بایعه اهل الشورى لذا امامته شرعية وعلى معاوية المبايعة والدخول فيها دخل فيه المسلمون.

وقد أوضح الأمام (علیه السلام) أثر أهل الشورى في اختيار الأمام و مقدار سلطتهم في محاسبة هذا الأمام، فيقول (علیه السلام): ((فأن خرج من أمرهم بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فان ابی قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى))(51). فهنا اوضح الامام (علیه السلام) طريق الحق وان أتی بافعال ينكرها عليه أهل الشوری بطعن أو بدعة، لهم حق محاسبته وتحذيره لردعه عن هذا العمل فان لم يستجب حل لهم خلافه او قتاله لأتباعه غير سبيل المؤمنين، ولما طلب معاوية

ص: 315

من أمير المؤمنين (علیه السلام) ابقاءه على ولاية الشام والا سيخرج بأهل الشام معارضاً له، رفض أمير المؤمنين طلبه وارسل (علیه السلام) كتابا الى معاويه يحذره من محاولته في خلط الاوراق والتصيد بالماء العكر لنيل ولايه الشام ويحذره من التمادي والغرور بنفسه واهل الشام و، جاء فيه: ((اما طلبك الى الشام فاني لم اكن لأعطيك اليوم ما منعتك امس... واما استواؤنا في الحرب والرجال فلست بأمضى على الشك مني على اليقين. وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الاخره، واما قولك انا بنو عبد مناف فكذلك نحن و لكن ليس امية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا ابوسفیان کابي طالب ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق ولا المحق کالمبطل ولا المؤمن كالمد غل... ولما ادخل الله العرب في دينه افواجاٌ وأسلمت له هذه الأمة طوعاُ وكرهاُ کنتم ممن دخل في دين الله اما رغبه او رهبه على حين فاز اهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الاولون بفضلهم، فلا تجعلن للشيطان فيك نصيباُ ولا على نفسك سبيلاُ))(52).

ولما طالبه معاویه بالقصاص من قتله الخليفة عثمان واتهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بدمه، ارسل له الإمام ينصحه ان ينظر إلى الأمور بعقله دون هواه وما يشتهي فسيجد ان الامام (علیه السلام) بريء من دم الخليفة عثمان، لانه كان في عزلة من الناس وحذر معاوية من توجيه الاتهامات الباطلة اليه، وهذا ما قام به معاوية منذ تولي الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام) امر الخلافة، فجاء في كتابه (علیه السلام): ((ولعمري یا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرى الناس من دم عثمان، ولتعلمن اني كنت في عزلة منه، الا ان تتجني فتجن ما بدا لك والسلام))(53).

وفي هذا الصدد ذكر الطبري (54) ان الامام علياً (علیه السلام) كان عند احجار الزيت(55) عندما وصل اليه خبر مقتل الخليفة عثمان.

ص: 316

فمحاولات معاوية المستمرة بايهام المسلمين بان للامام علي (علیه السلام) يداً في مقتل الخليفة عثمان من جهة وخروج طلحة والزبير والسيدة عائشة من جهة اخرى استدعت قيام امير المؤمنين (علیه السلام) بارسال کتاب الى أهل الكوفة يوضح لهم امر مقتل الخليفة عثمان وبراءته من الاشتراك فيه، وفي هذا العمل شهادة له (علیه السلام) بانه ليس من نوع القادة الذين يوصون بشيء ويعملون بآخر نقیضاً له ومما جاء في هذا الكتاب: ((من عبد الله علي امير المؤمنين، إلى أهل الكوفة جبهة الانصار وسنام العرب، اما بعد فأني أخبركم عن أمر عثمان حتی یکون سمعه كعيانه، انّ النّاس طعنوا عليه فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر أستعتابه، وأقل عتابه وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف(27) وأرفق حدائهما العنيف وكان من عائشة فيه فلتة غضب فأتيح له قوم فقتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخیرین(57).

نستشف من هذا الكتاب ان الامام (علیه السلام) اثنى على أهل الكوفة فنعتهم بسنام العرب لعلو شأنهم ثم أوضح لهم امر الفتنه ومقتل الخليفة عثمان وانه (علیه السلام) كان كأحد المهاجرين يعاتبه اذا ما اشتكى إليه أحد من الرعية في الامور التي نقموها عليه، ثم تحدث الامام (علیه السلام) عن مبايعة طلحة والزبير له (علیه السلام) فوصفها بانها کانت بيعة رضا لا اکراه فيها ثم لم يتعرض لخروجهما من مكة مع السيدة عائشة.

رابعاً - أمن الدولة وسياستها:

من الكتب التي تدخل في هذا الجانب کتاب الامام علي (علیه السلام) الى عماله الذي کتب نسخه واحدة وأخرجها الى العمال بصورة عامه ينبههم فيه الى مراقبة امور امصارهم وما يحدث فيها والحذر من وجود الخارجين ويسألهم فيها عن مرور الخريت بن راشد وجموعه، يقول: «من عبد الله علي أمير المؤمنين الى من قرىء

ص: 317

عليه كتابي هذا من العمال أما بعد، فان رجالاً خرجوا هربا ونظنهم وجهوا نحو بلاد البصرة فسل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كل ناحية من ارضك، واكتب الي بما ينتهي اليك عني والسلام»(58).

أوضح الإمام (علیه السلام) من خلال نص رسالته لولاته أن عليهم الحذر من وجود الخارجين ووضع العيون عليهم واشعار الخلافة بامرهم ومدى استفحاله للتمكن من اخذ التدابير اللازمة لمعالجة خطر هؤلاء الخارجين، وهذا هو ما حدث عندما اجابه قرظة بن كعب عامله على البصرة على هذه الرسالة يخبره عن امر الخريت(59).

وجرى مثل ذلك في كتاب الإمام (علیه السلام) إلى قثم بن عباس عامله على مكة، والذي جاء فيه: «اما بعد فأن عيني بالمغرب كتب إلي من يعلمني انه وجه الى الموسم اناس من أهل الشام العمي القلوب الصم الاسماع الُکِمْهِ الابصار، الذين يلبسون الحق بالباطل ويطيعون المخلوق في معصية الخالق ويحتلبون الدنيا درها بالدين ويشترون عاجلها بأجلها الأبرار المتقين ولن يفوز بالخير الا فاعله»(60). ففي هذه الرسالة يلفت انتباه عامل مكة الى وجود جماعة من أهل الشام من طرف معاوية قادمين لموسم الحج وقد علم بخبرهم من العيون التي وضعها الامام (علیه السلام) في الشام، فهؤلاء القادمين سيعملون على الباس الباطل بالحق بین الحجيج فيأمره بحسن التصرف لضمان الامن والرعاية للحجاج ولم يرد ذكر أي اجراء عسكري مطلوب من عامله اتخاذه تجاه هؤلاء المشاغبين.

اما في الجانب السياسي، فان كتب الخليفة علي (علیه السلام) ورسائله الى عماله والتي تناولت كيفية ادارة الولايات والاقاليم، والتعامل مع سكانها أفصحت وبشكل جلي عن الكفاية والمقدرة السياسية العالية للخليفة وليس أدل على ذلك من كتابه

ص: 318

الموجه الى مالك الأشتر النخعي حينها ولاه مصر والتي بين فيها السياسة الواجب أتباعها في مصر.

أن أستقراء ما ورد في نص رسالته هذه يفصح عن أستخدام المضمونين السياسي والاداري، ولكني ارتأيت ان اضعها في الجانب السياسي لكونه ينبه على سياسات كانت قائمة في مصر ويبين السياسة الواجب اتباعها تجاه اهل مصر فافصح قائلا: ((ثم اعلم يا مالك اني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك من عدل وجور، وان الناس ينظرون في امورك في مثل ما کنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما کنت تقول فيهم، وانما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسنة عباده فليكن احب الذخائر اليك ذخيرة العمل الصالح فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فان الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحببت أو كرهت))(61).

هنا لفت الامام أنتباه مالك الى أنه قد وجهه الى بلاد قد جرت عليها سياسات وحكومات مختلفة تباينت في عدالتها وظلمها، الأمر الذي يتطلب منه التريث والنظر بامعأن وتفحص دقيق للوقوف على تاريخ تلك المنطقة وتطوراتها، ومعرفة عادات سكانها وتقاليدهم خاصة وان مصر من الاقاليم البعيدة عن تأثير شبه الجزيرة العربية بالنسبة لموقعها والاستفادة من تلك المعلومات في إصدار التشريعات التي تلائم عادات وسكان البلاد لتلقي تلك التشريعات قبولاً وتطبيقاً من قبل الرعية لان سياسة الدولة لا يمكن أن تتم مالم تطبق الرعية التشريعات التي تصدر عنها.

ومن المعروف أن مصر تختلف عن شبه الجزيرة العربية من حيث الموقع والمناخ هذا الاختلاف كان له دور في اختلاف طبائع وعادات وسكان مصر عن

ص: 319

سكان شبه الجزيرة العربية.

وان اشارة الامام (علیه السلام) الى واليه بالاخذ بنظر الاعتبار تاريخ مصر والدول المختلفة التي قامت عليها، يوضح القدرة العقلية الفذة للامام (علیه السلام) في ايجاد احکام تحقق العدل والامن للناس وذلك من خلال تنبيهه على دراسة الجانب التكويني والنفسي للرعية ولعل في هذا رد على من يتهم العرب والاسلام بالتخلف والارهاب وان الاسلام سبب رئيسي في التخلف فهنا تطرح بعض الأسئلة نفسها فاذا كان الاسلام سببا في تخلف العرب اذن كيف تصدر مثل تلك التشريعات الادارية عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) وخلفائه ولا سيما الامام علي بن أبي طالب (علیه السلام).

واننا لو نظرنا في الوقت الحاضر في القوانين الوضعية التي تتكلم عن حقوق الدولة والإنسان لوجدنا أن معظم بنودها مأخوذة من مبادئ ديننا الاسلامي الذي يتهمنا الغرب بانه سبب تخلفنا ولعل في هذا رد بسيط على اتهام الغرب للعرب والاسلام بالارهاب.

ثم يعود الإمام (علیه السلام) فيأمر مالك بن الاشتر بالعمل الصالح لانه أن صلحت سيرته وعمله أحبته الرعية وتحقق لهم الأمان في ظل واليهم الذي يحقق لهم العدل حتى ولو على حساب نفسه وهواه وان يمنع نفسه ويزجرها عمالا يحق لها فيما احبت او کرهت، وان زجر النفس انصاف لها حتى لا تمشي في الطرق التي تؤدي إلى التهلكة.

کما يوضح الامام (علیه السلام) الى واليه على البصرة سهل ابن حنيف الانصاري، في قوم لحقوا بمعاوية فارسل له قائلاً: ((اما بعد، فقد بلغني أن رجالا من قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ويذهب عنك من مددهم فكفراً لهم غيا ولك منهم شافياً فرارهم من الهدى والحق وأيضاعهم

ص: 320

الى العمى والجهل، وأنما هم أهل دنیا مقبلون عليها ومهطعون اليها وقد عرفوا العدل ورأوه وسمعوه ووعوه، وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة فهربوا إلى الأثرة فبعداً لهم وسحقاً)(62) فهنا يوضح لعامله عدم التأسف على هؤلاء الهاربين من صفوفه مع علمهم انه على حق، ومعرفته انه عنده الناس بالحق سواء لا فرق بينهم في نسب او جاه فهربوا إلى المكان الذي يرجوا أن يجدوا فيه الاثرة على غيرهم وتضمن كتاب الإمام (علیه السلام) الى اهل البصرة تهدیداً لهم بالعقوبة اذا لم يتوقفوا عن معاداة الخلافة واثارة الفتن فيذكرهم بوقعة الجمل سنة 38 ه / 658 م وما حدث فيها فيقول (علیه السلام) : ((وقد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم ما لم تغبوا عنه فعفوت عن مجرمکم ورفعت السيف عن مدبر کم، وقبلت من مقبلكم))(63). فيذكرهم بانه (علیه السلام) قد اعفی عن مجرمهم ومنع قتل الهاربين وقبل عودة التائبين کما انه حذر من التمادي في الامر والعودة الى السابق وذلك باتباع الاراء المخالفة له والداعية الى مخالفته ومحاربته، فأن رحله وركابه (جنده) قريبة الموطن منهم، فاذا ما اضطروه الى ذلك فانه سيوقع بهم وقعة قوية تكون وقعة الجمل بالنسبة لها أمر بسيط، فيقول (علیه السلام): ((فان خطت بكم الأمور المردية، وسفه الآراء الجائرة الى منابذتي وخلافي فهأنذا ذا قد قربت جيادي ورحلت رکابي، ولئن الجأتموني إلى المسير اليكم لا وقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل الا كلعقة لاعق))(64).

اما کتاب الامام (علیه السلام) إلى زياد بن ابیه عاملهُ على خراسان الذي يحذره فيه من خديعة معاوية، وهو يوضح وقوف الخليفه على كل ما يجري من أمور في الدوله صغيرها وكبيرها وهي واحدة من مؤثرات الحزم واليقظه في السياسه، وقد جاء فيه: ((وقد عرفت أن معاوية كتب اليك يستنزل ويستغل غربك فأحذره))(65). فهنا يحذر زیاد من خديعة معاوية له بارساله الرسل اليه يعترف

ص: 321

فيها له بانه اخاه من ابيه ابي سفيان وانه سيلحقه بنسب ابي سفيان اذا ما انضم الى جانبه ثم يكمل الامام (علیه السلام) قائلاً: ((فانما هو الشيطان يأتي المرء بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم عقلته ويستلب غرته))(66).

ويبدو لنا أن هذا التشبيه جاب نتيجة الأسلوب الذي اتبعه معاوية مع زیاد بن ابيه وذلك باستمالة قلبه وعواطفه واعطائه وتمنيه بالحاقة بنسب ابي سفيان وهذا الفعل يشبه فعل الشيطان مع الانسان عندما يحاول دفعه الى التهلكة فيتبع كل طرق الاغراء والتضليل للوصول إلى مبتغاه، فيقتحم على المؤمن غفلته ليدفعه لتحقيق نواياه السيئة وقد ذكر في قوله تعالى توعد الشيطان بدفع المؤمنين إلى الهلاك اذ جاء ذلك في قوله تعالى: «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ»(67).

ويفند الامام (علیه السلام) ادعاء معاوية لزياد، فيقول له: ((وقد كان في ابي سفيان في زمن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فلتة من حديث النفس ونزعة من نزعات الشيطان، لا يثبت بها بنسب ولا يستحق بها ارث والمتعلق بها كالواغل المدفع والنوط المذبذب))(68)، فيذكر الإمام (علیه السلام) لزياد بانه جرت حادثة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، حينما كانوا مجتمعين يوما لدى الخليفة عمر (رضي الله عنه) فتكلم زیاد فافصح الكلام وتعجب الحاضرون من بلاغته وبراعته فحدث الشيطان نفس ابي سفيان فادعى أن زياد ولده وانه قد وطئ أمه في الجاهلية محاولاً الحاق زيادة بنسبة لكنه اخفى الأمر، لان الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان حاداً في احقاق الحق، وانه باعترافه بزياد سيعرض نفسه لعقوبة الجلد او الرجم لانه قد زنی فترك أبو سفيان أمر الاعتراف خوفاً على نفسه، فهنا اوضح الامام (علیه السلام) لزياد خطة معاوية ومحاولته المخادعة، ثم نفی لزياد صحة ما ذكره ابو سفیان وان قول الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم): ((ایما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا

ص: 322

يورث))(69)، وهذا دليل الامام (علیه السلام) لزياد وان تعلقه بهذه الأوهام سيدفعه الى الهاوية.

اما کتاب الامام (علیه السلام) الى ابي موسى الاشعري وهو عامله على الكوفة وقد بلغه تثبيطه الناس عن الخروج اليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل، ففيه يؤنب الامام (علیه السلام) ابا موسى على قيامة بتثبيط الناس عن النهوض والمشاركة مع الامام (علیه السلام) في حرب الجمل، فيقول (علیه السلام): ((من عبد الله علي امير المؤمنين الى عبد الله بن قیس اما بعد، فقد بلغني عنك قول هولك وعليك))(70). ويقصد الامام هنا بهذا قول أبي موسى: ((أن ولاية الامام علي (علیه السلام) ولاية حق، اما قتال اهل القبلة فليس حق ويقصد بهم طلحة والزبير وعائشة ومن والاهم من اهل البصرة، فقد أفتى أبا موسى بتحريم ذلك فأنبه (علیه السلام) على ذلك القول قائلاً: ((فاذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك(71) وأشدد مئزرك(72) واخرج من جحرك(73) وأندب من معك فان حققت فانفذ وان تفشلت فابعد))(74)، فهنا وجه الإمام (علیه السلام) أبا موسی واخبره بامرين اما ان ينهض باصحابه ويخرج من منزله وأشار الى وصف منزله بالجحر توبيخاً له والمعروف أن الجحر مسكن الثعلب، فأراد الامام (علیه السلام) بهذا وصف تحايل ابي موسى عندما افتی بامر قتال أهل البصرة بانه على غير حق فكان يقول هذا وقد البس الامر على الرعية فاذا لم يعلن أبا موسی بین اصحابه النفير والسير لمشاركة الامام في حرب الجمل عليه عندئذ اتباع الأمر الثاني، وهو عزل نفسه عن الولاية، كما يهدد الخليفة ابا موسی قاسماً بالله انه اذا تخاذل عن النصرة له ليجمع جموعه ويتجه نحو الكوفة ولا يتركه حتى يخلط زبده بخاثره وذائبه بجامده وقال زبده بخاثره كناية عن خلط الأمور كلها فلا يبصر منها شيء حتى يكون حذره من امامه كما يحذر من عدوه ان ياتيه من الخلف، فيقول (علیه السلام):

ص: 323

((وايم الله لتؤتين حيث أنت ولا نترك حتى يخلط زبدك بخاثرك(75) وذائبك بجامدك وحتی تعجل عن فقدتك ونحذر من امامك كحذرك من خلفك))(76) .

ثم يوضح عواقب هذه الأمور، وانها ليست بالهينة السهلة التي يتوقعها ولكنها المصيبة الكبرى التي سيصاب بها، والتي تركب صعابها فتصبح ذلولة فسيأتيه الامام (علیه السلام) وجنده من جهة وطلحة والزبير واهل البصرة من جهة اخرى متوجهين نحو الكوفة وينزلون به وباهل الكوفة من عظيم العقوبة والخطب الجليل ما لم يكن يتصوره الفكر فيأمره بالتعقل وتبصر الأمور، فاذا لم يفعل ذلك يأمره بالتنحي والاعتزال عن هذا الامر فان بعده افضل من وجوده وعدم مشاركته في الحرب فيقول (علیه السلام): ((وما هي بالحويني التي ترجو ولكنها الداهية الكبرى يركب جملها ويذلل صعبها ويسهل جبلها، فأعقل عقلك، واملك امرك وخل نصيبك وحظك، فان كرهت فتنح إلى غير رحب ولا في نجاة فبالحرى لتكفين وانت نائم حتى لا يقال این فلان والله انه لحق مع محق وما يبالي ما صنع الملحدون))(77)، والاشارة هنا قول الإمام (علیه السلام) انه لحق مع اشارة الى قول الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) في حقه: ((اللهم ادر الحق مع علي حيثما دار))(78).

ص: 324

الخاتمة

تناول موضوع البحث الجانب السياسي لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، لقد أيد الله رسوله الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم) برجالاً امنو بالله و رسوله فكانوا جنوده الميامين بحماية الدين و كان أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام النموذج الفريد الذي لا نضير له منذ الدعوة الاسلامية و الى وقتنا هذا، تلك الشخصية التي عجز التاريخ عن وصفها فقد تميز عليه السلام بمواقفه البطولية الرائعة في خدمة الاسلام و المسلمين كيف لا وهو؟

من تربى في بيت النبوة وحضي برعاية الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) واهتمامه منذ نعومة أضفاره فكانت له من الفضائل التي تميز بها عن رجال عصره و أشار، اليها الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) في كثير من المواقف ومنها حديث الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) في جعل أمير المؤمنين عليه السلام وصيه وأخاه استنادا إلى الحديث الشريف: ((الا ترضى ان تكون مني بمنزلة هاون من موسی الا انه لا نبي من بعدي)) وكثير من الأحاديث التي تشير إلى مواقفه ومنزلته و مناقبه عليه السلام.

فتناول البحث المضمون السياسي لرسائل الخليفة علي بن ابي طالب عليه السلام من خلال كتبه في نهج البلاغة، التي وجهها الامام عليه السلام الى ولاته وعماله على الامصار والأقاليم الاسلامية ومنها خراسان والبصره والبحرين والكوفة والشام ومصر وغيرها من الامصار الاسلامية الأخرى. ففيها يوضح الامام عليه السلام لولاته الخطوط العريضة في كيفية إدارة امور الولايات والأقاليم من خلال توضيحه للظروف والملابسات التي قد يستغلها الطامعين بالخلافة والمخالفين له رضوان الله عليه. وان تلك الكتب لم تكن محصورة في الجانب السياسي بل انها لم تكن تخلو من التوجيه للولاة والعمال من الإحاطة علما بالجانب التكويني لتلك

ص: 325

المدن و الامصار والأحداث التي تسيرها.

و لعل أوضحها في ذلك رسالة الامام عليه السلام الى عامله ابو موسی الأشعري في البصره، ورسالته إلى مالك الأشتر حينما ولاه مصر، ففي الاولى يوضح عليه السلام لابي موسى الأشعري سوء تدبيره لامر البصره و عواقب هذا الامر اما في الرسالة الثانية فيوضح لمالك الأشتر کيفية إدارة مصر في الجانب السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، کما نعتقد انها من اهم الوثائق السياسية بما تضمنته من أفکار و نظم سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية واخلاقية ترقى الى ارقى الامم المتقدمة تمدنا و حضارة في الوقت الحاضر.

وفي الختام نسال الى عز وجل التوفيق لكل من يسعى إلى حفظ و نشر و تحقیق تراث أمير المؤمنين عليه السلام ونرجو من الله أن لا يحرمنا هذه النعمة.

هوامش البحث:

(1) الطبري، أبو جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه / 923 م)، تاریخ الرسل والملوك، تحقيق: إبراهيم أبو الفضل، ط 4، مطبعة دار المعارف، (القاهرة 1400 ه / 1962 م)، ج 4، ص 450.

(2) عباس محمود، عبقرية الأمام علي بن أبي طالب، مطبعة الهلال، (القاهرة - 1966 م)، ص 53.

(3) الضبي، الفتنة وواقعة الجمل، ج 1، ص 99 - 97؛ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 37؛ ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني (ت 130 ه / 1232 م)، الكامل في التاريخ، دار صادر، بیروت، 1995، ج 3، ص 83؛ ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن حمد بن الحسين (ت 656 ه / 1258 م) شرح نهج البلاغة، مراجعه وتصحيح لجنه أحياء الذخائر، منشورات مكتبة الحياة، (بيروت - لا. ت)، ج 3، ص 339؛ النويري، شهاب الدين احمد بن عبد الوهاب (733 ه / 1332 م). نهاية الأرب في معرفة فنون الادب،

ص: 326

مراجعة: ابراهيم مصطفى، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975 م، ج 2، ص 15 - 16.

(4) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 450.

(5) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 450.

(6) الضبي، الفتنة وواقعة الجمل، ج 1، ص 97؛ ابن سعد، أبو عبد الله محمد بن منيع (ت 230 ه / 845 م)، الطبقات الکبری، (دار صادر / بيروت - 1985)، ج 3، ص 31؛ الطبري، تاریخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 506؛؛ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت 911 ه / 1505 م)، تاریخ الخلفاء، تحقيق: محمد ابو الفضل، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة - لات)، ص 173 - 174.

(7) السيوطي، تاریخ الخلفاء، ص 174. (8) ابن خیاط، خلیفه بن خياط العصفري (ت 240 ه / 853 م)، تاریخ خليفة بن خیاط، ط 2، تحقيق اکرم ضیاء العمري، دار العلم للملايين، مؤسسة الرساله، (بيروت - 1977)، ج 1، ص 198؛ ابن عبد ربه، أبو عمر احمد بن محمد الأندلسي (ت 349 ه / 939 م)، العقد الفريد، تحقیق احمد امين، (القاهرة، 1997 م)، ج 4، ص 121؛ القلقشندي، ابو العباس احمد بن علي (ت 821 ه / 1918 م)، صبح الاعشى في صناعة الانشا، وزارة الثقافة والارشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، لا. م، لا.ت.، ج 1، ص 252.

(9) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4 ص 556؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 5، ص 134

(10) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت مج 5، ، ص 34؛ الهادي، کاشف الغطاء؛ ستدرك نهج البلاغة، ط 2، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، لا. م، 1980 م، ص 106 - 107.

(11) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 556؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 2، ص 39.

(12) سورة الأنعام، اية 57.

ص: 327

(13) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 203 - 254.

(14) عثمان بن حنيف: هو عثمان بن حنیف بن وهب بن عکیم بن ثعلبة بن الحارث بن مجدعة بن عمرو بن حنش بن عوف بن عمرو بن عوف الانصاري الاوسي القبائي، من الصحابه شهد بدراً وولاه عمر بن الخطاب السواد ثم ولاه البصرة ولما كانت الخلافة لعلى بن أبي طالب (علیه السلام) ولاه على البصرة، توفي في خلافة معاوية. الذهبي ابو عبد الله محمد بن احمد بن عثمان بن قیماز (ت 748 ه / 1347 م)، سیر اعلام النبلاء، ط 9، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد نعیم العقرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت - 1413 ه)، ج 2، ص 320 - 322. ابن حجر العسقلاني، شباب الدين ابو الفضل احمد بن علي (ت 852 ه / 1448 م)، الاصابة في تمييز الصحابة، ط 1، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بیروت، 1992 م، ج 6، ص 385.

(15) عمارة بن شهاب: كان له هجرة واستعمله الإمام علي (علیه السلام) على الكوفة. ابن حجر العسقلاني، الاصابة في تمييز الصحابة، ج 4، ص 446.

(16) عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، كان سخياً جواداً يقال أنه أول من وضع المؤائد على الطرق ولاه على اليمن، توفي سنه 58 ه. الطبري، تاریخ، طبعة، ج 4، ص 442. الذهبي، ابو عبد الله محمد بن احمد بن عثمان (ت 748 ه / 1367 م)، العبر في خبر من غبر، ط 1، تحقيق: صلاح المنجد، لا. م، 1960 م، ج 1، ص 63.

(17) قیس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن خزیم بن ابي جذيمة بن ثعلبة بن طریف بن الخزرج بن ساعدة بن کعب بن خزرج بن ابي ثابت الخزرجي الانصاري، كان بمثابة صاحب الشرطة للنبي صحابي من دهاة العرب وذو رأي، ولاه الإمام علي (علیه السلام) على مصر. الذهبي، سیر اعلام النبلاء، ط 9، تحقيق: شعيب الأرنؤوط و محمد نعیم العرقسوسي مؤسسة الرسالة، بیروت، 1913 ه، ج 3، ص 102 - 103. ابن حجر العسقلاني، الاصابة في تمييز الصحابة، ج 8، ص 1088.

(18) سهل بن حنیف: هو اخو عثمان بن حنيف بن وهب بن عکیم بن ثعلبة بن الحارث بن

ص: 328

مجدعة بن عمرو بن حنش بن عوف بن عمرو بن عوف الانصاري، روي عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وزيد بن ثابت، كان من السابقين شهد بدراً وثبت یوم احد وبايع على الموت، ولي على الشام في عهد علي ورفضه أهلها ثم أستخلف على البصرة، توفي سنة 38 ه. الطبري، ت تاریخ الرسل والملوك، طبعة، ج 4، ص 442. الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 328.

(19) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 442.

(20) خلید بن مرة التميمي:وقيل خليد بن طريف اليربوعي. ابن الاثیر، الکامل، ج 3، ص 157.

(21) ابن خیاط، تاریخ خليفة، ج 1، ص 199.

(22) قثم بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم اخو عبيد الله بن العباس، كان يشبه النبي (صلی الله علیه وسلم)، وقال الإمام علي (علیه السلام) كان قثم احدث الناس عهداً برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ولاه الإمام علي (علیه السلام) لما استخلف مكة، خرج أيام خلافه معاويه مع سعيد بن عثمان الى سمرقند فاستشهد فيها. ابن حجر العسقلاني، الاصابة، ج 5، ص 430.

(23) اليعقوبي احمد بن ابي يعقوب بن وهب بن واضح (ت 284 ه / 897 م)، تاريخ اليعقوبي، دار بيروت للطباعة والنشر، لا. م، 1960 م، ج 2، ص 179.

(24) مالك بن الحارث الاستر المخعي ولاه الامام علي المدينة، شهد مع الامام علي موقعه الجمل وصفين، وبعد صفين وجه الامام الى مصر بدلا من محمد بن أبي بكر، فلما علم معاويه بذلك و كان الأشتر أشد عليه من محمد بن أبي بكر دس له سماً، فلما صار إلى القلزم من الفسطاط نزل على رجل من أهل المدينة فخدمه وسقاه السم بعقب فيه عسل فمات بالقلزم سنه 38 ه / 658 م. اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 194. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعه بیروت، ج 3، ص 129 - 127.

(20) ابن خیاط، تاریخ خليفة، ج 1، ص 200.

(29) عمرو بن أبي سلمة بن عبد الاسد المخزومي، من الصحابة ولد بالحبشة ورباه النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، وولاه الإمام علي (علیه السلام) على البحرين. الزركلي، خير الدين، الاعلام، ج 5، دار العلم للملايين، (بیروت - 1979 م)، ج 5، ص 51.

ص: 329

(27) النعمان بن العجلان بن عامر بن زريق الانصاري، صحابي كان لسلن الانصار وساعدهم فأستعمله الامام علي (علیه السلام) على البحرين، شهد مع الامام علي صفين. المنقري، وقعه صفین، ص 432. أبن حجر العسقلاني، الاصابه، ج 8، ص 164.

(28) ابن خیاط، تاریخ خليفة، ج 1، ص 199

(29) الحارث بن مره العبدي، قلید له ذكر في فتوح السند فقد سار الى بلاد مکران و ظفر وغنم، ولما ولي الخليفة علي تقدم الحارث فولاه علي السند. الذهبي، ابن خیاط، تاریخ خليفه بن خیاط، ج 1، ص 199. الزركلي، الاعلام، ج 2، ص 157.

(30) ابن خیاط، تاریخ خليفة، ج 1، ص 199.

(31) زیاد بن أبيه، أختلفوا في أسم أبيه فقیل عبيد الله الثقفي وقيل أبو سفيان، أمير من دهاه العرب ولاه الخليفة علي أمر فارس. الطبري، تارخ، ج، ص تاریخ الرسل والملوك

(32) مخنف بن سليم بن حارث بن عوف بن ثعلبة بن عامر بن ذهل بن مازن بن ذبيان بن ثعلبة بن الدووول من الازد، أسلم وصحب النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ونزل بالكوفة بعد ذلك ولما كانت الخلافة لعلي (علیه السلام) ولاه اصفهان و همدان، شهد مع علي (علیه السلام) صفين. أبن سعد، الطبقات، ج 6، ص 35. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغه، طبعة قم، ج 3، ص 183.

(22) أبن خیاط، تاریخ خليفة بن خیاط، ج 1، ص 199.

(24) ابن خیاط، تاریخ خليفة، ج 1، ص 199

(35) ابا الاسود الدؤلي: ظالم بن عمرو الدؤلي، اسلم في حياة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، وهو اول من وضع العربية بأشارة من الإمام علي (علیه السلام)، كان شاعراً مجيداً، شهد الجمل وصفين مع الإمام علي (علیه السلام)، توفي في البصرة. الذهبي، سیر اعلام النبلاء، ج 4، ص 84 - 85.

(36) شريح ابو امية: شریح بن الحارث الكندي ولي قضاء الكوفة لعمر بن الخطاب، كانت له دراية بالغة بالقضاء. تولى القضاء للامام علي (علیه السلام)، توفي في مكة سنة 76 ه. الذهبي، العبر في خبر من غبر، ط 2، تحقيق: صلاح الدين المنجد، مطبعة الكويت، (الكويت - 1980 م)، ج 1، ص 89.

(37) معقل بن قيس الرياحي: من بني يربوع، كان رئیس قومه ولي شرطة الخليفة علي و شهد

ص: 330

مع الإمام علي (علیه السلام) حروبه، أرسله الى الخريت بن راشد فاوقع به ولما وقع التحكيم فارق علي (علیه السلام)، ابن حجر العسقلاني، الاصابة، ج 2، ص 359.

(38) ابن خیاط، تاریخ خليفة، ج 1، ص 201 - 203.

(39) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 442.

(40) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 442

(41) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعة القاهرة، ج 4، ص 443.

(62) محمد بن أبي بكر: ويكنى ابا القاسم، وأمه اسماء بنت عمیس الخثعمية أخت میمونة زوجة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)، نشأ في حجر علي بن ابي طالب (علیه السلام) وكان على رجالته يوم الجمل وشهد معه صفين، ولاه عثمان مصر وولاه علي (علیه السلام) ايضاً على مصر بعد مرجعه من صفين فوقع بينه وبين عمرو بن العاص حرب فهزم محمد وقتل. المحب الطبري، احمد بن عبد الله بن محمد بن جعفر (ت 695 ه / 1296 م)، الرياض النضرة في مناقب العترة، ط 1، تحقيق: عيسى عبد الله و محمد مانع الحميري، دار الغرب الاسلامي، (بيروت - 1996)، ج 2، ص 256

(43) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 4، ص 775؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 74.

(44) مصقله بن هبيرة الشيباني بن شبل الثعلبي بن بكر بن وائل قائد من الولاه ولاه الخليفة علي على كور والاحواز واردشير، اشترى أساری بني ناجيه من النصارى من معقل بن قيس وهم خمسمائة أنسان من الصبيان والنساء والشيوخ وثمنهم آلف آلف، لكنه عجز عن تسديد الثمن فهرب إلى معاوية. المنقري، نصر بن مزاحم بن سیار (ت 212 ه / 827 م)، وقعة صفين، ط 2، تحقيق: عبد السلام هارون، مصر الجديدة، 1992 م، ص 486. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، طبعه بیروت، ج 3، ص 146 - 147.

(45) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 4، ص 801؛ البحراني، کمال الدين میثم بن علي بن میثم (ت 172 ه / 1273 م)، شرح نهج البلاغة، منشورات مؤسسة النصر، 1384 ه، ج 5، ص 94 - 95.

ص: 331

(46) ابو يوسف، يعقوب بن ابراهيم (ت 182 ه / 798 م)، الخراج، تحقيق: محمود الباجي (تونس - 1984 م)، ص 142؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 4، ص 792.

(47) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 5، ص 799؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 93.

(48) المنذر بن الجارود، واسمه بشر بن حنش ولقب الجارود لان والد بشر غزا بکر وائل فاستأصلهم فلقبه احد الشعراء بهذا اللقب على اثر هذة الحادثة، كان من رؤساء عبد قيس وكان على رأس قومه في قتال أهل الردة. أبن حجر العسقلاني، الاصابه، ج 1، ص 441.

(49) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، مج 5، ص 239؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 227؛ جرداق، جورج، الإمام علي صوت العدالة الانسانية، دار الفكر، (بيروت - 1958 م)، ج 3، ص 730 - 736.

(50) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، ج 4، ص 311؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 352؛ کاشف الغطاء، مستدرك نهج البلاغة، ص 21. (51) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، ج 4، ص 311؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 352؛ كاشف الغطاء، مستدرك نهج البلاغة، ص 21. (52) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بیروت، ج 4، ص 311؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 352؛ کاشف الغطاء، مستدرك نهج البلاغة، ص 21. (53) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بیروت، ج 4، ص 311؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 352؛ کاشف الغطاء، مستدرك نهج البلاغة، ص 21.

(54) تاریخ الرسل والملوك، طبعة بيروت، ج 2، ص 652.

(55) احجار الزيت: موضع بالمدينة قريب من الزوراء وهو موضع صلاة الاستسقاء، وقيل احجار الزيت موضع بالمدينة وداخلها. البلاذري، احمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه / 892 م)، فتوح البلدان، تحقيق: رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 ه، ج 1، ص 109.

ص: 332

(56) الوجيف: الوجف سرعة السير، وضرب من سير الخيل والأبل سريع، وفي حديث الامام (علیه السلام) "اهون سيرهما فيه الوجيف" يقصد به ضرب من السير السريع. ابن منظور، ابوالفضل جمال الدين محمد بن مکرم (ت 711 ه / 1314 م)، لسان العرب، ط 1، تحقيق: صلاح المنجد، دار صادر، بیروت، لا. ت، ج 9، ص 352.

(57) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بیروت، ج 4، ص 289؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 339 - 335؛ کاشف الغطاء، مستدرك نهج البلاغة، ص 123 - 124.

(58) الطبري، تاريخ الملوك، طبعة القاهرة، ج 5، ص 116؛ ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 47.

(59) الطبري، تاريخ الملوك، طبعة القاهرة، ج 5، ص 11.

(60) البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 71 - 72.

(61) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة قم، ج 17، ص 30 - 31.

(62) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 234؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 131.

(63) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، ج 4، ص 530؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 446.

(64) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بیروت، ج 4، ص 530؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 446.

(65) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، ج 4، ص 530؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 446.

(66) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بیروت، ج 4، ص 530؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 446.

(67) سورة الاعراف، اية 16.

(68) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بیروت، ج 4، ص 803؛ البحراني، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 95 - 96.

ص: 333

(69) الترمذي، محمد بن عيسى ابو عيسى السلمي (ت 279 ه / 892 م)، سنن الترمذي، تحقيق: احمد شاکر واخرون، دار احیاء التراث العربي، بیروت، لا. ت، ج 4، ص 428.

(70) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، ج 5، ص 174.

(71) ذیلك: الذيل أحد اذيال القميص، والذيل أخر كل شيء. الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (ت 666 ه / 1297 م)، مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر، مکتبة لبنان، بیروت، 1415 ه، ج 1، ص 95، ج 11، ص 206؛

(72) مئزرك: الازار، وکنی بشدة عن اعتزال النساء، وقيل: اراد تشمير للعبادة. ابن منظور، لسان العرب، ج 4، ص 16.

(73) جحرك: كل شيء تحتفره الهوام والسباع لأنفسها، والجمع أحجار. ابن منظور، لسان العرب، ج 4، ص 117.

(74) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، ج 4، ص 174.

(75) خاثرك: نقيض الرقة الغليظ. ابن منظور، لسان العرب، ج 4، ص 230. (76) ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، طبعة بيروت، ج 5، ص 174.

(77) أبن ابي الحديد، طبعه بیروت، ج 5، ص 174

(78) الترمذي، سنن الترمذي ج 5، ص 297. النويري، نهايه الارب، ج 20، ص 7. الذهبي، الخلفاء الراشدون من تاريخ الاسلام، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987 - 1988 م، ص 251. المتقي الهندي، علي بن حسام الدين المتقي الهندي الرهان خوري (975 ه / 1567 م). منتخب کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، طبعه وفسر غريبه: الشيخ بكري حياني صححه ووضع فهارسه: الشيخ صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1399 ه / 1979 م، ج 11، ص 642.

ص: 334

المصادر والمراجع

المصادر الاولية:

ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني (ت 630 ه / 1232 م).

1. الكامل في التاريخ، دار صادر، بیروت، 1965. (10 اجزاء)

وطبعة ثانية، تحقيق: ابو الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.

البحراني، کمال الدین میثم بن علي بن میثم (ت 672 ه / 1273 م). (4 اجزاء)

1. شرح نهج البلاغة، منشورات مؤسسة النصر، 1384 ه.

البلاذري، احمد بن يحيى بن جابر (ت 279 ه / 892 م).

1. فتوح البلدان، تحقيق: رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 ه.

الترمذي، محمد بن عيسى ابو عيسى السلمي (ت 279 ه / 892 م).

1. سنن الترمذي، تحقيق: احمد شاکر واخرون، دار احیاء التراث العربي، بیروت، لا.ت. (5 اجزاء)

ابن جعفر الطبري، احمد بن عبد الله بن محمد (ت 694 ه / 1294 م).

1. الرياض النضرة في مناقب العترة، ط 1، تحقيق: عيسى عبد الله محمد مانع الحميري، دار الغرب الاسلامی، بیروت، 1996. (2 اجزاء)

ابن حجر العسقلاني، شباب الدین ابو الفضل احمد بن علي (ت 852 ه / 1448 م).

1. الاصابة في تمييز الصحابة، ط 1، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بیروت، 1992م. (8 اجزاء)

2. لسان الميزان، ط 3، مؤسسة الاعلمي للطباعة، بیروت، 1989 م.ص 70

ص: 335

ابن أبي الحديد، أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن حمد بن الحسين (656 ه / 1208 م)

1. شرح نهج البلاغة، مراجعة وتصحيح: لجنة أحياء الذخائر، منشورات دار مكتبة الحياة، بیروت، لا.ت. (5 اجزاء)

وطبعة قم، 1408 ه. (20 جزء)

ابن خیاط، خليفة بن خياط الليثي العصفري (ت 240 ه / 854 م).

1. تاریخ خليفة بن خیاط، ط 2 تحقیق: اکرم ضیاء العمري، دار العلم الملايين، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1977 م.

الذهبي، ابو عبد الله محمد بن احمد بن عثمان (ت 748 ه / 1347 م).

1. الخلفاء الراشدون من تاريخ الاسلام، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987 - 1988 م.

2. سیر اعلام النبلاء، ط 9، تحقيق: شعيب الأرنؤوط و محمد نعیم العرقسوسي مؤسسة الرسالة، بیروت، 1913 ه. (23 جزء)

3. العبر في خبر من غبر، ط 1، تحقيق: صلاح المنجد، لا. م، 1990 م.

الرازي، محمد بن ابي بكر بن عبد القادر (ت 666 ه / 1267 م).

مختار الصحاح، تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان، بیروت، 1415 ه

السدوسي، ابو عبد الله محمد بن زید (ت 273 ه / 886 م)

1. تاریخ الخلفاء، رواية أبي بكر السدوسي، تحقيق: محمد مطیع حافظ، مطبوعات مجمع اللغة العربية، مطبعة المفيد، دمشق، 1979 م.

ابن سعد، محمد بن منيع (ت 230 ه / 844 م).

2. الطبقات الکبری، تحقيق: ادورد سخو، دار صادر للطباعة، بیروت، (8 اجزاء)

السيوطي، جلال الدين بن عبد الرحمن (ت 911 / 1000 م).

3. تاریخ الخلفاء، تحقيق: محمد ابو الفضل، دار نهضة مصر للطباعة والنشر،

ص: 336

القاهرة، لا. ت.

الطبري، ابو جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه / 922 م)

1. تاریخ الرسل والملوك، ط 4، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1962 م.

وطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1407 ه. (5 اجزاء)

ابن عبد ربه، ابو عمر احمد بن محمد (328 ه / 939 م).

1. العقد الفريد، تحقيق: احمد امین، طبعة القاهرة، 1967 م. (5 اجزاء)

المحب الطبري، احمد بن عبد الله بن محمد بن جعفر (ت 695 ه / 1296 م)، الرياض النضرة في مناقب العترة، ط 1، تحقيق: عیسی عبد

الله ومحمد مانع الحميري، دار الغرب الاسلامي، (بيروت - 1996)

القلقشندي، ابو العباس احمد بن علي (ت 821 ه / 1918 م).

1. صبح الاعشى في صناعة الانشا، وزارة الثقافة والارشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، لا. م، لا.ت. (4 اجزاء)

ابن منظور، ابو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم (ت 711 ه / 1314 م)

1. لسان العرب، ط 1، تحقيق: صلاح المنجد، دار صادر، بیروت، لا.ت. (15 جزء)

المنقري، نصر بن مزاحم بن سیار (ت 212 ه / 827 م).

2. وقعة صفين، ط 2، تحقيق: عبد السلام هارون، مصر الجديدة، 1962 م.

النويري، شهاب الدین احمد بن عبد الوهاب (733 ه / 1332 م).

3. نهاية الأرب في معرفة فنون الادب، مراجعة: ابراهيم مصطفى، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1970 م. (20 جزء)

المتقي الهندي، علي بن حسام الدين المتقي الهندي الرهان خوري (975 ه / 1567 م).

ص: 337

1. منتخب کنز العمال في سنن الاقوال والافعال، طبعه وفسر غریبه: الشيخ بكري حياني صححه ووضع فهارسه: الشيخ صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1399 ه / 1979 م. (22 جزء)

اليعقوبي احمد بن ابي يعقوب بن وهب بن واضح (ت 284 ه / 897 م).

2. تاريخ اليعقوبي، دار بيروت للطباعة والنشر، لا. م، 1960 م. (2 جزء)

ابو يوسف، يعقوب بن ابراهيم (ت 182 ه / 798 م).

3. الخراج، دار المعرفة، بیروت، 1400 ه / 1979 م.

المراجع:

جرداق، جورج سجعان.

الامام علي صوت العدالة الانسانية، دار الفکر، بیروت، 1958 م. (4 اجزاء) حسين، طه.

1. علي وبنوه، مصر، 1975 م.

الزركلي، خير الدين.

1. الاعلام، دار العلم للملايين، بیروت، 1400 ه / 1979 م.

العقاد، عباس محمود.

1. عبقرية الامام علي بن ابي طالب، مصر، 1991 م.

الهادي، کاشف الغطا.

1. مستدرك نهج البلاغة، ط 2، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، لا. م، 1980 م.

ص: 338

السياسة الادارية عند الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

الأستاذ المساعد الدكتور احمد عدنان الميالي جامعة بغداد - كلية العلوم السياسية

ص: 339

ص: 340

مقدمة

سنتناول في هذا البحث السياسة الادارية عند الامام علي(عليه السلام) بعد استلامه للسلطة ومجمل الاصلاحات في هذا الاطار.

ترتكز فرضية البحث على: (ان الامام علي (عليه السلام) اعتبر مبارزة الفساد الاداري امر لامفر منه ولا يمكن تطبيق الاحكام الاسلامية وتطبيق منهج العدل واحترام الحقوق في السياق السياسي والاجتماعي دون ان اعتماد سياسة ادارية عادلة).

وسنعتمد لاثبات فرضية البحث المدخل التاريخي والمنهج التحليلي مع الاستعارة بالمنهج المقارن.

وسيقسم البحث الى عدة محاور رئيسة لتغطية متطلبات الفرضية نسبيا.

استهلال تأسيسي

عانت انظمة الحكم وتعاني من امور قد تؤدي الى هلاكها، في مقدمتها توسيد أمر لمن ليس له. فلابد للنظام السياسي الذي يرجو سيادة العدل السياسي، طرح نظرية الرجل المناسب في المكان المناسب. فالعدالة السياسية لاتقوم لمجرد معرفة الاُسس والقواعد التي تقوم عليها. فالعبرة في التنفيذ، صحيح ان التطبيق يبدأ من الحاكم السياسي، ولكنه لا يكتمل الا عند الولاة والعمال وبقية اركان النظام الاداري للدولة.

لذلك باشر الإمام (علیه السلام) في سياسته الادارية بعمليتين: اولاً: بعزل البعض من ولاة عثمان بن عفان على الأمصار، هؤلاء الولاة الذين كانوا من الاسباب المهمة في الثورة على الخليفة الثالث، لظلمهم وبغيهم وعدم درايتهم بالسياسة

ص: 341

واحوال الحكم الاسلامي. ثانياً: اسناد ولايتها الى رجال من اهل الدين والعفة والحزم ممن تتوافر في شخصيتهم موازين الاسلام(1). فقال (علیه السلام): ((وقد علمتم انه لا ينبغي ان يكون على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وإمامة المسلمين، البخيل، فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الجائف للدُّول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الاُمة))(2).

المحور الاول: اصول السياسة الادارية عند الإمام (علیه السلام):

حث الامام علي ع على التنظيم والانضباط الاداري من قبل العاملين. فقد قال (علیه السلام) للأشتر: ((وامضِ لكل يوم عمله؛ فأن لكل يوم مافيه.. اياك والعجلة بالاُمور قبل اوانها، او التسقط فيها عند امكانها، او اللجاجة فيها اذا تنكرت، او الوهن عنها اذا استوضحت. فضع كل امر موضعه، واوقع كل امر موقعه))(3). وفي كتابه الى امراء الخراج : ((اياكم وتأخير العمل ودفع الخير؛ فأن في ذلك الندم))(4). وفي وصيته (علیه السلام) للحسن والحسين (علیه السلام) لما ضربه ابن ملجم: ((اوصيكما وجميع ولدي بتقوى الله ونظم امركم))(5). كان (علیه السلام) ميالاً الى خاصية الانضباط الاداري في الشؤون الفردية والاجتماعية، بالاخص الاُمور ذات الصلة بالحكم. ففي فلسفة الإمام (علیه السلام)، كانت واحدة من حكم القرآن، ايجاد النظم في المجتمع، حيث كان (علیه السلام) يحث العاملين معه على الدوام ان لا يغفلوا عن خاصية الانضباط الاداري في ممارسة العمل، وان يبذلوا جهدهم لانجاز كل واجب في وقته المحدد.

من اصول السياسة الادارية عند الإمام (علیه السلام)، هي اختيار الاكفاء للإضطلاع بمسؤولية العمل الاداري. ففي رؤية الإمام (علیه السلام) ينبغي اختيار العاملين في النظام الاسلامي على اساس الجدارة، لا على اساس المحسوبية والمنسوبية. وفي هذا السياق

ص: 342

ينبغي ان تراعى في عملية الاختيار، ما يحظى به هؤلاء من تأهيل اخلاقي واصالة عائلية ومايتحلون به من كفاءه وتخصص. فيقول (علیه السلام) في عهده للأشتر: ((..فول من جنودك انصحهم في نفسك الله ولرسوله ولإمامك، وانقاهم جيباً، وافضلهم حلماً، ممن يبطيء عن الغضب ويستريح الى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو(6) على الاقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقصد به الضعف، ثم الصق بذوي المروءات والاحساب، واهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنه ...))(7). حيث في نظر الإمام (علیه السلام) لايجوز للولاة في النظام السياسي التابع لحكومته، ان يوزعوا المناصب على اساس الصلات العائلية والعلاقات السياسية. ولا يحق ان يلي امور الناس المحروم من الاصالة العائلية، ولا تناط المسؤولية بسيء الاخلاق، او ان يتعهد بشؤون المجتمع لمن يفتقر الى الكفاءة والتخصص ويفتقد للحيوية اللازمة لأنهم سينزلقون الى خيانة عملهم الاداري، فالخائن لا وجود له في حكومة الإمام (علیه السلام)، فقد قال(علیه السلام): ((ان المغيرة بن شعبة قد كان اشار عليَّ ان استعمل معاوية عل الشام وانا بالمدينة، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله ليراني اتخذ المضلين عضداً))(8). وقد اوصى (علیه السلام) ولاته وعماله بعدم الخيانة بحمل الامانة لمناصبهم الادارية، فقد كتب لرفاعة قاضيه على الاهواز: ((اعلم يارفاعة ان هذه الامارة امانة؛ فمن جعلها خيانة فعليه لعنة الله الى يوم القيامة، ومن استعمل خائناً فان محمد (صلى الله عليه وسلم) بريء منه في الدنيا والآخرة))(9). لذلك كان علیه السلام يستبعد الخائنين والعجزة، فيقول: ((من خانه وزیره فسد تدبيره))(10). وفي نفس المجال يؤكد الامام علي (علیه السلام) ذلك، بقوله: ((آفة الاعمال عجز العمال))(11). لا بل ان الإمام (علیه السلام) كان لا يولي من يكذب، لأن الكذب اداة اساسية لفساد النظام السياسي، فيقول: ((كذب السفير يولد الفساد، ويفوت المراد، ويبطل الحزم وينقص العزم))(12). وقد جاء في كتاب الاستيعاب لإبن عبد البر، يوصف سياسة علي في تعيين كادره الاداري: ((كان علي (رض).. لا

ص: 343

يخص بالولايات الا اهل الديانات والامانات، واذا بلغه عن احدهم خيانة، كتب اليه: قد جاءتكم موعظة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس اشيائهم.. اذا اتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من اعمالنا، حتى نبعث اليك من يستلمه منك..))(13).

من اصول السياسة الادارية عند الإمام (علیه السلام) هو تأمين الاحتياجات الاقتصادية للعاملين، فالإمام من يعتقد ان من لوازم الحؤول دون الفساد الاداري، ان يتمتع العاملون في النطاق الحكومي والوظائف العامة بحدٍ كافٍ من الحقوق المالية، تؤمن لهم الحياة الكريمة، لكي تتوافر الارضية المناسبة لإصلاح هؤلاء، ولا يطمعوا بالمال العام، ومن ثم تنتفي في حياتهم دوافع الاتجاه صوب الفساد والخيانة. فقد قال للأشتر: ((ثم اسبغ عليهم الارزاق، فأن ذلك قوة لهم على اصطلاح انفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت ايديهم وحجة عليهم، ان خالفوا امرك أو ثلموا امانتك))(14).

ومن اصول سياسة الإمام (علیه السلام) الادارية، هو تأسيس جهاز رقابة على العاملين والولاة. حيث نهى الإمام (علیه السلام) بشدة عن ممارسة التجسس والتدخل في الاُمور الشخصية للمجتمع اثناء عهده السياسي، بيد انه مع ذلك كان يرى من الضروري فرض رقابة على العاملين في النظام الاسلامي وممارسة ذلك عبر جهاز رقابي خاص، ومن خلال موظفين سريين (عيون)، لئلا يتوانى هؤلاء في اداء وظائفهم، او يتعدوا على حقوق الناس بالإتكاء الى ما لديهم من سلطة. ويستدل ذلك من كتاب الإمام علي (علیه السلام) الى كعب بن مالك في هذا المجال: ((اما بعد؛ فاستخلف على عملك واخرج في طائفة من اصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد(16) فتسأل عن عمالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب(15)،

ص: 344

ثم ارجع الى البهقبا ذات(17) فتول معونتها، واعمل بطاعة الله فيما ولاك منها، واعلم ان كل عمل بني آدم محفوظ علیه مجزي به، فأصنع خيراً، صنع الله بنا وبك خيراً، واعلمني الصدق فيما صنعت. والسلام)(18).

ان عهود الإمام (علیه السلام) واللوائح التي اصدرها بخصوص المراقبة الدقيقة للولاة وما بعث به من رسائل للولاة، كلها تؤيد تأسيس الإمام لجهاز رقابي مقتدر، كان ينهض بمهمة مراقبة العاملين معه. ولا تقف مهمة الإمام (علیه السلام) عند المراقبة بل يتعداها الى اتخاذ الموقف الحازم من العمال الذين لا يؤدوا امانة اعمالهم ويعاقب الخائن منهم. فيقول (علیه السلام) للأشعث بن قيس: ((أدَ وألاّ ضربتك بالسيف. فأدى ما كان عليه، فقال له من كان عليك لو كنا ضربناك بعرض السيف؟ فقال: انك ممن اذا قال فعل))(19). وايضاً من كتابه (علیه السلام) الى زياد بن ابيه: ((اني اقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني انك خُنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً او كبيراً، لاشُدن عليك شدةً تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر ضئيل الأمر. والسلام))(20). وايضاً كتابه الى إبن عباس عامله على البصرة: ((اما بعد، فقد بلغني عنك امر ان كنت فعلته، فقد اسخطت ربك واخربت امانتك، وعصيت إمامك، وخُنت المسلمين بلغني انك جردت الارض واكلت ما تحت يديك. فارفع الي حسابك، واعلم ان حساب الله اشد من حساب الناس. والسلام))(21). ويقول (علیه السلام) في عقوبة العمال الخائنين للأشتر: ((فان احد منهم بسط يده الى خيانة اجتمعت بها اخبار عيونك؛ اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، واخذته بما اصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة فوسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة))(22).

من مبادئ السياسة الادارية عند الإمام (علیه السلام)، هو اتباع سياسة الحزم المصحوب باللين. اذ يسير النظام السياسي العلوي في التعاطي مع العاملين

ص: 345

والولاة في النطاق الحكومي، على منهج يجمع بين الحزم واللين. فمن وجهة نظر الإمام (علیه السلام)، تعد القسوة المطلقة آفة تهدد النسق الاداري، وفي الوقت ذاته يلحق اللين اللامحدود اضراراً بادارة المجتمع. فيقول (علیه السلام) في كتابه لعماله: ((..فالبس لهم جلباباً من اللين، تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والادناء والابعاد والاقصاء. انشاء الله))(23).

وفي نفس المقام يقول (علیه السلام) لاحد عماله: ((..فأستعن بالله على ما اهمك، واخلط الشدة بضغث من اللين وارفق ما كان الرفق ارفق، واعتزم بالشدة، حين لا تغني عنك الا الشدة..))(24).

ان اساس العدالة في المجال السياسي يرتبط بتكوين جهاز اداري فاعل، وقد اولى الإمام (علیه السلام) الى الجانب الاداري اهمية فائقة، وكان يعد ويعتبر الولاية او المصر الذي يفتقد الى والي وجهاز اداري كفوء، هو من اسوء الأمصار، كما ان من الادلة التي دفعت الإمام علي (علیه السلام) الى قبول الحكم، هي ايجاد الاصلاحات الادارية.

ان الإمام علي (علیه السلام) يحمل العامل والوالي، هَم العدالة السياسية الاسلامية في جميع سلوكه، ويرى ان من اوكل الامانة اليهم من الولاة، فهم مسؤولون امام الخليفة وبالتالي امام الله عن سيرتهم، وطالما ان الولاية امانة في عنق الوالي، وجب ان يحافظ عليها، فلا يترك احداً يدفعه الى الاساءة اليها.

وقد انعكست السياسة الادارية في مدة تسنم الامام علي ع للسلطة بالاجمال على ابراز وتركيز مسألتين اساستين ترتبط بالمنهج الاداري وكانت نتاجا لهذه السياسة، وهما: احترام الحقوق المتبادلة بين الحاكم والرعية، ومن ثم تركيز النتيجة ذلك وهو ترسيخ منهج العدل السياسي في جهاز الخلافة الاسلامية

ص: 346

المحور الثاني: احترام الحقوق المتبادلة بين الحاكم والرعية

في منطق الإمام علي (علیه السلام)، لا يمكن بقاء الدول في المجتمعات الا اذا احترم النظام الحاكم حقوق الامة، او في الطرف الآخر ابدت الامة احترامها لحقوق النظام الحاكم عليه، والا فمن دون رعاية الحقوق المتبادلة بين الدولة والرعية لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية. وطبيعي ان رعاية هذا الأمر هي عملية شاقة، ففي دائرة الكلام، يحترم الجميع الحق، ولكن في دائرة العمل، يتضائل اهل الحق وينحسر عددهم. وبتعبير جميل للإمام (علیه السلام) ان الحق هو اوسع الاشياء في التواصف واضيقها في التناصف. لهذا كله لم تتخطى العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الانسان على مر التاريخ كله تخوم الشعار، بل تحول الشعار الى اداة لابتزاز حقوق الناس والاعتداء عليها اكثر.

سنحت على مدى التاريخ الاسلامي بعد عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فرصة استثنائية واحدة لجهة استقرار العدل، وتمثلت في العهد القصير الذي امضاه الإمام علي (صلى الله عليه وسلم) في الحكم، بيد ان الاُمة لم تغتنم هذه الفرصة، بل وقع الظلم على حكم الإمام (علیه السلام) من قبل الرعية ذاتها حتى قال: ((ان كانت الرعايا قبل لتشكو حيف رعاتها، فاني اليوم لاشكو حيف رعيتي))(25) و: ((اصبحت الاُمم تخاف ظلم رُعاتها، واصبحت اخاف ظلم رعيتي))(26).

يقول حسين علي لمنتظري: رغم كل الالتزامات التي منحها الإمام (علیه السلام) للشعب وهو في موقع السلطة السياسية، كان لزاماً على حكومته ان تمضي قدماً بتعهداتها للاُمة. فان الدولة تأسست ليس لاعمال السلطة والقدرة على الرعية والاستبداد عليهم من قبل النظام السياسي الحاكم بما شاء واراد، بل لادارة امورهم بالقسط والعدل على طبق موازين الشرع ومصالح الاُمة. فالغرض من

ص: 347

الدولة والحكومة هو اصلاح الاُمة وإعطاء حقوقها، وان من واجبات الحاكم بما انه هو الحافظ للدولة والضامن لقدرتها على التنفيذ بما يقوي الاُمة ودفاعها، فلا محالة وجود الارتباط التام بين الحكومة والاُمة والتعرف على حاجات الطرفين وتوقعاتهما بأداء الحقوق بين الحاكم والمحكوم، وافتراض عدم التقصير بأداء هذه الحقوق تحقيقاً للعدل الاجتماعي، فوظائف الحاكم السياسي من جهة منح الحقوق لرعيته تتجسد باقامة الحق ودفع الباطل، كما كان (علیه السلام) يقول، حيث ان اقامة الحق ودفع الباطل، هما اساس الملك وبدونهما لا حاجة للسلطة، لأنها تكون بدون أي سمة تقدير بالنسبة له، وان المسلمين ولاسيما اهل العلم والمعرفة الواقفين على مذاق الشرع هم من تقع عليهم مسؤولية تقويم الحاكم وحثه على العدالة الاجتماعية، ولا يجوز لهم السكوت في قبال التفاوت الطبقي الفاحش وغصب الحقوق العامة من قبل الإمام او الحاكم لحقوق الضعفاء(27).

ويقول (علیه السلام) في واجبات الحاكم تجاه رعيته من ناحية الحقوق: ((انه ليس على الإمام الا ما حمل من امر ربه، الا البلاغ في الموعظة والاجتهاد في النصيحة والاحياء للسنة واقامة الحدود على مستحقيها واصدار السهمان على اهلها))(28). وفي قوله لعثمان بن عفان حد له واجبات الخليفة التي لابد ان يلتزم بها: ((فأعلم ان افضل عباد الله إمام عادل هي وهدى؛ اقام سنة معلومة وامات بدعة مجهولة))(29)، و((على الإمام ان يُعلم اهل ولايته حدود الاسلام والايمان))(30). فهذه الكلمات لا تحتاج الى تفسير وكلها تبين وظائف الحاكم تجاه الرعية. ويرسم (علیه السلام) هذه المسؤولية الالزامية للحاكم بشكل اعمق، فيقول: ((لابد للأمة من امام يقوم بامرهم، فيأمرهم ويناهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد العدو ويقسم الغنائم ويفرض الفرائض ويعرفهم ابواب ما فيه صلاحهم ويحذرهم ما فيه

ص: 348

مضارهم. اذ كان الأمر والنهي احد اسباب الخلق، والاسقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ولفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد..))(31). ويوضح (علیه السلام) ضرورة وجود الحاكم السياسي، لكنه يقرن هذه الضرورة باقامة واداء الحقوق الواجبة علیه الالتزام بضمان تحقيقها. واول منطلقات اداء الحقوق هو العدل والحكم بما انزل الله تعالى، يقول (علیه السلام): ((حق على الإمام ان يحكم بما انزل الله، وان يعدل في الرعية، فإذا فعل ذلك فحق عليهم ان يسمعوا وان يطيعوا وان يجيبوا اذا دعوا، وايما إمام لم يحكم بما انزل الله فلا طاعة له))(32).

ويضع (علیه السلام) اداء الحاکم حقوق الرعية مقابل اطاعة الرعية للحاكم بأداء ما عليها من حقوق. ويؤكد (علیه السلام) على التقابل في الحقوق بضرورة الالتزام بادائها من قبل الطرفين، فيقول: ((اما بعد فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية امركم ولكم عليَّ مثل الذي لي عليكم، فالحق اوسع الاشياء في التواصف واضيقها في التناصف، لا يجري لأحد الا جرى عليه، ولا يجري عليه الا جرى له... واعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍ على كل، فجعلها نظاماً لأُلفتهم وعزاً لدينهم...))(33).

وهنا يضع هذا التقابل بالحقوق بين الحاكم والمحكوم موضع الواجب التشريعي بانه شرع الله وضعه للبشر ليكون نظاماً وعزة لحياتهم. حيث يجعل علي ابن الحسين (علیه السلام) حق الرعية على الحاكم ثابتاً مطلقاً سواء اقامت الرعية بما عليها من حق الحاكم او لم تقم.. اما حق الحاكم على رعيته فمقيد بصلاح الراعي بما عليه من حق فان اهمل فلا تجب طاعته، بل يجوز خلعه وعزله(34). وبهذا التقابل يعم العدل وتسعد الرعية وتبقى لا تزول، يقول (علیه السلام): ((فاذا ادت الرعية الى الوالي

ص: 349

حقه، وادى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرى على اذلالها السُنن فصلح بذلك الزمان وطِمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الاعداء))(35).

ويقول علي صلاح؛ ان من واجبات الحاكم، المبادرة السريعة من قبله نحو تحقيق حاجات الناس، ومراقبة الوزراء والولاة الذين يتثاقلون عن تأدية واجباتهم تجاه الشعب، ويطلبون المنفعة والارباح ويماطلون في قضاء الاعمال من جهة، ومن جهة اخرى عدم الاعتماد عليهم كلياً في حل قضايا الشعب، وعلى الحاكم ان يضع له برنامجاً قائماً على رؤية سليمة وان يتعهد بتنفيذ هذا البرنامج ما امكنه عن طريق تأدية كل عمل في يومه ووقته المحد له، واذا التزم الحاكم بذلك، فان النتائج ستكون في مصلحة النظام الاجتماعي، وايضاً من حق الشعب على الحاكم عدم احتجاب الحاكم طويلا عن رعيته، بل عليه ان يخرج لشعبه على فترات متقطعة، کما ان ذلك سيكون داعياً لجهله بأحوال شعبه..(36) کما ان على الحاكم كما يقول علي صلاح: ان لا يبخل على شعبه بأعطاء حقوقه، بل يعمل ما في وسعه لتلبية حقوقهم، ويبذل في ذلك كل ما يملك من طاقات وقدرات، فيتعامل مع الشعب تعاملاً مناقبيا على اساس العطف من اجل ايجاد جو معنوي متلاحم وخلق الانسجام النفسي بين ابناء الشعب وبين الحاكم لذلك ينبغي الابتعاد كلياً عن التعامل بمنطلق استبدادي، بل يجب ان يحترم الحاكم مشاعر واحاسيس الآخرين ويحاول جهد الامكان، الابتعاد عن المواطن التي تؤدي الى خدشها وازعاجها، فالذي يريد ان يقود الناس لابد ان يتعامل مع المجتمع بهذا التعامل من حيث لين الجانب واعطاء الحقوق. ويعتبر (علیه السلام)، ان منصب الحاكم ووصوله للسلطة داخل النظام السياسي الاسلامي، ليست اداة استعلاء وتكبر على الناس، وانما هو

ص: 350

مركز خدمة وتحمل اعباء المسؤوليات العامة، وبما ان الحاكم يقود الشعب على اساس قیم الله تعالى ومن اجل مصلحتهم وسعادتهم، لذلك تحتم عليه ان يسير في سياسته وفق الاوامر الالهية، فلا يخالف شريعة الله بظلم او جور؛ بحيث تكون كل قوانين النظام الحاكم نابعة من الاسلام الاصيل، لا اسلام الذات والاهواء، ويجب على الحاكم أن لا يفكر ان واجبه هو السيطرة على السلطة وصنع القرار واصداره وتمريره، وانما عليه ان يراعي الوضع الذي يعيشه شعبه وان يكون على بصیره تامة من ناحية الظروف الطبيعية التي تمر بالشعب، وان يقوم بالتنسيق بين الفكرة المطروحة والامكانيات الموجودة، ومن ثم الاستفادة من جميع الاراء لصنع القرار الأفضل، المتفاعل والمنسجم مع الوضع القائم في المجتمع(37).

ان الإمام عليه ان لا يطمع بالخلافة ويسطو على السلطة، ولكن عليه تأدية حقوق الشعب، وانصاف المظلومين واصلاح البلاد، يقول (علیه السلام): ((اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان؛ ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك))(38).

والمتتبع لكلمات الإمام علي (علیه السلام) في خطبه وكتبه الى عماله وولاته، يجد عنایته واهتمامه برد المظالم واحقاق الحقوق من قبلهم، حيث لانهم بقدرتهم وقوتهم السياسية، يكونون اقدر على ذلك من كل احد. فالإمام علي (علیه السلام) بعد تصديه للخلافة، رد على المسلمين ما اقطعه الخليفة عثمان بن عفان (رض) من اموالهم. فقد قام بمصادرة ما اقطعه من القطائع ووهبه من الأموال لغير المستحقين بشكل غير مشروع(39). وأكد (علیه السلام) في عهده للاشتر على ضرورة اهتمامه بالنظر في حاجات الرعية والتواضع لهم،: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم

ص: 351

فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه الله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك واعوانك من احراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول اللہ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: لن تقدس أُمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع))(40)، ويقول للاشتر ايضاً (علیه السلام): ((ثم ان للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة انصاف في معاملة، فأحسم مادة اولئك بقطع اسباب تلك الاحوال.. والزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع))(41). وقد ركز (علیه السلام) هنا على التواضع من الحاكم السياسي تجاه الرعية وعدم الغلظ وتصنع لغة الأمرة في حديثه مع الرعية وابعاد حاشيته وحرسه الشخصي عند مقابلة شعبه وانصاف الضعيف واخذ الحق له من القوي. ويحسم (علیه السلام) مسؤولية الحاكم تجاه الامة في موقع السلطة بأن السلطة وجدت في الاسلام، للمحافظة على الدين ثم تأتي وظيفة الجوانب الحقوقية والخلقية من الحاكم تجاه الرعية، فيقول (علیه السلام): ((من علامات المأمون على دين الله، بعد الاقرار والعمل والحزم في امره والصدق في قوله، والعدل في حكمه، والشفقة على رعيته، لا تخرجه القدرة الى خرق، ولا اللين الى ضعف، ولا تمنعه العزة من كرم عفوٍ، ولا يدعوه العفو الى اضاعة حق، ولا يدخله الإعطاء في سرف، ولا يتخطى به القصد الى بُخل ولا تأخذه نعم الله ببطر))(42).

يقول محمد باقر الحكيم في تبادل العلاقة الحقوقية بين القيادة والاُمة: في تمام مسؤوليات القيادة للاُمة. فعلى الرعية لزوم الطاعة. فالطاعة مرتبطة بتمام تنفيذ المسؤوليات الملقاة على القيادة السياسية، لأن هذه المسؤوليات تفرض ضرورة الطاعة، لأنها طاعة الله تعالى. وتُمكن القيادة من القيام بدورها في تزكية المجتمع وتعليمه. ومن تطبيقات الطاعة هي الولاء السياسي الذي يتمحور حول القيادة،

ص: 352

وبدون الطاعة لا يصبح الولاء ذا مضمون حقيقي(43). وعندما بايع الناس الإمام علي (علیه السلام) قال:((ايها الناس بايعتموني، على ما بويع عليه من كان قبلي، وانما الخيار قبل ان تقع البيعة فإذا وقعت فلا خيار، وانما على الإمام الاستقامة وعلى الرعية التسليم..))(44). وفي نفس المقام يقول (علیه السلام): ((..ولي عليكم الطاعة، وان لا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات الى الحق، فأن انتم لم تستقيموا لي على ذلك، لم يكن اهون عليّ ممن اعوج منكم ثم اعظم له العقوبة، ولا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من امرائكم واعطوهم من انفسكم ما يصلح الله به امركم))(45)، فالطاعة هي الحق الاساس المفترض وجوباً منحها للحاكم الملتزم بأداء حقوق الشعب وضرورة اتباع الحاكم واطاعة اوامره وخوض الحروب معه ومحاربة الفتن والبدع، وعدم الانشقاق والتمرد عليه، والا تعرضوا للعقوبة ويصبحون من الخارجين على السلطة الشرعية.

لقد جسد الإمام (علیه السلام) العلاقة التقابلية بالالتزام بالحقوق من طرف الاُمة والحاكم بقوله (علیه السلام): ((ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعضٍ فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها الا لبعض))(46). وبهذا التقابل في الحقوق والالتزام بادائها من الحاكم والمحكوم، يحفظ العدل وتشاع العدالة الاجتماعية، التي هي المطلب الاء المطلب الاساسي في السياسة الاسلامية. وكان (علیه السلام) نموذجاً للحاكم العادل الصالح الذي ساوى بين الرعية وبين الحاكم والمحكوم(47).

وعدم الالتزام بالحقوق وادائها بين الحاكم والرعية، يعني ان تتعطل الحياة السياسية ويتعثر تطبيق الدين والشريعة ويعم الظلم، لذلك يقول (علیه السلام): ((واذا غلبت الرعية واليها، او اجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، ظهرت

ص: 353

معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السُنن، وعطلت الاحکام، وكثرت علل النفوس..))(48). ويرى الاسلام، ان حق القيادة السياسية للمجتمع في اطار تعاليمه لا يغایر حقوق الناس، بل هو رهین باداء القائد حقوقهم، وهم مکفولون بطاعته ودعمه اذا روعيت حقوقهم في النظام الذي يقوده(49).

ان من ضرورات الحكم الصالح، هو المشاركة الوجدانية بين الراعي والرعية. اذها يستطيع الحاكم ان يتعرف على آمال المحكومين والآمهم ومطامحهم، وان يعي حاجاتهم ومخاوفهم، فيعمل لخيرهم، ويصنع كل شيء مما يصلحهم موضعه ويشعرهم ذلك برعايته لهم وحياطته لامورهم وعمله لصالحهم، فيدعمون حكمه بحبهم وایثارهم له ويؤازرونه في السراء والضراء على السواء(50).

من هنا نصل الى ان صلاح الراعي ونجاحه مرتبطاً باستقامة الرعية وهذا يرتبط بنجاح النظام السياسي، وعدم الالتزام بالحقوق المتبادلة بين القيادة والاُمة، یهز العدالة السياسية للنظام الحاكم وسيواجه صعوبات عصية في نجاحه. وان الإمام علي (علیه السلام) قد اوكل جميع حقوق الرعية، الا ان الرعية قد تقاعست عن طاعة الإمام (علیه السلام) في اكثر من موطن، مما اثار الصعوبات امام قيامه ببعض الاصلاحات الاضافية التي تحتاج الى فترة طويلة في الحكم. ذلك لأن الشخصيات القيادية السياسية، ليست مسؤولة عن السياسة والاقتصاد وغيرها فحسب، بل تقع على عاتقها مسؤوليات اکبر في مجالات الاخلاق والايمان والعمل والتفوق ومكافحة المنكر واشاعة ثقافة الخير وتكوين المجتمع الاسلامي الايماني المتكامل، وهذا ما يميز النظام السياسي الاسلامي عن غيره.

ص: 354

المحور الثالث: إقامة منهج العدل

تعد العدالة المحور الاكثر بروزاً في منهج حكم وادارة الإمام علي (علیه السلام) وقد بلغ من اقتران اسم علي (علیه السلام) بالعدالة وامتزاجه بها، قدراً بحيث صار اسم علي (علیه السلام) عنوان للعدالة، وعنوان العدالة باعثاً للإيحاء باسم علي (علیه السلام)، ومعنى هذا التصاحب بين الاثنين، ان الحكم الذي يمكنه الادعاء باقتفاء حكومة الإمام (علیه السلام) مثالاً له، هو الحكم الذي يحرص قادته على العدالة اكثر من اي شيء آخر. ويقول محمد الريشهري في عدالة الإمام (علیه السلام): بديهي لا يمكن الاقتداء بالعدالة والتعاطي معها من خلال الشعار والاقوال وحسب، كما دأب على ذلك الجميع في العالم المعاصر عبر رفع هذا الشعار وتكراره، وانما يحصل بترسيخ العدالة من خلال السلوك والعمل. ان الحكم الذي يسعى للاقتداء بمنهج حكم الإمام (علیه السلام)، هو ذلك الذي لا يضحي بالعدالة، فليس في نهج حكومة وادارة الإمام (علیه السلام)، اعلى من مصلحة اقامة العدل، فان بمقدور الحكم ان يعلن ان مثاله الاعلى الذي يحتذى به، هو علي (علیه السلام) اذا ما استطاع ان يحكم القلوب عبر تقديم العدالة على المصلحة، لا ان يحكم الاجساد ويقبض سيطرته عليها، عبر منهج ترجيح المصالح العابرة(51).

لقد ركز (علیه السلام) على عدم تجاوز الفرد الحاكم في موقع السلطة على حقوق الآخرين، وضرورة مناصرته للضعفاء. فالعدل کما يقول مرتضى المطهري: كلمة يقصد بها كون الشيء موزوناً، فمثلاً ان أي مجتمع يريد لنفسه البقاء والاستقرار، فانه لابد ان يكون متعادلاً، أي ان يكون كل شيء فيه موجوداً بالقدر اللازم، وليس بالقدر المتساوي. وكل مجتمع متعادل يحتاج الى فعاليات متنوعة، منها اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وتربوية وقضائية وثقافية.. ولابد من تقسيم هذه الفعاليات

ص: 355

بين افراد المجتمع واستخدام افراد لها بالقدر الضروري، وهذه مسؤولية الحاكم السياسي الذي يبني نظامه السياسي على العدل، فالتعادل الاجتماعي يفرض على القيادة السياسية ان تأخذ بنظر الاعتبار تخصيص ميزان الاحتياجات، من خلال ميزانية مناسبة، وتصرف فيها قوة لازمة. حيث يصل النظام السياسي الى مسألة المصلحة العمومية، التي فيها بقاء ودوام الكل والذي يؤدي الى الاهتمام بالاهداف الكلية ويجعل من العدل اساساً للسلطة(52).

سلسلة ويقول محمد السند: ان غاية الحكومة في النظام السياسي، هو تحقيق الضرورات الاساسية، ثم الضرورات الكمالية اللاحقة المطلوبة لتأمين السعادتين الدنيوية والآخروية للبشر، وهنا ليس من دوران الأمر بين تلك الغايات الدينية التشريعية من الحدود الالهية والحكومة الدنيوية بما هي، بل يجب ضمان الجانبين عن طريق النظام السياسي، فلذلك يجب اصلاح التدبير واصلاح الاعراف والعادات بتوسط من العوامل والمناشيء التي تقوم الوئام والتناسب بين ضرورات العدل الاجتماعي المدني وبين غايات التشريع الالهي، وصولاً الى تعميم العدل لجميع مكونات الاجتماع البشري بضروراته الاولية والكالية وصولاً الى غاية العدل، وبنظرة فاحصة تجد حكومة الإمام علي (علیه السلام) عملت بهذا التوفيق(53).

لقد ذهب (علیه السلام) الى تفعیل العدل في حكومته، وسعى لتثبيت دعائم العدالة عملياً. ففي كتابه للأشتر، يقول (علیه السلام): ((فقد قدم عليَّ رسولك. وذكرت ما رأيت وبلغك عن اهل البصرة بعد انصرافي، وسأخبرك عن القوم: هم بين مقيم لرغبة يرجوها، او عقوبة يخشاها، فارغب راغبهم بالعدل عليه والانصاف له والاحسان اليه))(54). حيث وضح (علیه السلام) ضرورة التمسك بمنهج القسط والعدل حتى بعد الظفر والنصر على المجتمع، لذلك امر بالاحسان اليهم واعتبر ذلك من اركان

ص: 356

السلطة وضروراتها. وايضا جاء بعهده (علیه السلام) للأشتر: ((وليكن احب الاُمور اليك اوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضى الرعية... ان افضل قرة عين الولاة، استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية))(55)، وهنا يربط (علیه السلام) بين بسط العدل في المجتمع باستقطاب الرضى الشعبي ويجعل من القاعدة الجماهيرية اكثر التصاقاً بحكامها، من خلال الوسطية في التعامل السياسي والاجتماعي والديني.. وكل ما يرتبط بالتعامل مع الرعية، فالوسطية أساس العدل.

ويصف لبیب بیضون نظرة وغاية الإمام (علیه السلام) من السلطة: أن الإمام (علیه السلام) يرفض السلطة بصفتها مقاماً دنیوياً يشبع غريزة حب الجاه والتسلط في الانسان، وبصفتها هدفا للحياة وعندئذ لا تساوي في نظره شيئاً.. ولكنه يقدسها تقدیساً عظيماً، اذا كانت تحقق هدفها الأصيل، هو ان تكون وسيلة الى احقاق الحق وخدمة الخلق. ويعتبر(علیه السلام) ان احقاق الحق واقامة العدل، واجب الهي فلا يصح ان يقف المسلم تجاه الظلم وقفة المتفرج، عندما يترك الناس العدل ويعملون بالظلم والتميز الطبقي. ووجد الإمام (علیه السلام) نفسه ملزماً وفق هذا المبدأ، ليزيل مظاهر الجور والظلم من المجتمع ويعيد الحقوق الى اهلها، فهذه غايته من السلطة، وليس المنصب والأمرة. فقد بَيَنَ الإمام (علیه السلام)، ان الحاكم في موقع السلطة السياسية، ما هو في الواقع الا حارس مؤتمن على حقوق الناس ومسؤول امامهم، فالحاكم هو للرعية وليس الرعية للحاكم. ان العدل في نظر الإمام (علیه السلام) هو الاصل الذي يستطيع أن يحقق توازن المجتمع ويرضي جميع افراده، اما الظلم والتمييز الطبقي، فهو لا يرضي حتى نفس الظالم، فكيف بالمظلومين والمحرومين، لذلك لم يهادن الإمام (علیه السلام) احداً في الحق، ولم تأخذه في اقامة العدل لومة لائم، ومن ذلك اكد (علیه السلام)، ان في العدل سعة وان في الجور ضیقاً، فالمؤمن يقنع بالعدل

ص: 357

ولا يتجاوز حدوده فيعيش في استقرار وسعادة، اما المنحرف الذي يتجاوز حدود العدل، فليس امامه حدود تحده فيعيش دائماً في ضيق وقلق ولا يبلغ حد الاستقرار والسعادة. لذلك يحث الإمام (علیه السلام) کل انسان الالتزام اتجاهه باعطاء حقه وهو بدوره ان يعطي غيره ما يستحقه كل حسب استعداده وعمله، لكي يصبح المجتمع كاملاً ومتوازناً، حيث ان العدالة قانون عام يدير جميع شؤون المجتمع، فهو سبيل يسلكه الجميع، لذلك كان يقدم العدالة كمبدأ اجتماعي(56). ومن مصاديق دعوة الإمام (علیه السلام) الى العدل ما اورده الى عماله وولاته وتشديده على التزام مبدأ العدل في معاملة الرعية. ففي كتابه لأحد ولاته: ((اما بعد، فان الوالي اذا اختلف هواه منعه ذلك كثيراً من العدل، فليكن امر الناس عندك في الحق سواء؛ فأنه ليس في الجور عوض عن العدل، فاجتنب ما تنكر امثاله))(57).

ويشد (علیه السلام) على انصاف المظلومين وتطبيق العدل الاجتماعي حتى مع اهل الذمة ممن يعيش في محيط الدولة الاسلامية. فقد اكد في كتابه لأحد ولاته: ((.. وبالعدل على اهل الذمة وانصاف المظلوم وبالشدة على الظالم، وبالعفو عن الناس...))(58). ويقول ايضاً: ((ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم..))(59). ويستمر تأكيد الإمام علي (علیه السلام) على استقامة الحاكم وضرورة تأمين صفة العدل الاجتماعي تجاه المجتمع. مؤكداً ان اقامة العدل هو ابتغاء مرضاة الله، وان الظلم هو معصية الله وهو يرتبط بالدنيا، وانما الظلم وصاحبه زائلان، يقول (علیه السلام): ((والله لو اُعطيت الاقاليم السبعة بما تحت املاكها، على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة، ما فعلته وان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليٌ ولنعيم يفنى ولذة لاتبقى))(60).

هو والإمام علي (علیه السلام) لا يتهاون في اقامة العدل حتى مع اقرب الناس له، ص: 358

يفرق بين القريب والبعيد. فقد نقل ابن كثير في البداية والنهاية: أن جعدة بن هبيرة جاء الى الإمام علي، وقال له: ((يا امير المؤمنين. يأتيك الرجلان ان انت احب الى احدهما من نفسه او من اهله وماله، والآخر لو يستطيع ان يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا؟ فلهزه(61) علي وقال: ان شيء لو كان لي فعلت، ولكن انما ذا شيء الله))(62).

ويعتبر الإمام (علیه السلام) ان العدل من افضل مكارم الاخلاق، وهي افضل من الجود بكل امواله. وعندما سئل الإمام (علیه السلام) ايهما افضل العدل اوالجود؟ فقال (علیه السلام): ((العدل يضع الاُمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، العدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل اشرفهما وافضلهما))(63).

لقد سعى (علیه السلام) لاقامة الحق وإزهاق الباطل في ظلال حكومته ومن خلال تسنمه السلطة، رغم تلك الازمة العاصفة التي واجهها والمرحلة الحساسة والخطيرة التي عاشها، فكان موقفه في مستوى الشعور بالمسؤولية والحرص على مستقبل الاسلام والدولة الاسلامية بانتهاج العدل كأحد الطرق لتحقيق ذلك(64).

لقد اولى الإمام (علیه السلام) العدل اهمية اولى في منهجه قبل وبعد استلامه السلطة. واولی (علیه السلام) المقومات الشخصية التي يتمتع بها الحاكم اهتماماً بليغاً لأن مسؤولية تطبيق العدالة السياسية كما يرسمها الإمام علي (علیه السلام) تتطلب حاكماً من طراز مرموق يلتزم بتطبيق حكم الله، مما يجذب الطاعة والالتزام من الرعية.

ص: 359

الخاتمة

نستخلص من مرحلة عهد الامام علي (علیه السلام) في الخلافة وممارسة السلطة الشرعية، جملة استنتاجات اساسية تجسد ماهية الاصول السياسية والادارية والتي على الحاكم السياسي أن يلتزم بها ازاء الامة او الرعية، فقد خلف الامام علي (علیه السلام) منظومة فكرية متكاملة يصعب الاحاطة بمضامينها ومعانيها. فقد عالج في خطبه وكتبه وعهده لمالك الأشتر، شؤون المجتمع الاجتماعية والسياسية والادارية وتأمين العيش الكريم لهم، باختصار رسم الامام علي ع سياسة ادارية جسدت بدورها المعالم الأساسية لحقوق الإنسان.

لقد فكر الإمام علي (علیه السلام) في المجتمع الذي يحكمه، وفكر في أفضل الطرق والوسائل التي تنمي مقوماته الاجتماعية وترتفع به إلى الذروة في الرفاهية والقوة والأمن، مع ملاحظة انه مجتمع یدین بالإسلام، وإن شؤونه الاجتماعية تخضع لقوانين الإسلام، وإنه يجب أن يأخذ سبيله إلى النمو والتكامل في إطار إسلامي بحت.

إن ماتم استعراضه حيال الاصول السياسية عند الإمام علي (علیه السلام) في مجال الإدارة والحكم و منهج اقامة العدل، یکشف بجلاء إن السياسة (السلطة)، في منظار الإمام علي (علیه السلام) هي أداة للحكم على أساس الحقوق والواجبات والاحتياجات الواقعية للناس، وليست أداة لترسيخ سلطة الأقوياء على حقوق الشعب، وهذه المواقف التي يتمسك بها الإمام (علیه السلام) من حيث إصراره على التمسك بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي ينشدها الإسلام، أدت إلى انه لم يصل إلى السلطة. وقد أشار الإمام (علیه السلام) في أكثر من مرة، إلى أن السياسات والوسائل الفاعلة على صعيد فرض الحكم التسلطي على المجتمع، بأنه لا يستطيع أن يلجا إليها، لأنها تنتهي إلى

ص: 360

ثمن باهض، وهو فساد السياسي نفسه. فلم یکن لحركة الإصلاح السياسي من هدف سوى إحياء منهج الحكم النبوي، ومن ثَمَ لم يكن بمقدورها أن تتحرك على أُسس غير مبدئية مناهضة للدين والقيم وكل ماهو غير إنساني. من هذا المنطلق راحت سياسة الإمام علي (علیه السلام)، تواجه ذات العقبات والمشكلات التي اصدم بها الحكم النبوي.

إن سياسة الإمام علي (علیه السلام)، أبرزت الواقع الإسلامي بجميع طاقاته في عالم السياسة والحكم. فقد كان (علیه السلام) يهدف في حكمه إلى إزالة الفوارق الاجتماعية بين الناس، وتحقيق الفرص المتكافئة بينهم على اختلاف قومياتهم وأديانهم، ومعاملة جميع الطوائف بروح العدل، من دون أن تتمتع أي طائفة بامتياز خاص. وقد أوجدت هذه السياسة للإمام (علیه السلام) رصيداً شعبياً هائلاً، فقد ظلَّ الإمام علي (علیه السلام) قائماً في قلوب الجماهير الشعبية، بما ترکه من صنوف العدل والمساواة الإنسانية.

إن المجتمع الصالح الذي يعز فيه الحق ولا يطمع فيه العدو يقوم على أمرين: صلاح الحاكم، وصلاح الشعب. أما صلاح الحاكم فبعلمه وأداءه السياسي وكفاءته للقيام بأعباء الحكم. وأما صلاح الشعب، فيقوم بالنصح والإخلاص للحُكم الصالح، والتعاون على الخير والنفع العام، فإذا قصر الحاكم اوتمرد الشعب، فُقد الأمن وعم الذُعر وشُلت الأعمال، وقد اعتبر الإسلام التمرد على الحاكم العادل تمرداً على المجتمع، وسمي الخارجين عليه بالساعين في الأرض فساداً. فقد أولى (علیه السلام) الجانب الأمني أهمية فائقة، وكان يعد البقعة التي تفتقد إلى الأمن، أسوأ ألاماكن، كما إن من الأسباب التي دفعته إلى قبول الحكم، هي إيجاد الإصلاحات الأمنية وتأسيس نظام امني فاعل، من خلال التوازن الايجابي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

ص: 361

لقد كانت سياسة الإمام علي (عليه السلام) تتضمن مبادی سياسية وادارية شاملة وعامة ودقيقة لا تغفل أي تفصيل، حيث لا تكمن أهمية السياسة والادارة في فكر الإمام علي (علیه السلام) من خلال تعامله مع ماهو أساسي فحسب، ولكنها تتعدى ذلك إلى تعامله مع أدق التفاصيل. وذلك طبيعي، لأن القاعدة واحدة، وهي استشعار رضا الله في كل تصرف يقوم به الحاكم حيال الرعية. والطلب من الحاكم أن يكون عادلاً حتى في توجيه النظرات، ليس بسبب قيمة تلك النظرات مفردة، ولكن بسبب ما يترتب من جور على اختلال میزان العدل في توزيعها.

هوامش البحث:

(1) سلسلة العلوم والمعارف الاسلامية، الحياة السياسية لائمة اهل البيت (علیه السلام) مؤسسة المعارف الاسلامية، الكتاب 14، د.ت .14، ص 73 - 74.

(2) الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، (الجامع)، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة: صبحي الصالح، تحقيق: فارس تبریزیان، (إيران، مؤسسة الهجرة، 1380 ه).، الكتاب 131، ص 232 - 233.

(3) ابي محمد الحراني، تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، تصحیح وتعليق: علي اکبر الغفاري، ط 2، (قم مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه)، ص 143 - 144.

(4) ابو جعفر الاسكافي، المعيار والموازنة في فضائل امير المؤمنين (علیه السلام)، تحقيق: محمد باقر المحمودي، ط 1، ( د.م، د.ن، 1402 ه)، ص 223. (5) سليمان ابن ابراهيم القندوزي، ينابيع المودة لذوي القربی، تحقيق: علي جمال، ط 1، (طهران، دار الأسوة لطباعة والنشر، 1416 ه)، ج 2، ص 30.

(6) ينبو: الجفاء، ينظر: ابن منظور، لسان العرب، (قم، أدب الحوزة، 1405 ه)، ج 15، ص 302.

ص: 362

(7) ابي محمد الحراني، تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، مصدر سابق، ص 132.

(8) ابي محمد بن عتبة الدينوري، الإمامة والسياسة، تحقيق: علي شيري، ط 1، (قم، مكتبة الشريف الرضي، 1413 ه).، ج 1، ص 116.

(9) محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ط 1، (النجف الاشرف، دار النعمان، 1998)، ج 5، ص 33.

(10) ابي الحسن علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ط 1، (قم، مؤسسة دار الحديث، 1379 ه).، ص 432.

(11) المصدر نفسه، ص 181.

(12) المصدر نفسه، ص 397.

(13) ابن عبدالبر يوسف القرطبي، الاستیعاب في معرفة الأصحاب، (بیروت، دار الكتب العلمية، 1415 ه)، ج 3، ص 210 - 211.

(14) أبي محمد الحراني، تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، مصدر سابق، ص 137.

(15) كورة السواد: اراضي وقرى في العراق، نسبة إلى النخيل والزرع والاشجار.

(16) العذيب: ماء لبني تميم في الكوفة.

(17) البهقبا ذات: اسم لثلاث كور في بغداد من اعمال سقي الفرات.

(18) احمد بن يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، (بیروت، دار صادر، د.ت)، ج 2، ص 204 - 205.

(19) محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، تحقيق: مرکز بحوث دار الحديث، ط 2، (قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه)، ج 4، ص 141.

(20) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، ط 2، (بیروت، مؤسسة الوفاء، 1983)، ج 33، ص 489.

ص: 363

(21) احمد بن يحيى البلاذری، انساب الاشراف، تحقيق: محمد باقر المحمودي، ط 1، (مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1974)، ج 2، ص 397.

(22) النعمان بن محمد بن منصور المغربي، دعائم الاسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والاحکام، تحقیق: آصف بن علي اصغر فيضي، ط 3، (مصر، دار المعارف، 1389 ه)، ج 1، 361.

(23) احمد بن يحيى البلاذری، انساب الاشراف، مصدر سابق، ج 2، ص 390.

(24) المفيد، الامالي، تحقيق: حسين استاد ولي وعلي اکبر الغفاري، ط 2، (قم، مؤسسة النشر الاسلامي، 1404 ه)، ص 80.

(25) محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، مصدر سابق

(26) علي الكوراني العاملي، جواهر التاريخ، ط 1، (قم، دار الهدى للنشر، 1425 ه)، ج 1، ص 199 - 20.

(27) حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الاسلامية، ط 2، (قم، مکتبة الاعلام الاسلامي، 1409 ه)، ج 2، ص 14.

(28) الشريف الرضي (الجامع)، نهج البلاغة، شرح: محمد عبدة (قم، دار الذخائر، د.ت)، ج 2، ص 202،

(29) الشريف الرضي (الجامع)، نهج البلاغة، فهرسة: صبحي الصالح، الخطبة 164، ص 287.

(30) عبد الواحد الآمدي، تصنیف غرر الحکم و درر الكلم، تحقيق: جلال الدين الآرموي، (طهران، جامعة طهران، 1360 ه)، ج 4، الحكمة 6199.

(31) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، ج 90، ص 41.

(32) زید بن علي، مسند زيد بن علي، ط 1، (بیروت، منشورات مكتبة الحياة، 1966). ص 322

(33) ابي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، اصول الكافي، تصحیح و تعليق: علي اکبر الغفاري، (ایران، دار الكتب الاسلامية، د.ت)، ج 8، ص 352.

ص: 364

(34) علي ابن الحسين (علیه السلام)، شرح رسالة الحقوق، تحقيق وشرح: حسن علي القبانجي، ط 2، (قم، مؤسسة اسماعليان للطباعة والنشر، 1406 ه)، ص 378.

(35) الشريف الرضي (الجامع)، نهج البلاغة، فهرسة: صبحي الصالح، مصدر سابق، الخطبة 216، ص 419.

(36) علي صلاح، الحكم والادارة في نهج الإمام علي (علیه السلام)، (د.م، دار البصائر للنشر، 1405 ه)، ص 101 - 103.

(37) المصدر السابق، ص 56 وما بعدها.

(38) الشريف الرضي (الجامع)، نهج البلاغة، فهرسة: صبحي الصالح، مصدر سابق، الخطبة، 131، ص 232.

(39) سلسلة العلوم والمعارف الاسلامية، الحياة السياسية لأئمة أهل البيت (علیه السلام)، مصدر سابق، الكتاب 14، ص 72.

(40) الشريف الرضي (الجامع)، نهج البلاغة، فهرسة: صبحي الصالح، مصدر سابق، الكتاب 53، ص 564 - 565.

(41) المصدر نفسه، الكتاب 53، ص 567.

(42) ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، القاهرة، دار احیاء الكتب العربية، 1967). ج 2، ص 205.

(43) محمد باقر الحكيم، العلاقة بين القيادة والأمة من خلال رؤية نهج البلاغة، ط 1، (قم، انتشارات الإمام الحسين (علیه السلام) للطباعة والنشر والتوزيع والتبليغ، 1425 ه)، ص 49 - 50.

(44) ابي حنيفة احمد بن داود الدينوري، الاخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، مراجعة: جمال الدين الشيال، ط 1، (القاهرة، دار إحياء الكتاب العربي، 1960). ص 140.

(45) لبيب بیضون، تصنیف نهج البلاغة، ط 3، (قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1417 ه).، ص 661.

(46) المصدر السابق، ص 659.

ص: 365

(47) قاسم خضير عباس، الإمام علي (علیه السلام) رائد العدالة الاجتماعية والسياسية، (بیروت، دار الأضواء، 2002). ص 53.

(48) الشريف الرضي (الجامع)، نهج البلاغة، فهرسة: صبحي الصالح، مصدر سابق، الكتاب، 216، ص 419.

(49) محمد الريشهري، القيادة في الاسلام، تحقيق وتعريب: علي الاسدي، (قم، مؤسسة دار الحديث الثقافية، د.ت). ص 363.

(50) علي ابن الحسين (علیه السلام)، شرح رسالة الحقوق، مصدر سابق، ص 464.

(51) محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي (علیه السلام) للكتاب والسنة والتاريخ، مصدر سابق، ج 4، ص 32.

(52) مرتضى المطهري، العدل الإلهي، ط 1، (إيران، دار الفقه للنشر، 1424 ه). ص 55 - 69.

(53) محمد السند، اُسس النظام السياسي عند الإمامية، جمع و تقریر: مصطفى الاسكندري ومحمد الرضوي، ط 1، (قم، باقيات للطباعة والنشر، 1426 ه)، ص 313.

(54) نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط 2، (د.م، المؤسسة العربية الحديثة للنشر، 1382 ه)، ص 105.

(55) أبي محمد الحراني، تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، ص 133.

(56) لبيب بیضون، تصنیف نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 584 - 592.

(57) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، مصدر سابق، ج 33، ص 511.

(58) ابي محمد الحراني، تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، مصدر سابق، ص 176.

(59) المصدر نفسه، ص 177.

(60) محمد بن بابويه القمي الصدوق، الامالي، ط 5، (بیروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1400 ه)، ص 722.

ص: 366

(61) لهزه: الضرب بجمع الكف على الصدر، انظر: مبارك بن مبارك، النهاية في غريب الحدیث والاثر، مصدر سابق، ج 4، ص 281.

(62) ابي الفداء اسماعيل "ابن کثیر"، البداية والنهاية، (بیروت، دار إحياء التراث العربي، 1994)، ج 8، ص 5.

(63) لبیب بیضون، تصنیف نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 593.

(64) محمد محمدیان، حياة امير المؤمنين (علیه السلام) عن لسانه في عصر الخلفاء، ط 1، (قم، مؤسسة النشر الاسلامي، 1421 ه)، ج 3، ص 4.

ص: 367

المصادر والمراجع

(1) سلسلة العلوم والمعارف الاسلامية، الحياة السياسية لائمة أهل البيت (علیه السلام) مؤسسة المعارف الاسلامية، الكتاب 14، د.ت.

(2) الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، (الجامع)، نهج البلاغة، تعلیق و فهرسة: صبحي الصالح، تحقيق: فارس تبریزیان، (إيران، مؤسسة الهجرة، 1380 ه).

(3) ابي محمد الحراني، تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، تصحیح وتعليق: علي اكبر الغفاري، ط 2، (قم مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه).

(4) ابو جعفر الاسكافي، المعيار والموازنة في فضائل امير المؤمنين (علیه السلام)، تحقيق: محمد باقر المحمودي، ط 1، (د.م، د.ن، 1402 ه).

(5) سلیمان ابن ابراهيم القندوزي، ينابيع المودة لذوي القربی، تحقيق: علي جمال، ط 1، (طهران، دار الأسوة لطباعة والنشر، 1416 ه).

(6) ابي محمد الحراني، تحف العقول فيما جاء من المواعظ والحكم عن آل الرسول، مصدر سابق، ص 132.

(7) ابي محمد بن قتبة الدينوري، الإمامة والسياسة، تحقيق: علي شيري، ط 1، (قم، مكتبة الشريف الرضي، 1413 ه).

(8) محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ط 1، (النجف الاشرف، دار النعمان، 1998)، ج 5، ص 33.

(9) أبي الحسن علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ط 1، (قم، مؤسسة دار الحديث، 1376 ه.).، ص 432.

(10) ابن عبدالبر يوسف القرطبي، الاستیعاب في معرفة الأصحاب، بیروت، دار الكتب العلمية، 1415 ه).

ص: 368

(11) احمد بن يعقوب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، (بیروت، دار صادر، د.ت)، ج 2، ص 204 - 205.

(12) محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي (علیه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، ط 2، (قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1404 ه)، ج 4، ص 141.

(13) محمد باقر المجلسی، بحار الأنوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، ط 2، (بیروت، مؤسسة الوفاء، 1983).

(14) احمد بن يحيى البلاذری، انساب الاشراف، تحقيق: محمد باقر المحمودي، ط1، (مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، 1976).

(15) النعمان بن محمد بن منصور المغربي، دعائم الاسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والاحکام، تحقيق: آصف بن علي اصغر فيضي، ط 3، (مصر، دار المعارف، 1389 ه).

(16) المفيد، الامالي، تحقيق: حسين استاد ولي وعلي اکبر الغفاري، ط 2، (قم، مؤسسة النشر الاسلامي، 1404 ه)، ص 80.

ص: 369

ص: 370

ثلاث نظريات ابداعية في السلطة السياسية للحكومة العلوية تأسيس الامام علي (عليه السلام) لوظائف السلطة بين التشريع والواقع

اشارة

الدكتور محمد نعناع

ص: 371

ص: 372

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على فخر الانسانية وخاتم الرسالات الالهية النبي الأمين محمد بن عبد الله وعلى اله الهداة المهديين سيما فخر الاوصياء امير المؤمنين المحارب بين يدي رسول الله على التنزيل والمدافع بعده عن علوم التأويل.

اما بعد فمن دواعي الفخران يوفق الانسان للحديث عن الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام لما في سيرة هذا الامام العظيم من طاقة سافرة ومعرفة كامنة سيتحصل عليها كل من يطلع عليها باحثا عن الحقيقة وطالبا للعلم والايمان على حد سواء، ومن الشرف لنا المشاركة في المؤتمر العلمي السنوي الثاني الذي ينعقد تحت شعار منهج الامام علي عليه السلام في بناء الانسان وانسانية الدولة، وقد اخترنا البحث في المحور الثاني المخصص للجوانب القانونية والسياسية ضمن الفرع الثالث منه والمعنون (السياسة بين تصريف المصالح و تجنب المأثم واثره في انسانية الدولة في ضوء نهج البلاغة)

وعنوان بحثنا هو (ثلاث نظریات ابداعية في السلطة السياسية للحكومة العلوية - تأسيس الامام علي عليه السلام لوظائف السلطة بين التشريع والواقع).

ونحاول في هذا البحث ان وضع الامور في نصابها والفات النظر علميا الى بعض الممارسات العلوية اثناء فترة حكم امير المؤمنين للبلاد الاسلامية لما في هذا البحث من نتائج ايجابية تنعكس بالضرورة على طريقة التفكير المعاصرة خصوصا خلال المنهج المقارن باستدعاء التطبيقات العلوية للاستفادة منها في مجال بناء معادلة السلطة على الاقل في الجوانب الاخلاقية وميدان القيم الانسانية التي

ص: 373

تفتقر لها انظمة الحكم السائدة.

املين أن يكون بحثنا اضافة لمؤتمركم الكريم، داعين الباري عز وجل أن ينفع بكم الاسلام والمسلمين ويوفقكم لكل ما فيه الخير والصلاح... واول واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين..

تمهيد

من اهم الاهداف التي تسعى الشريعة المحمدية السمحاء لتحقيقها هي ترسيخ القيم الانسانية، او بالبتعبير المعاصر (اعلاء الاكسولوجيا) رغم أن بعض المفكرين او الباحثين يطرحون هذا المفهوم في مقابل (تمدد الأنطولوجيا) الا اننا نحاول الوصول الى مساحة مشتركة تتمثل في تحكيم (الابستمولوجيا) على (الانطولوجيا) لانتاج (الاكسولوجيا - القيم) وخصوصا القيم الانسانية التي تعتبر من الثوابت في التعاملات الاسلامية وتحديدا في المنهج المحمدي العام والمنهاج العلوي بشكل خاص.

وكما أن للفكر الاسلامي عموما ثوابت لا يمكن ان تتغير الى قيام الساعة، فان هناك ثوابت للفكر السياسي هي الاخرى لا تتغير.

واذا اردنا التدقيق اكثر فمن الممكن القول بان القرأن الكريم والسنة الشريفة تضمنا اساسيات سياسية لبناء الدولة والتشكيل السلطة وادارة الحكم لا يمكن تجاوز هذه الاساسيات لفهم الفكر السياسي الإسلامي، سيما اذا علمنا بان هذا الفكر الذي نتحدث عنه ليس نتاجا مرتبط بمجهودات بشرية وانا بفقه شرعي مسند للكتاب والسنة.

ومع أن الفكر السياسي يمكن ان يكون ابداعا بشريا في مجالات معينة ككيفية

ص: 374

بناء مؤسسات الدولة وتسمياتها الا انه بالاساس يعود الى ثوابت لا يمكن تجاوزها.

ومن ثوابت الفكر السياسي الاسلامي:

1 - شرعية الحكومة أو السلطة: هناك العشرات من الآيات القرانية الدالة على ضرورة شرعية السلطة في الدولة الاسلامية، فالسلطة يجب ان تكون شرعية من جهة تطابق اعمالها مع النصوص المثبتة لشرعيتها، بمعنى أن الحاكم عليه ان يطبق النصوص الأخرى التي تحافظ على حقوق العامة وليس فقط العناية بالنصوص التي اتت به الى الحكم، ومن جهة اخرى يجب ان تكون السلطة شرعية باستجابتها لحقوق الناس واذا خالفت هذا الأمر فعلى المجتمع وضع حد لهذه السلطة المخالفة البديهي من بدیهیات توليها للحكم.

وتنقسم ایات تحديد الحكام ومسؤولياتهم في الفكر السياسي الاسلامي الى ستة أقسام وهي:

الأول: آيات الحكم، ومنها: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله)(2).

الثاني: آيات الولاية، ومنها: (انما ولیکم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)(3).

الثالث: ایات الطاعة، ومنها: (قل اطیعوا الله والرسول)(4).

الرابع: ایات الاتباع، ومنها: (قل ان کنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)(5).

الخامس: ایات الاستخلاف، ومنها: (یا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)(6).

السادس: ایات العدل، ومنها (وامرت لاعدل بينكم).(7)

ص: 375

وهذه الايات القرانية تشترط الشرعية الالهية وتفرض على الحاكم تطبيق الشريعة وتلزم الناس با طاعة من تتوفر فيه هذه الشروط فقط وتعينهم على متابعة ممارسات الحاكم.

2 - اهلية الحاكم، وتتضمن مجموعة مواصفات کالعدالة والعلم: وهذا من البديهيات فكيف لحاكم في امة اسلامية لا يكون عارفا بامور دينه ودنياه والاسلام يحث على العلم حتى كاد ان يوجبه، بل وجبه کواجب کفائيا حسب بعض الفقهاء ويصبح عينيا في حالة حاجة المجتمع لعلماء في اختصاص من الاختصاصات.

ومما يفرض على الحاكم رعايته لامور الناس والعدالة بينهم، قال الامام علي بن ابي طالب (علیه السلام): (على الوالي أن يتعهد أموره ويتفقد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان المحسن ولا إساءة المسيء ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء وضاع العمل)(8).

3 - تعزيز الحرية والحقوق الاساسية: يجب ان يكون الانسان حرا في تصرفاته، فهذا من حقوقه الانسانية، ولكن الاسلام يضع الحرية في نطاق قوانین واحکام ليضمن تنفيذ الأحكام الشرعية وفي الوقت نفسه يحقق حرية الانسان.

کما ان الاسلام يريد الموازنة بين المجتمع فلا بد من تحقيق متطلبات الخاصة والعامة، قال الامام علي (علیه السلام): (فأن سخط العامة يجحف برضا الخاصة) وقال: (وان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة)(9).

ويقول الامام علي: (.. ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّا...)(10) مما يعني ان الحرية في الفكر السياسي الاسلامي اساسية مرتبطة بكرامة الانسان.

واذ يوجب الاسلام تنظیم امور الامة فانه يفتح مجالا واسعا أمام تفصیل

ص: 376

الامور ووضع كل شيء في نصابه فالفكر الانساني المرتبط بادارة الدولة ينظم العلاقات بشكل متكامل ومنها شبكة علاقات الحقوق والحريات المنبثقة من الاية القرانية الكريمة (ولقد کرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات)(11).

4 - ترسيخ السلام الداخلي والخارجي: من ضروريات الحكم الاسلامي توفير السلم الاهلي او المحلي وكذلك السلام الخارجي ورفع الضغوطات الناتجة عن التحديات والتهديدات على المجتمع والدولة، ورغم أن الفكر السياسي الاسلامي المبني على قاعدة (قل يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء....)(12) يركز على فن التجمع الا انه يوجب اعداد العدة والعدد لمواجهة العدو، ولكن تبقى القاعدة الاساسية في الفكر الاسلامي هي تحقيق الصلح والامن مع الاخر، يقول الامام على (علیه السلام): (ولا تدفعن صلحا دعاك اليه عدوك، ولله فيه رضا، فان الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وامنا لبلادك...)(13).

ومن هذه المنطلقات سنبحث في ممارسة امير المؤمنين عليه السلام للسلطة لنرى مدى تطابق هذه الممارسات مع الاهداف الانسانية التي اكتنزت بها النصوص الأصلية في الرسالة المحمدية.

ص: 377

الفصل الاول: نظرية بناء معادلة السلطة بين حاجات الامة وتطبيق الشريعة

قال تعالى: (وقل امنت بما انزل الله من كتاب وامرت لاعدل بینکم الله ربنا وربكم لنا اعمالنا ولكم اعمالكم)(14)

انفرد امیر المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام بممارسات نادرة في مجالات ابداعية مختلفة ورسخ ممارسات اخرى تطبيقية قل أن سبقه احد اليها، ولكن العدل كان ابرز ما انفرد به عمن سبقه، ومن هذه المزية الاستثنائية انطلق عليه السلام ليؤسس نظاما اجتماعيا متوازنا يضمن تطبيق الشريعة السمحاء من جهة ويلبي الحاجات الانسانية الواقعية من جهة اخرى، لذلك كانت السلطة في وعي الامام عبارة عن عملية استقطاب بدوافع انسانية باتجاه الشريعة الاكمل وفقا لالية عدالة الوسائل ونظافتها و احقية الغايات وسلامتها، بمعنى اخر اقرب الى الفهم المتعدد والادراك المتغير (وسائل نظيفة شفافة يفهما جميع الناس، تؤدي الى تحقيق غايات سليمة تستفيد منها كافة شرائح المجتمع، وفقا لاليات شرعية وانسانية بسيطة لا يكتنفها التعقيد ولا تشوبها المراوغة ولا تعتورها الازدواجية) وهذه هي نظرية بناء السلطة التي نعتقد ان الامام علي سعى لها لتكون قاعدة ثابتة لنظام الحكم السياسي الإسلامي، نظرية طبق منها الامام ما استطاع اليه سبيلا، وما اتسع له الوقت قبل استشهاده وارتحاله إلى الرفيق الأعلى جل وعلا.

وكانت تطبيقات معادلة السلطة ذات ابعاد شاملة فهي مستوعبة لكل الاختلافات الاجتماعية ومتعالية عن كل التفضيلات الشخصية ومتوجهة نحو كافة أفراد المجتمع مها اختلفت ارائهم وميولهم وثقافاتهم وقدرتهم على الاستيعاب العقلي

ص: 378

المبحث الاول: الحاكمية في فكر الامام علي - تجربته عليه السلام مع الخوارج

قال الامام علي عليه السلام: (كان رسول الله عهد الي عهدا فقال: یابن ابي طالب لك ولاء امتي، فأن ولوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وان اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه فان الله سيجعل لك مخرجا)(15)

هذا النص النبوي تعبير مباشر عن الحالة التي عاشها الامام علي عليه السلام، فقد تحقق ما قاله الرسول الخاتم صلى الله عليه واله وسلم بالكامل، وفي مقابل ذلك جنح الامام علي ليطبق حرفيا ما قاله له الرسول الاكرم، وبتحليل علمي لهذا النص نرى فصلا واضحا بين مفهوم (الامرة - السلطة) ومقام (الامامة الشرعية) فمفهوم السلطة لا يساوي مفهوم الحاكمية الوارد في التنزيل الحكيم والذي حاول الخوارج استخدامه لتخطئة الامام علي والحكم عليه بالخروج عن الحاكمية الالهية حسب شعارهم الشهير (لا حکم الا لله)(16)، کما ان امير المؤمنين لم يرد على الخوارج من موقعه الشرعي كأمام مفترض الطاعة بل رد عليهم باسلوب علمي مبتكر نسميه في الدراسات المعاصرة (علم المفاهيم) الذي يحدد وظيفة كل مفهوم واستخداماته (concept)(17)، ادراك جديد او فهم اخر يعيد وضع الأمور في نصابها ويصحح استخداماتها، لم يقل الامام للخوارج عندما قالوا (لا حکم الا لله) انتم مخطئون، قال لهم نعم صحيح (لاحکم الا لله) ولكن انتم لا تطلبون حكم الله بل تطلبون الامرة أي السلطة وهناك فرق بين الحاكمية التي مازلنا ملتزمين بها وبين الامرة التي هي السلطة او الحكم السياسي او ادارة المجتمع او قيادة الحرب وهذا ما بایعتم على السمع والطاعة عليه، كأنه يقول لهم (عليكم أن تفصلوا عمليا بين السلطة والحاكمية، فالسلطة للبر والفاجر لانها

ص: 379

تمشية امور المجتمع، اما الحاكمية فهي لله حيث فرضها على عباده بما ينسجم مع فطرتهم ونحن لم نخرج عنها، فلم نحرم حلالا ولم نحل حراما).

روي عن أبي إسحاق، قال: لما حكمت الحرورية قال علي (عليه السلام): ما يقولون؟.

قيل: لا حكم إلا لله.

قال: الحكم لله، وفي الأرض حكام، ولكنهم يقولون: لا إمارة، ولابد للناس من إمارة يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الفاجر والكافر، ويبلغ الله فيها الأجل(18).

التحليل العلمي لهذا النص تؤكد قيام الامام علي عليه السلام بعمليتين علميتين عقليتين شرعيتين مستندتين إلى الكتاب والسنة، فالحاكمية في آيات سورة المائدة (من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.... الظالمون.....الفاسقون)(19) ليس محلا للتطبيق في الحادثة التي وقعت بين الامام و معاوية، وبين الخوارج والامام، فلو سلم معاوية للامام عليه السلام امور الشام لما حاسبه على انحرافاته الشخصية بل يحاسبه على بيت مال المسلمين وقضايا تخص العدالة الاجتماعية، بمعنى اخر لا علاقة لامير المؤمنين بصلاة وصيام معاوية من الناحية الشخصية بل له علاقة بتنظيم شؤون المجتمع الاسلامي التي كان معاوية يشكل خطرا عليها وفقا لرؤية الامام علي عليه السلام.

کما ان آیات الحاكمية في سورة المائدة جاءت على شكل عملية مقارنة بين الشريعة الموسوية والشريعة المحمدية وركزت على المحرمات التي اصبحت واضحة في شريعة خاتم النبيين، وهنا يصبح مفهوم الحاكمية مفهوم شرعي انساني لا علاقة له بالابعاد السياسية التي نبه عليها الامام بقوله (ولكنهم يقولون الا امارة).

ص: 380

اما العمليتين العلميتين اللتين قام بهما امير المؤمنين ردا على سوء سلوك الخوارج وخروجهم عن جادة الصواب:

الاولى: تصحيح المفاهيم، وتحديدا لاصحابه ليقوموا بعملية اعلامية توضيحية لعامة الخوارج وقد نجح ابن عباس في هذه المهمة نجاحا باهرا وحقق نصرا انسانيا لدولة الامام عليه السلام.

الثانية: التأكيد على توسيع رعاية الدولة الاسلامية لتشمل غير المؤمنين والحفاظ على انفسهم وممتلكاتهم وتفضيلاتهم الشخصية حد الاستمتاع بها وليس فقط احترامها وحمايتها، طبعا بالتأكيد مع حماية الثوابت الاسلامية وعدم شیوع ما يخالفها.

وهذا البيان يعد ردا على جميع التخرصات الخوارجية بل حتى على اتباع النزعات المتشدة والارهابية او المؤسسة للجماعات المتطرفة او المستفيدة منها الاحزاب السياسية المستقطبة باسم الدين كأفكار ابو الاعلی المودودي وسيد قطب حول الحاكمية حيث ساوى هؤلاء بين الحاكمية الالهية المباشرة التي جاءت مع النبي موسى عليه السلام، و حاکمية الخلافة التي كانت مع داود وسليمان عليهما السلام، والحاكمية الإنسانية التي اعطيت للرسول الخاتم صلى الله عليه واله وسلم، وتفسيرات واستنباطات هذه المستويات من الحاكمية تزخر بها الايات القرانية وهي تتطابق مع منهج امير المؤمنين في تعاملاته العامة في دولته وبالتحديد في تجربته مع الخوارج.

تسبب الخوارج بمشكلة كبيرة للدولة الاسلامية ولامير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) فقد سلبوا الامام نصره الوشيك على معسكر معاوية(20)، وهذا انتج ازمات استراتيجية في جسم الدولة والسلطة ظلت مستمرة حتى اليوم، ورغم ان الامام

ص: 381

كان يعرفهم حق المعرفة ويعرف افكارهم كما قال له الرسول الاكرم (صلی الله علیه وآله وسلم) عنهم، بانهم يمرقون من الاسلام کما يمرق السهم من الرمية(21)، الا انه كان عادلا معهم واعطاهم ما يعتقد بانه حقهم.

بعد ان رفعوا شعارهم «لا حكم الا الله» قال علي (علیه السلام): (الله اکبر، کلمة حق اريد بها باطل، اما ان لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت ایدیکم في ايدينا، ولا نقاتلكم حتی تبدأونا)(22).

هل هناك عدل في حرب لقوم نزعوا نصرا وشیکا من قائد كان بأمس الحاجة لهذا النصر للقضاء على الفتن واعادة بناء الدولة والمجتمع على اسس صحيحة بعد ان طال الخراب السياسي البنى التحتية للدولة الاسلامية؟.

بمثل هذا الفقه تعامل علي (علیه السلام) مع مخالفيه، فقه الم نبصره منذغاب الرسول (علیه السلام) حتى قام علي (علیه السلام)، هكذا نكص قوم عن بيعته فتركهم وشأنهم ولم يمنعهم عطاءهم(23).

قال الامام علي عليه السلام: (إن خالفوا إمامًا عادلاً فقاتلوهم وإن خالفوا إمامًا جائرًا فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالاً)(24)

بعد أن انتهى من حرب النهروان فإنه (عليه السلام) لم يغير سياسته هذه معهم، فقد روي عن أبي خليفة الطائي، قال: «لما رجعنا من النهروان لقينا - قبل أن ننتهي إلى المدائن - أبا العيزار، فقال لعدي: يا أباطریف، أغانم سالم؟ أم ظالم آثم؟

قال: بل غانم سالم.

ص: 382

قال: الحكم إذن إليك!

فقال الأسود بن يزيد، والأسود بن قيس المراديان - وكانا مع عدي: ما أخرج هذا الكلام منك إلا شر، وإنا لنعرفك برأي القوم.

فأخذاه، فأتيا به علياً، فقالا: إن هذا يرى رأي «الخوارج»، وقد قال كذا وكذا لعدي.

قال: فما أصنع به؟! قالا: تقتله. قال: أقتل من لا يخرج علي؟! قالا: فتحبسه.

قال: وليست له جناية أحبسه عليها؟! خليا سبيل الرجل))(25)

تجربة الامام مع الخوارج کشف عن عمق تفكير الامام عليه السلام ومدی معرفته بتقنيات التعاطي العقلي مع حاجات المجتمع وفي الوقت نفسه الحفاظ على ثوابت الشريعة وعدم السماح باختراقها من قبل المتشددين وغير الواعين لطبيعة تنظيم شؤون المجتمع.

ص: 383

المبحث الثاني: حدود التعددية والحرية في مقابل الاكراه المرفوض قرانيا

هنا لنا وقفة مع ثلاث صور في مجال التعددية والحرية في المجتمع الاسلامي اثناء حكومة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، ففي مجال التعددية سنعطي صورة عن الوجود الديني المتعدد، وعن الحرية السياسية سنوضح موقف الإمام علي ممن لم يعطوا بيعتهم له، والصورة الثالثة سنبين موقف الامام من التلاعب بالالفاظ وسوء استخدام المصطلحات التي تؤدي إلى خطوات عملية سيئة في المجتمع وهذه الحالة تحديدا هي ما نعاني منه الان في واقعنا المعاصر.

الصورة الاولى: كان الإمام (علیه السلام) إذا اقيمت دعوى على أحد من النصارى واليهود لا يحلّفهم في الأماكن المقدّسة في الإسلام کالجوامع، وإنّما كان يأمر باستحلافهم في بيعهم وكنائسهم، وأمّا المجوس فكان يحلّفهم في بيوت النار.(26)

يستخدم الكثير من الباحثين هذا النص للاستدلال على عدم ثقة المسلمين بايمان اصحاب الشرائع الاخرى عند طلب اليمين منهم في داخل المساجد، ولكننا هنا نستخدم هذا النص للاستدلال من وجه آخر، فنقول اذن المجتمع الاسلامي كان مجتمعا تعددا والدولة الاسلامية كانت تسمح بالاختلاف في العبادات داخل دور عبادة مجازة رسميا، وتجيز التعاملات التجارية مع غير المسلمين داخل وخارج المجتمع الاسلامي.

الصورة الثانية: قال ابن عبد البر: (بويع لعليٍّ رضي الله عنه بالخلافة يوم قُتل عُثمان، فاجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلَّف عن بيعته نفرٌ منهم، فلم منهجهم ولم يُكرههم..)(27)

وهذا النص يؤكد بما لا يقبل الشك بأن أمير المؤمنين كان ينظر الى الامارة على انها حالة سياسية تستند إلى قبول الاغلبية بالحاكم الذي ينظم امور المجتمع

ص: 384

بشرط ان لا يتعدى على الثوابت الشرعية، وهنا نرى الامام عليه السلام مكتفيا ببيعة المهاجرين والانصار تاركا للعازف والرافض حرية العزوف والرفض بشرط عدم الاخلال بالنظام العام، وهذا ان دل فيدل على مساحة من الحرية في الحياة السياسية، قال أمير المؤمنين: ((ولا اراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لنا الخلاف))(28)

وقال لمن سبه بل لمن اتهمه بالكفر واراد اصحابه معاقبته (رویدا، انما هو سب بسب او عفو عن ذنب)(29).

الصورة الثالثة: عندما عاد الامام امير المؤمنين من حرب الجمل قال له عبد الله بن وهب الراسبي انهم الباغون الظالمون الكافرون المشركون.

فقال له امير المؤمنين عليه السلام: (ثكلتك أمك! ما اقواك بالباطل واجراك على أن تقول ما لم تعلم! ابطلت يا ابن السوداء، ليس القوم کما تقول لو كانوا مشرکین سبینا وغنمنا أموالهم وما ناک حناهم ولا اورثناهم))(30)

فقد نفى الامام عن اصحاب الجمل تهمة المشركين تصحيحا للمفاهيم وردا على من يريد استخدامها للتضليل وتبشيع وجوه المسلمين وتشويه سمعتهم ومن ثم اغتيالهم معنويا وصولا إلى تصفيتهم جسديا، مع امكانية استقامتهم من جديد وعودتهم الى جادة الصواب واندماجهم بالمجتمع مرة أخرى.

مع العلم أن الذي قال هذا الكلام لامير المؤمنين وهو عبد الله بن وهب الراسبي هو نفسه كفر الامام فيما بعد واصبح خليفة للخوارج، وهذا يفسر رد الامام عليه بهذه الحدة وكأنه قرأ مستقبله السياسي والعقائدي واستشرف اعاله وتنبئ بافعاله.

هذه الصور الثلاثة تدل على اتساع مساحة التعديدية والحرية في الحكومة العلوية انسجاما مع المطلب القراني (لا إكراه في الدين من اجل ضمان الاستقرار

ص: 385

الاجتماعي والتفاعل السلمي المفضي إلى قبول الشريعة لسماحتها ومرونتها وحمايتها للنوع الانساني، فعملية تأمين التفاعل السلمي والتعاون الايجابي ليست بالعملية السهلة اطلاقا، فهي عملية تحتاج الى الكثير من الجهد النوعي، وهذا الجهد النوعي لابد ان يمر بعد مراحل، ولكن المرحلة الاولى هي المرحلة الاهم حيث بناء الافكار الصالحة للانتشار، فمشاكلنا اساسا عبارة عن افکار متراكمة، افکار متضاربة، افکار متناقضة، افکار یدوس بعضها على البعض الاخر من اجل فرض فكرة محددة او العمل على سيادتها بأي شكل من الأشكال، ونحن هنا لا نريد ان نوحد الافكار ولا ندخل الناس كلهم في مرحلة واحدة دون رغبتهم بذلك ولكن نقول لهم اذا اختلفتم فاتركوا مساحة للخصوصية فأن أي اجراء غير هذا سيكون المصير سيئا لان حرب الافكار هي الأخطر على الاطلاق في عالم تنتقل فيه الفكرة بسهولة بعد تمكن الميديا من اخذ مكان مركزي في العصر التكتروني.

لذلك هي دعوة نطلقها لتهذیب الافكار ومنها الفكر السياسي الذي به يقود القائمين على ادارة المجتمعات مجتمعاتهم ومنه تتفرع كل انواع التأثيرات في حياة الناس، وهذا التهذيب الذي نطالب به يرتكز على ركيزتين محترمتين عند كل الناس على اختلاف توجهاتهم والسنتهم، الركيزة الأولى هي قدسية النفس الانسانية، والخطيئة الكبرى التي يرتكبها بنو البشر هي محو نفس من الوجود بسهولة وبسبب اختلاف فکري او تناقض مصلحي، فلا مجال لاعادة التفكير مرتين بأن هذا المعنى محترم عند جميع الناس ولكن المشكلة في استيعابه والعمل به، اما الركيزة الثانية فهي ما اتفق عليه جميع البشر ايضا من أن الذي يحكم سلوكيات الانسان ويفرض العدل بينه وبين غيره هو القوانين التي ثبت بالدليل في انها طريق لاقامة العدل ولابد ان نشيع العمل بالقوانين لضمان اخذ كل ذي حق حقه بدون العنف والارهاب والضغط والفرض.

ص: 386

الفصل الثاني: نظرية النزاهة اساس الحكم

قال امير المؤمنين عليه السلام (فأمَّا هذا الفيء فليس لأحدٍ على أحدٍ فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون.. وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبيِّنا بين أظهرنا، فمن لم يرض به فليتولَّ كيف يشاء! فإنَّ العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه)(31)

هذا النص ونصوص اخرى كثيرة تثبت متوالية منطقية في سلوكيات وتصرفات الامام امير المؤمنين عليه السلام، فهو يبدأ من قاعدة عامة ذات تأثير نفسي محکم وذات مدلول اجتماعي مقبول لذوي النفوس النظيفة، ثم يستدل على هذه القاعدة بكتاب الله كمصدر اول للتشريع والمعرفة، ثم يستشهد بالسنة النبوية وايستحضرها کتطبيق على القاعدة التي اسسها، ليضع المجتمع امام حكم شرعي منطقي قبوله مرهون بطاعتهم لولاتهم الذين بعد تحكيمهم الكتاب والسنة سيكون لا مناص من مشايعتهم.

واكثر هذا الانواع من المتواليات المنطقية التي عمل بها الإمام أمير المؤمنين كانت في مجال النزاهة الشخصية للحاکم، يقول الامام علي (يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن..)(32). وفي هذا القول تطبيق عملي لزهد الحاكم ومساواة نفسه بالاخرين من عامة الناس.

وفي رسالته لعامله على اذربيجان يقول الامام علي: (وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعية...)(33). وليس غريبا أن يوصي الامام علي ولاته وعاله في الأقاليم البعيدة

ص: 387

بما يقوم به هو بنفسه حفاظا على حقوق الناس.

لقد ابرزت ممارسات قام بها امير المؤمنين حرصه على النزاهة كأساس للحكم منها تتفرع المزايا الأخرى وهي - أي النزاهة - التي تصنع المميزات الاخرى للحاكم، وبدونها حتى لو كان شجاعا او داهية سيثلم حكمه وتزول سلطته.

فاقواله (علیه السلام) توضیحا لتطبيقاته في مجال النزاهة هي مما تعد مداميك لنظرية النزاهة اساس الحكم، فتصريحاته في هذه المناسبات: ((بیت المال للمسلمين وانا خازنهم وامين لهم - لاسوين بين الاسود والاحمر - لم اجد لولد اسماعیل علی ولد اسحاق فضلا - لا ينبغي ان نصحبكم في ضوئه - أتأمروني ان اطلب النصر بالجور - والله لو كانت اموالهم مالي لسويت بينهم - اليس رسول الله كان يقسم بالسوية - لا يسعنا أن نؤتي امرأ في الفيء اكثر من حقه)) تمثل اعمدة النظام الاقتصادي العادل، والصياغات الملزمة المستندة إلى الكتاب والسنة المضمنة في هذه التصريحات تعتبر قوانین ضامنة لتحقيق المساواة التي تلازم اعتزاز الانسان بحكومته ومجتمعه الذي يعيش فيه.

ص: 388

المبحث الاول: ابداعات تعزيز الثقة بالنفس والمجتمع

لا اشکال في عدل علي (علیه السلام) بل الاشكال في انه عادل حازم في عدله الى ابعد الحدود، او كما يسميه البعض جهلا بشخصه «مفرط في عدله، غير مجامل في حكمه» او بالمعنى السياسي الحديث «ليس براغماتيا» ولربما يقصدون انه ليس «ذرائعيا او نفعيا» لانهم بالتأكيد لا يقصدون انه غير مرن في تعامله مع الاخر المختلف فكريا وسياسيا، والا فانهم سيقعون بخطأ تاريخي لا يغتفر بلحاظ احداث «فتنة الخوارج» و»لعبة التحكيم» فمواقفه في هاتين الواقعتين تنمان عن عدالة مثالية وواقعية وموضوعية لا تجاری.

فكيف بالقائد الذي ينصف «نملة» لا يفكر في سلبها جلب شعيرة، أن يظلم انسانا بعث الرسل من اجل تربيته وهدايته.

وهو القائل: ((.. والله لئن ابيت على حسك السعدان مسهدا واجر في الاغلال مصفدا احب الي من أن القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصبا لشئ من الحطام.. والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وان دنیاکم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي، ونعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل و قبح الزلل وبه نستعين))(35).

في هذا النص تجتمع ثلاثية (العدل والزهد والعلم) ولا يمكن لرجل هذا حاله الا ان يكون عادلا يعلم تمام العلم بان الحكم بلا عدل لیس حکاعلى الطريقة المثلى التي شرعها الله في دينه الحنيف.

ص: 389

ان الحكم الاسلامي بهذا الشكل يعطي للاسلام وجوده الحقيقي وغايته الكبرى، وما جاء الاسلام الا ليعلم الناس ان الرب الكريم لم يرسل عليهم حکاما متجبرين كما في الايديولوجيات القديمة والحديثة، وانا ارسل لهم انبیاء وائمة واولياء قسطون بين الناس ولو على انفسهم والاقربين، وهذه هي سياسة علي (علیه السلام).

ويبدو العدل ومضامينه الواقعية والانصاف و مصادیقه الموضوعية مبدأ في الفكر السياسي للامام علي (علیه السلام) وليس وسيلة لاستقطاب الاتباع، فما انفك (علیه السلام) يقرن القول بالعمل في طريقة بنائه للدولة، ومن اشد الافكار اعجابا في سيرته السياسية عند قيادته للامة الاسلامية تحريضه الناس على المطالبة بحقوقهم، فأي حاکم يفعل ما يفعله الامام علي (علیه السلام) حينما يقول: (فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني با يتحفظ به عند اهل الباردة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه كان العمل بهما اثقل عليه! فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشهور بعدل)(35).

فأي علاقة تلك التي يرسيها حاکم اسلامي منصف عادل مع شعبه عبر اليات التواصل المفتوحة حسب التعبيرات السياسية الديمقراطية المعاصرة. ولو امعنا النظر بجزء من هذا النص وهو قوله: (فانه من استثقل الحق أن يقال له او العدل أن يعرض عليه كان العمل بها اثقل عليه) لوجدنا خارطة طريق لتلافي «عملقة الحواشي» ونمو دورهم الطفيلي على جوانب سدة الحكم.

وفي هذا النص يسعى امير المؤمنين الى تعزيز ثقة الناس ببعضهم ليكونوا حالة ضاغطة على الحاكم ولا يتركوا السلطة تتلاعب بهم وتشتت جهودهم فيفقدوا

ص: 390

ثقتهم ببعضهم البعض، ولا يتحقق هذا المطلب الا بوجود امير عادل يربيهم على ثقافة طلب حقوقهم ويدربهم على معادلة ثقة شاملة.

لهذا يبدو ان الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ركز على العدل في شخصية الامام علي (علیه السلام) كبعد حيوي لدوره القيادي في المجتمع الاسلامي وخصوصا حينما قال (صلی الله علیه وآله وسلم): (على كفه وكفي في العدل سواء)(36).

وينتقل الامام عليه السلام ليعرف الناس بحقهم عليه فيقول: (ان حقكم علي النصيحة لكم ما صحبتكم، والتوفير عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كي تعلموا، فأن يرد الله بكم خيرا تنزعوا عما اكره وترجعوا الى ما احب، تنالوا ما تحبون وتدركوا ما تأملون)(37)

ثم ينتقل عليه السلام الى نوع آخر من تعزيز الثقة يتمثل في وضع ثقته الكاملة في اشخاص معينين ليكونوا نموذجا يقتدى به، فحينما نمی الله سمعه انتقاد بعض اصحابه لمالك الاشتر قال: (بلى الاشتر يرضى اذا رضيت.....وليت فيكم مثله اثنين بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوه مثل رايه اذن لخفت علي مؤونتكم ورجوت ان يستقيم لي بعض اودكم)(38)

اذن تعزيز الثقة بالنفس وتقوية اواصر المجتمع ورد الشائعات عن المخلصين كانت ابداعات علوية يستهدف من خلالها تقوية الجماعة الصالحة لضمان حكم عادل يخدم المصالح العليا للمجتمع.

ص: 391

المبحث الثاني: تعرية الفساد للحفاظ على مقدرات الامة

سنذكر ها هنا موقفين للامام امير المؤمنين عليه السلام لمعرفة مواقفه الصريحة من الفساد الذي اجتاح السلطة السياسية الاسلامية خلال عهد الخلفاء وتحديدا في عهد عثمان بن عفان حيث المحسوبية كانت السمة البارزة لتعاملات الخليفة وحواشيه، وبعض الاجراءات التي قام بها الامام عليه السلام كانت عبارة عن احتجاج على الفساد المستشري والمحسوبية الفاضحة

الموقف الاول: لما دخل الامام علي (علیه السلام) الكوفة، قيل: أي القصرين نزلك؟ قال: ((قصر الخبال لا تنزلونيه))(39). فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي.

والخبال كما في الفائق للزمخشري والنّهاية لابن الأثير و مقاييس اللغة لابن فارس، مادة (خبل)، الخبل: الفساد، و حراقة صديد أهل النّار.

والمراد هنا منزل أهل الجَور والفساد.

وهذا تعبير شديد اللهجة من امير المؤمنين (علیه السلام) حيث اعترض على النزول في هذا القصر المليء بالمخالفات الشرعية والموبوء بالاشكالات الاجتماعية والاخلاقية، وقد كانت كلمته هذه ووصفه لقصر الامارة بقصر الخبال تعرية للفساد وكشفا للفاسدين وفي الوقت نفسه تأسيسا لمنهج جديد في تعامل السلطة مع الناس وخصوصا حقوقهم المالية والمعاشية التي هدرت على يد من تصدوا لادارة شؤون الامة.

الموقف الثاني: قال ابن عباس: ان عليا خطب في اليوم الثاني من بيعته في المدينة فقال: (الا ان كل قطيعة اقطعها عثمان، وكل مال اعطاه من مال الله، فهو

ص: 392

مردود في بيت المال، فان الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته الى حاله، فان في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه اضيق)(40)

كان قد عرض على امير المؤمنين عليه السلام خلافة المسلمين بعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب، ولكن الشرط الذي وضع على تسلمه للامر وقيامه بادارة شؤون الامة كان ثقيلا على نفسه الابية وهو السير بطريقة الشيخين والحكم بما حكما، وهذا يعني وضع القيود في يديه مما يؤدي الى تعويق جهوده الاصلاحية، وبمعنى آخر سيكون حاكما بصلاحيات محدودة لا يحق له الاعتراض على ممارسات غير صحيحة لانه قبل بشرط الهيئة التي رشحته للخلافة، وهذا مما لا يرضاه الامام علي لنفسه، وعلى عكس ذلك جرت الامور فاصبح الامام بعد مقتل عثمان هو من يشترط الشروط من اجل ان يتولى امرة المؤمنين وقيادة المسلمين وادارة المجتمع، واول شروطه بعد توضيحه لمعالم مشروعه في الحكم كان قبولهم بمنهجه وعدم اعتراضهم على اجراءاته، وعلى هذا الاساس تمت مبايعته، لانه عازم على ارجاع الحقوق الى اهلها وتحجيم نشاط المنتفعين كما في النص السابق الذي يوضح بان امير المؤمنين قام بمراجعة حسابية لممارسات عثمان بن عفان وحاشيته.

وهذين الموقفين يبرزان بما لا يقبل الشك حرص الامام علي عليه السلام على مقدرات الامة ولو شاء لابقى امتيازات حاشية عثمان ليقربهم ويكسب نفوذهم ليقوي سلطته ولكنه لم يفعل ذلك، وحتى من عينهم كولاة ورعاة للمصالح كان يحاسبهم اشد حساب حتى لا يهدروا اموال المسلمين.

ص: 393

الفصل الثالث: نظرية صناعة القوى الفاعلة

قال تعالى: (الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هادٍ)(41)

بالاضافة الى نشر الدين واحقاق الحق والعدل بين الناس كانت هناك مسؤولية كبرى ملقاة على عاتق امير المؤمنين وهي وظيفة خاصة اختص بها استكالا للمشروع الالهي بعد الرسول الخاتم وهي عملية تأويل التنزيل.

قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن) فقال أبو بكر: أنا هو؟ وقال عمر: أنا هو؟ فقال رسول اللہ (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا، لكنَّه عليٌّ)(42)

وفي نص اخر نقله الامام علي (علیه السلام) بنفسه، قال الامام امير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لاصحابه ((ان فيكم من يقاتل على تأويل القران کما قاتلت على تنزيله واشار الي))(43)

وهذا يدل على ان لعلي (علیه السلام) صلاحيات حصرية ضمن خطوات ترسيخ الشريعة السمحاء وتمتين اسسها وتثبيت ركائزها وتقوية مداميكها وتعزيز البعد المعنوي والنفسي للمؤمنين بها واستقطاب الخارجين عنها، وهذه الصلاحيات الحصرية لا ينبغي لغيره الاختصاص بها لانه الاقدر على تطبيقها، واهم هذه الصلاحيات المخصوصة هي عملية التأويل لايات القرآن الكريم التي تنطوي على عملية علمية بحثية عميقة تكشف عن حقائق غائبة، وعندما يمارس رأس

ص: 394

السلطة في النظام الاسلامي هذه العملية بالتأكيد سيكون جاذبا للطاقات ومفعلا للقابليات، وهذا بالضبط ما يسمى في الدراسات المعاصرة بنظرية (المغناطيس) أي ان يكون الشخص جاذبا للقوى لتتحلق حوله ولا تنفك عنه ويكون هو قطبها والمؤثر فيها، وهذا الدور لامير المؤمنين يتحقق من خلال عملية التأويل.

والتأويل كما نفهمه من ايات التنزيل الحكيم هو تحويل او تحول النبأ الى خبر، والخبر هو الحقيقة التي لا تتناقض مع الواقع ولا يختلف عليها طرفين.

وهذا التعريف الذي التزمنا به لتوضيح وظيفة التأويل يحتاج الى ان يكون الموؤل على درجة عالية من العلم وعلى استعداد تام للعمل من اجل تحويل الانباء الى اخبار وبالتالي اكتشاف الخبايا المودعة في الكون والطبيعة.

ولتوضيح عملية التأويل حسب التعريف اعلاه سنعطي مثالا من القران الكريم وتحديدا من قصة يوسف النبي عليه السلام، فرؤيا يوسف في المنام كانت نبأ لم يتحقق بعد عندما قال لابيه يعقوب عليه السلام (اذا قال يوسف لابيه يا ابت اني رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)(44) ولكن بعد ثلاثون عاما تقريبا قال تعالى (ورفع ابويه على العرش وخروا سجدا وقال یا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا)(45) وهذا يعني كما يوضح القران بأن منام يوسف وهو نبأ تحول الى خبر يعرفه جميع الناس وهو حق، وهذا الحق جاء بعد عملية علمية وهي التفكر في قوانين الكون والطبيعة، وقابلية على العمل حيث قام النبي يوسف بكل ما يستطيع للوصول الى المنصب والمقام الرفيع الذي من خلاله جذب اهله ليأتوا اليه من الشام الى مصر.

وهذا المعنى للتأويل هو الذي كان يمارسه امير المؤمنين باظهار الحقائق امام اصحابه واتباعه وعموم الناس ليجذبهم الى الشريعة السمحاء.

ص: 395

المبحث الاول: معرفة الحاكم بالجغرافيا التي يحكمها

اراد الامام علي عليه السلام ان يوصل اصحابه واتباعه الى اعلى مستوى من العلم لتحقيق الهدف المنشود الذي تتطلبه المرحلة التي عاشها والتي تستدعي الافصاح عن علوم معينة وتطبيقات خاصة، بما ينسجم مع المستوى الفكري والمعرفي في ذلك الوقت.

ومن خلال حروب الامام وترحاله بين المناطق التي يحكمها افصح لاصحابه عن بعض تلك الخفايا التي اصبحت حقائق في واقع الامة اثناء حكم الامام عليه السلام.

قال زيد بن وهب: كنت مع علي عليه السلام يوم النهروان فنظر الى بيت وقنطرة فقال: ((هذا بيت بوران بنت كسرى، وهذه قنطرة الديز جان، حدثني رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اني اسير هذا المسير وانزل هذا المنزل)(46)

ووفقا لهذا التعبير فأن الانباء المحمدية اصحبت اخبارا علویة من خلال عملية تأويلية قام بها امير المؤمنين وهدف هذه العملية هو صناعة القوى الفاعلة وجذبها الى محيط العلم والمعرفة.

لما عزم امير المؤمنين على حرب الخوارج، قيل له: القوم عبروا جسر النهروان، فقال عليه السلام: ((مصارعهم دون النطفة، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة))(47)

وصدق امير المؤمنين رغم كثرة من قال له ان الخوارج عبروا الجسر وتجاوزوا المنطقة التي يريد ان يقاتلهم الامام فيها، وهذا يجعله حاكما عالما بالجغرافيا التي

ص: 396

يحكمها ويقود المعارك فيها.

وينتقل امير المؤمنين الى مساحة اخرى من التأويل وهي مرحلة متقدمة من العلم والمعرفة، فعندما نصحه بعض المنجمين وعلماء الفلك بعدم التحرك للحرب لان النجوم ليست في صالحه خالفهم وقال للدهقان ((یا دهقان، انا مخبرك اني وصحبي هؤلاء لا شرقيون ولا غربيون، انما نحن ناشئة القطب، وما زعمت البارحة انه انقدح من برج الميزان فقد كان يجب ان تحكم معه لي، لان نوره وضياءه عندي، فلهبه ذاهب عني)(48)

ويعني امير المؤمنين بان الشهاب الذي انطلق من برج الميزان كانت ناره ذاهبة الى الطرف الاخرى متجهة الى منطقة اخرى فهذا يعني انه منطلق ليفتك بعدوي لان لهبه عندي، وعند هذا التأويل اعترف الدهقان بأن علم الامام مادته السماء وهو فوق علوم وفنون المنجمين، خصوصا بعد تصديق الواقع ما قاله الامام وتحقيق الانتصار في حرب النهراوان.

ص: 397

المبحث الثاني: المعادلة العلمية بين تقوية الذات واستقطاب الطاقات

قال الرسول الاكرم «صلى الله عليه واله وسلم»: (أخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع لا يحاجّك فيها أحد من قريش، أنت أولهم إيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم بالرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية)(49).

فهذه شهادة لا تعدلها شهادة لامير المؤمنين علي بن ابي طالب «عليه السلام» من خير الخلق وصاحب الدعوة الى الحق الرسول الاكرم محمد «صلى الله عليه واله وسلم»، وهي بمثابة اجازة علمية لاستلام وظيفة كبرى، ولهذه الشهادة العلمية الالهية محل عالٍ ومقام سامٍ لا يحل مقابلها أي شهادة اخرى، سيما في بُعدها العقائدي ومجالها القيادي، فمعنى ان القائد الاوحد المختص بالقيادة حصرا العارف بامور الشريعة ظاهرها وباطنها يشخص نقاط القوة في القائد المستقبلي للامة الاسلامية فذلك لا يمكن ان يسمى الا تخطيطا علميا استراتيجيا للمرحلة المقبلة، وخصوصا في جوانب الولاية الحقيقية وتثبيت معايير مصداقها، فقول الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): (واقومهم بامر الله) مطابق للاية القرآنية الكريمة (وجعلنا ائمة يهدون بامرنا لما صبروا وكانوا باياتنا يوقنون)(50).

اما قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (وابصرهم بالقضية) فذلك معيار ومقياس علمي بحت للدلالة على حجم العلم الذي يمتلكه امير المؤمنين علي (علیه السلام) مما يجعله نافذ البصيرة غير محتاج الا الله سبحانه وتعالى لاكمال المسيرة الاسلامية على الطريقة منهم علیه المحمدية.

ص: 398

ولا يمكن لاي متتبع لسيرة الامام مع الرسول الخاتم ان يغفل الجوانب العلمية بينهما بطريقة العالم والمتعلم، يقول امير المؤمنين (علیه السلام): (وقد كنت ادخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل يوم دخلة، وكل ليلة دخلة، فيخليني فيها ادور معه حيث دار، وقد علم اصحاب رسول الله انه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري، ... وكنت اذا دخلت عليه بعض منازله اخلاني واقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري، واذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم يقم عني فاطمة ولا أحد من بني. وكنت اذا سألته اجابني، واذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله اية من القرآن الا اقرأنيها او املاها علي فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها... ودعا الله ان يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله تعالى، ولا علما املاه الله علي وكتبه منذ دعا الله لي ما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ولا امر ولا نهي كان او يكون، ولا كتاب منزل على احد قبله من طاعة او معصية الا علمني اياه وحفظته فلم أنس حرفاً واحداً... ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي ان يملأ قلبي فهماً وعلماً وحكماً ونوراً، فقلت: يا رسول الله - بابي انت وامي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا، ولم يفتني شئ لم اكتبه أفتتخوف علي النسيان فيما بعد، فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل»)(51).

ومضمون هذه الرواية ذات الجوانب العلمية هي ان الرسول الخاتم (صلی الله علیه وآله وسلم) يعتني علميا بخليفته من بعده وفق منهجية دقيقة تتكون من عدة ركائز، ومنها:

1 - الاهتمام الشخصي، وذلك بالسماح للامام علي (علیه السلام) بالدخول على الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) في اوقات لا يمكن ان يدخل فيها غيره ليوفر له الدعم النفسي الكامل لتلقي العلم الخاص.

ص: 399

2 - المشاركة الرسالية، وذلك عبر المدد القراني بجديد القرآن ومكنون الافكار الرسالية الجديدة.

3 - الاحكام والالزام، وذلك بمعرفة حقيقة المدد القراني وتثبيته في القلب والعقل بكتابته، او باصطلاح الحديث «ارشفته» والزام الكاتب بفهمه وحفظه.

4 - الشمولية الشرعية والفكرية، وذلك بحرص الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على استيعاب الامام علي (علیه السلام) لكل جوانب الشريعة، حرامها وحلالها، والصيانة الفكرية للمتلقي من الوقوع في اخطاء متشابهها.

5 - الديمومة والاستمرارية، وذلك بدعوة الرسول الاكرم (صلى الله عليه وسلم) لعلي (صلى الله عليه وسلم) لتلافي النسيان وعدم الوقوع في الفتنة.

فهذه ركائز للمنهجية العلمية بين القائد وخليفته، وقد عبر عنها الامام علي (علیه السلام) بقوله: (من ينصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)(52).

وهذه المعادلة العلمية التي طبقها الرسول الخاتم صلى الله عليه واله وسلم مع علي عليه السلام اراد الامام تطبيقها مع اصحابه لتقويتهم ذاتيا ولاستقطابهم علميا فها هو يقول لكمیل بن زياد (يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ

فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَی سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَی رُكْنٍ وَثِيقٍ، يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَیْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ. وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ

يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ، وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ.

ص: 400

يَا كُمَيْل بْن زِيادٍ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ:

أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ)(53).

هذه معادلة متكاملة ووصفة جاهزة تجعل من العلم اهم شيء في حياة الانسان، تجعل منه احدى اهم الغايات واسمى الأهداف للوصول الى القيمة الحقيقية لوجود الإنسان.

ولكن امير المؤمنين المعلم لاصحابه والمواظب على تدريبهم وتأديبهم لم یکن مجاملا لهم ولا متجاهلا لاخطائهم لانهم مقربين منه لانه لا يريد کما الحكام الاخرين ان يستقوي بهؤلاء المقربين على الناس ليطيعوه بل يريد ان يطيعه الناس لانه اهل للطاعة، فكميل بن زياد الذي أغدق عليه امير المؤمنين بالعلوم واهداه صنوفا من المعرفة لمم يسلم من معاتبة الامام بل توبيخه باشد الكلمات بل ومقاطعته وعدم السماح له بالدخول عليه حتى يصلح خطأه بعد ان انهزم امام عصابات معاوية في ولاية هيت غرب الأنبار، حيث خاطبه امير المؤمنين قائلا: ((اما بعد فان تضييع المرء ما ولي وتكلفه ما كفي لعجز حاضر، ورأي متبر وان تعاطيك الغارة على اهل قرقیسیا و تعطيلك مسالحك التي وليناك ليس لها ما يمنعها ولا يرد الجيش عنهالراي شعاع... فقد صرت جسرا لمن اراد الغارة من اعدائك على اوليائك، غير شديد المنكب ولا مهيب الجانب، ولا ساد لثغرة، ولا کاسر لعدو شوكة، ولا مغن عن اهل مصر ولا مجز عن اميره))(54)

وبعد هذا الخطاب تأثر کمیل بن زیاد كثيرا ولم يدخل الى امير المؤمنين حتی اعاد هیت وساعد في تحرير قرقیسیا، وعندها قال له امير المؤمنين عليه السلام: (وقد احسنت النظر للمسلمين ونصحت امامك... فأنظر لا تغزون غزوة، ولا تخطون إلى حرب عدوك خطوة بعد هذا حتى تستأذنني في ذلك)(55)

ص: 401

ومثل ذلك ايضا تعامل امير المؤمنين مع المسيب بن نجبة الفزاري الذي اخطأ في مسؤولي ولاه اياها امير المؤمنين فحجبه عن العمل، فكلمه في امره وجوه الكوفه فلم يجبه، فاستدعاه وقال له (انه قد كلمني فيك من انت ارجي عندي منه، فكرهت ان يكون لاحد منهم عندك يد دوني) وهذا يعني ان امير المؤمنين لا يريد لاصحابه ان يشفع لهم من هو ابعد منهم عن امير المؤمنين لانه يريدهم اقوياء مهابون ليس لاحد عليهم فضل الا في طاعة الله، وعندما ولى الامام المسيب بعد ذلك على قبض الصدقات في الكوفة بالتعاون مع عبد الرحمن بن محمد الكندي قال عنهما: ((لو كان الناس كلهم مثل هذين الرجلين الصالحين، ماضر صاحب غنم لو خلاها بلا راع، وما ضر المسلمات لا تغلق عليهن الابواب، وما ضر تاجر لو القى تجارته بالعراء))(56).

هذه هي الاهداف الحقيقية للدولة والحكومة في رؤية الامام السياسية والاجتماعية وهي ان يكون الناس امنين في بيوتهم ومطمئنين على اموالهم، وهو الذي ما انفك يوصى ولاته وقادة حربه قائلا: ((اتق الله الذي تصير اليه الامور، ولا تحتقر مسلا، ولا معاهدا، ولا تغصبن مالا ولا ولدا ولا دابة، وان حفیت وترجلت، وصل الصلاة لوقتها))(57).

لقد كانت نظرية امير المؤمنين لصناعة القوى الفعلة قائمة على العلم والمعرفة من جهة والمحاسبة والمراقبة من جهة اخرى، اضافة الى العامل الشرعي المتمثل بالفرائض والعامل المعنوي والنفسي المتمثل بقوة الارادة.

ص: 402

الخاتمة

سيظل الامام علي (علیه السلام) نبراسا في علمه وعدله وثباته على المبدأ، وسيظل اعدائه في زمنه وفي وقتنا الحاضر مجرد لوحة موحشة رسمتها الوان الحقد الاعمى، وبأي طريقة يحاولون اطفاء نوره فأن مصيرهم الفشل.

وفي هذه الخاتمة المختصرة يطيب لنا أن نعرض بعض التوصيات لذوي الشأن في المجال الذي كتبنا فيه:

اولاً: ان يعقد مؤتمر خاص بفكر الامام علي (علیه السلام) السياسي والقواعد السياسية التي ابدعها في عهد الخلفاء الثلاثة واثناء قيادته للمجتمع الاسلامی كخليفة للمسلمين، ويدعى لها القادة السياسيون والمفكرين الاجتماعيين والباحثين من شتى أنحاء العالم للوقوف على طريقة الامام علي (علیه السلام) في الحكم، خصوصا اننا نمر بازمة سياسية خانقة نحتاج من اجل الخلاص منها إلى قواعد حكم رشيد كالتي اسسها الامام علي (علیه السلام).

ثانياً: دعوة الشباب وعبر مؤتمر ايضا لمناقشة فكر الامام علي (علیه السلام) الاعتدالي الرافض للمارسات الارهابية، وهذا ينسجم مع المرحلة الحالية التي تعمل فيها المجموعات الارهابية والمتطرفة على استقطاب الشباب و تجنيدهم للعمل کارهابيين يشوهون الفكر الاسلامي.

ثالثاً: البحث في الفكر التسامحي والسلمي للامام علي (علیه السلام) الذي يفوق الافكار الديمقراطية سلمية وتسامحا، وجمع مفردات هذا الفكر في موسوعة تطبع بعدة لغات وتوجه الى كافة انحاء العالم.

ونكتفي بهذا القدر من التوصيات وهي مهمة وتحتاج إلى جهد كبير للقيام بها، ويحبذ ان تكون ضمن منهجية مدروسة وبتفاعل من عدد كبير من الباحثين والخبراء

ص: 403

لتخلق تأثيرا في العالم.

دعواتنا الى الله عز وجل بان يوفق جميع العاملين لنشر فكر الامام علي (علیه السلام) واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على محمد وال بيته الطيبين الطاهرين.

هوامش البحث:

1 - معالم الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي، راجع ص 44 وص 63 وص 90

2 - سورة الشوری 10

3 - سورة المائدة 55

4 - سورة ال عمران 32

5 - سورة ال عمران 31

6 - سورة ص 26

7 - سورة الشورى 15

8 - موسوعة الامام علي (علیه السلام) - باقر شريف القرشي ج 10 ص 48، نقلا عن ربيع الابرارج ص 224

9 - من عهد الامام علي لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي - وسنده من: رجال الكشي، والفهرست للشيخ الطوسي، و تحف العقول لابن شعبة الحراني.

10 - شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد المعتزلي ج 16 ص 93

11 - سورة الاسراء 70

12 - سورة ال عمران 64

13 - من عهد الامام علي لمالك الاشتر - المصادر السابقة.

14 - سورة الشوری 15

15 - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ج 6 ص 94 / الامامة والسياسة ج 1 ص 174 / حياة

ص: 404

امير المؤمنين عن لسانه ج 7 ص 342

16 - نهج البلاغة - الشريف الرضي ص 103 تحقيق السيد هاشم الميلاني

17 - Concept تعني المفهوم وايضا تستخدم بمعنى الادراك

18 - نهج البلاغة ص 104

19 - سورة المائدة الآيات 44 - 46 - 47

20 - انظر تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي - صائب عبد الحميد ص 598 الى ص 605 ط 2 2006 مؤسسة دائرة معارف الفقه الاسلامي

21 - البداية والنهاية - ابن كثير ج 7 ص 321

22 - دعائم الإسلام - القاضي النعمان ج 1 ص 363، الطبعة الأولى 1426 ه، مؤسسة النور للمطبوعات، بيروت، الكامل في التاريخ ابن الاثير ج 3 ص 335

23 - تاریخ الاسلام الثقافي والسياسي ص 604

24 - عبارة فتح الباري في جزئه 12 ص 300 تختلف عما جاء في نهج البلاغة ص 118 فهناك نهي كامل عن قتال الخوارج من قبل امير المؤمنين في النهج بينما في فتح الباري هناك التفصيل المذكور في النص.

25 - تاريخ بغداد ج 14 ص 365 - 366

26 - وسائل الشيعة ج 18 ص 219 / قرب الاسناد ص 42

27 - تهذیب الکمال ج 13 ص 304

28 - شرح النهج ج 3 ص 128

29 - حياة امير المؤمنين عن لسانه - ج 7 ص 54

30 - بحار الانوار ج 32 ص 354

31 - شرح النهج ج 7 ص 40

ص: 405

32 - المصدر السابق ج 2 ص 200

33 - المصدر السابق ج 2 ص 180

34 - نهج البلاغة - الخطبة 224

35 - المصدر السابق خ 207

36 - مستدرك الصحيحين - الحاكم النيسابوري ج 3 ص 14، تاریخ الطبري ج 2 ص 272، ينابيع المودة - القندوزي ص 57

37 - تاريخ الطبري ج 4 ص 67 / بحار الانوار ج 34 ص 49

38 - شرح النهج ج 2 ص 240 / تاريخ الطبري ج 4 ص 42 / الارشاد للمفيد ج 1 ص 269

39 - بحار الانوار ج 32 ص 355

40 - نهج البلاغة - صبحي الصالح الكلمة 15 ص 57 / شرح النهج ج 1 ص 269

41 - سورة الزمر 23

42 - مسند احمد ج 3 ص 83 / المستدرك ج 3 ص 123

43 - حياة امير المؤمنين عن لسانه ج 1 ص 223

44 - سورة يوسف 4

45 - سورة يوسف 100

46 - تاریخ بغداد ج 8 ص 442

47 - نهج البلاغة - تحقيق الميلاني ص 117

48 - الاحتجاج ج 1 ص 239 / بحار الانوار ج 41 ص 336 / دلائل الامامة ص 58

49 - حلية الاولياء لأبي نعيم ج 1 ص 312

50 - سورة السجدة 24

51 - اصول الكافي ج 1 ص 64، الغيبة للنعماني ص 80، بحار الانوار ج 2 ص 228

ص: 406

52 - شرح النهج ج 4 ص 155

53 - نهج البلاغة - الميلاني - الحكمة 137 ص 543

54 - نهج البلاغة - صبحي الصالح - الكتاب 61 ص 450 / شرح النهج ج 17 ص 149

55 - انساب الاشراف للبلاذری ج 2 ص 474

56 - المصدر السابق ج 2 ص 449

57 - الغارات ج 2 ص 428 نقلا عن حياة امير المؤمنين عن لسانه ج 7 ص 311

ص: 407

ص: 408

العدل كقيمة أخلاقية دراسة استكشافية لفلسفة وتطبيقات مفهوم العدالة في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر مقارنة بالاتجاهات الحديثة لمفهوم العدالة

اشارة

نظرية العدالة عند الفيلسوف الامريكي جون رولز أنموذجا

الباحث حسين جويد الكندي عضو اتحاد الحقوقيين

ص: 409

ص: 410

مقدمة

مصادر التشريعات والقوانين في الفكر الاسلامي مُعَينة ومُحَددة، ويأتي في مقدمتها القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي يصفه الله تعالى بقوله: «لاريب فيه... «فهو في الاطار العام «لا ينطق عن «هوى «او «ميول« او حتى استجابة لاتجاهات دينية او عرقية، كونه کتاب «هدى للناس« فانه ايضا يتوفر على مقدار كبير من «البينات« التي فيها الهدي بالإضافة الى «الفرقان« الذي يستطيع الانسان من خلاله التمييز بين الحق والباطل، بل والوقوف على الحق وسط مقالات الباطل وشبهاته.

ثم تأتي بعد الكتاب المجيد والمعجزة المحمدية الخالدة (القرآن الكريم)، ما صح من احادیث اهل بيت العصمة والنبوة علیه السلام والتي وصلت الينا عن طريق الثقات من رواة احاديثهم في كتب الحديث والفقه والتفسير، وبعد هذه المصادر الرئيسية، تأتي مصادر أخرى صحح العمل بها علماء مجتهدين، وان أكثر ما ورد عنهم علیه السلام وحتى ما أُثر ممَن كتب في موضوعات الشريعة، قد تأثر بخطب ورسائل ووصايا الإمام علي علیه السلام، بل كان تأثير الادب العلوي - ان جاز التعبير - شاملا لنواحي وجهات اخرى غير ما ذكرناه من اصناف المعارف، فشمل علوم الفكر واللغة والقانون والاجتماع بل ربما العلوم التجريبية والحياتية ايضا، ولعل في اقتباسات الشعراء واصحاب صنعة البديع نموذجا حيا لما نشير اليه، ولانزال نستشعر ذلك التأثير الى اليوم، على أن قسم كبير من المصنفين جاؤوا على ذكر هذه الخطب في مواطن الاستشهاد ولم ينسبونها إلى انفسهم، لشهرتها بين المسلمين بل وغير المسلمين كذلك.

وسنتناول في هذا البحث عهد مولی الموحدين علي بن ابي طالب علیه السلام الذي

ص: 411

عهد به الى واليه على مصر مالك الاشتر النخعي، واثر ذلك العهد في الصياغات التشريعية والقانونية الاسلامية ومدی موائمتها مع القيم الإنسانية التي يهدف الاسلام كدين قبل كل شيء الى ايجادها في المجتمع الاسلامي، ومقارنتها مع احدث النظريات العالمية فيما يتعلق بالعدل باعتباره قيمة اخلاقية وانصاف قبل کونه قيمة قانونية تهدف التشريعات والقوانين الى ايجاده، وقد تطلب ذلك مجموعة من الخطوات للوصول الى هدف البحث ومبتغاه.

خطوات البحث:

1. القراءة النظرية الواعية وجمع المعلومات القانونية والاخلاقية ذات العلاقة بالبحث، ثم القيام بدراسة المصادر لإنارة جوانب الغموض في بعض فقرات البحث اذ تعتبر خطب وعهود امير المؤمنين علیه السلام مصدر مهم من مصادر التشريعات في مختلف المذاهب الاسلامية، بل وحتى القوانين والتنظيمات غير الاسلامية، وامكانية دخول وما لا يتفق مع المبادئ الاسلامية العامة من تفسيرات في مجموعة الصياغات المفسرة والموضحة لكلماته علیه السلام ومن هنا كانت مهمة دراسة المصادر امر في غاية الأهمية.

2. جدولة البيانات والمعلومات بطريقة تخدم منهج البحث، وذلك لان تصنيف هذه البحوث والتي تقترب من كونها في خانة البحوث القانونية المقارنة يتطلب استيعاب نماذج التشريعات التي تأثرت بعهد مولى الموحدين علیه السلام او بخطب نهج البلاغة بصفة عامة، ولا جدال في كون تلك النصوص القانونية خاضعة للمسبقات القيمية والاخلاقية والفلسفية لطائفة المشرعين والمُقننين والتي تلعب دور مهم في الصياغات القانونية المتبعة في مختلف المدارس القانونية، وهكذا كان لجدولة البيانات التي توفر عليها البحث اثر في فرز مايتناسب مع السياقات

ص: 412

العامة المتبعة في البحوث القانونية المقارنة بين التشريعات والنصوص الأصلية والصياغات القانونية.

3. رسم خارطة طريق للبحث ثم البدء بعملية التحليل وإيجاد العلاقات بين البيانات المتعلقة بموضوعه ومن ثم البدء بالكتابة حتى الخروج بمجموعة استنتاجات تعبٌر عن الفكرة الأساسية التي يشير إليها البحث في مطالبه، وذلك لان المصادر التاريخية وكتب التراجم والأدب والبلاغة تتضمن وصفاً لأحداث سیاسية مرت في التاريخ الإسلامي، القت بظلالها على الصياغات القانونية لجزء مهم من التشريعات المتداولة أو التي كونت عبر الزمن مصادر للقوانين المعاصرة او حتى القيم الاجتماعية، والتي يعتبر العرف الاجتماعي جزء مهم منها.

مشكلة البحث:

لابد لكٌل بحث علمي من مشكلة يبدأ فيها ويهدف بصورة منظمة إلى العمل لأن يصل الى طريقة لمعالجتها، ولذا يهدف هذا البحث للإجابة عن الأسئلة التالية:

1 - هل كان لخطب نهج البلاغة بصورة عامة أثر في الفكر السياسي والقانوني الاسلامي، خاصة عند طبقة الفلاسفة الذين أثروا في الفكر المسيحي والاوربي بصورة عامة كأبن رشد.

2 - هل هناك ارتباط ما، بين القيم الاخلاقية التي يشير اليها العهد، ومنظومة القيم الانسانية التي تتردد تأثيراتها في مختلف القوانين حول العالم، والى أي حد يمكن أن نعد نظرية العدالة كانصاف التي قدمها جون رولز تصور سیاسی قابل للتحقق على ارض الواقع يجد صداه في كلمات امير المؤمنين علیه السلام، والى أي حد تمكن هذا المشرع الاسلامي من التوفيق بن الحرية والمساواة الاجتماعية كما فعل

ص: 413

رولز في نظرية العدالة كانصاف.

هدف البحث:

دراسة طبيعة العلاقة بين التشريعات والقوانين في الدول الاسلامية و مصادرها الاساسية، الذي يمثل التراث الاسلامي ونصوصه الحاكمة احد مواردها المهمة، ومدى الاخذ بتلك النصوص في الموارد التشريعية، ومن ثم امكانية الاخذ بنظر الاعتبار قابلية تلك القوانين الوضعية للعمل بالقيم الانسانية والأخلاقية الواردة في عهد المولى امير الموحدين علیه السلام.

فرضية البحث:

ينطلق البحث من فرضية مفادها اساهم المقالات الواردة عن أمير المؤمنين علیه السلام سواء ما كان منها في نهج البلاغة او غيره، في اثراء الجانب القانوني في اغلب الدول الاسلامية، بل وغير الاسلامية كذلك، كما وأثرت التراث الإنساني خاصة في نهضته الحديثة من خلال التضمينات الخارجة عن حد الاحصاء التي توافرت عليها كتب الفقه والاخلاق والفلسفة الاسلامية والتي كان لها الاثر الواضح في کینونة الفلسفة الاوربية في العصور الوسطى، وعصر الانوار، والتي تم الاطلاع عليها ودراستها حديثا في فترة ما بعد عصر الانوار الاوربي من قبل طائفة من الفلاسفة، حيث القت هذه المقالات بظلالها على مجمل الفلسفة الاخلاقية - القانونية في اوروبا، خاصة فيما يتعلق بمفاهيم الحرية والعدالة وحقوق الانسان.

منهجية البحث:

من أهم المناهج البحثية التي تم استعمالها في البحث هي:-

1. المنهج التاريخي: لأهمية هذا المنهج في استقصاء الحقائق التاريخية، حيث

ص: 414

اقتضت طبيعة البحث أن يكون هذا المنهج حاکيا على أغلب مرتسماته البحثية، بسبب كوننا نبحث في اصل نص تاريخي قبل أن يكون نصا قانونا او قيميا.

2. المنهج التحليلي: لم يزل هذا المنهج كاشفاً عن ما أغفله التاريخ في نصوصه وآثاره، فهناك مجموعة من النصوص التاريخية غير واضحة الاشارة الى حقيقية او موقف بعينه، ومن هنا كانت الحاجة إلى تحليل تلك النصوص في ضوء الظروف الزمكانية والحالية المحيطة بوجود النص.

خطة البحث:

اشتمل البحث على مقدمة وتمهيد وتركز في مبحثين وخاتمة، وقد تناول المبحث الاول (العدل كقيمة اخلاقية) من خلال مطلبين كان المطلب الأول يتتبع مفهوم العدالة كقيمة اخلاقية في نصوص عهد امير المؤمنين علیه السلام لمالك الاشتر النخعي، أما المطلب الثاني فقد تناول روح القانون ونظرية تطابق العدل والخير عند الإمام علي علیه السلام.

وجاء المبحث الثاني (العدالة كانصاف) في اول مطالبه مهتما بدراسة مفهوم العدالة كانصاف في كتاب (نظرية في العدالة) لجون رولز، اما المطلب الثاني فقد تتبع الجذور الفلسفية لنظرية العدالة كانصاف.

وختاماً أرجو أن يكون في بحثي المتواضع سداد من عوز، وأن يكون فاتحة لدراسات قادمة اكثر رصانة، واظهار دور الفكر القانوني الإسلامي في الحضارة الانسانية، وأظن أن هذه أول محاولة في هذا المجال، يتم فيها إجراء هذا النمط من الموازنة والمقابلة بين عهد امير المؤمنين علیه السلام وراس الفلسفة القانونية الغربية جون رولز، بقصد الكشف عن بعض جوانب الشبه والتشابه، على مستوى الآراء

ص: 415

والأفكار، مما يولد القناعة باتکاء الفلسفة الغربية على التراث القانوني والحقوقي الإسلامي، ورجوعها اليه في كثير مما تدعي انتسابه الى حضارتها 0 ولا ادعي الكال فيما فعلت حسبي اني توخيت فيه جهد المستطاع و ابتهل إلى الباري عزٌ وجل أن يكون هذا البحث عند حسن المستوى ورفعة الجهد.

والله ولي التوفيق.

تمهيد

احتلت كلمات امير المؤمنين علي بن ابي طالب علیه السلام مكانا مهما في التمظهرات الفلسفية والتشريعية والاخلاقية بل وحتى في المُخرجات الادبية الاسلامية وفي فترات متقدمة جدا عن تأليف الشريف الرضي لكتاب نهج البلاغة الجامع لكلامه وخطبه ووصاياه علیه السلام ولعل ذلك كان كائنا في فترة سابقة ايضا عن محاولات ابن المقفع وتضميناته لحكم ووصايا أمير المؤمنين علیه السلام في مجمل نتاجه الادبي والسياسي، والذي وجد طريقه الى الجانب التشريعي في الاقاليم والانحاء الاسلامية التي عمل فيها ابن المقفع (ت 142 ه) كاتبا و وزیرا.

فقد حاول ابن المقفع وغيره في مجمل نتاجهم الادبي - السياسي أن يستنبطوا أفكاراً سياسية تحقق لهم أغراضهم التي وضعوا كتبهم من أجلها، فمنهم من حاول أن يستنبط نظرية سياسية من المصادر الأولى، وبعض آخر حاول أن يُقدم دراسة شافية للسلطان كي يتمكن من إدارة دفة الأمور، من خلال تشريعات وقوانين لها سند شرعي من كلام امام وخليفة للمسلمين، وبعض حاول أن يقدم من خلال دراسته رؤية عن المشاكل السياسية التي تعاني منها الأمة، وطرق معالجتها، ومنهم من جاء على ذكر المواضيع السياسية عرضاً في صلب ارادة التشريع، باعتبار ان السياسة لابد وان تكون محكومة بقانون قادر على انفاذها في

ص: 416

أي مجتمع. ولاريب إن أكثر مَن كتبوا في هذه الموضوعات تأثروا بخطب الإمام علي علیه السلام.

تعتبر تجربة ابن المقفع المولع بالمنطق والسياسة من اوائل التجارب التي عنيت بخطب ووصايا الإمام علي بن ابي طالب علیه السلام حتى إنه اعتاد على نقل نصوص من خطب الإمام علیه السلام دون أن يذكر اسمه، تخفياً من السلطة التي كان يعمل موظفاً لديها، وقد أشار إلى ذلك دون أن يُدلي بما هو أكثر فذكر في الأدب الصغير: وقد وضعت في هذا الكتاب من کلام (الناس) المحفوظ حروفاً(1)، فهو يرى أن البناء الأول في النثر العربي الأدبي الفني كان عند أمير المؤمنين الإمام علي علیه السلام، وقيل أنه تخرج في البلاغة بخطب علي بن أبي طالب(2)، ولعل الجانب السياسي كان واضحا في مجمل حركة نصوص امير المؤمنين علیه السلام عند ابن المقفع فمثلا نسمعه يقول: ومن نصب نفسه للناس إماماً في الدين فعليه بتعليم نفسه وتقديمها في السيرة والطعمة(3)، وهي كما هو واضح مأخوذة من كلمة الإمام علي علیه السلام: من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه(4)، وغير ذلك كثير في كتبه (الأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة).

ولم يكن ابن المقفع يتيما في هذا المجال، فقد كان لابي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 ه) وهو كبير أئمة الأدب، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة(5)، اسهامه في هذا المجال، وذلك لشدة اهتمامه بالبلاغة فقد تأثر بخطب وكلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، حتى أنه ألف مجموعة اختار فيها مائة كلمة الأمير المؤمنين(6) علیه السلام، اختار الشريف الرضي جملة منها وأثبتها في النهج(7)، وقد أورد الجاحظ كلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في جميع كتبه، البيان والتبيين، الحيوان، والمحاسن والأضداد، التاج، وهو القائل: «علي بن ابي طالب علیه السلام محنة

ص: 417

للمتكلم، إن وفي حقه غلى، وإن بخسه حقه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حادة اللسان، صعبة الترقي إلا على الحاذق الذكي»(8).

ففي كتابه الحيوان الذي يتناول الحيوانات وما يرتبط بها من أدب، وأخبار، وروایات، يحاول الجاحظ أن يستنبط من حياة الحيوان العبر التي تنفع الإنسان في مجالات حياته المختلفة، على غرار (حكمة العجم) التي تنسب الى ملوك الفرس والهند وحكمائهم وهي وان كان يُراد منها ان تكون مؤطرة للسلوك موجهة للرؤية الا انها لم تكشف عن نظام للقيم خاص ومتجسد بحيث تعمل على اذاعته وتكريسه ولذلك اقتصر النظر اليها في احسن الاحوال من زاوية انها مادة لغرس الأدب في النفوس(9)، ولم ينجو الجاحظ من هذا الاسفاف الا عندما استغرق في كلمات الإمام أمير المؤمنين علیه السلام خاصة ما تعلق منها بالفكر السياسي - القانوني. فحول إمارات النباهة، يذكر ما يلي: وكان يُقال يُستدل على نباهة الرجل في الماضين بتباين الناس فيه، وقال: ألا ترى أن علياً (عليه السلام)، قال: يهلك فيّ فئتان، محب مفرط، ومبغض مفرط. وهذه صفة أنبه الناس وأبعدهم غاية في مراتب التدين وشرف الدنيا(10)، وذلك كما هو واضح تحقيق لما يشترط اليوم في صفات وخصائص القضاة والمراكز السياسية والدبلوماسية وللجاحظ بالإضافة إلى هذا الكتاب، کتاب البيان والتبيين وكتاب التاج في أخلاق الملوك، وهو كتاب أخلاقي سیاسي كتبه على نسق وصايا أمير المؤمنين علیه السلام لولده الحسن علیه السلام، وقد جمع فيه جملة أفکار استعارها من كلمات وحكم الأولين ومنهم أمير المؤمنين علیه السلام(11).

وقد استفاد اهل الحدیث کما استفاد الفقهاء من جمل ووصايا امير الموحدين للوقوف على المدارك التشريعية(12) والقانونية، باعتبارها مصدرا من مصادر التشريع، وقد كان محدثي الكوفة في مقدمة هؤلاء النفر ممن وثب إلى تلك الخطب

ص: 418

فجمع شتات التشريعات في صعيد فهمها وادراك المعاني القانونية والسياسية التي تشير اليها، ومن هؤلاء أبو جعفر البرقي (ت 274 ه او 280 ه) الذي وثقه الطوسي(13)، وذكره ابن النديم، وذكر أنه من أصحاب الرضا علیه السلام، وذکر کتبه: کتاب العويص، کتاب التبصرة، کتاب المحاسن، کتاب الرجال، وفيه ذكر من روي عن أمير المؤمنين(14) علیه السلام، وفي كتاب البرقي المسمى (المحاسن)(15)، والذي قيّمه المحقق السيد محمد صادق بحر العلوم في المقدمة، وإن كتابه هذا كان مرجعاً لعلماء التأريخ، والجغرافية والتراجم، کما کان مرجعاً لعلماء الحديث، بل عدّهُ العلامة عبد الزهراء الخطيب من مصادر نهج البلاغة(16)، فقد أورد البرقي فيه كلمات الإمام علي علیه السلام في الموضوعات السياسية بالإضافة إلى الموضوعات الأخرى كالقانونية وغيرها فذكر(17) عن صفات الإمام علیه السلام أنه قال: ثلاث موبقات، نکث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة، ومن النظرة الاولى يُلحظ انها تشير الى سياسات عامة تتعلق بالمواثيق والعهود وتطبيق القوانين والحفاظ على نسيج الامة، وهي بمجموعها تمظهرات سياسية وقانونية مبكرة في منظومة القيم الاسلامية.

ان الاثر الذي تركته كلمات امير المؤمنين علیه السلام ووصاياه وجد اهل النظر من الامة عندها ظالتهم المنشودة فتواتر نقل كلماته في مختلف شؤون المعرفة عند كبار ادباء البديع وفقهاء التشريع، في الفقه كما في السياسة، كأبي محمد عبد الله بن قتيبة (ت 276 ه) وكتابيه عيون الاخبار(18) والامامة والسياسة، وابراهيم بن محمد البيهقي (حیا 320 ه) وكتابه المحاسن والمساوى(19)، و أبو الحسن الأشعري (ت 324 او 330 ه) الذي اورد مقالات امير المؤمنين علیه السلام في أبرز كتبه (الرد على المجسمة) و (مقالات الإسلاميين) و(الإبانة عن أصول الديانة) و (الرد على ابن الرواندي) و(اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع) وعلى سبيل المثال يذكر في

ص: 419

قضية التحكيم قول أمير المؤمنين علیه السلام: قد أبيت عليكم في أول الأمر فأبيتم إلا إجابتهم إلى ما سالوا، فأجبناهم وأعطيناهم العهود والمواثيق.. وليس يسوغ لنا الغدر(20).

وكذلك كان تأثير تلك النصوص واضحا في مخرجات عالم اخلاقي فذهو أحمد بن مسکویه (ت 421 ه) فقد اورد في أهم كتبه (تجارب الأمم وتعاقب الهمم) وهو كتاب تاريخي انتهى به إلى السنة التي مات فيها عضد الدولة (372 ه) مفردات من خطب امير المؤمنين علیه السلام، وله كتاب آخر هو (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)(21)، هو كتاب يخرج بين الأخلاق والسياسة والاجتماع، فيعتبر بذلك من مصادر الفكر السياسي والقانوني، حيث أتخذ ابن مسکويه من الإمام علي علیه السلام مثله الأعلى في الحاكم الملتزم والإنسان المتشرّب بالأخلاق الفاضلة، وقد انعكس ذلك جلياً في موضوعات الكتاب المتنوعة التي تناولها، وكثيراً ما استشهد بكلمات الإمام علیه السلام أو مواقفه(22)، يقول: منها كثرة المزام التي قد يتصور البعض أنها تتناقض والشجاعة، وكان من كثرة مزاحه أن عابه بعض الناس، فقال: لو الادعابة فيه(33)، ولو أردنا احصاء من نهل من خطبه علیه السلام ووصاياه استشهادا بها لحكم شرعي او حدث باعتبارها اصلا تشريعيا او قانونيا، لضاق بنا المقام، ولكننا نكتفي بهذه الأمثلة لتقدمها على تالیف کتاب نهج البلاغة.

ولعل من اكثر الموارد التي كانت نظر حکماء السياسة وفقهاء القانون، ذلك العهد الذي عهد به امير المؤمنين علي بن ابي طالب علیه السلام الى عامله على مصر مالك الاشتر النخعي(24)، لما وجهه اليها، فقد كان هذا العهد دلیل عمل ومصدر تشريع لدى المسلمين طيلة القرون الماضية، فهو عهد في كيفية إدارة الدولة وسياسة الحكومة ومراعاة حقوق الشعب وفيه نظريات الإسلام في الحاكم والحكومة

ص: 420

ومناهج الدين في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والإدارة والأُمور العبادية والقضائية. والقانونية.

وهذا العهد يمثّل نظاماً وقانوناً سیاسي وإدارياً، وهو لا يتناول البحث في عموميات العدالة، بنحو العموم، بل يتناول مباحث التشريعات العامّة التي تتناول تفاصيل و جزئیات قانونية كما هو معمول اليوم في القوانين التنظيمية لمختلف شؤون الحياة، ووصلت شهرته الى الحد الذي قال فيه فقهاء القانون انه يعتبر من اكثر نماذج نضوج العقل القانوني الاسلامي، وواضع تلك المرتسمات القانونية في نظر مفكري العالم شخصية خصبة، و مظهرا من مظاهر التكامل الانساني، بدا بتطبيق برنامجه الإصلاحي في اشاعة العدل والمساواة بين ابناء الأمة الاسلامية بصرف النظر عن دينهم ومذهبهم ولغتهم ولون بشرتهم واتجاهاتهم السياسية والاجتماعية. لقد امر الولاة ان يكونوا رحماء مع رعاياهم كما تجلى ذلك في رسالة الامام الى والي مصر(25).

وقد كانت كلمات هذا العهد مصدر الهام لكثير من فلاسفة الغرب ومفكريهم فضلا عن فقهاء القانون، الامر الذي لم يستطع ميشيل هاملتون الا ان يظهر أعجابه الفائق بالسياسة الحكيمة لشخص خليفة المسلمين علي بن ابي طالب علیه السلام بعد أن اطلع على رسائله التي حررها إلى ولاته في الامصار الاسلامية ومنهم مالك الأشتر مؤكدا عليهم أن يعاملوا المواطنين من غير المسلمين بروح العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، فهاملتون اعتبر ذلك انعكاسا صادقا لسلوكيات الخليفة الحميدة المؤطرة بفضائل الاخلاق التي أهلته للدخول في تاريخ الانسانية من ابوابه العريضة(26)، ولا يخفى ما للفكر الفلسفي والديني الاسلامي من اثر واضح وجلي على فلسفة العصور الوسطى المسيحية والحديثة

ص: 421

المعروفة بعصر الانوار، بالرغم من اختلاف فکر فلاسفة المسلمين ومتفلسفة المسيحية، الا ان تسلل ما حصل للعديد من الحلول الفلسفية (الرشدية)(27) للمشاكل المختلفة الى الفكر (الاكويني)(28) وغيره من حاول عقلنة المسيحية، انتج هذا التاثر الكبير بشروحات ابن رشد في اوروبا، وبفضل هذا التسلل تحقق اتجاه تجريبي مادي ارسطي رشدي في النمط الفكري السائد في العصور الوسطى - كما يدعي ماکسیم جورس - احد علماء العصور الوسطى المسيحين العظام(29)، وهذا الاتجاه في تاویل افکار فلاسفة اوروبا، يطرح قضية التشابه على مستوى الأفكار والمنهج بين بعض فلاسفة المسلمين القدماء من أمثال الغزالي و الفرابي وابن سیناء وابن رشد وغيرهم ممن تشربوا بالفلسفة الاخلاقية والعقلية لامير المؤمنين علیه السلام، وبعض فلاسفة أوربا المحدثين من أمثال دیکارت وهوبز باسكال واسبينوزا روسو وكانط وغيرهم، مما دعى بعض الكتاب المشتغلين بحقل الدراسات الفكرية والفلسفية بإجراء مقارنات ومقاربات استطلاعية واستكشافية و تحليلية في هذا الشأن، على أن العصر الوسيط الاوربي كما هو معلوم له اسهام كبير في صيرورة افکار وفلسفات عصر التنوير(30) الذي لازالت الفلسفة الاوربية تنتمي له باخلاص في مجمل فلسفاتها الحية (القانونية والاقتصادية والاجتماعية).

الا أن هذا الشبه بين فلاسفة المسلمين والفلاسفة المحدثين لم يعره الباحثون من قبل عناية تذكر، ظنا منهم ان هذه الصلة وهذه العلاقة ربما تبدو غريبة، فقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند حدود القرون الوسطى، ولم يفكر واحد من هؤلاء بجدية أن يدرس هذه الصلة بين الفلسفة الإسلامية وفلسفة العصور الحديثة دراسة منظمة، الصلة والتي يرى فيها الدكتور ابراهیم مدكور أنها جديرة بالبحث والدرس(31).

ص: 422

وقد اعتمدت الأمم المتحدة هذه الرسالة كونها من أوائل الرسائل الحقوقية والتي تحدد الحقوق والواجبات بين الدولة والشعب، وفي ذلك يقول الامين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان أن يقول: إنّ هذه العبارة من العهد يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم، والعبارة هي: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ...، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»(32)، في ذات الوقت الذي نادت مراكز بحثية قانونية والأجهزة الحقوقية والقانونية حول العالم إلى ضرورة أن يكون عهد امير المؤمنين علیه السلام أحد مصادر التشريع للقانون الدولي، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد علي بن أبي طالب علیه السلام لمالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي(33).

تعتبر هذه الوصية من اوضح وادق اللوائح التي وائمت بين حقوق الانسان والتي يعبر عنها علیه السلام (حقوق الرعية) و التنظيمات القانونية الحاكمة والمنظمة لمختلف شؤون الحياة، في فترة زمنية لم يكن العقل القانوني والتنظيمي الانساني، قد توصل الى تلك الاواصر بين حق الفرد وحق الدولة وحق المجتمع وحق الاخر (السياسي والديني)، ومن خلال هذا الفهم اعتبر فقهاء القانون هذا العهد نموذج نادر للعقل القانوني والسياسي الاسلامي الذي تمكن من ايجاد تلك الرابطة بين تلك الحقوق في الفترة التي كانت فيها البشرية في حالة جهل تام بتلك المرتسمات والخطوط القانونية بشكلها العام فضلا عن التفصيلي.

ص: 423

المبحث الاول: العدالة كقيمة أخلاقية

يختلف اسلوب سن التشريعات والقوانين بتنوع الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وربما كان الطبيعة نظام الحكم اثر في فلسفة سن القوانين، اذ يلعب الأسلوب المتبع في وضع القوانين دوراً هاما في كشف المذهب السياسي وحتی الاقتصادي احيانا للتكوينات الاجتماعية ذات العلاقة، وذلك لأن كل قانون هو نتاج مستوى التطور الذي بلغه النظام الاجتماعي والاقتصادي والقانوني ومنظومات التقاليد والأعراف والخبرات السياسية، والتي تتطور بتطور أنظمة الحكم في كل دولة من الدول، وفي هذا السياق جاء عهد امير المؤمنين علیه السلام لمالك الاشتر ممثلا لتطور النظرية السياسية والقانونية والاجتماعية الاسلامية خاصة فيما يتصل بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم وكذلك تمظهرات الوعي السياسي الجديد الذي اتضح بصورة جلية بعد قتل عثمان بن عفان.

ولما كان الغرض الاساسي لوضع القوانين هو تنظيم احتياجات أي مجتمع بما يتوافق مع مقتضيات التعايش بين طبقاته، فكان لزاما أن يصبح القانون بهذا الاعتبار برمجة اجتماعية للعلاقات داخل أطر ذلك المجتمع، منشأه الحاجة إلى قواعد معيارية ملزمة تحقق التوازن والتناسق بين المصالح المختلفة لأفراد المجتمع، وإيجاد تنظیم لمختلف العلاقات القانونية بصفة دائمة ومستمرة، وهذا ما يتحقق عن طريق حفظ النظام وتحقيق العدل الاجتماعي والتقدم الإنساني في إطار احترام حقوق الإنسان والحق في المساواة، و من أجل تحديد الواجبات والحقوق لكل من السلطات المتعددة وعموم المجتمع وتفضيلاته، وذلك بإتباع طرق تختلف باختلاف الدولة ودرجة النضج القانوني والسياسي والاخلاقي لدى

ص: 424

الرأي العام فيها، لان هناك من يرى انه: مهما كان النظام الاجتماعي عقلانيا أي متبعا للمعايير القانونية الصحيحة، فانه قد لا يساوي شيئا على الصعيد الاخلاقي اذا لم يعالج الظلم الصارخ، لذلك فان أي تصور للعدالة لابد ان يكون معتمدا على اعتبارات اخلاقية مستقلة(34)، وهو مايمكن فهمه وبوضوح في عبارات امیر المؤمنين علیه السلام في عهده المالك الاشتر، قال علیه السلام في عهده المالك الأشتر: (أَنْصِفِ اللهَ وَأنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِن خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوَى مِنْ رَعِيَّتِكَ،

فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ! وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَيْسَ شَءٌ أَدْعَى إِلَ تَغْيیرِ نِعَمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَی ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِینَ بِالْمِرْصَاد)(35) وهو ما سوف نركز الضوء عليه في هذا المبحث، حيث يتناول المطلب الأول منه: استیضاح فلسفة العدالة عند امير المؤمنين علیه السلام، اما المطلب الثاني فيتناول: روح القانون ونظرية تطابق العدل والخير عند الإمام علي علیه السلام.

المطلب الاول: مفهوم العدالة كقيمة اخلاقية في نصوص عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الاشتر

من الخصائص المميزة لأي حضارة انسانية، مجموعة تشريعاتها وانظمتها القانونية والتنظيمية، لارتباط تلك التنظيمات بمنظوماتها ألأخلاقية وتقاليدها وثقافتها، فهي مظهرها، وتجلي واضح لمدى استفادة تلك الحضارة من عمق وجودها الانساني، ومرآة لحالتها الاقتصادية والسياسية، وهي بذلك لا تبتعد في مقصودها عن غاية الشريعة الإسلامية ومقاصد تشريعها في جلب المصالح ودفع المفاسد وتحقيق مصالح الإنسان، وبالرغم من تسليم جل المتاخرین محن عرضوا لموضوع تاريخ الفكر الاخلاقي في الحضارة العربية الاسلامية بفكرة:

ص: 425

ان العرب لم ينتجوا لا في الجاهلية ولا في الاسلام فكرا اخلاقيا باستثناء ماردده بعض فلاسفتهم من اراء في اطار مانقلوه عن فلاسفة اليونان(36)، الا ان المتتبع يجد استثناءآت واضحة لهذا التعميم لعل ابرزها واوضحها يقف شامخا في الفكر القانوني الذي يُعد احد ابرز اركان التشريع الإسلامي، وهو مايمكن تلمسه في مواد العهد المشهور لامير المؤمنين علیه السلام الذي ارسله لعاملة على مصر، والذي يظهر منه جليا ارادته علیه السلام لخلق نظم القيم بعيدا عن الصراعات السياسية والاجتماعية التي كانت محاثية لخلافته، حيث جعل مفهوم العدالة كقيمة اخلاقية، ثابت بنيوي يخترق مفعوله جميع نظم القيم الاخرى.

فكون الإسلام دينا اجتماعيا يجعل من شريعته قانونا اجتماعيا معیاريا بامتياز، بحيث يكون القانون متناغما مع طبيعة أي مجتمع يدين بمناهجه، ويستنير بمبادئه العامة، امر يعتبره امير المؤمنين علیه السلام محوريا ومركزيا في حركة وفهم المُشرع والمُقنن، ومقدار وعيه للنصوص، بما تقتضيه طبيعة ذلك المجتمع، هي المعيار في انتخاب مضامین معينة وتشكيلها في اطار قانوني يستجيب للحاجات المتجددة والمصالح المتداخلة في الاطار الاسلامي العام، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين علیه السلام في عهده للاشتر النخعي، في اشارة منه إلى اتخاذ المساعدين والاعوان سواء في الجانب التنفيذي او التنظيمي في اطاره القانوني، قال: «وتوخ منهم(37) أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا«(38)، وفي ذلك اشارة الى معرفة هذه الطبقة من الناس بالمعايير الاجتماعية التي ينبغي أن تكون مناط اهتمام المشرع لكي لا يحدث عدم انسجام بين القيم الاجتماعية والمنظومة التشريعية والقانونية الحاكمة على الناس.

ص: 426

وإذا رجعنا للتاريخ العالم الإسلامي نجد أن أول قانون عرف بالمفهوم الفني الحديث في عهد الرسول صلی الله علیه وآله وسلم تلك الوثائق التي أعدها النبي محمد صلی الله علیه وآله وسلم لتنظيم أحوال مجتمع المدينة بعد أن انتقل إليها من مكة، والذي كان في مقاربات كثيرة منه اشبه مایکون ببلورة لمفاهيم فكرة القوانين التنظيمية الاجتماعية، مع فرق اساسي يتمثل في دائمية التشريعات الدينية ومرحلية التشريعات الوضعية، وهذا بحد ذاته ما اعتبره بعض الباحثين اختلافا جوهريا بين قسمي التشريعات في المنظومة القانونية الاسلامية وهو ما يعبر عنه باختلاف جهة المقاصدية في التشريع، ذلك أن التشريع الوضعي قابلٌ للتعديل والتغيير باستمرار، فليس بحاجة ماسَّة إلى نظرة مقاصدية، تستخرج منه الحِكَم والغايات المصلحية المقصودة منه(39)، بلحاظ تغير الاسباب الداعية الى وجود القانون مثلا، او انتفاء الحاجة إلى وجود قانون قدسن في فترة معينة لمعالجة ظاهرة ما، ايضا.

تعتبر التشريعات القانونية اليوم صورة عاكسة لمدى استجابة الشعوب والأنظمة على حد سواء لإثبات سیادتها الداخلية واستقلاليتها، وذلك بواسطة تنظیم جزئیات و مفاصل حركة المجتمعات، والسلطة بوضعها قانون يبين حدود السلطات الممنوحة في الدولة، فأن هذه الدولة بوضع القانون تؤهل نفسها لإقامة حوار بين السلطة والحرية بمفهومها السياسي التي تتكفلها القوانين وتحرص على وجودها، فكأنها تعلن للغير بأنها وصلت إلى مرحلة النضج السياسي والقانوني، يقول امير المؤمنين علیه السلام: الحرية منزهة من الغل والمكر(40)، والدولة بذلك ترعی مجموعة القواعد القانونية العامة و المجردة الآمرة و المكملة و الملزمة، فالحرية هي الشرط الاول في المسؤولية سواء تعلق الأمر بالمسؤولية امام الله او القانون او الضمير أعني (المسؤولية الأخلاقية) بمعناها المجرد، فالحرية اساس المسؤولية

ص: 427

فهي اذن شرط قيام الاخلاق نفسها(41)، لان المكره على فعل ما، لايخضع للمسألة القانونية، وهو مبدأ ثابت ايضا في الشريعة الاسلامية «فالضرورات تبيح المحظورات «فمسلوب الحرية كالمكره المجبر على اتيان عمل او ترك آخر، وفي کلا الحالين لا يكون خاضعا للمسالة القانونية، لانه وببساطة لم يصدر عنه الفعل عن قصد واختيار، ومن هنا استشعر فقهاء القانون الحاجة إلى مقاصدية معينة خاصة في عملية الإصلاح التشريعي والقانوني(42)، بعد ان اصبحت المقاصد الاصلية في اطارها العام مفضية إلى النتيجة ذاتها في ضرورة الاصلاح.

مفهوم المؤسسات الاجتماعية عند امير المؤمنين علیه السلام

ادراك المصالح الاجتماعية عند امير المؤمنين علیه السلام يبدا وينتهي بالمؤسسة الاجتماعية أو المؤسسات الاجتماعية العادلة، التي لابد ولها أن تكون هادفة لايجاد العدالة باعتبارها مؤسسة للحريات والحقوق الفردية في مجتمع منظم وحر، وعند ذلك يكون هذا المجتمع وفي ظل ظروف احساسه بالحرية والمساواة داعما للمؤسسات التي تحقق له هذا المقدار من العدالة، والتي كونت بمجملها صورة البنية الأساسية (الدستور) الذي ينظم المؤسسات والأفراد على حد سواء ويجعلها هادفة لتحقيق الاستقلال الذاتي لكل شخص يقول علیه السلام: «وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية»(43).

تمثل النصوص القانونية التي وصلت الينا في عهد الامام علي علیه السلام للاشتر النخعي قمة الاشتغال القانوني ببعده السياسي الاصلاحي فهي تشير إلى منطلقات وركائز کانت غائبة في الوعي القانوني من قبيل نظرية التعايش في الاسلام، والتي زرعاها ورعاها الرسول الأكرم علیه السلام أيما رعاية، حتى اصبحت مثار اعجاب مفكري الانسانية واصحاب الالباب منهم، قال العلامة الفرنسي جوستاف

ص: 428

لوبون: رأينا من آي القرآن أن مسامحة محمد لليهود والنصاری کانت عظيمة للغاية(44)، وقد تجسدت تلك المبادى في سلوك وافکار امير الموحدين علي بن ابي طالب علیه السلام ایما تجسيد، فهو القائل في عهده المشهور لمالك الأشتر:» وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونّن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه و صفحه»(45)، وذلك يُظهر بوضوح الخطاب المألوف منه علیه السلام المؤيد لمبادئ العدالة في الحريات الأساسية لمختلف الانتماءآت العرقية والدينية الاساسية المتساوية والمساواة المنصفة في الفرص وجملة الواجبات الطبيعية للافراد اللازمة لدعم المؤسسات العادلة، التي تنادي بها النظريات الحديثة لمفهوم العدالة باعتباره قيمة انسانية واخلاقية(46)، وقد ضرب الامام علي علیه السلام اروع امثلة توفير الدولة للحريات الأساسية (الشخصية والسياسية)(47) والاقتصادية وغيرها.

وهو بذلك يؤسس الى مفهوم قانوني ضامن للتعايش بين الافراد الاحرار والمكونين للجماعة (سواء كانت الجماعة اسلامية خالصة ام فيها مجتمعات غير اسلامية) في رقعة جغرافية معينة، في وقت مبكر جدا من تاريخ العقل القانوني، لا يكتفي بمجرد رعاية السلطة للرحمة والمحبة واللطف في التعامل مع الرعية وبجميع مكوناتها المختلفة، بل يدعو الى الانطلاق من الذات، باعتبارها مسؤولة عن اختياراتها، الانطلاق من القلب، لتبدأ بزراعة الحب والرحمة واللطف، حتى يتحول ذلك الحب الذي يسع جميع مكونات النسيج الاجتماعي إلى ملكة، فتحب الرعية بتعدديتها وحريتها حبّاً متواصلاً و نابعاً من القلب، ذلك أن أي تشريع

ص: 429

متعلق بتنظيم حياة الإنسان وسلوکه داخل الجماعة؛ يكون في أصل وضعه مبنيا على غاية يريد واضعه تحقيقها في حياة المخاطبين بهذا القانون، وتلك الغاية هي المقصودة من تشريعه ووضعه في جملته وتفاصيله؛ لا فرق بين أن يكون هذا القانون قانونا وضعيا أو کان تشريعا سماويا(48).

ان تطبيق العدل باعتباره قیمة أخلاقية (حَسِن) ويمكن للشخص أن يؤديه بصورة وجدانية ذاتية بعيدا عن المصلحة المتحصلة من فعل ماهو عدل أي باعتباره واجبا عقليا ولكن هذا الواجب العقلي هو ذاته خير الانسان اذ لولا تعدد الواجبات العقلية التي يكون فعلها لذاتها حسن مع توفر الارادة لما تعرفنا على القيم الاخلاقية الموجبة لخير الاشخاص بغض النظر عن مدى فائدة هذا الخير في صلاح الفرد او المجتمع بمعنى أن الواجب العقلي هادف الى الخير بالمعنی المجرد العقلي بعيدا عن المنفعة التي يجلبها الايمان بذلك الخير على مستوى الفرد وهو بذلك يوافق الطبيعة البشرية، ومن المثير للانتباه أن هذه الافكار هي ذاتها الافكار التي نادى بها فلاسفة عصر الانوار، ومن ذلك يظهر أن هناك مواطن شبه والتقاء يحمل على الظن بأن ما بين التفكير الفلسفي في الإسلام وفلسفة العصر الحديث، وفي تشابه الأفكار والآراء ضربا من النسب والقرابة.

الا ان الحضارات الحديثة، و الحضارة الأوروبية الغربية على وجه الخصوص، التي عرف عنها أنها أخذت ما أخذت من إرث وتراث الثقافات والحضارات السابقة عليها، وبالذات الحضارة الإسلامية، قد تنكرت لكل ذلك الإرث والتراث، وأغفلته وتعمدت إغفاله، وأعطت لنفسها صفة الحضارة، وحاولت احتکار هذه الصفة لذاتها، وعرفت الحضارة على أساس أنها نقيض التوحش، في دلالة على تقريب صفة التوحش بالمجتمعات التي تقع خارج الغرب.

ص: 430

ان الهدف الاساسي للمؤسسات الاجتماعية عند امير المؤمنين علیه السلام تاسيس مبدا احترام الانسان للانسان على اختلاف الاعراق والاديان أي حماية الحريات الاساسية الخاصة فيما يتعلق بالانتماء والهوية في ظل قانون متفق عليه بين جميع افراد المجتمع وتوفير القدر المناسب والمتساوي لجميع الافراد لتحقيق فرص منصفة وصولا الى بلوغ مستوى الاستقلال الاجتماعي والاكتفاء الفردي الحر والارادي.

مفهوم الحريات الاساسية

ربما یرى بعض الدارسين ان مصطلح الحريات من المصطلحات الحديثة، لكن ذلك من التجني على الفلسفة السياسية الاسلامية بمكان، اذ تداولت هذه الفلسفات مصطلح الحرية بشكل لم نعهده في الفلسفات الحديثة اليوم، وان كان ثمة مائز للفكر السياسي الاسلامي هو ذلك التاثير في الفلسفة الاوربية الحديثة خاصة في مجال فكر الحريات، وعلى سبيل المثال فان اغلب نظريات الفيلسوف مانويل كانط في كتابه (نقد العقل المحض) جاءت كمحاولة لفهم كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي، ونقد «كانط» للميتافيزيقا في القسم الثالث من كتابه والمعنون بالجدل المتعالي، فهذا النقد جاء مطابقا لما ورد في كتاب التهافت للغزالي من دون أن يتقدم عليه خطوة واحدة، وأما نظريات «كانط» عن الزمان والمكان والأحكام، کما وردت في القسم الأول من كتابه السالف الذكر، القسم المعنون بالحساسية المتعالية، فهذه النظريات تمثل خلاصة الصراع في الفكر الإسلامي بين ما يسمى بعلاء الكلام من جهة، وفلاسفة الإسلام من جهة أخرى، كما وردت كذلك عند الغزالي في كتابيه (التهافت) و(معيار العلم)، وبشأن ما تحدث به «كانط» في القسم الثاني من كتابه المذكور، القسم المعنون بالتحليل المتعالي، والمتعلق بمشكلة العلية، فإنه وإن ادعى أنه يرد على ديفيد هيوم، إلا أنه ينتقد موقف الغزالي من علاقة السبب

ص: 431

بالمسبب، باعتبار أن فلسفة هيوم، تعتمد أولا وأخيرا على تحليل المسألة السابعة عشر من التهافت، لهذا فإن نقد «كانط» ليس جديدا، إذ اعتمد فيه على نظرية الأحوال الكلامية، التي رفضها الغزالي في تهافته حفاظا على منهجه الجدلي(49).

ان التاكيد على مصطلح الحريات في الفكر الاسلامي يستدعي استحضار النماذج الواقعية لتطبيقات مفهوم الحرية في الحياة السياسية الاسلامية، وكذلك الحديث عن خلق فرص مقوّمات التعايش المستدام، بالاضافة الى تثبيت مفهوم اصالة التعددية، وواقعية، وعدالة وعقلانية التعامل معها، إضافة إلى معالجة وتصحيح النظرة إلى كل من الذات والآخر، بتأكيد وحدة الأصل الانساني في قوله: فإنهم - أي الناس - صنفان إما أخ لك في الدين أو نظیر لك في الخلق(50)، يعتبر حالة واعية للتنظيمات القانونية التي شهدها العالم حدد اطرها العامة واوضح مرتسات تفصيلاتها الامام علي علیه السلام في فترة خلافته على المسلمين، لتجسد الواقع القانوني والتشريعي للفكر الاسلامي ببعده التنظيمي، لانه علیه السلام ادرك ماستؤول اليه الامور ان استطاع الفكر الاموي تعمية الفلسفة الحقيقية للتشريعات الاسلامية، فقد بدأ معاوية بن ابي سفيان يشيع عقيدة الجبر في صفوف الامة كبديل رسمي عن نظرية الحرية والاختيار، وخطبته بجنوده في صفين(51) خير دليل على الفلسفة التي يرمي الى تثبيتها في العقل القانوني والسياسي الاسلامي، وسار على هذا النهج اتباعه من بعده.

وفي هذا العهد ايضا اشارة إلى عدم جدوى المعرفة بالانا والاخر ومن ثم خلق حالة التعاون في اطار التعدد، ما لم يعزّز بتكريس حقوق مختلف الفروق الاجتماعية، وتجنب الإضرار بها، و بتوليفاتها المختلفة يقول علیه السلام: ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً - أي تضرهم - تغتنم أكلهم - أي تهضم حقوقهم، ثم يوصّل علیه السلام

ص: 432

العفو والصفح لخلق الأرضية الخصبة للتسامح والتعايش بقوله: يفرط - أي يسبق - منهم - أي من الناس - الزّلل - وتعرض لهم العلل - أي علة الأعمال السيئة، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ - وهذا طبيعة الإنسان -، فأعطهم من عفوك وصفحك... و لاتندمن على عفو(52) - إذ العفو أحسن عاقبة من الانتقام، ولان الهدف الحفاظ على استقرار الاوضاع في ظل العدالة كقيمة اخلاقية، اذ ان هدف التشريع تحقيق تلك المقاصد(53)، ومقاصديته هنا استباب الاوضاع السياسية في مجتمع متعدد الانتماءآت العقائدية، ولا يمكن ان يتكفل غير القانون في ايجاد ذلك الاستتباب المنشود كقصد غائي للتنظيمات القانونية باختلافها.

وهذه بمجموعها تاصيلات كافية لارتسام مفهوم العدل عند السلطة السياسية أو القضائية، باعتبار ان كليهما له اسهام واضح في كينونة الحالة القانونية، فمجرد التعدد في اثنيات المجتمع الاسلامي وغيره لايوجب الجور الى جهة او مكون من مكوناته، اذ يبقى توخي العدل معيارا لاستبيان الحق وفرز الباطل مادام محكوما بقانون الأسلام وسنته، يقول علیه السلام: فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، ولعله علیه السلام اشار في خطبه اخرى الى هذا المفهوم بما يرتبط بمقومات التعايش وتحديداً بما يتعلّق بإنصاف الناس والصبر على حوائجهم ودون تمييز: أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمّة، اذ الغاية تاسيس حقوق تحمي الحريات الاساسية(54)، فلابد ان تُراعى البعد المقاصدي في فهم النصوص القانونية وتفسيرها على اعتبار أن المقاصد لا تُبحث في الأحكام، ولكن في ثمرات الأحكام ومآلاتها الشَّرعية، وتحصيل الثمرات المرجوة منها والمتمثلة في المصلحة المأمور جلبها، والمفسدة المطلوب درؤها أو رفعها حال التوقع أو الوقوع؛ وهو أهم تشوف لدى الشارع

ص: 433

من الاهتمام بمجرد معرفة الأحكام ذاتها، او انزال العقوبة في من يخالفها(55)، يقول الشاطبي: «لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما تقصد بها أمور أخرى هي معانيها وهي المصالح التي شرعت لأجلها»(56).

ان استقامة العدل لا يحول دون كتم تخرصات المعارضة السياسية فحسب، بل تعمل على تبادل الاحترام اللائق بين المجتمع الحر والسلطة السياسية، وهو أكثر تقدماً من وجود حالة الوئام الاجتماعي، قال علیه السلام: إن أفضل قرّة عين الولاة - الموجب لفرح واطمئنان الولاة - استقامة العدل في البلاد -(57)، فيأمن كلّ إنسان للعدالة المطبّقة فلا يتعدّى بعض الرعية على الآخر فينتعش التعايش - وظهور مودّة الرعية - أي حبّهم للدولة -، وإنهم لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم - بسبب تكريس العدل، وهنا تاتي اجابة التساؤل الكبير الذي اطلقه رولز في كتابه (نظرية في العدالة) حول سبب اندفاع الناس الى الاهتمام بالعدالة، فليس السبب الذي اورده فريان كافيا لتبرير ذلك الاهتمام(58)، فالإمام علیه السلام لم يكتف بمجرّد إرساء أسس العدالة كقيمة اجتماعية في مجتمع حر، بل يدعو للتعامل والتعاطي على أساس الحبّ الصادق الذي يستند إلى العدالة، أي محبة العدل بذاته لا لأجل منفعة ثانية، ومن ثم حب من يعمل على وجوده، وهو من قبيل اعرف الحق تعرف اهله، وهو علیه السلام بذلك يشير بوضوح الى اعتبار العدل انصافا أي باعتباره قيمة اخلاقية اولا وبالدرجة الاساس، قبل اعتباره قيمة قانونية تهدف التنظيمات والشرائع الى توخي غاياته.

سار امير المؤمنين علیه السلام في اثبات مقاصدية التشريعات والقوانين في طريق جديد، فاتحا الباب على مصراعيه للولوج الى هذه المقاصد الشرعية، فهو يريد ان يؤسس للعدالة كقيمة مركزية في مجمل الصورة القانونية، بعيدا عن شخصنة

ص: 434

القانون او السلطة، لانه ادرك ومن البداية ان الفكر الذي ينطلق منه الامويين يحاول ترويج نظام خاص من القيم يحتل فيه السلطان موقع القيمة المركزية(59)، ومن هنا تبرر الصفة الإنسانية للعدالة حينما تخضع علاقاتها لمجموعة من المبادئ والمؤسسات القانونية من أجل تحقيق الخير، وهو ما يتطلب بالضرورة تغير وظيفة الدولة التقليدية المكلفة بالحراسة والأمن، إلى الوظيفة الجديدة المتمثلة بفكرة الدولة الحانية القائمة على تحقيق الخير لمواطنيها ولجميع البشر، بفعل انتشار أفكار المساواة والعدل التي تخطت الحدود الوطنية إلى نطاق انساني اوسع، وما يصاحب ذلك من اعتبار هذه القيم ضرورية لتحقيق السلام والأمن، انطلاقا من مبدأ السيادة بصفتها مفهوماً قانونياً، والعدل باعتباره انصافا للمجتمع، اي اعتبار العدل قيمة اخلاقية بالدرجة الاساس، لذلك أدت العلاقة بين المفاهيم القانونية والعلاقات الاجتماعية المؤثرة إلى انفصال المفاهيم القانونية عن الوقائع كي تصبح مستقلة عنها تماماً، حيث الحق في التشريع وتحقيق العدالة وغيرها من مضامين تصبح اخلاقیة بصورة ادق مما كانت عليه من قبل، فان اسمى الدوافع الاخلاقية الرغبة في فعل ماهو حق وعادل لمجرد كونه حقا وعدلا دونما حاجة الى اي توصيف آخر(60)، وذلك هو جوهر الحق في نظرية امير المؤمنين علیه السلام القانونية، والتي تعتبر الحق والعدل قيم لابد من تحقيقها بدوافع انسانية تحتمها الفطرة، ومن دون توصيفات اخرى ربما تشير الى دوافع واسباب اخرى لضرورات معينة بعيدة عن تلك المقاصد الاساسية لوجود هذه المعاني في فلسفة التشريعات، قال أمير المؤمنين علیه السلام «أَنْصِفِ اللهَ وَأنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِن خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوَى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِم»(61).

ص: 435

المطلب الثاني: روح القانون ونظرية تطابق العدل والخير عند الإمام علي علیه السلام

ينطلق امير المؤمنين علیه السلام في خطابه من خلال تاسيسه لمشروع اجتماعي عادل وایمانه بان هذا المشروع قابل للتطبيق العملي، وهذا بالذات التحول الرئيسي في الفلسفة السياسية - الاخلاقية المعاصرة التي احالت مسالة العدالة الى الاخلاق بدلا من السياسة، وهي بذلك تمثل نسخة مطورة لمقولات المازق القديم والسؤآل الاكثر الحاحا: هل العدالة جزء من الخير البشري، ووفقا لكلمات امير المؤمنين علیه السلام يصبح الجواب بالايجاب امرا بديهيا بمراجعة بعض فقرات عهده للاشتر النخعي او رسائله الاخرى الى عماله في الامصار والتي ينبه فيها الى ضرورة العدل بين الرعية بمختلف اعراقهم واديانهم فهم «اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق» وذلك بطبيعة الحال ناظر الى انصاف اخلاقي باعتبار الاشتراك في الانسانية اولا وقبل كل شي.

يشمل مصطلح التعايش جوانب متعددة ومتداخلة، فبداً من تعايش الانسان مع ذاته، الى تعايشه مع افراد آخرين من جماعته او من غيرها، مرورا بتعايش الجماعة مع الفرد العضو فيها او مع الفرد من الجماعات الأخرى، وايضا التعايش بين الجماعات الأفقية ك (المؤسسات والهيئات والنقابات) والعمودية ك (الأديان، والمذاهب والطوائف والقوميات)، والتعايش بين الأكثرية أو الأغلبية مع الأقلية أو الأقليات من جهة اخرى.

فالحاجة إلى التعايش ضرورة أينما وجدت علاقة بين افراد المجتمع، وهي مسؤولية مشتركة اطراف ذلك المجتمع، وعملية التعايش تبدأ من قيم الانسان التي يؤمن بها وصولا الى طبيعة تقييم الفرد لذاته، ومدى امكانيته في إقرار حالة التعايش مع ذاته اولا، فالتعايش يبدأ من دائرة الذات ويمتد ليؤثر، ويتأثر بجميع

ص: 436

الحالات المختلفة، فالأصل الانساني واحد، والجميع مكرمون، والاختلاف والتنوّع والتعدّد في اللغات والألوان من آياته ومعجزاته للعالم، ومدار ادراك هذا الواقع هو التجربة الانسانية في الحكم عبر التاريخ، ولعل هذا الاتجاه يمكن التماسه في كلمات امير المؤمنين علیه السلام قال: اعلم يا مالك، إني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم(62)، وبالرغم من اعتقاد البعض ان اخضاع اعلى سلطة سياسية الى حدود قوة القانون لا يعدو الا ان يكون فكرة نظرية سياسية معيارية(63)، ومن ثم استتباع هذا الاعتقاد عدم تبنيها لمفاهيم حقوق الانسان والتعايش المجتمعي اسقاطا على تجربة الكنيسة الكاثوليكية التي رفضت الاقرار بحقوق الانسان والمواطن اذ لم تعتمد اولا على الاقرار بحقوق الله(64)، أي انها تخضع لمجموعة من الشروط والمحددات العرفية المختلفة باختلاف المجتمعات، الا ان هذه الفكرة كانت في صلب وظيفة الحاكم بمثالية مفرطة في طبيعة حركته عند علي بن ابي طالب علیه السلام، في تجسيد واقعي للافكار السياسية بصيغتها المثلى.

فإذا كانت التعددية والاختلاف في الظواهر والتجليات من آياته سبحانه وتعالى، وهي الأصل في الحياة؛ فما هو الاسلوب الامثل للتعامل بين تلك المكونات التعددية في ضوء التطابق المفترض بين العدل والخير، ومدى امكانية تحقيق ذلك، ولان مفهوم الخير عادة ما يمهد للتفاهم، والتقارب، والتعاون، وكل ذلك مقدمات في غاية الاهمية وصولا الى حالة التعايش، كما في قوله تعالى: وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وفي الحديث الشريف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: خير الناس من ينفع الناس، وكل هذه الاشارات تؤكد

ص: 437

على ان مفهوم التعددية هو الأصل، وهو بالإضافة لكونه مجالا لظهور حالات الابداع في المجتمع كذلك هو مجال لإختبار قدرة الفرد على الاندماج في المجتمع، وقدرته ايضا على التنافس الخلاق لتحقيق ذلك المبدا.

مقاصدية الاخلاق عند الامام علي علیه السلام

تصور امير المؤمنين علیه السلام للعدالة اخلاقي بالدرجة الاساس ويعتمد على معايير اخلاقية وتطبيقاتها العملية ويمكن فهم صيغ الاستقرار الاجتماعي التي يهدف خطابه علیه السلام لا يجادها من خلال المفهوم الاخلاقي للعدالة الذي يقدم رعوية السلطة وتبنيها لمجمل الفعاليات الاجتماعية على القسر السياسي - القانوني لتطبيقات مفهوم العدالة وهو بذلك يقدم الاعتبارات الاخلاقية بصورة مستقلة لمعالجة الظلم الاجتماعي، التوزيع العادل للثروة، التنافس الطبقي، الانتماء الايدلوجي، حرية التعبير، حرية الدين، المعارضة السياسية، هذه الفلسفة اثارت انتباه فلاسفة عصر التنوير الاوربي، يقول الدكتور مصطفى عبد الرزاق: «فإن الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها، لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم، وسعة إطلاعهم، وحسن طريقتهم»(65).

يقوم الإسلام النظرة إلى الذات ويجعلها في ميزان خاص خاضع لا بجديات مقاصده أولاً، ويصحح النظرة الى الآخر باعتبار عدم ظهور الانا (السالبة) في صحيفة القيم الاخلاقية الداعية الى الايثار والتماهي في الاخر ثانياً، ويمهد الى حالة الوعي بضرورة التعددية في أي مجتمع ثالثاً، ومن ثم يساعد على ايجاد متطلّبات حالة التعايش رابعاً، فنكون امام اطوار مصححة لحالت التحجيم والتضخيم التي تنتاب النفس الانسانية سواءً في النظرة إلى الذات أو إلى الأخر، من خلال تأصيل وحدة الأصل الانساني، قال امير المؤمنين علیه السلام: الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير

ص: 438

لك في الخلق(66)، وهنا يحق لنا التساؤل: أليس ذلك قمة التسامح المنشود لدعم وترسيخ التعايش، ومن ثم حصول التطابق بين دواعي الخير، ومبادى العدالة التي يهدف القانون الى حصولها واقعا معاشا بدل وجودها كفكرة خاضعة للمعايير الاجتماعية المختلفة؟، ولعل هذا الجانب من النظرية القانونية لامير المؤمنين علیه السلام يكشف عنه النقاب بالصورة التي يكون فيها مساهما في بلورة مفاهيم سياسية تشبع فلسفة التعددية باطارها القانوني الا في العصور المتاخرة التي تلت حصول نظرياته السياسية - القانونية في الواقع الخارجي، وهو مايعبر عنه رولز بعبارة يراها مكافئة عن مدى: قدرة عقائد معقولة متناقضة بعمق على التعايش والاجماع على صواب التصور السياسي لاي نظام قانوني(67)، وهو فهم يقترب كثيرا من اعتقادنا اليوم بامكانية تحقق مشروعية سياسية في مجتمعات تعددية من خلال شروط قانونية لازمة للسلطة السياسية من خلال مبرر اخلاقي لفرض تلك القوانين ياتي في مقدمتها اعتبار العدالة كانصاف او تحقيق العدالة باعتبارها قيمة اخلاقية تلتزم بها السلطة السياسية بذلك الاعتبار وليس باعتبار الزامها القانوني الصرف.

وقد جسد جون رولز كل ذلك من خلال تبنيه لمبدا التعاقد الدستوري بين الحاكم والرعية بحيث يكون كل فرد متاثر يحاكم بكفاءة اعتمادا على الراي القائل بان رؤية المرء للقانون منسجا على نحو مقبول مع اسباب منطبقه عليه ومن منطلق مصالحه(68)، فلا يمكن بعد ذلك ان يكون التطابق الا في اطار الخير والعدالة لهما وجه واحد يعبر عنه القانون الذي يضعه في حيز التطبيق مجموعة محترمة من القضاة، ومن هنا جاء تاكيد امير المؤمنين علیه السلام في عهده على اختيار دقيق للقضاة لانهم الوسيلة الاولى لتحقيق مصالح الافراد الخاضعين بالارادة للقانون، قال علیه السلام: ثم لا قوام لهم(69) الا بالقضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون

ص: 439

من المعاقد [العقود] ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها(70)، وقوله علیه السلام، يجمعون من المنافع، هو ما قصده ميتشلمان الانسجام على نحو مقبول مع اسباب انطباق الخضوع للقانون مع المصالح الفردية.

خطاب الاستقرار عند امير المؤمنين علیه السلام

هاجس الاستقرار الاجتماعي احد الركائز الاساسية للخطاب السياسي - الاخلاقي عنده علیه السلام وهو احد الملامح العامة لوجهات النظر القائلة بالعقد الاجتماعي (النظرية الاكثر شيوعا في فلسفة الانوار) فهو يرى ان تحقيق العدالة بين الرعية لابد وان يكون عبر وجود مؤسسات سياسية - قانونية، يقودها افراد متساوون في في القيمة الاخلاقية والاجتماعية وبذلك فانه ينظر الى العدالة بوصفها معايير اخلاقية حاكمة على عمل المؤسسات الهادفة الى بلوغ حالة الاستقرار الاجتماعي في ظل جو من التعاون السلمي والمنتج ومن ثم امكان الوصول الى حالة انعدام القسر السياسي لتحقيق العدالة.

أعلن الإسلام المساواة بين الناس في القيمة الإنسانية المشتركة وفي الحقوق المدنية وشؤون المسؤولية والجزاء والحقوق العامة عندما أعلن أن: «الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(71) ووضع اساسا للتفاضل بينهم فجعل المعيار مقدار التقوى فقال: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(72)، وساوى الإسلام في الحقوق المدنية بين الرجل والمرآة واعترف لها بإنسانيتها كاملة، ومنحها الأهلية الكاملة في جميع تصرفاتها فالنساء شقائق الرجال، كما ساوي الإسلام بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع فقرر أن لغير المسلمين لهم ما للمسلمين من حقوق وتطبق عليهم القوانين نفسها التي تطبق على المسلمين، كما وكفل الحريات في العقيدة اذ «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»(73)، وكما كفل حرية التعبير، فقال: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ

ص: 440

بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(74)، والحرية الفكرية هي التي كانت أساس ظهور المذاهب الفكرية المتعددة، وضمن الحرية المدنية، ويراد بها أن تكون للإنسان حرية التصرف في أموره الشخصية والمالية، كما ولم يمنع الحرية السياسية، وحق الأمة في اختیار انسب الاشخاص لتسيير امورها الحيوية.

هذه الافكار تجسدت وبوضوح في النزعة الانسانية التي اتسمت بها كلمات امير المؤمنين علیه السلام، سواء ما كان منها في التوجيهات والوصايا الاخلاقية، او تلك التي تشير الى الجانب القانوني والتي تهدف من وراءها الى بيان حكم او اثبات حقيقة ما، فالجانب الانساني هو القيمة العليا في تنظيم شؤون المجتمع، وهو بذلك يخلق مرتسمات صفة الراعي التي وصفها رسول الانسانية صلی الله علیه وآله وسلم في حديثه المشهور (كلكم راع...) خاصة وإنه يمثل اعلى سلطة تشريعية، تعنى بسن القوانين والانظمة لمختلف التنظيمات والمظاهر الاجتماعية، ومن هنا كان الربط عنده علیه السلام بين العدل والخير متلازم بما يحقق وحدة الانتظام في خط التكامل سواء على صعيد الفرد او المجتمع.

في منظور أمير المؤمنين علیه السلام فإنّ دائرة العدل أوسع مما أوردها الفقهاء أثناء معالجاتهم القضائية، فتحقيق العدل عنده علیه السلام هي الركن القانوني في نظام العلاقات الاجتماعية فالمسلم مسؤول عن تطبيقاته الحياتية او تجلياته كمفهوم اجتماعي، فيجب على الإنسان المسلم أن يُؤدّي دوره في تحقيق مرتسماته العامة التي یاطرها القانون، ونتيجة لهذه العلاقة المتبادلة يقوم نظام العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، والتي ياتي في مقدمتها نظامي الحقوق والواجبات، التي تحكم الأفراد كونهم يعيشون في الوسط الاجتماعي، أمّا حقّ الله فهو الدائرة الواسعة التي تشمل حقّ المجتمع، فهو غير منفصل عن حقوق الناس، بل هو تبعٌ لحقوق الناس،

ص: 441

وليس العكس. تأمَّل ما يقوله أمير المؤمنين علیه السلام: «جعل الله سبحانه حقوق عباده مُقدِّمة لحقوقه»(75)، وهو ربط واضح لفكرة انسياق حق الفرد في سلسلة نهايتها حق الله تعالى المتعالي عن أي منفعة.

ان مصدر حقوق الانسان والمواطن عند امير المؤمنين علیه السلام ليس في ارادة كل فرد بل في ارادة المجتمع المتحرك في اطار الشريعة الضامنة لحق كل فرد، فمفهوم الانسان في الشريعة هو الكيان المتفاعل لتحقيق المصلحة العامة التي تعتبر تحقیق مصلحة الفرد في طول تحقيقها بما في ذلك حريته في حياته الخاصة كما في اختياره الایمان بدین من الاديان، فالانسان حر في كل مايختاره مادام الاختيار لا يمس حياة المجتمع الذي يعيش ويتحرك في اطاره، هذه العلاقة بين الانسان او الفرد والدولة اشبه ما تكون بالتعاقد، يتم من خلال هذه العلاقة العيش بالحرية الشخصية في اطار جامع يحترم حرية المجتمع بافراده، وهو ماتمت تجربته في العقل الاسلامي خلال حکم امير المؤمنين علیه السلام وليس حكرا على العقل الاوربي بعد عصر الانوار کما یری ارکون(76)، وهو واضح في مجمل خطابه علیه السلام الاخلاقي - السياسي وبصورة خاصة في عهده لمالك الاشتر الذي يشدد فيه على جانب الحريات الشخصية قال: واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، ...، ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن فیکون الأجر لمن سنها. والوزر عليك بما نقضت منها(77)، وفي ذلك اشارة الى ضرورة اعطاء الحرية للافراد المجتمع وعدم اکراههم على شي ليس لهم به قبل، والمحافظة على العادات والتقاليد المالوفة لديهم.

ص: 442

المبحث الثاني: العدالة كإنصاف

بعد نهاية الحرب الكونية الثانية بدأت الديمقراطيات الأوربية بمراجعة منظومات الفلسفة السياسية والاجتماعية التي انطلقت منها في التاسيس للنموذج الليبرالي الديمقراطي، والتي اتكأت على مبادئ وصيغ معدلة من نظرية العقد الاجتماعي لروسو وغيره من فلاسفة عصر الانوار، الذين اطلعوا على فلسفة التشريع لدى الامم الاخرى من خلال تبنيهم للقطيعة مع التراث الكنسي، ويبدو لنا اليوم ان ان جاك روسو ومن في طبقته من فلاسفة الانوار اطلعوا على فلسفة وآراء الامام علي علیه السلام سواء في القانون او السياسة، فلا يستغرب الباحث بعد ذلك أن يسمع روسو يقول: ما وجدت في التاريخ ما يستحق كلمة استاذ بتمام مفهومها سوى رجل واحد هو علي بن ابي طالب.

وقد كان النزاع الفلسفي محتدما حول التوافق المفترض بين الليبرالية كفلسفة سياسية وما يستتبعها من نظم اجتماعية، و مبادئ العدالة ومفاهيم الحرية والمساواة وتمظهراتها القانونية، ومن خلال الصياغات المقترحة لهذا التوافق كان التركيز يتصاعدعلى اعتبار العدالة مبدأ اخلاقي قبل ان یکون مبدأ تشريعي تهدف القوانين الى تحقيقه في الواقع العملي، وفي ذلك احالة إلى أن فلاسفة الانوار قد استعملوا مبادئ الاسلام كوسيلة النقد الكنيسة(78)، اذ تعتبر هذه المنظومة التي تحدث من خلالها فلاسفة عصر الانوار تواصلا مع المبادئ العامة لحقوق الانسان في الاسلام في الوقت الذي اعتبرت قطيعة ابستمولوجيه مع فلسفة القرون الوسطى.

ص: 443

وبهذا الاعتبار الوجداني، اقترح جون رولز نظريته في العدالة التي ركز البحث فيها بكتابه (نظرية في العدالة) حيث اعتبر تحقيق العدالة كأنصاف رؤية سياسية هادفة الى احلال القيم والاخلاق کمحور ارتکازي للقوانين والتشريعات ذات العلاقة بتحقيق هذا المبدأ، وافترض ايضا ان نظريته قابلة للتحقيق في المجتمعات الليبرالية ذات التقاليد الديمقراطية وان كانت رؤيته تلك لاتخلو من البعد الطوباوي، المختلف نوعيا عن عقل الانوار، اذ لايخلو الفكر الغربي من محاولات نقدية لمبادئ عقل الانوار ومقدماته ومواقفه المعرفية.

نظرية رولز في العدالة تلقي الضوء بشدة على التراث القيم والأخلاقي المُؤطر للمنظومات القانونية في التراث القانوني - السياسي الإسلامي، حيث تعتبر عوده الى تلك المُثل اتي تدعوا اليها الاديان السماوية، ومن هذا المبدا اتهم خصوم رولز هذه النظرية بالميتافيزيقا معتبرين انها غير قابل التحقق في المجتمع الليبرالي، ولذلك نجده (رولز) يشدد على (التطابق بين الخير والحق) في استذکار قسري لنظرية (كانط) في التطابق، ولا يعدم التاريخ السياسي - القانوني نموذج آخر سبق عهد الانوار وفلاسفته، تعامل مع هذا المبدأ من منطلق القيمة الاخلاقية - واعتبار تحققه انصافا للناس من السلطة او الحاكم، قبل أن ينظر اليه باعتباره مبدا قانوني يتحقق بمجموعة من القوانين والتنظیمات - تمت صياغة مبادئه في العهد المشهور لامير المؤمنين علیه السلام لوالي مصر الأشتر النخعي، وفي هذا المبحث سنركز على بيان اهداف رولز المتمثلة في اظهاران مجتمعا حسن التنظیم قائم على اساس العدالة كانصاف ممکن واقعيا، ومن خلال مطلبين احدهما يتناول مفهوم العدالة کانصاف عند رولز، والثاني الجذور الفلسفية لنظرية رولز في العدالة. والذي يتمظهر في كتابات ورؤى الفيلسوف جون رولز (1920 م)(79).

ص: 444

ولا غرابة في ذلك الاتكاء من رولز على مفاهيم العهد المشهور لامير المؤمنين علیه السلام ففكرة السببية لدى الغزالي هي نفسها لدى ديفيد هيوم، ومذهب الذرات الروحية لدى ليبنتز له ما يماثله في مذهب الجوهر الفرد لدى فلاسفة المسلمين ومتكلميهم، وهناك صلة وثيقة بين اسبينوزا والفكر الإسلامي عن طريق الترجمات اللاتينية، وعن طريق موسی بن میمون، ولدى ابن عربي أفكار لهاما يماثلها لدى اسبينوزا، ولابن سينا أفكار لها ما يماثلها لدی دیکارت وغيره، ولا نعدم أن نجد صلة بين ميتافيزيقا الغزالي وكانط(80)، وهذه كلها مجرد أمثلة وليس حصرا للمجالات التي يمكن البحث فيها عن صلات بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة.

ومن خلال هذا المبحث ستتضح ملامح نظرية رولز في كتابه (نظرية في العدالة)(81) التي اجتهد فيها بحل مشكلة العدالة في (التوزیع): التوزيع العادل للحقوق، وكذلك حل مشكلة (التحرر): التحرر من قيود التبعية للسلطة او منظومة القيم ذاتها، باستخدام نسخة معدلة من نظرية العقد الاجتماعي، عرفت ب (العدالة كونها انصافا) والتي اشتق منها رولز مبدايه في العدالة: مبدا التحرر ومبدا الفرق، وهو بذلك يشاكس منهجيا القطيعة الإبستمولوجية لنظرية العقد الاجتماعي - لان عقل الانوار انفصل عن العقل الديني انفصالا جذريا(83) - من خلال احالته العدالة الى الاخلاق.

المطلب الاول: مفهوم العدالة كانصاف في كتاب (نظرية في العدالة) لجون رولز

يكافح رولز في كتابه (نظرية في العدالة) من اجل التوفيق الجوهري بين التحرر والعدالة، سائرا في ذات الطريق الذي يوافق فيه جان جاك روسو(83) بين الحرية والعدل، لاعتبار بسيط ومبدئي مهيمن على قراءة فكرة العدالة عند رولز

ص: 445

يؤكد كونها امتداد لنظرية العقد الاجتماعي ذائعة الصيت، بالرغم من الفوارق الواضحة بين تصورات رولز لذات المسالة في الاطر الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، من قيبل تصوراته ل المركز القانوني للافراد والمستوى الاجتماعي الطبقي لهم والتوجه السياسي والثقافة المكتسبة والموروث الديني والخلفية الايدلوجية والمستوى التعليمي واختلاف الموقف بالنسبة الى النظرية ذاتها باعتبار اختلاف الظروف الموضوعية وتفضيلات الافراد بین زماني روسو ورولز... وغيرها من العوامل التي تحدد طبيعة تحقيق العدالة بين الافراد (ولا اجد مايشير الى اعتبار العدالة كانصاف مفهوما سياسيا للعدالة فقط، في الوقت الذي يرفض فيه رولز مثل هذه الاحالات في معرض دفاعه عن النظرية قبالة انصار النفعية(84)، بالاضافة الى انها تعد في مقدمة النظريات التي ساعدت على اعادة تاويل النظرية الاخلاقية الكانطية)(85) واشارات هذا الاتجاه من التفضيلات لطبقات المجتمع واضحة في مجمل الخطاب القانوني - الاخلاقي لامير المؤمنين علیه السلام في عهده المشهور للاشتر النخعي قال: «اعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنی ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة»(86)، هذه الطبقات الاجتماعية لها تمایز ضروري في مجمل کینونة العدالة واقعا اجتماعيا يقدم اساسا اكثر يقينية ومقبولية للمبادی والحقوق والحريات الاساسية، يقول رولز: «اذا كنا نتطلع لايجاد توافق عمومي (بين طبقات المجتمع)، يقول جون رولز: علينا ان نقوم بتنظيم افكار ومبادئ معروفة جيدا بكيفية جديدة بهدف تشکیل تصور للعدالة»(87)، وهو ما دعى اليه امیر المؤمنين علیه السلام ايجاده في التنظيمات الطبقية الواردة في عهده القانوني المشهور.

ص: 446

خطاب تطابق العدل والخير عند جون رولز

انطلق رولز مؤسسا بتجريدية مبتكرة فكرة أن في المجتمع حسن التنظيم قائم على اساس العدالة كأنصاف ممكن واقعيا، وهو بذلك يعود الى ذات الجذور التي انطلق منها كانط في تاسيسه لذات المبدأ، فتجدد الحديث عن التطابق بين العدالة وخير البشر، تلك النظرية التي درسها كانط في اغلب كتبه والتي حاول فيها فك عری ارتباط العدالة عن الاخلاق وازاحتها الى السياسة، الا انه شعر بمرارة المازق الذي وقع فيه عندما اخفق في انجاح تلك الازاحة، لنشهد فصول احالته العدالة الى الدين (الاخلاق) في نهاية المطاف، مقررا ان العدالة تتطابق مع خير البشر، ولعل مأزق كانط هذا هو الذي قاد رولز الى الليبرالية السياسية، غير انه رجع وتنازل عن رايه حينما قرر بان العدالة وفي ظل ظروف اجتماعية معينة ممكن ان تكون جزء من خير البشر (اي كونها مبدا اخلاقي) في حالة وجود مشروع اجتماعي قابل للتطبيق العملي.

وبالرغم من كون نظرية رولز في العدالة جاءت کردة فعل على مجموعة الاحداث التي شهدها العالم خاصة ما يتعلق منها بانتهاء القطبية التي حكمت العالم عقود طويلة وتراكمات الهواجس السلبية للمجتمع الاوربي التي تركتها الحرب الكونية الثانية، والتي كانت بمثابة اشعار يعبر عن تجذر ازمة المثل ومنها تصور نموذج للعدالة في الوجدان البشري بصفة عامة والغربي بوجه الخصوص، الا ان نظرية رولز في العدالة تعتبر بمثابة حفريات (ارکولوجيا) في عمق الوعي الاخلاقي الانساني، وليس فقط في اساسيات عصر التنوير وفلسفتها التي نهضت على يد جان جاك روسو وایمانويل كانط وتوماس هوبز(88) (الذي ساهم بشكل كبير في بلورة كثير من الأطروحات التي تميز بها القرن السابع عشر على المستوى

ص: 447

السياسي والحقوقي، کما عرف بمساهمته في التأسيس لكثير من المفاهيم التي لعبت دورا كبيرا ليس فقط على مستوى النظرية السياسية بل كذلك على مستوى الفعل والتطبيق في كثير من البلدان وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي، كذلك يعتبر هوبز من الفلاسفة الذين وظفوا مفهوم الحق الطبيعي في تفسيرهم لكثير من القضايا المطروحة في عصرهم).

خطاب الاستقرار عند جون رولز

يقصد رولز بخطاب الاستقرار کون العدالة كانصاف ممكنة في ظل مجتمع مؤمن بمشروع اجتماعي عادل ويسعى في تطبيقه وهو بذلك يتوافق مع هوبز الذي يرى بان الاستقرار هو الموضوع الأول بالنسبة الى اي تصور للعدالة السياسية فالمجتمع العادل عنده لابد وان يكون مستقرا، فهو يرى العدالة متمثلة بقبول وتطبيق الناس المتبادل لجملة المعايير والمؤسسات الازمة لتحقيق تتعاون اجتماعي قائم لى السلم الهادف إلى بلوغ حالة الاستقرار في ظل مساومة أو تبادل منفعة بين جملة المصالح المتضاربة.

من الواضح تاثر رولز بنظرية العقد الاجتماعي وقد ظهر هذا التأثر في مجمل خطابه السياسي - الاخلاقي، لكن مفهوم الاستقرار لديه يختلف نوعا ما عن مؤسسي النظرية ف(لوك وروسو وكانط) يرون الاستقرار رؤية مغايرة يكون فيها للاخلاق السهم الاوفي فالاخلاق هي الموضوع الاول للعدالة السياسية ومن ثم ياتي طرح حالة الاستقرار للنظام الاجتماعي، لا لشي الا من اجل اختبار مدى ادراك المجتمع للعدالة وفق معالم هذا التصور(89).

وجدت نظرية العدالة كانصاف جذورها في فلسفات اخلاقية لاتنتمي الى الفلسفات اليونانية بالضرورة - والتي يُرجع بعض الباحثين اهمية فلسفة عصر

ص: 448

الانوار الاوربي اليها - بل في اخلاقيات السياسة الاسلامية، ونظريات التشريع ومقاصديته الاجتماعية، التي طورت الفكر الديني والفلسفي المسيحي من الأجواء الاسطورية إلى عالم العلم والفلسفة العقلانية الجديدة(90)، ونتيجة لهذا الشعور بالانتماء الى المنظومة الاخلاقية الاسلامية ببعدها الانساني والقانوني، واقتراب مرتسمات نظرية العدالة عند جون رولز من بعض مقاصدیات نظرية العدالة في التراث الاسلامي، كان الإهتمام بها كبيرا من قبل مختلف الباحثين في العالم العربي، فتناولها في كتاباتهم بتعدد انتماءآت الطيف الفكري، نظير طائفة من الكتاب مثل: محمد الهاشمي ونوفل الحاج لطيف ومراد دیاني ومنير لكشو... وغيرهم، غير ان هذا الاهتمام بالنظرية الرولزية لايعبر بالضرورة عن تایید بمعناه الدقيق لها بقدر تعبيره عن محاولات لفهمها وتفكيك مرتكزاتها وتطويرها ونقدها من دون الانتقاص منها من جهة القيمة العلمية، ومن ثم الاشارة الى وجودها المسبق في التراث الاخلاقي والقانوني الإسلامي، واشارته اليها في منظومته السياسية والقانونية، قبل عصر الانوار الاوربي بقرون، ولا ادل على وجدان هذا الاتجاه القانوني - الاخلاقي واصالته في المنظومة السياسية الاسلامية من العهد المشهور الامير المؤمنين علیه السلام لعامله الاشتر النخعي.

ذلك الخطاب الذي لم يزل معتمدا على التوافق بين العدل والخير في ظل اوضاع متساوية، تتكفله مؤسسات اجتماعية راعية تعالج اسباب الظلم في النظام الاجتماعي ومن ثم تبلور مفهومها الخاص للاستقرار حسب طبيعة كل مجتمع ومنظومته القيمية بكل زخمها الحضاري، في ظل تنامي الاحساس بضغط التراث القيمي في بلورة مفهوم الاستقرار الاجتماعي، ولعل هذا الاتجاه في احترام المنظة مات القيمية للمجتمع جعلها في صلب البنية الأساسية القانونية وفلسفتها

ص: 449

الاخلاقية المهيمنة والتي اشار اليها امير المؤمنين علیه السلام في قوله: «ولا تنقض سنة صالحة..، اجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن»(91)، هو ذاته مايشير اليه رولز عندما: «ناشد قناعات اخلاقية معينة يزعم انها كامنة في عمق احساسنا بالعدالة»(92).

خطاب الواجب عند رولز

يقول رولز بنظرية أن فعل العدل لدى الانسان هو كونه واجبا، فهویری ان المبادی الاخلاقية بوصفها احدی حقائق البشر «تشغل ضمائرنا»(93)، وان الاحساس بالعدالة موجود بين «غاياتنا النهائية»(94)، اننا نستطيع ان نتصرف لا مسايرة لاحساسنا بالعدالة وحسب، بل والانطلاق منها ايضا(95)، وهو بذلك يرى بان الاحساس بالعدالة متوافق مع الطبيعة البشرية او من خير البشر.

مبادى العدالة عند رولز تتمثل في (الحريات الأساسية المتساوية، المساواة في توزيع الفرص، مبدأ الفرق، واجب الفرد دعم المؤسسات الاجتماعية) كل ذلك يعتبره رولز التصور الصحيح للمبادئ العامة التي تحدد البنية القانونية الاساسية لاي مجتمع، وهو بذلك يقدم للمؤسسات الاجتماعية المؤسسة لحقوق دستورية تحمي الحريات الاساسية والقوانين تضمن المساواة المنصفة في الفرص ولديمقراطية قائمة على حيازة الملكية توفر حدودا اجتماعية دنيا تمكن الافراد من ممارسة الحقوق الأساسية وبلوغ مستوى الاستقلال الفردي.

وهنا نری رولز مقتنعا بان (الافراد في اي مجتمع حسن التنظیم قائم على اساس العدالة كانصاف سيصبحون على نحو طبیعي متوفرين على نزوع مستقر إلى دعم المؤسسات التي تفيدهم) مؤكدا: ان الاحساس بالعدالة متواصل مع عواطفنا الطبيعية وهو جزء طبيعي من حياة البشر(93)، وهذا الاحساس سوف

ص: 450

يكون جزء من خير اي شخص وذلك هو خطاب التطابق عند رولز.

المطلب الثاني: الجذور الفلسفية لنظرية العدالة كانصاف

في البدء لابد ان نذكر اهمية نظرية العدالة الرولزية التي اكتسبت هذا القدر من الاهتمام نتيجة كونها بديل مرحلي - فرضته ضرورات اجتماعية واقتصادية - عن النظرية النفعية لديفيد هيوم(97) و آدم سميث(98)، والتي كانت مهيمنة على الفكر السياسي والاقتصادي الاوربي، يقول رولز في هذا المضمون: «ان نظرية العدالة كانصاف هي تصور ممنهج ومعقول بشكل كافي ومؤهل لان يقدم بديلا عن النفعية التي هيمنت في اطار تقليد فلسفتنا السياسية(99)، فالنفعية تؤكد استناد التمييز الاجتماعي على معيار الرفاهية او المنفعة المترتبة علیه وهي في الغالب الاعم لاتهتم بالعدالة الا اذا كانت في مصلحة طائفة خاصة من المجتمع، فهي اذن تضحي بحقوق الاقليات، وهذا التحول الفلسفي لرولز والذي تظهر فيه القطيعة مع افكار فلاسفة عصر النهضة وتثره الشديد بالجانب الاخلاقي لنظرية العدالة مايؤكد استشرافه تلك المبادئ من الفلسفة الحقوقية لامير المؤمنين علیه السلام في عهده اذ قال: «وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، ...، من أهل الخاصة»(100) يقصد بذلك اصحاب المنافع والمغانم، يقول رولز في هذا المنحى: «ان المنفعية لاتاخذ بعين الاعتبار الطريقة التي يتم بها توزيع المجموع الاجمالي للاشباعات بين الافراد»(101) فالنفعية من اهل الخاصة - حسب تعبير امير الموحدين علیه السلام - لاتابه بالحريات والحقوق الاساسية للافراد بل هي تضحي بها في سبيل تحقيق اكبر قدر من النجاعة الاقتصادية، بالرغم من ان: «عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء (العامة من الأمة)»(102) فالنفعية يهمها في المقام الاول تجميع المنافع وحسابها وتاويجها وهو

ص: 451

مايتعارض كليا مع المبادئ الاساسية للنظرية الرولزية (مبدأ الفارق الخاص) القائمة على ضرورة تمتع كل الافراد بحرياتهم الاساسية على قدم المساواة، وبذلك فهي تمنع فضيلة المؤسسات الاجتماعية(103)، ذات العلاقة والشان العام، والتي القضاء بل مجمل المنظومة القانونية من اهم عناصرها، وفي هذا السياق ياتي الدور المتقدم الذي وضعه امير المؤمنين علیه السلام لهذه المؤسسة الاجتماعية الفاعلة والرئيسية خاصة في اختيار من يتمكن من اقامة العدل بين مختلف الطبقات الاجتماعية قال في عهده للنخعي: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ...، ولا تشرف نفسه على طمع، ...، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك»(104)، كل ذلك من اجل ان تاخذ هذه المؤسسة الاجتماعية الهامة دورها في تمتع جميع افراد المجتمع بالمقدار ذاته من الحريات، وهو ما يمكن ملاحظته في كلمات رولز التي يؤكد فيها الهدف الرئيسي لنظريته باعتباره هدفا عمليا بالدرجة الاولى يتمثل في تاسيس توافق سياسي واعي وطوعي بين مواطنين احرار وانداد.

بنية الخطاب السياسي عند رولز

بنية الخطاب السياسي عند رولز تنتمي الى اراء كانط الذي دمج في تصوراته للعدالة القانونية بين الاخلاق والسياسة، فهو يرى ان الوصول الى دستور عادل (البنية القانونية الأساسية) هي كبرى مشكلات الجنس البشري وحل هذه المشكلة

ص: 452

يكون عبر (التصور الصحيح لدستور عادل مضافا الى معرفة التجربة البشرية في هذا المجال ومن ثم ارادة خيرة على استعداد لقبول هذا الدستور) فالتصور والتجربة البشرية وارادة الخير قادت رولز الى القول (بضرورة التوافق المعقول بين الاشخاص الاحرار والعقلانيين في ظل اوضاع متساوية) واستدرار القناعات الاخلاقية الكامنة في عمق الاحساس بالعدالة عند الافراد، سوف تبلور التصور الانسب للعدالة الدستورية وهو بذلك احال المسالة مرة اخرى الى الاخلاق في الوقت الذي يشد على التوافق السياسي النظري.

الامر المركزي في هذه المحاولة هو استفادة رولز من الهام ديفيد هيوم، خاصة فيما يتعلق بعدم الثقة بالتامل الفلسفي(105) في تحقيق العدالة، فهو يعتقد متاثرا بروسو: ان الحرية هي امكانية الفرد دون اي جبر او شرط او ضغط خارجي على اتخاذ قرار او تحديد هدف معين، وهو بذلك يوافق كانط ايضا الذي يرى ان الحرية خروج الانسان من سباته العقلي الذي وضع نفسه بنفسه فيه عن طريق استخدام العقل(106)، مع لحاظ ان علم الانثربولوجيا استطاع الاهتمام بالتراث الفلسفي في اطاره التقليدي بالرغم من وجود هذا التراث بعدة مستويات او طبقات متراتبة فوق بعضها البعض والذي تندرج فيه بعض التقاليد والعقائد القديمة(107)، الامر الذي تمكن رولز من خلاله تاييد فكرة اننا نفعل ماهو صواب وعادل لانه صواب وعادل (المبادئ الاخلاقية تشغل ضمائرنا)(108)، في ذات الوقت الذي ايد فكرة ان الناس يستطيعون طبيعيا ان يؤدوا واجباتهم من منطلق الاحساس بالواجب أو كرامة لعين العدالة (الاحساس بالعدالة موجود بين غاياتنا النهائية)(109)، مسلطا الضوء على وجوب قيام العدالة بتعزيز خير الانسان(110)، ويترتب على ماتقدم التاكيد على ان المؤسسات وسائر الانشطة الاجتماعية لا يمكننا فهمها الا اذا بحثنا

ص: 453

فيما وراء اشكالها عن الفعالیة التي تولدها، «فالبنى الجماعية لاتظهر ككليات ذات دلالة ذاتية بل مجرد شروط خارجية وموضوعية لفاعلية الاشخاص الذين يضفون دلالة ما على هذه الانشطة وذلك في ضوء التوجه الذاتي للفاعل»(111)، ان خيرا فخير وان شرا فشر، لذلك شدد امير المؤمنين علیه السلام على اختيار ذوي الكفاءة ومن ينطلق من واعز الخير باعتباره مرتكزا اخلاقيا قال في عهده للاشتر: «إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، فلا يكونن لك بطانة»، فاكد على جانب الكفاءة من خلال تقلده الوزراة سابقا، وفي ذات الوقت اشار الى جانب الخير والشر في ارادة الفعل وادارة المؤسسة، فبين ان المؤسسة الاجتماعية او ذات الشان العام لابد ان يتم اختيار خبرائها من ذوي الكفاءة والفضيلة من ينطلقون في افعالهم من ارادة الخير، فاشار لضرورة استبدال هؤلاء بمن هم «خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل أصارهم وأوزارهم» يتقلدون ذات الشان العام، «ثم لكن آثر هم عندك أقولهم بمر الحق لك، ...، والصقْ بأهل الورع والصدق...»(112)، لانهم الاقدر على ايجاد مجتمع حسن التنظيم مع الاخذ بنظر الاعتبار تصور كل شخص لمفهوم الخير، وهو مانجده في صلب اعتقادات رولز في العدالة الاجتماعية(113)، وفي ذلك يختلف رولز كليا مع فلاسفة آخرين في علم الاخلاق الذين يرون ان السياق والجماعة يخترقان محاكماتنا الاخلاقية بعمق شديد، اي ان النمط الاجتماعي والعقل العمومي يؤثران في مقدار تحقيق الخير ومطابقته للعدالة في مختلف المؤسسات الاجتماعية، في الوقت الذي يتوافق مع المبادى العامة للخطاب السياسي الموجود في تظمينات العهد المشهور له علیه السلام.

يعتقد رولز تماما ان الحرية صفة اساسية للانسان وحق غير قابل للتفويت فاذا تخلى الانسان عن حريته فقد تخلى عن انسانيته وعن حقوقه كانسان مرددا

ص: 454

افکار روسو ذاتها، وهي نظرية تعني بمجملها تمتع الفرد بجميع حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في اطار قانوني، وهو مايدعوه رولز بالمجتمع المنظم او يراد منه ان يطبق على الهيكل الاساسي لمجتمع جيد التنظيم(114)، ووضع اختيار منصف لاطراف العلاقة في مثل تلك الظروف، بسبب البنية الاساسية للمجتمع - التي تنطبق عليها مسائل العدالة الاساسية - هي التي تستدعي نوعا خاصا من التبرير(115) يتوافق مع اختيار اطراف العلاقة،

ان مشابهة رولز لبعض اراء كانط(116)، وبصورة خاصة في فكرة الحرية، حين يرى ان البحث الاساسي في مسالة الحرية والعدالة يكمن في اطاعة الالزامات القانونية والاجتماعية والتوفيق بين هذه الالزامات والحرية الفردية(117)، مع بقاء الطابع الاخلاقي شرطا في الاذعان للالزامات القانونية، كمحدد للحرية الفردية، وليس عن طريق الاكراه السالب لكل معنى رضائي حر، ويرى كانط ان الانسان لابد وان يكون حرا اذا اُريد منه ان يكون مسؤولا لان من لا اختيار له لا واجب عليه، وبالتالي لايكون مكلفا بالالتزام بالالزامات القانونية، ويرى كانط ان الحرية او كما يسميها حكم الارادة «المبدأ الاعلى للاخلاق»(118)، وهو بذلك قد وقع تحت تاثير روسو الذي يُتطلع إلى مبادئ العدالة لتوجيه سلوك الاطراف، اي تحقيق المصلحة الفردية(119)، من المعترف به ان تلك الاطراف تواجه شحة معتدلة، كما ان شخوصها ليسوا موثرين بالفطرة ولا انانيين بصورة محضة، لديهم اهداف يتطلعون الى تحقيقها، لكنهم يفضلون اداء ذلك بالمشاركة مع الآخرين وفق شروط يتم التوافق عليها.

مبدأ الاختيار عند رولز

يعرض رولز نموذجا لحالة اختيار منصفة حيث يفترض فيه ان تختار

ص: 455

الاطراف مبادي عدالة يقبل بها الجميع، اعتمادا على اختيار يعتمد قيمة الحياة الاجتماعية والمعاشرة والالفة كمعيار اساسي، وان الاشياء الجديرة بالالتاس ليست محصورة بالغايات الخاصة التي يحققها المرء لذاته وحسب، بل في تحقيق غايات مشتركة معينة ايضا يتعاون الجميع بغية تحقيقها، وبهذا المعنى هي ايضا غايات خاصة، لاهميتها لدى كل فرد، باعتبار تقاسم منافعها مع بقية الافراد، الا ان العمل على بلوغها او حصولها - في مجتمع حر و متساوٍ - يبدو مشتركا، بل يكون كل شخص مستمتعا بمشاركة الاخرين في الفعالية ذاتها(120)، وفي ذلك اشارة الى الارادة العامة المفهوم الاصلي للعقد الاجتماعي عند روسو(121)، حيث توصف الاطراف بالتشاور وفق مبادئ الاختيار العقلاني(122)، واعتقاد الافراد بدون ادنی شك ان العقل هو المعيار الذي يمكن به ادراك الحقائق وبلوغ الخيرات(123)، هذا الاعتقاد الذي استطاع روسو ان يطيح به ويمزج هذه الفكرة مع اراء كانط، والتي كان تمظهرها في نظرية رولز الجماعوية التي يتضح بين ثناياها ايمانه الراسخ بأولوية النسيج الاجتماعي على الفرد(124)، يقول رولز: الحياة الاجتماعية شرط لتطوير قابلياتنا، حتى تصورتنا كثيرا ماتستبق افتراض خلفية اجتماعية معينة الى جانب منظومة معتقدات وافكار هي حصيلة جهود جمعية لتقليد عريق(125)، ومن هنا نجد التركيز على هذا الجانب واضحا في عهد امير المؤمنين علیه السلام، واعتبار التجربة الانسانية ومنظومة القيم والمعتقدات المتحصلة منها تجربة انسانية جديرة بالرعاية والاهتمام بسبب هيمنتها الواضحة على مدى استجابة الجماعة وتفاعلها مع القوانين والتنظيمات التي تفرضها السلطة عليها، قال: «اعلم یا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم»(126).

ص: 456

وهو الامر الذي دفعه للقول بمبدأ (حجاب الجهل) عند تاسيسه للوضعية الاصلية التي سيتعاقد في اطارها الافراد الاحرار والعقلانيون بعيدا عن اصولهم الاجتماعية والثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية والايدلوجية بحيث يصبح المتعاقد عاجزا عن تصميم مبادئ تخدم وضعيته الخاصة، لايجاد المجتمع حسن التنظيم بعيدا عن اي تصور ميتافيزيقي غارق في التجريد.

يعتقد رولز ان الاطراف قد ترى مبادى العدالة التي تفضلها ذات جاذبية بشكل خاص تتفوق على بدائل متنوعة، ومن هنا رحب الليبراليين بكتابه (نظرية في العدالة) باعتباره الاعلان الاكثر منهجية للنظرية الليبرالية، التي تؤكد على حرية كل فرد باعتباره طرفا واغفال الاهمية التكوينية للسياقات الاجتماعية واهمية العلاقات البينية الاخلاقية(127) بين تلك الاطراف، وبذلك تظهر اهمية الخطا المنهجي الذي كشف عنه الجماعويٌن الذين وقفوا ضد نظرية الليبرالية الرولزية، باعتبار ان ذلك الخطا احدث حركة في عمق الوعي(128) للقضايا الحقيقية والمهمة التي يثيرها النقد الجماعوي، ومن ذلك يمكن التماس اهمية (الجماعة) وتفضيلها على حرية الفرد ليس فقط عند الميالين الى نقض الليبرالية بل حتى عند غيرهم لان الجماعة عبارة عاطفية ومفهوم مطمئن من شان اي عقيدة سياسية ان تكون راغبة في تبنيها واستيعابها(129)، وقد نجد اشارات هذا المعنى في كلام امير المؤمنين علیه السلام عندما قال: «فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً»(130) فجعل للعامة (الجماعة) في مقام اسمى من الفرد (الخاصة) في الحقوق والحريات بحيث تلجا السلطة لاختيار الكتاب وباقي الوظائف ذات الشان العام بما يتناغم وتفضيلات الجماعة بوحدتها الموضوعية باعتبارها تكوينا واحدا مع غض النظر بالكلية عن تفضيلات الافراد (الخاصة) لان «سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع

ص: 457

رضى العامة»(131).

فالقانون ليس مجرد تنظيم للعلاقات الاجتماعية السائدة في الدولة و ضابط للسلوك الإنساني، بل هو في نفس الوقت وسيلة لتطوير هذه العلاقات باتجاه إيديولوجي معين، بمعنى ان القانون يمكن السياسي بالدرجة الاساس من تطوير نظريته السياسية ويجعلها اكثر مقبولية لدى المجتمع، لان الايدلوجيا بالمعنى الصحيح والدقيق لها عبارة عن الافكار المقبولة التي تستند الى وجود العلة، لكنها بذات الوقت افكار (باطلة)(132) او ليست حقة بالمقدار المتعارف عليه بالحقانية لدى المجتمع كونها لاتستند الى دليل، وهكذا يخرج القانون وهو عبارة عن عمل سياسي أولا وقبل ان يكون عملا تنظيميا يعبر عن مصالح الفئات الاجتماعية السائدة في الدولة، ذلك ان أي قانون عادل لن يكون ممكنا الا اذا كان يقضي بالتوافق المعقول بين افراد عقلاء واحرار في اوضاع متساوية(133) (امام القانون) ومشيرا الى قيم اخلاقية مرتكزة في عمق الوعي الاجتماعي، ولعل لهذا المعنى اشارات في عهد امير الموحدين علیه السلام في عهده المشهور اذ قال: «ولا تنقض سنة صالحة عمل بها...، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعیة»(134)، أي ان هناك سنن وقيم وسلوكيات في أي مجتمع يجب مراعاتها والحفاظ عليها وتقويمها لان فيها تآلف المجتمع ووئامه وانتظام حريته في انتقاء خياراته المؤطرة بالتوافق المعقول بين افراده.

ص: 458

الخاتمة

يؤشر هذا البحث الى جهة تاثير الطروحات التشريعية للعدالة (ذات النظرة الاخلاقية) التي ينطق منها عهد امير المؤمنين علیه السلام لمالك الاشتر، على مجمل نظرية الفيلسوف جون رولز في العدالة خاصة في كتابه (نظرية في العدالة)، وعلى الرغم من ان رولز في فلسفته الاخلاقية والسياسية لم يصل إلى حد التطابق التام على مستوى المنهج الفلسفي او المفاهيمي مع الفلسفة الاخلاقية للامام علي علیه السلام، الا ان نظريته تلك تعد مدخلا ممكنا للنظر في مجمل تاثير تلك النظرية في المتبنيات القانونية والاخلاقية عند طيف واسع من فلاسفة الغرب، يعد رولز في مقدمتهم، وفي الوقت الذي دافع رولز فيه عن فكرة تبنيه اراء فلسفية قديمة، او لاتنتمي الى مرحلة الحداثة التي عاصرتها فلسفته السياسية، نجده يحاول اثبات الاسس الاخلاقية لتصورات سياسية في العدالة، بالاتكاء على الدوافع الاخلاقية واسئلة الميتافيزيقيا التي ذاع صيتها عند فلاسفة عصر ماقبل الانوار، في مفارقة واضحة للنظريات السائدة في الفكر القانوني والتشريعي الغربي، واقتراب حذر من ذات الاسس التي تؤسس عليها الفلسفة الحقوقية الاسلامية للعدالة.

ينطلق رولز في تاسيسه للعدالة كقيمة اخلاقية من ذات الاسس التي تعتبر العدالة في أي مجتمع هو انصاف له من الدولة الراعي الرسمي للتنظيمات التشريعية، وهذا هو جوهر نظرية العدالة كانصاف التي قال بها رولز، والتي نجد لها اثار واضحة في الفلسفة السياسية - الاخلاقية التي تتضمنها فقرات العهد العلوي، الذي يمكن اجمال اهم مبادئه باعتبار العدالة كانصاف او قيمة اخلاقية، وهي:

1 - مبدأ الحريات: يصنف امير المؤمنين علیه السلام الحريات الاساسية اخلاقيا، وهي في نظريته السياسية اهم من حرية الافراد مقارنة بغيرها من الحريات غير

ص: 459

الاساسية، لانها قوام القيم المركزية في المجتمع، وهذا يعني ان الحريات الاساسية متفق عليها بحيث اصبحت عاكسة لمقدار الالفة والخير في المجتمع، وانها ضرورية لمتابعة الاحساس بالعدل اللازم للانخراط في التعاون الاجتماعي، وكذلك في حصول حالة الاستقرار، وهو بذلك يجزم بصلاحيتها لايجاد مجتمع حسن التنظيم، يقول: «ولا تنقض سنة صالحة (مجموعة الحريات والعادات والتقاليد الاساسية المتفق على صلاحيتها الاجتماعية في توليد الخير لدى الفرد ومن ثم المساهمة في بناء المجتمع الصالح) عمل بها صدور هذه الأمة (أي انها حازت على توافق اجتماعي متناسب)، واجتمعت بها الألفة (تصورات الفرد للخير)، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن «، لان احداث خرق في منظومة الاعراف والسنن والعادات المألوفة والمعروفة بصلاحها، تسبب عرقلة في طريق توفير اكبر قدر من السعادة الاجمالية في المجتمع (الرفاه) وكذلك تقليل قيم الكمال في تصورات الناس لحياة صالحة.

2 - مبدأ تكافؤ الفرص: يرفض امير المؤمنين علیه السلام أي اختلاف في تحقيق المساواة المنصفة، ويدعوا الى توزيع الفرص بصورة متكافئة، ويرفض التوزيع غير العادل نتيجة الاختلاف في الخلفية الطبقية الاجتماعية، كما يرفض استبعاد أي فرد تعسفا واعتباطا، ويدعوا الى اعطاء الفرصة لمستحقها اذ الاشخاص لديهم نفس الحقوق السياسية والقانونية المتساوية، وذلك تفرضه طبيعة كونهم «صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق «، وفي كلتا الحالتين لابد من اتيان كل ذي استحقاق فرصته المتلائمة مع قابلياته.

3 - مبدأ عمومية العدل ووسطية الحق: ينطلق امير المؤمنين علیه السلام من فكرة اخضاع اعلى السلطات السياسية في البلد الى حدود وشروط متمتعة بقوة القانون،

ص: 460

بحيث تكون احب الامور للسياسي (اوسطها في الحق واعمها في العدل) وبالرغم من كون هذه الفكرة معيارية بامتياز، الا انه علیه السلام دعمها لتكون في موضع التطبيق بالمساهمة الكفؤة لترصين السلطة السياسية بذوي القابليات الأخلاقية مع فرض القانون الاساسي حدود وشروط معينة على الحكم السياسي، قال علیه السلام: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك... وتوخ منهم اهل التجربة «، مع مراعاة جانب الكفاءة والياقة المناسبتين لبسط العدل واحقاق الحق قال علیه السلام: وأنت واجد منهم (اهل الخبرة والكفاءة) خير الخلف، ممن له مثل آرائهم (في السياسة والتدبير) ونفاذهم (في الامور)، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم (بنقض شروط التعاون الاجتماعي الاساسية)، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه.

4 - مبدأ الفرق: يؤشر امير المؤمنين علیه السلام إلى أن وجود نسبة من اللامساواة في الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية باعتبارها ضامنة لتثبيت الخيار الاصلح واقامة الشؤون العامة للمجتمع فأن: «الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض «، في ظل توزیع عادل للحقوق والواجبات، وبذلك ضمان لوجود شروط التعاون الاجتماعي بما يخدم الطبقة الأسوأ في المجتمع والذي يعبر عنهم علیه السلام ب: «الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسي والزمنی، ...، و اجعل لهم قسماً من بيت مالك (الضمان الاجتماعي)، وقس من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، (الفائض الذي تتولد منه نسبة القيمة الزائدة والموزعة على اهل الزمني من المجتمع دونا عن غيرهم)...».

وفي المقابل ظل عمل جون رولز منذ البداية مسترشدا بسؤال ( التصور الاخلاقي) الانسب للعدالة وطبيعتها الاجتماعية ومدى توافقها مع الطبيعة البشرية وخير الفرد، وهنا يمكن ملاحظة اهم مبادئ نظرية رولز في العدالة

ص: 461

کانصاف وهي:

1 - مبدأ رولز في الحريات (حجاب الجهل): لان رولز يجزم بعدم امكانية اتفاق الافراد بطبقاتهم على مفهوم معين للعدالة، ومن ثم فهو يشك في استقرار هذا المجتمع، فقد افترض القطيعة الإبستمولوجية مع كل ایان المرحلة السابقة، أي حجب جميع المسبقات الايدلوجية والفكرية والسياسية بحيث يكون المجتمع على الحالة البدئية الاصلية، وهذا الحجاب افترضه رولز ليبرر وجود المجتمع حسن التنظيم، أي المجتمع الذي يكون فيه الافراد والمؤسسات الاجتماعية على اتفاق بمبادئ معينة للعدالة، وهو بذلك يحاول وضع حد للاختلاف على مبادی العدالة، وايجاد حق متساو مع غيره في النسق الشامل من الحريات الاساسية المتساوية حيث ينسجم ذلك مع نسق مماثل من الحرية للجميع.

2 - مبدا تكافؤ الفرص: یری رولز بضرورة منح الفرصة ذاتها لكل فرد، ويبقى وجود الموهبة او القابلية هو المحدد لنيل تلك الفرصة للاكثر كفاءة.

3 - مبدأ الفرق: يبرر رولز اللامساواة في الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية بين الافراد الى انها في صالح الافراد الاقل حظا من داخل المجتمع مؤكدا انه يكفي ان تتحسن وضعية الفئات الاسوأ حالا لكي تعتبر الوضعية النهائية اكثر عدالة من الوضعية الاولى.

واجد في نهاية هذا البحث أن هناك تأثير كبير للمبادئ والقيم الانسانية والحقوقية التي طبقها الامام علي بن ابي طالب علیه السلام في حكومته - والتي اصبحت فيما بعد مصدرا من مصادر التشريعات للقوانين والمبادئ الأساسية الاسلامية فيما بعد - على احدث النظريات في العدل والحق والمساواة التي قال بها فلاسفة اوربيين كبار يعد الفيلسوف جون رولز في طليعتهم، ومن هنا ادعوا الباحثين

ص: 462

الى حث الخطى وافراغ الوسع في اظهار تلك المبادئ وبيان تلك المشتركات التي استطاع فلاسفة عصر الانوار الاتكاء عليها في تاسیس منظوماتهم الدستورية والقانونية والحقوقية، بما يتوافق وطبيعة المدخرات والمسبقات الأخلاقية التي تكون بمجملها المنظومة القيمية في العالم الإسلامي، ومن هنا ينبغي أن يتجه بعض الباحثين في الحقل الفلسفي، إلى الاهتمام بصلة الفلسفة الإسلامية بالفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، واظهار جوانب التاثر بالزخم القانوني والتشريعي للحضارات الحية بالفلسفة السياسية والقانونية الاسلامية. هوامش البحث:

(1). ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - بيروت، طبعة 1961 م، 1: 6، مقدمة التحقيق.

(2). ابن الاثير، محمد بن محمد الشيباني، الكامل في التاريخ، دار صادر - بیروت، طبعة 1965 م، 4: 125.

(3). ابن المقفع، اثار ابن المقفع، الادب الصغير والادب الكبير، منشورات دار مكتبة الهلال - بیروت، بلات، ص 276 وما بعدها.

(4). ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكاتب العربي، بیروت، بلات، ص 37.

(5). ابن المقفع، الدرة اليتيمة، تصحيح الأمير شكيب أرسلان، المطبعة الأدبية، بیروت، 1897 م، ص 69.

(6). الموفق بن أحمد الملكي الخوارزمي: المناقب، تقديم محمد رضا الموسوي، المطبعة الحيدرية - النجف الاشرف، طبعة . 1965 م.ص 271، وهو ابو المؤيد مؤلف (مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) كان فقيها، أديبا له خطب و سفر، أصله من مكة أخذ العربية عن الزمخشري بخوارزم، وتولى الخطابة بجامعها. والخطيب الخوارزمي روی بسنده عن أبي

ص: 463

بكر محمد بن الحسن بن درید، قال: قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر صاحب أبي عثمان الجاحظ: كان الجاحظ يقول لنا زماناً: إن الأمير المؤمنين مائة كلمة، كل كلمة منها تعني بألف كلمة من محاسن کلام العرب، قال: وكنت أسأله دهراً بعيداً أن يجمعها لي، ويمليها علي، وكان يعدني بها، ويتغافل عنها ظناً بها، قال: فلما كان آخر عمره أخرج جملة مسودات مصنفاته فجمع منها تلك الكلمات وأخرجها إلي بخطه.

(7). عبد الزهراء الخطيب، مصادر نهج البلاغة و أسانیده، مؤسسة الأعلمي - بیروت، ط 2 - 1975 م، 1: 60.

(8). عباس القمي، سفينة البحار، دار الاسوة للطباعة . قم، ط 2 - 1416 ه، 1: 146، مادة جحظ.

(9). محمد عابد الجابري، العقل الاخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية . بیروت، ط 2 - 2006، ص 26.

(10). الماوردي، التاج في أخلاق الملوك، تحقيق أحمد زكي، مطبعة الأميرية، القاهرة، ط 1، 1916 م، ص 174.

(11). الحلي: جمال الدين الحسن بن يوسف، منهاج الكرامة في إثبات الإمامة طبع حجري، بخط حجي هلال السرحان، مطبعة الإرشاد، 1971 م، ص 77.

(12). حاجي خليفة، کشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الفكر - بيروت، طبعة 1982 م، ص 169.

(13). محسن الامين أعيان الشيعة، تحقیق حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات - بیروت، ط 5 - 1998 م، 9: 399.

(14). ابن النديم، محمد بن اسحق، الفهرست، طهران، طبعة شعبان 1391 ه / 1971 م، ص 323.

(15). البرقي، المحاسن، تقديم محم صادق بحر العلوم، المطبعة الحيدرية - النجف الاشرف، طبعة - 1964، ص 9.

(16). الخطيب،، مصادر نهج البلاغة وأسانیده، مصدر سابق، ص 40.

ص: 464

(17). ألبرقي، المحاسن، مصدر سابق، ص 208.

(18). الدينوري، عيون الاخبار ضبط يوسف الطويل، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2 - 2003، ص 23.

(19). كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، الناشر دار صادر - بيروت.، طبعة 1961 م، ص 89.

(20). البيهقي، المحاسن والمساويء، دار المعارف - بیروت، طبعة 1991 م، ص 49 - 55.

(21). الأشعري: علي بن إسماعيل، مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين، المكتبة المصرية - القاهرة، طبعة 1990، 1: 64.

(22) الزركلي: خير الدين، الاعلام، مصدر سابق، 1: 212.

(23). حاجي خليفة (ت 1067 ه)، کشف الظنون، دار احیاء التراث العربي - بيروت، طبعة 1941 م، 1: 514.

(24). هذا العهد رواه محمّد بن الحسن الطوسي - من أعلام القرن الخامس -؛ فيذكر الشيخ الطوسی سنداً صحيحاً عند المشهور للعهد، وكذلك النجاشي - الذي هو أحد رجالات العلم في الطائفة الإمامية- أيضاً روى العهد بطريق آخر صحيح عند المشهور، ورواه الشريف الرضي أخو الشريف المرتضى في كتاب نهج البلاغة، ورواه أيضاً ابن أبي شعبة الحرّاني - الذي كان يعيش في أواسط القرن الرابع المعاصر للشيخ الصدوق - في كتابه تحف العقول، ورواه القاضي النعمان، وهو من علماء الإمامية، وكان قاضياً أيام حكم الفاطميين في مصر في القرن الرابع والخامس، رواه في كتابه دعائم الإسلام، إذن عهد مالك الأشتر له العديد من المصادر (الشيخ محمّد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية، مرکز الأبحاث العقائدية. قم، ایران، ط 1 - 2000 م، 364 - 363).

(25). توفيق ابو العلم، في علي بن ابي طالب، مؤسسة اهل البيت - القاهرة، ط 1 - 2003، ص 37.

(26). میشیل هاملتون مورغان، التاريخ الضائع، مکتبة الكونغرس - واشنطن، ط 1 - 2007، ص 12.

(27). ابن رشد (1126 - 1198 م) فیلسوف و فقیه و لغوي مسلم واعظم شراح ارسطو. كان

ص: 465

لامير المؤمنين اثر واضح في ابن رشد فلسفته وهو القائل: أن في كلام علي من عجائب البلاغة ونواقب الحكم ما لايوجد في كلام.

(28). توماس الاكويني (1225 - 1274 م) فیلسوف و لاهوتي مسيحي.

(29) زینب محمود الخضيري، اثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، دار التنوير للطباعة - بیروت، طبعة 2007 م، ص 12.

(30) أ. و. سدرن، نظرة الغرب الى الاسلام، تعريب علي فهمي، دار الفكر - طرابلس ليبيا، ط 1 - 1975 م، ص 161.

(31). ابراهيم مدكور، في الفلسفة الاسلامية منهج وتطبيق، دار المعارف - بیروت، ط 1 - 1947 م، المقدمة.

(32). الشريف الرضي (ت 406 ه) نهج البلاغة، تحقیق هاشم الميلاني، العتبة العلوية المقدسة - النجف الاشرف، طبعة 2011، العهد. ص 325 وما بعدها.

(33). الشيخ محمّد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية، مصدر سابق، ص 365.

(34). صموئيل فریمان، التطابق وخير العدالة، مقال، اتجاهات معاصرة في فلسفة العدالة، المركز العربي للابحاث وراسة السياسات - الدوحة، قطر، ط 1 - 2015 م، ص 343.

(30). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 333.

(36). الجابري، العقل الاخلاقي العربي، مصدر سابق، ص 8.

(37). يقصد أهل المشورة.

(38). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 374.

(39). محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي، - مقاصد الشريعة و قضایا العصر-، منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الثقافي - لندن، ط 1، 2011، ص 271.

(40). الامدي، الغرر، تصحيح حسين العلمي، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بيروت، ط 1 - 2002 م، 1: 385.

(41). الجابري، العقل الاخلاقي العربي، مصدر سابق، ص 79.

(42). محمد کمال الدين إمام، مدخل أصولي للمقاصد الشرعية، منشور ضمن کتاب مقاصد

ص: 466

الشريعة الإسلامية، مصدر سابق، ص 12.

(43). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 360.

(44). جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة - القاهرة، طبعة 2012 م، ص 128.

(45). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 366.

(46). صموئيل فريمان، التطابق وخير العدالة، مقال اتجاهات معاصرة في فلسفة العدالة، مصدر سابق، ص 345.

(47). الطبري، محمد بن جریر (ت 225 ه 837 م)، تاریخ الامم والملوك، دار الكتاب العربي - بغداد، ط 1 - 2005، 5: 72، انظر ايضا: ابن الأثير، عز الدين ابو الحسن علي (ت 630 ه / 1232 م)، الكامل في التاريخ، مطبعة دار الفكر، (بیروت / 1978 م): 3 / 334. حواره مع الخوارج في مسالة التحكيم، وانظر: ابن الأثير، الکامل: 3: 335، وحواره مع طلحة والزبير في أمر خروهما عن طاعته.

(48). عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، دار الغرب الإسلامي؛ ط 2 - 2008، ص 5.

(49). محمد ياسين عريبي، مواقف ومقاصد في الفكر الإسلامي المقارن، الدار العربية للكتاب . طرابلس طبعة - 1982 م، ص 9.

(50). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 327.

(51). الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق، 3: 252.

(52). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق العهد - ص 363.

(53). عبد النور بزا؛ مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية؛ الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1 - 2008، ص 18.

(54). صموئيل فریمان، التطابق وخير العدالة، مقال، مصدر سابق، ص 345.

(55). سلطان العميري، التداول الحداثي لنظرية المقاصد، دراسة نقدية، موقع مجلة البيان الكتروني، العدد 295، بتاريخ 16 / 1 / 2012 م.

ص: 467

(56). الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، سنة 1417 ه / 1997 م، ج 2، ص 375.

(57). الشريف الرضي، نهج الباغة، مصدر سابق، العهد - ص 351.

(58). صموئيل فریمان، اتجاهات معاصره في فلسفة العدالة، مصدر سابق، ص 346. (یری فریمان ان السبب يكمن في: التوجهات الطبيعية لدى البشر).

(59). الجابري، العقل الاخلاقي العربي، مصدر سابق، ص 227.

(60). صموئيل فریان، اتجاهات معاصره في فلسفة العدالة، مصدر سابق، ص 347.

(61). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 351.

(62). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 344.

(63). فرانك. أ. ميتشلان، رولز عن النزعة الدستورية والقانون الدستوري، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات - الدوحة، ط 1 - 2015 م،، ص 481.

(64). محمد آرکون، این هو الفكر الاسلامي المعاصر، دار الساقي، بیروت، ط 4 - 2010، المقدمة.

(65). مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة، بلات، ص 27.

(66). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد. ص 329.

(67). جون رولز، السياسة الليبرالية، مقال، صحيفة جامعة كولومبيا - نيويورك، 1996 م، ص 217.

(68). فرانك. أ. ميتشلان، رولزعن النزعة الدستورية والقانون الدستوري، مصدر سابق، ص 483.

(69). يقصد اصناف المكون الاجتماعي التعددي.

(70). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 330.

(71). الحجرات 0110

(72). الحجرات: 13.

ص: 468

(73). البقرة: 201.

(74). ال عمران: 104.

(75). علي بن عيسى الاربلی، کشف الغمة في معرفة الأئمة، نشر أدب الحوزة. قم، طبعة. 1346 ه، 2: 163.

(76). محمد اركون، این هو العقل الاسلامي المعاصر، مصدر سابق، المقدمة.

(77). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 375.

(78). محمد اركون، این هو الفكر الاسلامي المعاصر، مصدر سابق، المقدمة.

(79). جون رولز (1921 - 2002) فیلسوف اخلاقي و سياسي امريكي، يعتبر رولس من منظري و مؤسسي ليبرالية اجتماعية، حيث اهتم بالعدالة الاجتماعية، يقول الفيلسوف الإنجليزي جوناثان وولف أنه - قد يكون هناك نزاع حول الفيلسوف السياسي الثاني الأكثر أهمية في القرن 20، ولكن لن يختلف أحد على أن الفيلسوف الأول الأكثر أهمية هو: جون رولس -.

(80). محمود حمدي زقزوق، المنهج الفلسفي بين الغزالي و دیکارت، دار المعارف - بیروت، ط 1 - 1998 م، ص 6.

(81). جون رولز، نظرية في العدالة، دار نشر جامعة هارفرد - نيويورك، طبعة 1971 م.

(82). محمد ار کون، این هو الفكر الاسلامي المعاصر، مصدر سابق، المقدمة.

(83). جان جاك روسو (1712 - 1778) کاتب و ادیب و فیلسوف وعالم نبات من جنيف في سویسرا، يعد من ابرز کتاب عصر التنوير ساعدت كتابات روسو في الحرية والعدالة على قيام الثورة الفرنسية.

(84). جون رولز، العدالة كانصاف اعادة صياغة، ترجمة حيدر الحاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة - بيروت، ط 1 - 2009، ص 249 - 250.

(85). محمد هاشمي، نظرية العدالة عند جون رولز: نحو تعاقد اجتماعي مغایر، دار توبقال للنشر- الدار البيضاء، ط 1 - 2014 م، ص 159.

(86). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد. ص 368.

ص: 469

(87). جون رولز، العدالة كانصاف، مصدر سابق، ص 101،

(88). توماس هوبز: احد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة خصوصا في المجال القانوني حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ، فقيها قانونيا.

(89). جون رولز، نظرية في العدالة، مصدر سابق، ص 6.

(90). عبد الکریم سروش، العقل والحرية، ترجمة احمد القابنجي، دار الفكر الجديد - النجف الاشرف، بلات، سلسلة ثقافة اسلامية معاصرة (14)، ص 215.

(91). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 359.

(92). صموئيل فریمان، اتجاهات معاصرة في فلسفة العدالة، مصدر سابق، ص 344.

(93). رولز، نظرية في العدالة، مصدر سابق، ص 416 - 476.

(94). رولز، نظرية في العدالة، مصدر سابق، ص 432 - 494.

(95). صموئيل فریمان، اتجاهات معاصرة، مصدر سابق، ص 349.

(96). صموئيل فریمان، اتجاهات معاصرة، مصدر سابق، ص 346.

(97). ديفيد هيوم (1711 - 1776) فیلسوف و اقتصادي و مؤرخ اسكتلندي، من الشخصيات المؤثرة في تاريخ التنوير الاسكتلندي، كانت كتاباته الفلسفية الى حد ما مثار اهتمام المتاخرین، قال عنه كانط "ايقظني هيوم من السبات الدوغمائي".

(98). آدم سميث (1723 - 1790)، فیلسوف أخلاقي وعالم اقتصاد اسكتلندي. يُعدّ مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي ومن رواد الاقتصاد السياسي. اشتهر بكتابيه الكلاسيكيين: "نظرية الشعور الأخلاقي" (1759)، وكتاب "بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها" (1776). وهو رائعة آدم سميث ومن أهم آثاره، وهو أول عمل يتناول الاقتصاد الحديث وقد اشتهر اختصاراً، باسم "ثروة الأمم". دعا إلى تعزيز المبادرة الفردية، والمنافسة، وحرية التجارة، بوصفها الوسيلة الفضلى لتحقيق أكبر قدر من الثروة والسعادة.

(99). جون رولز، العدالة بين السياسة والميتافيزيقيا، ترجمة محمد هاشمي، مجلة مدارات فلسفية، سنة 2004، ص 99.

ص: 470

(100). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد .- ص 348.

(101). رولز، نظرية في العدالة، مصدر سابق، ص 51.

(102). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 346.

(103). حوار مع نوفل الحاج لطيف، حول طروحات حول العدالة في الفكر الفلسفي المعاصر، منشور في الموقع الرسمي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث.

(104). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 311.

(105). عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بیروت، طبعة 1984 م، مادة ديفيد هيوم، 2: 611 - 612.

(106). إمانويل كانط "تأملات في التربية" ترجمة: محمود بن جماعة، دار محمد علی للنشر، سلسلة أضواء، ط 1 / 2005، ص 285.

(107). محمد اركون، الفكر الاسلامي من نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي - بيروت، ط 5 - 2009، ص 107.

(108). رولز، نظرية في العدالة، مصدر سابق، ص 416 - 476.

(109). رولز، نظرية في العدالة، مصدر سابق، ص 432 - 494.

(110). صموئيل فريمان، التطابق و خير العدالة، مقال، مصدر سابق، ص 348.

(111). فيليب رینارد، ماكس فيبر والحداثة السياسية، بي يواف - باريس، ط 1 - 1996 م، ص 44 - 45.

(112). الشريف الرضي، نهج البلاغة، العهد، ص 326

(113). مارتاك. نوسباوم، رولز والحركة النسوية، مقال، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات - الدوحة، ط 1 ۔ 2015 م، ص 595.

(114). صموئیل فریمان، التطابق وخير العدالة، مقالة، مصدر سابق، ص 357.

(115). ت. م. سکانلون، رولز عن التبرير، مقال، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - الدوحة، ط 1 - 2015 م، ص 205.

(116). ایمانویل کانت (1724 - 1804): فیلسوف الماني عاش كل حياته في مملكة بروسيا،

ص: 471

يعتبر آخر فلاسفة عصر التنوير.

(117). طيبة ماهروزادة، فلسة كانت التربوية، تعريب عبد الرحمن العلوي، دار الهادي بيروت، ط 1 - 2001، ص 218.

(118).، صموئیل فریمان، اتجاهات معاصرة، مصدر سابق، ص 192.

(119). طيبة ماهر وزادة، فلسفة كانت، مصدر سابق، ص 192.

(120). صموئيل فريمان، التطابق وخير العدالة، مصدر سابق، ص 357.

(121). طيبة ماهروزادة، فلسفة كانت، مصدر سابق، ص 68.

(122). تشارلز لارمور، العقل العمومي، مقال، المركز العربي للابحاث والدراسات - بيروت، ط 1 - 2015، ص 451.

(123). طيبة ماهر وزادة، فلسفة كانت، مصدر سابق، ص 78.

(124). ستيفن مولهال وآدم سويفت، رولز والجمعاوية، مقال، المركز العربي للابحاث والدراسات - بيروت، ط 1 - 2015، ص 565.

(125). رولز، نظرية في العدالة، مصدر سابق، ص 458 - 522.

(126). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 362.

(127). ستيفن مولهال، رولز والجاعوية، مصدر سابق، ص 555.

(128). سروش، العقل والحرية، مصدر سابق، ص 555.

(129). ستيفن مولهال وآدم سویفت، رولز والجمعاوية، مصدر سابق، ص 557.

(130). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 342.

(131). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - ص 347.

( 132). سروش، العقل والحرية، مصدر سابق، ص30.

( 133). صموئيل فريمان، التطابق وخير العدالة، مقال، مصدر سابق، ص 344.

(134). الشريف الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، العهد - 376.

ص: 472

المصادر والمراجع

1. أ. و. سدرن، نظرة الغرب الى الاسلام، تعريب علي فهمي، دار الفكر - طرابلس ليبيا، ط1 - 1975 م.

2. ابراهيم مدكور، في الفلسفة الاسلامية منهج وتطبيق، دار المعارف ۔ بیروت، ط 1 - 1967 م.

3. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - بيروت، طبعة 1961 م.

4. ابن الأثير، عز الدين ابو الحسن علي (ت 630 ه / 1232 م)، الكامل في التاريخ، مطبعة دار الفكر (بیروت - 1978 م).

5. ابن الاثير، عز الدين ابو الحسن علي (ت 630 ه / 1232 م)، الكامل في التاريخ، مطبعة دار الفكر، (بیروت - 1978 م).

6. ابن المقفع، اثار ابن المقفع، الادب الصغير والادب الكبير، منشورات دار مكتبة الهلال - بيروت، بلات.

7. ابن المقفع، الدرة اليتيمة، تصحيح الأمير شكيب أرسلان، المطبعة الأدبية، بیروت، 1897 م.

8. ابن النديم، محمد بن اسحق، الفهرست، طهران، طبعة شعبان 1391 ه / 1971 م.

9. ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكاتب العربي، بیروت، بلات.

10. الأشعري: علي بن إسماعيل، مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين المكتبة المصرية - القاهرة، طبعة 1990 م.

ص: 473

11. إمانويل كانط «تأملات في التربية« ترجمة: محمود بن جماعة، دار محمد علی للنشر، سلسلة أضواء، ط 1 - 2000 م.

12. الامدي، الغرر، تصحيح حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، ط 1 - 2002 م.

13. البرقي، المحاسن، تقديم محم صادق بحر العلوم، المطبعة الحيدرية - النجف الاشرف، طبعة - 1964 م.

14. البيهقي، المحاسن والمساويء، دار المعارف - بیروت، طبعة 1991 م.

15. ت. م. سکانلون، رولز عن التبرير، مقال، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - الدوحة، ط 1 - 2015 م.

16. تشارلز لارمور، العقل العمومي، مقال، المركز العربي للابحاث والدراسات - بیروت، ط 1 - 2015 م.

17. توفيق ابو العلم، في علي بن ابي طالب، مؤسسة اهل البيت - القاهرة، ط 1 - 2003 م.

18. جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة - القاهرة، طبعة 2012 م.

19. جون رولز، السياسة الليبرالية، مقال، صحيفة جامعة كولومبيا - نیویورك، 1996 م.

20. جون رولز، العدالة بين السياسة والميتافيزيقيا، ترجمة محمد هاشمي، مجلة مدارات فلسفية، سنة 2004 م.

21. جون رولز، العدالة كانصاف اعادة صياغة، ترجمة حيدر الحاج اسماعیل، المنظمة العربية للترجمة - بيروت، ط 1 - 2009 م.

ص: 474

22. جون رولز، نظرية في العدالة، دار نشر جامعة هارفرد - نيويورك، طبعة 1971 م.

23. حاجي خليفة (ت 1067 ه)، كشف الظنون، دار احياء التراث العربي - بيروت، طبعة 1941 م.

24. حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الفكر - بيروت، طبعة 1982 م

25. الحلي الحسن بن يوسف، منهاج الكرامة في إثبات الإمامة طبع حجري، بخط حجي هلال السرحان، مطبعة الإرشاد، 1971 م.

26. حوار مع نوفل الحاج لطيف، حول طروحات حول العدالة في الفكر الفلسفي المعاصر، منشور في الموقع الرسمي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث.

27. الدينوري، عيون الاخبار ضبط يوسف الطويل، دار الكتب العلمیة - بيروت، ط 2 - 2003 م.

28. زينب محمود الخضيري، اثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، دار التنوير للطباعة - بيروت، طبعة 2007 م.

29. ستيفن مولهال وآدم سويفت، رولز والجمعاوية، مقال، المركز العربي للابحاث والدراسات - بيروت، ط 1 - 2015 م.

30. سلطان العميري، التداول الحداثي لنظرية المقاصد، دراسة نقدية، موقع مجلة البيان الكتروني، العدد 295، بتاريخ 16 / 1 / 2012 م.

31. الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، سنة 1417 ه / 1997 م.

ص: 475

32. الشريف الرضي (ت 406 ه) نهج البلاغة، تحقیق هاشم الميلاني، العتبة العلوية المقدسة - النجف الاشرف، طبعة 2011 م.

33. صموئيل فريمان، التطابق وخير العدالة، مقال، اتجاهات معاصرة في فلسفة العدالة، المركز العربي للابحاث وراسة السياسات - الدوحة، قطر، ط 1 - 2015 م.

34. الطبري، محمد بن جریر (ت 225 ه - 837 م)، تاریخ الامم والملوك، دار الكتاب العربي - بغداد، ط 1 - 2005 م.

35. طيبة ماهر وزادة، فلسة كانت التربوية، تعریب عبد الرحمن العلوي، دار الهادي بيروت، ط 1 - 2001 م.

36. عباس القمي، سفينة البحار، دار الاسوة للطباعة - قم، ط 2 - 1416 ه.

37. عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت، طبعة 1984 م.

38. عبد الزهراء الخطيب، مصادر نهج البلاغة و أسانیده، مؤسسة الأعلمي -

بیروت، ط 2 - 1975 م.

39. عبد الکریم سروش، العقل والحرية، ترجمة احمد القابنجي، دار الفكر الجديد. النجف الاشرف، بلات، سلسلة ثقافة اسلامية معاصرة (14).

40. عبد المجيد النجار؛ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة؛ دار الغرب الإسلامي؛ ط 2 - 2008 م.

41. عبد النور بزا؛ مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية؛ الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي؛ ط 1، سنة 2008 م.

42. علي بن عيسى الاربلی، کشف الغمة في معرفة الأئمة، نشر أدب الحوزة -

ص: 476

قم، طبعة. 1346 ه.

43. فرانك. أ. ميتشلمان، رولز عن النزعة الدستورية والقانون الدستوري، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات - الدوحة، ط 1 - 2015 م.

44. فيليب رینارد، ماكس فيبر والحداثة السياسية، بي يواف - باريس، ط 1 - 1996 م.

45. كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، الناشر دار صادر - بيروت.، طبعة 1961م.

46. كوبلستون، فردريك، تاريخ الفلسفة، « کانت«، المشروع القومي للترجمة - القاهرة، طبعة 2002 م.

47. مارتاك. نوسباوم، رولز والحركة النسوية، مقال، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات - الدوحة، ط 1 - 2015 م.

48. الماوردي، التاج في أخلاق الملوك، تحقيق أحمد زكي، مطبعة الأميرية، القاهرة، ط 1، 1914 م..

49. محسن الامين أعيان الشيعة، تحقیق حسن الامین، دار التعارف للمطبوعات ۔ بیروت، ط 5 - 1998

50. محمد اركون، الفكر الاسلامي من نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي - بيروت، ط 5 - 2009 م.

51. محمد آرکون، این هو الفكر الاسلامي المعاصر، دار الساقي، بیروت، ط 4 - 2010 م.

52. محمّد السند، بحوث معاصرة في الساحة الدولية، مركز الأبحاث العقائدية . قم، ایران، ط 1 - 2000 م.

ص: 477

53. محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي، - مقاصد الشريعة وقضايا العصر-، منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الثقافي - لندن، ط 1، 2011 م.

54 - محمد عابد الجابري، العقل الاخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، ط 2 - 2006.

55. محمد هاشمي، نظرية العدالة عند جون رولز: نحو تعاقد اجتماعي مغاير، دار توبقال للنشر - الدار البيضاء، ط 1 - 2014.

56. محمد ياسين عريبي، مواقف ومقاصد في الفكر الإسلامي المقارن، الدار العربية للكتاب - طرابلس طبعة - 1982 م.

57. محمود حمدي زقزوق، المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت، دار المعارف - بيروت، ط 1 - 1998 م.

58. مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة، بلات.

59. الموفق بن أحمد الملكي الخوارزمي: المناقب، تقديم محمد رضا الموسوي، المطبعة الحيدرية - النجف الاشرف، طبعة - 1965 م.

60. ميشيل هاملتون مورغان، التاريخ الضائع، مكتبة الكونغرس - واشنطن، ط 1 - 2007 م.

ص: 478

المحتويات

مقدمة المؤسسة...7

المحور العقدي والفقهي

التراث العَلوي ودوره في نمو الأحكام الخلقية لدى الشباب (دراسة تحليلية)

د. حلیم صخيل العنكوشي م. حلا يحيى البديري

تعريف بالبحث...21

المقدمة:...21

مشكلة البحث:...23

أهمية البحث:...24

أهداف البحث:...26

حدود البحث:...26

منهج البحث:...26

التعريف بمصطلحات البحث:...27

أولاً - الحكم الخلقي: عرّفه كل من:...27

ص: 479

ثانياً - الموروث العلوي:...28

إطار نظري...29

النظريات التي تناولت نمو الأحكام الخلقية...29

1. المنظور السلوكي (Behaviorism perspective)...29

النظرية المعرفية (Cognitive perspective):...31

أ. وجهة نظر بياجيه:...31

ب. وجهة نظر کولبرج:...32

ج. وجهة نظر بروفينبرینر Brofenbernner theory...35

القيم الخلقية والحث على تطور الحكم الخلقي في البعض من الأحاديث والخطب والمواقف الواردة عن الامام علي (علیه السلام)...37

مدى الإفادة مما ورد عن الإمام (علیه السلام) في حث وإثابة للحكم الخلقي الذي يطابق الشريعة الإسلامية في تربية الجيل الجديد...46

التوصيات:...50

المقترحات:...50

المصادر العربية...51

المصادر الأجنبية:...53

ردّ الشمس للإمام علي (علیه السلام) الدكتورة زهور کاظم زعیمیان

المقدمة...57

وقوف الشمس لنبي الله يوشع بن نون (علیه السلام)(3)...57

رد الشمس للنبي حزقيا (سنة 612 ق.م، و نبوته بعد 666 ق.م)...63

ردّ الشمس لنبي الله سليمان بن داود (علیه السلام) (عاش 970 ق.م حتى 931 ق.م)...64

حبس الشمس للنبي موسى (علیه السلام)...66

ص: 480

حبس الشمس وردها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...67

ردّ الشمس للإمام علي (علیه السلام)...68

المرة الأُولى: مكاناً وزماناً بالصهباء من أرض خيبر في العهد النبوي الشريف:...69

أما المرة الثانية في بابل (الحلة)....71

الخاتمة...74

هوامش البحث:...75

المصادر والمراجع...79

السؤال ودوره في الإثراء المعرفي دراسة في ضوء نهج البلاغة

م.د عدنان عباس البطاط م.م. ارکان حسین التمیمي

مقدمة...85

السؤال في اللغة:...86

السؤال في الاصطلاح...88

السؤال في نهج البلاغة...88

أهمية السؤال (طلب المعرفة)...89

هل يُزعجُ السؤالُ علياً عليه السلام؟...94

معالم السؤال في نهج البلاغة...95

آدابُ السؤال...101

أولاً: آداب السائل...101

ثانياً: آداب المجيب...105

نتائج البحث...111

المصادر والمراجع...116

ص: 481

دور الفرائض الشرعية في التكافل الاجتماعي عهد الإمام علي أنموذجا د. خديجة حسن علي القصير

المقدمة...121

أهداف البحث:...121

المبحث الأول: مفهوم التكافل الاجتماعي...123

أولا: التكافل في اللغة والاصطلاح...123

المبحث الثاني: الفرائض الشرعية ودورها في التكافل الاجتماعي...129

في عهد الإمام علي عليه السلام...129

الخاتمة...133

المصادر والمراجع...136

عقيدة التوحيد في شرح نهج البلاغة للسيد هادي كمال الدين الحلي (ت 1406 ه) م. د كريم مزة ميدي جاسم

المُقدِّمة...141

ثانيًا: الصفات الإلهيَّة...146

ثالثًا: إبطال رؤية الله...149

رابعًا: نفي التجسيم...152

المصادر والمراجع...161

ص: 482

المحور القانوني والسیاسي

إصلاح النظم الإسلامية في فكر الإمام علي (عليه السلام) الدكتور: محمد خضير عباس

المقدمة:...169

التمهيد: التعريف بمفردات البحث...171

1 - الإصلاح لغةً:...171

الإصلاح اصطلاحاً:...171

2 - النظم لغةً:...172

النظم اصطلاحاً:...173

نشأة النظم الإسلامية:...173

3 - الفكر لغةً:...174

الفكر اصطلاحاً:...174

المبحث الأول...176

فلسفة وعوامل الإصلاح...176

فلسفة الإصلاح:...176

عوامل الإصلاح والتغيير...177

نبذة تاريخية عن الإصلاح...178

إصلاح النظم الإسلامية في فكر الإمام علي (عليه السلام)...181

بدء برنامج الإصلاح...182

المبحث الثاني: الاصلاح الإداري...183

المبحث الثالث: الإصلاح الاجتماعي...190

المبحث الرابع: الإصلاح الاقتصادي...192

ص: 483

المبحث الخامس: الإصلاح القضائي...197

آداب القضاء في فكر الإمام علي (عليه السلام):...200

إصلاحاته (عليه السلام) في نظام الحُسبة...203

واجبات المُحتسب:...204

نشأة الحُسبة:...204

إصلاحاته (عليه السلام) في النظر في المظالم...207

أول من نظر في المظالم في الإسلام:...208

المبحث السادس: الإصلاح الثقافي والديني في فكر الإمام علي (عليه السلام)...216

أولاً - الإصلاح الثقافي:...216

ثانياً- الإصلاح الديني:...219

الخاتمة:...222

المصادر والمراجع:...229

المصادر:...229

المراجع:...233

الأقراص الليزرية:...236

شبكة المعلومات (الأنترنيت):...236

الآثار الناجمة عن سیاسة الامام علي (علیه السلام) الإداریة والمالیة أسالیب المعارضة أنموذجا أ.م.د. علاء کامل صالح العیساوي

المقدمة:...239

اولا: ظهور الاتجاهات المعارضة لخلافة الإمام علي (عليه السلام)...241

1 - السخط والتذمر...241

2 - العصيان والتمرد المسلح...248

3 - تفرق أصحاب الإمام (عليه السلام) وجنده والتحاقهم بمعاوية...257

ص: 484

الخاتمة:...268

المصادر والمراجع...290

اولا: المصادر الأولية...290

ثالثاً المراجع الحديثة:...301

رابعاً الرسائل والاطاريح الجامعية:-...304

خامساً: الدوريات:-...304

الجانب السياسي في رسائل الإمام علي (عليه السلام) الدكتورة زينب سمير علي

المقدمة...307

أولا:عهود التولية:...309

ثانياً - سياسة الامام علي (علیه السلام) في عزل الولاة واستبدالهم...311

ثالثا - أمر البيعة ومقتل الخليفة عثمان بن عفان:...315

رابعاً - أمن الدولة وسياستها:...317

الخاتمة...325

المصادر الاولية:...334

المراجع:...338

السياسة الادارية عند الإمام علي (عليه السلام) الأستاذ المساعد الدكتور احمد عدنان الميالي

مقدمة...341

المحور الاول: اصول السياسة الادارية عند الإمام (علیه السلام):...342

المحور الثاني: احترام الحقوق المتبادلة بين الحاكم والرعية...347

ص: 485

المحور الثالث: إقامة منهج العدل...355

الخاتمة...360

المصادر والمراجع...368

ثلاث نظریات ابداعیة في السلطة السیاسیة للحکومة العلویة تأسیس الامام علي (علیه السلام) لوظائف السلطة بین التشریع والواقع الدکتور محمد نعناع

مقدمة...373

تمهید...374

الفصل الاول: نظرية بناء معادلة السلطة بين حاجات الامة وتطبيق الشريعة...378

المبحث الاول: الحاكمية في فكر الامام علي - تجربته عليه السلام مع الخوارج...379

المبحث الثاني: حدود التعددية والحرية في مقابل الاكراه المرفوض قرانيا...384

الفصل الثاني: نظرية النزاهة اساس الحكم...387

المبحث الاول: ابداعات تعزيز الثقة بالنفس والمجتمع...389

المبحث الثاني: تعرية الفساد للحفاظ على مقدرات الامة...392

الفصل الثالث: نظرية صناعة القوى الفاعلة...394

المبحث الاول: معرفة الحاكم بالجغرافيا التي يحكمها...396

المبحث الثاني: المعادلة العلمية بين تقوية الذات واستقطاب الطاقات...398

الخاتمة...403

العدل کقیمة أخلاقیة دراسة استکشافیة لفلسفة وتطبیقات مفهوم العدالة في ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر مقارنة بالاتجاهات الحدیثة لمفهوم العدالة نظریة العدالة عند الفیلسوف الامریکي جون رولز أنموذجا الباحث حسین جوید الکندي

مقدمة...411

خطوات البحث:...412

ص: 486

مشكلة البحث:...413

هدف البحث:...414

فرضية البحث:...414

منهجية البحث:...414

خطة البحث:...415

تمهید...416

المبحث الاول: العدالة كقيمة اخلاقية...424

المطلب الاول: مفهوم العدالة كقيمة اخلاقية في نصوص عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الاشتر...425

مفهوم المؤسسات الاجتماعية عند امير المؤمنين علیه السلام...428

مفهوم الحريات الاساسية...431

المطلب الثاني: روح القانون ونظرية تطابق العدل والخير عند الإمام علي علیه السلام...436

مقاصدية الاخلاق عند الامام علي علیه السلام...438

خطاب الاستقرار عند امير المؤمنين علیه السلام...440

المبحث الثاني: العدالة كإنصاف...443

المطلب الاول: مفهوم العدالة كانصاف في كتاب (نظرية في العدالة) لجون رولز...445

خطاب تطابق العدل والخير عند جون رولز...447

خطاب الاستقرار عند جون رولز...448

خطاب الواجب عند رولز...450

المطلب الثاني: الجذور الفلسفية لنظرية العدالة كانصاف...451

بنية الخطاب السياسي عند رولز...455

مبدأ الاختيار عند رولز...459

الخاتمة...459

المصادر والمراجع...473

ص: 487

ص: 488

المجلد 2

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3663 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيفLC: BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3663 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيفLC: BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية؛ (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (علیه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احاديث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الاخلاق الاسلامية مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق - تاريخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية

المؤتمر العلمي الثاني

منهج الامام علي علیه السلام

فی

بناء الانسان وانسانیّة الدّولة

اعمال الموتمر العلميّ الوطني الثّاني

لمؤسسة علوم نهج البلاغة

الجزءُ الثَّاني

للمدة

13 - 14 / ربیع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 3 / 12 / 2017 م

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

فی العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1440ه - 2019 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Info@Inahj.org

تنویه:

إن الأفکار والآراء المذکورة في هذا الکتاب تعبر عن وجهة نظر کاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسینیة المقدسة

تخلي العتبة الحسینیة المقدسة مسؤولیتها عن أي انتهاك لحقوق الملکیة الفکریة

ص: 4

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ

«وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»

صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيم

مریم: 55

ص: 5

ص: 6

المحور الإداري والاقتصادي

ص: 7

ص: 8

الفساد الإداري... الوقاية والعلاج حكومة الإمام علي (عليه السلام) أُنموذجاً

اشارة

الاستاذ المساعد الدكتور

عبد الزهرة جاسم الخفاجي

الكلية الإسلامية الجامعة - النجف الأشرف

ص: 9

ص: 10

المقدمة

سُبحانَ مَنْ تعالى جده وتَقدَّسَت أسماؤه، ولَه الحَمدُ، والصلاة على خاتم أنبيائه وعلى آله الطاهرين.

أمّابعد.

يعاني المجتمع الدولي من خطورة تفشي ظاهرة الفساد وامتدادها على مستوى العالم، ولذا عمد إلى اتخاذ عدد من الإجراءآت واتبع أساليب مختلفة لمواجهة هذه الظاهرة والحد من تفشيها، ومع ضخامة الجهد الدولي وما يمتلكه من أدوات فإنه عجز عن تحقيق ما حققه الإمام علي (عليه السلام) في معالجته لموضوع الفساد لاسيما الفساد الإداري.

إنَّ حكومة الإمام علي (عليه السلام) على الرغم من قصر عمرها إلاّ أنّها استطاعت ومنذ قيامها أن تجتث الفساد الذي تفشى في مفاصل الدولة في عهد من سبقه، فكانت بحق أُنموذجاً يُحتذى، وقد بنى منهجه (عليه السلام) في مكافحة الفساد، على إقامة علاقة متميزة مع ولاته من خلال حسن الاختيار حيث تجلى في حكومته (عليه السلام) مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب بابهى صوره، ولم تتوقف علاقته بولاته وعماله عند اختيارهم وإنما تتطور لتنتقل إلى طور متابعة المرؤوس وهو يؤدي عمله الذي كٌلف به للتأكد من تنفيذه المهام الموكلة إليه على الوجه المطلوب فيما يعرف بالرقابة.

اولى الله تعالى الرقابة اهتماما كبيرا لذا وردت مفردة الرقابة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي

ص: 11

تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا».

ومن هنا حظيت الرقابة باهتمام الإمام علي (عليه السلام) لأهميتها البالغة وأثرها الفعال في مكافحة الفساد لاسيما الإداري منه من جهة، ومن جهة اخرى إدامة العلاقة بينه وبين مرؤوسيه، فإذا كان اختياره لولاته يمثل الوقاية من الوقوع في الفساد، فإنه في الرقابة علاج لمن يصاب بهذا المرض الخطير.

ومن هنا فإن أهمية البحث تكمن في تقديمه عرضا لطبيعة العلاقة بين الإمام علي (عليه السلام) وبين معيته في إدارة الدولة وأثر هذه العلاقة في القضاء على مظاهر الفساد التي استشرت في مفاصل الدولة الإسلامية في عهد من سبقه، ومعالجة ما قد يظهر منها في حكومته.

ولذالك فإنَّ هدف البحث ينصب على سِرِّ نجاح الإمام علي (عليه السلام) لوقاية حكومته من الفساد الإداري وتحصين ولاته من هذا الداء الخطير.

وقد اعتمد الباحث على إجراء مسح لما بين يديه من المصادر يتعلق بجهود الإمام (عليه السلام) في مكافحة الفساد الإداري من خلال بناء علاقة سليمة مع ولاته وعماله بوصف الموظف الحكومي هو مادة الفساد الإداري. ولتحقيق الهدف فقد قُسم البحث الى:

المقدمة: وفيها التعريف بالبحث واهميته، والهدف منه، والمنهج الذي اتبعه الباحث لإنجاز هذا البحث.

مدخل: وفيه تطرق الباحث إلى تعريف الفساد، وموقف القرآن الكريم والسنة النبوية منه.

المبحث الأول: اختيار (الموظفين) الولاة والعمال، وفيه بيان لجهد الإمام علي

ص: 12

(عليه السلام) في الوقاية من الفساد من خلال وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.

المبحث الثاني: الرقابة وفيه تتبين وظيفة الإمام علي (عليه السلام) في متابعة ولاته للتأكد من تنفيذهم المهام الموكلة إليهم على الوجه المطلوب.

الخاتمة: وفيها عرض لما توصل إليه البحث

ومن الله التوفيق

ص: 13

مدخل

تعد ظاهرة الفساد من الظواهر القديمة، ويرجع قدمها إلى قدم المجتمعات الإنسانية، وقد ارتبط وجودها بوجود الأنظمة السياسية التي حكمت تلك المجتمعات، وظاهرة الفساد لا تقتصر على شعب دون آخر، كما أنها تختلف حسب بيئة المجتمع وطبيعة النظام السياسي السائد. ومع إن الأسباب الرئيسة لظهور الفساد تكاد تكون متشابهة في معظم المجتمعات إلا أن هناك اختلافاً في تفسير ظاهرة الفساد من مجتمع إلى آخر مرَدَّه إلى اختلاف الثقافات وتباين القيم مما يؤدي إلى الاختلاف في تحديد مفهوم الفساد.

تعريف الفساد

الفساد لغةً: قال الجوهري في الصحاح: «فَسَدَ الشيء يَفْسُدُ فساداً، فهو فاسدٌ، وقومٌ فَسْدى. وكذلك فَسُدَ الشيء بالضم، فهو فَسيدٌ. ولا يقال: انْفَسَدَ. وأفْسَدْتُهُ أنا. والاسْتِفْسادُ: خلاف الاستصلاح. والمَفْسَدَةُ: خلاف المصلحة»(1).

وقال صاحب لسان العرب: «الفسادُ نقيض الصلاح فَسَدَ يَفْسُدُ ويفْسِدُ وفَسُدَ فَساداً وفُسُوداً فهو فاسدٌ وفَسِيدٌ فيهما ولا يقال انْفَسَد وأَفسَدْتُه أَنا... وفَسَّدَ الشيءَ إِذا أَبَارَه»(2).

وقال الزبيدي: «فَسَدَ يُفْسُد وَيفسِدُ. وفَسُدَ... ضِدُّ صَلَحَ... والمَفْسَدةُ ضِدُّ المَصْلَحَةِ وقالوا: هذا الأَمْرُ مَفْسَدةٌ لِكَذا أَي فيه فَسادٌ»(3).

ومعنى فساد في معجم اللغة العربية المعاصرة: فَسَدَ يفسُد ويفسِد، فساداً وفسوداً فهو فاسدٌ وفسيد... فسد الرجل: جانب الصواب»(4).

وفي اللغة الانكليزية مفردة (corruption) في قاموس ( ويبستر) تعني الحث

ص: 14

على العمل الخاطئ بواسطة الرشوة أو الوسائل غير القانونية الأخرى (5). وفي قاموس المورد فإن معنى (corruption) هو يرشو، يفسد، يحرف، مرتشي، فاسد، عفن، ومحرف، وتعني فساد أخلاقي6.

الفساد اصطلاحا: قال الراغب: «الفساد خروج الشيء عن الاعتدال قليلا كان الخروج عليه أو كثيرا، ويستعمل في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة»(7). وقال المناوي: «الفساد: هو انتقاض صورة الشيء»(1). والإفساد مأخوذ من الفساد: «وهو كل ما تغير عن استقامة الحال»(9)، وإلى المعنى نفسه يذهب الطبرسي فيقول: الفساد، وهو كل ما تغير عن استقامة الحال والصلاح نقيض الفساد»(10). ويرى صاحب الفروق اللغوية أن الفساد: هو التغيير عن المقدار الذي تدعو إليه الحكمة والشاهد أنه نقيض الصلاح وهو الاستقامة على ما تدعو إليه الحكمة... وإذا قلنا ان فلان فاسد اقتضى ذلك أنه فاجر»11.

قال ابن الجوزي: «الفساد: تغيُّر عمَّا كان عليه من الصَّلاح، وقد يقال في الشيء مع قيام ذاته، ويقال فيه مع انتقاضها، ويقال فيه إذا بطل وزال، ويُذكر الفساد في الدِّين كما يذكر في الذَّات، فتارةً يكون بالعِصيان، وتارة بالكفر، ويُقال في الأقوال إذا كانت غير منتظمة، وفي الأفعال إذا لم يعتدَّ بها»(12).

يتبين مما ورد في تعريف الفساد أنه يعني الخروج عن الإستقامة، كما أنه جاء في مقابل الصلاح، وبما أن للأشياء مهماتها المرسومة لها فإن خروجها عن مهماتها تلك هو خلل أو نقص ناتج عن خروج الشيء نفسه عن وضعه المتعارف عليه (13)

القرآن الكريم يذم الفساد: ولخطورة الفساد فقد وردتْ في القرآن الكريم خمسون آية في مناسبات مختلفة تندد بالفساد وتلوم المفسدين، وتبين خطورة الفساد وعاقبته الوخيمة. كما بين الله تعالى فيها عدم محبته للفساد والفاسدين فقال: «وَإِذَا

ص: 15

تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ»14، وقال تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»(15). «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»(16). كما اخبرنا الله تعالى عن تدمير المفسدين وأعوانهم للعظة والاعتبار فقال: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ٭ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ٭ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ٭ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ٭ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ٭ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ٭ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ٭ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ٭ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»(17).

السنة النبوية تذم الفساد:

شغل موضوع الفساد حيزا كبيراً من السنة النبوية، ذلك أن أنبياء الله تعالى بعد أن دعوا الناس إلى التوحيد الخالص قاموا بإصلاح ما أفسده الناس في شؤون الحياة، فكان لنبينا (صلى الله عليه وآله) أثراً فاعلاً في تصحيح مسيرة البشرية وعلاج ما استشرى فيها من الفساد من خلال غرس القيم الاخلاقية والسلوكية بين أفراد المجتمع، ولذلك فقد تناول في أحاديثه الشريفة كل مايمت إلى الفساد بصلة، فحذر المستغلين للمال العام بالباطل ووعدهم النار فقال: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَیْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»(18)، قال ابن حجر: «قوله يتخوضون - بالمعجمتين - في مال الله بغير حق، أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل»(19)، کما حرم أخذ مال الغير من دون رضاهم فقال: «وَلَا يَحِلُّ لَأَحَدٍ

ص: 16

مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ»(20) وحرم الغش باعتباره صورة من صور الفساد فقال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ»(21).

وعندما يكون الفساد بكل أشكاله وصوره ضرر وإضرار يصيب الأفراد والمجتمعات فقد حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الضرر والاضرار فقال: «لا ضرر ولا ضرار»(22).

يشير الباحثون في ظاهرة الفساد إلى أن هناك تصنيفات عدة للظاهرة، وكما إن للفساد مستويات وأنواع وأقسام، فإن للفساد مظاهر وأوجه، ولذلك يتخذ الفساد أشكالاً مختلفة ومتعددة، ولعل من أبرزها:

الفساد الإداري:

إنّ الإهتمام بموضوع الفساد الإداري وتعدد الدراسات التي تناولته تعريفاً وتحليلاً، وشرحاً لأهم دوافعه وأسبابه والآثار المترتبة على درجة وجوده. أدّى إلى تعدد التعريفات التي سيقت لوصفه، فقد عُرّف الفساد الإداري بأنه: - «اساءة استعمال السلطة العامة او الوظيفة العامة للكسب الخاص»(23)، وفي تعريف آخر بانه: «إساءة استعمال الأدوار أو الموارد العامة للفائدة الخاصة»(24)، وذهب بعضهم إلى تعريفه بأنه: «استخدام النفوذ العام لتحقيق أرباح أو منافع خاصة ويشمل جميع أنواع رشاوى المسؤولين المحليين أو الوطنيين أو السياسيين»(25). وعرفه البنك الدولي في تقرير التنمية الصادر عام 1997 بأنه: «سوء استغلال السلطة العامة من أجل الحصول على مكاسب شخصية»(26). كما وضعت المنظمات الدولية الفساد في دائرة اهتمامها فعرفته منظمة الشفافية الدولية بأنه: «إساءة استعمال السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب خاصة»(27)، وهناك من ربط بين القيم والقواعد الأخلاقية وبين

ص: 17

الفساد بأنه: «الخروج عن القواعد الأخلاقية الصحيحة وغياب أو تغييب الضوابط التي يجب أن تحكم السلوك، ومخالفة الشروط الموضوعة للعمل وبالتالي ممارسة كل ما يتعارض مع هذه وتلك»(28).

وفي العراق فالفساد الإداري: «هو الانحراف بالسلطة الممنوحة عما قصد من إعطائها لتحقيق مكاسب غير مشروعة»(29).

ويُلاحظ أن تلك التعريفات اختصرت الفساد الإداري على إساءة استعمال (الوظيفة العامة) مما يعني أن الذي يشغل الوظيفة هو من يتحمل مسؤولية الفساد في وظيفته، وكما تعددت الآراء في تعريف الفساد، فقد تعددت تعريفات الموظف، وبقدر تعلق الأمر في موضوع الفساد فإن «مشروع (قانون مكافحة الفساد) المُعد من قبل رئاسة هيئة النزاهة الموقرة قد جاء منسجما مع أحكام الإتفاقية الدولية من خلال تحديده لمفهوم الموظف العام، إذ عرفت الفقرة (أولا) من المادة الأولى من المشروع الموظف العام بأنه: كل شخص عهد إليه وظيفة دائمة أو مؤقتة في دوائر الدولة والقطاع العام»(30).

وبالرجوع إلى القرآن الكريم نجد أن الله تعالى قد أشار في القرآن الكريم إلى الفساد الإداري الناتج عن إساءة استعمال الوظيفة العامة كما في قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» (31). ويرى القرطبي أن لفظ (تَوَلَّيْتُمْ): «هو من الولاية. قال أبو العالية: المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجُعِلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا. وقال الكلبي: أي فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم»(32).

ويعد الفساد الإداري من الظواهر التي تشكل تحديا كبيرا للدولة والمجتمع ولذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) أراد من الأُمة الإسلامية ممثلة بالدولة أن

ص: 18

تكون حصينة وأداة إصلاح حازمة لإرشاد المفسدين وردعهم امتثالاً لقول الله تعالى: «فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ» (33). واستجابة لدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله): «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يُصْلِحُونَ حِینَ يُفْسِدُ النَّاس»(34).

وخلصت بعض الدراسات إلى أنَّ الفساد: «ظاهرة سلبية تتفشى داخل الأجهزة الإدارية لها أشكال عديدة تتحدد تلك الأشكال نتيجة للثقافة السائدة في المجتمع والمنظمة والنظام القيمي وتقترن بمظاهر متنوعة كالرشوة وعلاقات القرابة والوساطة والصداقة تنشأ بفعل مسببات مختلفة هدفها الأساس وغايتها الرئيسة إحداث انحراف في المسار الصحيح للجهاز الإداري لتحقيق أهداف غير مشروعة فردية أو جماعية»(35)

«ولعل من أكبر مظاهر الفساد الإداري الشائعة حالياً في بعض المؤسسات العراقية هي، عندما يكون المسؤول الأول مشغولاً لدرجة أن يترك أمر وزارته أو جهازه الإداري في تصرف أحد موظفيه وكم من موظف أصبح في الأهمية قبل رئيسه. وهنا يبدأ الفساد الإداري في غياب المراقبة والمتابعة حتى إن العديد من القضايا المهمة التي تحتاج إلى أن يحاط المسؤول الأول بها علماً تحجب عنه ولا يعلم عنها إلا بعد وقوع كارثة أو نتيجة مساءلة للمسؤول من أعلى منه» (36).

يتضح مما سبق أن الفساد الاداري ناجم عن استغلال الموظف العام لموقع عمله وصلاحيات وظيفته للحصول على مكاسب غير مشروعة يتعذر تحقيقها بالطرق المشروعة، خروجا على النظام والقانون أو استغلالا لغيابهما. وبذلك فالموظف العام هو محور الفساد الإداري، فإن صَلح صلحت الإدارة وإن فسد

ص: 19

فسدت الإدارة، وهذا ما كان يخشاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث قال: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْاَئِمَّةَ الْمُضِلِّنَ (٭) » (37)، کما حذّر (صلى الله عليه وآله ) من أمراء السفاهة الذين لا يهتدون بهديه فقال: «أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعنهم على ظلمهم فهم مني وأنا منهم وسيردون على حوضي». كما إن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أكّدَ على التشخيص نفسه فقال: «فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ

اَلرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاًحِ اَلْوُلاَةِ»(38)، ولذلك عمل (عليه السلام) في منهجه لمحاربة بوضع جل اهتامه على الموظف (الوالي)، ومن بين أهم الركائز الأساسية لسياسته في هذا الميدان م-ا يلي: -

أولاً - اختيار (الموظفين) الولاة والعمال.

ثانياً - تنمية القيم الأخلاقية والدينية لدى (الموظفين) الولاة والعمال.

ثالث - المراقبة والمحاسبة (للموظفين) الولاة والعمال.

وعلى هذه الركائز بُنيت علاقة الإمام علي (عليه السلام) بولاته، فكانت علاقة إنسانية تقوم على وفق النظرية الإسلامية، وكان (عليه السلام) يرى أنَّ الولاة يستحقون الإهتمام والرعاية، على الرغم من أن علاقته معهم انمازت بالحزم والقوة إلاّ أنها لم تكن سلطوية.

ص: 20

المبحث الأول

اختيار (الموظفين) الولاة والعمال:

تعريف الاختيار

أولاً - في اللغة: في «خار الشيء: انتقاه واصطفاه... والخيار الاسم من الاختيار وهو طلب خير الأمرين إمّا امضاء البيع أو فسخه. وفي الحديث البيّعان بالخيار...» (39).

والاختيار: «الاصطفاء وكذلك التخيّر... اختاره من القوم: اصطفاه من بينهم. استخار استخارة: طلب الخيرة... الخيار بالكسر... الاسم من الاختيار. ومنه خیار البيع وغيره عند الفقهاء» (40).

ثانياً - اصطلاحاً: الاختيار اصطلاحاً: «هو تفضيل الشيء على غيره، وهو الإتيان بالتصرف على الوجه الذي يريد، أو ترجیح تصرف على غيره» (41).

مما تقدم فإن عملية الاختيار تتضمن المفاضلة بين الأفراد لإيجاد التوافق بين متطلبات وواجبات الوظيفة وبين مؤهلات وخصائص الشخص المتقدم لشغل الوظيفة من أجل وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. ولم يكن مثل هذا الأمر ليغيب عن ملاحظة الإمام علي (عليه السلام) فقد وضعه نصب عينيه في مواجهته للفساد، فكان (عليه السلام) يختار ولاته على وفق مناسبة الوالي للولاية، إذ لكل ولاية من ولايات الدولة الإسلامية طبيعتها التي تختلف عن غيرها من الولايات.

كان الإمام علي (عليه السلام) يؤكد على أهمية وجود الإمارة (السلطة) إذ: «لابد للناس من إمارة يعمل فيها المؤمن ويَستمع فيها الفاجر والكافر ويبلغ

ص: 21

الله فيها الأجل» (42)، وكان يسعى لإقامة (الإمرة البّرة) التي تقوم على التقوى «وجوهرها هي التي يعمل فيها التقي، حتى يستقيم العدل في البلاد وتظهر المودة بين الرعية والحاكم وينصف المظلوم فيها من الظالم»(43). كما يؤكد على خطورة (السلطة) باعتبارها أمانة يجب المحافظة عليها ويرى أنَّ التفريط بواجباتها خيانة وهو بذلك ينسجم مع قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»(44)، فثقافته (عليه السلام) لم تأت من فراغ وانما جاءت من خلال ملازمته الدائمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد وصف هذه الملازمة بأدق وصف فقال: «وَلَقَدْ كُنْتُ

أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ»(45). وكان ينهل من فيض علمه في مختلف ابوابه كما قال (عليه السلام): «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلْفَ بَابٍ، فانفتح في كل واحد منها الف باب»(46)؛ فصار باب مدينة علمه کما صرح بذلك الرسول نفسه حيث قال:

«أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب»(47)؛ فاستحق ان يكون ثاني اثنين ترکهما رسول الله وأمَرَ الأُمة من بعده بالتمسك بها: «إني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي؛ فإنَّهما لن يفترقَا حتى يرِدَا علىَّ الحوضَ»(48)، ولهذا فمنهج الإمام علي (عليه السلام) هو امتداد لمنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعلى الرغم من أهمية وجود السلطة عند الإمام علي (عليه السلام) إلاّ أنه لم ينظر إليها كمغنم، ولذلك لم يسع إليها ولم يتصارع من أجلها، ولكن السلطة سعت إليه كما جاء في قوله (عليه السلام): «فَمَا رَاعَنِي

إِلَّا وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ

وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِینَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ»، فقد زهد السلطة كما زهد الدنيا إذا هي أزهد عنده «مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ» فالسلطة عنده (عليه السلام) لم تكن هدفاً في يوم

ص: 22

من الأيام وإنما وسيلة لإصلاح المجتمع وسبباً لنهضة المسلمين.

أشار القرآن الكريم إلى معايير مهمة في اختيار الأصلح فقال تعالى على لسان ابنة شعيب: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»(49)، وجاء على لسان يوسف: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»(50)، ثلاثة معايير وردت في الآيتين الكريمتين - القوَّة، والأمانة، والمعرفة - أضاف إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسساً مهمة وواضحة لاختيار الولاة تجنبهم الوقوع بالفساد ومن بين أهم ركائز الاختيار التي يؤكد عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي: الكفاءة والقدرة والاتقان، ولم يسند وظيفة لمن يرى فيه ضعفاً عن القيام بما یُکلَّف به، يتضح ذلك في رواية أبي ذَرٍّ حيث قال: «قلت یا رَسُولَ اللهِ، ألا تَسْتَعْمِلُنِي! قال: فَضَرَبَ بيده على مَنْكِبِي، ثُمَّ قال: يا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يوم الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إلا من أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الذي عليه فيها»(51)، كما كان (صلى الله عليه وآله) يرى أن تولية الأعمال والوظائف بدافع القرابة أو المحاباة دون الالتفات إلى ما أكّدَ عليه من القدرة والكفاءة يُعَدُّ من اشد مظاهر الفساد، ومن يفعل ذلك يستوجب اللعنة من الله تعالى ومصيره الى النار کما جاء في حديثه (صلى الله عليه وآله): «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ

مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ»(52). وكان يرى (صلى الله عليه وآله) أن إسناد الأعمال والوظائف لغير أهلها تضييع للأمانة، وأن تضييع الأمانة نذیر لاقتراب الساعة، وقد جاء ذلك واضحاً في اجابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل سأل عن قيام الساعة فرد عليه رسول الله قائلاً: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ

السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: إذا أُسنِدَ الأمْرُ إلى غیر أهله،

ص: 23

فانتظر السَّاعة» (53).

ومن هذا المنطلق فإنَّ الإمام علي (عليه السلام) ومن خلال شروطه لقبول الخلافة كما جاء في قوله مخاطباً جموع المسلمين: «وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ» (54). كان (عليه السلام) يسعى للرجوع بالمجتمع إلى المنهج الذي اختطه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مع التذكير أنَّه (عليه السلام) لم يبتعد عن الإدارة بعد رسول الله، فالإمام علي (عليه السلام) وعلى الرغم من إقصائه عن الحكم فقد كان موضع استشارة الخلفاء، ولم يترك إرشاد الأُمّة وهدايتها لأنّه: «لا يجوز لحُجة أقامه رسول اللهّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك الناس في حيرة» (55)، ولذا كان (عليه السلام) یمارس وظيفته کإمام مهمته حفظ الدين والتدخل لتقويم الإنحراف متی بلغ درجة تهدد مسيرة الإسلام؛ فكان (عليه السلام) يوقِف الحاكم إذا ما تمادى في اللامسؤولية والإنحراف، والشواهد على ذلك كثيرة، وهي أكثر من أن تُحصى، ولقد كان أثره واضحاً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب فعلى سبيل المثل في ردّه على عمر عندما خاطب الناس قائلاً: «لو صرفناكم عما تعرفون إلى ما تنكرون ما کنتم صانعين؟ قال محمّد: فسكتوا، فقال ذلك ثلاثاً، فقام علي عليه السّلام فقال: یا عمر اذن كنا نستتیبك، فان تبت قبلناك قال: فان لم اتب قال: فاذن نضرب الذي فيه عيناك فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من إذا اعوججنا أقام أودنا»(56). وكان (عليه السلام) يتابع مسيرة الادارة عن كثب ويشخص الأخطاء كما يراها هو، ولا يتوانا في تقديم النصح والمشورة لعمر حتى ان عمر كان كثيراً کما يردد عبارات يُستدل منها على أهمية آراء الإمام علي (عليه السلام) في توجيه الإدارة لما يخدم الإسلام مثل: «لولا عليّ لهلك عمر»(57)، و«لا أبقاني الله لمعضلة

ص: 24

ليس لها أبو حسن»(58)، وقوله مخاطباً الإمام علّي (عليه السلام): «ما زلت کاشف کلّ کرب وموضح كلّ حکم»(59)، وقوله: «يا أبا الحسن، أنت لكلّ معضلة وشدّة تدعي»(60)، ولم يُخفِ عمر معرفته بمبلغ علم علّي (عليه السلام) فقال: «عليّ أعلم الناس بما أنزل الله على محمّد» (61)، ويبين عمر للامة أهمية الإمام عليّ (عليه السلام) فيها فيقول له على أعين الناس: «لولاك لافتضحنا»(62). فكان (عليه السلام) کما وصفه ثابت بن قیس قائلاً له: «يحتاجون اليك فيما لا يعلمون وما احتجت لأحد مع علمك»(63)، ومع ذلك فإنّ الخليفة عمر لم يأخذ بكل آراء الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في أمور مهمة منها كيفية التعامل مع مال المسلمين، وخاصة تلك التي تتعلق بتوزيع الاموال من جهة، وعلى ضرورة اختيار الاشخاص المناسبين لادارة هذه الاموال وصيانتها من جهة اخرى الأمر الذي أدّى إلى اخطاء في الادارة أقَرَّ بها عمر وأعلن عن عزمه على الرجوع إلى سنة رسول الله قائلاً: «إن عشت هذه السنة ساويت بين الناس، فلم أفضل أحمر على أسود، ولا عربياً على أعجمي، وصنعت کما صنع رسول الله وأبو بكر»(64) ولكنه لم يطل به العمر ليفي بما وعد.

وللوقوف على صعوبة المهمة التي قام بها الإمام علي (عليه السلام) بتغيير الأوضاع، والأسلوب الذي انتهجه والذي أصبح مثالاً في تأريخ الإنسانية، لا بد من الرجوع إلى الواقع الذي كان يعيشه المجتمع في ظل حكومة عثمان حيث تسلّط بني أمية على رقاب المسلمين وأموالهم ومُقَدَّراتِهم، إذ جاء عثمان ليعمل بسنة الشيخين، وعزَّزَها بتعيينه الولاة عملاً بنصيحة ابي سفيان له: «قد صارت إليك بعد تیم وعديّ، فأدِرها کالكرة، واجعل أوتادها بني أُميّة، فإنّما هو الملك، ولا أدري ماجَنّة ولا نار» (65). وكان ابو سفیان قد رأى في خلافة عثمان أنها غنيمة لبني

ص: 25

أمية فقال مخاطباً إياهم: «یا بني أُميّة! تلقّفوها تلقّف الكرة»(66)، المقولة التي ترجمها سعید بن العاص في ولايته للعراق قائلاً: «إنما السواد (٭) بستان لقریش» (67). لذلك كان صوت الإمام علي (عليه السلام) في مقدمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمُعارَضَة لسياسة الخليفة عثمان، ومیله لبني أمية، ومن خلال ماتمليه عليه إمامته (عليه السلام) كان ينبهه إلى خروجه عن النهج الذي سار عليه من سبقه من الخلفاء، لاسيما وأنه - أي عثمان - وصل الى الخلافة بتعهده على العمل (بسياسة الشيخين) (68). ولذلك فان مسيرة حكم الخليفة عثمان، وما آلت إليه الممارسات الخاطئة التي طالت مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من قبل الولاة والعمال، أمثال سعيد بن العاص وعبد الله بن عوف الزهري، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم ممن قرَّبهم عثمان إليه ومكّنهم من الوصول إلى دائرة الحكم. أدّت إلى استشراء الفساد في مفاصل الدولة، فكان سبباً في تدهور الأمور حتی نتهى الأمر إلى قتل الخليفة نفسه على يد الناقمين على ادارته.

من العرض المختصر لأحوال الإدارة في عهد الخلفاء الذين أعقبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتبين حجم التركة الثقيلة التي ورثها الإمام علي (عليه السلام)، ولذلك عندما آلت إليه الخلافة سعى إلى وضع مشروعه الإصلاحي موضع التطبيق فقد شخص العلل ورسم لها العلاج، وكان (عليه السلام) ومن خلال معايشته لإدارة الذين سبقوه قد وجد إن من بين تلك العلل وربما أهمها هو تعيين أشخاص غير مناسبين في المناصب الإدارية لذا تبنّی: «شؤون الموظّفين من ولاة وعمّال وجباة، واحتاط في أُمورهم كأشدّ ما يكون الإحتياط فلم يولّ أي أحد منهم عملا إلاّ بعد الفحص التامّ عن عدالته ونزاهته وخبرته وإخلاصه في العمل»(69)، وأقام فلسفته في الإدارة على اتخاذ الحكم وسيلة للإصلاح، فكان

ص: 26

أول إجراء اتخذه عزل العمال والولاة السابقين على الأقاليم، ومما يجب قوله أنَّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يعزل ولاة عثمان لمجرد العزل، ولكنه وجدهم سبب ما حل بالدولة من خراب، لانهم تصرفوا بالادارة على وفق اهوائهم فشاع الفساد الاداري والمالي، وقد صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث وصفهم فقال: «إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولا ومال الله نحلاً، وكتاب الله دغلا» (70). ولم يتراجع الإمام علي (عليه السلام) عن قرار العزل، رغم محاولة البعض الحؤول دون ذلك، وكان رده (عليه السلام) عليهم قائلاً: «والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ من أمري»(71). ومن الجدير بالذكر أن موضوع عزل الإمام علي لِولاة عثمان اخذ مساحة كبيرة من البحث والتحليل وقد انقسمت فيه الآراء انقساما حاداً، الخوض فيه يبعد البحث عن وجهته، غير أنه من المناسب أن نذكر على سبيل المثل رأيين لهما علاقة باختيار الولاة حيث يرى الأول: «أنَّ خير مايصلح به الأمر عزل جميع ولاة عثمان قبل أن تصل إليه بيعة الأمصار، وأن بقائهم يوما واحدا طعنا في دينه»(72). ويتفق طه حسين مع هذا الرأي فيقول: «ومهما يكن من اختلاف المؤرخين فليس من شك في ان عليا لم يكن يستطيع أن يستبقي عمال عثمان، كان دينه يمنعه من ذلك؛ لأنه طالما لام عثمان على تولية هؤلاء العمال، وطالما أنكر على هؤلاء العمال سيرتهم في الناس فلم يكن يستطيع أن يطالب بعزلهم أمس ويثبتهم على عملهم اليوم»(73). يستدل من ذلك أن الإمام علي (عليه السلام) عَدَّ السكوت على الموظف الفاسد يعني عدم حفظ الدين، وحفظ الدين عند الإمام علي (عليه السلام) أعظم المقاصد وأجل المطالب، وعزل الولاة الفاسدين يُعَدُّ أصل من أصول حفظ الدين من جانب العدم وذلك برفع الفساد الواقع أو دفع الفساد المتوقع (74)، وإصراره على عزلهم يدل على أنّه «قد أقَرَّ في نفسه ان هؤلاء العمال لايصلحون لان يلوا شيئاً

ص: 27

من أمر المسلمين وأنّ الإبقاء على واحد منهم يوما کاملا نقص في دينه» (75).

كان الإمام علي (عليه السلام) يرى أنّ الولاية ليست بستان يأخذ منها الوالي مایشاء ومتى شاء، وانما هي وظيفةٌ الولاة فيها خدّام للرعية، كما أنها ليست تشریفا لهم بقدر كونها خدمة عامة يتقاضون عليها أجراً، ويبتغون من ورائها ثواباً من الله تعالى إن هم أحسنوا عملهم. وقد كان أول تطبيق عملي لهذا المبدأ عندما ولّي الزبير بن العوّام اليمامة والبحرين وولّى طلحة اليمن «فلما دفع إليهما عهديهما قالا له: وصلتك رحم! قال: وإنما وصلتکما بولاية أمور المسلمين.. واسترد العهد منهما، فعتبا من ذلك، وقالا: آثرت علينا! فقال: لو لا ما ظهر من حرصكما لقد كان لي فيكما رأي»(76). ويُلاحظ أن تَصُّرف الإمام علي (عليه السلام) لم يكن مُرض لهما، ذلك أنهما اعتقدا أنه (عليه السلام) ولاّهما مكافأة على مبايعتهما له؛ إذ اعتادوا على مثل هذا الامر في الحكومات التي سبقت حكومة الإمام علي (عليه السلام) فعلى سبيل المثل: لم يعترض الخليفة عمر بن الخطاب على قول أبي سفيان له: «وصلتك رحم» عندما أخبره بإلحاق فلسطين إلى ولاية إبنه معاوية على الشام (77). حتى بات معاوية بن أبي سفيان الحاكم الذي لاخلاف على فساد سيرته، بل وإفساده للخلافة الإسلامية، وتحويلها إلى ملك عضوض. مع التذكير بأن عمر كان يعلم ان بني امية سيفسدون الامر إذ هو من قال للمغيرة بن شعبة: «أم والله ليعورن بنو أميَّة الإسلام، كما أعورت عینك هذه، ثمّ ليعمينه، حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجي»(78)، وهكذا فإنَّ الإمام علي (عليه السلام) قد أوصَد باباً من أبواب الفساد بقطعه الطريق أمام الزبير وطلحة من استغلال وظيفتهم لتحقيق منافع خاصة. وتأتي منظمة الشفافية الدولية (٭) بعد قرون عديدة ومن خلال دراساتها الحديثة فتؤكد ما ذهب اليه الإمام علي (عليه

ص: 28

السلام) فتُعَرِّف الفساد: «بأنّه استغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة» (79).

تكمن أهمية الوالي في فكر الإمام علي (عليه السلام) في كونه الخيط الجامع وعليه يتوقف صلاح المجتمع، كما جاء في قوله (عليه السلام): «مَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّهُ فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ الْخَرَزُ وَذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِیرِهِ أَبَداً»(80)، كما أنّهُ (عليه السلام) كان يعتبر ولاته بمثابة خلفاء له؛ فقد ورد في دعائه على اصحاب الجمل لِما فعلوه في وإليه على البصرة عثمان بن حنیف قائلاً: «اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي وعجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي»(81).

وانطلاقا من أهمية وظيفة الولاة في إصلاح المجتمع فإن الإمام علي (عليه السلام) أولى شؤون الموظّفين من ولاة وعمّال وجباة أهمية بالغة، فلم يولّ أي أحد منهم عملا إلاّ بعد التأكد التامّ من عدالته ونزاهته وخبرته وإخلاصه في العمل، معتمداً ضوابط ومعايير تعد من أهم التشريعات الوقائية لمنع الفساد؛ ذلك ان الموظف هو الركن الاساسي الذي يُرَکَّز عليه في منع الفساد، وإذا لم يتم اختيار الموظف على وفق المعايير المطلوبة سيكون أحد أهم أسباب الفساد. ويعتبر التجاوز على معايير اختيار الموظفين ب «المحسوبية والمحاباة والوساطة في التعيينات الحكومية، كقيام بعض المسؤولين بتعيين أشخاص في الوظائف العامة على أسس القرابة أو الولاء السياسي أو بهدف تعزيز نفوذهم الشخصي، وذلك على حساب الكفاءة والمساواة في الفرص»(82) ابرز اشكال الفساد الإداري في العراق في الوقت الحاضر.

معايير اختيار الولاة:

كان هدف الإمام علي (عليه السلام) من قبول الخلافة هو رد معالم الاسلام، واصلاح شؤون الناس کما بين ذلك قائلاً: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنِ الَّذِي

ص: 29

کَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلکِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِینِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَیَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَسَمِعَ وَأَجَابَ لَمْ یَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه وآله بِالصَّلَاةِ»(83).

وما أن تسلم مقاليد الحكم حتى باشر في اصلاحاته فعزل المفسدين من الولاة، ووضع معاييراً اختار بموجبها ولاة للأقاليم تقوم على موازین قاعدتها الشريعة الإسلامية، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه واله) قد اشترط خصالاً لابد ان تتوفر في من يتصدى لقيادة المجتمع لخصها في ثلاث خصال فقال: «لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم. وفي رواية أخرى حتی یکون للرعية كالأب الرحيم»(84).

ولمعرفة أهمية هذه الخصال في مكافحة الفساد لابد من الوقوف عندها:

الوَرَعُ: «التَّقْوَى والتَّحَرُّجُ والكَفُّ عن المَحَارِمِ»(85)، وتدخل التقوى في كل أمر ولذا لابد أن يكون الحاكم تقيا وقد أكَّدَ النبي (صلى الله عليه وآله) على التقوى وهو يوصي أباذر قائلاً: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا رَأْسُ أَمْرِكَ»(86). والتقوى عند الإمام علي (عليه السلام) تحرر الانسان من أسر عبودية الهوى، وتكف عنه الحسد والحقد والطمع والشهوة «.. فإن تقوى اللهَّ مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة...»(87).

الحِلْم: «الأناة والتثبت في الأمور... والحليم معناه أنه الذي لا يستخفه عصیان العصاة ولا يستفزه الغضب عليهم» (88). وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «لو كان الحلم رجلا لكان عليا» (89)، وفي وصف الحلم يقول الإمام علي:

ص: 30

«فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم»(90)، وقد عدّه الإمام زين العابدين (عليه السلام) من علامات الإيمان فقال: «علامات المؤمن خمس... الحلم عند الغضب»(91)

حسن الولاية: أي حسن إدارته لرعيته وسلامة تعامله معهم من جملته باحترام كبيرهم والرحمة بالضعيف، وتوقير العالم واعطائهم حقوقهم، والقسمة بينهم بالسوية. ومما يُلاحظ اليوم أن التعيينات العشوائية والوساطات جلبت الى السلك الوظيفي من هم غير مؤهلين لهذه المناصب لا ثقافيا ولا علميا.. أي أنه لا يستحق هذا المنصب فيصاب هذا الموظف بالغرور والتعالي على الناس وحتی في حالات كثيرة على زملائة الموظفين الذين يعملون معه، وقد تنبه الإمام علي إلى حالة الغرور فقال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَیِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ وَلَا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ وَأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ وَعَطْفاً عَلَی إِخْوَانِهِ» (92).

فضلا عما ذُكِر فالإمام علي (عليه السلام) ومن خلال تجربة إمامته في المرحلة التي أعقبت رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشترط على أن لا يكون في من يُختار للولاية واحدة من الخصال المذمومة والتي ذكرها الإمام فقال: «أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ وَلَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَلَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَلَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ وَلَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ

بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الاّمَّة» (93).

أن لا يكون بخيلاً: «البخُلُ... ضِدُّ الكَرَمِ والجُودِ وحَدُّه: إِمساكُ المُقْتَنَياتِ عَمَّا لا يَحِلُّ حَبْسُبها عنه وشَرعاً: مَنْعُ الواجِبِ»(94)، ويريد الإمام علي (عليه السلام)

ص: 31

ان يكون الوالي منزهاً من الخصال السيئة بما فيها البخل لأن من غير المعقول أنّ الوالي يأمر الناس بالصلاح واجتناب القبائح ولا ينهى نفسه، وهذا ما لا يرضاه الله تعالى حيث قال: «أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» (95). ولقد ذمَّ اللهُ البخل في آيات كثيرة لذلك لا يمكن لمن يتصف بالبخل أن يكون «واجداً لشروط الولاية والإمامة»(96). هذا من جهة ومن جهة اخرى فانه محب للمال ستكون شهوته في مال الرعية.

ولاجاهل فيُظلهم بجهله: يكفي قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الجاهلُ يظلم مَن خالطه، ويعتدي على مَن هو دونه، ويتَطاول على مَن هو فَوْقه، كلامه بغیر تدبر، إن تكلم أثِم وإن سکت سها، وإن عَرَضت فتْنة أرْدَتْه، وإن رأى فضيلة أعرض عنها»(97). في عدم تولي الجاهل.

وَلَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ: الجافي: هو الغليض الذي يكون عنصر طرد بدل ان يكون عنصر استقطاب وهذه الصفة المنفردة اشار إليها القران الكريم في قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (98) وقال رسول الله (صلى الله عليه واله): «الخُلقُ السَّيِّئُ يُفسِدُ العَملَ کما یُفسِدُ الخَلُّ العسَلَ»(99).

وَلَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ: الحائف من الحيف أي الجور والضلم، والحائف للدول اي الجائر للأموال والظالم في تقسيمها بأن لا يقسمها بالسوية بل يرجح بعضهم على بعض (100).

ولا المرتشي في الحكم: والرشوة في اللغة ما يعطى لابطال حق أو إحقاق باطل والراشي يعني المعطي للرشوة والرشوة مايعطيه الشخص لحاكم وغيره ليحكم له او يحمله على مایرید. والرشوة من المحرمات التي نهى الله تعالى عنها فقال: ««وَلاَ

ص: 32

تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (101). قال الطبرسي في تفسير ذلك: «ان لا يأكل بعظكم مال بعض بالغصب والظلم»(102)، ولدور الرشوة الكبير في الفساد فقد قيل فيها الكثير ابتغاء التحذير من الوقوع بها، ويرسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهاية من يتعاطاها فيقول «الراشي والمرتشي كلاهما بالنار» (103). ولم يقف عند الراشي والمرتشي وانما شمل الساعي بينهما فلعن «الراشي، والمرتشي، والرائش» (104)

وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّةَ: وتعطيل السنة يعني ترك ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه واله) وعدم العمل به وبالتالي سوف يصبح المنكر مقبولا، وشائعا والمعروف مغيب ومتروك؛ الأمر الذي يؤدي إلى هلاك الأمة وهذا هو حال النظم التي تحكم بإسم الاسلام ولا نجد في حكمها ما يمت إلى الاسلام بصلة فنری مفردة الفساد عندها تتردد اكثر من اية مفردة اخرى.

ومن الجدير بالذكر أنَّ الأمم المتحدة ومن خلال إتفاقيتها لمكافحة الفساد (UNCAC) والتي دخلت حيز النفاذ في 14 كانون الأول / 2005، وهي تُعد الاتفاقية الأكثر شمولاً وقوة في مكافحة الفساد على نطاق عالمي، والتي انظمت إليها جمهورية العراق بموجب القانون رقم 35 لسنة 2007 م، وفي رؤيتها لمكافحة الفساد قد حددت معايير اختيار الموظفين في المادة 7 «1 - تسعى كل دولة طرف، حيثما اقتضى الأمر ووفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، إلى اعتماد وترسيخ، وتدعيم نظم لتوظيف المستخدمين المدنيين، وغيرهم من الموظفين العموميين غير المنتخبين عند الاقتضاء، واستخدامهم واستبقائهم وترقيتهم وإحالتهم على التقاعد تتسم بأنها:

تقوم على مبادئ الكفاءة والشفافية والمعايير الموضوعية، مثل الجدارة

ص: 33

والإنصاف والأهلية» (105).

وبمقارنتها مع المعايير التي وضعها الإمام علي (عليه السلام)، وعلى الرغم من وجود الفارق الزمني الذي يزيد على اربعة عشر قرناً، سنجد أنها لم تأتِ بجديد؛ الأمر الذي يدل على رقي الفكر الإداري للإسلام والذي يمثله الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) افضل تمثيل بعد رسول الله (صلى الله علیه وآله).

إنَّ المعايير التي ذُكرت سواءاً تلك التي وضعها الإمام علي (عليه السلام) لاختيار الولاة والعمال، أو التي وضعتها نظم الإدارة الحديثة، ومؤسسات النزاهة والشفافية لاختيار الموظفين. ليست سوى الية من آليات الوقاية من الفساد، ولن تكون فاعلة إلاّ في ظل علاقة سليمة بين الرئيس والمرؤوس.

علاقة الإمام علي (عليه السلام) مع ولاته:

بينا في ماسبق حجم التركة الثقيلة من الفساد التي ورثها الإمام علي (عليه السلام)، ولعلَّ أبرز ما في هذه التركة معاوية بن أبي سفيان؛ إذ أنَّ ما وصل إليه معاوية من فساد كان نتيجة لعلاقة بين الرئيس والمرؤوس يشوبها الخلل، فقد عُرِف عن الخليفة عمر بن الخطاب شدته وصرامته مع ولاته وعماله، وتسوق المرويات الكثير من الأمثلة على ذلك، غير أنَّ ما نجده في هذه المرويات، يشير إلى وجود خصوصية لعامل دون سواه، ففي الوقت الذي يحاسب الخليفة عمر سعد بن أبي وقاص لأنه سمع أنَّ سعداً وضع باباً لداره في الكوفة يحجز عنه أصوات الناس بالسوق، وأن الناس يسمّونه قصر سعد، دعا محمد بن مسلمة وأرسله إلى الكوفة، وقال له: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك، فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطباً ثم أتي به القصر، فأحرق الباب (106)، ويكتب إلى مجاشع بن مسعود وكان قد استعمله على عمل» فبلغه أن امرأته تجدد

ص: 34

بيوتها فكتب إليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إلى مجاشع بن مسعود سلام عليك أما بعد فقد بلغني أن الخضيراء تحدث بيوتها، فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها» (107). فانه يتعامل مع معاوية بطريقة كان لها أثر مهم في إعداد معاوية للمُلك فقد أمّره على دمشق الشام طيلة مدة خلافته وكان يمتدحه ويثني عليه (108). ويوم زار الخليفة عمر الشام تلقاه معاوية في موكب عظیم فقال له عمر: «أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: مع ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن يظهر من عز السلطان ما يرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال له عمر: يا معاوية، ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقا، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلا إنه لخديعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه! فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه». (109) وهنا تبدوا محاباة عمر لمعاويه واضحة لا لبس فيها، كما كان يغرس في نفسه سلوك كسرى، فقد كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: «هذا كسرى العرب» (110)، وتباهي مرة به فقال: «تذكرون کسری وقيصر ودهائهما وعندكم معاوية» (111).

إنَّ سوقَنا لِهذا النموذج من العلاقة بين الرئيس والمرؤوس مع كونها خارج نطاق البحث إلاّ انها تعطي صورة واضحة للعلاقة التي تتمخض عن فساد اتسعت مساحته حتی استنزفت الكثير من جهد الإمام علي (عليه السلام) في حربه على الفساد، وتجاوزت عهده فوصلت بمعاوية إلى الحد الذي خاطب الأمة

ص: 35

قائلاً: «مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا، وَلَا لِتَصُومُوا، وَلَا لِتَحُجُّوا، وَلَا لِتُزَكُّوا، وَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لِأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ

لَهُ كَارِهُونَ» (112). ومن المؤكد ان ما تعانيه الامة الإسلامية اليوم هو حصاد تلك البذرة.

وتشير الدراسات الحديثة المهتمة بأسباب الفساد إلى أن العلاقة مع المسؤولين في الإدارات العليا قد تكون سببا لممارسات إدارية فاسدة تنتج عن استغلال النفوذ لهؤلاء المسؤولين والاحتماء بهم سواء أكانت العلاقة قرابة أم ارتباط مصالح أم صداقة (113).

ولذلك فإنَّ الادارة النموذجية هي التي تكون فيها العلاقة بين الموظف والمسؤول لا يستغني فيها احدهما عن الآخر؛ فالمدير يحتاج إلى الموظف لتنفيذ افكاره وتحقيقها عملياً، والموظف يحتاج إلى إدارة وتوجيه وإلى افکار ينفذها، وعلى هذا الاساس كانت تقوم علاقة الإمام علي (عليه السلام) بولاته. وقد نجحت هذه العلاقة ليس فقط في اجتثاث الفساد الموروث وإنما في مكافحته بمختلف صوره، ولا سيما الفساد الاداري الذي يعتبر الموظف هو الركن الاساسي فيه.

ولاة الإمام علي (عليه السلام):

تشير الروايات إلى أنَّ الإمام علي (عليه السلام) قد تعامل مع ولايات الدولة الإسلامية - فيما يتعلق بتعيين الولاة - بطرق تختلف باختلاف ظروف كل ولاية، وعلى وفق ما تقتضيه الحكمة وأياً كانت الطريقة فان ما يهم البحث هو اختیار الولاة، ولذلك سيتناول البحث عدد من الولاة الذين يُعتَقَد أنهم الدفعة الأولى کا وَرَدَ في المصادر: «وبعث العمال على الأمصار فبعث عثمان بن حنيف على البصرة أميرا وعمارة بن حسان بن شهاب على الكوفة وعبيد الله بن عباس على

ص: 36

اليمن وقيس بن سعد على مصر وسهل بن حنيف على الشام» (114).

وقد أحصى العمري ولاة الإمام علي (عليه السلام) ووزعهم على أساس انتمائهم قائلاً: «ولو تأملنا في انساب ولاة علي لوجدنا أحد عشر واليا منهم من الأنصار من بين ستة وثلاثين والياً، وسبعة منهم من قريش بينهم أربعة هم أولاد العباس بن عبد المطلب» (115). ومن أجل بيان الصورة التي تؤطر حكومة الإمام علي لابد من تناول عينة من ولاته الذين اختارهم لإدارة أقاليم الدولة الإسلامية، ومن خلالها سيتضح التطبيق العملي للمعايير التي وضعها الإمام علي (عليه السلام) في اختيار ولاته. ومستوى العلاقة الرفيع بينهم وبين الإمام (عليه السلام)، وأثر هذه العلاقة في التغلب على الفساد.

1 - عثمان بن حُنَيف

«عثمان بن حنیف بن واهب بن العُكَيم بن ثعلبة بن الحارث بن مَجْدعة بن عمرو بن حَنَش بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأوس هو الذي تسمى باسمه قبيلة الأوس» (116).

إنَّ نظرة فاحصة لما ورد في المصادر يمكن معرفة أهم ما يتصف به عثمان بن حنيف من مؤهلات وجدها الإمام علي (عليه السلام) کافية ليختاره والياً على واحد من أهم ولايات الدولة الإسلامية وهي البصرة، واهم ما أتصف به:

السبق إلى الإسلام: يُعدّ عثمان بن حنيف من الصحابة السابقين في الإسلام من أهل المدينة، فكان «من أعلام أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأتقيائهم، شَهِدَ أحداً والمشاهد بعدها مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».

صحبة رسول الله: «كَانَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم»(117). فقد

ص: 37

عدّه الإمام الرضا (عليه السلام) من الصحابة المقبولين، «الذين مضوا على منهاج نبيهم (صلى الله عليه وآله)، ولم يغيروا ولم يبدلوا، مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذرّ، الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن یاسر، وحذيفة بن اليماني، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل بن حنیف، (وعثمان بن حنيف، وأخويه) وعبادة بن الصامت، وأبي أيوب؛ لأنصاريّ، وخزيمة بن ثابت؛ ذي الشهادتين، وأبي سعيد؛ الخدريّ، وأمثالهم رضي الله عنهم (118). وما يؤكد قربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنَّهُ كان يروي أحاديثه (صلى الله عليه وآله) فقد «روى عنه أبو أمامة بن سهل بن حنیف» (119)؛ كما كان واحداً من اثني عشر صحابياً رفضوا خلافة أبي بكر، محتجّين بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أشار بأنّ الخلافة من بعده في أهل بيته (عليهم السلام)، وبالتحديد في علي بن أبي طالب (عليه السلام) (120). وقام معه أخوه عثمان بن حنيف فقال: «سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم، وقدموهم فهم الولاة بعدي. فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله وأي أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وآله: علي والطاهرون من ولده. وقد بين صلى الله عليه وآله: فلا تكن - يا أبابکر - أول کافر به، ولا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون»(121). وقد حَکَمَ رجال الجرح والتعديل من السنّة والشيعة بوثاقة عثمان بن حنيف، فقد «عدّه الشيخ الطوسي من رجاله»(122).

وقدْ عُدّ «من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام»(123)، ومنَ الذينَ مضَوا على منهاج نبيِّهم (صلّى الله عليه وآله)، ولم يغيِّروا ولم يبدّلوا، وشهِدَ الجمل معه، تحوّل بعد معركة الجمل للسّكن في الكوفة، وتوفّي بها»(124). وهو من شرطة الخميس(٭)، الذين قال لهم الإمام علي (عليه السلام): «تشرطوا

ص: 38

فوالله ما اشتراطكم لذهب ولا فضة وما اشتراطكم إلاّ للموت» (125). فضلا عمّا تقدم فقد كان له رأي ثاقبٌ ومعرفةٌ وتجربة، فعندما سأل الخليفة عمر المسلمين عن رجل منهم يوليه أمر الخراج وخاطبهم قائلاً: «فَمَنْ رَجُلٌ لَهُ جَزَالَةٌ وَعَقْلٌ

يَضَعُ الأَرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ؟ فَاجْتَمَعُوا لَهُ عَلَى عُثْمَانَ

بْنِ حنيف وَقَالُوا: تبعثه إلى أهل ذَلِكَ؛ فَإِنَّ لَهُ بَصَرًا وَعَقْلا وَتَجْرِبَةً؛ فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَوَلاهُ مِسَاحَةَ أَرْضِ السَّوَادِ»(126).

2- عبيد الله بن عباس

«عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي أخو عبد الله بن عباس، ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). ولد على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)» (127). ويُذكر: «إنه سمع الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صغره، وحفظه، وحدث به»(128)، وكان يُقال عنه وعن أخيه عبدالله: «كان يقدم هو وأخوه عبد الله المدينة فيوسعهم عبد الله علما، ويوسعهم عبيد الله کرما»(129)، وقد عدَّه ابن عبد ربه من أجواد الحجاز فقال: «أجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص» (130)، ومع أنه كان مشهورا بالسخاء؛ لكنه على ما يبدو لم يكن مقداماً في القتال وهذا ما يمكن ملاحظته مما جاء في مخاطبة الإمام علي (عليه السلام) له عندما ولاه اليمن فقد كتب إليه: «من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران، سلام عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه أتاني کتابکما تذكران فيه خروج هذه الخارجة وتعظمان من شأنها صغيرا، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب أفئدتكما وصغر أنفسكما وشتات رأيكما وسوء تدبير كما هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عنکما

ص: 39

نائما، وجرأ عليکما من کان عن لقائكما جبانا، فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلنا منهم، وإن حاربوا استعنا عليهم بالله ونبذناهم على سواء: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» (131) والسلام علیکما» (132). ويؤكد ذلك ما تحدث به ابو الوداك قائلاً: «كنت عند علي (عليه السلام) حين قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه وعلى عبيد الله أن لا يكونا قاتلا بسرا، فقال سعيد: والله قاتلت، ولكن ابن عباس خذلني وأبی أن يقاتل، ولقد خلوت به حين دنا منا بسر، فقلت: إن ابن عمك لا يرضى مني ولا منك إلا بالجد في قتالهم، وما نعذر، قال: لا والله، ما لنا بهم طاقة ولا يدان. فقمت في الناس، وحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت: يا أهل اليمن، من كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين فإلي إلى، فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالا ضعيفا وتفرق الناس عني، وانصرفت ووجهت إلى صاحبي فحذرته موجدة صاحبه عليه، وأمرته أن يتمسك بالحصن ويبعث إلى صاحبنا ويسأله المدد، فإنه أجمل بنا وأعذر لنا، فقال: لا طاقة لنا بمن جاءنا، وأخاف تلك»(133).

3 - قيس بن سعد:

قیس بن سعد بن عُبادة الأنصاري الخزرجي، وأبوه سعد كان زعيم الخزرج(134)، يصفه الواقدي (ت: 207 ه) فيقول: «من کرام أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأسخيائهم ودهاتهم» (135). رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه سمات التفوق والصلاح، فأدناه منه حتى قيل عنه: «إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَیْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأَمِیرِ»(136). وكان «من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو

ص: 40

مشكور، لم يبايع أبابكر» (137)، وكان من شرطة الخميس، ومن أمرائهم في الكوفة، وقد لخص قیس اخلاصه للأمام علي (عليه السلام) قائلاً له: «یا أمير المؤمنين، ما على الأرض أحد أحبّ إلينا أن يقيم فينا منك، لأنّك نجمنا الذي نهتدي به، ومفزعنا الذي نصير إليه، وإن فقدناك لتظلمن أرضنا وسماؤنا»(138).

كان الإمام علي (عليه السلام) قد ولىّ قیس بن سعد مصر «لما ظن عنده من الخير، ورجا من قصده وإيثاره الحق في أموره وتقدمه اليه في العدل والإحسان، والشدة على المريب، والرفق بالخاصة والعامة» (139). وقال في كتاب تقديم قيس إلى أهل مصر: «... وهو ممن ارضى هديه وأرجو صلاحه ونصحه...» (140) ولكن الإمام علي (عليه السلام) بلغه الكثير عن قيس بن سعد اثناء ولايته على مصر، وقد كان ذلك بفعل من معاوية وماكنة إعلامه التي سخرها للايقاع بقيس عند الإمام علي (عليه السلام)، لأهمية مصر عند معاوية من جهة، ولمكانة قيس عند الإمام علي (عليه السلام)، الامر الذي اضطر الإمام إلى عزل قيس عن الولاية؛ فوجد قيس في نفسه وكاد ان يميل عن علي (عليه السلام) ولكنه تراجع عن فكرته ولام نفسه على ماسولت به قائلاً: «والله إن هذا لقبيح أن أفارق عليا وإن عزلني، والله لألحقن به. فلحق به، وحدثه بما كان يعتمد بمصر»(141)؛ فأدرك الإمام علي (عليه السلام) أن قيس: «كان يداري أمرا عظيما بالمكيدة»(142).

إنَّ علاقة قيس بالإمام علي (عليه السلام) القائمة على الإيمان بمقدرته والثقة بعدالته هي التي وقفت بوجه محاولات معاوية للايقاع بينهما، ولذلك نجد أن الإمام علي (عليه السلام) قد حفظ لقيس موقفه الصلب في مقاومة الفساد ولم يتخلَّ عنه كقائد حتى ولاّه آذربيجان (143).

ص: 41

4 - مالك الاشتر:

هو «مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلّمة بن ربيعة بن الحارث بن جذيمة بن سعد بن مالك بن النخع من مذحج »(144)، اختاره الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لتولي إدارة مصر بدلاً من محمد بن أبي بكر، في وقت صعب كانت تمر به مصر، ولا بد أن يكون لمالك شخصية جديرة بثقة الإمام علي (عليه السلام) ليسند له هذا الأمر وقد كان كذلك، فقد قال فيه عليه السلام «كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله» (145). ويقول فيه: «فإنه من لا يُخاف وهنه ولاسقطته ولا بطؤه عما الاسراع اليه احزم، ولا إسراعه إلى مالبطْ عنه أمثل»(146)، بهذه الكلمات نوَّه أمير المؤمنين (عليه السلام) بِمَقام مالك الأشتر.

لم يُعرَف الكثير عن مالك قبل الإسلام، كما لم تُحدد المصادر التي تناولت سيرته تاريخ ميلاده واكتفت بالقول: «وُلِد قبل الإسلام بقليل.... قبل بعثة النبي بعقدين أو ما يزيد عن ذلك قليلا» (147) وأسلم على عهد رسول الله (صلى الله عليه واله) ولكن لم يُذكر متى أسلم. فهو وإن عاصر النبي لكنه لم يره أو يسمع حديثه، وقد عُدَّ من التابعين، وكان صاحب دين، وقد ذُكر عند رسول الله (صلى الله عليه واله) فقال فيه «أنه المؤمن حقّاً» (148)، کما كان من الذين قال فيهم رسول الله «عصابة من المؤمنين» الذين شهدوا موت أبي ذر الغفاري (149).

وقد شخص فيه الإمام علي (عليه السلام) هذه الخصلة عندما قال له: «فإنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأثِيمِ...»(150).

اشتهر (بالأشتر ) (٭) حتى غلب هذا اللقب على اسمه، وقد لحق به هذا اللقب جراء إصابة عينه في معركة اليرموك قرب حمص وهي المعركة التي دارت بين المسلمين والروم سنة (13 ه)، وكان قد برز إلى ماهان قائد جيش هر قل

ص: 42

«فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينه، فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر»(151). كما لقب «بكبش العراق» (152) لانه المقدم على جيش الإمام علي (عليه السلان) وحامل رايته.

لم تكن علاقته مع الإمام علي مبنية على أسس شخصية وانما كانت مبنية على أساس الأيمان الصادق برسالة الإسلام وبنبوة محمد (صلى الله عليه واله)، وهذا ما عبر عنه مالك بنفسه قائلا: «فوالله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الأرض وصي نبي سواك، وإنّا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) نبياً سواه، وإن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا» (153). وكانت علاقة متميزة فقد ثبت مع الإمام علي (عليه السلام) عندما تخاذل أصحابه عنه وفر بعضهم إلى معاوية فخاطبه حينها الإمام قائلا: «أنت من آمن الناس عندي وأنصحهم لي وأوثقهم في نفسي إن شاء الله»(154).

وقد شخص فيه الإمام علي (عليه السلام) خصالاً قلما تجتمع لغيره «كان ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته، ولا بطؤه عما الاسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل»(155).

يعزز من هذه الصفات النصح في علاقته مع الإمام فقد قال (عليه السلام) فيه بعد استشهاده: «كَانَ رَجُلاً لَنَا نَاصِحاً، وَعَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً، فَرَحِمَهُ اللهُ! فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ، وَلاَقَى حِمَامَهُ، وَنَحْنُ عَنْهُ رَاضونَ»(156)

لم يكن مالك الأشتر في معزل عن الأحداث التي عصفت بالأمة الإسلامية، فقد كان رافضاً للظلم أياً كان مصدره، وكان معارضاً لسياسة ولاة عثمان المتعسفة فكان رده بليغاً على سعيد بن العاص والي الكوفة يوم قال: «إِنّمَا السواد بستان لقريش، فَقَالَ له الأشر: أتجعل مراكز رماحنا وَمَا أفاء اللهَّ عَلَيْنَا بستانًا لَك

ص: 43

ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه»(157)، الامر الذي ترتب عليه نفي الاشتر واصحابه إلى الشام، کما کتب اليه عثمان يتوعده: «إني لأراك تضمر شيئًا لو أظهرته لحل دمك، وَمَا أظنك منتهیًا حَتَّى تصيبك قارعة لا بقيا بعدها، فَإِذَا أتاك كتابي هَذَا فسر إلى الشام لإفسادك قبلك وأنك لا تألوهم خبالًا»(158). ولذلك كان من اشد المعارضين لسياسة عثمان بن عفان وكان من قادة وفد الكوفة إلى عثمان سنة 35 ه (159)، وقد دعاه عثمان لمعرفة ما يريد الناس قائلًا له: «يَا أَشْتَرُ، مَا يُرِيدُ النَّاسُ مِنِّي؟ قَالَ: ثَلَاثٌاً، لَيْسَ لَكَ مِنْ إِحْدَاهُنَّ بُدٌّ، قَالَ: مَا هُنَّ؟ قَالَ: يُخَيِّرُونَكَ بَیْنَ أَنْ تَخْلَعَ لَهُمْ أَمَرَهُمْ فَتَقُولَ: هَذَا أَمْرُكُمْ فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ

شِئْتُمْ، وَبَیْنَ أَنْ تَقُصَّ مِنْ نَفْسِكِ، فَإِنْ أَبَيتَ هَاتَیْنِ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَاتِلُوكَ، قَالَ: أَمَا

مِنْ إِحْدَاهُنَّ بُدٌّ؟ قَالَ: لَا»(160). وانتهت الأحداث بمقتل عثمان.

وعندما أخذت الموآمرات تحاك للوقوف بوجه المشروع الإصلاحي للإمام علي (عليه السلام) فكانت بدايتها في مكة المكرمة بقيادة عائشة وطلحة والزبير؛ فنكثوا البيعة وخرجوا إلى البصرة بمن معهم من بني أمية ومَن حولهم. وكانت الأخبار تصل تباعاً إلى الإمام (عليه السلام) بما دُبِّر في مكة، ثم بخروج عائشة بمن معها.

أمَرَ الإمام (عليه السلام) بأن يُنادي في الناس بالتأهب للمسير إلى العراق. فأتاه من يعتذر إليه من الخروج، بحجة أن هذه فتنة، أو بأنهم لا يقاتلون مسلماً. ولكن كان لمالك الأشتر موقفاً يختلف عن الآخرين، إذ لما بلغه نداء الإمام علي (عليه السلام) أسرع إليه وقال له: «يا أمير المؤمنين، إنا وإن لم نكن من المهاجرين والأنصار، فإنا من التابعين بإحسان. وإن القوم وإن كانوا أولى بما سبقونا، فليسوا بأولى بما شركناهم فيه. وهذه بيعة عامة، الخارج منها طاعن مستعتب. فحُضّ

ص: 44

هؤلاء الذي يريدون التخلف عنك باللسان، فإن أبوا فأدبهم بالحبس»(161).

ومن هنا صارت مواقف الأشتر واضحةً جَليَّة المعالم؛ فأصبح جُندياً مخلصاً لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يفارقه قطٌّ ولازمه في كل معاركه، فقد تولى أمر تحشيد الناس في الكوفة بعد أن استأذن الإمام قائلا له: «فإن رأيت جُعلت فداك أن تبعثني في أثرهم فإن أهل الكوفة أحسن لي طاعة وإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم»(162). فأذِن له. وكانت مواقفه مشهودة في حرب الجمل، امّا في صفين فكادت تكون نهايتها على يديه لولا خدعة رفع المصاحف، فقد كان على (عدوة فرس) من النصر، ولكنه رضي بما رضي به أمير المؤمنين (عليه السلام) (163).

كان معاوية يحسب للاشتر حسابه. وكان يعده من اخلص أصحاب علي «فقد عده ضمن الخمسة الذين قنت عليهم وهم: علي والحسن والحسين - عليهم السلام - وعبد الله بن عباس، والاشتر ولعنهم»(164)، حتى انه قد ساءه ان سمع اخبار ارسال علي مالك الاشتر لولاية مصر، وكان معاوية يعتقد ان الاشتر لو وصل إلى مصر لم يعد لمعاوية امل في استمالتها لجانبه لذلك بذل طاقته في منعه من الوصول اليها، وقد كان له ذلك على يد رأس اهل الخراج المقيم في (القلزم (٭)) حيث بعث اليه معاوية كتابا جاء فيه: «أن عليا قد بعث بالاشتر إلى مصر وإن كفيتنيه سوغتك خراج ناحيتك ما بقيت، فاحتل في قتله بما قدرت عليه»(165).

فاحتال الدهقان «وحمل إليه طعاما دس في جملته عسلا جعل فيه سما، فلما شربه الاشتر قتله ومات من ذلك»(166)، عندها «قال عمرو بن العاص: إن لله جنوداً من عسل»(167)، وفي رواية ان معاوية هو الذي قال «إن لله جنوداً من عسل» (168)، في حين يقول ابن كثير: «فلما بلغ ذلك معاوية وعمراً وأهل الشام

ص: 45

قالوا: إن لله جنوداً من عسل»(169).

ولأهمية الاشتر فقد قال معاوية: «كان لعلي ابن ابي طالب يمينان قطعت احداهما يوم صفين - يعني عمار بن ياسر - وقطعت الأخرى اليوم - يعني مالك الاشتر»(170).

لقد صدق ابن ابي الحديد وهو يصف الاشتر: «لله أم قامت عن الأشتر، لو أن إنسانا يقسم أن الله تعإلى ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلا أستاذه (عليا) عليه السلام لما خشيت عليه الإثم»(171).

ولذلك قال فيه الإمام وهو يخاطب أصحابه: «ليت فيكم إثنين مثله، بل ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوي مثل رأيه»(172).

وقد أبَّنَه (عليه السلام) قائلا: «للهِ دَرُّ مالك! وما مالك؟! لو كان جَبَلاً لكان فِنْدا، ولو كان حجَراً لكان صَلْدا، أمَا واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالمَا، ولَيُفرِحَنّ عالمَا، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي وهل موجود كمالك»(173).

وقال (عليه السلام): «لا أرى مثله بعده أبدا» (174). ولذلك تتوقف الأقلام في مدح مالك عند مدح الإمام علياً (عليه السلام) فقد مدحه «ومَدْحُ الإمام إمام كل مَدْح، ومن تصدّى للقول بَعْدَه فقد تعرَّض للقدح» (175)

إن في ما تقدم من مشاهد سيرة مالك الاشتر يعطي صورة عن ان الرجل كان من ذوي الحزم والحسم والإعتداد بالرأي لا يتردد إطلاقاً في اتخاذ الإجراء الكامل والحاسم فيما يرى انه الصواب وما يجب ان يكون. هذه الصفات التي اهلته ليكون مرشح الإمام علي لادارة ولاية تعد الأهم بين ولايات الدولة الإسلامية، وعلى وفق منهج كان انموذجا يتعدى حدود الدولة الإسلامية لو أتيح له التطبيق.

ص: 46

5 - سهل بن حنيف

أسمه وكنيته ونسبه: هو سهل بن حنیف بن وهب بن العكيم بن ثعلبة بن مجدعة بن الحرث بن عمر بن خناس بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. ويکنی ابو سعید.

صحبته: أسلم قبل هجرة النبي (صلّى الله عليه وآله) من مكة. كان من النقباء الاثني عشر الذين اختارهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيعة العقبة الثانية، وشهد مع النبي (صلّى الله عليه وآله) مشاهده كلها» (176). وكان ممّن ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم أُحد حين انكشف الناس، وبايعه على الموت، وفي هذا الموقف قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للإمام علي (عليه السلام): «...لقد صدق معك القتال اليوم سهل بن حنيف» (177). وبعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) انضم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكما بایع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد بايع امير المؤمنين على الموت فكان من شرطة الخميس (178)، وهو ممن وصفهم الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: «الذين مضوا على منهاج نبيّهم (صلى الله عليه وآله)، ولم يغيّروا، ولم يبدّلوا مثل:... سهل بن حنیف... وأمثالهم رضي الله عنهم، ورحمة الله عليهم» (179). فقد كان من الاثني عشر رجلاً الذين وقفوا بوجه ابي بكر حينما رقى المنبر في أوّل جمعة له، فوعظوه وخوّفوه من الله سبحانه وتعالى، ودافعوا عن أحقّية الإمام علي (عليه السلام) بالخلافة حيث قال: «أشهد أنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال على المنبر: إمامكم من بعدي علي بن أبي طالب، وهو أنصح الناس لأُمّتي»(180). وولّاه أمير المؤمنين (عليه السلام) المدينة، ثم ولاه على فارس.

وفاته: تُوفي عام 38 ه بمدينة الكوفة ودُفن فيها، وقام الإمام علي (عليه السلام)

ص: 47

بتكفينه» في برد أحمر حبرة» (181). کما قام (عليه السلام) بالصلاة عليه، فعَن أَبيِ عَبدِ اللهَّ (عليه السلام) قَالَ كَبَّرَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وكَانَ بَدْرِيّاً خَمْسَ تَكْبِیرَاتٍ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً ثُمَّ وَضَعَه وكَبَّرَ عَلَيْه خَمْسَةً أُخْرَى فَصَنَعَ ذَلِكَ حَتَّى كَبَّرَ عَلَيْه خَمْساً وعِشْرِينَ تَكْبِیرَةً» (182). وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «لمّا مات جزع أمير المؤمنين (عليه السلام) جزعاً شديداً»(183).

6 - حذيفة بن اليمان:

ولاه على المدائن، ويصفه الإمام علي فيقول: «... وسأل عن المعضلات حين غفل عنها غيره فإن سألتموه عنها تجدوه عالماً بها»(184)، وقال عنه: «هو من أرضى بهداه وأرجو صلاحه»(185)

يُلاحظ مما تقدم ومن خلال الثلة التي تناولها البحث كنموذج لولاة الإمام علي (عليه السلام) أنَّ معايير اختيار الولاة في عهد الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) لا تختلف كثيراً عن تلك التي وضعتها المنظمات الدولية المهتمة بمكافحة الفساد، أو التي تشترطها الحكومات في تعيين موظفيها، إلاّ أن ما حققه الإمام علي (عليه السلام) في القضاء على الفساد، على امتداد الدولة الإسلامية، وفي الفترة الزمنية من عمر حكومته التي تعد قصيرة نسبياً بالقياس إلى مانحن فيه حيث وصل بما ورثه من فساد إلى ادنى مستوياته إن لم يكن قد انعدم وجوده وزالت آثاره إلاّ في المناطق التي لم تصل إليها حكومته (عليه السلام) في حين أنّ مستويات الفساد لدينا لم تتغير ان لم تكن في تصاعد، ولاشك أن نجاح إدارة الإمام علي (عليه السلام) يرجع إلى تطبيق معايير الاختيار بحذافيرها وإلى العلاقة السليمة المتبادلة بين الإمام علي (عليه السلام) وإدارته، في حين أن المعايير اليوم لاتتعدى حدود الورقة التي كُتِبَتْ عليها بِسبب مايشوب العلاقات الإدارية من شبهات.

الجزء الثاني: المحور الإداري والاقتصادي

ص: 48

المبحث الثاني

الرقابة

لاتنتهي علاقة الرئيس باختيار مرؤوسيه، وإنما تتطور هذه العلاقة لتنتقل إلى طور متابعة المرؤوس وهو يؤدي عمله الذي كُلِّفَ به للتأكد من تنفيذه المهام الموكلة إليه على الوجه المطلوب وهذا ما يعرف بالرقابة.

تعريف الرقابة

الرقابة في اللغة: للفظة الرقابة في اللغة معان كثيرة ذكرتها معاجم اللغة العربية ومنها:

ففي تاج العروس: «الرَّقِيبُ: الحَفِيظُ والرَّقِيبُ: المُنْتَظِرُ ورَقِيبُ القَوْمِ: الحَارِسُ وهو الذي يُشْرِفُ على مَرْقَبَةٍ لِيَحْرُسَهُمْ والرَّقِيبُ: الحَارِسُ الحَافِظُ... ورَقَبَ الشَّيْءَ يَرْقُبُه: حَرَسَه كَرَاقَبَه مُرَاقَبَةً ورِقَاباً... »(186).

وفي لسان العرب: «رقب في أسماء الله تعالى: الرقيب: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وفي الحديث: ارقبوا محمدا في أهل بيته، أي أحفظوه فيهم»(187).

أما في الاصطلاح: «فتعني عملية التحقق من مدى انجاز الأهداف المرجوة، والكشف عن الصعوبات في تحقيق هذه الأهداف، والعمل على إزالتها في أقصر وقت ممكن»(188). لا يخفى على أحد ما للرقابة من أهمية في سير الأعمال، وحسن تأدية العمال لواجبهم، والرقابة الواعية المنضبطة تحقق العديد من الأهداف التي رسمت لها ومنها: حماية العمال والولاة من الانزلاق في خيانة الأمانة وأكل المال العام.

والرقابة في الشرع : هي القواعد المستنبطة من الشريعة الإسلامية، والتي تستخدم لمحاسبة المرء في عمله، سواء تعلق الأمر بدينه أو دنياه. وقد ميز

ص: 49

المختصون بين اربعة أنواع من الرقابة هي: رقابة علوية من الله تعالى على البشر، ورقابة ذاتية وهي رقابة الإنسان على ذاته وعلى تصرفاته وعلى سلوكه، ورقابة إدارية من الرئيس على المرؤوس، ومن الراعي على الرعية، ورقابة شعبية من الأفراد على الرؤساء وعلى غيرهم من الأفراد (189).

حفلت المصادر بالكثير من النصوص التي تشير إلى ممارسة الإمام علي (عليه السلام) الرقابة على ولاته وعماله، وقد كان (عليه السلام) حريصاً على تتبع أخبارهم، واستكشاف أمورهم، وبقدر حرصه ذاك كان حريصاً على أن تكون هذه الأخبار دقيقة وصادقة، بعيدة عن الوشاية والكيد، ولذلك كان يختار عيونه (٭) ممن يثق بهم. ولم تكن الرقابة عند الإمام علي (عليه السلام) الغرض منها التنكيل بالولاة، وإنما كان الغرض منها تحصينهم ووقايتهم من الوقوع في الخطأ الذي يؤدي إلى ضياع حقوق الأفراد والمجتمع، ومن ثم الإنحراف بالأمة عن مسارها الصحيح الذي أراده لها الإسلام.

نقل الإمام علي (عليه السلام) مقر إدارته إلى الكوفة فصارت عاصمة لدولة تمتد على رقعة جغرافية مترامية الاطراف ترتبط اقاليمها المتباعدة بطرق للقوافل قد لا تكون سالكة في بعض الأحيان، وهذا يعني إن إدارة أي إقليم من أقاليم الدولة ستكون خاضعة لسلطة الوالي كلياً، وتكاد تكون سلطته شبه مطلقة، والسلطة المطلقة تقود إلى فساد مطلق، كما يقول اللورد أمريش أكتون (٭) (1834 م - 1902 م): «إذ القوة تميل إلى الفساد، السلطة المطلقة تفسد على الإطلاق» (190). وكان الإمام علي (عليه السلام) قد سبق أمريش بقرون عديدة وتنبه لهذا الأمر فاتخذ من الإجراءات مايمنع التفرد بالسلطة ويأتي في مقدمتها الفصل بين السلطات، فاعتمد (عليه السلام) مبدأ توزيع السلطات وتحديد الصلاحيات

ص: 50

ويكون بذلك قد سبق مونتسيكيو (٭) بقرون عديدة، وقد كانت فلسفته (عليه السلام) في هذا الميدان تقوم على عدم حصر السلطات بيد شخص واحد حتى وإن كان يتمتع بالكفاءة والمقدرة على ذلك، فقد «أمّر ابن عباس على البصرة، وولى زياداً الخراج وبيت المال، وامر أبن عباس أن يسمع منه» (191) كما عین أبا الأسود الدؤلي على القضاء(192).

ويعد الفصل بين السلطات واحدا من أهم آليات مكافحة الفساد إذ أن «التنافس السياسي الذي يؤدي إلى عدم الالتزام بمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية في النظام السياسي وطغيان الأحزاب والإرهاب وضعف الجهاز القضائي، مما يؤدي إلى الإخلال بمبدأ الرقابة المتبادلة على السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية» (193) مما يؤدي إلى تفشي الفساد، وهذا ما يجري في العراق في الوقت الحاضر.

كما أنّ الوالي في مثل هذه الحالة لاتوجد عليه رقابة مباشرة ولا من وسيلة تحد من صلاحياته إلاّ ما يمليه عليه ضميره، وتؤكد الدراسات الحديثة على أن: «المدخل الأهم والأكثر فاعلية في منظومة حماية النزاهة ومكافحة الفساد يأتي من خلال الإعتماد على عملية تقويم أداء تعتمد مؤشرات علمية مستمرة خلال السنة، ومراقبة ومتابعة مدى تحقيق المنظمة الحكومية لأهدافها بكفاءة»(194). ولذلك كان الإمام علي (عليه السلام) سبّاقا إلى إيجاد آليات مراقبة دائمة ومتابعة جادة تَحِدُّ من سلطة الولاة وتُضَيّق فُرصة وقوعهم في دائرة الفساد من خلال ما يعرف بالرقابة. فأنشأ الإمام علي (عليه السلام) نظاماً رقابياً فعالاً تمكّن من خلاله الإشراف ومتابعة الممارسات التي تتم من قبل الولاة والعمال العاملين في حكومته.

إنَّ نجاح الإمام علي (عليه السلام) في بناء علاقة سليمة مع مرؤوسيه -

ص: 51

ولاته وعماله - إنما يرجع إلى المنهج الذي اعتمده (عليه السلام) والذي يقوم على قاعدة (القدوة) «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ»(195).

وكما ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدوة امَرَ اللهُ المسلمين أن يقتدوا به حيث قال تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» (196). فإنَّ الإمام علي (عليه السلام) وهو الامتداد الطبيعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جعل من نفسه أُسوة حسنة حيث يبدأ بنفسه قبل غيره قولاً يلازمه عمل فهو القائل «من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم»(197). كما قال (عليه السلام): «من نصح نفسه كان جديراً بنصح غيره»(198)، وبذلك لم يُبقِ حجة لأحد فأن يعترض على إرشاد أو يتهرب من توجيه، ذلك أن النصح من وجهة نظر الإمام علي (عليه السلام) يقوي العلاقة ويزيد من وشائج الإرتباط لأن «النُصحُ يُثمِرُ المَحَبَّةَ»(199).

وللوقوف على جهود الإمام علي (عليه السلام) في إدامة العلاقة بينه وبين ولاته للحيلولة من دون وقوعهم في مطبات الفساد، من خلال منهجه الرقابي سيتناول البحث ثلاثة أنواع من الرقابة مارسها الإمام علي (عليه السلام) على ولاته هي: الرقابة الذاتية، والرقابة الإدارية (الخارجية)، والرقابة الشعبية.

الرقابة الذاتية: من خصائص الإسلام أنه يربي مبدأ المراقبة الله تعالى في نفس المسلم؛ فالمسلم رقيب على نفسه من خلال إيمانه بأن الله تعالى رقيب على كل لحظات العبد وسكناته؛ وهو تعالى عالم الغيب والشهادة، ذلك أنَّ «المراقبة دوام علم العبد وتيقّنه باطّلاع الحقّ سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه»(200). وقد

ص: 52

سعى الإسلام لتقوية الرقابة الذاتية لدى الإنسان المسلم، والرقابة الذاتية من أقوى ما يمكن أن يشكل ضمانةً لعدم الوقوع في الفساد، وبذلك يوصي الإمام علي (عليه السلام) فيقول: «اجعل من نفسك على نفسك رقيباً واجعل لآخرتك من دنياك نصيبا» (201). ولذلك يمكن تعريف الرقابة الذاتية بأنها: «إحساس داخلي للموظف منشأه الإيمان الذي لايخامره شك بأن الله جلّت قدرته يرى جميع تصرفاته الصغيرة والكبيرة والخفية والمعلنة وأنه محاسب عليها» (202). ولذلك يسعى المسلم لأن تتطابق أعماله في السر والعلن حتى يكون قد أخلص العبادة لله تعالى كما يراه الإمام علي (عليه السلام) «وَمَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ وَفِعْلُهُ

وَمَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَأَخْلَصَ الْعِبَادَةَ»(203). وإلى المعنى نفسه يذهب الإمام علي (عليه السلام) في قوله: «وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ وَيُكْرَهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ وَيُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَاحْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ أَوْ اعْتَذَرَ» (204).

فالرقابة الذاتية هي إحدى القيم الإسلامية التي يستند إليها المسلم في سلوكه ولاتعدو أن تكون تذكيراً بما أنزل الله تعالى في تنبيه المسلم على وجود الله تعالى رقيباً لا يغفل عن عباده كما في قوله تعالى: ««يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»» (205)، وقال تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(206)، كما قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (207)، كذلك يحذرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة فيقول: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ

ص: 53

مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ»(208). وإلى نفس المضمون يشير الإمام علي (عليه السلام) فيقول: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَی يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ

الصَّغِیرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَالْكَبِیرَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالْمَسْتُورَةِ» (209).

مما تقدم فإنَّ الرقابة الذاتية التي سعى الإمام علي (عليه السلام) إلى غرسها وتنميتها في نفوس ولاته أراد أن يقول لهم فيها: «خف الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها فقد جعلته في حد أهون الناظرين إليك»(210)، ليُؤكد في مشروعه الرقابي على تنمية الرقابة الذاتية لدى ولاته وعماله، وذلك لأن المنهج الإسلامي يعتمد العمل من داخل النفس الإنسانية لامن خارجها، ومع أنه كان «لا يخص بالولايات إلاّ أهل الديانات والأمانات»(211)، فإنه يحرص على تعزيز الوازع الديني لديهم ولهذا جاءت توجيهاته (عليه السلام) وإرشاداته إلى ولاته لتجعل من الشخص رقيباً على نفسه، وقد تضمنت كتبه ورسائله في هذا الجانب امثلة كثيرة منها: ما كتبه إلى شريح القاضي وقد بلغه أنه اشتری داراً فبعث إليه وعاتبه على مافعل قائلاً: «يَا شُرَيْحُ: أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ وَلَا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً وَيُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً»(212)، وبعد أن ذكره بالموت حذّره أن يكون اشترى الدار بغير ماله وبين له جزاء ذلك «فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَیْرِ مَالِكَ أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَیْرِ حَلَالِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الْآخِرَةِ»(213).

وفي كتابه (عليه السلام) إلى الأشعث بن قيس عامله على أذر بيجان يقول فيه: «وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَأَنْتَ مُسْتُرْعًى لِمَنْ

ص: 54

فَوْقَكَ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ وَلَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ وَفِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ وَلَعَلِّي أَلَّا أَكُونَ شَرَّ وُلَاتِكَ لَكَ وَالسَّلَامُ» (214). بين الإمام (عليه السلام ) للاشعث ان مافي يده من عمل ليس بمأكلة له كما اعتاد على ذلك عمال عثمان، وإنما هو امانة في عنقك، ثم يرسم له حدود صلاحياته فيشعره بوجود مسؤول عنه لا يجيز له التصرف بالمال الذي لديه دون معرفته وإذن منه، ومع حصول الإذن لابد من التوثيق، وبذلك يكون (عليه السلام) قد سد منفذاً مهماً من منافذ الفساد، باعتبار أن المال هو احد العوامل التي تؤدي إلى فساد وانهيار الحكومات، ويؤكد على التوثيق لما له من أهمية في الحد من الفساد، إذ تعتبره الدراسات الحديثة المهتمة بالفساد في العراق واحداً من نقاط ضعف الحكومة في مكافحة الفساد فاشارت إلى أن مايتيح العمل لممارسة الفساد هو: «غياب قواعد العمل والاجراءات المكتوبة، ومدونات السلوك للموظفين في قطاعات العمل العام والأهلي والخاص»(215)، ثم يعود ليشد من اواصر العلاقة معه فيطيب خاطره بعد ان اشعره انه يشك في امانته (216).

ولهوى النفس في فكر الإمام علي (عليه السلام) أهمية كبيرة في مشروعه الرامي إلى مكافحة الفساد، فهو الجهاد الأكبر كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه»(217)، ولذلك كان الكثير من كتبه إلى ولاته تتضمن النصيحة بردع النفس عن هواها، كما في عهده (عليه السلام) لمحمد بن أبي بكر يوم ولاه مصر بعد أن بين له اسلوب إدارته لاهل مصر (218). راح يفيض عليه من وافر تقواه ليعزز عنده الوازع الديني في أربع توصيات مهمة هي بمثابة آليات لسد منافذ الفساد الإداري لا في ولاية مصر فحسب وإنما يمكن ان تكون قواعد لمحاربة الفساد تصلح لكل مكان وفي كل

ص: 55

زمان، وما أحوجنا اليها ونحن نعيش أزمة نزاهة، قائلاً له: « وَاعْلَمْ - يَا مُحَمَّدُ بْنَ أَبِي بَكْر - أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِيِ أَهْلَ مِصْرَ» مبيناً له اهمية مصر ومقام اهلها في نفسه (عليه السلام) وفي نفس الوقت يعبر له عن مستوى العلاقة الرفيع بينهما واهميته عنده فاختاره لهذه الولاية المهمة، ثم يبدأ بإرشاده: «فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ»، يوصيه بمخالفة هوى نفسه،، ومع ان جهاد النفس واجب على الجميع إلاّ انه اشدُّ لزوماً على الولاة ومن بيدهم الأمر؛ فلو سيطرت عليهم الأهواء والشهوات فإنَّ ذلك من شأنه إشاعة الفساد في ولاياتهم. وبالمعنى نفسه كتب (عليه السلام) إلى الأسود بن قطبة «فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِراً مِنَ الْعَدْلِ»(219).

ويرى الإمام علي (عليه السلام) أن القضاء على الفساد منوط باستقامة العدل الذي به تُقَرُّ عين الولاة وُكسَب ود الرعية: «وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیْنِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلَادِ وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ وإِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ وَلَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ»(220). فالإمام علي (عليه السلام) يؤكد على سلامة الصدور وهذه الخاصية لاتتحقق إلاّ من خلال ترويض النفس على التقوى، وإلى نفس الغاية يوجه عامله على حلوان: «... فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ

أَمْثَالَهُ، وَابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيَما افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكَ، رَاجِياً ثوَابَهُ، وَمُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ»(221).

وفي كتابه (عَلَيْهِ السلام) إلى مالك بن كعب الأرحبي وقد ولاه معونة البهقباذات من النصح الجميل ما ينمي عنده الرقابة الذاتي: «فآثر طاعة الله، واعلم أن الدُّنْيَا فانية، والآخرة آتية واعمل صالحا تجز خيرا، فإن عمل ابن آدم محفوظ علَيْهِ وإنه مجزي بِهِ، فعل الله بنا وبك خيرا»(222).

ص: 56

ويؤكد الإمام علي (عليه السلام) على أهمية الدين في تقويم النفس البشرية، فهو لم يفتأ يحث ولاته على التمسك بالقرآن، فالقرآن «يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (223). والمسلم إذا تدبر ماورد في القرآن من أوامر ونواهي وعمل بها فإن نفسه تسمو، وتترفع عن رذائل الأخلاق ودنس النفوس. ولذلك تضمّن الكثير من كتبه (عليه السلام) دعوة ولاته للتمسك بالقرآن فقد جاء في كتابه إلى الحارث الحمراني: «وَتَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ وَاسْتَنْصِحْهُ وَأَحِلَّ حَلَالَهُ وَحَرِّمْ حَرَامَهُ وَصَدِّقْ

بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ وَاعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً وَآخِرَهَا لَاحِقٌ بِأَوَّلِهَا وَكُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ»(224).

كما إنَّ الإمام علي (عليه السلام) يُدرِك أنَّ للصلاة أثراً كبيراً في تزكية النفس والسمو بها عن الوقوع في المعاصي والمنكرات، فقد بين الله تعالى أن الصلاة تطهر النفس من الباطل وتحصنها من الفساد بكل أنواعه فقال: «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» (225). كما بين النبي (صلى الله عليه وآله) أثر الصلاة في تزكية النفس وإصلاحها، فعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: «كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوَ غيرَ ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود»(226)، فالنبي (صلى الله عليه وآله) يشير إلى أن الصلاة تهذِّب النفس وتعين ع-لى إصلاحها. وفي كتابه إلى محمد بن أبي بكر يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على موضوع الصلاة فيقول: «صَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا الْمُوَقَّتِ لَهَا، وَلاَ تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغ، وَلاَ تُؤْخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لاشْتِغَال، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْء مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلاَتِكَ»(227). ويأتي تأكيد الإمام علي (عليه السلام) على الصلاة

ص: 57

لأنها (تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاء) وما الفساد إلاّ صورة من صور الفحشاء.

لقد تنبه الكثير من الدول إلى أهمية الرقابة الذاتية فاتجهوا إلى إنشاء ميثاق لأخلاق العمل، وقد أكدت دراسة صادرة عن الأمم المتحدة أن وجود ميثاق لأخلاق العمل يعد من الوسائل الوقائية المهمة لمحاربة الفساد في الدول النامية (228). ولاشك أنّ ما يحصل اليوم من اختلاس للمال العام بأرقام تفوق الوصف، رغم وجود الرقابة بكل أنواعها وأدواتها المتطورة، يُؤكد على أهمية الرقابة الذاتية، وأنها أنجع أنواع الرقابة للوقوف بوجه الفساد بكل أشكاله، وهذا ماتؤكده الدراسات الحديثة، حيث ترى: «أنّ وجود الرقابة وأدواتها، والإجراءات الرقابية لاتعدو أن تكون من وسائل العلاج وبما أنّ درهم وقاية خير من قنطار علاج، فإنَّ الإعداد الأخلاقي للموظفين يعتبر من أهم وسائل الوقاية في هذه الجوانب»(229). وهذا ماحرص عليه الإمام علي (عليه السلام)، فإنَّ الرقابة الذاتية التي سعى إلى غرسها وتنميتها في نفوس ولاته، هي تعزيز علاقة العبد بربه تعالى، وتحفيز الإرادة الخيِّرة في الناس، وأراد أن يقول لهم فيها: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»(230).

الرقابة الرئاسية (الرقابة الخارجية)

مع أهمية الرقابة الذاتية فإن كثيراً من النفوس تحتاج إلى رادع خارجي، «فقد يخون الأمين ويغش الناصح»(231)، ويتمثل هذا الرادع بالرقابة الرئاسية، وتعني الرقابة الخارجية، وقد أولى الإمام علي (عليه السلام) هذا النوع من الرقابة أهمية لا تقل عن أهمية الرقابة الذاتية باعتبارها تعكس الإهتمام بسلامة الأداء. فأخضع ولاته لرقابة صارمة معتمداً أسلوب التفتيش الأداري السليم والدقيق بأن يرسل أشخاصاً تتخفى في المجتمع وتراقب الوالي عن كتب وترصد كيفية إدارته لمهمته

ص: 58

وفي الوقت نفسه تستقطب الآراء وتعمل على جمع المعلومات الدقيقة وتقدمها للإمام علي (عليه السلام). ولذلك نجد في معظم كتبه إلى ولاته ترد لفظة (بلغني)، كما كان (عليه السلام) يأمر ولاته بمراقبة عمالهم، فقد كتب للأشتر النخعي حين ولاه على مصر، يأمره بالاهتمام بالرقابة على عمل (الموظفين): «ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم جدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية».

والمراقبة عند الإمام علي (عليه السلام) لاتقف عند التوجيه والإرشاد فقط وإنما تلازمها المتابعة، فهو عندما يُصدر أمراً إلى ولاته ينتظر منهم الرد على تنفيذ الأمر وما ترتب عليه كما هو الحال في أمر أصدره بنسخة واحدة إلى جميع ولاته وعماله يتعلق بخروج الخوارج ومما جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم - من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من العمّال: أمّا بعد فإنّ رجالاً لنا عندهم بيعة خرجوا هرباً فنظنّهم وجّهوا نحو بلاد البصرة، فاسأل عنهم أهل بلادك، واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك، ثم اكتب إليّ بما ينتهي إليك عنهم، والسلام» (232). والإمام علي (عليه السلام) يرى أنّ عدم المتابعة يؤدي إلى فساد الأمور، ولذلك يؤكد على ولاته بوجوب المتابعة «يجب على الوالي أن يتعهد، أموره، ويتفقد أعوانه، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسئ، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك أعوانه تهاون المحسن واجترأ المسئ، وفسد الأمر» (233).

فالإمام علي (عليه السلام) وبعد أن أحسن اختيار ولاته وعماله، وعزز في نفوسهم الرقابة الذاتية، راح يتابع أعمالهم، ويحاسبهم، ويعاقبهم إن اقتضى الأمر باللوم أو بالتوبيخ، أو بالعزل أحياناً، فقد حفلت المصادر بالكثير من النصوص

ص: 59

التي يشير فيها أو يؤكد فيها الإمام علي (عليه السلام) الرقابة على العمال، وقد جاءت على شكل كتب ورسائل تُعد من أهم الوسائل التي تعبر عن صورة من صور العلاقة بين الإمام علي (عليه السلام) وبين ولاته على الأقاليم والتي كان لها الأثر الكبير في تقويم سلوكهم، وقد كان فيها ناصحاً تارة وموجها تارة أخرى، أو محذراً من ارتكاب خطأ، مما كان لها أكبر الأثر في معالجة الفساد، أو الحد من الوقوع فيه، لأن هذه الكتب والرسائل كانت بمثابة الرقابة الدائمة خاصة إذا ماجاءت بصيغة التحذير أو النهي كرد على فعل ارتكبه الوالي نفسه، ثم هي تعزز الوقاية من الفساد إذا ما جاءت بصيغة النصح والإرشاد، وبقدر ما كانت كتبه (عليه السلام) إلى ولاته تعبر عن علاقة المعلم بتلميذه فإنها كانت وسيلة فعالة لمكافحة الفساد وقطع طريقه أمام الولاة، ومن بين كتبه الأرشادية إلى ولاته في هذا الميدان من ميادين علاقته بهم كنماذج على سبيل المثل لا الحصر:

من كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله: يبين له فيه طبيعة علاقته به وأهميته عنده «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ» ثم يبدأبتوجيهه في عمله «فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا

أَهَّمَكَ وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّینِ وَارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِینَ لَا تُغْنِي عَنْكَ إِلَّا الشِّدَّةُ وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَأَلِنْ

لَهُمْ جَانِبَكَ وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْإِشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ

فِي حَيْفِكَ وَلَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَالسَّلَامُ» (234).

وفي كتابه (عليه السلام) إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان يرشده إلى اتباع العدل في معاملة الرعية والتجرد عن الهوى فيقول: «فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِراً مِنَ الْعَدْلِ فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِنَّهُ لَيْسَ

ص: 60

فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ وَابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ

عَلَيْكَ رَاجِياً ثَوَابَهُ وَمُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ

أَبَداً وَمِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ وَالِاحْتِسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ فَإِنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِكَ وَالسَّلَامُ» (235).

وأحضر الإمام (عليه السلام) الأشعث بن قيس، وكان عثمان استعمله على آذربيجان، فأصاب مائة ألف درهم، فبعض يقول: أقطعه عثمان إيّاها، وبعض يقول: أصابها الأشعث في عمله. فأمره علي (عليه السلام) بإحضارها فدافعه، وقال: يا أمير المؤمنين، لم أُصبها في عملك. قال: والله لئن أنت لم تحضرها بيت مال المسلمين، لأضربك بسيفي هذا أصاب منك ما أصاب. فأحضرها وأخذها منه وصيّرها في بيت مال المسلمين، وتتبّع عمّال عثمان، فأخذ منهم كلّ ما أصابه قائماً في أيديهم، وضمّنهم ما أتلفوا (236). وهذا الموقف يكشف عن جانب من الجوانب المهمة في إدارة الإمام علي (عليه السلام) هو قوة الإرادة. وفي هذا الاتجاه فقد شخصت الدراسات الحديثة ان من بين نقاط فشل الحكومات في مكافحة الفساد هو «ضعف الإرادة لدى القيادة السياسية لمكافحة الفساد، وذلك بعدم اتخاذ أية إجراءات وقائية أو عقابية جادة بحق عناصر الفساد بسبب انغماسها نفسها أو بعض أطرافها في الفساد» (237).

ففي كتاب له (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه عامله على فارس وقد بلغه تواطؤه لاختلاس جزءاً من أموال الخراج ضمن ولايته: «أما بعد فإن رسولي أخبرني بعجب زعم أنك قلت له فيما بينك وبينه أن الاكراد هاجت بك فكسرت عليك كثيرا من الخراج، وقلت له: لا تعلم بذلك أمير المؤمنين، یا زیاد وأقسم

ص: 61

بالله إنك لكاذب، ولئن لم تبعث بخراجك لاشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا»(238).

مايلفت الانتباه في هذه الرسالة هو الشدة والصرامة التي بدت على موقف الإمام علي (عليه السلام) مما يدل على فداحة ما قام به زیاد من محاولة لاختلاس المال العام، فضلا عن كونه خيانة الأمانة وظيفته، فهو دخول في نفق الفساد المالي، الذي لو نجح زياد في تحقيقة لفتح أبواباً ليس من السهل إغلاقها، ولذلك انتفض الإمام علي (عليه السلام) هذه الانتفاضة التي اسفرت عن تهدید بانزال اقصى العقوبات بزیاد دون ان يلتفت لاهمية زياد في الصراع مع معاوية، فبين له ما سيحل به لو ثبت ما نقل عنه سيجعل منه: (قَلِيلَ الْوَفْرِ) اي قليل المال مما يعني أنك ستعيش الفقر. و(ثَقِيلَ الظَّهْرِ) سيء السمعة لايأتمنك أحد على ماله. و(ضَئِيلَ الْأَمْرِ) أي حقيراً، وميناً، وذليلاً. هكذا تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع محاولة اختلاس لم تستكمل، فكيف الحال والغلبة الغالبة من ولاة الإدارة تعيث نهبا في المال العام دونما رادع على الرغم من وجود قوانين تتشدد بالمحاسبة على مثل هذه الجريمة (239). فالقوانين لم تجد من ينفذها كما هو الحال مع الإمام علي (عليه السلام) الذي يتبع فعله قوله.

کما يلفت الانتباه أيظاً في هذه الرسالة ما يشير الى قوة الجهد الاستخباري واخلاصه في العمل، ورفضه لمغريات المال مما يدل على المستوى التنظيمي ألعالي له من جهة، ونوع العلاقة بين الإمام علي (عليه السلام) وجهازه الاداري.

ويبدو أنه (عليه السلام) اُحيط علماً بما يقوم به زیاد من انفاق غير معقول فكتب له: «فَدَعِ الْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً وَاذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً وَأَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ وَقَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ أَ تَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِینَ

ص: 62

وَأَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَتَطْمَعُ - وَأَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ تَمْنَعُهُ الضَّعِيفَ وَالْأَرْمَلَةَ - أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِینَ وَإِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا سَلَفَ وَقَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ وَالسَّلَامُ» (240).

ومن كتاب له عليه السلام إلى المنذر بن الجارود العبدي بعد أن تأكدت له خيانته في بعض ما ولاه من أعماله، وكان على ما يبدو أنه (عليه السلام) قد اختاره لانه سليل عائلة تمتاز بالصلاح: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وَظَنَنْتُ

أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَتَسْلُكُ سَبِيلَهُ» ولكنه (عليه السلام) اكتشف من خلال مراقبته انه ضعيف أمام هوى نفسه منقاداً لرغباتها «فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لَهِوَاكَ انْقِيَاداً وَلَد تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وَتَصِلُ عَشِیرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ»، فم راح يضعه أمام حقيقة نفسه ويأمره بالقدوم إليه «وَلَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ نَعْلِكَ خَیْرٌ مِنْكَ، وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِینَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ الله» (241).

وفي كتابه إلى أحد عماله يتبين أهمية المراقبة على الولاة، وحسن أداء العيون المكلفين بالمراقبة في منع استشراء الفساد «أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ»، ومن خلال سرعة وفاعلية معالجة الإمام علي (عليه السلام)، والتي قامت هنا على التنبيه وتقويم الاخلاق «إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ وَأَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ»، ثم بيان طبيعة الفساد الذي ارتكبه «بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ اَلْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تحْتَ قَدَمَيْكَ وَأَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ»، ولم يتوقف عند هذا الحد وانما طالبه برفع حسابه وتسلیم مابذمته، وذكره بأنّ حساب الله أعظم من اي حساب «فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ وَاِعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اَللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ اَلنَّاسِ وَاَلسَّلاَمُ» (242).

ص: 63

وكان أشدُّ ما يُغضب الإمام علي (عليه السلام) من تصرفات ولاته هو تجاوزهم على المال العام واستغلاله لمنافعهم الخاصة ففي كتاب له (عليه السلام) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني وهو عامله على أردشير خرة (243): «بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ وَعَصَيْتَ إِمَامَكَ أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْءَ اَلْمُسْلِمِينَ اَلَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَخُيُولُهُمْ وَأُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ فِيمَنِ اِعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ

فَوَالَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً وَلَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً فَلاَ تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ وَلاَ تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ فَتَكُونَ مِنَ

اَلْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً أَلاَ وَإِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَقِبَلَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هَذَا اَلْفَيْءِ سَوَاءٌ يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَيَصْدُرُونَ عَنْهُ». وهذا يعني استغلال السلطة لمحاباة قومه وإيثارهم على غيرهم من غير وجه حق، وهذه الممارسة هي صورة من صور الفساد الاداري، ولهذا فإن الإمام يقسم متشدداً إن كان ما بلغه صحيحا، وهذا لا يعني التشكيك ب (عيونه) وانما هي سياسة الإمام (عليه السلام) في علاقته مع ولاته القائمة على معالجة الخطأ بالإصلاح فإن عالج الأمر وأثبت براءته وإلا فالعقوبة، والفيء عند الإمام علي (عليه السلام) ليس لأحد دون الآخر وإنما هو للمسلمين بالسوية.

وكتب عَلَيْهِ السلام إلى قدامة بن عجلان عامله عَلَى كسكر: أما بعد فاحمل ما قبلك من مال الله فإنه فيء للمسلمين، لست بأوفر حظا فيه من رجل فيهم ولا تحسبنّ یا بن أم قدامة أن مال کسکر مباح لك كال ورثته عَن أبيك وأمك، فعجل حمله وأعجل فِي الإقبال إلينا إن شاء الله (244). وكتب (عَلَيْهِ السلام) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني - وكان على «أردشير خرّة» من قبل ابن عباس: بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أتيت شيئا إدّا بلغني أنك تقسم فيء المسلمين فيمن

ص: 64

اعتناك ويغشاك من أعراب بکر بن وائل، فو (الله) الذي فلق الحبّة وبرء النسمة وأحاط بكل شيء علما، لئن كَانَ ذلك حقا لتجدنّ بك عليّ هوانا فلا تستميتنّ بحق ربك ولا تصلحن دنياك بفساد دينك ومحقه فتكون من الأخسرين أَعْمَالا،

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا(245).

ولأهمية المال العام فإنَّ الإمام علي (عليه السلام) يضع صيانته والحفاظ عليه على أولويات منهجه التربوي الذي يتمثل في تذكير الولاة بشكل خاص والانسانية بشكل عام بأن المسؤول هو القدوة التي يجب أن لا يحابي أحداً على حساب امانته مهما بلغت درجة قرابة الخائن منه، يتضح ذلك فيما كتبه إلى أحد ولاته المقربين إليه وكان قد قال فيه: «كُنْتُ أَشْرَ كْتُكَ فِي أَمَانَتِي وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي وَلَمْ يَكُنْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِيِ لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ»، ولكنه عندما تجاوز على المال العام عدّه خائناً ولم تشفع له القرابة ولا العلاقة فعنفه أشد تعنيف «أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ كَيْفَ تُسِيغُ

شَرَاباً وَطَعَاماً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَتَشْرَبُ حَرَاماً وَتَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِینَ وَالْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ فَاتَّقِ اللَّهَ وَارْدُدْ إِلَی هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ»، ثم هدّده بأشد تهدید «فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَی اللَّهِ فِيكَ وَلَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ»، وضرب له من ولغيره من نفسه مثلاً فقال: «وَوَ اَللَّهِ لَوْ أَنَّ اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَیْنَ فَعَلاَ مِثْلَ اَلَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذُ اَلْحَقَّ مِنْهُمَا وَأُزِيحَ اَلْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا وَأُقْسِمُ بالله رَبِّ اَلْعَالَمِینَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلاَلٌ لِي

أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي» (246) وكأنه (عليه السلام) يعيد للأذهان قسم رسول الله

ص: 65

(صلى الله عليه وآله) حيث قال: «وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ

يدَهَا»(267). اللافت في هذه المعاملة هو أنّ الإمام علي (عليه السلام) يُعطي مثلًا في العدالة ليس له نظير إلاّ عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبهذه القيم يمكن أن يجتث الفساد وتُستأصل امتداداته. ومن المواضيع التي يدخل فيها الموظف الحكومي نفق الفساد الهدية الوظيفية، والمقصود هنا الهدية التي تقدم إلى الموظف أثناء تأديته واجبه الوظيفي لما للهدية من تأثير على النفس، وتشير المصادر إلى أن لأصل في هدايا العمال والموظفين على اختلاف مراتبهم وجهات عملهم المنع والتحريم تضافرت على ذلك الأدلة، ولجلاء شرها وصفها بعض أهل العلم بأنها أصل فساد العالم. فقد ذُکِر أنَّ الإمام علي (عليه السلام) «استعمل رجلا من بني أسد يقال له ضبيعة ابن زهير؛ فلما قضى عمله أتى عليا بجراب فيه مال؛ فقال: يا أمير المؤمنين إن قوما کانوا یهدون لي حتى اجتمع منه مال فها هو ذا فإن كان لي حلالا أكلته وإن كان غير ذاك فقد أتيتك به؛ فقال علي: لو أمسكته لكان غلولا؛ فقبضه منه وجعله في بيت المال» (248). فالإمام علي (عليه السلام) يؤكد على خطر الهدايا التي يتقبلها الموظف العام ويعتبرها مقدمة للإنحراف والفساد، وقد جاء فعله هذا مطابقاً لما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد روي أنّ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله) اسْتَعْمَلَ رَجُلا «يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللَّتْبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي

سُلَيْمٍ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ

اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِیرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ

تَيْعِرُ» (249). كما ورد عن النبي (صلىّ الله عليه وآله) أنه قال: «هدية العمّال غلول

ص: 66

وفي بعضها: «هدية العمّال سحت»(250).

وقد ادركت الدول الحديثة ومنها العراق خطورة الهدية الوظيفية وعملت على محاربتها وشرَّعَت القوانين الخاصة بها ومن بين ما أصدرته تعليمات رقم (1) السنة 2005 تعلیمات قواعد السلوك الخاصة بموظفي الدولة. وجاء في نموذج قواعد السلوك الخاصة بموظفي الدولة وفي التسلسل رقم 10 يتعهد الموظف ب «عدم طلب أو قبول الهدايا أو المنافع التي يكون غرضها التاثير في حياديتي أو نزاهتي أو يكون غرضها المكافئة على أداء واجباتي أو تكون في مصلحة أحد أفراد عائلتي وأقربائي إلى الدرجة الرابعة مادامت للغرض نفسه أعلاه»(251) إلّا أنَّ هذا التعهد أو غيره من القوانين لم تحد من تفاقم ظاهرة الفساد الإداري لأنَّ إرادة التنفيذ لا تقترب من إرادة الإمام علي (عليه السلام) ولو بنسبة بسيطة. على إنّنا يجب أن لا ننسى أنّ الإمام علي (عليه السلام) بما اتصف به من زهد وورع كان يمثل لِولاته واقعاً حياً يدفعهم للإقتداء به ولذلك فقد تأثر معظمهم بسلوكه الشخصي فتورعوا عن أموال الناس وعن ظلمهم فكان حقا لهم أن يقولوا عن أنفسهم (أتباع علي عليه السلام).

الرقابة الشعبية

وهي رقابة الأمّة لولي الأمر وتعَرَّف بأنها: «متابعة أفراد الأمة لنشاطات السلطة التنفيذية المتمثلة بالجهاز الحكومي المكون من الحكام وولاة الأمور، وأعمالهم في مجالات الحياة كّلها، ومناصحتهم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمعالجة الأخطاء والمخالفات الواقعة منهم والقضاء عليها»(252). فالرقابة الشعبية تقوم على مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مع الإعتراف بأنَّ هناك قصوراً في فهم كثير من الناس لهذا المبدأ، إذ اقتصروا في تطبيقيه على فقرات

ص: 67

معينه في حين كثيرا من ممارسات الفساد بشكل عام والفساد الإداري بشكل خاص لا سيما المتعلقة بسوء استخدام الوظيفة الحكومية لا تحظى باهتمام الناس، مع أن القرآن الكريم يدعو الناس في كثير من آیاته لممارسة هذا النوع من الرقابة، كما في قوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (253)، وقوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ» (254)، وقوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (255)، كما أنَّ السنة النبوية فيها الكثير من الشواهد التي يدعوا فيها النبي (صلى الله عليه واله) الناس إلى ممارسة الرقاب الشعبية منها قوله (صلى الله عليه وآله): «وَالَّذِي نَفْسِيِ بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ»(256). وقوله (صلى الله عليه وآله): «أيها الناس مُروا بالمعروف وانهُوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم»(257)، وقَالَ (صَلىَّ اللهُ عَلَيْهِ وَآله): «وَالَّذِي نَفْسِيِ بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الْمُسِيِءِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ». كما قال (صلى الله عليه وآله): «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ

عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، أَوْ أَمِیرٍ جَائِرٍ»(258)

لم يغب أمر الرقابة الشعبية عن بال الإمام علي (عليه السلام) فقد أولى إشراك الرعية في مراقبة الوالي اهتماما كبيرا فشجع الناس على ممارسة هذا النوع

ص: 68

من الرقابة وهو القائل: «وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ

لِي وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِيِ فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِيِ بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِيِ مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي»(259). وعلمهم على ان لا يسكتوا عن حقهم حتى أقر له أعداءه بذلك وخير دليل ما جاء على لسان معاوية بن أبي سفيان وهو يخاطب سودة بنت عمارة الهمدانية : «لقد لمظکم ابن أبي طالب على السلطان فبطيئاً ما تفطمون»(260)، وكان سبب ذلك أنها اشتكت له سوء إدارة عامله بُسر بن أرطاة فيهم، ولمّا وجدته غير آبه بها استفزته بذكر موقف لها مشابه مع الإمام علي (عليه السلام) فقالت «لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا فصادفته قائما يريد صلاة فلما رآني انفتل، ثم أقبل علي بوجه طلق ورحمة ورفق، وقال: ألكِ حاجة؟ فقلت: نعم، وأخبرته بالأمر، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد أني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك، ثم اخرج من جيبه قطعة جلد، وكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم «قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»، وإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملك حتى يقدم عليك من يقبضه، والسلام، ثم دفع إلى الرقعة، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولا» (261).

وعملا على تشجيع الرعية على قول الحق، وعرض ما يشكون من سوء تصرف العمال فقد كان (عليه السلام) يستمع إلى شكاواهم وينظر في طلباتهم، ويحاسب ولاته عليها فقد كتب إلى عَمْرو بن سَلَمَةَ الأرحبي: أما بعد فإن

ص: 69

دهاقين بلادك شكوا منك قسوة وغلظة، واحتقارا (وجفوة) فنظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، ولم أر أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لَهُم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، في غير ما أن يظلموا (كذا) ولا ينقض لهم عهد، ولكن تقرعوا بخراجهم [5] ويقاتل (بهم) من وراءهم، ولا يؤخذ منهم فوق طاقتهم فبذلك أمرتك، والله المستعان والسلام.(262)

وكتب عَلَيْهِ السلام إلى قرظة بن كعب: أما بعد فإن قوما من أهل عملك أتوني فذكروا أن لَهُم نهرا قد عفا ودرس، وأنهم إن حفروه واستخرجوه عمرت بلادهم وقووا عَلَى كل خراجهم وزاد فيء المسلمين قبلهم، وسألوني الكتاب إليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عَلَيْهِ، ولست أرى أن أجبر أحدا عَلَى عمل يكرهه، فادعهم إليك، فإن كَانَ الأمر فِي النهر عَلَى ما وصفوا، فمن أحب أن يعمل فمره بالعمل، والنهر لمن عمله دون من كرهه، ولأن يعمروا ويقووا أحب إلي من أن يضعفوا والسلام (263).

ص: 70

الخاتمة

يُستنتج مما تقدم أنَّ الإمام علي (عليه السلام) قد نجح في اجتثاث الفساد الذي استشرى في خلافة عثمان لأنه تعامل مع الموضوع بجدية ورفض أنصاف الحلول وقد تجلى ذلك واضحا في خطوتين خطاهما الإمام (عليه السلام) حالما تولى سُدة الحكم: -

1 - عَزَلَ الولاة الفاسدين ولم يداهن فيهم على الرغم من حراجة الموقف وقد تَجلّى ذلك في رفضه لقبول بقاء معاوية قائلاً: «لايسألني الله عز وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء ابدا »(264)

2 - استرداد أموال بیت المال: وقد تشدد (عليه السلام) في استرجاع أموال بیت المال قائلا: «فأن الحق القديم لا يبطله شي، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته إلى بيت المال»(265)

إنَّ نجاح الإمام علي (عليه السلام) مرجعه إلى أنَّه لم يكن أسير السلطة فهو يزهد السلطة كما يزهد الدنيا إذ الدنيا عنده (أَزْهَدَ مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ) وقد سبقت إليه السلطة راكعة أمام قدميه ولم يسع إليها ولذلك أنصفه مَن قال: «إنّ الخلافة لم تزيّن عليّا بل عليّ زانها»(266).

ولقد استطاع أن يحافظ على حكومة يمكن القول عنها أنها خالية من الفساد من خلال الاختيار الصحيح للولاة حيث وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وبناء العلاقة السليمة القائمة على الاحترام المتبادل والحاجة المتبادلة التي عززها بالمراقبة الدائمة المشفوعة بمبدأ الثواب والعقاب.

وما أحوجنا اليوم لاستحضار روح الإمام علي (عليه السلام) ونتبع منهجه

ص: 71

حق الأتِّباع حتى يمكن أن نقف بوجه هذه الظاهرة التي اتت على ما تبقى من القيم التي جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يتمها.

والحمد لله رب العالمين

هوامش البحث:

(1) الجوهري، اسماعیل بن حماد (ت 393 ه) الصحاح، تحقیق: احمد عبد الغفور عطار، بیروت - دار العلم للملايين، ط 2 - 1979 م، ص 519.

(2) ابن منظور، محمد بن مکرم (ت 711 ه) لسان العرب، تحقيق: نخبة من العاملين، مصر - دار المعارف.

(3) الزبيدي، محمد مرتضى الحسيني (ت 1205 ه)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: علي هلالي، الكويت، ط 1 - 2001 م.

(4) عمر، احمد مختار عبد الحميد (ت 1424 ه) معجم اللغة العربية المعاصرة، بيروت - عالم الكتب، ط 1 - 2008 م، مادة: في س د، 1 / 1706.

1975.(Webester (5

(6) البعلبكي، منير، المورد قاموس انكليزي / عربي، ط 2005 م

(7) الراغب، ابي القاسم الحسين الأصفهاني (ت 502ه)، المفردات في غريب القران، تحقيق: محمد سيد کیلانی، بیروت، دار المعرفة، د. ت.

(8) يُنظر: الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817 ه) بصائر ذوي التمييز، تحقيق: محمد علي النجار، القاهرة - 1992 م، 4 / 192؛ المناوي، عبد الرءوف (ت 1031 ه) التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق: عبد الحميد صالح، القاهرة - عالم الكتب، ط 1 - 1990 م، ص 556.

(9) الطوسي، ابوجعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه) التبيان في تفسير القران، بیروت - دار احیاء التراث، 1 / 75.

(10) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 548 ه) مجمع البيان في تفسير القران، بیروت - دار العلوم، ط 1 - 2005 م، 1 / 64

(11) العسكري، الحسن بن عبد الله (ت 395 ه) لفروق اللغوية، تحقيق: محمد ابراهيم سليم، القاهرة - دار العلم والثقافة، ص 214.

(12) ابن الجوزي، جمال الدین ابو الفرج عبد الرحمن (ت 597ه) نزهة الأعين النواظر، تحقیق: محمد

ص: 72

عبد الكريم، مؤسسة الرسالة، ط 3 - 1987 م ص 469.

(13) يُنظر: الترابي، البشير على حمد، مفهوم الفساد وأنواعه في ضوء نصوص القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة، بحث منشور في مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، العدد 11 - 2005 م، ص 101.

(14) البقرة: 205،

(15) القصص: 77

(16) المائدة: 64

(17) الفجر: 6 - 14.

(18) البخاري، محمد بن اسماعيل (ت 256 ه) صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر، دار طوق النجاة، ط 1 - 1422 ه، ح: 3118، 4 / 85.

(19) ابن حجر، احمد بن علي العسقلاني (ت 852 ه) فتح الباري، تحقيق: محب الدين الخطيب، القاهرة - دار الريان، ط 1 - 1986 م، ح: 3118، 6 / 253.

(20) البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسي (ت 458 ه) السنن الکبری، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، بیروت - دار الكتب العلمية،، ط 3 - 2003 م، ح: 11525، 6 / 160.

(21) المتقي الهندي، علاء الدين علي (ت 975 ه) کنز اعمال، ضبط: بكري حياني، بیروت، مؤسسة الرسالة، ط 5 - 1985 م، ح: 9502، 4 / 59.

(22) الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه) الكافي، بيروت - منشورات الفجر، ط 1 - 2007 م 5 / 167.

(23) یاسر خالد بركات الوائلي - الفساد الاداي مفهومه واسبابه - مقال متاح على شبكة المعلومات الدولية - www.annabaa.org - مجلة النبأ - العدد 80 كانون الثاني - 2006.

(24) مایکل جونسون - الفساد / نظرة عامة - مقال متاح على شبكة المعلومات الدولية - موقع يو اس انفو - http:usinfo.state.gO

(25) د. جاسم محمد الذهبي - الفساد الاداري في العراق وتكلفته الاقتصادية والاجتماعية - مقال متاح على الموقع الالكتروني Www.berc-iraq.com

(26) الجابري، سيف راشد والقيسي، کامل صكر، كيف واجه الاسلام الفساد الاداري، دبي - دائرة الاوقاف والشؤون الاسلامية، ط 1 - 2005 م، ص 28.

(27) منظمة الشفافية الدولية - تقرير الفساد العالمي لعام 2007.

(28) الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية / لا فساد - کتاب الفساد - ط 1 - 2005 - مطابع تکنوبرس

ص: 73

- لبنان.

(29) العكيلي، رحيم حسن، الفساد تعريفه وأسبابه وآثاره ووسائل مكافحته تعريفه وأسبابه وآثاره ووسائل مكافحته، مقال متاح على شبكة المعلومات الدولية - WWW-nazaha iq/search - scom. { /web/trboy T W.nd (30) هيئة النزاهة / الدائرة القانونية / قسم البحوث والدراسات: مفهوم الموظف العام في التشريع العراقي وقوانين مكافحة الفساد (دراسة مقارنة)، 2010 م، ص 41.

(31) محمد: 22

(32) القرطبي، ابو عبد الله محمد بن احمد (ت 671 ه)، الجامع لاحکام القرآن، تحقيق: هشام سمير النجاري، الرياض، دار عالم الكتب، 16 / 245.

(33) هود: 116

(34) ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله (ت) المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: کمال يوسف الحوت، الرياض - مكتبة الرشد، ط 1 - 1409 ه، ح: 34368، 7 / 83.

(35) ساهر عبد الكاظم مهدي، الفساد الإداري أسبابه وأثاره واهم أساليب المعالجة: متح على الموقع الالكتروني www.nazaha.iq/search_web/muhasbe /1|

(36) م.ن.

٭ المقصود بالأئمة المضلين: الأئمة المتبوعون الذين يضلون الناس عن سبيل الله، فيدخل في ذلك: الحكام الفسدة، والعلماء الفجرة، والعُبَّاد الجهلة

(37) أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير (ت 275 ه)، سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، ح: 4252، 4 / 97.

(38) الصالح، صبحي نهج البلاغة، القاهرة - دار الكتاب المصري، ط 4 - 2004 م، خ 216، ص 333.

(39) تاج العروس 194:3 - 195

(40) وفي لسان العرب 4: 267

(41) قلعجي، محمد رواس، معجم لغة الفقهاء، بيروت - دار النفائس، ط 1 - 1996 م، ص 29.

(42) کنز العمال، ح: 31567، 11 / 299؛ الريشهري، محمد، میزان الحكمة، قم - دار الحديث، ط 1 - 1422 ه، 1 / 126.

(43) الاعرجي، السيد زهير، الصديق الاكبر، قم المشرفة - المطبعة العلمية، الطبعة الاولى - 1421 ه، 2 / 693.

(44) صحيح البخاري، کِتَاب الْأَحْكَامِ، بَاب مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِیَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ، ح: 7151،

ص: 74

9 / 64

(45) صبحي الصالح، خ: 192، ص 300.

(46) القندوزي، سليمان بن الشيخ ابراهيم (ت 1294 ه) ينابيع المودّة، تصحیح: علاء الدين الاعلمي، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 1997 م، 1 / 85.

(47) الحاكم النيسابوري، ابو عبد الله محمد بن عبد الله ( ) المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفی عبد القادر عطا، بیروت - دار الكتب العلمية، ط 2 - 2002 م، ح: 4639، 3 / 128.

(48) ابن حمید، ابو محمد عبد الحميد (ت 249 ه) المنتخب من مسند عبد بن حميد، تحقيق: مصطفی العدوي، الرياض - دار بلنسية، ط 2 - 2002 م، ح 240، 1 / 214.

(49) القصص: 26

(50) يوسف: 55

(51) مسلم بن الحجاج (ت 261 ه)، صحیح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت - دار احياء التراث العربي، ح: 1825، 3 / 1457.

(52) الهيثمي، نور الدين علي بن ابي بکر (ت 807 ه)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، بیروت، دار الكتاب العربي، 5 / 232.

(53) صحيح البخاري، ح: 6496، 8 / 104.

(54) صبحي الصالح، خ: 92، ص 136.

(55) الطبرسي، ابو منصور احمد بن علي (ت 548 ه) الاحتجاج، منشورات الشريف الرضي، ط 1 - 1380 ه 1 / 103

(56) الخوارزمي، الموفق بن احمد بن محمد المكي (ت 568 ه) المناقب، تحقيق: الشيخ مالك المحمودي، قم - مؤسسة النشر الاسلامية، ط 2 - 1411 ه، ص 98؛ اهل البيت (تنوع ادوار ووحدة هدف)، تحقیق عبد الرزاق الصالحي، ط 1، بيروت - دار الهدی، ط 1 - 2003 م، ص 89.

(57) ابن عبد البر، ابو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي (ت 463 ه)، الاستیعاب في معرفة الاصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، بيروت - دار الجيل، ط 1 - 1992 م، 3 / 1103.

(58) البلاذری، احمد بن یحیی (ت 279 ه)، انساب الاشراف، تحقيق: سهيل زكار ورياض زرکلی، بیروت، دار الفکر، ط 1 - 1996 م، 2 / 853

(59) کنز العمّال، ش ح: 14509، 5 / 834

(60) الثعلبی، ابو اسحاق احمد بن محمد (ت 427 ه) قصص الأنبياء، القاهرة - مكتبة الجمهورية العربية، ص 468؛ الفيروزآبادي، السيد مرتضى، فضائل الخمسة من الصحاح الستة، قم -

ص: 75

منشورات فيروز آبادي، ط 2 - 1424 ه، 2 / 326

(61) الحسكاني، عبيد الله بن عبد الله (ق 5 ه) شواهد التنزيل، تحقيق: محمد باقر المحمودي، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 2 - 2010 م، 1 / 30

(62) ابن شهراشوب، أبو جعفر محمد بن علي (ت 588 ه) مناقب آل أبي طالب، تحقيق: يوسف البقاعی، بیروت - دار الأضواء، ط 2 - 1412 ه، 2 / 410.

(63) اليعقوبي، احمد بن ابي يعقوب (ت 284 ه) تاريخ اليعقوبي، تحقيق: عبد الأمير مهنا، بیروت - شركة الاعلمي، ط 1 - 2010 م، 2 / 76.

(64) تاریخ الیعقوبی: 2 / 45.

(65) الاستيعاب 4 / 1679.

(66) المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين (ت 346 ه) مروج الذهب، اعتني به: کمال حسن مرعي، بيروت - المكتبة العصرية، ط 1 - 1425 ه، 2 / 269.

(٭) ؉ السواد ؉. رستاق العراق وضياعها التي افتتحها المسلمون على عهد عمر، سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل، وحد السواد من حديثة الموصل طولا إلى عبادان، ومن العذيب بالقادسية إلى حلوان عرضا، فيكون طوله مائة وستين فرسخا.

(67) انساب الاشراف 5 / 529.

(68) يُنظر: الطبري، محمد بن جریر (ت 310 ه) تاريخ الطبري، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، مصر - دار المعارف، ط 2 - د.ت، 4 / 233؛ السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 ه) تاریخ الخلفاء، قطر - ادارة الشؤون الإسلامية، ط 2 - 2013 م، ص 266.

(69) القرشي، باقر شریف، موسوعة الإمام علي، تحقيق: مهدي باقر القرشي، 10 / 3.

(70) المستدرك على الصحيحين، کتاب الفتن والملاحم، ح: 8475، 4 / 526.

(71) تاريخ الطبري 4 / 440؛ ابن الاثير، ابو الحسن علي بن ابي الكرم (ت 630 ه) الكامل في التاريخ، تحقيق: أبي الفداء عبدالله القاضي، بيروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1987 م، 3 / 86.

(72) رضا، محمد، الإمام علي بن ابي طالب، بيروت - دار القلم، ص 53. متاح على الموقع الالكتروني:

https://books.google.iq/books?isbn

(73) حسين، طه، الفتنة الكبرى علي وبنوه، مصر - دار المعارف، ط 13، ص 21.

(74) ينظر: الشاطبي، ابو اسحق ابراهيم بن موسی (ت 790 ه) الموافقات، السعودية - دار ابن عفان، ط 1 - 1997 م، 2 / 18.

(75) النجار، عبد الوهاب، الخلفاء الاربعة، تحقيق: خليل الميس، بيروت - دار القلم، ط 4 - 1994 م،

ص: 76

ص 383.

(76) تاريخ اليعقوبي 2 / 77.

(77) يُنظر: الصنعاني، ابو بکر عبد الرزاق (ت 211 ه) المصنف، تحقيق: عبد الرحمن الأعظمي، بيروت - المكتب الاسلامي، ط 1 - 1972 م، 5 / 456؛ ابن شبة، عمر بن شبة بن عبيدة (ت 262 ه) تاريخ المدينة، تحقيق: فهيم محمد شلتوت، 1399 ه، 3 / 837؛ ابن عساکر، أبو القاسم علي بن الحسن (ت 571 ه) تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: محب الدين العمروي، بیروت - دار الفكر، 1995 م، 47 / 284؛ ابن الأثیر، أسد الغابة، 4 / 485 - 486.

(78) ابن ابی الحدید، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه) شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت - دار احیاء الكتب العربية، ط 2 - 1965 م 12 / 82.

(٭) منظمة الشفافية الدولية هي مجموعة من 100 فرع محلي، مع سكرتارية دولية في برلين، بألمانيا. تاسست في عام 1993 بألمانيا كمؤسسة غير ربحية، وهي الآن منظمة عالمية غير حكومية، وتدعو لأن تكون منظمة ذات نظام هيکلي ديمقراطي متكامل. الشفافية الدولية: على الموقع الالكتروني https://ar.wikipedia.org/wiki

(79) التنير، سمير، الفقر والفساد في العالم العربي، بيروت - دار الساقي، ط 1 - 2009 م، ص 15.

(80) صبحي الصالح، خ: 146، ص 203.

(81) الشيخ المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد (ت 413 ه)، الجمل، ط 1 - 1983، ص 154.

(82) محمد الياسري، هل اضحى الفساد جزءاً من الشخصية العراقية؟ متاح على الموقع الالكتروني:

htm.18087 /http://mail.almothaqaf.com/aqlam 2009

(83) صبحي الصالح، خ: 131، ص 189.

(84) الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329 ه) اصول الكافي، بيروت - منشورات الفجر، ط 1 - 2007 م، 1 / 255؛ الصدوق، ابي جعفر محمد بن علي القمي (ت 381 ه) الخصال، قم - مؤسسة النشر الاسلامي، 1 / 116.

(85) تاج العروس، مادة: ورع، 22 / 313.

(86) الطبراني، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير (ت 360 ه) مکارم الاخلاق، بیروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1989 م، 1 / 312.

(87) صبحي الصالح، خ: 230، ص 351.

(88) لسان العرب، مادة: حلم، ص 980.

(89) الجويني، ابراهيم (ق 8 ه) فرائد السمطين، تحقیق: محمد باقر المحمودي، قم - دار الحبيب، ط 1

ص: 77

- 1428 ه، 2 / 68.

(90) الشيخ المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد (ت 413 ه) کتاب الامالي، دار المرتضى، المجلس 14، ص 118.

(91) الخصال، ص 286.

(92) صبحي الصالح، ص 424

(93) صبحي الصالح، خ: 131، ص 189.

(94) تاج العروس، مادة: بخل، 28 / 63.

(95) البقرة: 44.

(96) النقوي، محمد تقي، مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة، طهران - قائن، ط 1 - 1426 ه، 10 / 27.

(97) الحراني، ابو محمد الحسن بن على (ق 4 ه) تحف العقول عن الرسول، بیروت، مؤسسة الأعلمی، ط 7 -2002 م، ص 28.

(98) آل عمران: 159

(99) میزان الحكمة، ح: 5086، 3 / 1084.

(100) شرح نهج البلاغة، 8 / 266.

(101) البقرة: 188.

(102) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن (ت 548 ه) مجمع البيان في تفسير القران، بيروت - دار العلوم، ط 1 - 2005 م، 2 / 28

(103) البزار، ابو بکر أحمد بن عمر (ت 292 ه) البحر الزخار، تحقيق: محفوظ الرحمن زین الله، بيروت - مؤسسة علوم القرآن، ط 1 - 1988 م، ح: 1037، 3 / 247.

(104) الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر (ت 807 ه) کشف الاسرار، تحقيق: حبیب الرحمن الاعظمي، بيروت - مؤسسة الرسالة، ط 1 - 1979 م، 2 / 124.

(105) جريدة الوقائع العراقية، العدد: 4093، 20 / 10 / 2008، ص 5.

(106) يُنظر: تاريخ الطبري 4 / 47.

(107) الصلابي، علي محمد محمد، فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب، الامارات - مكتبة الصحابة، ط 1 - 2002 م، ص 414.

(108) ينظر: ابن حجر الهيتمي، شهاب الدين أبو العباس أحمد (ت 973 ه) تطهير الجنان واللسان، مصر - دار الصحابة للتراث، ط 1 - 1992 م، ص 68.

ص: 78

(109) الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 ه) سیر اعلاء النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بیرةت - مؤسسة الرسالة، ط 2 - 1982 م، 3 / 33.

(110) م.ن. ص 34.

(111) تاريخ الطبري، 5 / 330.

(112) تاریخ دمشق 56 / 177.

(113) يُنظر: سمر عادل حسين، الفساد الاداري: اسبابه، آثاره وطرق مكافحته، بحث منشور في مجلة النزاهة والشفافية للبحوث والدراسات، العدد السابع - 2014 م، ص 121 - ص 151.

(114) البُستي، محمد بن حبان بن أحمد (ت 354 ه) الثقات، الهند - دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، ط 1 - 1973 م، 2 / 273؛ النويري، أحمد بن عبد الوهاب شهاب الدين (ت 733 ه) نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة - دار الكتب والوثائق القومية، ط 1 - 1423 ه، 20 / 21.

(115) العمري، اکرم ضیاء، عصر الخلافة الراشدة، مكتبة العبيكان، ص 143.

(116) سیر اعلام النبلاء 2 / 320؛ ابن حجر، احمد بن علي العسقلاني (ت 852 ه) الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت - المكتبة العصرية، ط 1 - 2012 م، ت: 5908، ص 1005.

(117) العجلي، أبو الحسن أحمد بن عبد الله الكوفي (ت 261 ه) معرفة الثقات، تحقيق: عبد العليم البستوي، المدينة المنورة - مكتبة الدار، ط 1 - 1985 م، 2 / 127.

(118) يُنظر: الصدوق،ابو جعفر محمد بن علي القمي (ت 381 ه) عیون اخبار الرضا، منشورات الشريف الرضی، باب 35، 2 / 134.

(119) ابن أبي حاتم، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد (ت 327 ه) الجرح والتعديل، بيروت - دار إحياء التراث العربي، ط 1 - 1952 م، 6146.

(120) بحر العلوم، محمد مهدي (ت 1212 ه) الفوائد الرجالية، تحقيق: محمد صادق بحر العلوم، طهران - مكتبة الصادق، ط 1 - 1363 ه، 3 / 78.

(121) الطبرسي، ابو منصور احمد بن علي (ت 548 ه) الاحتجاج، منشورات الشريف الرضي، ط 1 - 1380 ه، 1 / 101.

(122) الطوسي، ابو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه) رجال الطوسي، تحقيق: جواد الفيومي، قم - مؤسسة النشر الاسلامي، ت: 648، ص 71.

(123) البروجردي، السيد علي (ت 1313 ه) طرائف المقال، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، قم - ردمك، ط 1 - 1410 ه، 2 / 99؛ الاردبيلي، محمد بن علي الغروي (ت 1101 ه) جامع الرواة، قم - مكتبة المرعشي، 1403 ه، 1 / 532؛ التفرشي (ق 11 ه) نقد الرجال، تحقيق: مؤسسة آل

ص: 79

البيت، ط 1 - 1418 ه، 3 / 192.

(124) طرائف المقال، 2 / 99.

٭ شرطة الخميس: أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الذين قال لهم: تشرطوا فأنا اشارطکم على الجنة ولست اشارطکم على ذهب ولا فضة. الشيخ المفيد، محمد بن النعمان العكبري (ت 413 ه) الاختصاص، تحقيق: علي اکبر غفاري، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2009 م، ص 14.

(125) القبانجي، السيد حسن، مسند الإمام علي، تحقيق: طاهر السلامي، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2000 م، 7 / 314.

(126) أَبو يُوسُف، يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن حبيب (ت 182 ه) كتاب الخراج، تَحْقِيق: طبه عبد الرءوف سعد، سعد حسن مُحَمَّد، المكتبة الأزهرية للتراث 1 / 36.

(127) سير أعلام النبلاء: 3 / 512.

(128) محب الدين، ابو العباس احمد بن عبد الله (ت 694 ه) ذخائر العقبی، تحقيق: اكرم البوشي، ط 1، ص 393.

(129) ابن کثیر، ابي الفداء اسماعيل (ت 774 ه) البداية والنهاية، تحقيق: محيي الدين ادیب، بیروت - دار بن کثیر، ط 2 - 2010 م، 8 / 131.

(130) البغدادي، عبد القادر (ت 1093 ه) خزانة الادب، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، القاهرة - مطبعة الخانجي، ط 3 - 1966 م، 7 / 257.

(131) الأنفال: 58

(132) ابن هلال الثقفي، ابو اسحاق ابراهيم بن محمد، الغارات، تحقيق: عبد الزهراء الحسيني، بيروت - دار الاضواء، ط 1 - 1987 م، ص 406.

(133) م.ن. ص 425.

(134) يُنظر: الخوئي، ابو القاسم بن علي أكبر بن هاشم تاج الدين الموسوي (ت 1413 ه) معجم رجال الحدیث، النجف الاشرف - مكتبة الإمام الخوئي، رقم: 9675، 15 / 96.

(135) ابن عبد البر، ابو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي (ت 463 ه)، الاستیعاب في معرفة الاصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، بيروت - دار الجيل، ط 1 - 1992 م، رقم: 2134، 3 / 1289.

(136) صحيح البخاري، ح: 7155، 9 / 65؛ البداية والنهاية، 8 / 144.

(137) بن المطهر، ابو منصور الحسن بن يوسف الحلي (ت 726 ه) خلاصة الاقوال في معرفة الرجال، تحقيق: جواد القیومی، قم - مؤسسة الفقاهة، ط 4 - 1431 ه، رقم: 784، ص 231.

ص: 80

(138) الطوسي، ابو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه) كتاب الامالي، طهران، دار الكتب الاسلامية، ص 990.

(139) انساب الاشراف 3 / 168.

(140) نهج السعادة 4 / 35؛ الغارات ص 37.

(141) سیر اعلام النبلاء 3 / 110

(142) المصدر نفسه

(143) م ن

(144) ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري (ت 230 ه)، الطبقات الکبری، بیروت، دار صادر، 1957 م، 6 / 213؛ ابن حجر، احمد بن علي (ت 852 ه) الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت - المكتبة العصرية، ط 1 - 1433 ه، رقم 7660، ص 1312؛ الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 ه) سیر اعلاء النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيرةت - مؤسسة الرسالة، ط 2 - 1982 م، 4 / 34.

(145) القمي، عباس (ت 1359 ه) سفينة البحار، قم - دار الاسوة، ط 2 - 1416 ه، 4 / 388؛ ابن شهرآشوب، أبو جعفر محمد بن علي (ت 588 ه) مناقب آل أبي طالب، تحقيق: يوسف البقاعي، بيروت - دار الأضواء، ط 2 - 1412 ه، 1 / 291؛ ابن ابي الحديد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله (ت 656 ه) شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت - دار احیاء الكتب العربية، ط 2 - 1965 م، 15/ 98؛ العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726 ه) خلاصة الاقوال، تحقيق: جواد القيومي، قم - نشر الفقاهة، ط 4 - 1431 ه، ص 277.

(146) صفين ص 153؛ نفح الولاية 9 / 153.

(147) الأمين، محسن، اعیان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، بيروت - دار التعارف، 1983 م، 9 / 41.

(148) م. ن. 1 / 49.

(149) سفينة البحار، 4 / 379.

(150) م. ن. 4 / 384.

٭ الشَّتَر: انشقاق جفن العين وبه سمي الاشتر النخعي. ابن درید، الاشتقاق ص 297.

(151) الواقدي، عمر بن واقد (ت 207 ه) فتوح الشام، تصحیح: عبد اللطيف عبد الرحمن، بیروت - دار الكتب العلمية، ط 1 - 1997 م، 1 / 215؛ الطبري، محمد بن جریر (ت 310 ه) تاریخ الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مصر - دار المعارف، ط 2، 3 / 74.

(152) المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه) وقعة صفين، تحقيق: عبد السلام هارون، بيروت - دار

ص: 81

الجيل، 1990 م، ص 484.

(153) البحراني، السيد هاشم (ت 1109 ه)، بغية المرام وحجة الخصام، تحقيق: علي عاشور، بيروت - مؤسسة التاريخ العربي، ط 1 - 2001 م، 4 / 318؛ العاملي، جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة الإمام علي، المركز الإسلامي للدراسات، ط 1 - 2009 م، 21 / 26.

(154) سفينة البحار 4 / 379.

(155) الاميني، عبد الحسين احمد، الغدير في الكتاب والسنة والادب، بيروت - الاعلمي، ط 1 - 1994 م، 9 / 60.

(156) شرح النهج 6 / 124؛ صبحي الصالح ص 408.

(157) البلاذري، احمد بن يحيى (ت 279 ه)، انساب الاشراف، تحقيق: سهيل زكار ورياض زركلي، بيروت، دار الفکر، ط 1 - 1996 م، 6 / 2420.

(158) م. ن.

(159) تاريخ الطبري 4 / 349.

(160) طبقات بن سعد 3 / 273؛

(161) الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود (ت 282 ه) الاخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، القاهرة - دار احياء الكتاب العربي، ط 1 - 1960 م، ص 143.

(162) المفيد، أبو عبد الله محمد بن احمد (ت 413 ه) الجمل، ط 1 - 1403 ه، ص 135

(163) يُنظر: المنقري، نصر بن مزاحم (ت 212 ه) وقعة صفين، تحقيق: عبد السلام هارون، بيروت - دار الجيل، 1990 م، ص 492.

(164) شرح النهج 15 / 98.

٭ القلزم بالضم ثم السكون ثم زاى مضمومة وميم مدينة على ساحل بحر اليمن من جهة مصر ينسب البحر إليها. وفي هذا البحر بقرب القلزم غرق فرعون، وبينها وبين مصر ثلاثة أيام (المراصد)

(165) المفيد، محمد بن محمد بن النعمان العكبري (ت 413 ه) الامالي، دار التيار الجديد، 1 / 82.

(166) امالي المفيد 1 / 83.

(167) انساب الاشراف 3 / 166؛ تاریخ مدينة دمشق، 56 / 386.

(168) ياقوت الحموي، شهاب الدين ابي عبدالله (ت 626 ه) معجم البلدان، بيروت - دار صادر، 1956 م، 1 / 454.

(169) أبن كثير، ابي الفداء اسماعيل (ت 774 ه) البداية والنهاية، تحقيق: محيي الدين اديب، بيروت - دار بن كثير، ط 2 - 2010 م، 7 / 346.

ص: 82

(170) الثقفي، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد (ت 283 ه) الغارات، تحقيق: عبد الزهراء الحسيني، بيروت - دار الأضواء، ط 1 - 1987 م، ص 169؛ سفينة البحار 4 / 386.

(171) شرح النهج 1 / 424

(172) القمي، عباس بن محمد رضا بن أبي القاسم (ت 1359 ه) منازل الاخرة، ترجمة: حسين کوراني، سوريا دار التعارف، 1993 م، ص 124.

(173) الغارات ص 170.

(174) الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان (ت 413 ه) الإختصاص، تحقيق: علي اکبر غفاري، بيروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2009 م، ص 87.

(175) سفينة البحار 4 / 387.

(176) الطوسي، تهذیب الأحکام: 3 / 318.

(177) الأمين، محسن، أعيان الشيعة، 7 / 322.

(178) يُنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 14 / 252.

(179) عیون أخبار الرضا، 2 / 134.

(180) الصدوق، الخصال، ص 465.

(181) الحر العاملي، وسائل الشيعة، 3 / 7.

(182) الكليني، الكافي، 3 / 186.

(183) المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه) بحار الأنوار، بیروت - مؤسسة الأعلمي، ط 1 - 2008 م، 78 / 376.

(184) المحمودي، محمد باقر، نهج السعادة، طهران - مؤسسة الطباعة والنشر، ط 1 - 1418 ه، 3 / 397.

(185) م. ن. 4 / 31.

(186) تاج العروس، مادة: رق ب، 2 / 513.

(187) لسان العرب، مادة: رق ب، ص 1699.

(188) رحيم علي صياح وعبد الحميد حمودي الشمري، الفكر الرقابي عند الإمام علي (عليه السلام) بحث منشور في مجلة جامعة بابل / العلوم الانسانية / المجلد 22 / العدد 2014:1.

(189) يُنظر: البرعي، محمد عبد الله ومرسي، محمود عبد الحميد، الإدارة في الإسلام، جدة - المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ط 2 - 2001 م، ص 191.

٭ العين: قال ابن سيده: والعَيْنُ الذي يُبْعث ليَتجسَّس الخبرَ. لسان العرب

ص: 83

٭ جون امريش إدوارد دالبرغ أكتون: بارون أكتون من الدنهام، ولد في 10 كانون الثاني 1834 في نابولي، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة كامبردج في عام 1895، توفي عام 1902 م.

(190) مقال متاح على الموقع الاكتروني ar.html-32778-http://www.noqta.info/page

٭ شارل لوي دي سيكوندا المعروف باسم مونتيسكيو (Montesquieu)

(1689 - 1755 م)، فیلسوف فرنسي صاحب نظرية فصل السلطات الذي تعتمده غالبية الأنظمة حاليا.

(191) تاريخ الطبري 4 / 543.

(192) يُنظر: ابن خیاط، خليفة (ت 240 ه) تاریخ خليفة، تحقيق: أكرم ضياء العمري، الرياض - دار طيبة، ط 2 - 1985 م، ص 200.

(193) الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ص 10

(194) کاظم، رعد عدنان، الاستتراتجية الوطنية لمكافحة الفساد في العراق 210 - 2014، ص 12، بحث متاح على الموقع الالكتروني / www.undp-aciac.org/publications/ac WWW.U compendium/iraq/Iraq

(195) صبحي الصالح،ك 42، ص 20.

(196) الأحزاب: 21

(197) صبحي الصالح، حكمة: 73، ص 480.

(198) الآمدي، ناصح الدين ابي الفتح عبد الواحد (ت 550 ه) غرر الحکم، تدقيق: عبد الحسن دهيني، بيروت - دار الهادي، ط 1 - 1992 م، حکمة: 1539، ص 368.

(199) م. ن، حكمة: 2139، ص 68.

(200) ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله محمد (ت 751 ه) مدارج السالكين، تحقيق محمد المعتصم بالله، بيروت - دار الكتاب العربي، ط 7 - 2003 م، 2 / 65.

(201) میزان الحكمة محمد الريشهري، 2 / 1108.

(202) الأشعري، احمد بن داود، مقدمة في الإدارة الإسلامية، جدة، ط! - 2000 م، ص 359.

(203) صبحي الصالح، ص 382.

(204) م. ن. ص 459.

(205) النساء: 1

(206) ق: 18

(207) المائدة: 8

(208) الترمذي، محمد بن عیسی (ت 279 ه) سنن الترمذي، تحقيق: احمد محمد شاكر وآخرون،

ص: 84

مصر - مصطفى البابي الحلبي، ط 2 - 1975 م، ح: 2416، 4 / 612. وقال

(209) صبحي الصالح، ص 383.

( 210) الريشهري، ميزان الحكمة، 1 / 825

(211) ابن عبد البر، ابو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي (ت 463 ه)، الاستيعاب في معرفة الاصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، بيروت - دار الجيل، ط 1 - 1992 م، 1 / 1111.

(212) صبحي الصالح، ص 364.

(213) م. ن.

(214) صبحي الصالح، ص 366.

(215) كاظم، رعد عدنان، الاستتراتجية الوطنية لمكافحة الفساد في العراق 210 - 2014، ص 9، بحث متاح على الموقع الالكتروني /www.undp-aciac.org/publications/ac/compendium .iraq/Iraq

(216) ينظر: شرح نهج البلاغة 14 / 34.

(217) مسند الإمام علي، ح: 4530، 4 / 379.

(218) صبحي الصالح، ص 383

(219) م. ن. ص 449.

(220) م. ن ص 433.

(221) م. ن، ص 449.

(222) م ن

(223) الإسراء: 9

(224) صبحي الصالح، ص 459.

(225) العنكبوت: 45

(226) صحیح مسلم، ح: 489، 1 / 353.

(227) م. ن

(228 ) الدغيثر، عبد العزيز بن سعد، الرقابة الإدارية، ص 9

(229) العمر، فؤاد عبد الله، اخلاق العمل وسلوك العاملين في الخدمة العامة، جدّة - المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ط 1 - 1999 م، ص 75.

(230) صحيح البخاري، كتاب الايمان، ح: 50، 1 / 19.

(231) الماوردي، ابو الحسن علي بن محمد (ت 450 ه) الاحكام السلطانية، تحقيق: احمد مبارك،

ص: 85

الكويت - مكتبة دار بن قتيبة، ط 1 - 1989 م، ص 23.

(232) تاريخ الطبري، 6 / 67؛ العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 33، ص 407.

(233) الحلواني، الحسين بن محمد (ق 5 ه) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، قم - مدرسة الإمام المهدي، ط 1 - 1408 ه، ص 69.

(234) صبحي الصالح، ص 420.

(235) م. ن. ص 449

(236) مسند الإمام علي، ح: 4469 / 3، 4 / 355.

(237) کاظم، رعد عدنان، الاستتراتجية الوطنية لمكافحة الفساد في العراق 2010 - 2014 م، ص 10، بحث متاح على الموقع الالكتروني / www.undp-aciac.org/publications/ac .compendium/iraq/Iraq, (238) تاريخ اليعقوبي، 2 / 109

(239) المواد (315 - 321) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل. ويُنظر: الجوراني، ناصر کریمش وعبد علي، حیدر کاظم، التدابير الدولية لمكافحة الفساد وانعكاساتها على التشريع العراقي، مجلة الكلية الاسلامية الجامعة، العدد 36، 25 آذار 2015. ص 107 - ص 150.

(240) صبحي الصالح، ص 377.

(241) یُنظر: صبحي الصالح، ص 461.

(242) يُنظر: صبحي الصالح ص 412.

(243) صبحي الصالح، ص 415

(244) انساب الاشراف، 2 / 160

(245) انساب 2 / 160.

(246) يُنظر: صبحي الصالح، ص 412.

(247) العيد، تقي الدين بن دقيق (ت 702 ه) إحكام الأحكام، تحقيق: احمد محمد شاكر، القاهرة - مكتبة السنة، ط 1 - 1994 م، ح 357، ص 631. انظر؛ الدارمي: سنن الدار مي، 2 / 615، کتاب الحدود، باب الشفعة في الحدود، ح 2217، الترمذي: سنن الترمذي، ص 338، ح 1430

(248) وکیع، محمد بن خلف (ت 306 ه) أخبار القضاة، بيروت - عالم الكتب، 1 / 59.

(249) صحیح مسلم، ح: 1832، 3 / 1463.

(250) الطوسي، ابو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه)، المبسوط، تصحیح: محمد تقي الكشفي، بيروت - دار الكتاب الإسلامي، 8 / 151.

ص: 86

(251) يُنظر: جريدة الوقائع العراقية، العدد رقم: 3992 في 12 / 2 / 2005 م، ص 12.

(252) الإدارة الإسلامية: دراسة مقارنة بين النظم الإسلامية والوضعية الحديثة، د. فوزي کمال أدهم: ص 312، الرقابة الإدارة

الإسلامية، عبد العزيز محمد هنيدي: ص 4 وما بعدها.

(253) آل عمران: 104

(254) آل عمران: 110

(255) التوبة: 71

(256) سنن الترمذي ح: 2169، 4 / 468.

(257) البغدادي، ابو بکر عبد الله بن محمد (ت 281 ه) كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحقيق: صلاح بن عايض الشلاجي، المدينة - مكتبة الغرباء، ط 1 - 1977 م، ص 88.

(258) سنن ابي داوود کتاب الملاحم، ح: 4344، 4 / 124.

(259) نهج البلاغة، ص 332.

(260) ابن عبد ربه، احمد بن محمد الاندلسي (ت 328 ه)، طبائع النساء، تحقيق: محمد ابراهيم سليم، القاهرة - مكتبة القرآن، ص 224.

(261) ابن الصباغ، علي بن محمد بن احمد المالكي (ت 855 ه)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة، تحقيق: جعفر الحسيني، (بيروت، المجمع العالمي لأهل البيت، 2011 م)، ص 184 ص 185

(262) م ن

(263) م. ن 2 / 162.

(264) امالي الطوسي، ص 87، مناقب آل ابي طالب، 3 / 195

(265) شرح النهج 1 / 269

(266) ابن الجوزي، ابو الفرج عبد الرحمن (ت 597 ه) مناقب الإمام احمد بن حنبل، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مصر - هجر للطباعة والنشر، ص 219.

ص: 87

ص: 88

تكافؤُ فرصِ العملِ بينَ الذكرِ والأنثى وأثرُهُ في زيادةِ البطالةِ نظرةٌ فاحِصَةٌ في فكر الإمام علي (عليه السلام) والواقعِ الاجتماعيّ المعاصر

اشارة

الدكتور عبد الهادي كاظم كريم.

كلية التربية الأساسية - جامعة تلعفر

ص: 89

ص: 90

بسم الله الرحمن الرحيم

المُقدِّمة

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ رُسُلِهِ وخَلْقِهِ أجمعين أبي القاسم محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعالمين وعلى آلهِ الأئمةِ الطيِّبينَ الطاهرينَ المعصومينَ، وأصحابِهِ الغُرِّ الميامينَ الذينَ لم ينقلبوا على أعقابهمِ بعد حين.

أمّا بعدُ:

فإنَّ موضوعَ البطالةِ جديرٌ بالاهتمامِ والمراقبةِ والمتابعةِ والتشخيص ومن ثَمَّ معالجته وإيجاد الحلول المناسبة الناجعة له التي تضمن عدم تفشيهِ واستفحالِ أمرهِ بين أفراد المجتمع، وكذلك يتطلَّبُ وضعَ استراتيجيات عامة، وخُطط أساسيَّة صحيحة مدروسة تصدرُ عن مراكز القرار في الدولة، وتعمل مؤسَّساتُها على تنفيذها والعمل بها؛ كي يكون المجتمعُ في منأًى عن الوقوعِ في مستنقعِ المشاكلِ الكثيرةِ المتراكبةِ والمتشعبَّة التي يصْعُبُ حلَّها والقضاءَ عليها في كثيرٍ من الأحيان إن لم نقل مستحيلة المعالجة، التي تسببها البطالة أو التي تكون فيها البطالة السبب الأساس أو الدافعَ الأول في حدوثها.

وهي مسالةٌ حَظيتْ باهتمامٍ كبيرٍ في النصوصِ التشريعيّة السماويَّةِ ولا سيَّما القرآن الكريم وفكر آل البيت (عليهم السلام)؛ لأنَّها تَمَسُّ جوهرَ المجتمع فتؤثِّر في سلوكِ أفراده سلبًا وإيجابًا، بل إنَّها تزلزلُ كيانَ الإنسانِ كلِّهُ وتهزُّ عقيدتَهَ وإيمانَهَ فيكون سلوكُهُ متحررًا من كلِّ ذلك، وهذا ما أشارَ إليه مولانا الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالب (عليهما السلام) بقولِهِ: «لولا الخُبزُ ما عُبِدَ الله» إذًا للبطالةِ آثارٌ خطيرةٌ على الناسِ والمجتمع قد تَعْصِفُ بهما وتقضي عليهما إنْ لم يُسيطر عليها ويُتدارك أمرها

ص: 91

من خلال تحديد أسبابها ومعالجتها والقضاء عليها تدريجيًّا.

وهذا ما دفعَنا إلى أن نَنظُرَ فيما نراه واحدًا من أسبابِها الكثيرة، (هو تكافؤ فرصِ العملِ بين الذَّكرِ والأُنثى) نَظرةً تكادُ أن تكونَ مختلفةً عن غيرها محاولين إيجادَ الحلول المناسبةَ له. وسنذكرُ ذلك ونُثْبِتُهُ في خاتمة البحثِ إن شاء الله تعالى.

فكان عنوانُ هذا البحثِ (أثرُ تكافؤ فرص العمل بين الذَّكرِ والأنثى في زيادةِ البطالةِ. نَظرةٌ فاحصة في فكر الإمام علي (عليه السلام)، والواقع الاجتماعيّ المعاصر)، وقد أقمنا البحثَ على وفقِ خطَّةٍ يسيرةٍ تتألّفُ من مُقَدِّمةٍ هي هذه التي بين أيدينا التي ذكرنا فيها موضوعَ البحثِ وأهميَّتَهُ وعنوانَهَ، ومبحثين، الأول: التشريع الإسلاميّ وفرص العمل، بحثنا فيه ما يوجبُهُ التشريعُ على الذِّكر والأنثى من واجبات وحقوق تستدعي خلق فرصِ عملٍ لكليهما؛ للإيفاء بمتطلباتِ تلكَ الواجبات والحقوق، وسنقصر البحثَ على مصدر التشريع الإسلاميّ الأول وهو القرآن الكريم. ثُمَّ نبيِّن ذلك في فكر الإمام علي (عليه السلام)؛ لنرى مدى تطابقهما فيه. وفي المبحثِ الثاني بحثنا في نماذج تطبيقيَّة لفرص العمل من الواقعِ الاجتماعيّ فذكرنا ما لها وما عليها ممَّا يتعلَّق بمدى تطابقِها أو عدمِهِ بما ذكرناه في المبحث الأول وهو مدى انسجامها مع تلك الواجبات والحقوق التي أقرَّها التشريع الاسلاميّ للذكرِ والأنثى وثبتت في فكر الإمام (عليه السلام)، التي على أساسها ينبغي خلق تلك الفرص.

ثُمَّ ختمنا البحثَ بخاتمةٍ ذكرنا فيها النتائجَ التي قادنا البحثُ إليها فأثبتناها، وكذلك ذكرنا عددًا من التوصيات التي - كما نرى - لابدَّ منها للقضاء على آفةِ البطالةِ ومعالجة آثارها السلبيَّة، أو التقليل منها ومن آثارها بِنِسَبٍ لا بأسَ فيها؛ للنهوض بالمجتمع والارتقاء به نحو الأفضل ورفع مستواه المعيشيّ والاقتصاديّ

ص: 92

وجعلهما مقبولين. ثُمَّ أتممنا البحثَ بذكرِ مصادِرِه ومراجعِهِ وروافدِهِ التي انتجت متنَهُ ومادته. وفي ختام ذلكَ نسألُ الله عزَّ وجل أن يوفقَنا في ذلك خدمةً للمجتمع وارتقاءً به؛ إنَّهُ نِعْمَ المولى ونِعْمَ النصير. وآخرُ دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ تعالى وبركاتُه.

ص: 93

المبحث الأول: التشريع الإسلاميّ وموجبات خلق فرص العمل والبحثُ عنها

سنحاولُ في هذا المبحث كشفَ ما جاء به التشريع الإسلاميّ مِمَّا يتعلَّق بالأسباب التي توجب على الإنسان السعيَ في طلب الرزقِ والبحثِ عن فرص العمل التي توفِّر له رزقَهُ وتضمنَ له القدرة على كسبِ قوتِهِ من أجل عيشهِ وحياتِهِ في المجتمع.

إنّ القرآن الكريم فتحَ البابَ بشكلٍ مطلقٍ أمام الإنسان ذكرًا كان أو أنثى في العمل والبحث عن فرصهِ لتحصيل رزقه وتلبية متطلبات عيشه وحاجاته الأساسيَّة التي تكفل بقاءه على الحياة وعدم الاتكال على غيره أو تكفف الآخرين في ذلك؛ فقال سبحانهُ وتعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (الملك: 15)، فالمشي والسعي إلى الرزق في الأرض كلِّها في جبالها وسهولها وأطرافها وجوانبها(1) ووديانها وأنهارها وبحارها وصحاريها(2)، وهو أمر عام مطلق يفيد الإباحة(3)، وكذلك الرزق عامٌ يشمل كل ما يفيد الإنسانُ منه في البَّرِ والبحر (4). وهذا أصلٌ أساس يَعمُّ جنسَ الإنسان كلَّه.

ولكن بعد ذلك قُصِرَ جلبُ هذا الرزق وتحصيلهُ والبحث عن أسبابهِ وطرقهِ بمن يجبُ عليهم ذلك لأنفسهم ولغيرهم كالأب الذي يعيل نفسه وعائلته، والرجل الذي يعيل نفسه وزوجته، والأخ الذي يعيل نفسهُ وأخوته وأخواته، والابن الذي يعيل نفسه وأُمهُ أو أبيه أو كليهما، وهكذا في كلِّ طبقات المجتمع وفئاتهِ وأفرادهِ. وهذه سُنةٌ كونيَّة، لا يمكن أن نحيدَ عنها، فلو تخيَّلنا أنَّ كلَّ فردٍ من المجتمع ذكرًا أو أنثى، كبيرًا أو صغيرًا، رجلًا أو طفلًا، شيخًا أو شابًا، أبًا

ص: 94

أو أمًّا، ابنًا أو أخًا أو أُختًا، زوجًا أو غير زوج عليه أن يخرجَ بنفسه إلى العمل لكسب رزقهِ لأصبحت الحياة متعبةً بشكل لا يُطاق لا يحتمل مطلقًا، بل من غير الممكن ذلك. لذا ربطَ المشرّع الإسلاميّ العمل بالإنفاق فأوجب الإنفاق على من يجب عليه الإنفاق لنفسه ولغيرهِ فأوجبَ نفقة الأب على من يعولهم من أهله وولده، واوجب نفقة الزوج على زوجه، وأوجب نفقة الابن على أبويه إن كانوا لا يستطيعون العمل وليس لديهم ما ينفقونه عليهم، وهكذا الحال مع أفراد المجتمع جميعًا.

فقال تعالى: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا» (النساء: 34) فأول سببٍ جعل الرجال قوامين على النساء بالانفاق عليهن وتحقيق كفايتهن في المؤونة(5)، ودفع حقوقها(6)، وتعليمهنَّ وتأديبهنَّ وإصلاح أمورهنَّ (7)، وهو السبب الثاني للقوامة، أمَّا السبب الأول وهو التفضيل فلا يخرج عن العود لهن بالخير؛ لأنَّ من مصاديقِهِ - كما قيل - القوة الجسديَّة والقلبيَّة والنفسية التي تفضل بها الله سبحانه وتعالى على الرجل كي يعمل ويسعى في طلب رزقه ويتولى رعاية أمور أهله وزوجه وولده، وتلبية متطلبات عائلته، وشؤون بيته (8)، «والقوَّام: المبالغ فِي القيام، يُقَالُ: هَذَا قيِّمُ المرأةِ وقوَّامُها للذي يقوم بأمرها ويحفظها»(9). وهو أمرٌ خصَّه الله تعالى بالرجل من دون المرأة؛ لأنَّه هو المسؤول عنه والمطالب به والمتكفل به، وأعفى المرأة من ذلك كله فلم يوجب عليها أيَّ شيء من أمور القوامة إلى الرجل؛ لأنَّ القوامة تتناسبُ وتنسجمُ مع طبيعة الرجل وكيانه اللذان تفضل سبحانه بهما على الرجل

ص: 95

من خلال امداده بالقوة في الجسد والقلب والنفس، فتفضَّل سبحانه وتعالى على الرجل بذلك، أمَّا مصاديق التفضيل الأخرى للرجل كاختصاصه بالنبوة والولاية والجهاد والشهادة وصلاة الجمعة والجماعة والميراث (10)، وغيرها من أمور الدين الاخرى(11) فلا تكاد تخرج عن مراعاة طبيعة المرأة فأعفيت منها؛ لأنَّها تسبب لها المشقة والحرج. وبعضها كُيِّفت فجاءت منسجمةً وموافقةً لحالها ووضعها ومسؤولياتها.

وكذلك يتجلَّى سبب السعي وراء فرص العمل في قوله تبارك وتعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (البقرة: 233)

فيجب على الوالد (الأب) الإنفاق ولدهِ وأمِّ ولدهِ (زوجه) سواءً كانت معه في بيته أم كانت مطلقة، وهذا الإنفاق يتضمن كل ما يتطلبه الغذاء والطعام واللباس(12) للزوجة وإعطاء الأجر للمطلقة(13). بل أوجب الإسلام إيجاد السكن أيضًا مع الاستطاعة والقدرة للمرأة المرضع المطلقة(14) في قوله تعالى: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا» (الطلاق:6 - 7).

ص: 96

نستنتجُ من خلال ما سبق من الآيات القرآنيَّة المباركة أنَّ الدينَ الإسلاميَّ العظيمَ لا يوجبُ أيَّ إِنْفَاقٍ أو مسؤوليَّةٍ ماليةٍ على المرأةِ تجاه الرجلِ سواءً كانت هذه المرأةُ أُمَّا أو أُختًا أو زوجًا أو بنتًا أو غير ذلك. وعلى عكسِ ذلك تمامًا أوجب على الرجل الإنفاق على المرأة في كلِّ أوصافها وأحوالها التي ذكرناها على وفق ماجاء به القرآن الكريم. وبناءً على هذا الأساس تكون حاجةُ الرجلِ الى فرصة العمل أحوجَ وأشدَّ وهي الأولى بالإعطاء وتوفيرها له بل تكاد تكون هي الأصل في التلبية التي لا يمكن العدول عنها لغيره. وعلى وفق ذلك يجب أن تكون فرص العمل في المجتمع المخصَّصة للرجل هي الاكثرُ وهي الغالبة على فرص العمل الممنوحة للمرأة في مجالات العمل كلِّها؛ لأنَّ ذلك يؤثّرُ في نسبة البطالة في المجتمع ارتفاعًا وانخفاضًا؛ فكلَّما ازدادت فرص العمل المخصَّصة للرجل عل فرص العمل المخصًّصة للمرأةِ انخفضت نسبة البطالةِ في المجتمع، والعكس بالعكس وهكذا؛ فالعلاقةُ بين فرص العمل للرجل ونسبة البطالة في المجتمع علاقة عكسيٍّة، إذا ارتفعت أيٌّ منهما انخفضت الأخرى.

وحين ننظرُ في تراثِ أمير المؤمنين (عليه السلام) الفكريّ، وما أُثرَ عنه من تراث ولاسيَّما سفره الخالد نهج البلاغةِ نظرةً متأنيَةً فاحصةً سنرى مجاراتهُ عليه السلام وموافقتهُ التَّامتين لكلِّ ما جاء به التشريع الإسلاميّ المقدَّس ولاسيَّما القرآن الكريم فيما يتعلَّق بالواجبات والحقوق الماليَّة للذكر والأنثى، وما يؤسِّسهُ في خلق فرص العمل بينهما على وفق تلك الحقوق والواجبات، فالعلاقة تكادُ أن تكون طرديّةً بين فرص العمل وما أوجبه الشرع المقدَّس على الذكر والأنثى من نفقات ماليَّة تضمن حياتهما وعيشهما.

وكل ما أوردهُ الإمام (عليه السلام) من ذكرٍ أو قولٍ یخصُّ المرأةَ، أو النساءَ

ص: 97

بشكل عام يدور في أُفقِ مراعاتها ووجوب الإحسان إليها، وبيان وظائفها وأعمالها التي يجدر أن تطَّلِعَ بها، وكذلك ذكر أوصافها الحسنة، والأوصاف التي قد تؤاخذ بها، وإصلاحها، والقيام على قضاء أمورها وإصلاح شأنها وما يستلزمه من نفقةٍ أو عمل.

فمن ذلك قوله (عليه السّلام): «الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ - والْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ - ولِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وزَكَاةُ الْبَدَنِ الصِّيَامُ - وجِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ» (15).

«وجهاد المرأة هو حسن المعاشرة مع زوجها وتحمّل المكاره المتوجّهة منه إليها من سوء القول والفعل، فربما يكون أقواله وأعماله جارحات القلوب، فصبر المرأة تجاهها تعدّ من الجهاد.»(16) ومعناه حسن معاشرة بعلها وحفظ ماله وعرضه، وإطاعته فيما يأمر به، وترك الغيرة (17). وهذا من أوصافها الجليلة التي ينبغي أن لا تحيد عنها؛ لأنَّ فيه أجرًا عظيمًا ما بعده أجرٌ لها.

وقال (عليه السّلام): «خِيَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ الرِّجَالِ - الزَّهْوُ والْجُبْنُ

والْبُخْلُ - فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا - وإِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ

مَالَهَا ومَالَ بَعْلِهَا - وإِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَعْرِضُ لَهَا» (18). فهذا النَّصُّ

يدلُّ على أنَّ «أهمّ الأوصاف الممدوحة والواجبة في المرأة العفاف والأمانة، لأنها في معرض شهوة الرجال الأجانب، وملتهب العشق والاحساس من كلّ جانب، ولأنّها صاحبة البيت وربّتها والمستودع مال الزوج عندها ومعروفة بالضعف لدى النّاس، فلابدّ لها ممّا يجبر هذه الأخطار المتوجهة إليها في النفس والمال فيحسن منها الزّهو والتكبّر بحيث يمنعها ذلك عن نظرها إلى الأجانب أو طمع الأجانب فيها، وهذا التمنّع یعدّ في الرّجل تكبّرا مذموما وفي المرأة تعفّفا ممدوحا.

كما أنّ إمساكها لما في يدها من الأموال وترك الاقدام على البذل والافضال

ص: 98

ممدوح وإن عدّ من البخل أو الشحّ، لأنّ ذلك سدّ عن طمع الأجانب في نفسها وعن طمع الغاصبين والسارقين لما في يدها. والجبن يعينها عن الخروج في الخلوات والسّفر في ظلمة اللَّيالي والصحراوات فيفيدها من الناحيتين مضافا إلى أنّ هذه الصفات تأثّرات ترتبط بالإحساس والاحساس في المرأة أقوى من الرّجل.» (19).

ومن بديع تعبيرِهِ (عليه السلام) عن المرأة قوله: «فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ ولَيْسَتْ

بِقَهْرَمَانَةٍ»(20) والقهرمانة: تعني الوكيل على الشيء والقائم بأموره والمتعهد له والحفيظ عليه(21)، وقيمة البيت ومديرته والمربيَّة والخليلة وأمينة الحرم (22)

«(فإن المرأة ريحانة) للرقة والحنان، والدعة والاطمئنان (وليست بقهرمانة) تتصرف فيما يخص الرجل نيابة عنه (ولا تعدو بكرامتها نفسها إلخ ).. كرامة المرأة أن تبقى امرأة، وأن تضع نفسها حيث وضعتها الطبيعة، ولا تتطفل على وظائف الرجل. وقال الشيخ محمد عبده: «أين هذه الوصية من حال الذين يصرفون النساء في مصالح الأمة»(23).

أما ما ذكره الإمام (عليه السلام) من أوصاف المرأة، في قوله: «وإِيَّاكَ ومُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ - فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَی أَفْنٍ وعَزْمَهُنَّ إِلَی وَهْنٍ - واكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ

أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ - فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ - ولَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ - مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِه عَلَيْهِنَّ - وإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَعْرِفْنَ غَیْرَكَ فَافْعَلْ - ولَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا - فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ ولَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ

- ولَا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا ولَا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا - وإِيَّاكَ والتَّغَايُرَ فِي غَیْرِ مَوْضِعِ غَیْرَةٍ - فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَی السَّقَمِ - والْبَرِيئَةَ إِلَی الرِّيَبِ...» (24).

فهو لا يعدو كونه وصفًا موضوعيًّا لحالها وما تكون عليه من أحوال تجعل رأيها وعزمها معارضين للزلل أو عدم الصواب. وزبدة دلالة قوله (عليه السلام)

ص: 99

هذا ما ذكره ابن أبي الحديد في شرحه إذ قال: «(ولا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها)، أي لا تدخلها معك في تدبير ولا مشورة، ولا تتعدين حال نفسها وما يصلح شأنها. فان المرأة ريحانه، وليست بقهرمانة، أي إنما تصلح للمتعة واللذة، وليست وكيلا في مال ولا وزيرا في رأي»(25). وكذلك قوله (عليه السلام): «مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الإِيمَانِ - نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ - نَوَاقِصُ الْعُقُولِ - فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ - فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ - وأَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ - فَشَهَادَةُ امْرَأَتَیْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ - وأَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ - فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ - فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى

حَذَرٍ - ولَا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ»(26)، فهو وصْفٌ لطبيعة النساء، وإشارةٌ ذكيَّةٌ لطيفة إلى أحكام عبادتهن وحقوقهن الشرعيَّة.

«ولما نبّه على نقصانهنّ بهذه الوجوه الثّلاثة أشار إلى علَّة جهات النقص بقوله (فأمّا نقصان ايمانهنّ فقعودهنّ عن الصّلاة والصّيام في أيام حيضهنّ) وقعودهنّ عنها وإن كان بأمر اللهَّ سبحانه إلَّا أنّ سقوط التّكليف لنوع من النقص فيهنّ وسبب النقص هو حالة الاستقذار والحدث المانعة من القرب المعنوي المشروط في العبادات وفي كلامه دلالة على كون الأعمال اجزاء الايمان. (وأما نقصان عقولهنّ فشهادة امرأتين كشهادة الرّجل الواحد) (27) فهو مطابق لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ

ص: 100

إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى...»(28).

وقوله (وأما نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الانصاف من مواریث الرّجال) فهو مطابق لقوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا»(29)

إنَّ ما ذكرناه من نصوصٍ تخصُّ المرأة للإمام علي (عليه السلام)، تمثِّلُ أنوذجًا لأقواله وكلامه المعجز بعد كلام الله سبحانه وتعالى، الذي قيل فيه إنَّه فوق کلام المخلوق ودون کلام الخالق (30) فهو كذلك حقًّا وصدقًا، وكذلك تمثِّل صورة لُأفُقِ تفكيرهِ (عليه السلام) ونَظَرِهِ للمرأة. وعلى كثرة أقواله تلك التي تتعلق بالمرأة وشؤونها في الحياة والمجتمع، لا نجد انَّه (عليه السلام) قد أسندَ أو علَّق مسؤوليَّةً ماليَّة على المرأة لغيرها أي للرجل مهما كانت صلته وقرابته منها، وكذلك لم يلزمها أيَّ جهد من عملٍ أوكدٍّ تجلبه للرجل لتوفير متطلبات حياتهما. وهذا هو مسار التشريع الإسلاميّ الصحيح الذي أنزِل به القرآن الكريم؛ فالتطابق بينهما على أعلى درجاته وصوره في التمام والكمال. وبناءً على ذلك ينبغي أن يعطى الذكر النصيب الأوفر في العمل وخلق فرصه، والأولويَّة بل وتفضيله على الأنثى في ذلك؛ لأنَّه هو المسؤول الأول والأخير عن كلِّ ما يتعلَّق بالمرأة وشؤونها، وشؤون أهله وبنيه وذويه ومن يعيلهم داخل أسرته وبيته، وفي مقدمتها المأكل والمشرب والتطبيب، وينبغي أن لا تُشرك المرأةُ في العمل أو إن تحلَّ محلَّه فيه إلَّا إذا قامت

ص: 101

بمسؤوليَّته تلك؛ لفقده أو لأسباب أخرى توجب على المرأة أن تقوم بواجب الرجل وأداء وظيفته.

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

ص: 102

المبحث الثالني

الجانب التطبيقي

سنقتصر في هذا المبحث على ذكر نماذج من فرص العمل التي أُتيحت للذكر والأنثى في المجتمع العراقي؛ لنرى مدى تطابقها أو انسجامها مع ما أقررناه ووصلنا إليه في المبحثين الأول والثاني. وقد اكتفينا بنموذجين من فرص العمل، هما: فرص العمل في وزارة التربية، وفرص العمل في وزارة الصَّحة. وقد اخترناهما من دون غيرهما من الوزارات الأخرى؛ لأنها أثر الوزارات في توفير فرص العمل وأكثرها وضوحًا في ذلك وللإطلاع أكثر راجع ما ورد في المواقع المذكورة في الهامش (31)

ونرى في فرص العمل هذهِ أنَّها جاءت غير موافقة لما أوجبه التشريع الإسلامي على الرجل من أعباء ماليِّة يجب عليه إنفاقها على المرأة التي تستلزم زيادة الفرص أمام الرجل؛ فالجهات التي أتاحت هذه الفرص غير ناظرة إلى هذه المسألة الجوهريَّة التي خصَّها الله سبحانه وتعالى بالرجل من دون المرأة؛ إذ نری أنَّها قد ساوت بينهما في ذلك وربَّما جعلت فرص المرأة أكثر من الرجل. وهو أمرٌ نراه غير سليمٍ بل خاطئ وذا خطل. ويبدو أنَّ هذا الأمر مستشرٍ في وزارات الدولة كلِّها ومؤسَّساتها كلَّها، بل سری وشاع في مؤسسات القطاع الخاص أيضًا. وهو أمر في غاية الأهميَّة يجب على الجهات المسؤولة عنه والمشرفة عليه في القطاع العام والخاص إعادة النظر فيه وتوجيهه بما يراعي مسؤوليّة الرجل وأعباءه المالية الكبيرة تجاه المرأة، وبما ينسجم مع ما جاء به الدين الإسلامي العظيم.

ص: 103

خلاصة البحث

من خلال ما ذكرناه سابقًا في المبحث الأول والثاني، وجدنا تطابقًا تامًّا بين التشريع الإسلامي وفكر الإمام علي (عليه السلام)؛ لمعالجة مشكلة البطالة في المجتمع، وعلى وَفقِ هذا التطابق نستطيع أن نوجزَ فكرة البحث وأهدافه وتوصياته بالآتي:

أولًا: فكرة البحث ومضمونهُ:

1 - مسألة تكافؤ الفرص بشكل مطلق بين الرجل والمرأة على حدٍّ سواء أمرٌ مغلوط وفيه زلل كبير؛ لأنَّه يؤدِّي إلى زيادة نسبة البطالة بين صفوف الرجال وهذا يعني زيادة نسبة البطالة في المجتمع بل يؤدِّي إلى زيادة نسبة الفقر وما دون الفقر في المجتمع؛ لأنَّ كلَّ رجلٍ لابُدَّ أن يكون مسؤولًا عن امرأة، أُمٍّ أو أختٍ أو زوجٍ أو بنتٍ، إن لم يكن مسؤولًا عن أبٍ كبير أو أخٍ صغير.

2 - إنَّ فكرةَ هذا البحث هي مراعاة الذكر في فرص العمل المتاحة في المجتمع سواءً على مستوى الدولة ومؤسَّساتها ووزاراتها أم على مستوى القطاع الخاص، ويتم ذلك من خلال زيادة حصَّة الرجل في فرص العمل؛ لأنَّ الرجل عليه مسؤوليَّات مالية كبيرة وعظيمة، والمرأةُ ليس عليها شيء مطلقًا في الدين وفي غيره.

ثانيًا: أهداف البحث:

1 - إلغاء تكافؤ فرص العمل بين الذكر والانثى؛ لأنَّه يؤدِّي إلى زيادة نسبة البطالة والفقر في المجتمع كما ذكرنا سابقًا.

2 - إعطاء الذكر الأولويَّة في فرص العمل وخلقها وتشجيعه ومساعدته من

ص: 104

الجهات الحكوميَّة ومؤسَّسات الدولة.

3 - زيادة حصَّة الرجل في فرص العمل على المستويين العام والخاص، وإعطاؤهُ

الأوليَّة فيها، لأنَّه يمثِّل لَبِنَةً ستنبثِقُ منها أسرةٌ في المستقبل، إن لم يكن صاحبَ أسرةٍ في الواقع.

ثالثًا: توصيات البحث:

1 - تقنين فرص العمل المتاحة أمام المرأة وجعلها موافقةً لمسؤولياتها الماليَّة في المجتمع، فمن كانت تعيل أسرة وليس لها مورد مالي وليس هناك من ينفق عليها ويتكفَّل أسرتها، تعطى الأولويَّة في فرصة العمل.

2 - فتح مراكز تأهيل للذكور العاطلين عن العمل ممن ليس لديهم مؤهِّل تعليميّ أو علميّ، تتبناها الدولة ومؤسَّساتها لينخرطوا في المجتمع ويكونوا قادرين عل خلق فرص عملٍ لهم بأنفسهم يستطيعون من خلالها الحصول على موردٍ ماليٍّ مقبول يكفل لهم العيش في الحياة.

3 - على الدولة ومؤسَّساتها التي تعنى بالتخطيط ورسم سياسات البلد أن تجري استبيانات دوريَّة من دون انقطاع، وكشوفات ومسوحات سنويَّة مستمرة للتحري والكشف الحقيقي عن مستويات البطالة والفقر في المجتمع؛ من أجل معرفتها وأخذها بالحسبان، ووضع الحلول المناسبة لها ومتابعتها؛ للقضاء عليها في المستقبل أو تقليلها.

4 - يجب أن تُعطى الأولويَّة في فرص العمل للرجل الذي ليست لزوجه فرصة عمل أي لا تعمل أو المرأة التي ليس لزوجها فرصة عملٍ أي لا يعمل،

ص: 105

ويجبُ اشتراط ذلك في شروط وضوابط التعيين وفرص العمل في القطاعين العام والخاص. من أجل اتِّساع نطاق فرص العمل حيثُ تشملُ أكبر عددٍ ممكنٍ من الأفراد من الذين ليس لأزواجهم عمل؛ ممَّا يسهم في تقليل نسب البطالة في المجتمع.

5 - يجب أن تكون ضوابط فرص العمل وشروطها واضحةً لا تحتملُ التأويل الفاسد، وتعلنُ أمام الملأ قبلها وبعدها، وكذلك المنافسةُ فيها؛ كي ينال كل فردٍ حقَّه بشكل عادل.

6 - يجب أن يَسودَ تفضيلُ الرجل على الأنثى في فرص العمل، دینیًّا وخُلُقیًّا وإنسانيًّا، في فكر الدولة ومؤسَّساتها كلِّها، وفي القطاع الخاص ومؤسَّساته أيضًا، إلَّا في فرص العمل التي تقتصر على المرأة؛ لأنَّ الرجل - كما قلنا سابقًا - مشروع أسرة وهو مسؤولٌ عليها وعنها وليست المرأة كذلك.

7 - يجب مراقبة الجهات التي توفِّر فرص العمل مراقبةً شديدةً، وعدم السماح للمتنفذين فيها والمسؤولين على قرراتها في السيطرة عليها وتجييرها لصالحهم حيث تتحول تلك المؤسَّسات والأماكن إلى إقطاعيَّات أو أُسر كاملة لهذا المسؤول أو ذاك، والتحرّي عن ذلك باستمرار، ومحاسبتهم ومعاقبتهم على ذلك على وفق قانونٍ مشرَّعٍ لهذا الموضوع وأمثاله في كلِّ مفصلٍ أو مؤسَّسة من مفاصل الدولة ومؤَسَّساتها.

8 - يجب إجراء تعدادٍ سنويٍّ دقيق للمجتمع تثبتُ في بياناته أعداد الذكور والإناث، وأعداد الأطفال قبل السنة العاشرة، أعداد الذين بعدها، للذكور والإناث، وأعداد الذكور وأعداد الإناث من الشباب، وأعداد العاملين (الذين لديهم فرص عمل) وأعداد غير العاملين منهم. وأعداد المتزوجين وأعداد

ص: 106

غير المتزوجين منهم وأعداد الشيوخ من الرجال والنساء. وكذلك أعداد غیر القادرين على العمل من الشباب. من أجل رسم الخطط والسياسات التي تعنی بفرص العمل وجعلها ملائمة لكل تلك البيانات.

9 - يجب متابعة أعداد الذين خرجوا من فرص العمل بالتقاعد او بقضاء أجلهم أو بأسباب أخرى كالعوق والمرض، وكذلك أعداد الذين دخلوا في فرص العمل، من الذكور والإناث في كل سنةٍ وفي كلِّ مؤسِّسةٍ في البلد ومعرفة كلِّ ذلك بشكل صحيح دقیق. من أجل إعطاء الذكور الفرص التي يستحقونها وكذلك الإناث.

10 - يجب أن يكون أجر الذكر أعلى من أجر الانثى المتساويين في العمل وفي الدرجة والتحصيل العلميّ بِنِسبٍ ثابتةٍ مدروسة؛ لأنّ أعباءَ الرجلٍ - مهما كان حالُهُ - كبيرةٌ ومسؤولياتِهِ كثيرة.

والحمدُ لله ربِّ العالمين أولًا وآخرا

هوامش البحث:

(1) يُنظر: جامع البيان في تأويل القرآن: محمد بن جریر بن یزید بن کثیر بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 ه)

تحقيق: أحمد محمد شاکر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 ه - 2000 م: 23 / 512.

وتفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة) محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (المتوفي: 333 ه)، تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1426 ه - 2005 م: 10 / 166.

(2) يُنظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفي: 538 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407

ص: 107

ه: 4 / 399. ومفاتیح الغيب = التفسير الكبير: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفي: 606 ه)، دار إحياء التراث العربي - بيروت

الطبعة: الثالثة - 1420 ه: 30 / 591. وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفی (المتوفي: 982 ه)، دار إحياء التراث العربي - بیروت: 8 / 139.

(3) يُنظر: الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي): أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفي: 671 ه)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384 ه - 1964 م: 18 / 215.

(4) يُنظر: التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد): محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 ه)، الدار التونسية للنشر - تونس سنة النشر: 1984 ه: 2 / 189.

(5) يُنظر: جامع البيان: 8 / 290. ومعاني القرآن وإعرابه المؤلف: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفي: 311 ه)، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب - بيروت، الطبعة: الأولى 1408 ه - 1988 م: 1 / 307.

(6) يُنظر: بحر العلوم: أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (المتوفي:

373 ه) :1 / 299.

(7) یُنظر: بحر العلوم: أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (المتوفي:

373 ه)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظير الساعدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1422، ه - 2002 م: 3 / 302.

(8) يُنظر: لطائف الإشارات ( تفسير القشيري): عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفي: 465 ه)، تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، الطبعة: الثالثة: 1 / 330.

ص: 108

(9) الوسيط في تفسير القرآن المجيد: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468 ه)، تحقیق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الدكتور أحمد محمد صيرة، الدكتور أحمد عبد الغني الجمل، الدكتور عبد الرحمن عويس، قدمه وقرظه: الأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1415 ه - 1994 م: 2 / 45.

(10) يُنظر: معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي): محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 1420 ه: 1 / 611.

(11) يُنظر: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: 1 / 505 - 506. وزاد المسير في علم التفسير: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 ه: 1 / 401. ومفاتیح الغيب: 10 / 70 - 71. أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفي: 685 ه)، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى - 1418 ه: 2 / 72. ومدارك التنزيل وحقائق التأويل (تفسير النسفي): أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (المتوفى: 710 ه)، حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي، دار الكلم الطيب، بیروت، الطبعة: الأولى، 1419 ه - 1998 م: 1 / 354. والبحر المحيط في التفسير: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفي: 745 ه)، تحقيق: صدقي محمد جمیل، دار الفكر - بيروت، الطبعة: 1420 ه: 3 / 622. وفتح القدیر: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفي: 1250 ه)، دار ابن کثیر، دار الكلم الطيب - دمشق، بیروت، الطبعة: الأولى - 1414 ه: 1 / 531. والتحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد): محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفي: 1393 ه)، الدار التونسية للنشر - تونس، سنة النشر: 1984 ه: 5 / 37 - 39.

ص: 109

(12) یُنظر: جامع البيان: 5 / 44

(13) يُنظر: تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة): محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (المتوفى: 333 ه)، تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1426 ه - 2005 م: 2 / 176. والكشف والبيان عن تفسير القرآن،: أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفى: 427 ه)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1422، ه - 2002 م: 2 / 180. وا لنكت والعيون: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفي: 450 ه)، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان: 1 / 299. ولطائف الإشارات ( تفسير القشيري): عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفي: 465 ه)، تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، الطبعة: الثالثة: 1 / 183.

(14) يُنظر: جامع البيان: 23 / 456. والوسيط في تفسير القرآن المجيد: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468 ه) ن تحقیق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الدكتور، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1415 ه - 1994 م: 4 / 315.

(15) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (ع)، تحقيق: ما أختاره وجمعه الشريف الرضي // ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية: الدكتور صبحي صالح، الطبعة: الأولى سنة الطبع:

1387 - 1967 م: 494.

(16) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: حبيب الله الهاشمي الخوئي (ت: 1324 ه)، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، الطبعة: الرابعة، مطبعة الاسلامية بطهران، دار الهجرة - إيران - قم، 1360 ه: 21 / 207.

(17) يُنظر: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (ت: 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1962 م: 18 / 285.

(18) نهج البلاغة: 509 - 510.

ص: 110

(19) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 296.

(20) نهج البلاغة: 405.

(21) يُنظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار: عياض بن موسی بن عیاض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل (المتوفى: 544 ه)، المكتبة العتيقة ودار التراث: 2 / 193، والنهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، المكتبة العلمية - بیروت، 1399 ه - 1979 م

تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي: 4 / 129، ولسان العرب: محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفي:

711 ه)، دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 ه (قهم).

(22) ينظر: تكملة المعاجم العربية: رينهارت بیتر آن دُوزِي (المتوفى: 1300 ه)، نقله إلى العربية وعلق عليه: ج 1 - 8: محمَّد سَلیم النعَيمي، ج 9، 10: جمال الخياط، وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، الطبعة: الأولى، من 1979 - 2000 م: 1 / 193، و8 / 304، و423.

(23) في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه) الطبعة: الأولى مطبعة ستار، 1427 ه: 3 / 530.

(24) نهج البلاغة: 405.

(25) شرح نهج البلاغة: 16 / 124.

(26) نهج البلاغة: 105 - 106.

(27) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 5 / 303 - 307.

(28) سورة البقرة: من الآية (282).

(29) سورة النساء: 11.

(30) يُنظر: الإمام علي بن أبي طالب (ع): أحمد الرحماني الهمداني، الطبعة: الأولى، المنير للطباعة والنشر - تهران، سنة الطبع: 1417 ه.

ص: 111

(31) http://moh.gov.iq/upload/upfile/ar/ pdf31.524/2016/10م.

pdf. 525 /http://moh.gov.iq/upload/upfile/ar

1 / 11 / 2016

ص: 112

المصادر والمراجع

1. - الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): أحمد الرحماني الهمداني، الطبعة: الأولى، المنير للطباعة والنشر - تهران، سنة الطبع: 1417 ه

2. - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفی (المتوفي: 982 ه)، دار إحياء التراث العربي - بيروت: 8 / 139.

3. - أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفي: 685 ه)، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى - 1418 ه.

4. - بحر العلوم: أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (المتوفي:

373 ه)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نظیر الساعدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1422، ه - 2002 م.

5. - البحر المحيط في التفسير: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حیان أثير الدين الأندلسي (المتوفي: 745 ه)، تحقيق: صدقي محمد جمیل، دار الفكر - بیروت، الطبعة: 1420 ه.

6. - التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد): محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفي:

1393 ه)، الدار التونسية للنشر - تونس سنة النشر: 1984 ه.

7. - تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السنة) محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (المتوفي: 333 ه)، تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1426 ه - 2005 م.

8. - تكملة المعاجم العربية: رينهارت بیتر آن دُوزِي (المتوفى: 1300 ه)، نقله إلى العربية

ص: 113

وعلق عليه: ج 1 - 8: محمَّد سَليم النعَيمي، ج 9، 10: جمال الخياط، وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، الطبعة: الأولى، من 1979 - 2000 م

9. - الجامع لأحكام القرآن ( تفسير القرطبي): أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفي: 671 ه)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، 1384 ه - 1964 م.

10. - جامع البيان في تأويل القرآن: محمد بن جریر بن یزید بن کثیر بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 ه)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 ه - 2000 م.

11. - زاد المسير في علم التفسير: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفي: 597 ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الأولى - 1422 ه.

12. - يُنظر: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (ت: 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1962 م.

13. - فتح القدير: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفي:

1250 ه)، دار ابن کثیر، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى - 1414 ه.

14. - في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية (ت: 1400 م) الطبعة: الأولى مطبعة ستار، 1427 ه.

15. - الكشف والبيان عن تفسير القرآن،: أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق (المتوفى: 427 ه)، تحقيق: الإمام أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى 1422، ه - 2002 م.

16. - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد،

ص: 114

الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 ه)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407 ه.

17. - لسان العرب: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 ه.

18. - لطائف الإشارات (تفسير القشيري): عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري (المتوفى: 465 ه)، تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر، الطبعة: الثالثة.

19. - مدارك التنزيل وحقائق التأويل (تفسير النسفي): أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (المتوفى: 710 ه)، حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي، دار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة: الأولى، 1419 ه - 1998 م.

20. - مشارق الأنوار على صحاح الآثار: عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، أبو الفضل (المتوفى: 544 ه)، المكتبة العتيقة ودار التراث.

21. - معالم التنزيل في تفسير القرآن ( تفسير البغوي): محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 ه)، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الأولى، 1420 ه.

22. - معاني القرآن وإعرابه المؤلف: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج (المتوفى: 311 ه)، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب - بيروت، الطبعة: الأولى 1408 ه - 1988 م.

23. - مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير): أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 ه)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1420 ه.

ص: 115

24. - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: حبيب الله الهاشمي الخوئي (ت: 1324 ه)، تحقيق: سيد إبراهيم الميانجي، الطبعة: الرابعة، مطبعة الاسلامية بطهران، دار الهجرة - إيران - قم، 1360 ه.

25. - النكت والعيون: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفي: 450 ه)، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان.

26. - نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام)، تحقيق: ما أختاره وجمعه الشريف الرضي، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية: الدكتور صبحي صالح، الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1387 - 1967 م.

27. - النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفي: 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399 ه - 1979 م.

28. - الوسيط في تفسير القرآن المجيد: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468 ه)، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الدكتور أحمد محمد صيرة، الدكتور أحمد عبد الغني الجمل، الدكتور عبد الرحمن عويس، قدمه وقرظه: الأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1415 ه - 1994 م.

29. pdf.026 /http://moh.gov.iq/upload/upfile /ar -

2016/10/31 م.

30. 2016/11/1 - pdf.520 /http://moh.gov.iq/upload/upfile/ar

ص: 116

مدخل إلى المعالجات الاستراتيجية التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

في معالجته لمشكلة الفقر

فاطمة مصحب لفته

جامعة واسط / كلية الادارة والاقتصاد

ص: 117

ص: 118

المقدمة

لا يزال الفقر هذه المفردة البسيطة في لفظها، العميقة في إبعادها، يشكل الظاهرة الأخطر، والهاجس الأكبر للبشرية، رغم كل التطور العلمي وكل البرامج والمناهج الاقتصادية على كل الأصعدة.

لقد جسد الإمام علي (عليه السلام) النهج النبوي في خلق مجتمع امن اقتصاديا ومعیشیا، فقد خبر أسباب الفقر فجاءت معالجاته لها كمنظومة علمية وقانونية لاقتصاد ناجح ومثمر لا يدع مجالا للفقر بين أبناء المجتمع الإسلامي.

وهذه الدراسة جاءت كمحاولة جادة رغم كونها دراسة مصغرة لمعالجة مشكلة الفقر في المجتمع والقضاء عليها، لان مجرد وجود هذه المشكلة يتعارض ويتناقض تماما مع النظم والتعاليم التي جاء بها الإسلام.

مشكلة البحث

ما تزال معالجة مشكلة الفقر من جذورها بعيدة عن أضواء البحث والدراسات والقرارات الكبيرة على صعيد بلادنا الإسلامية وبلاد العالم، وأن الإمام علي (عليه السلام) قدم حلول نموذجية مقابلة لمشكلة الفقر، فقد تألق نظريا وعمليا عندما أضحى حاكما على الدولة الإسلامية التي لم يرى فيها فقيرا واحدا وذلك في أقل من خمسة سنوات.

أهمية البحث

ينطلق البحث من أهمية اعتبار کلمات وحكم وممارسات الإمام علي (ع) الاقتصادية التي تتعلق بمشكلة الفقر المستندة على ما جاء في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة هي المرجع الأساس للتعرف على الأسباب والحلول الاستراتيجية

ص: 119

لمكافحة الفقر.

فرضية البحث

ينطلق البحث من فرضية مفادها أن للإمام علي ابن أبي طالب (ع) رؤية مميزة وشاملة وعميقة لأسباب مشكلة الفقر من جهة والاستفادة من هذه الرؤية لحل المشكلة في واقعنا المعاصر من جهة أخرى (قال رسول الله (ص): أعلمكم علي).

أهداف البحث

يسعى البحث إلى دراسة الأتي:

1 - معرفة مشكلة الفقر

2 - الأسباب والحلول الاستراتيجية لمشكلة الفقر التي بينها الإمام علي (ع) في نظريته الاقتصادية المتكاملة التي طبقها على ارض الواقع.

3 - الاستفادة من تجربة الإمام علي (ع) في معالجة مشكلة الفقر على ارض الواقع الراهن.

منهجية البحث

أن طبيعة موضوع الدراسة واحتوائه على عدة عناصر رئيسة کالاقتصاد والتاريخ والفقه والسياسة، قد حددت منهجية البحث بالمنهجين التاريخي والتحليلي بشكل رئیس والاستفادة من المنهج المقارن كلما اقتضت الضرورة ذلك.

هيكلية البحث

من اجل التحقق من فرضية البحث، ثم الوصول إلى أهدافه، فقد تناول البحث المباحث الآتية:

ص: 120

المبحث الأول / مفهوم الفقر.

المبحث الثاني / أسباب الفقر في ضوء ما أكد عليه الإمام علي (ع).

المبحث الثالث / الحلول الاستراتيجية لمكافحة الفقر في ضوء ما بينها الإمام علي (عليه السلام).

ص: 121

المبحث الأول

مفهوم الفقر

الفقر يشير في اللغة إلى الافتقار بمعنى العوز، والمتعارف عليه أن الفقر هو حالة العوز المادي حيث يعيش الإنسان دون حد الكفاف المتمثل يسوء التغذية والمجاعة حتى الموت، والذي يؤدي إلى انخفاض المستوى الصحي والتعليمي والحرمان من امتلاك السلع المعمرة والأصول المادية الأخرى وفقدان الضمان لمواجهه الحالات الطارئة كالمرض و الإعاقة والبطالة والكوارث والأزمات(1).

وقد تصدى الإسلام للفقر وأولاه اهتماما خاصا، فقد ذكر في القرآن الكريم في أكثر من أية مشيرة إلى الحالة التي يعاني منها الفقراء مثل «بسم الله الرحمن الرحيم» للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس ألحافا»(2)

وقد تناول المشرع الإسلامي مسألة الفقر، فقد أشار الرسول محمد (ص) أن الله يسأل أين صفوتي من خلقي؟ فتقول الملائكة ومن هم يا ربنا فيقول: فقراء المسلمين. وقول الإمام علي (عليه السلام): الفقر كالموت الأكبر، فالإمام يرى أن القبر خير من الفقر(3).

وبين السيد مرتضى الشيرازي بأن الفقر يمثل عدم القدره للوصول إلى الحد الأدنى من الاحتياجات المهمة المادية كالطعام والسكن والملبس ووسائل التعليم والصحة وحاجات غير مادية مثل حق المشاركة والحرية الإنسانية والعدالة الاجتماعية (4)، فهو يتمثل بعدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة.

هذا وتنطلق تقارير التنمية البشرية من قناعه مفادها أن الفقر الحقيقي هو

ص: 122

الذي يتمثل في انخفاض دليل التنمية البشرية HDI الذي صاغته التقارير بناء على مكونات عديدة يمثل الفقر منظورا أليا فيها(5).

وفي هذا الصد فقد عرف تقرير التنمية البشرية لعام 2010 الفقر بأنه لا يعني عدم كفاية الدخل فحسب بل يتجاوزه إلى إبعاد أخرى منها تدهور الصحة وسوء التغذية، وتدني مستوى التعليم والمهارات، وعدم كفاية موارد العيش، وعدم توفر السكن اللائق، والإقصاء الاجتماعي، وعدم المشاركة، فهذا الفقر الذي يعيشه الكثيرون في مختلف أنحاء العالم.(6) ومن التعاريف التي تستند إليها الدراسات الراهنة في برنامج العمل الدولي وهو التعريف الذي أطلقته لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي تعرف الفقر بأنه ظرف أنساني يتسم بالحرمان المستدام أو المزمن من الموارد، والمقدرات والخيارات، والأمن والقوة الضرورية للتمتع بمستوى لائق للحياة وغيرها من الحقوق المدنية والثقافية و الاقتصادية والسياسية والاجتماعية(7).

أذن أن الفقر لا يعني قلة في الخبز ولا يعني التضور من الجوع الجسدي فحسب، أنما يتعدى إلى كونه نوع أخر يسهم في تدمير حياة الإنسان ويجعل الأخير غير قادر على الإنتاج والإبداع وبهذا يتحول إلى عبئ ليس على نفسه وعائلته فحسب، وإنما عبئ على مجتمعه ودولته، فضلا عن كونه عبئا على العالم أجمع (8)وكلما كثر هذا النوع من الناس كلما كبرت وتضاعفت نسب الفقر في العالم.

ص: 123

المبحث الثاني

أسباب الفقر

هناك أسباب كثيرة تقف وراء حدوث ظاهرة الفقر وتزيد من نسبة الفقراء في المجتمع بشكل مباشر أو غير مباشر ومن أهم هذه الأسباب: -

1 - ملكية الدولة (9)

للتملك في النظام الإسلامي حالتان، فأما أن يكون الشيء المراد تملكه واقعا تحت ملك الغير فهذا يمتلك أما بالشراء أو الهبة أو الميراث.

والتملك لهذا الشيء في هذه الحالة مرتبط بقوانين وشروط البيع والهبة والإرث، ولا فرق بعد ذلك بين أحد من الناس في تملك ذلك أذا ما كان محققا لشروط البيع أو الهبة أو الإرث. أما الحالة الثانية فهي أذا كان الشيء المراد تملكه غير خاضع تحت ملكية مسبقة فهو في هذه الحالة غير خاضع لأي شروط غير شرط السبق والحیاز والإعمال، وإلا فالكل له الحق في التملك أذا سبق إلى شيء وهو حر في التصرف فيه.

قال تعالى «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا» (10)، ولان الأرض لله ولمن سبق إليها وعمرها إذ في الإسلام في هذا الباب قاعدتان: -

القاعدة الأولى

«هی قاعدة (الأرض لمن عمرها) ويتبعها كما في حديث أخر قول الرسول (ص وآله) (ثم هي لکم مني أیها المسلمون)».

ص: 124

القاعدة الثانية

قاعدة «من سبق إلى ما لا يسبقه إلية المسلم هو أحق به».

أي المباحات التي جعلها الله تعالى للجميع من بر وبحر وسهل وجبل وغابة وما أشبه ذلك أذا سبق أحد إلى شيء منها بنية الحيازة كان هو أحق بها لملكية لها بالحيازة، فالإنسان مثلا لو أستخرج الملح من المعدن وحازة فهو له، وكذلك مع باقي مصادر الثروات الطبيعية، والبحار وثرواتها، والغابات، والمعادن

فالأرض ومصادر الثروات الطبيعية الأخرى وكذلك الثروات الطبيعية نفسها لو كانت متاحة.

ومجانية للجميع فأن تكاليف هائلة ستسقط عن كاهل الفقراء وتنخفض نسبة الفقر بشكل ألي، كما تتوفر للفقراء فرص ومصادر سهلة للإثراء المشروع.

وفي حكومة الإمام علي (عليه السلام) تم أعطاء حق الحرية للفرد في أن يزرع أو يبني أو يرعى أو يستثمر حيث يشاء في أي مصدر من مصادر الثروات الطبيعية (11).

2 - نهب المال العام

الحصول على أموال الدولة والتصرف بها دون وجه حق تحت مسميات مختلفة، بحيث يتزعزع كيان الدولة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي تتمثل بالاختلاسات الضخمة التي تأخذ من المال العام وتذهب إلى الحسابات الشخصية لجهات معينة، وبالتالي تركز الأموال الضخمة في أيد فئة قليلة من المجتمعات، وحرمان الأكثرية من الناس من الخدمات الضرورية من الماء والكهرباء والمشتقات النفطية على أنواعها. وغير ذلك من أعمال تصب في

ص: 125

النهاية في سرقة المال العام. كالرواتب الضخمة التي يتمتع جهات معينة بالإضافة إلى المبالغ الكبيرة التي تصرف على أمور لا تصب في مصالح العامة من الناس التي أخذت حيزا كبيرا من أموال الدول، في حين يعاني الكثير من موظفي دوائر الدول والمؤسسات من قلة الرواتب وعدم كفايتها لسد حاجاتهم وحاجات عوائلهم بالإضافة إلى الذين لا يجدوا عمل فهولاء في حال مالي أسوء. كما أن هناك سرقة تقوم بها الحكومات ولكنها مقنعه كالضرائب أو بيع النفط والغاز، مع أنه ملك للناس. (12)

3 - الفساد

قال الإمام علي (عليه السلام) «لا ينبغي أن يكون الوالي المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع». (13)

ظهور عدد من حالات الفساد على مستويات عالية أثارت مخاوف على المستوى الدولي، ومع

تزايد توافق الآراء على أن الفساد يمكن أن ينال بدرجة خطيرة من قدرة البلد المعني على تحقيق النمو الاقتصادي الاحتوائي. (14)

لبيان دور الفساد المالي في ظهور الفقر وتعميق لابد من الرجوع إلى التعريف الذي وضعته منظمة الشفافية الدولية للفساد،

حيث عرفته على أنه: «استغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة(15) ويسبب الفساد المالي المزيد من الفقر وعدم العدالة في توزيع الدخل ويؤدي إلى تقليل فرص الفقراء في الحصول على حقهم الطبيعي في وظائف الدولة».

ويمكن النظر إلى الفساد كمعوق للاستثمار وللتنمية الاقتصادية ويرفع من

ص: 126

كلفتها، فالمستثمرين الذين يهمهم الربح السريع والعالي يسألون عن (مفاتيح) الفساد وعن رجال الإعمال المحليين من أصحاب النفوذ. إذن يتضح في النهاية أن الفساد يسبب (16):

- انخفاض الإيرادات العامة والزيادة في النفقات.

- التقليل من النوعية والجودة والكفاءة

- اضطراب إجراءات التوظيف والترفيع والتعيين في الدولة والقطاع العام

وهذا كله يساهم في وجود ملايين من البشر أسرى البؤس والفقر والمرض والصراعات وأشكال الاستغلال الوحشي.

4 - الربا

أن مسألة الربا لغة بمعنى: «الزيادة، وأن الربا مشتق من الربوة، بمعنى العلو، إذ أن المرابي يعلو على غيره، وان ماله يعلو على مال غيره، والربا بنظر الشرع حرام وبنظر العقل باطل، وبنظر الاقتصاد ممحوق، وليس ذلك أمر غيبيا بل أمر خارجي حقيقي(17)» قال سبحانه: «يمحق الله الربا ويربي الصدقات»(18)، فذلك لأجل أن الربا يجمع المال من أيادي متعددة إلى يد واحدة، وبذلك يقل العمل والإنتاج، وذلك محق وتقليل للثروة، إذ اليد الواحدة الأكلة للربا لا تتمكن من عمل كل أولئك، فتبطوء عجلة الإنماء.

قال الله سبحانه: «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا أنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا «إلى قوله سبحانه «فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» (19).

جاء النهي عن الربا لما له من نتائج وخيمة مترتبة غالبا عليه: الفقر المدقع

ص: 127

الموجب لمختلف

الجرائم، وأنواع الأمراض وما أشبه ذالك فأن الفقر سواد الوجه في الدارين کما قال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)(20).

أن الربا لا يأتي منه إلا الفساد حتى وأن كان كما يدعى بنمو معتدل وقد أشار إلى ذلك الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب السؤال عن علة تحريمه قائلا: «لما فيه من فساد الأموال إلى أخر قوله (عليه السلام)، فحرم الله عز وجل على العباد الربا لعلة فساد الأموال. «وعلية فالفائدة مكسب غير شرعي لأنها لا تقوم على أساس عمل منفق (21).

وان ما يميز العولمة الإسلامية من الجانب المادي والمالي هو عدم المراباة، فأن عدم المراباة هو الميزة الجوهرية للاقتصاد الإسلامي، حيث لا يَظلم ولا يُظلم صاحب رأس المال، كما قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٭ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ» (22).

وهذه الميزة إلا ربوية هي من مفاخر وخصائص هذا الاقتصاد السماوي السليم وبها يتميز وينفرد وبشكل واضح عن الاقتصاد الرأسمالي وعن الاقتصاد الشيوعي والاشتراكي السائد.

ينظم الإسلام برنامج اقتصادياته ويرسم الحدود والقيود للمكاسب من باب أن العمل سبب لتنمية المال فلأخير لا ينمو، والنقود لا تلد النقود ولو مر عليها ألف سنة.

هذا وان من الحالات التي ينشر بها الربا آفة الفقر في الامة(23):

ص: 128

1 - أما أن يكون المقترض بحاجة ماسة، كما لو احتاج إليها لتلبية حاجاته أو حاجات عائلته الملحة أو لتسديد دين أو لدفع غرامة أو ضريبة أو غير ذلك.

2 - أن يقترض للتجارة أو التوسع في التجارة، فأن اخذ الربا من هذا المستثمر يؤدي إلى تشديد الضغط على الفقراء أيضا، فهو من اجل إن يعوض نسبة الربا المفروضة علية، يضطر أما لتخفيض أجور العمال، وهم عادة من ذوي الدخل المحدود، وإما لزيادة قيمة منتجاته مما ينعكس سلبا على الفقراء.

وأخیرا نرى كيف أن الإسلام بتحريمه للربا يبعد اثر هذه الآفة عن الأمة ويعطي في نفس الوقت فرص لتحقيق الأرباح، حيث إن الأصول التي تتملكها البنوك التي تطبق الشريعة الإسلامية في كافة عملياتها ارتفعت بنسبة 6، 28% لتصل إلى 822 مليار دولار في عام 2009 مقابل 639 مليار دولار في عام 2008 في حين إن اكبر إلف بنك في العالم لم يتجاوز النمو السنوي في أصولها 8، 6% خلال نفس المدة، حيث هناك صلات وثيقة بين القطاع المالي والأصول الحقيقية حيث ساعد هذا على حماية هذا القطاع من أسوء أزمة ائتمان.

5 - انعدام المساواة

أن انعدام المساواة المتنامي على نطاق العالم قد أصبح اتجاها رئيسا فيما بين البلدان وداخل البلد الواحد (24). فمن الملاحظ إن الثروة العالمية تتركز على نحو متزايد في أيدي قلة ضئيلة، فقد بينت الإحصاءات أن نسبة (1%) من سكان العالم يمتلكون نسبة (20%) من الثروة العالمية وما زال يوجد (2، 1) مليار شخص يعيشون في حالة فقر مدقع، ويموت كثير من الأطفال من سوء التغذية قبل بلوغ سن الخامسة. وهذا ما يدل على وجود علاقة تشابك ما بين انعدام المساواة والفقر. فمن غير الممكن مناقشة السياسات الحكومية الرامية إلى إنهاء الفقر دون

ص: 129

التصدي لأسباب انعدام المساواة (25).

ويرتبط احد أسباب تزايد أوجه انعدام المساواة شواغل تتعلق باليد العاملة، حيث أن الأجور لم تواكب الإنتاجية، والنمو. ويمكن أن يعزى نمو أوجه انعدام المساواة إلى(26):

1 - (القيود المفروضة على المساومة الجماعية.

2 - الانخفاض المزن الطويل الأجل في نصيب الأجور من الدخل لصالح الإرباح (27)

3 - الشروط المعمول بها في قطاع العمل غير الرسمي.

4 - نماذج الضرائب.

5 - أوجه عدم التجانس كبيرة في قوة المساومة بين المشترين الكبار والمنتجين الصغار.

6 - انعدام الاستدامة في خطة التنمية).

6 - إعطاء الأولوية للضرائب على حساب الأعمار والتنمية

من المعروف أن الضرائب لا تخلو من كونها من المضعفات لحوافز العمل والإنتاج والتوزيع لدى الإفراد فهي تؤثر على العمل من حيث كونها تمثل اقتطاع جزء من دخول الإفراد مما تساهم في خفض مستوى استهلاكهم من السلع الضرورية وبالتالي النقص من قدرتهم على العمل، والضرائب عندما تساهم في تخفيض الدخول ينخفض حجم المدخرات ثم ينخفض حجم الاستثمار وبالتالي ينخفض حجم الإنتاج، وينشأ عن الضرائب الغير مباشرة سوء توزيع للدخول والثروات أذا أصابت الفئات الفقيرة أكثر من الفئات الغنية (28).

أن إعطاء الضرائب الأولوية المطلقة على حساب السياسات الاقتصادية الداعمة لتوفير السلع الضرورية ولتنمية القطاعات المهمة في حياة الإفراد

ص: 130

كالتعليم (النوعي والكمي) والإنفاق على البنى التحتية كبناء الجسور والطرقات والضمان الاجتماعي وغيرها الكثير يفيد في تكريس الاستبداد بعينه وقمع الشعوب ومصادرة الحريات وفي النهاية كل هذا يصب في زيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء.

فالرؤية الاقتصادية للنظرة الإسلامية التي ترى في إعطاء الضرائب الأولوية يصب في خسارتين(29):

1 - التقليل من مستوى الإنتاج، حيث يصبح الفرد المنتج غير راغب في زيادة الإنتاج رغم طموحة الكبير في مجال عمله وهذا ينعكس على انخفاض مستوى الناتج المحلي الإجمالي.

2 - التبعات من فرضها تكون سلبية إذ ستتناقص نسب الضرائب التي كانت تحصل عليها الحكومة بشكل مؤكد. هذا بالإضافة إلى الإضرار النفسية والاجتماعية التي ستترك في المجتمع.

7 - المقامرة

قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» (30). قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يسلم على أربعة، السكران في سكره، وعلى من يعمل التماثيل، وعلى من يلعب النرد، وعلى من يلعب بالأربعة عشر، وأنا أزيدكم الخامسة أنهاكم أن تسلموا على أصحاب الشطرنج»(31)

لقد كانت المقامرة من الأسباب الرئيسة لتدمير البناء الاجتماعي للفقراء، كما تعد سبب رئيس للازمات المالية العالمية وخصوصا في بدايات القرن الحالي، حيث جاءت من خلال تأمين حاملي السندات العقارية على أصل تلك السندات

ص: 131

وعوائدها لدى شركات التأمين وفي حالة فشل المقترض ممثلا في مشتري العقار في الوفاء بما عليه من التزامات تقوم مؤسسة التأمين بسداد مستحقات حامل السند ثم بيع العقار فيما بعد، وعندها تحصل شركة التأمين على مستحقاتها وقد ظهرت المقامرة من خلال المقامرات باسم المضاربات أو المراهنات من خلال البيع على المكشوف، والمشتقات المالية على الأوراق المالية(32).

أن عقود المشتقات في وقت الأزمة ما هي ألا مقامرة على وقائع غيبية لا يحدث فيها تسليم ولا قبض للسلع ولا دفع ثمن، وإنما تسوية عند التصفية لفروق يدفعها الخاسرون ويربحها الرابحون، فقد كان إجمالي المشتقات عالميا يزيد على كدرليون (Quadrillion) دولار وهو رقم لم يتعود معظمنا على استخدامه (33).

وعلية فأن ثمرة المقامرة تكونت من المشتقات المالية والبيع على المكشوفات، والمضاربات الوهمية، والتي أدت في نهاية المطاف إلى دمار الإفراد والمؤسسات والاقتصاد.

8 - الاحتكار

تعددت الكلمات في كتب اللغة ومصادر العربية حول كلمة الاحتكار والحكره، ففي هذا بين الفيروز أبادي أن الحكر الظلم وإساءة المعاشرة وبالتحريك ما احتكر، أي احتبس انتظارا لغلائه وفاعله حكرا (34). ويتمثل الاحتكار في الاقتصاد بالحالة التي يوجد فيها بائع أو منتج واحد يؤمن المنتوج ويسيطر على كامل السوق، وهو الذي يقرر أسعاره(35).

وفي هذا الصد قال الرسول (صلى الله عليه وآله): «الحالب مرزوق، والمحتكر ملعون»، وقال أيضا (صلى الله عليه وآله): «أطلعت في النار فرأيت واديا

ص: 132

في جهنم يغلي، فقلت: يا مالك لمن هذا؟ فقال لثلاثة: المحتكرين والمدمنين الخمر والقوادين»(36).

قال الإمام علي (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الاشتر : «فأمنع من الاحتكار فأن رسول الله (صلى الله عليه وآله)

منع منه، وليكن البيع سمحا بموازين عدل واسعا لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل وعاقب في غير إسراف» (37).

9 - تلوث البيئة

العملية الصناعية التحويلية لم تؤدي إلى مشاكل بيئية كبيرة في الدول النامية في بداية الأمر لان هذه الدول كانت بكرا والصناعة محدودة، مع الاعتماد على مناطق المناجم لإنتاج المواد الأولية، بحيث حتى وان حدثت بعض المشاكل، فأن المشكلة الأساسية كانت تتمثل بتوفير لقمة العيش وإيجاد فرص للعمل، إضافة إلى إن الحكومات نفسها كانت لم تعير اهتماما بشعوبها وبالتأكيد فأن صناع الغرب لم يكن ليهتموا بهذه الشعوب.» ولكن استمرار الاستثمار بهذه الصناعة ولد الكثير من الملوثات منها على سبيل المثال زيادة نسبة غاز ثاني اوكسيد الكاربون من (278) جزء / المليون في عام 1800 إلى (378) جزء / المليون عام 2004 إي بنسبة زيادة (36%)، وهنا تتضح أهمية اتفاقية كيوتو وضرورة تطبيقها»(38).

10 - التسليح

«رغم حاجة المجتمعات إلى الحاجات الأساسية من سلع الاستهلاك وحياة السلم ولرفاه الاجتماعي المدني، إلا أن مغريات الربح الفائق غير العادي في مجالات الإنتاج العسكري، دفعت أصحاب رؤوس الأموال الضخمة في دول العالم إليه،

ص: 133

فقد مثل هذا الربح الأساس الاقتصادي للحروب وسباق التسلح، فقد قاربت النفقات العسكرية العالمية حوالي (2800) مليار دولار أي تريليونين و(800) مليار دولار، فقد قفزت الميزانية العسكرية الأمريكية إلى حوالي (379) مليار دولار عام 2006». (39)

11 - كثرة الموظفين

أن الإسلام يرى في ظاهرة البطالة المقنعة عبئا على الفقراء، حيث أن من تداعياتها ضعف أداء هذه الفئة من الموظفين المساهمة وبشكل كبير في كثرة الغيابات، وانشغال الوقت في إعمال غير الإعمال المناطة بالموظف، وترك مكان العمل دون عذر،» وغياب الدافعية، وطغيان السلبية، وندرة المحفزات بأنواعها وبالتالي تدني مستوى الإنتاجية، وتعطيل العمل، وتأخير الانجاز، ونشر جو من التخاذل بين الإفراد العاملين بعد أن كان الأخيرين محبين للعمل والإنتاج، وترسيخ نظرية أن العمل الحكومي المغلق يصرف الراتب سواء عمل الموظف أم لم يعمل، مما يعني توليد طبقة تستهلك دون أنتاج، بينما الفقير يجهد نفسه لينتج لكنه بالكاد يتمكن من الاستهلاك والحصول على ما يريده»(40).

ومن الأسباب التي كانت وراء حدوث هذه الظاهرة في الدول النامية تكدس العاملين في الجهاز الحكومي بما يفوق احتياجات تلك الأجهزة كنتيجة التزام الجهاز بتعين الخرجين دون أن يكون هناك احتياج حقيقي لإعمالهم، بحيث يكون هناك وجود لمن يؤدي عملا ثانويا لا يوفر له كفايته من سبل العيش أو أن بعض إفراد يعملوا سوية في عمل يمكن أن يؤديه فرد واحد، وفي كلا الحالتين لا يؤدي العامل عملا يتناسب مع ما لدية من قدرات وطاقة للعمل. «مع العلم أن التواريخ كتبوا أن مصر في زمان الإسلام، حيث كان عدد نفوسها عشرة ملايين

ص: 134

كان الموظفين فيها خمسمائة فقط، ما عدا الجيش، والكل يعلم أن الجيش في الإسلام شعبي لا يكلف الدولة شيئا، لا جيش احتياط ماعدا بعض الإفراد أو الذين يلزم وجودهم الدائم للتدريب والحفظ وما أشبه»(41).

ص: 135

المبحث الثالث

معالجات الفقر عند الإمام علي (عليه السلام)

لا يزال الفقر يشكل مشكلة خطيرة في المجتمع البشري، رغم كل التطور العلمي وكل البرامج والمناهج الاقتصادية على جميع الأصعدة، فهذه المشكلة تتعقد بشكل مستمر في كافة نواحي الحياة: السياسية منها والاجتماعية، والنفسية والفكرية والروحية، والقانونية والدينية. وقد بات واضحا عجز الإنسان عن التوصل إلى حل شامل ومتكامل لمشكلة الفقر، وإذا كان ثمة حل جذري للمشكلة، فأن مصدره السماء، «حيث أن الإله الحكيم والعادل والمحيط بكل شيء والقادر هو الذي يكمن عنده حل المشكلة بما فيها مكوناتها الثلاث البشر -الثروات - النظم والمناهج».

ومن هنا كان التجاءنا إلى التعاليم الإلهية التي ارشد إليها القران الكريم وأقوال رسول الله (ص وأله) والإمام علي (ع) في التعرف على حل لمشكلة الفقر.

أولا: امتلاك الناس لكل الثروات

انطلاقا من قوله تعالى «خلق لكم ما في الأرض جميعا» (42)، كل ما خلق في الأرض هو ملك لكافة الناس، وهذا يعني لا توجد هناك ملكية للحكومة المعنية على كل ما موجود في الأرض، وبعبارة أخرى» أن كل ما موجود على الأرض هو ملك وبشكل مباشر لكافة الناس وظيفة الحكومة فقط تنظيم هذه العملية فحسب، بحيث يمكن لأي فرد امتلاك قطعة ارض ليسكن فيها أو يستثمر فليس علية دفع ثمنها إلى الحكومة، وفي هذا حل لمعظم المشاكل الاقتصادية التي تمر بها الدول «فعندما تصبح الأراضي مجانا هذا يوفر فرص عمل هائلة (فتح

ص: 136

متاجر وورش ومصانع) ويزيد قدرة معظم الناس وخصوصا أصحاب الدخول المنخفضة على الاستثمار حيث يسهل دخول هولاء إلى المجالات الإنتاجية كإنشاء المزارع الإنتاجية ورعي الأغنام والأبقار وهذا يرفع من مستويات الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني. وهنا يرى الإمام علي (عليه السلام) «إن ثروة الأمة تكون لأبنائها العاملين فقط، بعد اخذ الحق العام، فجناة أيديهم لا تكون لغير افواهم» (43).

ثانيا / الضمان الاجتماعي

يعتبر الفقر من المشاكل التي يعالجها الضمان الاجتماعي وهو من اخطر المشاكل وأكثرها سلبية على الفرد والمجتمع، ولقد عزز الإمام علي (عليه السلام) من مسألة الضمان الاجتماعي، إذ يقول: «أدوا ما افترض الله عليكم من الحج والصيام والزكاة ومعالم الإيمان فأن ثواب الله عظيم وخيره جسيم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وأعينوا الضعيف وانصروا المظلوم»(4).

وفي رؤيته (عليه السلام) « الخلق عيال الله، وأحب الناس إلى الله أشفقهم على عياله»(45)، كما يقول (عليه السلام): «ما من عمل أحب إلى الله تعالى من كشف الضر، يكشفه رجل عن رجل»(46)، ونلاحظ في هذه المقولة مدى سعة حق الضمان الاجتماعي لكل إنسان بغض النظر عن إي وصف أخر، ولاسيما إذا ما كان تحت سلطة الدولة الإسلامية.

من إشارات الإمام علي (عليه السلام) في الضمان الاجتماعي في نظر الكاتب المعاصر هي (47):

1 - رسم إلية وصيغ تنفيذ الضمان الاجتماعي ونقله من النظرية المثالية إلى

ص: 137

الواقع العملي الملموس.

2 - تحديد طبقة الفقراء وغيرهم من الفئات الاجتماعية المستفيدة من الضمان الاجتماعي ففي هذا يحدد الإمام علي (عليه السلام) هذه الفئات بقوله: «ثم الله الله في الطبقة السفلى الذين لاحيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس (شدة الفقر) والزمني (ذوي العاهات) فأن في هذه الطبقة قانعا (سائلا) ومعترا المتعرض للعطاء بلا سؤال وأحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم وأجعل لهم قسما من بيت مالك من غلات (الثمرات))».

ففيما يتعلق برسم الإلية التي تتجسد في: -

1 - إنشاء هيئة الضمان الاجتماعي والتي حددها الإمام بأن تكون «من أهل الخشية والتواضع»(48)

ويتصف القائم على هذه الهيئة بالتقوى «إن يتقي الله في سرائر وخفيات إعماله حيث لا يشهد غيور ولا وكيل دونه»(49) وعمل هذه الهيئة مرتبط مباشرة بالحاكم وتكون ذات أولوية خاصة لدية، إذ يقول «ليكن احضى الناس منك أحوطهم على الضعفاء وأعملهم بالحق»(50).

2 - إلية تنفيذ العمل تكون من خلال وجود خطة للعمل، ابرز معالمها:

أ - التركيز على إعطاء الحقوق لمستحقيها إذ يقول الإمام هنا «أفضل الجود إيصال الحقوق إلى أهلها»(51) و «خير البر ما وصل إلى المحتاج»(52).

ب - التأكيد على إعطاء الحقوق دون مماطلة أو تسويف من الجهة المانحة سواء كانت الدولة أو غيرها.

وفي هذا يقول الإمام علي (عليه السلام): «أفضل الجود إعطاء العطية قبل

ص: 138

ذل السؤال»(53)، ويقول «السخاء ما كان ابتداء فأما ما كان عن مسائلة فحياء وتذمم»(54)

انسجاما مع رؤية الإسلام وفلسفته للحياة، بل أن الإمام يؤكد أن تحقيق الضمان الاجتماعي لإزالة الفقر هو جزء مهم من أسباب الدعوة الإسلامية ككل، حيث يقول الإمام (عليه السلام) «أن لأهل الدين علامات يعرفون بها صدق الحديث ورحمة الضعفاء»(55).

ثالثا / التكافل الاجتماعي

يعني التكافل الاجتماعي أن يكون أفراد المجتمع مشاركين في المحافظة على المصالح العامة والخاصة ودفع المفاسد والإضرار المادية والمعنوية بحيث يشعر كل فرد فيه أن علية واجبات إزاء الآخرين كما له حقوق، ويكون له شعور بالمسؤولية إزاء الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الإضرار عنهم

والتكافل الاجتماعي يتحقق بتطبيق الإسلام عقيدة وشريعة ونظاما وسلوكا وهذا واضح من سيرة الرسول الأكرم والإمام علي (عليه السلام) صلى الله عليهما وسلم وفي هذا يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله): «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد أذا أشتكى منه عضوا تدعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

ومما يدل على أن الإسلام أهتم ببناء المجتمع المتكامل بوضعه لدعائم وأسس التكافل الاجتماعي في أبعاد عديدة انطلاقا من قوله تعالى « وتعاونوا على البر والتقوى» وقول رسوله (صلى الله عليه وآله)» ما أمن بي من بات شبعانا وجاره

ص: 139

جائع» «وليس بمؤمن من بات شبعانا وجاره جائع». وقد طبقت أسس التكافل الاجتماعي في حكومة الإمام علي (عليه السلام) حيث طبقت التعاليم التي أقرها الإسلام في مجال التكافل الاجتماعي:

1 - «قانون تكفل الزوج لنفقات الزوجة.

2 - تکفل الابن لنفقات والديه ما داموا محتاجين إليه

3 - تكفل الأب لنفقات أولاده».

وكل ذلك كان بمعنى محاصرة الفقر من كافة أطرافه، فأن الزوجات والإباء والأبناء يشكلون أكثرية المجتمع وكان ذلك مطبقا في حكومة الإمام علي (عليه السلام)(56)

رابعا / الحرية من المقومات الأساسية لنهوض المجتمعات

قال تعالى «ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم» (57) عندما أصل الإسلام مبدأ الحرية وجعله مطلبا طبيعيا وحاجة بشرية وجعل لهذا الأصل امتداداته الواسعة والشاملة لكل مناح الحياة، وجعل في نفس الوقت هذه الحرية محكومة بالمصلحة الإنسانية ومنقادة لها بحيث لا تؤدي إلى ضرره أو إلى ضرر الآخرين فللإنسان حريته ولكن للآخرين حرية أخرى فيلزم أن لا تصطدم حريته بحريتهم وبعبارة أخرى أن الجميع أحرارا في جميع الأمور باستثناء المحرمات فقط (58) ومن هذه المحرمات المقامرة، والربا، والاحتكار... الخ.

الإسلام منح الناس الحرية التي يجب في نفس الوقت أن تسندها الدولة في أنتاج وتصنيع ما يحتاجونه أو يريدونه من مواد غذائية وإنشائية وخدماتية سواء في مجال الزراعة، أو الصناعة، أو الفنون والتقنيات اللازمة، فتفتح عليهم أبواب

ص: 140

العلوم والحرف والمهن والكسب والاكتساب والتصدير والاستيراد، وفي هذا يقول الإمام علي (عليه السلام): «كل شيء يكون فيه حلال وحرام هو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه»(59). أن الإمام لا يكتفي بأن يؤصل الحرية بقوله «أيها الناس أن أدم لم يلد عبدا ولا أمة وأن كل الناس أحرار «بل يدعوا الإنسان إلى إن يطالب ويكافح من أجل حقه المشروع في الحرية فيقول (عليه السلام): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا»(60).

خامسا / المساواة

من السمات البارزة للإمام علي (عليه السلام) المساواة العادلة بين مختلف أفراد الأمة في تقسيم أموال الأمة التي هم فيها سواء عليهم بالسوية.

من صفاته (عليه السلام) « القاسم بالسوية، العادل في الرعية» وتطبيق ذللك كلف الإمام علي (عليه السلام) الكثير من المتاعب والانشقاقات والحروب وتفرق بعض الرؤوس عنه ولكن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يعبئ بكل ذلك مقابل التطبيق الحرفي والدقيق للإسلام وقد بدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) في المساواة بنفسه الكريمة أولا ثم طبقها على غيره، لكي لا يكون للناس حجة (61)

سادسا / تحديد الضرائب

عندما نتدبر كلام أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) فيما يتعلق بالضرائب، فهو يقول: «تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فأن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة، خرب البلاد وأهلك العباد ولم

ص: 141

يستقم أمره إلا قليلا»(62).

كلما كانت الضرائب من قبل الدولة على المكلفين مرنة، كلما صبت في مصلحتهم، أي سيحققون مزيدا من الإيرادات ثم الإرباح مما سيدفعهم إلى زيادة جهودهم واستغلالهم لها لتوسيع الإنتاج ومن ثم زيادة إرباحهم، من اجل تغطية الضرائب المفروضة عليهم، التي بمثابة تكاليف إضافية تضاف إلى تكاليف الإنتاج الكلية، وإبقاء مستويات إرباح هولاء المنتجين على حالها لابد من زيادة مستوى الإنتاج الذي يؤدي إلى توفر المزيد من السلع، وهذا يؤدي إلى تطور قطاع التجارة وقطاع النقل وغيرها من القطاعات المكونة للاقتصاد القومي.

وإذا ما تم إنفاق الضرائب لتدعيم الخدمات العامة، والى تحسين البني الارتكازية، فأن ذلك سيؤدي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحل الكثير من المشاكل المتعلقة بالسكن والغذاء (63)، وغيرها من مشاكل الفقر.

سابعا / تقليص ساعات العمل

رأى الإسلام في تقليص ساعات العمل توفير مساحة اكبر للفقراء للمشاركة في الإنتاج لانتشال أنفسهم من الفقر، إضافة إلى أن في تقليص ساعات العمل فوائد للعامل منها (64): -

1 - «توفر الوقت اللازم لتجديد نشاطه

2 - تنمية ملكاته

3 - الإشراف على شؤون أسرته

حيث إن حياة العامل تبدأ حيث ينتهي عمله».

ص: 142

هذا وقد رفض الإمام علي (عليه السلام) إن يفرغ الإنسان من محتواه ويتحول إلى أداة للإنتاج الاقتصادي، لذلك أشار (عليه السلام) إلى حق العامل في إن يخلد إلى الراحة، إذ يقول: «للمؤمن ثلاث ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما یحل يجمل» (65). وقد دعا الإمام (عليه السلام) إلى تقليص ساعات العمل في وقت خلافته عبر طرق عديدة منها(66).

1 - «التحريض على الخروج مبكرا من السوق.

2 - الالتزام بالصلوات في أوقاتها مما يعني الخروج من السوق مرتين أو أكثر يوميا.

3 - التحريض على تخصيص قسم جيد من الوقت للعبادة وللعائلة والأصدقاء وللنزهة».

ثامنا / التنظيم والتخطيط

التنظيم مسألة ضرورية لكل جوانب حياة الإنسان، حيث أن فائدة التنظيم تتمثل:

1 - حفظ الأولويات في العمل.

2 - حفظ الجهد من الإهدار

3 - تأمين الحاجات الأساس في المجتمع.

4 - تحقيق الإنتاج الكثير بأقل الجهد والزمن.

5 - تطوير حركة المجتمع.

والتخطيط نحو من التنظيم للمشاريع الكبيرة قبل البدء بها، إذ يقول الإمام

ص: 143

علي: «فان من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحوزها» (27) وفي هذا تأكيده على العمل بالمشاريع ذات البعد المستقبلي وعناصر التخطيط تحدد الغايات والأهداف وتضع البرامج العملية للوصول إليها ضمن مراحل العمل وكذلك يقول (عليه السلام): «شتان بين عملين، عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره»(68)، وقوله (عليه السلام): «لا يعدم الصبور الظفر وان طال به الزمان»(69)، فالتخطيط الواقعي الدقيق يأخذ بنظر الاعتبار دور الزمان في انجاز المشروع والإمكانات اللازمة له والعقبات التي تعيق العمل، والطريقة الصحيحة لمواجهة العقبات وهذا معنى التدبير والعلم والحيلة في الإسلام».

تاسعا / مبدأ المساءلة والمحاسبة

لقد كرس الإمام علي (عليه السلام) مبدأ المساءلة والمحاسبة بل وفتح باب معاقبة وعزل الحاكم فيما أذا خرج عن النهج الاقتصادي أو السياسي السليم الذي يعطي الناس حقوقهم.

قد هدد الإمام علي (عليه السلام) أحد الولاة المتهمين بالخيانة قائلا: «وأني لأقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لا شدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر والسلام»(70).

عاشرا / منع الربا والاحتكار والمقامرة والاكتناز والإسراف والتبذير وكل العوامل الأخرى المساهمة في نشوء الفقر (71).

ص: 144

الاستنتاجات والتوصيات

أولا: الاستنتاجات

1 - الفقر لا ينحصر في الجانب المادي فحسب بل له امتدادات واسعة إلى ابعد الحدود، حيث أن الفقر لا يعني قلة في الخبز ولا يعني التضور من الجوع الجسدي فحسب، أنما يتعدى إلى كونه نوع أخر يسهم في تدمير حياة الإنسان ويجعل الأخير غير قادر على الإنتاج والإبداع وبهذا يتحول إلى عبئ ليس على نفسه وعائلته فحسب، وإنما عبئ على مجتمعه ودولته، فضلا عن كونه عبئا على العالم أجمع، وكلما كثر هذا النوع من الناس كلما كبرت وتضاعفت نسب الفقر في العالم.

2. مشكلة الفقر لا تكمن في أشخاص يفترشون الأرض ويستعطون الناس، إنما في العوامل والأسباب العديدة والمتشابكة، والتي فيها مخالفة لتعاليم السماء والتي في نفس الوقت كانت السبب في وجود هذه الشريحة الكبيرة وظهورها على السطح بهذه الصورة التي طالما تثير الأسى والأسف، أكثر مما تثير الشفقة والتضامن.

3 - ملكية الدولة تساهم في وجود تكاليف هائلة على كاهل الفقراء مع زيادة في نسب الفقر.

4 - أن تركز الأموال الضخمة في أيد فئة قليلة من المجتمعات في حين أن تعاني الفئة الأكبر الأخرى من عدم كفاية أجورها لسد حاجاتها حيث وجودها في أحوال مالية سيئة.

5 - للفساد المالي دور كبير في ظهور الفقر وتعميقه من حيث مساهمته في

ص: 145

وجود ملايين من البشر أسرى البؤس والفقر والمرض والصراعات كنتيجة لإعاقته للاستثمار وللتنمية الاقتصادية

6 - أن أعطاء الضرائب الأولوية المطلقة على حساب السياسات الاقتصادية الداعمة لتوفير السلع الضرورية ولتنمية القطاعات مهمة في حياة الإفراد كالتعليم (النوعي والكمي) والإنفاق على البنى التحتية كبناء الجسور والطرقات والضمان الاجتماعي وغيرها الكثير يفيد في تكريس الاستبداد بعينه وقمع الشعوب ومصادرة الحريات وفي النهاية كل هذا يصب في زيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء.

7. هناك جملة من المعالجات التي وضعها ونفذها الإمام علي (ع) في أيام حکومته مستندا فيها على ما جاء في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة.

8. من جملة ما أكد علية الإمام علي (ع) في المعالجات مسألتي الضمان الاجتماعي والتكافل الاجتماعي لان فيهما ضمان حقوق الفقراء.

9 - ومن المعالجات منع الربا والاحتكار والاكتناز وتركز الثروات في أيدي قليلة من الناس.

ثانيا: التوصيات

استناداً إلى ما تضمنته الدراسة نوصي بالاتي:

1. قد بات واضحا عجز الإنسان عن التوصل إلى حل شامل ومتكامل لمشكلة الفقر، وإذا كان ثمة حل جذري لهذه المشكلة، فأن هذا الحل مصدره السماء ومن يعرف تعاليم السماء وكيف يطبقها على ارض الواقع حق المعرفة.

ص: 146

2. إشاعة وتعميم تجربة الإمام علي من حيث تعامله مع مشكلة الفقر، عبر نشرها والأخذ بها كمنهج إصلاحي ونموذج حضاري متميز لا تنضوي تحت لوائه الأمة الإسلامية فحسب وإنما تنهل منه البشرية بأسرها..

هوامش البحث:

(1) راجي محيل هليل الخفاجي، (قياس وتحليل ظاهرة الفقر وعلاقته بالتفاوت في توزيع الدخل في الاقتصاد العراقي للمدة (1987 - 2007)، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الإدارة والاقتصاد، الجامعة المستنصرية، 2009، ص 2.

(2) القرآن الكريم، سورة البقرة، أية 273.

(3) محسن باقر الموسوي، ( الفكر الاقتصادي في نهج البلاغه)، الطبعة الأولى، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان بيروت، 2002، ص 131

(4) السيد مرتضى الشيرازي، (إستراتيجية ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي (ع))، الطبعة الأولى، دار هيئة محمد الأمين (ص)، العراق، كربلاء، 2012، ص 131.

(5) ندوه هلال جودة، (تحليل وقياس اتجاهات الفقر في العراق للمدة 1980 - 2005)، أطروحة دكتوراه مقدمة إلى مجلس كلية الاداره والاقتصاد، جامعة البصرة، 2006، ص 25.

(6) تقرير التنمية البشرية لعام 2010، ص 95.

(7) سلسلة منشورات الصحة وحقوق الإنسان، العدد 9، 5 / 2010، ص 6.

(8) يقوم البنك الدولي كل عدة سنوات بنشر تقديرات محدثة عن أوضاع الفقر، استناد إلى احدث البيانات العالمية المتعلقة بتكلفة المعيشة وكذلك إلى المسوحات القطرية الخاصة بمعدلات الاستهلاك لدى الأسر، فقد جاء في تقرير لرئيس البنك الدولي أن العالم اليوم يختلف كثيرا عما كان علية الحال قبل بضع سنوات موضحا أن المجتمع الدولي يواجه تحديات ذات طبيعة اقتصادية وإنسانية وبيئية متنوعة، ولكنها وكما بين رئيس البنك تشترك معا في سمات أساسية: -

أولا: - أنها تشكل خطرا على مكاسب التنمية التي تحققت بشق الأنفس في العقود الأخيرة.

ثانيا: - أنها ليست محصورة داخل حدود بلد واحد، فقد أدت الصراعات والحروب إلى تشرد الملايين من البشر قسرا ويعيشون ألان في مناطق أكثر هشاشة من أي وقت مضى، ويمكن أن تدمر مخاطر انتشار الحوائج والأوبئة صحة الإفراد، وكذلك اقتصاديات البلدان وتزداد مخاطر التغيرات المناخية -

ص: 147

وضوحا يوما بعد يوم مما يجعل الفئات الأكثر فقر ومعاناة الأكثر تضرر، بحيث أسفرت أوضاع الهشاشة والصراع إلى تشرد عشرات الملايين من الناس ونزوحهم من بيوتهم.

وتشير التقديرات التي نشرها البنك الدولي عام 2016 إلى أن عدد من يعيشون في إفريقيا على أقل من دولارين (90، 1) في اليوم هو (389) مليون فرد مشكلين نسبة 7، 42% من مجموع السكان. أما في منطقة شرق أسيا والمحيط الهادئ فيقدر عدد من يعشون في خط الفقر المدقع هو (90) مليون فرد بالإضافة إلى احتمالية كبيرة في وقوع (250) مليون فرد في براثن الفقر المدقع بالإضافة إلى ما تعانيه هذه المنطقة من مستوى مرتفع للتفاوت الاقتصادي. أما بالنسبة لمنطقة أوربا وأسيا الوسطى فيعيش فيها نحو (66) مليون فرد في الفقر من بينهم (19) مليون فرد يعيشون في خط الفقر المدقع. وفي منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي فهناك نسبة (39%) من السكان معرضين للسقوط في براثن الفقر مع وجود تباطأ وتيرة الزيادة في حجم الطبقة الوسطى.

أما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فهناك احتمالية كبيرة لوصول نسبة من هم في براثن الفقر إلى (53%) من سكان هذه المنطقة. وأخيرا في منطقة جنوب أسيا فهناك (309) مليون فرد يعيشوا على أقل من دولارين للفرد في اليوم.

وفي هذا الصدد يبين البنك الدولي في تقريره المذكور أن هناك أكثر من (200) مليون فرد يعيشون في أحياء عشوائية ويفتقر (500) مليون فرد إلى الكهرباء، بالإضافة إلى وجود إشكال مفرطة من الإقصاء الاجتماعي وفجوات ضخمة في البنية التحتية، كما تشهد البلدان الأكبر زيادة في معدلات عدم المساواة. التقرير السنوي للبنك الدولي 2016، ص ص، 24، 28، 32، 34، 34، 44.

(9) مؤسسة الأنوار الأربعة عشر، (الحرية في فكر الإمام الشيرازي)، المؤمل للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 2010، ص 31.

(10) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 29.

(11) السيد مرتضى لشيرازي، (أستراتجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (ع))، مصدر سابق، ص 84

(12) حسن طبرة، (دور الفساد في تعميق مظاهر الفقر في العراق، الكلفة الاجتماعية للفساد)، بحث منشور في مجلة النزاهة والشفافية للبحوث والدراسات، العدد السادس،، ص 24.

(13) للمزيد أنظر: نهج البلاغة، الخطبة 131، ص 30.

(14) السيد محمد الحسني الشيرازي، (الاقتصاد)، الجزء الأول، دار العلوم، الطبعة الرابعة، 1987، لبنان، ص 187.

ص: 148

(15) تقرير صندوق النقد الدولي 2016، ص 3.

( 16) سمير التنير، (الفقر والفساد في العالم العربي)، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2009 ، لبنان، ص 15

(17) المصدر السابق نفسه، ص ص 27 - 28

(18) القرآن الكريم، سورة البقرة، أية 276

(19) القرآن الكريم، سورة البقرة، أية 275.

(20) محمد بن الحسن الحر ألعاملي، (وسائل الشيعة)، الجزء 18، الطبعة الثانية، مؤسسة أل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، إيران، 1414،، ص 121.

(21) علي حسن مطر، ( دروس في الاقتصاد الإسلامي)، الطبعة الأولى، 2005، ص 229

(22) القرآن الكريم، سورة البقرة، أية 278 - 279.

(23) السيد مرتضى الشيرازي، (إستراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)، مصدر سابق، ص 98.

(24) أظهر تقرير المخاطر العالمية لعام 2012 إن التفاوت الحاد في الدخول والأوضاع الملية غير المستقرة للحكومات تشكلان اكبر تهديد اقتصادي يواجه العالم، واظهر تقرير للبنك الدولي لعام 2016 ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب حيث بين أن هناك أكثر من (200) مليون شاب حول العالم عاطلون عن العمل، فلم يعد الناس يعتقدون ولأول مرة منذ أجيال أن أولادهم سيكبرون ليتمتعوا بمستويات معيشية أفضل، وقد بين التقرير أن هناك حوالي ملياري شخص إي أكثر من ربع عدد سكان العالم، في بلدان تعاني من أوضاع الهشاشة والصراع والعنف، تقرير البنك الدولي لعام 2016، ص ص 20 - 24

(25) مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، (نحو نظام عالمي اقتصادي أفضل تحقيقا للمساواة والتنمية المستدامة بعد عام 2015)، الدورة الحادية والعشرين، البند 12 (ب) من جدول الإعمال المؤقت، جنيف، سويسرا، 15 - 16 أيلول، 2014، ص 3 - 4.

(26) المصدر السابق، نفسه ص 5.

(27) ولعل هذا يفسر الأرقام الواردة في تقرير التنمية البشرية الواردة لعام 2005 الذي يظهر أن دخول أغنى 500 شخص في العالم مجتمعه تتجاوز دخول أفقر 416

مليون شخص في العالم، كما بين هذا التقرير أن أكثر من مليار إنسان يعيش أحدهم بأقل من دولار واحد في اليوم، وهي درجه متدنية إلى حد تهديد التبقي. وهناك

مليار و(500) مليون آخرين يعيشون على ما يتراوح بين دولار واثنين في اليوم، فيما يشكل ما يزيد

ص: 149

على (40%) من سكان العالم فعليا طبقة عالمية دنيا تجابه كل

يوم واقع الفقر المدقع أو تهديده. تقرير التنمية البشرية لعام 2005، ص ص 24، 37.

(28) ريسان حاتم كاطع، ( قياس وتحليل مؤشرات الفقر في حضر مدينة الديوانية، دراسة حالة)، رسالة ماجستير، جامعة القادسية،كلية الإدارة والاقتصاد، 2009، ص 62

(29) للمزيد ينظر: السيد مرتضى الشيرازي (استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق

(30) القرآن الكريم، سورة البقرة، أية 219.

(31 ) السيد الشيرازي الثاني، (فقه العولمة)، هيئة خدام الهدى، الطبعة الثانية، 2002، ص 272

(32) أشرف محمد دوايه، ( الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية والرؤية المستقبلية لمؤسسات الزكاة )، مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، الجزائر، 5 / 2011، ص 3 - 22.

(33) Toby Birch The Role of Derivatives in Creating the Financial Crisis-() Research Presented to the thirty- Al Bara ka Seminar on Islamic Economics .26.2 ،2009،Jeddah 311

(34) الفيروز أبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، (القاموس المحيط)، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1995، ص 341.

(35) جي هولتن ولسون، ( الاقتصاد الجزئي، المفاهيم والتطبيقات)، ترجمة كامل سلمان العاني، السعودية، 1987، ص 311

(36) محمد بن الحسن الحر ألعاملي، (وسائل الشيعة)، الجزء 17، تحقيق وطباعة مؤسسة أل البيت عليهم السلام، قم، إيران، ص 426 - 427.

(37) محمد عبده، (شرح نهج البلاغة)، الطبعة الثانية، ذوي القربى، قم، إيران، 1427، ص 411

(38) عقدت اتفاقية كيوتو في اليابان في مدينة كيوتو غي عام 1997 لغرض تقليل الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وأساسا ثاني اوكسيد الكاربون وقد اعتمدت كاتفاقية عالمية عندما تم تصديقها من قبل روسيا في أواخر عام 2004. فؤاد قاسم الأمير، (الطاقة: التحدي الأكبر لهذا القرن)، مؤسسة الغد للدراسات والنشر، بغداد، العراق، 2005، ص 98، 368..

(39) جواد كاظم البكري، ( حاجة الاقتصادات الرأسمالية للحروب في معالجة الأزمات، الاقتصاد الأمريكي.. أنموذجا )، مجلة أبحاث عراقية، مركز حمو رابي للبحوث والدراسات الإستراتجية، العدد (1)، السنة الأولى، 2007، ص 112

ص: 150

(40) - السيد مرتضى الشيرازي، (إستراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص 84.

(41) السيد محمد الحسبني الشيرازي، (الاقتصاد، الجزء الثاني)، الطبعة الرابعة، دار العلوم، 1987، ص 112

(42) القرآن الكريم، سورة البقرة، أية 29.

(43) محمد بن الحسين الشريف الرضي، (نهج البلاغة)، تعليق وفهرسة د. صبحي الصالح، تحقيق فارس تبريزيان، إيران، مؤسسة دار الهجرة، 1380، الخطبة 231، ص 498.

(44) محمد باقر المحمودي، (نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة)، بيروت، مؤسسة المحمودي، ص 353

(45) كاظم مدبر، (الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين علي (ع)، ج 1، الطبعة 1، مشهد، مؤسسة الطبع التابعة للاستانة الرضوية المقدسة، 1417، ص 448.

(46) كافي الدين أبو الحسن االواسطي، (عيون الحكم والمواعظ)، تحقيق حسين الحسني، قم، إيران، دار الحديث، 1376، ص 478.

(47) غسان السعد، (حقوق الإنسان عند الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، رؤية علمية)، الطبعة الثانية، 2008، ص 352

(48) محمد بن الحسين الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، بيروت، دار المعرفة، ص 565.

(49) محمد بن الحسين الشريف الرضي، ( نهج البلاغة)، تعليق وفهرسة د. صبحي، مصدر سابق، ص 483.

(50) كافي الدين أبو الحسن الواسطي، (عيون الحكم والمواعظ)، مصدر سابق، ص 406.

(51) کاظم مدبر، مصدر سابق، ص 15.

(52) المصدر السابق نفسه، ص 454

(53) كاظم مدبر، مصدر سابق، ص 15

(54) محمد بن الحسين الشريف الرضي، (نهج البلاغة)، تعليق وفهرسة د. صبحي، مصدر سابق، الحكمة 48،

(55) مدبر، مصدر سابق،ج 1، ص 267

(56) السيد مرتضى الشيرازي (استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)، مصدر سابق، ص 52

ص: 151

(57) القرآن الكريم، سورة الأعراف، أية 157.

(58) مؤسسة الأنوار الأربعة عشر، (الحرية في فكر الإمام الشيرازي)، مصدر سابق، ص 20.

(59) السيد الشيرازي الثاني، (فقه العولمة)، مصدر سابق، ص 112.

(60) مؤسسة الأنوار الأربعة عشر، (الحرية في فكر الإمام الشيرازي)، مصدر سابق، ص 22.

(61) السيد صادق الحسيني الشيرازي، (السياسة من واقع الإسلام)، مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر، الطبعة الخامسة، بيروت، لبنان، 2003، ص 129

(62) محمد عبدة، (شرح نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام)، مصدر سابق، ص 96.

(63) رضا صاحب أبو حمد، ( الإمام علي بن أبي طالب ع وسياسته في الخراج لمعالجة السكن والأعمارة)، بحث منشور في مجلة الغري للعلوم الاقتصادية والإدارية، السنة الحادية عشر، المجلد العاشر، عدد خاص بمؤتمر الإسكان، ص 122 - 123، 2015

(64) حسين عبد اللطيف حمدان، (قانون العمل، دراسة مقارنة)، الطبعة الأولى، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، لبنان، 2009، ص 35

(65) محمد باقر المجلسي، ( بحار الأنوار الجامعة لدرر إخبار الأئمة الأطهار)، الجزء الثامن والسبعون، الطبعة الثانية، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، 1983، ص 4

(66) السيد مرتضى الشيرازي (استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص 61.

(67) مهدي محبوبة، (ملامح من عبقرية الإمام علي (ع))، الطبعة الثانية، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1967، ص 86.

(68) الشريف الرضي، (نهج البلاغة)، تعليق وفهرسة د. صبحي، حكمة 116، مصدر سابق، ص 626.

(69) لبيب بيضون، (تصنيف نهج البلاغة)، الطبعة الثالثة، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، إيران، 1417 ه، ص 1417 ه، ص 736.

(70) محمد عبده، (شرح نهج البلاغة)، مصدر سابق، ص 353.

(71) للمزيد ينظر: السيد مرتضى الشيرازي (إستراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق.

ص: 152

المصادر والمراجع

أولا / الكتب

1 - السيد صادق الحسيني الشيرازي، (السياسة من واقع الإسلام)، مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر، الطبعة الخامسة، بيروت، لبنان، 2003.

2 - السيد الشيرازي الثاني، ( فقه العولمة)، هيئة خدام الهدى، الطبعة الثانية، 2002.

3 - السيد محمد الحسني الشيرازي، (الاقتصاد، الجزء الأول)، دار العلوم، الطبعة الرابعة، لبنان، 1987.

4 - السيد محمد الحسيني الشيرازي، (الاقتصاد، الجزء الثاني)، دار العلوم، الطبعة الرابعة، 1987.

5 - السيد مرتضى الشيرازي، (إستراتيجية ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام))، الطبعة الأولى، دار هيئة محمد الأمين (ص واله)، العراق، كربلاء، 2012.

6 - الفيروز أبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، (القاموس المحيط)، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1995.

7 - القرآن الكريم.

8 - حسين عبد اللطيف حمدان، (قانون العمل، دراسة مقارنة)، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 2009.

9 - جي هولتن ولسون، ( الاقتصاد الجزئي، المفاهيم والتطبيقات)، ترجمة كامل سلمان العاني، السعودية، 1987.

10 - سمير التنير، (الفقر والفساد في العالم العربي)، دار الساقي، الطبعة الأولى، لبنان، 2009.

11 - علي حسن مطر، ( دروس في الاقتصاد الإسلامي )، الطبعة الأولى، 2005.

ص: 153

12 - غسان السعد، (حقوق الإنسان عند الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، رؤية علمية)، الطبعة الثانية، 2008.

13 - فؤاد قاسم الأمير، (الطاقة: التحدي الأكبر لهذا القرن)، مؤسسة الغد للدراسات والنشر، بغداد، العراق، 2005.

14 - كاظم مدبر، (الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين علي (ع))، الجزء الأول، الطبعة الأولى، مؤسسة الطبع التابعة للاستانة الرضوية المقدسة مشهد، إيران، 1417.

15 - كافي الدين أبو الحسن الواسطي، (عيون الحكم والمواعظ)، تحقيق حسين الحسني، دار الحديث، قم، إيران، 1376.

16 - لبيب بيضون، (تصنيف نهج البلاغة)، الطبعة الثالثة، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، إيران، 1417.

17 - محسن باقر الموسوي، ( الفكر الاقتصادي في نهج ألبلاغه)، الطبعة الأولى، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، بيروت، 2002.

18 - محمد باقر المحمودي، (نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة)، بيروت، مؤسسة المحمودي.

19 - محمد باقر المجلسي، ( بحار الأنوار الجامعة لدرر إخبار الأئمة الأطهار)، الجزء الثامن والسبعون، الطبعة الثانية، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، 1983.

20 - محمد بن الحسن الحر ألعاملي، (وسائل الشيعة)، الجزء السابع عشر، تحقيق وطباعة مؤسسة أل البيت عليهم السلام، قم، إيران، 1414.

21 - محمد بن الحسن الحر ألعاملي، (وسائل الشيعة)، الجزء الثامن عشر، مؤسسة أل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الثانية، قم، إيران، 1414.

22 - محمد بن الحسين الشريف الرضي، (نهج البلاغة)، تعليق وفهرسة د. صبحي

ص: 154

الصالح، تحقيق فارس تبریزیان،، مؤسسة دار الهجرة، الخطبة 231، إيران، 1380.

23 - محمد بن الحسين الشريف الرضي، (نهج البلاغة )، شرح محمد عبده، بيروت، دار المعرفة، (بلا سنة طبع).

24 - محمد عبده، (شرح نهج البلاغة)، الطبعة الثانية، ذوي القربى، قم، إيران، 1427.

25 - مهدي محبوبة، (ملامح من عبقرية الإمام علي (ع) )، الطبعة الثانية، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1967.

26 - مؤسسة الأنوار الأربعة عشر، (الحرية في فكر الإمام الشيرازي)، الطبعة الأولى، المؤمل للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 2010.

ثانيا / البحوث والرسائل

1 - أشرف محمد دوايه، ( الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية والرؤية المستقبلية لمؤسسات الزكاة )، مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، الجزائر، 5 / 2011.

2 - جواد کاظم البكري، (حاجة الاقتصادات الرأسمالية للحروب في معالجة الأزمات، الاقتصاد الأمريكي.. أنموذجا)، مجلة أبحاث عراقية، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية، العدد (1)، السنة الأولى، 2007.

3 - حسن طبرة، (دور الفساد في تعميق مظاهر الفقر في العراق، الكلفة الاجتماعية للفساد)، بحث منشور في مجلة النزاهة والشفافية للبحوث والدراسات، العدد السادس.

4 - راجي محيل هليل الخفاجي، (قياس وتحليل ظاهرة الفقر وعلاقته بالتفاوت في توزيع الدخل في الاقتصاد العراقي للمدة (1987 - 2007)، رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الإدارة والاقتصاد، الجامعة المستنصرية، 2009.

5 - رضا صاحب أبو حمد، ( الإمام علي بن أبي طالب (ع) وسياسته في الخراج لمعالجة

ص: 155

السكن والأعمار)، بحث منشور في مجلة الغري للعلوم الاقتصادية والإدارية، السنة الحادية عشر، المجلد العاشر، عدد خاص بمؤتمر الإسكان 2015.

6 - ريسان حاتم كاطع، (قياس وتحليل مؤشرات الفقر في حضر مدينة الديوانية، دراسة حالة)، رسالة ماجستير، جامعة القادسية، كلية الإدارة والاقتصاد، 2009.

7 - ندوه هلال جودة، (تحليل وقياس اتجاهات الفقر في العراق للمدة 1980 - 2005)، أطروحة دكتوراه مقدمة إلى مجلس كلية الاداره والاقتصاد، جامعة البصرة، 2006.

ثالثا / التقارير والمؤتمرات

1 - التقرير السنوي للبنك الدولي 2016.

2 - تقرير التنمية البشرية لعام 2005.

3 - تقرير التنمية البشرية لعام 2010.

4 - تقرير صندوق النقد الدولي 2016.

5 - سلسلة منشورات الصحة وحقوق الإنسان، العدد 5، 9 / 2010.

6 - مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، (نحو نظام عالمي اقتصادي أفضل تحقيقا للمساواة والتنمية المستدامة بعد عام 2015)، الدورة الحادية والعشرين، البند 12 (ب) من جدول الإعمال المؤقت، جنيف، سويسرا، 15 - 16 أيلول، 2014.

رابعا / المصادرالانكليزية

1 - Toby Birch.The Role of Derivatives in Creating the Financial Crisis. Research Presented to the thirty- Al Bara ka Seminar on .Islamic Economics Jeddah،2009

ص: 156

دور الدولة في التخفيف من الفقر في العراق في ضوء سياسة الامام علي (علیه السلام)

اشارة

م.م حسين علي الكرعاوي

كلية الإمام الكاظم (علیه السلام) فرع النجف

م.د سلطان جاسم النصراوي

كلية الإدارة والاقتصاد- كربلاء

ص: 157

ص: 158

المقدمة:

مر دور الدولة في الاقتصاد بأدوار مختلفة ومتعاقبة، وقد تصارعت المدارس الفكرية الاقتصادية بمختلف انتماءاتها منذ بداية ظهورها ولغاية يومنا الحاضر حول موضوع هل تتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي أم لا؟ وقد كانت هناك أفكار تدعو تارةً إلى تدخل الدولة وتارة إلى عدم تدخل الدولة وتارةً أخرى إلى تدخل بشكل أو بآخر للدولة في النشاط الاقتصادي.

وبالرغم من التطور الهائل الذي حصل على دور الدولة عبر التاريخ وعلى مختلف الأصعدة، إلا إن الملاحظ إن الدولة لم تستطع تلبية حاجات مجتمعاتها بالشكل الأمثل وبقيت تعاني من مشاكل الفقر والحرمان والعوز، إلى جانب زيادة حدة عدم المساواة في توزيع الدخول، الأمر الذي أدى بشكل أو بآخر إلى زيادة المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الدول النامية والمتقدمة على حد سواء.

ففي النظام الرأسمالي مر دور الدولة بأشكال مختلفة وظهرت تيارات فكرية رأسمالية تنادي مرة بضرورة تدخل الدولة بشكل أو بأخر في النشاط الاقتصادي مثل المدرسة التجارية « الماركنتيلية» والمدرسة الكنزية وغيرهما، ومرة أخرى تنادي بضرورة عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي إلا في نطاق ضيق ومحدود جداً وتطبيق مقولة دعه يعمل دعه يمر مثل أفكار الطبيعيين « الفيزو قراط» وأفكار الكلاسيك الأوائل والنيوكلاسيك والى جانب أفكار النيوكلاسيك المحدثين والأكثر حداثة.

وبالرغم من ذلك، ولم ينجح النظام الرأسمالي في مواجهة مشاكل الفقر والحرمان التي تعاني منها مجتمعاتهم، إلى جانب انعدام المساواة في توزيع الدخول الأمر الذي ترتب علية انقسام المجتمع إلى طبقات، وظهور طبقة تعاني من مشاكل الفقر فيها.

ص: 159

أما في النظام الاشتراكي، فقد تميزت أفكار المدرسة الاشتراكية (لاسيما كارل ماركس) على تحليل ونقد النظام الرأسمالي والتنبؤ بمستقبله اكثر من توضيح الأسس النظرية للنظام الاشتراكي، ولم تقدم هذه المدرسة أي حلول لمواجهة الفقر والقضاء عليه، وقد دعت إلى ضرورة سيطرة الدولة على كل مفاصل الاقتصاد، ومع ذلك لم تنجح في السيطرة على زمام الأمور وتسير شؤون الاقتصاد بالشكل المطلوب، وكانت النهاية انهيار الأفكار الاشتراكية بشكل كامل تقريباً.

بالمقابل نجد إن دور الدولة في الاقتصاد طبقاً للمفاهيم الدين الإسلامي الحنيف لم تحظى بالفرصة الكافية ولم يجرى تطبيقها إلا في نطاق ضيق جداً ومحدود.

فالدولة في ظل النظام الإسلامي تسعى إلى تطبيق الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الجانب الاقتصادي كمنع الربا ومنع الاستغلال والسلع المحرمة وغيرها، وهي تسعى إلى أن تلعب دوراً مهماً في عملية التنمية الاقتصادية.

وتتجه الدولة في ظل الاقتصاد الإسلامي إلى إعادة النقد إلى دوره الطبيعي كأداة للتبادل لا أداة لتنمية المال والربا والادخار، ومقاومة الاحتكار، وتسعى كذلك إلى تحويل النظام المصرفي من كونه وسيلة للتنمية الرأسمالية إلى كونه وسيلى لإثراء الأمة ككل وتجميع أموالها في مصب واحد لإسهام اكبر عدد من المواطنين في عملية الادخار، واستثمار ما يُدخر في مشاريع إنتاجية مفيدة تخطط لها الدولة على أساس قواعد المضاربة بين العامل والمالك.

مما سبق يتضح، إن الدولة في النظام الإسلامي تتدخل في النشاط الاقتصادي لضمان لتوفير الحياة الكريمة للأفراد، وتوفير مستوى ملائم من المعيشة لكل فرد، فهي تتدخل لتحقق مصلحة المجتمع الإسلامي. هذا إلى جانب تحقيق العدالة في توزيع الثروات وإعادة توزيعها كلما وقع اختلال فيها، لضمان تكافؤاً في الفرص.

ص: 160

وفي العراق، وعلى الرغم من إن الدستور العراقي ينص على إن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، إلا انه نجد إن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف في الجانب الاقتصادي لم يجرى تطبيقها، فالمصارف تتعامل بالربا والفائدة، والفقر وصل «لا سيما خلال السنوات الأخيرة» إلى مستويات قياسية جداً لا يمكن تحملها، وأوضاع الاقتصاد العراقي في تراجع مستمر في ظل الانخفاض المستمر لأسعار النفط، والاقتصاد العراقي يعتمد على النفط فقط، إلى جانب الفساد المالي والإداري، فضلاً عن التوزيع غير العادل للثروات، ناهيك من مسألة عدم استخدام الموارد والخيرات الأخرى التي وهبها الله لهذا البلد، وهذه جميعها تتنافى مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

تأسيساً على ما تقدم، جاء هذا البحث ليقف على مقولة دور الدولة في مواجهة الفقر في ضوء مفاهيم وفلسفة الأمام علي (عليه السلام) وإمكانية تطبيقها في العراق، وذلك من أجل التخلص المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها البلد، وبناء مجتمع خالي من الفقر.

وينطلق البحث من فرضية مفادها إن عدم قيام الدولة باستخدام تعاليم الدين الإسلامي الاقتصادية المتجسدة في منهج الأمام علي (عليه السلام) في معالجة أوضاع الفقر في العراق سوف يؤدي إلى زيادة مشاكل الفقر وتفاقهما، الأمر الذي يؤثر بشكل سلبي على اقتصاد العراق.

في حين تتمحور مشكلة البحث في إن الفقر والحرمان من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق.

ويهدف البحث إلى بلورة وصياغة فلسفة جديدة لمواجه الفقر في العراق بعيداً عن تلك التي تم تبنيها سابقاً والمتمثلة بالنظم الوضعية، من أجل التخفيف من حدة الفقر في العراق ومحاولة القضاء عليه.

ص: 161

المبحث الاول: الاطار النظري لدور الدولة في مواجهة الفقر: تحليل مقارن للانظمة الوضعية والنظام الاسلامي.

مر دور الدولة في الاقتصاد بأدوار مختلفة ومتعاقبة، وقد تصارعت المدراس الفكرية بمختلف انتماءاتها منذ بداية ظهورها وحتى الآن حول موضوع تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي من أجل مواجهة الفقر والتقليل منه، وظهرت أفكار تارة تدعو إلى تدخل الدولة بشكل قوي وتارة إلى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وتارة أخرى تدعو إلى تدخل بشكل أو بآخر للدولة في النشاط الاقتصادي.

فمع الانقسام الطبقي الأول في المجتمع في النظام العبودي ظهرت الدولة كجهاز عنف لحماية وتثبيت المجتمع الطبقي ضد الأخطار التي تهددهُ من الداخل والخارج، وهكذا فقد كان من أهم مخلفات النظام العبودي تاريخياً هي مؤسسة الدولة، والمقصود بالدولة هنا ليس الجوانب التنظيمية فيها بل الجوانب القمعية التي تنبثق ضرورتها من الطابع الاستثماري (الاستغلالي للمجتمع)، وقدد حدد لينين العلاقة العضوية بين ظهور الدولة والطابع القمعي لنظام العبودية بالقول «عندما ظهر الشكل الأول لانقسام المجتمع إلى طبقات، أي عندما ظهر نظام العبودية، وعندما استطاعت طبقة من الناس كرست نفسها لأقسى أنواع العمل الزراعي أن تنتج بعض الفائض، وعندما استولى مالك العبيد على هذا الفائض الذي ما كان يمكن الاستغناء عنه قط لمعيشة العبد البائسة، وعندما رسخ على هذه الصورة وجود هذه الطبقة من ملاكي العبيد، ولكي تستطيع هذه الطبقة

ص: 162

أن تثبت أقدامها، عند ذلك ومن أجل ذلك أصبح لزاماً أن تظهر الدولة إلى الوجود»(1).

وبعد أن تميزت العصور الوسطى بسيطرة مثل عليا مثل الدين والأخلاق، بدأت في القرن الثامن عشر ظهور الاهتمام باعتبارات السياسة والاقتصاد، فظهرت الدولة كوحدة سياسية، وقد ساعدت هذه الوحدات السياسية الجديدة الراغبة في النمو والتوسع على نشوء اتجاهات فكرية جديدة تتفق مع متطلبات الوضع القائم واحتياجاته قبل كل شيء (2). وفي سياق هذه التطورات، بدأت الدولة بالتوسع والتطور، وبدأت الأنظمة الاقتصادية بالتشكل، وظهرت تيارات فكرية مختلفة

ففي النظام الرأسمالي، مر تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي بأشكال مختلفة، وظهرت أفكار اقتصادية تنادي مرة بضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي مثل المدرسة التجارية «الماركنتيلية» والمدرسة الكنزية وغيرهما، ومرة تنادي بضرورة عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي إلا في حدود توفير الأمن والحماية فقط كالمدرسة الطبيعية «الفيزوقراط» والكلاسيك الأوائل (آدم سميث وريكاردو ومالثوس) والمدرسة النيوكلاسيكة المحدثة Neo Classical (المدرسة النقدية).

ففي منتصف القرن الثامن عشر ظهرت أفكار المدرسة التجارية والتي كانت تدعو وبقوة لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ليس من اجل مواجهة الفقر ومساعدة الفقراء بل من أجل تحقيق القوة للدولة والتي تأتي من نهب ثروات البلاد الأخرى والسيطرة عليها وإفقارها إلى جانب حماية طبقة التجار الذين كانوا يقومون بصياغة السياسات الاقتصادية للبلد.

ص: 163

وفي منتصف القرن الثامن عشر ظهرت أفكار المدرسة الطبيعية والذين نادوا بالحرية الاقتصادية وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وساد شعار «دعهَ يعمل دعهَ يمر» وكان المقصود منها هو عدم وضع القيود المتمثلة بتدخل الدولة في الاقتصاد، فالحكمة (بحسب راي أصحاب هذه المدرسة) تقتضي بترك الأمور تسير وفقاً للبواعث والقيود الطبيعية دون تدخل(3)، وهذه المقولة يمكن وصفها على إنها ضد أي تدخل للدولة في النشاط الاقتصادي وبأي شكل من الأشكال.

وخلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر ظهرت أفكار الرواد الأوائل للمدرسة الكلاسيكية (آدم سميث وريكاردو ومالثوس) الذين استندوا على مبدأ التناغم القائم بين المصلحة الفردية ومصلحة المجتمع، إلى جانب ضرورة عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وأيمانهم العميق بقانون ساي للأسواق» العرض يخلق الطلب المساوي له» وعدم وجود بطالة في الاقتصاد. فقط دع الأمور كما هي فهناك يد خفية تعمل باتجاه تحقيق مصالح المجتمع من خلال آلية السوق (اليد الخفية).

وفيما يتعلق بسيرورة الفقر والأسس التي قامت عليها أفكار هؤلاء المفكرين، فيمكن الاستدلال عليها من خلال نظريتهم في الأجور والتي سميت بأجر الكفاف أو كما اطلق عليها ريكاردو «نظرية الأجر الحديدي» والتي ترى ضرورة أن يكون أجر العامل عند المستوى الضروري للبقاء على قيد الحياة لا اكثر.

فريكاردو يرى أن الأجور هي الثمن اللازم لتمكين الفقراء والكادحين من البقاء دونما زيادة أو نقصان، وهو يقرر إن من يعملون سيكونون فقراء، وانهم لن ينقذوا من الفقر على يد دولة رحيمة، أو صاحب عمل رحيم، أو من خلال نقابات العمال، أو من خلال عمل آخر يقومون به، وإن الأجور شأنها شأن كل

ص: 164

العقود يجب أن تترك للمنافسة الحرة في السوق، وأن لا تكون محكومة قط بتشريع، فالبؤس لا مفر منه والقانون الاقتصادي الذي يفرضهُ لا يمكن الخروج عليه(4)، تلك هي الرأسمالية كما يؤمن بها ريكاردو.

في حين ربط مالثوس بين نظريته في السكان وتأثيراتها في الأجور، بل ذهب إلى ابعد من ذلك، عندما نادي بضرورة إلغاء إعانة الفقراء وعارض مشروعات إسكان الطبقات العاملة، وعلى الرغم من هذا الموقف السلبي تجاه العمال إلا انه يدعي حرصهُ على مصالح الطبقات الفقيرة، وقد فسر أصحاب النظريات الاجتماعية المعاصرين ممن افترضوا بلطف بأن يترك الفقراء كي يموتوا بسلام في الشوارع(5).

هذه الحلقة المفرغة والمعقدة والمبالغ في تعقيدات أسبابها ونتائجها، كان السبب الكامن وراءها هو زيادة التراكم وإعادة استثماره لدى الرأسماليين، ومن ثمَ الإبقاء على حالة الفقر عند حد الكفاف لكبح أي زيادة في الطلب الداخلي، وبذلك بشر كلُ من ريكاردو ومالثوس كلٌ بحسب تفسيرهُ لأسباب المشكلة ونتائجها، بحتمية الصراع الذي يمزق المجتمع عبر التطورات المتلاحقة في الحياة الاقتصادية وتناقض فعالياتها عبر تناقض المصالح(6).

وخلال عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي أخفقت آلية السوق في تحقيق الاستقرار الاقتصادي على اثر أزمة الكساد العظيم 1929 -1932، ونتيجة لانتشار الفقر وتزايد نسبته، قوضت الركائز الأساسية التي استند عليها هذا النظام والتي كانت تؤمن بالتصحيح التلقائي لأوضاع السوق، ظهرت أفكار الاقتصادي جون ماينارد كينز والذي كان يرى بضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي عند الضرورة لتوفير فرص العمل والتخفيف عن كاهل الفقراء

ص: 165

ومساعدتهم.

وقد اكد كينز على إن الرخاء الذي يحققه النظام الرأسمالي يحمل في طياته بذور تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وانتشار البطالة بنحو مزمن، ومن ثم زيادة معدلات الفقر، وتبعاً لذلك، سادت خلال هذه الحقبة قناعة قوية بين المفكرين الاقتصاديين بل وحتى السياسيين بضرورة سيطرة الدولة على الشؤون الاقتصادية ومعالجة أوضاع الفقر والبطالة عن طريق برامج الإعانات والتوظيف وغيرها.

وفي سبعينات القرن الماضي ونتيجة لتعرض الاقتصاد العالمي لمشاكل جمة لعل ابرزها ظاهرة التضخم الركودي، ظهرت أفكار المدرسة النيوكلاسيكة المحدثة «مدرسة النقوديون» بزعامة ميلتون فريدمان والذي أعاد إحياء أفكار المدرسة الكلاسيكية التي كانت ترى بضرورة عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وان تدخلها يؤدي إلى تشويه الاقتصاد وعرقلته، إلى جانب كونه يمثل تهديد للحرية الاقتصادية.

ويقول فريدمان إن البرامج الموَجه نحو التخفيف من الفقر تبدد قدراً من المال اكثر مما يمكن تبريره بأنها تخفف حدة الفقر، فهي تؤسس نظاماً تفرض بموجبه ضرائب على البعض لدفع إعانات مالية للآخرين، وهناك خطر أن يتحول النظام الذي تفرض فيه الغالبية ضرائب على نفسها بمحض إرادتها لمساعدة الأقلية البائسة إلى نظام تفرض فيه الأغلبية ضرائب لمصلحتها الخاصة على أقلية غير راغبة(7)، من جانب آخر، يرى فريدمان إن البرامج الهادفة لمساعدة الفقراء وإعادة توزيع الدخل بما يحقق توزيعاً عادلاً يشمل كافة طبقات المجتمع لاسيما الفقراء منهم مثل ضريبة الدخل والإصلاحات النقدية والبرامج الزراعية الهادفة إلى مساعدة المزارعين المعدمين وبرامج الإسكان وإجراءات الضمان الاجتماعي

ص: 166

قد أهدرت المال العام وشوهت استخدام الموارد وفرضت ضوابط ثقيلة على الدولة(8).

لقد طورت الرأسمالية القوى المنتجة بوتيرة واتساع لا مثيل لهما في التاريخ، ولكنها حفرت هوةً بين ما يمكن أن يسمح به هذا التطور وبين الاستخدام الفعلي لنتائجه، وهي هوَة لم يعرفها أي نظام سابق في التاريخ، كما إن منطق تحويل الوسيلة إلى غاية بحد ذاتها (الربح والتراكم) قد انتج فوراق هائلة في القدرة على التنعم بالخيرات التي أنتجها، وان استمرار منطقها بهذه الطريقة ينتج مزيداً من الفقر واللا مساواة، وبهذا المعنى يتحقق قانون الإفقار الذي ينتجهً التراكم الرأسمالي(9)، لقد كان التقدم الذي حققته وتحققهً الليبرالية مصحوباً بنمو متفجر للتفاوت في توزيع الدخول وزيادة في معدلات الفقر والبطالة.

بشكل عام، يتضح إن النظام الرأسمالي يتميز بغياب الأرضية المشتركة لتياراته الفكرية المختلفة وضعف الأسس المنطقية لها، إلى جانب التقلبات الحادة في السياسات الاقتصادية المتبعة والتي كانت تعكس المصالح الآنية لكل مرحلة، مما يجعل من الصعوبة بمكان عن الحديث عن نظرية اقتصادية متكاملة لمواجهة الفقر فيها(10).

وفي هذا الاطار، ويرى البعض من الاقتصاديين إن تفاقم التفاوت في توزيع الدخل يُعد من الخصائص الرئيسة للنظام الرأسمالي، ومن ثمَ لا يمكن الحد من هذا التفاقم إلا اذا كانت هناك قوى عكسية تخفف من وطأته، وتُجسد هذه القوى من خلال تدخل الدولة لمصلحة الرعاية الاجتماعية من خلال ما تقوم به النقابات العمالية(11).

أما فيما يتعلق بالنظام الاشتراكي، وعلى الرغم من الجذور الضاربة في القدم

ص: 167

للأفكار الاشتراكية (منذ عهد أفلاطون)، إلا أن تحليلاته الاقتصادية تبلورت خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد جاءت بعد بروز ظاهرتين هما، ظهور طبقة العال من ناحية وتعدد الأزمات الاقتصادية من ناحية أخرى، وما ترتب عليه من بؤس للعمال، وعليه قام تيار فكري قوي لمعارضة ونقد النظام الرأسمالي(12).

بشكل عام، تسعى الاشتراكية إلى إلغاء الملكية الخاصة لتحل بدلاً عنها الملكية العامة لوسائل الإنتاج وتصبح الدولة هي مالكة وسائل الإنتاج، وإلغاء الطبقية في المجتمع، إلى جانب مبدأ «من كل حسب طاقتهُ ولكل حسب عملهُ». وقد ظهرت ثلاثة تيارات رئيسة للاشتراكية وهي، الاشتراكية الديمقراطية، واشتراكية السوق، والاشتراكية الماركسية.

فالاشتراكية الديمقراطية بخلاف الماركسية لا تؤمن باستخدام العنف والقوة وبالانهيار المحتم للرأسمالية، بل تؤمن بوصفها مثلاً اعلى لا تنفصل عن الديمقراطية وانه ينبغي تحقيقها سلمياً وتدريجياً من خلال العمليات بالموافقة الحرة للمحكومين وبدون ثورة، وان ملكية الدولة الكاملة لوسائل الإنتاج والتخطيط المركزي أمران أساسيين لتحقيق الأهداف الاشتراكية(13)، انتشرت الاشتراكية الديمقراطية عقب الحرب العالمية في معظم أنحاء أوروبا الغربية، وكانت تدعو إلى التخلي عن الصراع الطبقي والمبادئ الماركسية الأخرى، والى ضرورة مشاركة كل فئات الشعب في قيادة السلطة السياسية والاقتصادية، وتكوين مجتمع يعمل فيه جميع الناس متساوين، وقد تبنت إجراءات اقتصادية واجتماعية عدة مثل، تأميم بعض أجزاء الصناعات الثقيلة والمناجم والمؤسسات المالية، واعتماد إجراءات واسعة النطاق في الرقابة الحكومية على الاقتصاد، إلى جانب تحقيق إصلاحات

ص: 168

بنيوية في حقل الضمان الاجتماعي(14).

وبالرغم من تحول هذا التيار إلى حركة إصلاحية تنادي ببناء مجتمع الرفاة واقتصاد الرفاة، وعلى الرغم من تأكيدها على أهمية تدخل الدولة في كل مفاصل الاقتصاد إلا إنها لم تفلح في معالجة أوضاع الفقر في اغلب البلدان التي طبقت أفكار الاشتراكية الديمقراطية.

أما بالنسبة لاشتراكية السوق والذي طورها أوسكار لانجة كان هدفها الأساسي تحقيق لا مركزية في اتخاذ القرارات الاقتصادية، وذلك بإتاحة دوراً كبيراً في تخصيص الموارد وتوزيعها، وقد حاولت مجموعة من الدول مثل (يوغوسلافيا وهنغاريا وبولندا والصين وألمانيا الشرقية ورومانيا وبلغاريا وتشكوسلوفاكيا) تطبيق أللا مركزية في صنع القرار الاقتصادي من خلال منح مؤسسات الدولة مزيداً من الاستقلال، وتسعير المنتجات، وقطع الإعانات بغية تخفيض العجز في الموازنة(15).

(لم يستطع هذا التيار هو الآخر من معالجة المشاكل التي تعاني منها الدول التي حاولت تطبيق هذه الأفكار وظل الفقر والبؤس وانعدام المساواة والبطالة والتضخم وارتفاع الديون العامة السمة البارزة لهذه المجتمعات.

وفيما يتعلق بالاشتراكية الماركسية والتي تؤمن بالتفسير المادي للتاريخ، وبفلسفة هيجل فركزت على تحليل ونقد النظام الرأسمالي والتنبؤ بمستقبله، ولم تركز على توضيح النظريات التي تفسر النظام الاشتراكي وبكيفية إدارة الاقتصاد.

وفيما يتعلق بموضوعة الفقر فقد انتهى ماركس إلى النتيجة نفسها التي توصل من قبله الكلاسيك الأوائل وهو بقاء العمال عند مستوى الكفاف، وذلك بسبب استخدام الآلات والمكائن لتحل محل الأنسان، مما يؤدي إلى الاستغناء عن عدد

ص: 169

كبير من العمال، مما يؤدي إلى من زيادة عرض جيش العمال الاحتياطي وينمو تبعاُ له البؤس والفقر والفاقة(16)، ومن هنا يبدأ الصراع الطبقي بين نمو القوى المنتجة وعلاقات الملكية السائدة حتى تصبح معيقة له بالكامل، ومن ثمً هناك طبقة من المجتمع تخوض المعركة لحساب القوى المنتجة ضد طبقة أخرى لحسابات العلاقات القائمة، وهكذا يستمر التناقض لتنتج أوضاع اقتصادية جديدة تنسجم مع مرحلتها(17).

إجمالاً، لم تفلح المدرسة الاشتراكية بمختلف تياراتها الفكرية من تحقيق الأهداف المنشودة منها، ولم تستطع معالجة المشاكل التي كانت تعتقد بأنها السمة المميزة للنظام الرأسمالي، مثل البطالة والفقر وانعدام المساواة وازدياد حدة التفاوت الطبقي في المجتمعات.

ولم تمتلك النظرية الاشتراكية (لاسيما الماركسية) استراتيجية مصممة بشكل مناسب لتحقيق أهداف مواجهة الفقر والتخفيف منه، أو إعادة توزيع الدخول بنحو عادل بين طبقات المجتمع، بل كان هدفها الأساس هو توجيه النقد اللاذع للنظام الرأسمالي، وهكذا بقي الفقر والفقراء يعانون معاناة كبيرة في المجتمعات الاشتراكية وكانت المحصلة النهائية هو انهيار هذا النظام وتفكك الدول وتحولها إلى اعتناق المذهب الرأسمالي كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق أوروبا.

أما بالنسبة للنظام الإسلامي فيتميز عن سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى في خطوطه العريضة، فهو يتألف من ثلاثة أركان رئيسة هي(18):

1. الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة): فهو يؤمن بالملكية الخاصة والملكية العامة وملكية الدولة ويخصص لكل واحد من هذه الأشكال

ص: 170

حقلاً خاصاً تعمل فيه.

2. الحرية الاقتصادية في نطاق محدود: من خلال السماح للأفراد على الصعيد الاقتصادي بحرية محدودة بحدود القيم المعنوية والخلقية التي يؤمن بها الإسلام، فهو يسمح للأفراد بمارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل التي تهذب الحرية وتصقلها وتجعل منها أداة خير للإنسانية كلها.

3. العدالة الاجتماعية: والتي جسدها فيما زود به نظام توزيع الثروة في المجتمع الإسلامي من عناصر وضمانات، تكفل للتوزيع قدرته على تحقيق العدالة الإسلامية وانسجامه مع القيم التي يرتكز عليها. وقدد حدد الإسلام هذا المفهوم وبلورهُ في مخطط اجتماعي، وجسدهُ في واقع اجتماعي حي تنبض جميع شرايينه وأوردتهُ بالمفهوم الإسلامي للعدالة. والصورة الإسلامية للعدالة تحتوي على مبدأين هما، مبدأ التكافل العام، ومبدأ التوازن الاجتماعي، وبهاذين المبدأين تحقق القيم الاجتماعية العادلة.

في ضوء ذلك، وضعت الشريعة الإسلامية مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي من اجل حماية مصالح الأفراد على أساس إن الاقتصاد جزء من كل المذهب الإسلامي وليس بمعزل عنه، والأصل التشريعي لهذا التدخل هو في القران الكريم في قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (19).

لقد تعرض الإسلام لمشكلة الفقر قبل أن تصبح المشكلة الأبرز التي تعاني منها المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء، فالفقر من وجهة نظر إسلامية يمثل خطر على الإنسان وخطر على الأخلاق وخطر على المجتمع، وقد حارب

ص: 171

الإسلام الفقر وبكل قوة من اجل أن يحيا الإنسان حياة كريمة.

فالإسلام يدعو إلى تحقيق حياة معيشية رغدة للإنسان ويحارب الفقر ويطاردهُ بشتى الوسائل، ووضع الإسلام الحلول الناجعة لمواجهة الفقر، فقد حث الإسلام على تدخل الدولة من أجل توفير فرص العمل، کما استخدم النقود بالشكل الصحيح وحرم استخدامها كوسيلة للكسب الحرام، کما فرض تدخل الدولة من اجل توفير العيش الكريم للأفراد، كما عالج موضوع التوزيع غير العادل للدخل والثروة من اجل القضاء على التفاوت الطبقي في المجتمع.

فالاقتصاد الإسلامي يؤمن بأن مصادر الثروة الطبيعية كلها الله سبحانه وتعالى وإن اكتساب حق خاص في الانتفاع لا يقوم إلا على أساس الجهد والعمل، إذ يقول في محكم كتابه الكريم: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (20).ويؤمن بأن أي إنتاج بشري للثروة الطبيعية لا يعطي حقاً في الثروة المنتجة إلا للعامل المنتج نفسهُ وليست الطبيعة أو وسائل الإنتاج إلا أدوات لخدمة الإنسان(21).

لقد مجد الإسلام العمل وحث عليه وفرض على ولي الأمر أو الدولة التدخل في مجالات عدة في ميدان العمل لعل من ابرزها(22):

1. تسهيل أسباب الحياة الطبيعية للعاملين، حتى إن الإسلام يعمل على تزويد العاملين الذين لا يستطيعون مئونة الزواج ويسكنهم في مساكن تليق بهم.

2. كما إن مسؤولية الدولة تنصرف إلى القيام بالأعمال الضرورية، فإنها تنصرف

ص: 172

كذلك لمكافحة الأعمال السيئة، وعليه فإن الدولة تمنع العمل بالأعمال المحرمة طبقاً للشريعة الإسلامية.

3. المراقبة الشاملة لجميع الأعمال من خلال الشرطة المدنية المسؤولة عن الأسواق.

4. إن للدولة الحق في الإشراف والرقابة والاستمرار، مثلاً أن تجبر الناس للقيام ببعض الأعمال الضرورية التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها.

5. كما يمكن أن تتدخل الدولة لتحديد قيمة الأجر العادل للعامل يمنع الظلم الذي تتعرض له فئة معينة بسبب ضعف موقفها من اجل إقامة العدل والتوازن الاجتماعي بين أفراد المجتمع.

کما تتجه الدولة في ظل الصورة الكاملة للاقتصاد الإسلامي إلى إعادة النقد إلى دوره الطبيعي كأداة للتبادل لا كأداة لتنمية المال بالربا والادخار ووضع ضريبة على الادخار والتجميد، وحذف ما يمكن حذفه من العمليات الرأسمالية التي تتخلل بين إنتاج السلعة ووصولها إلى المستهلك ومقاومة الاحتكار، أي كل عملية تستهدف إيجاد حالة ندرة مصطنعة للسلعة بقصد رفع ثمنها، وكذلك يسعى النظام الإسلامي إلى تحويل دور النظام المصرفي من كونه وسيلة للتنمية الرأسمالية إلى كونه وسيلة لإثراء الأمة ككل، وتجميع أموالها المتفرقة في مصب واحد لإسهام اكبر عدد من المواطنين في عملية الادخار والاستثمار (23).

ويسعى النظام الإسلامي من خلال تدخل الدولة إلى توفير مستوى ملائم من المعيشة لكل فرد وليس فقط لتوفير حاجات الأنسان من مأكل وملبس ومسكن التي تمثل الحاجات الأساسية أو حد الكفاف (كما في النظام الرأسمالي) بل يتعداها إلى ما تستقيم به حياته ويصلح له أمرهُ، ويجعله يعيش في مستوى

ص: 173

المعيشة السائد والذي يُسمى «حد الكفاية» والذي يستطيع الفرد العيش بالمستوى اللائق والكريم بحدود إمكانات الدولة وظروفها المادية والتي لا تصل إلى حد الإسراف والترف.

من جانب آخر، فقد شدد الإسلام على موضوع التوزيع العادل للدخل والثروة بين أفراد المجتمع، بوصفها أداة ضرورية لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية، إذ قال الله تعالى «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (24).

وقد وضع برامج فعالة من اجل تقليص حالات عدم المساواة بين الأفراد بالمجتمع مثل الزكاة وغيرها. وقد وردت كلمة زكاة في القرآن الكريم اكثر من 32 مرة لما لها من أهمية في الاقتصاد الإسلامي، ويقول جل في علاه «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (25).

تأسيساً على ما تقدم، يتضح إن دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي ليس ذات طابع رأسمالي يتمثل بفكرة عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، كما انه ليس شموليا وقسرياً يقمع الحرية ويقتل روح المبادرة والمغامرة لدى الفرد، وهو أيضاً ليس له طابع دولة الرفاهية العلمانية التي تكثف الطلبات على الموارد بسبب عزوفها عن الأحكام القيمية، وتؤدي إلى حالات اختلال في الاقتصاد الكلي،

ص: 174

بل إن دور الدولة هو دور إيجابي وهو عبارة عن التزام أخلاقي بالمساعدة على تحقيق رفاهية الجميع من خلال ضمان التوازن بين المصلحتين الخاصة والاجتماعية وحفظ القطار الاقتصادي على السكة المتفق عليها ومنع تحويلهُ من جانب المصالح المتأصلة القوية، على أن يكون محكوماً ومحصوراً ضمن القيود الذي وضعتها الشريعة الإسلامية(26).

ص: 175

المبحث الثاني: واقع الفقر في العراق

عند تصفح اوراق التاريخ الحديث في العراق نجد ان فيه الكثير من المتغيرات السياسية و الاقتصادية قد القت بظلالها على واقعه ومستقبله، وأثرت بشكل مباشر على الحياة ونوعها، فقد اضحت الحروب التي خاضها العراق احد اسباب الفقر (حرب الشمال، الحرب العراقية - الايرانية، حرب الخليج الاولى 1991، العقوبات الاقتصادية 1991 - 2003، حرب الخليج الثانية 2003)، فضلاً عن طبيعة النظام السياسي الحاكم في العراق منذ تاسيس الدولة العراقية واساليب تعامله مع المجتمع وسوء التصرف بالثروة التي يمتاز بها العراق وعوامل كثيرة تداخلت فيما بينها كنتاج لهذين السببين الرئيسيين، افضت الى ان يكون العراق وشعبه يرزخ تحت طائلة الفر و العوز في حين كان يجب ان يكون في مقدمة البلدان في التقدم الاقتصادي والعلمي والاجتماعي في المنطقة، ولم يتحسن الحال كثيرا بعد العام 2003 رغم الجهود التي بذلتها الحكومات المتعاقبة نيجة التركة الثقيلة التي ورثها العراق من الحقب السابقة فضلا عن الدمار الذي لحق الكنشات العراقية نيجة الحرب الاخيرة، اضافة الى افة الارهاب التي باتت عاملا مهماً في تردي الاوضاع في العراق.

اولاً: نظرة تاريخية على الفقر في العراق.

لقد ادت حرب الثمان سنوات العراقية - الايرانية الى تدهور اوضاع السكان وبخاصة مناطق التماس مع الحدود الايرانية في وسط وجنوب العراق، اذ نزح سكان المحافظات الجنوبية من البصرة وميسان الى المدن الابعد عن وقائع الحرب،

ص: 176

مما ادى الى تدهور اوضاع هذه العوائل وافقارها، كما ان سنوات الحرب واوضاعها قد زعزعت الاسس التي بنيتى عليها الدولة وأدت الى بروز ظواهر جديدة كنتاج افرزته هذه الحرب، فقد تمت عسكرة المجتمع بصورة مكثفة، وألغيت الحريات بصورة كاملة، وأصبح الفقر والحاجة السمتين الاساسيتين للعوائل والافراد العراقيين(27)، فبعد ان ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي نتيجة ارتفاع اسعار النفط في عقد السبعينيات، اذ تضاعف نصيب الفرد (10) مرات خلال الفترة (1970 - 1980) وبلغ (3864 دولار) ثم انخفض الى (3176 دولار) عام 1988، الان ان هذه الحصة قد بدأت بالتآكل نتيجة التضخم الذي ارتفع من 5% بداية عقد السبعينات وصل الى 68% نهاية العقد، وبسبب الزيادة في الانفاق الحكومي لإدامة آلة الحرب اخذ معدل التضخم بالتزايد المستمر الى ان وصل %369 عام 1988، وبذلك فان الجزء الاعظم من حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي قد ضاعت او تبددت(28).

لقد تراجع الناتج المحلي الاجمالي من 9، 15 مليار دينار عام 1988 الى 5، 3 مليار دينار عام 1944 (باسعار 1980) وبذلك بلغت نسبة التدهور نحو 9، 77% ما قبل حرب الخليج الثانية مقارنة بما بعدها (1988 - 1994) وترتب على ذلك تقلبات واسعة في متوسط حصة الفرد من اجمالي الناتج المحلي، فقد بلغ نحو 564 دولار في مطلع عقد السبعينات، وأقصاه نحو 1586 دولار في مطلع عقد الثمانينات ثم اخذ بالتراجع الى نحو 161 دولار في منتصف عقد التسعينات، بعبارة اخرى تناقص متوسط حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي والتي يصعب التخلي عنها بالنسبة الى كافة فئات الدخل(29).

في العام 1990 فرضت العقوبات الاقتصادية ثم الحرب على العراق بعد

ص: 177

اجتياحه للكويت، فتراجع في اثر هما مستوى المعيشة، اذ انخفض مستوى نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي الى 180 دولار عام 1994، ثم بدأ يشهد ارتفاعاً متدرجاً حيث وصل الى 770 دولار عام 2002، بسبب تطبيق برنامج الامم المتحدة (الغذاء مقابل النفط) بعد عام 1995، لقد عکست سنوات العقوبات الاقتصادية تدني حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي وقد القت هذه العقوبات ثقلها الاكبر على الافراد و الاسر من فئات الدخل الضعيفة والمتوسطة، وطبقا لتقديرات منظمة الغذاء والزراعة لعام 1995، فان ثلثي العراقيين تعرضت مستويات معيشتهم لانتكاسة خطيرة، انخفض الدخل الاسري الى ثلث ما كان عليه عام 1988، وإزاء هذا المستوى المتذبذب من القدرة الدخلية وظلت أنماط الاستهلاك الاسري تميل لصالح اشباع الحاجات الاساسية ومنها بشكل خاص مجموعة المواد الغذائية، ومن الطبيعي ان تنخفض نتيجة لذلك نسب الاشباع من اوجه الانفاق الاخرى الضرورية منها والكمالية، فاهتمت الاسر يتامين غذائها حتى صارت تنفق 62% من اجمالي انفاقها خلال تلك الفقرة على الغذاء لتضحي بالكثير من السلع والخدمات تحقيقاً للحد المطلوب من الامن الغذائي (30).

وقد عبر تون ميات (Tun Myat) منسق الامم المتحدة في العراق عن الحالة التي عاشها الشعب العراقي في فترة الحصار «ان الشعب اصبح فقيرا في بعض الحالات الى حد ان الناس لا قبل لهم بتناول الطعام الذي يعطى لهم لان حصة الطعام بالنسبة الى كثيرين منهم تمثل الجزء الاكبر من دخلهم، فيتعين عليهم ان يبيعوا الطعام لكي يشتروا ثيابا او احذية او زيا مما يحتاجون»، وطبقا لتقرير الامين العام للام المتحدة عن الوضع الانساني في العراق «ان الشرائح الاشد فقرا في المجتمع مجبرة غالبا على مقايضة ما تحصل عليه من سلة الطعام لكي

ص: 178

تستطيع ان تشتري ضرورات اخرى... فالقوة الشرائية قد انحدرت باطراد، وبينما المواد الغذائية متاحة بسهولة للأسواق، فإنها غير ممكنة الشراء للمواطن العراقي المتوسط... وحتى على الرغم من ان لدى العراق وفرة في الخضراوات والفواكه والمنتجات الحيوانية، فان غالبية العراقيين لا يستطيعون شرائها»(31).

ثانياً: حال الفقر في العراق بعد 2003.

بدأ العراق بعد العام 2003 بالإصلاح الاقتصادي للإختلالات الموروثة نتيجة الممارسات غير الصحيحة للحكومة السابقة، وفي ظل ذلك تم البدء بالتحول نحو اقتصاد السوق ووضعت لأجل ذلك برامج إصلاحية تضمنت تحرير التجارة وإصلاح النظام الضريبي وتشريع قانون للبنك المركزي ضَمِنَ إستقلاله، فضلاً عن الاصلاحات في السياستين المالية والنقدية.

إلا ان الاصلاح لم يجر بسلاسة فقد واجه مشاكل جمة في مقدمتها أُحادية الاقتصاد العراقي المعتمد على المورد النفطي وبروز ظاهرة الفساد المالي والإداري، فضلاً عن تردي الوضع الامني بشكل أدى إلى تعثر جهود الاصلاح.

فقد اقرت الدولة الابتعاد عن التدخل في الحياة الاقتصادية وتعزز هذا التوجه بموجب الالتزامات الاقتصادية والمالية المترتبة على العراق في اطار اتفاقية الاستعداد للأخذ ببرنامج الاصلاح الاقتصادي والترتيبات المساندة كجزء من متطلبات اتفاقية نادي باريس (2004) لخفض ديون العراق التي تقدر بحوالي 8، 36 مليار دولار بنسبة 80% على ثلاث مراحل، من ضمن هذه الاصلاحات (خصخصة شركات القطاع العام، تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، ازالة التشوهات في نظام الاسعار من خلال ازالة القيود التي تحدد الاسعار)، وقد احدثت بعض هذه الاجراءات اثاراً سلبية على الفقراء، فقد ادت سياسة تخفيض

ص: 179

الدعم الحكومي على المشتقات النفطية الى ارتفاع مستوى الانفاق الاسري الشهري على مجموعة السكن والمياه والوقود من 13% عام 1993 الی 29% عام 2007، والى مضاعفة الانفاق الاسري الشهري على النقل اذ ارتفع من 5% الى اكثر من ٪10 للاعوام 1993 و2007 على التوالي(32).

ولغرض الوقوف على حالة الفقر في العراق خلال مدة البحث قسم على ثلاث مدد وكما يلي:

1. الدولة الجديدة.. اوضاع مضطربة 2004 - 2007.

للوقوف على حال الفقر في العراق في هذه الفترة سيتم تحليل الفقر التحليل المكاني، عموماً يرتبط مستوى المعيشة في العراق إلى حد كبير مع درجة التحضر، فبوجه عام تعاني المناطق الريفية من أعلى درجات الحرمان، ويتجه الحرمان للإنخفاض كلما كبر حجم التجمع السكاني ليصل أدنى مستوياته في المدن الكبيرة مما شكل دافعا مهما للهجرة الداخلية في العراق باتجاه المدن الكبيرة وخاصة خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وقد ساهمت عوامل عديدة في خلق هذا التباين ما بين الريف والحضر منها تحيز الدولة في توفير الخدمات لصالح المدن الكبيرة على حساب المدن الصغيرة والريف، وقلة فرص العمل في المناطق الريفية، وإنخفاض الأسعار النسبية للمنتجات الزراعية، إلا أن زيادة الإهتمام بالريف منذ بدء السبعينات وإرتفاع الأسعار الحقيقية للمنتجات الزراعية، وخاصة بعد فرض الحصار الإقتصادي بداية التسعينات من القرن الماضي، ساهم في تخفيض الفجوة بين الحضر والريف فإنخفضت معدلات الهجرة الداخلية من الريف إلى الحضر وتغير نمط الهجرة من هجرة داخلية ضمن العراق إلى هجرة خارجية، وخاصة من المدن الكبيرة، إلى خارج العراق33، کما

ص: 180

يرتبط الفقر في العراق بحجم الاسرة وتكوينها (عادتاً ما يرتبط الفقر بالأسر الاكبر حجماً) من جهة، والتعليم وقطاع العمل لرب الاسرة المسئول عن اعالتها من جهة اخرى، وفي الوقت الذي ترتبط فيه وظائف القطاع العام باحتمال ان تكون اقل فقراً، فان الاسر التي تعتمد على الزراعة والبناء من المرجح أن تكون ضعيفة الدخل مقارنة بالأسر الاخرى(34).

وفي الريف تأثر مستوى المعيشة بعوامل عدة بعد عام 2003، فمن ناحية تسبب اطلاق استيراد المواد الغذائية وانخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات في تخفيض دخل الاسرة الزراعية مما اثر سلبا في مستويات المعيشة في الريف، ومن ناحية اخرى ساهم التوسع في حجم قوات الشرطة وبقية القوات المسلحة في خلق فرص عمالة ذات اجور جيدة نسبياً(35).

جدول (1) مقارنة بين الحضر والريف في توزيع الاسر حسب مستوى الحرمان من الحاجات الاساسية ٪

المیدان - حرمان عال - حرمان متوسط - حرمان منخفض - الحرمان في الریف الی الحضر 2004 - الحرمان في الریف الی الحضر 2007

حضر - ریف - حضر - ریف - حضر - ریف - حضر - ریف - حضر - ریف - حضر - ریف

التعليم - 5، 22 - 4، 63 - 6، 20 - 3، 48 - 1، 35 - 4، 24 - 0، 32 - 9، 32 - 4، 42 - 2، 12 - 4، 47 - 8، 18 - 8، 2 - 3، 2

الصحة - 3، 15 - 2، 39 - 5، 21 - 4، 41 - 6، 22 - 6، 29 - 6، 36 - 5، 35 - 1، 62 - 2، 31 - 8، 41 - 2، 23 - 6، 2 - 9، 1

البنى التحتية - 5، 49 - 3، 89 - 4، 38 - 2، 93 - 4، 30 - 9، 8 - 5، 38 - 2، 6 - 5، 20 - 8، 1 - 1، 23 - 7، 0 - 8، 1 - 4، 2

المسكن - 4، 14 - 6، 39 - 3، 22 - 7، 46 - 9، 25 - 1، 31 - 4، 39 - 6، 29 - 6، 59 - 3، 29 - 4، 38 - 7، 23 - 7، 2 - 1، 2

وضع الاسرة الاقتصادي - 7، 53 - 8، 59 - 4، 27 - 4، 45 - 4، 27 - 4، 27 - 6، 32 - 6، 30 - 9، 18 - 9، 12 - 0، 40 - 0، 24 - 1، 1 - 7، 1

دلیل مستوی المعیشة - 2، 21 - 9، 64 - 4، 17 - 5، 57 - 1، 49 - 1، 31 - 9، 54 - 9، 37 - 7، 29 - 9، 4 - 7، 27 - 2، 4 - 1، 3 - 3، 3

المصدر: من اعداد الباحثین بلاعتماد علی: -

ص: 181

خارطة الحرمان ومستوويات المعيشة في العراق 2006، وزارة التخطيط والتعاون الانمائي، الجهاز المركزي للاحصاء وتكنلوجيا المعلومات، برنامج الامم المتحدة الانمائي، 2006، ص 20، ج-دول (1 - 14).

خارطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق 2011، وزارة التخطيط والتعاون الانمائي، الجهاز المركزي للاحصاء وتكنلوجيا المعلومات، برنامج الامم المتحدة الانمائي، 2011، ص 74، الجدول (2 - 6).

يبين الجدول (1) مقارنة بين الريف والحضر في مستويات المعيشة، ويشير الى ان هناك تباين كبير في مستويات الحرمان، ويتضح هذا التباين في دليل مستوى المعيشة، اذ تبلغ نسبة الحرمان في الريف ثلاثة امثال النسبة المقابلة في الحضر للاعوام 2004 و2007، اما على مستوى الميادين المنفردة فيظهر هذا التباين في ميادين التعليم والصحة والمسكن، اذ ان نسبة الاسر المحرومة فيها ضمن المناطق الريفية تبلغ ما يقارب ثلاثة امثال النسب المقابلة في المناطق الحضرية في عام 2004، بينما سجلت هذه الميادين انخفاضاً في العام 2007 رغم انها بقيت مرتفعة عموماً، اذ اصبحت نسب الاسر المحرومة تزيد عن ضعف النسبة المقابلة في المناطق الحضرية.

في حين كان مستوى الحرمان في ميدان البنى التحتية اكثر من الضعف في المناطق الريفية في عام 2004، بينما ارتفع في عام 2007 اذ بلغ 93٪ في الريف مقارنة ب 38٪ في الحضر.

وبشكل عام ان هذه المؤشرات تشير الى ان ليس الفقر ليس اكثر انتشارا في الريف مما هو عليه في الحضر فحسب، بل هو اكثر عمقاً، اذ بلغ متوسط قيمة دليل مستوى المعيشة للاسر المحرومة في الريف 82، 0 مقارنة ب 89، 0 في الحضر

ص: 182

لعام 2004، وبلغ متوسط قيمة الدليل ذاته في العام 2007 للاسر المحرومة 85، 0 في الريف مقارنة ب 92، 0 في الحضر (36).

2. اوضاع مستقرة نسبياً: تحسن في مستويات المعيشة 2007 - 2012.

بين عامي 2007 و2012 نما الناتج المحلي الاجمالي في العراق بمعدل تراكمي يزيد على 64%، وبلغ معدل نمو نصيب الفر من الناتج المحلي الاجمالي 6، 7%، ورافق ذلك معدل نمو سكاني بلغ نسبة 5، 2% الى 0، 3 سنوياً، وادى النمو الاقتصادي المتسارع الى تحسن مماثل في مستوى المعيشة، اذ ارتفع الاستهلاك الخاص بنسبة 4، 9% سنويا للمدة المذكورة(37)، وتبعاً لذلك

جدول (2) مقارنة في الفقر العام بين الريف والحضر

معدل حجم الفقر - فجوة الفقر - المقیاس التربیعي لفجوة الفقر

البیان - 2007 - 2012 - التغیر - 2007 - 2012 - التغیر - 2007 - 2012 - التغیر

حضر - 4. 17 - 8. 14 - 5. 2 - 0، 3 - 7. 2 - 2. 0 - 8. 0 - 8. 0 - 0

ریف - 9. 38 - 6. 30 - 3. 8 - 1. 9 - 4. 7 - 7. 1 - 1. 3 - 6. 2 - 6، 0

الکلي - 6. 23 - 8. 19 - 7. 3 - 7. 4 - 2. 4 - 5. 0 - 5. 1 - 3. 1 - 1. 0

Source: Poverty Estimates And Trends In Iraq: 2007-2012،p21.

انخفضت معدلات الفقر انخفاضاً طفيفاً من 6، 23% الى 8، 19% في 2012، كما في الجدول (2)، في حين لم يحدث تغيير يذكر في فجوة الفقر وحدته، وبعبارة اخرى فان اولئك الذين كانوا دون خط الفقر في عام 2007 قد اقتربوا في المتوسط من خط الفقر في عام 2012.

لقد كان الانخفاض النسبي في معدل الفقر بين الاعوام 2007 و2012 نتيجة الزيادة في الايراد النفطي بدلاً من زيادة العمالة في القطاع الخاص الذي يعمل فيه اغلب الفقراء، اذ ان قطاع النفط الذي يمثل اكثر من نصف الناتج المحلي الاجمالي

ص: 183

للعراق وجميع صادراته تقريباً لا

يمثل سوى (1٪) من العالة في البلد، في حين ان القطاعات الاخرى لم توفر فرص عمل كافية لاستيعاب قوى العمل المتنامية، باستثناء القطاع العام المتضخم نتيجة التوسع في الوظائف مدعماً بالإيراد النفطي.

لم يكن التخفيف من الفقر متساوياً من حيث المناطق الجغرافية، فقد تباينت معدلات الفقر بين الريف والحضر في العامين 2007 و2012، اذ انخفضت معدلات الفقر في المناطق الريفية من نسبة مقدارها 9، 38% عام 2007 الى 6، 30% عام 2012، أي بمقدار 3، 8% مقارنة بالانخفاض في المناطق الحضرية اذ بلغت نسبة التغير 5، 2%.

لقد كان هناك تحسن قليل في حجم الفقر في محافظات بغداد وكردستان في حين انخفضت معدلات الفقر بشكل ملحوظ في المحافظات ال 14 المتبقية وتعيش في هذه المحافظات افقر 40٪ من السكان أي ما يعادل 70٪ من نسبة السكان وبغداد تمثل 20٪ الاخرى، في عام 2007 عاش نصف الفقراء في خمس محافظات (البصرة، بغداد، نينوى، بابل، ذي قار)، وبحلول عام 2012 ضلت نسبة الفقراء في بغداد بلا تغيير عند 19٪، بينما تضاعفت النسبة تقريباً في نينوى لتصل الى 7، 15%، في حين تركز الفقر في ثلاث محافظات جنوبية هي (ذي قار، ميسان، القادسية) اذ تمثل ما يقارب ربع الفقراء في البلد (38).

3. الازمة المزدوجة (الصدمة الثنائية): انخفاض اسعار النفط وداعش الارهابي.

لقد ادى الصراع الذي اقترن بالقيود الاقتصادية في السنوات الاخيرة الى عكس المكاسب التي تحققت في الحد من الفقر بين عامي 2007 و2012، فقد انخفض

ص: 184

معدل الفقر في العراق الى (8، 19%) في عام 2012 بعد ان كان (6، 23%) في عام 2007، الجدول (2)، الا ان هذا الانخفاض في معدلات الفقر قد تم عكسه بحلول عام 2014، اذ يقدر معدل الفقر في عدد السكان في ذات العام نحو (5، 22%)، الجدول (3) وهو ما يقارب المستوى المسجل في العام 2007 ويشير ذلك الى ان الفقر يتناسب طردياً مع فقدان الامن والنزاع والعنف، وكذلك انخفاض اسعار النفط او النقصان في الايراد النفطي نتيجة الاعتماد المطلق على وارداته.

لقد تبين الاثر السلبي للازمة المزدوجة في العراق على جميع مناطق العراق، إلا ان شدتها تباينت بين منطقة وأخرى، فقد كان التأثير اشد حدة في المناطق المتضررة من ارهاب داعش وکردستان من المناطق الاخرى، اذ يقدر ان مستويات الفقر قد تضاعفت اربع مرات في تلك المناطق عما كانت عليه قبل الازمة، في حين زاد بالمركز بمقدار 6٪، وكانت الزيادة في الفقر في بقية الشمال والجنوب مقارب لما في المركز، وكان التدهور في مستويات الرفاه للفقراء في جميع المناطق وفقاً لفجوة الفقر وحدته كبيراً، التي يبينها الجدول (3)، اذ يتضح ان فجوة الفقر قد ازدادت بعد الازمة الى 2، 14% عام 2014 بعد ان كانت 3، 5% عام 2012، وكذلك الحال بالنسبة لشدة الفقر فقد ارتفعت موشراته بعد الازمة ليبلغ 3، 7% بعد ان كان 2، 2% لذات الاعوام على التوالي.

کما ان هذه الازمة ادت الى القضاء على التحسن الذي حصل في مستويات الفقر بين عامي 2007 و2012، مما ادى الى رفع 2 و 2012، مما ادى الى رفع حجم الفقر الى 5، 22% عام 2014، ودفع ثلاثة ملايين شخص اخرين الى الفقر (39).

يلحظ من الجدول (3) ان اثار فجوة الفقر وشدته كانت في الجنوب اكثر منها في باقي المناطق الاخرى، ويشير ذلك الى ان النسبة الاكبر يعيشون بالقرب من

ص: 185

خط الفقر قبل عام 2014.

البیان - حجم الفظ - فخوة الفقر - الخطورة (حدة الفقر)

2012 - 2014 - التأثیر - 2012 - 2014 - التأثیر - 2012 - 2014 - التأثیر

الاعتیادي - الازمة - الاعتیادي - الازمة - الاعتیادي - الازمة

العراق - 9، 18 - 0، 15 - 5، 22 - 5، 7 - 1، 4 - 9، 3 - 6، 6 - 7، 2 - 4، 1 - 7، 1 - 0، 3 - 3، 1

کردستان - 5، 3 - 5، 3 - 5، 12 - 0، 9 - 6، 0 - 6، 0 - 7، 3 - 1، 3 - 2، 0 - 2، 0 - 7، 1 - 5، 1

بغداد - 0، 12 - 5، 8 - 8، 12 - 4، 4 - 0، 2 - 3، 2 - 4، 3 - 0، 1 - 5، 0 - 2، 1 - 6، 1 - 3، 0

التأثیر - 7، 25 - 5، 20 - 2، 41 - 6، 20 - 6، 5 - 3، 5 - 2، 14 - 9، 8 - 8، 1 - 2، 2 - 3، 7 - 0، 5

بقیة الشمال - 9، 14 - 1، 12 - 7، 17 - 6، 5 - 8، 2 - 9، 2 - 4، 4 - 6، 1 - 8، 0 - 2، 1 - 8، 1 - 6، 0

المرکز - 8، 15 - 7، 12 - 6، 18 - 8، 5 - 1، 3 - 9، 2 - 6، 4 - 7، 1 - 0، 1 - 1، 1 - 8، 1 - 7، 0

الجنوب - 6، 33 - 1، 26 - 5، 31 - 5، 5 - 6، 8 - 8، 6 - 9، 8 - 1، 2 - 2، 3 - 7، 2 - 7، 3 - 0، 1

Source: Iraq Systematic Country Diagnostic February 3، Report No. 112333-Iq، World Bank Group، 2017،p36

كما يتجلى اثر الازمة في زيادة الفقر بكونه سبب زيادة في معدلات البطالة مقارنة بما قبل الازمة، فالهجرة الداخلية جعلت البعض عاطلا عن العمل او يعمل بإجور اقل وهو ما ادى الى انخفاض دخل العمالة بنسبة 20٪ عام 2014 أي ما يعادل 14٪ في اجمالي دخل الاسرة، كما يتضح من الجدول (4)، وكذلك ان اجمالي الدخل قد انخفض الى النصف تقريبا في المناطق المتضررة من داعش، ان الزيادة في معدلات البطالة تؤدي الى تقليل دخل الايدي العاملة والذي يؤدي بدوره الى انخفاض نصيب الفر من الاستهلاك.

ص: 186

جدول (4) التأثير على مكونات دخل الفرد ومعيشة الأسر، الأزمة مقابل الأعمال المعتادة

البيان - الفقراء الجدد - الفقر القدیم - مجموع السکان

العادی - الازمة - % - العادی - الازمة - % - العادی - الازمة - %

نصيب الفرد من الاستهلاك - 5، 108 - 8، 60 - 9، 43 - 1، 56 - 2، 49 - 2، 12 - 2، 155 - 4، 137 - 5، 11

نصيب الفرد من دخل الاسرة

الدخل الكلي - 0، 144 - 0، 71 - 7، 50 - 4، 81 - 66 - 0، 19 - 5، 182 - 3، 155 - 9، 14

دخل العامل - 6، 110 - 8، 45 - 6، 58 - 2، 54 - 4، 41 - 6، 23 - 1، 124 - 4، 99 - 9، 19

الدخل غير العامل - 0، 20 - 9، 12 - 3، 35 - 7، 17 - 4، 15 - 6، 23 - 8، 28 - 0، 27 - 3، 6

التحويلات العامة - 1، 16 - 11 - 5، 31 - 3، 14 - 7، 12 - 2، 11 - 8، 20 - 8، 19 - 9، 4

التحويلات الخاصة - 9، 3 - 9، 1 - 2، 51 - 4، 3 - 7، 2 - 2، 19 - 0، 8 - 2، 7 - 1، 10

Source: IRAQ SYSTEMATIC COUNTRY DIAGNOSTIC February 3.

Report No. 112333-IQ،World Bank Group، 2017،p39

ان اثر الازمة على «الفقراء الجدد» - أي الاسر التي اصبحت فقيرة نتيجة الازمة المزدوجة - اكثر عمقاً بأربعة اضعاف من بقية السكان قياساً بنصيب الفرد من الاستهلاك والدخل، ويعزى الاثر الكبير في انخفاض دخل الفرد ومستوى نصيبه من الاستهلاك الى انخفاض دخل العمالة فقد هبط نصيب الفرد من الاستهلاك للفقراء الجدد بنسبة 44٪ وانخفض الدخل الفردي بنسبة 51٪ وانخفض دخل العمالة بنسبة 60% نتيجة الازمة.

وبدءاً من حزيران 2014 وبعد هجوم داعش الارهابي على محافظات العراق

ص: 187

الشمالية والغربية نتج عنه (354000) اسرة نزحو داخلياً خلال ستة اشهر من العام 2014، ويمثل ذلك حوالي 1، 2 مليون شخص (40)، وبحلول نهاية عام 2015 كان حوالي 2، 4 مليون شخص في العراق قد نزحو داخلياً (41).

المبحث الثالث: سبل مواجهة الفقر في ضوء فلسفة الأمام علي (عليه السلام)

للفقر آثار اقتصادية واجتماعية سلبية مؤلمة ومعقدة على الأنسان وعلى المجتمعات، فهو متعدد الأبعاد، لا ينحصر في الجانب المادي الذي يشمل المأكل والملبس والسكن فحسب، بل يشمل فقر التعليم، الحرمان من الرعاية الصحية، الحرمان من الحقوق... الخ.

وعلى الرغم من كل ما تحقق من إنجازات على صعيد مواجهة الفقر، والشعارات التي ترفعها الدول المتقدمة لمحاربة الفقر، لا يزال الفقر يشكل ظاهرة خطرة لا سيما في ظل انتشار ظاهرة العولمة وتسارع خطاها بشكل لافت للنظر، إلى جانب ظاهرة الإصلاحات التي يرعاها صندوق النقد الدولي أو ما يسمى «إجماع واشنطن»(42) والذي كانت له نتائج مؤلمة على الطبقات الفقيرة.

فعولمة الفقر في أواخر القرن العشرين لم يسبق لها مثيل في التاريخ الاقتصادي العالمي(43). غير إن هذا الفقر ليس نتيجة ندرة الموارد البشرية والمادية كما يرى النظام الرأسمالي، كما إنه ليس نتيجة التناقض بين علاقات الإنتاج كما يرى النظام الاشتراكي، بل هو في سوء الاستخدام الإنسان للموارد بحسب وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي وهو نتيجة منطقية للفلسفة التي تكمن وراءهُ.

وان الباحث عن آليات معالجة الفقر والقضاء عليه سرعان ما يجد مصدرها

ص: 188

الأصيل، فبالتأكيد ليس في ثنايا النظرية الرأسمالية، ولا في مضامين النظرية الاشتراكية بكل ألوانها، بل سيجدها في الاقتصاد الإسلامي الذي يستند في جوهرة على القران الكريم والسنة النبوية واحاديث الأئمة الأطهار عليهم السلام.

وفي هذا الاطار، عالج الاقتصاد الإسلامي بوصفهُ جزء من الدين الإسلامي موضوع الفقر بشكل دقيق من خلال وضع التشريعات اللازمة للقضاء عليه، بالتركيز على الفرد بوصفه المسؤول الأول عن هذه الظاهرة.

وبهذا المعنى، فقد حرص الإسلام على تربية الفرد المسلم من الداخل من خلال التقييد بالمبادئ والقيم والتشريعات الموجودة في القرآن الكريم. وقد أجاز القران الكريم للدولة أو الحاكم والمسؤول بالتدخل في النشاط الاقتصادي، وذلك من اجل تصحيح الأسواق، وتحقيق التنمية، ومواجهة كل وسائل الظلم والاستغلال، ليحيا الأنسان حياة كريمة وبما يتناسب مع الأهداف السامية التي وضعتها الشريعة السمحاء.

ومن هنا ننطلق للتعرف على حل مشكلة الفقر في ضوء تعاليم القران الكريم والسنة النبوية الشريفة والتي استند عليهما أمير المؤمنين (علیه السلام) في فلسفته لمواجهة الفقر.

أولاً: الدولة والفقر في منهج وفلسفة الأمام علي (علیه السلام)

تُعد حقبة خلافة الأمام علي (علیه السلام) بالرغم من إنها لم تتجاوز الخمس سنوات مناراً ومثالاً يُحتذى بها، لما حققهُ من استقرار سياسي واجتماعي فضلاً عن الاستقرار الاقتصادي.

فقد كان للدولة دور كبير في الحياة الاقتصادية، وكان يوصي العاملين في الدولة

ص: 189

بتقوى الله فيا انتم عنه مسؤولين واليه تصيرون، فأن الله تعالى يقول: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (44) وفي آيات أخرى يقول تعالى: «فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٭ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(45)

لقد كان (علیه السلام) يحارب الفقر بشتى أنواعهُ، فقد كان يمثل له عدو خطر إذ يقول (علیه السلام): «لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته» وتوضح هذه المقولة مدى اهتمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بموضوع الفقر، وقد استطاع بالفعل محاربتة ومواجهتهُ حتى أصبحت دولته خالية من أوجاع الفقر آلامه.

وفي هذا السياق، وخلال مدة خلافته (علیه السلام) ارسل الكثير من العهود والكتب إلى عامليه في الولايات الإسلامية يحثهم فيها على الالتزام بما انزله الله سبحانه وتعالى بالقران الكريم من تعاليم وقوانين في التعامل مع الأفراد.

ويعكس عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى مالك الأشتر عندما ولاهُ على مصر جانباً مبتكراً ومهماً في محاربة الفقر، أذ تضمنت وثيقته مجموعة من المبادئ التي من شأنها محاربة الفقر قبل وبعد حدوثه.

فهو يوصي عاملهُ بضرورة تقوى الله ومنع الاحتكار وعاقبة المحتكر والعمل الصالح والعدل والأنصاف ومراعاة المستضعفين بين الناس ومتابعة موضوع الضرائب وأعمار البنى التحتية وتوفير الخدمات ورعاية الأيتام والمسنين، ومراعاة طبقة الكسبة والتجار، وهي جميعاً تمثل أرضية خصبة للفقر اذا لم يتم معالجتها بالشكل الصحيح.

ففيما يتعلق بالعمل الصالح والذي يمثل المرتكز الأساسي لمعالجة أوضاع الفقر، كتب يقول له ((ليكن احب الأعمال إليك ذخيرة العمل الصالح، وابتعد عما هو لا يحل لك، واشعر بقلبك الرحمة للرعية..... ثم يقول الناس صنفان أما

ص: 190

أخٍ لك في الدين أو نظير لك في الخلق......... الخ).

أما بالنسبة للعدل والإنصاف فكتب يقول (انصف الله وانصف الناس في نفسك ومن خاصة اهلك من رعیتك، فإنك إلا تفعل تَظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمهُ،.... إن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد)(46).

إن من اهم الصفات التي يتصف الاقتصاد الإسلامي هو الصفة الأخلاقية المتمثلة بالعمل الصالح والعدل والإنصاف النابعة من داخل الأنسان، ولذلك يجب أن يؤدي الحاكم أو الوالي أو المسؤول عمله بشكل صحيح لكي لا يكون هناك ظلم على العباد، وبهذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابة الكريم «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» (47). أن تحقيق العدل والإنصاف من الحاكم من شأنه أن يؤدي إلى محاربة الفقر من خلال التوزيع العادل لكل ثروات البلاد على طبقات المجتمع كافة، وتختفي الطبقية في المجتمع.

أما بالنسبة لمراعاة المستضعفين فكتب يقول (ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم (مساعدتهم وصلتهم) ومعونتهم وفي الله لكل سِعة، ولكل على الوالي حق ما يُصلحهُ، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمهُ الله من ذلك إلا الاهتمام والاستعانة بالله وتوطين نفسهُ على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف فيه أو ثقل)(48).

وفي منع الاحتكار وعاقبة المحتكر كتب يقول (واعلم مع ذلك، أن في كثيراً منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة العامة، وعيبٌ على الولاة، فأمنع من الاحتكار، فإن رسول الله منع

ص: 191

منهُ، وليكن البيع بيعٌ سمحاً، بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمشتري، فمن احتكر بعد نهیك فعاقبهُ، وعاقب في غير إسراف من تجاوز حد العدل) (49).

إن للاحتکار آثار سلبية تتمثل في سيطرة منتج واحد أو مجموعة قليلة من المنتجين على سعر السلعة، ومن ثم يفرض السلع الذي يحقق اعلى الأرباح وهذا لا يتفق مع المبادئ الإسلامية التي تمنع الأنسان من استغلال أخيه الأنسان.

وفي موضع آخر كتب يوصي بأصحاب المهن من التجار والصناع والكسبة خيراً، أذ يوصي مالك الأشتر (رضوان الله عليه) (ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيرا، المقيم منهم، والمضطرب بمالهُ، والمرتفق (المكتسب) ببدنهُ، فإنهُ مواد المنافع، وأسباب المرافق وجلابها من المعابد والمطارح (الأماكن البعيدة)، في برَك وبحرَك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سِلمٌ لا تخاف بائقتهُ (دهاؤهُ)، وصلحٌ لا تخشى غائلتهُ، وتفقَد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك).

وفي مورد آخر کتب حول متابعة الضرائب وإعمار البنى التحتية (تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحهُ وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عِيالُ على الخراج وأهله، وليكن في نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة اخرب البلاد واهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاٍ)(50).

أما بالنسبة لتوفير الخدمات أولاً ثم الضرائب فهو يوصي مالك الأشتر بضرورة توفير الخدمات للناس والتخفيف عنهم بما فيه صلاح لأمرهم، فأنهم

ص: 192

(أي الناس) ذخراً يعودون عليك به عليك في عمارة بلادك وتزين ولايتك ويوصيه بأن خراب الأرض يأتي من أعواز الفقر والحاجة(51).

وهنا نجد اهتمام الأمام (علیه السلام) بموضوع الضرائب، إذ وصي واليهُ في اكثر من موضع على مسألة الضرائب لما لها أهمية كبيرة في توفير الموارد المالية اللازمة لخزينة الدولة، وإعادة توزيعها على الفقراء، فالضرائب أداة مهمة لإعادة توزيع الدخول وتقليل الفوارق الطبقية في المجتمع.

وفي مراعاة الأيتام والمسنين کتب ((وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السن (المتقدمون فيه) ممن لا حيله له، ولا يُنصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كلهُ ثقيل، وقد يخففهُ الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا انفسهم، ووثقوا بصدقٍ موعود الله لهم)) (52).

ويستند في مفهومه إلى الأيتام الى كتاب الله الكريم إذ يقول جل في علاه «فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(53).

لقد أولى أمير المؤمنين (علیه السلام) عناية خاصة وفائقة بالأيتام والمسنين، فقد كان شديد الحرص على متابعة شؤونهم وتوفير المستلزمات الأساسية لهم، فهو يلقب أبو الفقراء والمساكين.

مما سبق يتضح، إن أمير المؤمنين (علیه السلام) قدم وصفة إسلامية كاملة لمعالجة أوضاع الفقراء، وهي تقوم على المبادئ الإسلامية التي أوصى بها الله سبحانه وتعالى، وهذه الوصفة تختلف عن الوصفات التي تقدمها المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما) لعلاج الفقر في كونها تستند على مبادئ وضعية

ص: 193

مرتكزها الأساسي حرية الأسواق بدون ادنی ضوابط أو أخلاقيات.

تأسيساً على ما تقدم، وبالنظر لما اكتسبتهُ ظاهرة الفقر في العراق أهمية كبيرة في ظل تنامي أعداد الفقراء، خلال العقود الثلاثة الماضية، بعدما كان يُعد من الدول ذات الدخل المتوسط خلال عقد السبعينات (کما تمت الإشارة إليه في المبحث الثاني).

كما إن السياسات الاقتصادية المتبعة بعد عام 2003 والتحول نحو اقتصاد السوق واعتناق الفلسفة الرأسمالية أوقعت البلد في فخ الفقر وانعدام المساواة، مما ترتب عليه ظهور طبقة غنية تمثل فئة قليلة في المجتمع، وطبقة أخرى فقيرة تمثل فئة كبيرة بالمجتمع.

ولذا ومن اجل النهوض بالاقتصاد العراقي ومعالجة آفة الفقر فيه، ومن اجل التخلص من مساوئ التوزيع غير العادل للثروة، نقترح خطوطاً استرشادية وفق رؤية إسلامية تستند إلى فلسفة ومنهج الأمام علي (عليه السلام) في معالجة الفقر والتقليل منه.

ثانياً: فلسفة الإمام علي (عليه السلام) في محاربة الفقر: الدروس المستفادة

انطلاقاً من فلسفة الإمام علي (عليه السلام) ونهجه في ادارة امور الدولة بخاصة الاقتصادية منها، واسترشاداً بمنهجه الذي لم يهمل فئة او شريحة اجتماعية إلا وأوضح واجباتها وحقوقها، فاننا نحاول ان نضع خطوطاً استرشادية تنبع من نهل فلسفته في محاربة الفقر والحد من مخاطره.

1. محاربة الفقر من خلال التعليم:

قال الامام علي (علیه السلام) «تعلموا العلم، فانه زين للغني، وعون للفقير». كما

ص: 194

قال (علیه السلام) «والعلم حاکم والمال محكوم عليه» فالمال بحاجة الى العلم في الاستثمار وفي التوزيع، وبه ينمو المال إلى اضعاف مضاعفة، فالعلم اداة الفقير لإزالة الفقر، فيتعلم كيف يزرع، وكيف يصنع، وكيف يدير باقي اموره، ان اکثر اسباب الفقر ناشئ من الجهل والامية، فالزراعة بحاجة إلى العلم، والصناعة كذلك لا تستغني عن العلم، فكل ما يريد الانسان صنعه لا بد له من العلم، واليوم استطاع العلم أن يطور مجالات الصناعة بشكل واسع بحيث اصبح الانتاج يضاهي انتاج الامس بآلاف المرات، وعموما فان الدول الفقيرة لا ينقصها في اللحاق بركب الدول الصناعية الكبرى سوى العلم وتوابعه، فبلاد اوربا كانت حتی قبل ستة قرون تعتمد على العالم الثالث في طعامها وما شابه، ولم تتطور دول اوربا إلا بالنهضة العلمية التي انطلقت في القرن السابع الميلادي، وبذلك فقد اهتم الاسلام بالعلم والعلماء، فالعلم عامل مؤثر في حياة الناس وبه يكفل تخليص المجتمع من الفقر والفاقة (54).

وتاسيساً على ما سبق فانه يجب توفير التعليم لكافة أفراد المجتمع، ولابد من استهداف الفقراء في ذلك ورفع مستوى تعليمهم، فقد تبين أن قلة التعليم والفقر يرتبطان بشكل مباشر.

2. الضمان الاجتماعي:

فرض الاسلام على الدولة حماية أفراد المجتمع الاسلامي من الفقر والعوز، فهي ضامنة لمعيشة أفراد المجتمع ضماناً كاملاً، من خلال تهيئة وسائل العمل للفرد وفرص المساهمة الكريمة في النشاط الاقتصادي المثمر ليعيش على اساس عمله وجهده، وفي حالة عجز الفرد عن العمل وكسب عيشه لاي سبب، تمارس الدولة مبدأ الضمان الاجتماعي من خلال تهيئة المال الكافي لسد حاجات الفرد

ص: 195

وتوفير حد خاص من المعيشة الكريمة له، وفي هذا السياق فان الامام علي (علیه السلام) هو رائد فكرة الضمان الاجتماعي الذي تتسع دائرته لتشمل حتی غير المسلم، من خلال الحادثة المشهورة حين اجرى راتباً من بیت المال لذلك الشيخ المسيحي الذي فقد فرصة العمل (55).

تتبلور إستراتيجية الحماية الاجتماعية ببرامج الدعم والمساعدات المقدمة للأفراد والعوائل نتيجة التعرض للصدمات والكوارث الطبيعية والأمراض والأزمات الاقتصادية من خلال تطوير شبكات الامان الاجتماعي (کبرامج التقاعد وإعانات اللاجئين والضمان الاجتماعي)، فضلاً عن مخاطر البطالة والعجز او العوق بسبب كبر السن او اصابة العمل، إلا أن شبكات الضمان الاجتماعي لم تلقى حظاً وفيراً ولم تثبت فعاليتها في اغلب الدول النامية وخصوصاً انها تبقى عاجزة في الأمد الطويل (56).

يعاني النظام الاجتماعي في العراق للعمال من تحديات خطيرة تتمثل في انخفاض عدد المشمولين واشتراكهم، وتدهور المركز المالي لصندوق الضمان الاجتماعي، فضلاً عن عدم جدية الدولة و مؤسسات القطاع الخاص بتطبيق احكام القانون النافذة، فضلاً عن عدم التفات العمال انفسهم حول القانون والضغط من اجل تنفيذه بالكامل (57).

3. رعاية ذوي الحاجات الخاصة:

لقد اشار الامام علي (علیه السلام) الى فئة رئيسية من فئات المجتمع الا وهي فئة او طبقة العمال ومن الذين لا يستطيعون العمل اما بسبب عاهة تمنعهم من ذلك، او بسبب صغر سنهم، او بسبب كبر سنهم، أو بسبب المرض الذي يحول بينهم وبين العمل، والفقراء والمحتاجون والقانع والمعتر، وكذلك اشار الى فئة اليتامى، وقد

ص: 196

اوضح الامام علي (علیه السلام) في عهده الى مالك الاشتر وسائل رعاية هؤلاء ومصادر الإنفاق عليهم بوصفهم مواطنين في الدولة ولهم حق العيش، وعليها توفير مستلزمات معيشتهم بقوله: «واجعل لهم قسما من بيت المال، وقسما من غلات المحاصيل الزراعية وصوافي الاسلام في كل بلد»(58)، وتعتبر هذه الاجراءات من الاهمية بمكان وبخاصة في ظروف العراق الحالية وما يمر به من نتاج الارهاب ومقارعته، الذي افرز الاعداد الكبيرة من الأرامل والأيتام الذين هم بحاجة إلى التفاتة الدولة ورعايتهم وتولي امور معیشتهم وحفظ کرامتهم وضمان العيش الكريم لهم.

وفي المجال الزراعي فان الامام (علیه السلام) يوجه بضرورة تقديم المساعدات للفلاحين في وقت الازمات كإنتشار الأوبئة والأمراض الزراعية، وعند شحة مناسيب المياه في الترع والأنهار، او قلة سقوط الأمطار، أو بسبب الفيضانات التي تؤدي الى غمر الأراضي الزراعية بالمياه وتدمير محاصيلهم ومزروعاتهم(59)، ذلك لما للقطاع الزراعي من أهمية في التخفيف من الفقر من خلال تشغيل الايدي العاملة وتوفير مستلزمات العيش لعوائل الفلاحين التي تمتاز بكبر اعدا افرادها، فضلا عن توفير المنتوجات الزراعية للاسواق المحلية.

4. الرقابة على السوق: الحد من اثر التضخم

لما كان دخل الفقراء محدودا فان زيادة الاسعار ستؤثر بشكل كبير عل حياتهم فيزدادون فقراً، وهنا لابد من تدخل الدول بالاجراءات الاقتصادية التي تحد من معدلات التضخم وهي الحد من كمية السيولة، زيادة الانتاج لمواجهة كمية السيولة الموجودة في السوق، وضبط الأسعار دون ارتفاعها، ونجد هذه المعالجات في رسالة الامام علي (علیه السلام) إلى واليه في مصر مالك الأشتر، اذ نجد مبدأ الترشيد،

ص: 197

ومبدأ زيادة الانتاج، وكذلك مبدأ التسعيرة العادلة.

قال الامام علي (علیه السلام) «وليكن البيع سمحاً: بموازین عدل، وأسعار لاتجحف بالفريقين من البائع والمبتاع»، فالموازين العادلة للأسعار هي التي تأخذ بنظر الاعتبار الوقت والجهد والمواد الأولية التي دخلت في انتاج هذه السلعة، وهذا البيع هو الذي يقع بتراضٍ من الطرفين البائع والمشتري، ولا يتم ذلك إلا بإشراف الدولة على نظام الاسعار (60).

5. تنظيم الأسرة:

أن المجتمع الاسلامي هو مجتمع الأغنياء، والفقر فيه حالة استثنائية والتي يمكن معالجتها بحل مؤقت، فضلا عن الفقر يظهر كحالة فردية وليس كحالة جماعية، لذا فان الحل هو قانون تنظيم الأسرة، قال (علیه السلام) «قلة العيال احد اليسارین»، ويعني ذلك تقدير عدد الأبناء بشكل يتناسب والدخل، فإذا زاد الدخل فالمشكلة باتت محلولة من جذورها(61)، وقد دلت الدراسات على ان الفقر والعدد الكبير من أفراد الأسرة يتناسب طرديا، لذا فان ترتيب الامر المالية للاسرة يتضمن تنظيم عدد افرادها بما يتناسب مهم دخولها السنوي او الشهري.

6. الفساد والاستئثار بالامتيازات:

وعلى هذا الصعيد ينبه الامام علي (علیه السلام) مالك الأشتر في عهده اليه «ثم ان للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة انصاف في معاملة، فاحسم مادة اولئك بقطع اسباب تلك الأحوال» (62)، ولقد لامست السياسة الأمور عند الامام (علیه السلام) بشفافية ونقاء متناهيين، فالمال الذي يستوفي من الرعية مال الله، وشدد على من يخون من فيء المسلمين ولو كان شيئاً صغيراً، ودعا إلى التعامل مع المكلفين بمنتهى النزاهة والحرص على الحق، فكان يطلب ممن يستعمله على

ص: 198

الصدقات أن يقول: «عباد الله، ارسلني اليكم ولي الله وخلیفته لاخذ منكم حق الله في اموالكم، فهل لله في اموالكم حق فتؤدوه الى وليه، فان قال قائل: لا، فلا تراجعه» (63)، ونجد في قوله (علیه السلام) «بلغني انك جردت الارض، فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت قدميك، فارفع الي حسابك، واعلم أن حساب الله اعظم من حساب الناس» حرصه على اخلاقیات جباية الضرائب وظروفها ومتطلباتها الومانية والمكانية، واخلاقية القائمين على جبايتها وامانتهم ونزاهتهم لانهم الامناء على المصلحة العامة، وفي المقابل نجده (علیه السلام) يؤنب عامله على خيانته الأمانة، الذي يعكس الفساد المالي والاداري والمالي ووجوب الرقابة والمحاسبة، ولهذا تحرص الدول على أن تتضمن التشريعات الاقتصادية الكثير من الضمانات والمزايا التي تيسر تحقيق الغايات الاقتصادية وغير الاقتصادية(64).

7. الحقوق الاجتماعية: للفقراء حق في اموال الاغنياء

تقوم فلسفة الامام علي (علیه السلام) الاجتماعية على الایمان بان الحقوق المفروضة في اموال الاغنياء لصالح الفقراء كافية لرفع الحاجة في المجتمع، اذ يقول (علیه السلام): «ان الله سبحانه وتعالى فرض في اموال الاغنياء اقوات الفقراء، فما جاع فقير الا بما منع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك»، وبذلك فانه يكفي أن يدفع الاغنياء التزاماتهم الشرعية المفروضة عليهم، حتى يكتفي الفقراء، وقد خص الاسلام فئات من الناس بموارد محددة، كالزكاة التي توزع على الفقراء والمساكين، وفي سبيل عتق الرقاب، وفك دین العاجزين عن الوفاء، وللمسافرين الذين تنقطع بهم السبل، كما ان اخماس الغنائم توزع ايضاً فيمن توزع الزكاة عليهم، وذوي القربي والمساكين وابن السبيل (65).

ص: 199

8. التوازن بين الريف و الحضر:

كان الامام علي (علیه السلام) اول داعية لايجاد التوازن بين القرى والأرياف والمدن، اذ قال (علیه السلام) في عهده لمالك الأشتر «فان للاقصى منهم مثل للادنى وكل قد استرعیت حقه»، أي أن الحقوق الاقتصادية التي للاقصى، وهم اهل الارياف والبوادي، هي تماماً مماثلة للحقوق التي للادنى، وهم الحضر، «وكل استرعیت حقه» فالحاكم مسؤول عن كلا الحقين، ولا يجوز له أن يفرط باي منهما، كما قال (علیه السلام): «وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم»، فالعناية بالريف هي سبب اساسي في الحفاض على اقتصاد سلیم ومتطور (66).

لقد ارتبط الفقر في الوقت الراهن بالريف بشكل كبير نتيجة اهتمام الدولة بالمدينة والحضر، واهمالها الريف بشكلٍ واضح، مما ادى الى ان تكون نسب الفقر في الريف اكبر بكثير عنها في المدن، وهو ما يستدعي الوقوف عند هذا الخلل ومعالجته، من خلال توفير مستلزمات نهوض الريف کالاهتمام بالصحة والتعليم ودعم القطاع الزراعي لتوفير فرص العمل لأبنائه، ليصل إلى مصاف الحضر.

9. بنك الفقراء: تجربة بنك جرامين(67)

يتخذ بنك «جرامين» منهجية معاكسة تماماً للمنهجية البنكية التقليدية، فالبنوك التقليدية مبنية على مبدأ انه كلما زاد ما تملك، ازداد ما يمكن الحصول عليه، فاذا كنت تملك القليل او لا تملك شيئاً فلن تحصل على شيء، ونتيجة لذلك فان نصف سكان المعمورة محرومون من الخدمات المالية للبنوك التقليدية، لان البنوك التقليدية تعتمد على الضمانات الإضافية، ونظام بنك جرامين خال من الضمانات الإضافية، يبدأ بنك جرامين باعتقاد أن الائتمان يجب أن يقبل كحق من

ص: 200

حقوق الانسان، ومن ثم تبني نظاما على اساس ان الشخص الذي لا يملك شيئاً له الاولوية الاولى في الحصول على قرض، فمنهجية بنك جرامين لا تتأسس على تقييم الملكية الفردية للفرد، بل انها تتأسس على الدافعية التي يمتلكها، فهذا البنك يعتقد ان كل البشر بمن فيهم الاكثر فقراً موهوبون بدافعية لا حدود لها، البنوك التقليدية يملكها الاغنياء بأغلبية الرجال، بينما جرامين تمتلكه النساء الفقيرات، ويسعى بنك جرامين الى توفير الخدمات المالية للفقراء، خاصة من النساء(68)، وبالامكان عكس هذه التجربة في العراق من خلال تخصيص مبلغ من ايرادات النفط لتمويل هكذا بنك، وسيسهم ذلك بالتخفيف من الفقر بشكل كبير بسبب توفير فرص عمل للكثير من الفراء الذين سيبدؤون مشاريعهم الصغيرة.

ان استهداف التخفيف من الفقر يجب ان يوضع وفق ستراتيجية قابلة للتطبيق، تأخذ بنظر الاعتبار الظروف التي يمر بها البلد ومنسجمة مع سياسات التنمية الاقتصادية، اذ يجب ان تبنى على وفق معطيات ومتغيرات الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الوقت الراهن، مما يتطلب وضع الاهداف والخطط الستراتيجة لمعالجة اسباب الفقر واختيار الادوات الملائمة لكلٍ منها.

ص: 201

الاستنتاجات والتوصيات

أولاً: الاستنتاجات

توصل البحث إلى جملة من الاستنتاجات لعل ابرزها:

1. کشف البحث على إن الاقتصاد الوضعي يعمل في أجواء الحرية غير المقيدة، ويتحرك في ضوء المصلح الفردية، وهدفه الأساس هو الحصول على الأرباح باي شكل من الأشكال، في حين يعمل الاقتصاد الإسلامي في ظل تعالیم القران الكريم والسنة النبوية الشريفة والتي يكون هدفها آليات بناء الإنسان وتربيته بالشكل المطلوب لكي يمارس دورهُ الاقتصادي بالشكل المطلوب

2. لم تستطع المدارس الفكرية المتنازعة على اختلاف مشاربها من معالجة أوضاع الفقر، ووضع الحلول الناجعة له، في حين استطاع الإمام علي (علیه السلام) وأثناء مدة خلافته القصيرة جداً أن يبني دولة مترامية الأطراف خالية من الفقر والفقراء.

3. إن دور الدولة في الاقتصادي الإسلامي هو دوراً إيجابياً من أجل تحقيق المصلحة العامة، وتحقيق الرفاهية والعيش بمستوى لائق، في حين هدف الدولة في الأنظمة الوضعية هو من اجل تحقيق مصالح فئة خاصة من المجتمع دون الأخذ بنظر الاعتبار باقي فئات المجتمع.

4. رغم التقدم والتطور الفكري الكبير الذي يتسم به الاقتصاد الإسلامي تجاه تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، وتجاه قضايا الفقر، إلا إن الملاحظ إن هذا النظام الإسلامي لم يجري تطبيقه في أغلب دول العالم حتى الإسلامية منها،

ص: 202

وأصبحت الدول تعتمد على الأنظمة الوضعية ونظرياتهُ في مواجهة الفقر

5. لقد تسببت الحروب المتعاقبة التي خاضها العراق بأثر سلبي على الاقتصاد بشكل عام، وأدت الى تزايد وتعميق الفقر بين فئات المجتمع العراقي، اذ ان زيادة الانفاق على الحرب العراقية - الايرانية ادت الى ارتفاع معدل التضخم الذي ادى الى تاكل الجزء الاعظم من حصة الفرد من الناتج المحلي الاجمالي، وكانت نتيجة حرب الخليج الثانية عام 1990 وما تبعها من عقوبات اقتصادية الى تعرض مستويات المعيشة لثلثي العراقيين لانتكاسة خطيرة، اذ انخفض الدخل الاسري الى ثلث ما كان عليه عام 1988، وقد القت العقوبات الاقتصادية بثقلها الاكبر على الافراد والاسر من فئات الدخل الضعيف والمتوسط.

6. هناك تباين كبير في معدل الفقر ما بين الريف والحضر، اذ تبلغ نسبة الحرمان في الريف ثلاثة امثال النسبة المقابلة في الحضر للاعوام 2004 و2007، وعموما فان تحليل البيانات الخاصة بهذه الفترة يشير الى ان الفقر اكثر انتشاراً واكثر عمقاً في الريف مما هو عليه في الحضر.

7. شهدت الفترة بين عامي 2007 و2012 تحسناً في مستويات المعيشة، اذ ارتفع الاستهلاك الخاص بنسبة 4، 9% سنوياً، وتبعاً لذلك انخفضت معدلات الفقر من 6، 23% الی 8، 19%، لم يكن التخفيف من الفقر متساوياً من حيث المناطق الجغرافية، فقد تباينت معدلات الفقر بين الريف والحضر في العامين 2007 و2012، اذ انخفضت معدلات الفقر في المناطق الريفية من نسبة مقدارها 9، 38% عام 2007 الی 6، 30% عام 2012، أي بمقدار 3، 8% مقارنة بالانخفاض في المناطق الحضرية اذ بلغت نسبة التغير 5، 2%.

8. لقد ادى فقدان الامن والنزاع (الحرب على داعش الارهابي) الذي تزامن

ص: 203

مع انخفاض اسعار النفط (المورد الرئيسي للايرادات في العراق) الى عكس المكاسب التي تحققت في السنوات السابقة، إذ يقدر معدل الفقر في عدد السكان في عام 2014 (5، 22%)، وهو ما يقارب المستوى المسجل في العام 2007، لقد تبين الأثر السلبي للازمة المزدوجة في العراق على جميع مناطق العراق، إلا إن شدتها تباينت بين منطقة وأخرى، فقد كان التأثير اشد حدة في المناطق المتضررة من إرهاب داعش وكردستان من المناطق الأخرى، إذ يقدر إن مستويات الفقر قد تضاعفت اربع مرات في تلك المناطق عما كانت عليه قبل الأزمة، كما إن فجوة الفقر قد ازدادت بعد الأزمة إلى 2، 14% عام 2014 بعد إن كانت 3، 5% عام 2012.

9. بدءاً من حزيران 2014 وبعد هجوم داعش الإرهابي على محافظات العراق الشمالية والغربية نتج عنه (354000) أسرة نزحوا داخلياً خلال ستة اشهر من العام 2014، ويمثل ذلك حوالي 1، 2 مليون شخص، وبحلول نهاية عام 2015 كان حوالي 2، 4 مليون شخص في العراق قد نزحو داخلياً، إن اثر الأزمة على «الفقراء الجدد» أصبحت اكثر عمقاً بأربعة أضعاف من بقية السكان قياساً بنصيب الفرد من الاستهلاك والدخل، ويعزى الأثر الكبير في انخفاض دخل الفرد ومستوى نصيبه من الاستهلاك إلى انخفاض دخل العمالة فقد هبط نصيب الفرد من الاستهلاك للفقراء الجدد بنسبة 44% وانخفض الدخل الفردي بنسبة 51٪ وانخفض دخل العمالة بنسبة 60% نتيجة الأزمة.

ثانيا: التوصيات

1. ضرورة العمل على تبني سياسات اقتصادية موجهة نحو شريحة الفقراء، تتماشى مع السياسات الاقتصادية التي تتبناها الدولة في اطار التنمية المستدامة،

ص: 204

ووضع رؤية شاملة تبدأ بتشخیص اسباب الفقر مروراً بوضع اهداف محددة للتخفيف من الفقر، من خلال اليات قابلة للتطبيق وتمس جميع الفئات المستهدفة.

2. العمل على بناء مؤسسات مالية تستهدف شريحة الفقراء من خلال إنشاء البنوك ومؤسسات مالية تتبع منهج الاقتصاد الإسلامي ولا تتعامل بالربا، تكون موجهة لشريحة الفقراء والشرائح الأشد فقراً وذوي الدخل المحدود.

3. ضرورة الاستفادة من منهج وفلسفة الإمام علي (علیه السلام) في مواجهة الفقر في العراق، ووضع استراتيجية ذات مدد مختلفة تستند إلى فكر ومنهج الأمام (علیه السلام) حتى يتنسی بناء مجتمع خالي من الفقر.

4. العمل على إنشاء صناديق خاصة للفقراء من موارد وإيرادات النفط. وبالإمكان عکس تجربة بنك جرامين (بنك الفقراء) في العراق.

5. العمل على بناء منظومة إحصائية متكاملة لمعرفة أعداد الفقراء وتوزيعهم الجغرافي ليتسنى اتخاذ الإجراءات اللازمة، ووضع الخطط المناسبة للتخفيف منه والقضاء عليه.

6. العمل على محاربة ومواجهة الفساد المالي والإداري، بوصفهما عناصر تزيد من مشاكل الفقراء، وضرورة تكريس وترسيخ مبدأ المساءلة والمحاسبة، ليتنسی بناء مجتمع خالي من الطبقية.

7. إعادة النظر في النظام الضريبي في العراق وإعادة هيكلتهُ بالشكل الذي يتلاءم مع أوضاع الطبقة الفقيرة في المجتمع، بوصفها من اهم أدوات إعادة توزيع الدخل.

ضرورة العمل على توفير الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي للفقراء وذوي

ص: 205

الدخ-ول المحدودة، وتوفير المستوى المعاشي اللائق بهم، وذلك من خلال سن القوانين والتشريعات اللازمة.

هوامش البحث:

(1) إبراهيم كبة، دراسات في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي، ج 1، ط 2، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2005، ص 212.

(2) حازم الببلاوي، دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي، دار الشروق، القاهرة، 1995، ص 35 - 36.

(3) جون كينيث جالبريث، تاريخ الفكر الاقتصادي: الماضي صورة الحاضر، ترجمة: احمد فؤاد بلبع، سلسلة عالم المعرفة 261، الكويت، 2000، ص 64.

(4) المصدر السابق نفسه، ص 98 - 99.

(5) روبرت هيلبرونر، قادة الفكر الاقتصادي، ترجمة: راشد البراوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، بدون تاریخ، ص 93.

(6) احمد ابراهيم منصور، عدالة التوزيع والتنمية الاقتصادية: رؤية إسلامية مقارنة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، ص 213 - 214.

(7) ميلتون فريدمان، الرأسمالية والحرية، ترجمة: مروة عبد الفتاح شحاتة، ط 2، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014، ص 237.

(8) للمزيد يُنظر في ذلك: المصدر السابق نفسه، ص 242 - 247.

(9) سمير أمين، الاقتصاد السياسي للتنمية في القرنين العشرين والواحد والعشرون، دار الفارابي، بیروت، 2002، ص 9.

(10) عبد الرزاق الفارس، الحكومة والفقراء والإنفاق العام: دراسة لظاهرة عجز الموازنة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية، ط 2، بیروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص 21.

(11) کارل غيورك تسين، الرخاء المفقر: التبذير والبطالة والعوز، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 2006، ص 151 - 152

(12) حازم الببلاوي، المصدر السابق، ص 77.

(13) محمد عمر شبرا، الإسلام والتحدي الاقتصادي، ترجمة: محمد زهير السمهوري، المعهد العالي

ص: 206

للفكر الإسلامي والمعهد العربي للدراسات المالية والمصرفية، عمان، 1996، ص 145.

(14) حسن لطيف الزبيدي، النظم الاقتصادية المقارنة، النجف الأشرف، 2013، ص 168.

(15) محمد عمر شبرا، المصدر السابق، ص 139 - 140.

(16) حازم الببلاوي، المصدر السابق، ص 101.

(17) محمد باقر الصدر، اقتصادنا: دراسة موضوعية تتناول بالنقد والبحث المذاهب الاقتصادية للماركسية والرأسمالية والإسلام في أسسها الفكرية وتفاصيلها، ط 2، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، بدون تاریخ، ص 47 - 48.

(18) المصدر السابق نفسه، ص 306 - 3014.

(19) سورة النساء، الآية 59.

(20) سورة إبراهيم، الآية 23 - 34.

(21) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، ط 2، وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، ص 51 - 52.

(22) عبد الهادي عبد النجار، الإسلام والاقتصاد: دراسة من المنظور الإسلامي لأبرز القضايا الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، سلسلة عالم المعرفة (63)، الكويت، 1983، ص 25 - 26

(23) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، المصدر السابق، ص 52 - 53.

(24) سورة الحشر، الآية 7.

(25) سورة البقرة، الآية 177

(26) محمد عمر شبرا، المصدر السابق، ص 286.

(27) حسن لطيف الزبيدي، الفقر في العراق مقاربة من منظور التنمية البشرية، مجلة بحوث اقتصادية، العدد (38) العراق، 2007، ص 101.

(28) عباس النصراوي، الاقتصاد العراقي بين دمار التنمية وتوقعات المستقبل 1950 - 2010، ترجمة:

محمد سعيد عبد العزيز، دار الكنوز الادبية، ط 1، 1995، ص 126 - 127.

(29) سالم توفيق النجفي، التنمية الاقتصادية في العراق: الحاضر والمستقبل، في ندوة احتلال العراق وتداعياتها عربيا واقليميا ودوليا، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، بیروت، ص 864.

(30) التقرير الوطني لحال التنمية البشرية 2008، وزارة التخطيط والتعاون الانمائي وبيت الحكمة، العراق، 2009، ص 41 - 42.

(31) حسن لطيف الزبيدي، مصدر سابق، ص 103.

(32) الاستراتيجية الوطنية للتخفيف من الفقر 2009، جمهورية العراق، وزارة التخطيط والتعاون

ص: 207

الانمائي، وزارة التخطيط / اقلیم کردستان العراق، ص 7.

(33) خارطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق 2011، وزارة التخطيط والتعاون الانمائي، الجهاز المركزي للاحصاء وتكنلوجيا المعلومات، برنامج الامم المتحدة الإنمائي، 2011، ص 6.

(34) Iraq the Unfulfilled Promise of Oil and Growth Poverty Inclusion and Welfare in Iraq 2012-2007 ،World Bank Group November 2016 ،7 ،19

(35) خارطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق 2011، جمهورية العراق، وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للاحصاء، برنامج الامم المتحدة الانمائي، العراق، ص 74.

(36) انظر في: - خارطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق 2006، جمهورية العراق، وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للاحصاء، برنامج الأمم المتحدة، العراق، ص 22.

خارطة الحرمان ومستويات المعيشة في العراق 2011، جمهورية العراق، وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للاحصاء، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، العراق، ص 74.

LVIIIII (37) Child Poverty in Iraq An Analysis of the Child Poverty Trends and Policy Recommendations for the National Poverty Reduction Strategy -Y. IV 20210 United Nations Children's Fund (UNICEF)، Ministry of Planning (MoP) Baghdad, Iraq، 2017،p16. (TA)Iraq the Unfulfilled Promise of Oil and Growth Poverty Inclusion and Welfare in Iraq 2012-2007، World Bank Group November 2019 ،7،p.19 3، Report No. Systematic Country Diagnostic February (39)Iraq 36. p 2017، Group، Bank 112333Iq، World ۔ (40) حدث الجزء الأكبر من النزوح القسري للاشخاص في المحافظات الخمس المتضررة من داعش (الأنبار، صلاح الدين، نینوی، کرکوك، ديالى) وهو ما يمثل وحده 90٪ من الأسر النازحة.

(41) IRAQ SYSTEMATIC COUNTRY DIAGNOSTIC February 3، Report No.

112333IQ،World Bank Group، 2017، p39 ۔

(42) تعود قصة اتفاق واشنطن إلى اتخاذ معهد الاقتصاد الدولي في واشنطن في عام 1989 قرارً بعقد ندوة يقدم فيها مؤلفون من عشر دول من أمريكا اللاتينية بحوثاً تشرح بالتفصيل التطورات الاقتصادية التي قادت إلى أزمة الديون في دول أمريكا اللاتينية، وكان جون ویلیامسون الزميل الرئيس في معهد الاقتصاد قد شارك في بحث أورد فيه عشرة نقاط تتمثل في (الانضباط المالي، إعادة

ص: 208

توجيه الأنفاق العام، الإصلاح الضريبي، حرية الأسواق، وتحرير قطاع التجارة مع التركيز على مبدأ القضاء على القيود الكمية كمنح التراخيص والامتيازات، تحرير تدفق الاستثمارات الأجنبية، خصخصة مؤسسات الدولة، تحرير وإلغاء اللوائح والقوانين التي تعوق دخول الأسواق أو تقيد المنافسة، سعر صرف العملة يكون مناسباً ويعكس القوة الاقتصادية)، اطلقت عليها فيما بعد «اتفاق واشنطن»، ولم يعتقد ويليامسون في يوم من الأيام إن هذه النقاط العشرة ستكون مثار نقاش بين مؤيد ومعارض لها، يُنظر في ذلك:

- أرنست فولف، صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية، ترجمة: عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة (435)، 2016، ص 64

(43) ميشيل تشوسودوفيسكي، عولمة الفقر، ترجمة: محمد مستجير مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 18.

(44) سورة المدثر، الآية 38.

(45) سورة الحجر، الآية 91 - 92

(46) عهد الخليفة الأمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، العتبة العلوية المقدسة - قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 2010،

(47) سورة البقرة الآية 30

(48) عهد الخليفة الأمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، المصدر السابق.

(49) المصدر السابق نفسه.

(50) عهد الخليفة الأمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، المصدر السابق.

(51) المصدر السابق نفسه.

(52) المصدر السابق نفسه.

(53) سورة البقرة، الآية 220

(54) محسن باقر الموسوي، الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 2002، ص 148 - 149.

(55) محسن باقر الموسوي، المصدر نفسه، ص 171.

(56) احمد فتحي عبد المجيد، اثر سياسات الاقتصاد الكلي على الفقر في دول نامية مختارة، اطروحة

ص: 209

دكتوراه، كلية الادارة والاقتصاد، جامعة الموصل، 2004، ص 38

(57) حسن لطيف كاظم الزبيدي، نظام الحاية الاجتماعية في العراق: تحليل اصحاب المصلحة، مؤسسة فريدريش ايبرت مكتب الاردن والعراق، 2017، ص 28

(58) شاكر مجيد كاظم، الرؤية السياسية عند الامام علي (عليه السلام) قرأءة في عهده الى مالك الاشتر، العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط 1، 2017، ص 98 - 99

(59) المصدر نفسه، ص 95

(60) محسن باقر الموسوي، الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 2002، ص 173 - 174.

(61) محسن باقر الموسوي، الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 2002، ص 162.

(62) اية الله نوري همداني، في المؤتمر الدولي للامام علي (عليه السلام) والعدالة والوحدة والامن «مجموعة مقالات» المجلد الاول، معهد العلوم الانسانية والدراسات الثقافية، 2001، ص 15

(63) علي مهدي زيتون، في المؤتمر الدولي للامام علي (عليه السلام) والعدالة والوحدة والامن «مجموعة مقالات» المجلد الاول، معهد العلوم الانسانية والدراسات الثقافية، 2001، ص 48.

(64) حيدر عبد المطلب البكاء، المنهج الاقتصادي في نهج البلاغة ((قراءة معاصرة))، مجلة اداب الكوفة، العدد 17، المجلد 1، 2013، ص 214

(65) ضرغام خالد عبد الوهاب، العدالة الاجتماعية والسياسية في عهد الامام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر، ص 21 - 23 على الموقع الالكتروني Arabic.balaghah.net

(66) مرتضى الحسيني الشيرازي، استراتيجيات مكافحة الفقر في منهج وتعاليم الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، هيئة محمد الامين (صلى الله عليه وآله)، العراق، 2012، ص 50

(67) ولد بنك جرامين في قرية جوبرا عام 1976 في بنغلادش، وتحول الى بنك رسمي عام 1983 في ظل قانون خاص، هذا البنك يمتلكه الفقراء المقترضون، ويعمل حصرياً من اجلهم، هذا البنك يمتلك المقترضون 94٪ من اسهمه، وتمتلك الحكومة ال 6% الباقية، يبلغ مجموع المقترضين من البنك 61، 6 مليون مقترض، 97٪ منهم من النساء.

(68) مجدي سعيد، تجربة بنك الفقراء، الدار العربية للعلوم - ناشرون، مركز يافا للدراسات والابحاث، ط 2، بيروت، لبنان، 2007، ص 27 - 28.

ص: 210

الإمام علي (عليه السلام) بيان الدولة الإنسان وإنسانية الدولة

الباحث محسن وهيب عبد

ص: 211

ص: 212

مقدمة:

بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على خير خلق الله محمد واله ومن ولاه لاسيما بقية الله واللعن الدائم على الظالمين اعداء الله.

السياسة كما ألفها البشر هي ممارسة سلطة الدولة على الناس بزعم تحقيق العدل والامن والمساواة كغایات سامية للحاکم، ولكنها تخفي وراءها كل الشر الذي عانت منه البشرية في تاريخها الطويل، ولا زالت تعاني منه، وذلك لان البشرية خالفت الله تعالى في اختياره لها اشخاصا معصومين لا مامتها وسیاستها لكن البشرية رفضت ذلك الاختيار الى ارذل البشر ليحكموها فحق قول الله تعالى على الناس: قَالَ «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ٭ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ٭ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا»(1).

فبعد فشل خیار الله لآدم في الجنة، جاء خيار النبوة (الهدى) فمن يتبعه فلا يضل ولا يشقى، وحتى هذا الخيار فشل ایضا، فبعد الهدى اتبع الناس اخس وارذل الناس ليسوسوهم، فما كانت الا معيشة الضنك والوبال والحروب وفقدان الامان.

وهذا تاريخ البشرية كله عبارة عن حكاية لمآسي السياسة والسياسيين، وان رأي بعض المصابين بالدونية لأوربا والغرب بعض البحبوحة في العيش هناك؛ فانها بحبوحة مبنية على الجماجم والدماء البشرية بما يقرف ويؤسف، وحتی الان وان الحرية بكل اشكالها في الغرب لها اتجاه واحد لاغير هو خدمة الظلم والظالمين.، فالمراة لها حرية أن تمشي عارية وتمارس الرذيلة حيث تشاء ولكنها تمنع من الدخول الى الجامعة اذا اختارت العفاف او ان تتحجب، والكاتب يستطيع أن یکتب بما يرغب ويسب الرسول صلى الله عليه واله ويتعدى على المقدسات

ص: 213

لكنه عندما كتب روجيه غارودي عن الاساطير الصهيونية صودر الكتاب وغرم الناشر وتعرض غارودي للمحاكمة، في حين نشر کتاب سلیمان رشدي بثلاثمائة لغة وقلد ارفع وسام في بريطانيا من قبل الملكة اليزابث لانه کتاب ينال من قدسية الرسول الاعظم، وعندما تصدر منظمة الأمم المتحدة قرارا ضد بلد يطبق راسا ولكن عشرات القرارات الدولة لا قيمة لها عندما تصدر ضد اسرائيل!!!!

ولازال الارهاب الذي يضرب العالم ليس له تعریف بسبب الولايات المتجدة ليبقى عائما ولتوجهه حيث تشاء فتوصم خصومها بالارهاب ولازال العالم يحكم يمعايير مزدوجة! ... الخ

واذن؛ ففي العالم لا وجود لدولة العدل ولا وجود لدولة الانسان ولا معنی لانسانية الدولة الا مع المعصوم وبالمعصوم ذلك ما نكتب عنه وكتبنا عنه الان في هذا البحث ومن الله التوفيق فهو ولي السداد وهو الغاية.

محسن وهيب عبد

كربلاء المقدسة

ص: 214

الفصل الاول: تمهيد

هناك حقائق عن معاني السياسة وادرات الدول في تاريخ البشر لابد من الاحاطة بها قبل البدء بالبحث في معاني دولة الانسان عند الامام عليه السلام باعتباره القران الناطق وتاسيسه للدولة انما هو تاسیس القران (2) لتلك الدولة کما سنرى.

اذن فدولة المعصوم هي دولة القران ولذا فان كل السياسات في التاريخ البشري وعلى الاطلاق انما تحكي سيرة الحكام والملوك والامراء وحسب نزواتهم وعقدهم واخلاقهم ولاشيء من هموم الشعوب بل ربما تحكي القسوة في قتل شعوب بكاملها كما ابيد الهنود الحمر السكان الأصليين والآزوتيك، وكما يباد كثير من الشعوب من قبل الحكام المستبدون والعملاء وكما تباد الناس بالحروب لمجرد قرارات سياسية بشن الحرب. ولنرى:

1. طبيعة السياسة في التاريخ البشري ك (شر لابد منه):

منذ أن عرف الانسان المجتمعات لم تكن السياسة يوما إلا الشر الذي لابد منه، فقد قال الامام علي عليه السلام في معاني ذلك الشر الذي لابد منه:

(أمير عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم)(3).

بمعنى أن لابد من حاكم على اي حال لدرء الفتن فمجتمع بلا حاکم يغدو فريسة لمحن الفتن؛ فيغدو البلد لا امن ولا امان فيه ولا كرامة ولا طعم لحياة ولا امل بالخلاص.

ص: 215

والدليل على شر الساسة هو اشعار الناس بأنهم متفضلون، وان راى الناس ان احدهم في حال من التواضع کما یفترض کما باقي الناس الخلوقين يكون موضع عجب وترحاب والناس على كل حال في حال قبول شاءوا ام ابوا.

والواقع هو أن المندوب لسياسة المجتمع بما يسمونه؛ (إدارة الدول)؛ انما هو مکلف لا شرف له من خلال ذلك المنصب الا ليقيم حقا او يدحض باطلا(4) - کما يقول الامام علي عليه السلام - فالمناصب الحكومية كلها تكليف وليس تشریف والذي يشرفه المنصب وحسب هو مما لا شرف له، فيجد في المنصب شرفا وعزة.

وقد اثبت التاريخ بطوله وعرضه انه عبارة عن حكاية تتكرر لمعنى؛ ان السياسة شر لابد منه، وقد عانت البشرية من الحكام والسياسيين ما عانت من ويلات وحروب واستغلال واستعمار، بل التاريخ كله يحكي معاناة البشرية من الساسة والحاکمین، وقيل أن التاريخ هو حكاية لسيرة الملوك والحكام.

فعن ابی عبد الله عليه السلام يقول: (شرار الخلق الملوك)(5).

وعن جعفر الصادق، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السّلام)، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (ألا إن شرار أُمَّتي الذين يُكرمون مخافة شرهم، ألا ومن أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني)(6).

وعن الامام علي عليه السلام: (ولاة الجور شرار الأمة وأضداد الأئمة)(7).

وللذين يشعرون بالدونية ازاء الغرب ويرون في سياستهم افضلية؛ افردنا بحثا خاصا بالوقائع لرفع الغشاوة التي تسسببا بها دونيتهم.

ص: 216

2. اطروحة تطابق العدل مع السياسة:

على طول تاريخ العالم، وعلى امتداد المعارف الاكاديمية وفي مساحة كل جامعات العالم، ومع وجود المفكرين المبدعين والعباقرة، لم يطرح موضوع للبحث عن الحال يصير فيه العدل ملاكا للسياسة: متى؟ وكيف؟ واین؟ وانی يمكن أن نجد تطابقا للسياسة مع العدل؟

هذه الأطروحة المهملة في التاريخ البشري، هي التي التي يجب ان تنال اهتمام كل الاكاديميات في العالم، لاندري لماذا اهملت بالرغم من هذا العنت الذي تعانيه البشرية من السياسة والسياسيين في كل التاريخ؟

فالدين الذي - كما هو مفترض - اصل العدل والاخلاق تم عزله مبكرا من ان يكون ساحة لأطروحة البحث عن العدل في السياسة.. لماذ؟

لان الاسلام انحرف وأُطر في أول يوم لوفاة النبي الاكرم صلى الله عليه واله وسلم، لما جرى في السقيفة وتحول فيه السياسي من اصطفاء واختيار رباني إلى فلتة عبثية(8)، بعدها صار يستطيع اي احد ان يكون الحاكم والامام بدل المصطفى المختار من قبل الله تعالى. فالاصطفاء والاهتيار الذي ابتني به الدين انتهى في السقيفة، ولينتهي دور الدين السياسي العادل ليؤطر في مجموعة احادیث موضوعة تتعارض بشكل صارخ مع كتاب الله منه على سبيل المثال: الحديث الموضوع: (تسمع وتطيع للامير وان ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)(9). والله تعالى يقول: («وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ» (10)

واما المسيحية فقبل عزلها؛ صارت العوبة بيد الكنيسة لتبيع صكوك الغفران

ص: 217

ولينتهي دورها بالضربة القاضية.

اما اليهودية فقد كان ينظر اليها بريبة بسبب عنصرية نظرة اليهود للناس وتعاليهم.

وبقي في الميدان المعرفي لبلوغ العدل في السياسة فقط النظريات العلمانية الوضعية التي لا تغني ولا تسمن من جوع في ردع الحاكم او السياسي من حيازة موفورات الترف او في منع الاستلاب الذي تعاني منه الناس.

لذا برزت وبدون منازع الميكافيللية ملكة على كل السياسات الوضعية بدون منازع، لانها ذرائعية نهلت من الليبرالية والنظريات الغربية منذ أبيقور الى نيتشة الى هيجل في تفوق الرس الابيض ودهمتها اليوم نظريات فرنسیس فوکویاما في نهاية التريخ والانسان الأخير، ونظريات صوئيل هنتنغتون في صدام الحصارات.

3. متى يتطابق العدل مع السياسة؟

ان الحال الوحيدة التي يتم بها تطابق العدل مع السياسة، بل ويكون ملاك السياسة العدل فيها؛ هي حال تولي المعصوم امور ادارة الدولة، او يكون المتولي لنظام الملة في حال غياب المعصوم بشرط ضمان طاعة المعصوم.

تلك هي الحال الوحيد التي تتطابق فيها السياسة مع العدل وتكون فيها الدولة هي دولة الانسان وتتحقق فيها انسانية الدولة.

فان لم يكن هناك معصوما او لمن لا يؤمن بالعصمة كنمط كوني حتمي، فليس عليه ان يجد حلا على الاطلاق لتطابق العدل مع السياسة، وعليه أن يفكر بضرورة المعصوم على راس الدول لضمان العدل في السياسة.

فالعصمة ليست ترفا عقائديا او مسلمة اعتقادية طرحها الأمامية مغالين

ص: 218

بائمتهم، بالعصمة حقيقة كونية وحتم لبلوغ الخلق مرحلة الكمال. فاذا كان الانسان مرحلة كمال واضحة يتميز به الكائن العاقل عن الحيوانت بارتفاع القصور الذاتي والحيوي، فان في النبوة ارتفاع كل القصورات الذاتية والحيوية والعقلية، فالواقع أن كل ماعند الانسانية من مضامين للكمال والجمال اصلها من الانبياء ولا احد يستطيع أن ينكر هذا، فقد كان الانبياء يستطيعن أن يصيبوا الحسن والكمال والحق دون محاولة او تجریب کما عند البشر.

ومن هذا المنطلق ولمن يريد ان يتأكد من هذا الطرح جاء بحثنا هذا لنعرض انموذجا تاريخيا لسياسة رجل معصوم مطهر من الرجس بارادة الله تعالى: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (11)، هو الامام علي عليه السلام، فقد ارتضاه الله وصيا لخاتم رسله معصوما يمنح ثقافة انسانية للدولة التي يقودها، فهو مصداق دولة الانسان وهو يواجه الفتن والبلاء في ممارسته لبناء تلك الدولة.

4. خصائص دولة الانسان وميزات انسانية الدولة:

دولة الانسان؛ هي التي توفر العدل لكل البشر بلا استثناء على اختلافهم، وتعتبر الدولة بميزات انسانية اذا وفرت للراعي والرعية المنهج والوسائل لمحاربة الظلم من كل مصادره ومنع استغلال الانسان لاخيه الانسان. بمعنى أن دولة الانسان والانسانية هي دولة تحارب الظلم والاستلاب ببغض الترف والمترفين من خلال طاعة المعصوم المختار من قبل الله تعالى لاقامة العدل والتمسك بمنهجه طبقا لقوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»(12).

ص: 219

5. ماهية العدل وكيفية قيام الناس به:

العدل؛ هو بديهة قيمومة وقيام الكون والتكوين للكائنات، فنحن وكل الكائنات انما قائمون بالعدل، فالعدل؛ النظام الفاعل في كوننا وكينونتنا؛ نعيشه ونتنفسه فلا نستشعره لبداهته، مثلما لا نستشعر وجود الضغط الجوي على اجسامنا بالأطنان، وكما لا نستشعر وجود الجاذبية الكونية على اجسامنا وتكلفنا مئات النيوتنات في كل لحظة، وما دام لا يخترق نظام الكون البديهي هذا فان العدل سار، فإذا اخترق وحيثما يتم الاختراق يحصل الظلم ويجأر المظلوم، وهكذا يجأر حتی الظالم اذا اخترق امانه البديهي بالعدل.

ويأت التعريف العلمي المعجز للعدل من القران الكريم من لدن العليم الخبير الحكيم الصانع؛ فان تعريف العدل في القران اعتمد الضد البديهي للتعريف به؛ وهكذا يعرف القران بالضد جميع البديهيات الكونية ( أي السنن الكونية التي تحكم الوجود وتنفذ فيه وتهيمن عليه)، فالسنن الكونية لا تعرّف الا بضدها حيث يتم الاختراق.

فالعدل هو عدم الظلم (أي عدم اختراق بدهية الكون القائم بها والساري بموجبها. وقد عرف العدل بقوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (13).

وعليه فان الظلم؛ معنی جامع لكل القبائح ولكل الخروقات للبديهيات الكونية، لان تلك الخروقات تتجسد في الفعاليات المعاكسة للنسق الكوني القائم بالحق والساري بالعدل.

وقد بيّن الله تعالى في محكم التنزيل؛ أن الحق؛ علم ومعرفة لثوابت الصدق في

ص: 220

واقع الكون والتكوين، وان العدل هو الفعل القائم وفقا لمعرفة الحق، او اعادة الحق الى نصابه اذا زل عنه.

فقال تعالى: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» (14)، وقال تعالى: «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» (15)

فالحق - کما يقرر القران - معرفة وعلم لثوابت الصدق في واقع الكائنات، واما العدل فهو العمل بتلك المعرفة أي اعادة الحق الى نصابه في الوجود،، عليه يتحقق: أن من لا يعرف الحق لا يمكن ان يكون عادلا. وقد اشار الى ذلك الامام علي عليه السلام فقال: (اعرف الحق تعرف اهله) (16).

وهنا ومرة اخرى يتقرر ایضا؛ أن دولة العدل هي الدولة التي يقوم على راسها المعصوم العارف بالحق العامل به، وهذا ما قرره القران من قبل «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (17).

ان قراءة فسزيائية لكتاب الكون المفتوح مترافقة مع فهم لآيات القران الكريم يتقرر ايضا: أن الكون كله قائم بالحق «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ» (18).

وقال تعالى ايضا: «خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» (19).

وبسسب عدم توفر تفاصيل معرفة نواميس الكون وعدم استشعار سننه لبداهتها للجميع لانها معرفة ضرورية ليقيموا العدل على اساسها، لذا یکون الانسان کامل الخلق (المعصومون) هم من اختارهم الله تعالى لمهة العدل، فالمعصوم ضرورة كونية لبناء دولة العدل الذي تحفظ للإنسان كرامته.

ص: 221

وهذه الحقيقة الكونية والتاريخية المتمثلة في (124000) نبي ورسول ارسلوا تترا لبني البشر، كانت ترفض من قبل المترفين على مر التاريخ، لأن وجودهم مبني على دولة الظلم واستغلال الانسان لانسياب مصالح المستغلين المستکبرین المترفين،. فمن هم المترفون؟

6. المترفون في تاريخ السياسة البشرية رأس حربة ضد العدل ودولة الانسان:

كما في القصص القراني الحق؛ نجد النبوة بمهامها الرئيسية تجابه بالترف والمترفين. فقد كان الترف والاستكبار سبب لغضب الله ولنزول عذابه على المجتمعات البشرية التي تجابه الرسل عليهم السلام قال الله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا» (20).

واذا كان هناك سبب لنجاة القليل فلانهم نابذوا الظالمين، والا فان تبعية المترفين كان اجراما لايغتفر.

«فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ» (21).

وهكذا يتكرر قول الله تعالى في المترفين الظلمة لوقوفهم ضد دعوة الأنبياء: «وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ٭ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ٭ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ»(22)

فالمترفون راس الحربة في صد الناس عن الهدى والافتراء على الانبياء، والاعجب ان الناس يتبعونهم على استلاب وجهل واستغلال:

«وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ

ص: 222

الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ٭ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ٭ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ٭ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ٭ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٭ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ٭ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ٭ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ٭ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(23).

وهكذ يتكرر قول الله تعالى في تصدي المترفين للرسل عليهم السلام: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ» (24).

7. السياسة هي جدل الظواهر الثلاث في التاريخ البشري:

فمقابل ظاهرة رسل الله تعالى تترى الى الناس هدى ورحمة، هناك ظاهرة الترف، واذا كان المترفون تسوغ لهم موفرات الترف من انفسهم التصدي للهدی مدفوعين بالمنفعة، فما الذي يسوغ لسائر الناس أن يسيروا ضد مصالحهم ويصطفوا مع المترفين المستكبرين المستغلين الظالمين؟

الجواب: هو لتفشي ظاهرة الاستلاب في المجتمعات، بسبب الشعور بالفوقية او الشعور بالدونية او للالتصاق النفعية من ظواهر معقولات الباطن او کما يسمونه اللاوعي، وهناك نوع رابع للاستلاب هو لاستلاب بالنفاق لابقاء المصالح الشخصية والانانية.

8. المستلبون مساعدو المترفين على انفسهم في التصدي للمعصوم:

ماهو الاستلاب؟

الاستلاب شعور مرضي نفسي سائد في المجتمعات البشرية عموما يساعد

ص: 223

بمنع قيام دولة العدل دولة الانسان التي تكرمه وتحترمه.

فالاستلاب هو التأثير النفسي من جانب اللاوعي الماحي او المعطل لعقيدة الانسان الفرد المعلنة والمفترض انها المؤثرة في خيارات فعله، فيكون بذلك المستلب، ينتمي الى عقيدة ويختار افعاله بموجب تأثيرات نفسية داخلية. فان الاستلاب هو شعور باطن في اللاوعي.

ان الاستلاب امر ممكن جدا مع وجود العقيدة عند البشر، بل وموجود وشائع جدا بيننا وفي كل المجتمعات الإنسانية. أما في حال غياب العقيدة فهو امر واقع فعلا وهو النافذ في خيارات فعل الانسان. ولظاهرة لاستلاب اهمية كبرى في الصراعات السياسية التاريخية الكبرى لبني البشر، اشار الله تعالى لها في قصص الأنبياء:

الاستلاب بالفوقية في قصص الانبياء:

الفوقية شعور يظن صاحبه انه افضل من الاخرين، ولايرى حقا لغيره في المواقع القيادية. وقد تصدى الفوقيون لولاية الأمر في الأمة بعد وفاة الرسول دون اهلية خلافا لوصايا الرسول (ص) فكانت الفتن. والان وفي كل العالم يريد الجميع يكون الرجل المناسب في المكان المناسب دون جدوى فقد تقدم الفوقيون للمناصب دون اهلية ليزيجوا الاكفاء لتصبح السياسة وبالا على الناس.

«فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ»(25). فالفوقيون يترفعون حتى على انبيائهم لانهم مجرد بشر وان اتباعهم من الفقراء. ويقولون ان النبي بشر مثلهم يريد أن يتفضل عليهم:

ص: 224

«مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» (26).

وهناك نوع آخر من الفوقية يستشعرها الفوقيون، ويدعون انهم حصلوا على التفوق بما يمتلكون من مهارات وعلم ومال، وان العلم هو ذاتهم وليس فضلا من الله تعالى.. «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي» (27).

وكل مصائب الاسلام والبشرية جاءت من الفوقيين الذي تصدوا لمناصب ليسوا أهلا لها حتى وصل الأمر أن تكون خلافة رسول الله ملك وراثي وان يصبح الفاسق والمجرم واللوطي في مقام خلافة الرسول الأعظم صلى الله عليه واله، كما هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك (28).

وللشعور بالدونية ايضا اشکال: ابسطها؛ ان تری عقیدتك دون عقيدة غيرك، او ان عقيدة غيرك هي افضل من عقیدتك فالدوني يضن على سبيل المثال أن قوما يعبدون الاصنام افضل منهم:

«قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ» (29)

ويرى الدوني أن الغلبة دوما سمة علوية يجب أن تتبع:

«لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ» (30).

وان الابهة والزينة الدنيوية من مسوغات الدونية ومنهج للدونين:

«قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»(31)

النفعیة:

النفعي؛ يظن ان كل نعمة يحوزها انما حازها لعظم خطره عند الله، ويظن انه

ص: 225

في حبوة، ولذا فاذا تغيرت الامور انقلب على عقبيه قال تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ» (32)

وقال تعالى ايضا: «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى» (33).

واشار القران الكرين بصور كثيرة الى ظاهرة الاستلاب بالنفاق:

فقال تعالى: «مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ» (34).

ويتجني المنافقون على اصحاب الدين:

«إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ» (35).

ومع الاسف فان المنافقين يصطفون على باطلهم علنا ضد الرساليون:

«الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (36)

النتيجة: ان السياسة في التاريخ البشري هي حكاية الجدل بين الظواهر الثلاث ( الرسل والترف والاستلاب). وفي الغالب ينتهي الجدل الى تعطيل دولة الانسان الخليفة المجعول من قبلاللله في الأرض، کما ان قيام الدول بلا ايديولوجية سياسية مضمنونة بالعصمة والمعصوم او حتى معها لا ينفع مع الاستنلاب الذي تعاني منه الشعوب. ولذا فالسياسي مهما كان الذي لامشروع سياسي له والذي يحاول ادارة الحكم يجد نفسه مباشرة ازاء المترف بجميع ما اوتي من مال وقوة ووقت في حلبة الصراع فلابد ان يخضع لمنظومة الجدل وقواعد اللعبة فيه والتي يسيطر عليها ويديرها العدو العتيد ابلیس! عندها لاخيار له من اصل عقيدته، بل كل

ص: 226

شيء ياتي وكانه مفروض عليه، واذا به مجرد جندي في تنظيم دنيوي والسياسي الداخل فيه مستلب يتحرك وفق قواعد تلك اللعبة شاء ام ابی، وهذا هو واقع حال سیاسيينا ومرار سياستنا!!

على هذا الأساس فان غياب ايدولوجية سياسية اسلامية معصومة للحكم (أي وفق نظام الملة)، وهذا في الغالب يحصل في غياب المعصوم، يجعل كل التنظيمات السياسية الموجودة ومهما ادعت الاسلام والتبعية لاهل البيت عليهم السلام انما هي عبئا على الاسلام ومسربا للطعن فيه، واذا دخلت حلبة السياسة كانت اداو بید ابليس وحزبه.

تستلب العقيدة من صاحبها بثلاث علل هي من اللاشعور في العقل الباطن ورابعة هي من اختيار الإنسان لها، فيصبح حجمها زائغا معوجا مقرفا، وهذه العلل هي؛ الدونية، والفوقية، والنفعية، والنفاق.

الاستلاب ابقى معنی واحدا للسياسة لا علاقة لها بملاكها العدل:

بعد ان تعرفنا على معاني الاستلاب، وانه ظاهرة مستشرية ومتاصلة في المجتمعات اصلها من اللاوعي تعتري الشخص فيتصرف بمقتضى دوافعه الخفية؛ فهو لايدرك ما يجري والاخرون يدركون دوافعه، فصار علينا من اجل ان نفهم دولة الانسان وانسانية الدولة ومتی وتقوم وعلى يد من؟ أن نراقب مايجري في السياسة، وان تكون لنا معايير ضابطة في السلوك السياسي العدل للتصحيح والتقويم والمراقبة لمنهاجنا السياسي وخياراتنا السياسية.

من اصل الدين وحتميات الكون كان (نظام الملة) الذي يعتمد على طاعة المعصوم في قيام النظم الاجتماعية في الإسلام هو نظام علمي عملي؟ ذلك لانه يحتاج لعقول راجحة تستوعبه.. عقول تصدر أحكامها معيرة بالأنماط والسنن

ص: 227

الكونية فقط لتحرز من الظلم للنفس والغير والتعامل مع الواقع دون زيغ بموفورات الترف (المال والقوة والوقت) او هوی بالاستلاب، مميزة فيما ان كانت على النسق الكوني وفيه او خارجه بسبب من اللاوعي الذي يكون دافعا في الكثير منا بل وكلنا وخصوصا لكثير من الخيارت السياسية مقحمة على الاسلام فهي عبيء عليه، او مخترقة له بقصد الطعن فيه فهي نفاق.

ان دراسة سريعة للتاريخ السياسي الاسلامي منذ وفاة باني الاسلام وواضع اصوله الاولى وفق خيارات الله تعالى الرسول المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، والى الان تفصح بكل وضوح أن الاسلام السياسي اسلام مستلب بسبب استلاب قادته في الصدر الأول بالفوقية حيث يأم الامة ويقودها؛ عبيد الصنم او الوائدین او الاغبياء او الطلقاء والفاسقين اعداء دين الله واعداء رسوله ليكونوا خلفاء الرسول صلى الله عليه واله وسلم، او يكون الماجن الآثم السكير أميرا للمؤمنين ازاء تعطيل دور المعصوم المطهر بارادة الله تعالى من الرجس، ونتيجة لذلك ليعتبر المعصوم المطهر خارجا على الاسلام وفق هذا النهج الفوقي المنحرف!!!!

ص: 228

الفصل الثاني

النموذج الكوني لدولة الانسان والانسانية

تحت هذا العنوان ومن اجل فهم اقرب لابد من بحث المواضيع التالية:

1. هل هناك اطروحة سياسية اسلامية لدولة العدل والانسانية؟

على عمى وبدون معرفة، يدعي الكثير من المدعين للعلم بل والمتخصصين؛ ان لا يوجد اسلام سیاسي، لانهم وحسب رايهم لاتوجد اطروحة سياسية للاسلام، واعتقد ان ذلك قد يكون اما بسبب القراءات الموروثة الكثيرة غير الصحيحة والتي ليس لمنصف ان ينسبها للاسلام، او بسبب ما نشط من سياسيين واحزاب فاشلة باسم الاسلام كل يدعي انه يحكم بالمشروع السياسي الاسلامي!

والذي يدرس تاریخ الاسلام السياسي منذ رحيل رسول هذه الامة صلى الله عليه واله وفي الدولتين الأموية والعباسية خصوصا ومنذ ان تحول الاسلام من رسالة عدل وسلام ورحمة الى مملكات وراثية عضوض، فلا يجد في سياساتها الا الافك والافتراء على الاسلام من رجال اعداء الاسلام وغرباء على الاسلام يجهدون أنفسهم في حرب نظام الملة الذي هو جوهر السياسة الاسلامية ومشروعها السياسي.

وكذا في تاريخ الامة السياسي الحديث والمعاصر، فان كل قادة الامة السياسيين هم دونیین، مستلبين بالدونية ازاء الغرب بل قسم كبير منهم عملاء رسميين للغرب او للشرق.

وان كانت هنا اوهناك شذرات لحكم قادة يدعون الاسلام على مر العصور فانها نماذج للاستلاب بالنفعية، وذلك لان الاسلام فكر اعمق واعظم من

ص: 229

ان يستوعبه انسان غير جاد بعبوديته لله تعالى، فان هناك تلازم ذاتي بين عبادة التوحيد الخالص ومعاني الامامة الحق؛ حيث هي عهد الله تعالى، وعهد الله تعالى لاينال الظالمين (37).

وحتى الذي تشدق في بداية حياته السياسية بالاسلام، عندما يبتليه الله تعالى بالمنصب ويحوز وافرات الترف ( المال والقوة والوقت) ويتذوق نشوة الجاه والقوة والسلطان تتداعی نفسه الهزيلة، امام مغريات المنصب والجاه والسلطان، فيذوب بنفعه ويصير مستلبا وعبئا على الاسلام وسببا للطعن فيه.. ولدينا من التاريخ المعاصر نماذج الاستلاب بالنفعية كثيرة جدا عشناها ولازلنا نعيشها.

2. التثقيف المشروع سياسي كوني لدولة العدل:

لعمق الفكر السياسي الاسلامي الحق وتعقد مقاصده، ولطول مدة التجهيل والبغي الذي مارسه الطغاة ضد دولة الحق، ولوجود الجدل الاجتماعي اساسا في ظواهر انسانية قديمة (ظاهرة الرسل، وظاهرة الترف، وظاهرة الاستلاب)، عطلت عمل الانبياء؛ لابد من البدء بتربية سياسية اسلامية للتعريف بحقيقة السياسة الاسلامية التي يمثلها علي بن ابي طالب عليه السلام والذي يتوفر نموذجها الميداني في دولته ويتوفر منهجها في ثقافته والبيانات التي قدمها لنا وما اقامه من عدل للناس عمليا وما اوصى به، فطاعته واجبة مفترضة على جميع البشر، وفي طاعته عز الانسان ومجد الانسانية، وطاعة المعصوم هو نظام الملة الكوني المرضي من قبل الله تعالى، ففي تلك الطاعة يكمن المشروع السياسي العالمي الكوني الذي اختاره الله تعالى واصطفاء لخلاص البشر ولسعادتهم، في بناء دولة الانسان فما هو نظام الملة؟

ص: 230

3 - التعريف بنظام الملة:

عرفته مولاتنا السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: في علل العقائد في خطبتها الشهيرة:

(... فجعل الله الايمان: تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة: تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام: تثبيتا للإخلاص، والحج:

تشييدا للدين، والعدل: تنسيقا للقلوب، وطاعتنا: نظاما للملة، وإمامتنا: امانا للفرقة، والجهاد: عزا للإسلام،...)(38).

فاي نظام لادارة الدول يعتمد على طاعة المعصوم هو نظام الملة الذي يضمن العدل ويوفر حقوق الانسان والانسانية. ففي نظام الملة الكوني تعتمد السياسة على اهداف الرسل عليهم السلام وهي:

اولا - محاربة الظلم باعتباره الصفة الجامعة لكل القبائح، وعلى بغض الظالمين الخارجين على العدل، وفق نموذج معصوم لا تخلو الارض من وجوده.

ثانيا - نشر الفضائل وتعزيز القيم الانسانية الراقية بين البشر بما يتطابق مع سيرة المعصوم ونهجه في قوله وفعله وتقريره.

فالعدل هو ملاك السياسة الاسلامية. وهو عنوان واضح مستمد من قوله تعالى: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» وأساس قائم على العصمة فلا يقبل اللبس ولا المغالبة كما هي السياسة الوضعية التي تبنى اساسا على اللبس والمغالطة والدهاء والكيد للخصوم.

واليوم في زمن غيبة المعصوم يوجد النظام المرجعي (نظام التقليد والاجتهاد) حيث يعتمد في نظام ادارة الناس اساس طاعة المعصوم (نظام الملة) الذي يتبنى

ص: 231

اهداف الرسل في بغض الظلم وعداوة الظالمين ونشر الفضائل والقيم وفق سيرة المعصومين عليهم السلام، والذي يشكل من يوم قيامه التنظيم الهرمي في تنظيم الامة، حيث يقوم المجتهد الاعلم على راس الهرم ويلزم دخول الامة فيه؛ فعمل العامي بدون تقليد باطل فيكون بذلك دولة داخل الدول الوضعية وتحسب له ادارات الدول وسياسيوها الف حساب وكثيرا ما يتدخل المرجع في اوقات الانحرافات الكبيرة ليلجم الساسة الوضعيين والطغاة ولغيروا الانحراف.

4 - التيقيف بماهية المنهج المعصوم كمشروع سياسي اسلامي لدولة العدل:

کما هو قائم اليوم؛ فان ادارات الدول تتعين من خلال مديريها (السياسيين) ولا تتعين بنظمها وعقائدها المعلنة لانها تنجز وتتشخص بمؤهلات وشخصية القائم عليها، لسبب بديهي هو؛ لان من حتم حاكمية الادارة السياسية هو تمتع المدير السياسي بالمال وبالقوة والسلطة والحاكمية (وهذه متوافرات الترف) كضرورة لتنفيذ النظام، فاذا امتلك غير المعصوم السلطة والقوة والحاكمية فلا ضمان ضد الانحراف لانه سيكون مترفا، قال الله تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ٭ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى» (39).

لم يتسن للاسلام في قراءته الصحية ان يشكل دولته بعد استشهاد الامام امير المؤمنيبن علي بن ابي طالب عليه السلام، التي اشرنا الى انها تتحدد بالضبط في قيام نظام الملة والذي بدوره يتحدد بطاعة المعصوم الا ان الثلة المؤمنة ومن خلال بيان الزهراء سلام الله عليها المعرّف بنظام الملة شكلت على الدوام ادارة اسلامية داخل الدول الظالمة على مر التاريخ تمثل بالتفاف تلك الثلة حول المعصوم في حال وجوده وربما حتى اساطين الدولة الظالمة كانوا يستعينون بالمعصوم لحل مشاكل الدولة، وفي حال غياب المعصوم تمثلت دولة الله الابدية بالنظام المرجعي، كمعبّر

ص: 232

عن نظام الملة؛ وكادرة اسلامية تنظم امور الامة خلال زمن الغيبة؛ تستجيب لحاجات الامة وتجيب على اسئلتها، من داخل الدولة الظالمة وعلى مر العصور اثبت نظام الملة انه نشط وفاعل ولم يمت ابدا، وكانت الدول على اختلافها تحسب لنظام الملة الف حساب.

فالوصية لعلي عليه السلام واليا وإماما بعد الرسول صلى الله عليه واله في حجة الوداع وفي غدير خم؛ هي من كمال العقيدة الاسلامية، متوافقة مع ما تقتضيه السنن الكونية، وقد ثلم ذلك الكمال، وأُلغيت الوصية بالحاكمية والقوة والسلطة اللازمة لإدارة الدولة، وكذا نكثت الوصية بالعترة مع الكتاب عاصمين من الضلال، حتى صارت في اطار الجرح والتعديل والتشكيك. بالرغم من تحذير الرسول صلى الله عليه واله ن التأطير (40).

ولذا فان الله تعالى عندما الزم البشر بطاعة المعصوم بما اسمته سيدتنا الزهراء عليها السلام (نظام الملة)؛ انما اسس لإدارة الدول بما يتطابق خيارت الحاكم الاصل وهو الله تعالى في القول والفعل والولاية الاصل للقوة والسلطة مع العدل ويتطابق العمل مع الاعتقاد بل الاعتقاد عند المعصوم هو العمل وكلاهما يتطابقان مع العدل والحق. فدولة المعصوم هي دولة القرآن فهي دولة الله تعالى.

5 - على مر التاريخ البشري لم نجد بيانا لدولة الانسان او انسانية الدولة الا من خلال الامام علي عليه السلام:

باعتباره المعصوم المكلف ببناء تلك الدولة انموذجا لمعاني العدل في السياسة، ومعلما يثقف لمعاني دولة الانسان التي يجب ان تقوم والتي اراد الله تعالى قيامها من خلال قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (41). فمهة الرسل بالاساس هي للقيام بالقسط .

ص: 233

6 - لا تتحقق انسانية الدولة الا في نظام الملة (طاعة المعصوم):

في حين تبقى نظم ادارة الدول خارج العصمة هي سيرة الحاكم. ويكفي دليلا على صحة ما ندعي ان السياسة كما عرفناها واقعا من تاريخ البشر والى الان؛ هي الاداء السلطوي في ادارة الدولة وشؤون الناس، وفي الاعم الاغلب حيازة للحاكمين في الجاه والمال والسلطان على حساب المحرومين والفقراء من ابناء جلدتهم.

ويكفي في النظام الاجتماعي المعروف: ان السياسيين اليوم شر لابد منه، فان القرف وسوء الظن والتندر عند الناس في تلازم مع السياسة والسياسيين في كل دول العالم وعلى مر العصور، والأسوء ما في السياسة انها شر لابد منه كما مر معنا. ونحن نجد هذا الشر بالمقارنة مع السائد من نظم السياسة على تعددها وما برز عنها من النظم في الادارات الحكمية في المجتمعات الانسانية على مر التاريخ.

وكل النظم السياسية في العالم من غير النموذج المعصوم هي من الشر الذي لابد منه ولذا فهي الغالبة والمعرفة لمفاهيم السياسة والتي تضع الخطوط الحمراء والخضراء في سياسات الدول، ولهذا السبب نجد ان معظم اصحاب الذوق الرفيع والإنسانية فضلا عن الورعين في عقائد السماء يترفعون عن السياسة والسياسيين باعتبارهما عنوان الانانية والقرف والحروب والضلال والكيد والمغالبة... في هذا العالم. ومن يلج السياسة من اصحاب الدين يجد نفسه في اطاراتها كبيدق حقير لا يتجاوز الخطوط المرسومة له شاء ام ابی.

ولهذا من اجل بحث اوثق واثبت في الحجة لدولة الانسان العلوية المباركة قررنا قبل البحث في تفاصيل ومعالم انسانية الدولة عند الامام علي عليه السلام وبياناته الثقافية التي واضب على اصدارها خلال فترة حكمه لدولة الانسان؛

ص: 234

قررنا ان نبين اهم البيانات القرآنية في تفسير ظلم وظلامات التاريخ السياسي للبشر من خلال قصص الانبياء والتي اسدلت عليها الاكاديميات والأكاديميين وفي اعلى المستويات الستار فلم نجد في تاريخ المعرفة الانسانية اطروحة واحدة تبحث في الكم والكيف وألاين لإمكان تطابق السياسة مع العدل مع ان جميع العقائد الوضعية والسماوية تنشد العدل وتتطلبه في السياسة وفي اداء السياسيين.

اطروحة تطابق السلطة في ادارة الدول مع العدل من اجل انسانية الدولة:

منذ فجر تاريخ البشرية والناس يفكرون بكل شيء، ولكن هناك ما يمنعهم ان يفكروا في احوال تطابق السلطة مع ألعدل: متى؟ وأين؟ وكيف؟ حتى في دراساتهم العليا التي لم تترك مساحة من الفكر الا ودخلتها!!!

فهذه الاطروحة الانسانية مهملة مع انها الاهم في تاريخ البشر، باعتبارها الحالة الاشد مساسا في حياة الناس دمائهم وأوطانهم واعراضهم وأرزاقهم. اوكما وصف الامام علي عليه السلام السياسة فقال:

((وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي... فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء وإذا غلبت الرعيّةُ واليها، أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتُركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى، وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يُستوحش لعظيم حقّ عُطّل، ولا لعظيم باطل فُعِل!)(42).

(فهنالك تذلّ الأبرار، وتعزّ الأشرار، وتعظم تبعات اللهَّ سبحانه عند العباد،

ص: 235

فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد - وإن اشتدّ على رضى اللهَّ حرصه، وطال في العمل اجتهاده - ببالغ حقيقة ما اللهَّ سبحانه أهله من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق اللهَّ على عباده: النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحقّ بينهم، وليس امرؤٌ - وإن عظمت في الحقّ منزلته، وتقدّمت في الدين فضيلته - بفوقِ أن يعان على ما حمّله اللهَّ من حقّه. ولا امرؤ - وإن صغّرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يُعان عليه)(43).

7 - اذن الاطروحة الاهم في تاريخ البشر وحاضرهم ومستقبلهم مهملة!!!

اذن؛ تلك البيانات القرانية التي تشير لى حالة الجدل المستمر بين ظاهرة ارسال الرسل عليهم السلام والمترفين والمستلبين والتي كما يشير التاريخ البشري عطلت دولة الانسان منذ ادم الى نبينا الخاتم صلى الله عليه واله وهو واضح في فحوى قصص الانبياء مع اقوامهم سواء المترفين منهم او المستلبين.

فمقابل ظاهرة الرسل هناك ظاهرتان موازيتان لها هما: ظاهرة المترفين الذين يشكلون دوما راس حربة ضد الانبياء، وظاهرة المستلبن؛ وهم المغلبون على امررهم باحد مظاهر الاستلاب.

من فيض لطف الله الدائم على البشر باعتبارهم افضل مخلوقاته؛ لم يترك الارض لا في زمانها ولا في مكانها من فيض رحمته المرسلة المتمثلة في رسله وأنبيائه عليهم السلام، فخاطب نبينا بذلك فقال: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (44)، وقد بلغ عددهم اكثر من: (124) الف نبي ورسول(45)، فكان رسله الى البشر تترى منذ ادم اول بشر وهو أول نبي: «ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ» (46). وكان نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه واله هو خاتم الأنبياء.

ص: 236

فهل وفاة النبي صلى الله عليه واله تعني ان فيض رحمة الله تعالى قد نقطع عن البشر؟

الجواب لا قطعا؛ لأنه لو انقطعت رحمة الله تعالى ولطفه عنا لحظة لانعدم الوجود كله، ولكن الذي حصل وكما نعلم ان الامامة التي هي اعم من النبوة، تكافئ ملاك النبوة في ذرية ابراهيم عليه السلام بما يحقق الآية السابقة وهي تنطبق ايضا مخصوصة بمن طهرهم الله تعالى بإرادته من اهل بيت النبي صلوات الله عليهم: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (47).

فان الله سبحانه جعل النبي ابراهيم عليه السلام وهو نبي اماما:

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (48).

اذن فملاك النبوة الامامة، ومقتضاها العصمة. وعليه لم تنقطع رحمة الله وفيض لطفه عن الكون بعد المصطفى الخاتم صلوات الله عليه بل ارتحلت الى عترته الطاهرة المطهرة من الائمة المعصومين عليهم السلام، حيث موضع ارادة الله تعالى في التطهير والطهارة حجة على الناس.

فمما شاء الله تعالى في الفترة القصيرة التي قام بها الامام على راس الدولة خليفة؛ ان تكون تلك الفترة القصيرة محل فتن وبلاءات ليكون عطاء الامام فيها استجابات لتنلك الفتن والبلاءات بما شاء الله تعالى لتكون تلك الفترة التاريخية بحق دليل عمل لكل السياسيين الذين ينشدون كيفية بناء دولة الانسان دولة الله التي تتحقق بها انسانية الانسان بما اراد الله تعالى.

فقد قام الامام بالقسط بذات العلل وذات الأهداف وذات النهج لظاهرة

ص: 237

الرسل عليه السلام فهي امتداد تاريخي وروحي لها. فقد كانت فترة حكمه حربا ضد الظلم ومنابذة الظالمين وكان فيها عليه السلام هو المعصوم المعلم للقيم ومكارم الاخلاق وناشرا للفضائل.

وسيكون بحثنا هذا مركزا على هذا التثقيف الموجه من الامام المعلم المعصوم من خلال البلاءات التي واجهته اثناء فترة حكمه.

فقد كان الصبر والثبات على المبدأ في نبذ الظلم وعداوة الظالمين، إذ هو القائل لمّا تصدى للخلافة بعد رأى ان بيت المال قد هدره الظالمون. «واللهّ لو وجدته قد تزوّج به النساء وملك به الاِماء لرددته، فان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (49).

وفي ثاني أيّام خلافته اعتلى المنبر، ثمّ راح يُصرّح بما كان قد أشار إليه في اليوم السابق، وهو يقول: «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال اللهَّ فهو مردود في بيت المال؛ فإنّ الحقّ القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدتُه وقد تُزوِّج به النساء وَفُرِّق في البلدان، لرددته إلى حاله؛ فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق».

لقد تحدَّث الإمام بإسهاب في خطاب تفصيليّ ألقاه في ذلك اليوم عن مسؤوليّة قادة المجتمع في بسط العدل، وأعلن بوضوح أنّه لن يسمح لأحدٍ - دون استثناء - من استغلال المال العامّ، وأنّ اُولئك الذين راكموا ثرواتهم عبر غصب المال العامّ وحصلوا - عن هذا الطريق - على الأراضي الخصبة (القطائع) والخيول المسوّمة والجواري الحسان، سيعمد علي إلى مصادرة هذه الثروات المغصوبة بأجمعها وردّها إلى بيت المال.

كان هذا الحديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) بمنزلة الصاعقة التي نزلت على

ص: 238

رؤوس المترفين الذين نالوا الوافرات من انحراف الدولة عن الاسلام، ثم راحت أصداء مواجهة نداء العدالة العلويّة تتجسّد في معارضة شخصيّات معروفة لحكم الإمام طبقا لجدلية التاريخ بين الانبياء والمترفين ليبقى المستلبون يتعاملون بالصفقات لنصرة المترفين ضد المعصوم.

وهكذا نهضت حرب الجمل وحرب صفين والحروب الاخرى ضد سيد العدالة ونصير الانسانية ليربح خصوم العدل واعداء الانسانية مع الاسف كما هو التاريخ.

وفي اليوم الثالث من أيّام عهد الإمام دعا الناس إلى استلام أعطياتهم من بيت المال، حيث أمر (عليه السلام) كاتبه عبيد اللهَّ بن أبي رافع أن يسير على النهج التالي: «ابدأ بالمهاجرين فنادِهم وأعطِ كلّ رجلٍ ممّن حضر ثلاثة دنانير، ثمّ ثَنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومَن حضر من الناس كلّهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك»(50).

فخلال الفترة الممتدة بين الانقلاب على الرسالة (في السقيفة) وامتداداتها الكونية، الى خلافة معاوية؛ تحقق لمعاوية الطليق المنافق ان يحوز مختصات الترف (المال والقوة والوقت)، فاستغل ظاهرة الاستلاب باشاكله المختلفة في المجتمع ودوافع الاستلاب في الامة ضد الامام المنصوص المختار من قبل الله تعالى واسس للمملكة الاموية مشروعه السياسي الوراثي في ملك عضوض بديلا للاسلام الحق بما حذر منه النبي صلى الله عليه واله.

8 - واقع جدل الظواهر الثلاث يغلب تحذيرات الرسالة:

صدرت عن النبي صلى الله عليه واله تحذيرات رسالية من استمرار جدلية

ص: 239

الظواهر الثلاث في الامة كما في الامم السابقة:

بامر من الله تعالى وبمسؤولية الرسالة الخاتمة حذر الرسول الاكرم صلى الله عليه واله الامة من ان تتردى الى ما تردت له الامم السابقة في سابقية الجدل لصالح المترفين؛ فدأب الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله؛ يؤشر الخلل في الامة والانحراف الذي سيصيب الناس من بعده، وكان صلى الله عليه وآله، يرى مما يوحى اليه ان امته لا تختلف عن بقية الامم، تسري عليها سنن ماقبلها، سنن التاريخ وجدلياته وحتمياته، وقد خبرهم مرارا وتكرارا؛ لكي يوطن الصالحون أنفسهم فيتهيئوا للفتن بعده، صونا للدين وحفظا لنظام الملة، ولكي تكون حجة على المارقين والناكثين لعهده صلى الله عليه وآله، الا ان الأمة في غالبيتها الساحقة - مع الأسف - لن تعبأ لتحذيراته، ولو لا تضحيات اهل البيت عليهم السلام والثلة المرابطة معهم من المؤمنين الصالحين الذين وطنوا انفسهم لتحذيرات من لا ينطق عن الهوى، لكنا الان، بل والعالم كله يرى في حثالات البشر وابناء فتيات قريش من الامويين والعباسيين والتكفريين هم ممثلوا الاسلام وهم حاملوا رسالة الله تعالى التي وطدها النبي محمد صلى الله عليه واله. فقد روي عنه صلى الله عليه وآله انه قال كما في الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن(51)؟

ومن صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ قال: قال رسول الله: لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مآخذ القرون قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قيل له يا رسول الله كفارس والروم؟ قال من الناس إلا أولئك(52).

ص: 240

ولم يمض على وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أكثر من ثلاثين سنة وإذا بنا نشاهد أن حزب الشيطان (حزب ابناء فتيات قريش ذوات الرايات الحمر) الذي وقف معارضا في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مدة واحد وعشرين عاما قد تربع على عرش الخلافة، ليغيرها إلى ملك وراثي عضوض، كان حذر رسول الله منه، يتداوله بنو امية فيما بينهم حتى توارثه يزيد وبنو مروان وبعد ذلك آل الأمر إلى بني العباس الذين استمروا على نهج بني امية! فهل هناك انحراف أكبر من هذا الانحراف عن مسار الرسالة الرحمة وعن مشروعها السياسي الانساني؟.

والغريب ان تحذيرات الرسول وتنبيهاته لم تكن عامة بل كانت دقيقة ومشخصة بالاسماء والعناوين للذين سينقلبون وللذين يرتدون وللذين سيؤذون اهله وحاملي مشيئة الله تعالى في رسالة الاسلام (عليهم السلام) من بعده.

قال الرسول صلى الله عليه وآله لاصحابه:

(ان اهل بيتي سيلقون من بعدى من امتى قتلا وتشريدا، وان اشد قومنا لنا بغضا بنو اميه وبنو المغيره وبنو مخزوم) (53).

وقال الرسول لاصحابه: (اذا بلغت بنو اميه اربعين اتخذوا عباد اللهّ خولا، ومال اللهّ نحلا، وكتاب اللهّ دغلا)(54).

وقال الرسول يوما امام اصحابه: (ويل لبني أمية، ويل لبني أمية، ويل لبني أمية) (55).

وقال الرسول يوما لاصحابه: (شر العرب بنو أمية).. قال ابن حجر صح وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال امير المومنين علي (عليه السلام): (لكل أمة آفة وآفة هذه الأمة بنو أمية)(56).

ص: 241

الفصل الثالث: بيانات الامام علي (علیه السلام) لبناء دولة الانسان وإنسانية الدولة

لتوفر كل اشكال الفتن والمحن التي يمكن أن يتعرض لها النظام الرباني ومشروعه السياسي، خلال الفترة القصيرة التي استلم الامام عليه السلام فيه الحكم كانت بيانات یالمعصوم شاملة لكل الاحتمالات حاوية لمعظم الحلول التي تناسب المشكل التي يتعرض لها الساسة الذين يريدون وجه الله وينشطون لمجرد قصد القربي اليه في ادارة الدولة وسياسة الناس ومنها:

البيان الأول: - المستثنون من المناصب السياسية في دولة الانسان:

اعتمادا على ماهو واقع في قصص الانبياء عبر التاريخ البشري من ظواهر ومن عقبات تلقاها الرسل عليهم السلام؛ حدد الامام علي عليه السلام في الإمرة وسياسة الناس، مواصفات لخمسة اصناف مستثنون من استلام المناصب في دولة العدل والانسانية... فقال عليه السلام:

(وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والإحكام وإمامة المسلمين؛ البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف (57) للدوُل فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع (58) (59).

اذن فليس لهؤلاء الخمسة ان يلجوا السياسة، او ان يتقلدوا المناصب، وان حدث، فإنهم يقررون بأنفسهم انهم المقصودون بالمنع المؤبد.. وإذا كان العراق اليوم الدولة الاولى في الفساد، فلإسلام بريء من المفسدين جميعا. وأهل البيت عليهم السلام بريئون من المفسدين والفاسدين.

ص: 242

والإمام عليه السلام يبتدئ القول: (بقد علمتم)، وكأنما يشير الى البديهي، هو من سنة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وله) البديهي والمعلوم، فالعمل السياسي تکلیف شرعي ليس لصاحبه اي امتياز ولا اي شرف يتطاول به على الآخرين.

فالسياسي الشريف هو السخي الجواد الذي لا يضن على الناس مالهم الذي كان بانتخابهم له امينا عليه، ولابد من اداء الامانة التي في عنقه وفق كتاب الله تعالى وسنة نبيه.

والسياسي المؤهل هو العالم (وليس الجاهل): ولذا فعند الامامية ووفق نظام الملة؛ القيادة للاعلم فعليه ان يكون هو الاعلم من بين الموجودين، وإذا علم ان من بين الموجودين من هو اعلم منه وأكفأ، فعليه ان لا تغريه السلطة، فان فعل واستمر تحقق جهله وبطلت ولايته. والحاكم هو الرحيم الشفوق، المقبل على ناسه ومكلفيه وواضعي الثقة فيه، يسمع ويستجيب ويتأثر ويؤثر قدر طاقته وإمكان صولته في نصرتهم والتواصل في خدمتهم.

والقائد هو المنصف الذي ينصفهم من نفسه ويجنبهم حيفه، فهم سواسية عنده إلا بما فضل الله تعالى بعضهم على بعض، فلا يستأثر بمالهم لحزبه وجماعته، ولا يحيف بالوظائف لخاصته وجلاوزته وأنصار سياسته، ولا ليجمع الغوغاء من حوله.

والرئاسة لمن هو النزيه النظيف؛ الذي يتحرى في بطانته عن المرتشين ويطهر اجهزته من المارقين على شرع الله تعالى والمتعدين لحدوده.

ثم وليس له ان يستخدم الصلاحيات المخولة له من خلال ذلك المنصب إلا في فيما يرضي الله تعالى... ولذا فعمل السياسي في السياسة مثله كمثل بقية ما يصدر عنه: باطل دون اجتهاد او تقليد او احتياط.. لانما يتعين عمله بإقامة الحق ودفع الباطل وفق طاعة المعصوم.

ص: 243

البيان الثاني: - امران مطلوبان من السياسي المسؤول لبناء دولة الانسان:

هذا الامران في المشروع السياسي الانساني وفق نظام الملة هما:

اولا - اقامة الحق بما يعني من سريان العدل في المجتمع بكل اطيافه واصنافه.

ثانيا - دفع الباطل بما فيه ردع المفسدين والخوّنه ومثير الفتن ومخترقي الامن.

فقد جاء عن ابن عباس في حديث عن امير المؤمنين عليه السلام:

قال عبد الله بن العباس: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار، وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت لا قيمة لها، فقال عليه السلام:

(والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا)(60).

والإسلام بما انه يوجب على المسؤول حقوقا ويتشد بها، فانه يوجب على الرعية حقوقا عليها للمسؤول ويعظمها ويطالب الناس بالإيفاء بتلك الحقوق. فما هي حقوق الراعي على رعيته.

البيان الثالث: - حقوق السياسي على الناس من اعظم الفروض:

ولكي يعلم الامام عليه السلام الناس اهمية العمل في السياسة وولايته على العرض والارض والدم والمال ويعطوه ما يستحق من النصح والاعتبار قال الامام علي عليه السلام:

(... وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي. فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم وعزا لدينهم.

فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة

ص: 244

الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينه، وقامت، مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الاعداء.

وإذا غلبت الرعية واليها، وأجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة. وظهرت معالم الجور. وكثر الادغال (61) في الدين وترکت محاج السنن. فعمل بالهوى. وعطلت الاحكام. وكثرت علل النفوس. فلا يستوحش لعظیم حق عطل، ولا لعظیم باطل فعل.

فهنالك تذل الابرار وتعز الاشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد. فعلیکم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه، فليس أحد وإن اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة له. ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم. وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعاون على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه)(62).

(فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته له).

فقال عليه السلام: إن من حق من عظم جلال الله في نفسه، وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه. وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله عليه ولطف إحسانه إليه. فإنه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظما، وإن من أسخف حالات الولات عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر، ويوضع أمرهم على الكبر.

ص: 245

البيان الرابع - اطراء الحاكم قبيح:

مما يبتلي به الناس ويساعد في خلق الطغاة والجبابرة، ويمنع من قيام دولة الانسان العادلة هو تملق الناس للحاكم.

ولكن في الدولة التي تكرم الانسان ويكون هو القيمة المثلى لا يوجد في ثقافتها مدح او اطراء للحاكم ليشعر بانه متفضل على الناس فليس السياسي الا اجير لخدمة الشعب وكان الامام عليه السلام يثقف لذلك حيثما سمع مدحا. قال الامام علي عليه السلام تعقيبا على مدح احد جلسائه وإطرائه له فقال:

(وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الاطراء واستماع الثناء، ولست بحمد الله كذلك. ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة والكبرياء. وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء. فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لابد من إمضائها) (63).

وذلك النصح ادعي وأوجب لمن ادعى انه من اتباع الامام علي عليه السلام وشيعته.

البيان الخامس: والتزلف للمسؤول خرق لمعنى انسانية الدولة:

وزاد الامام عليه السلام موضحا في معاني قبح التزلف للمسؤول والحاكم اذا كان يدعي الاسلام والايمان.. قال عليه السلام موصيا:

(فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة. ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة. ولا تخالطوني بالمصانعة. ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي. فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان

ص: 246

العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني. فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره) (64).

وزيادة في الملاحظة هنا: علينا ان نتذكر ان الامام عليه السلام يقول هذا وهو المعصوم؛ وفي هذا كمال التقى وحقيقة التواضع لكي لا يكون لابن امة غیره من سائر الناس ان يغتر ويقول اني لا اخطئ.. ذلك اذا كان المعصوم الذي هو كنفس رسول الله بنص الكتاب وبنص السنة الصحيحة يقول: (فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ) فهل يحق لغيره وهو الادنى الا ان يأخذ بمقالة الحق وبمشورة العدل من أي كان ولا يرى في نفسه انه خير من غيره فيكون لبسا لإبليس ضد ادم حين قال: (انا خير منه).

هذه دروس في الثقافة السياسية لدولة الانسان ليس فقط لتؤخذ بل لیرى الناس بالمقارنة أي نوع من الناس يحكمونهم اليوم في غياب المعصوم فاعتبروا يا اولي الالباب.

فاذا كان هذا منطق المعصوم المسدد، من موقع الولاية والإمرة، فليس لذي لب بعدها إلا ان يخجل من نفسه ابدا ان يكون بموضع الامرة على الناس دون ان يعلم حقوقه ويقوم بتمام واجباته. وليس للناس إلا ان يتقوا الله تعالى فيما عظم عليهم من الفروض، وان يلتزموا بواجباتهم بعد ان نؤدى اليهم حقوقهم.

البيان السادس: السياسة هي قضاء حوائج الناس:

ان خدمة الناس في الاسلام من ارقى العبادات التي يتقرب بها الى الله تعالى، ولذا يتطلب من السياسة الاسلامية او من يتطوع للعمل بها، ان يكون متخصصا

ص: 247

في معرفة حوائج اهله، وان يكون له برنامج عمل بالخدمات التي تحتاجها الامة او التي يحتاجها مجتمعه الذي هو مسؤول عنه، حسب اولويات مدروسة ومتدارسة، ومنهج، وآليات وأساليب تناسب كل زمان ومكان.

كان من المعروف؛ ان كفارة العمل مع الظالم هو خدمة المؤمنين، اما ان يكون السياسي مبادرا ولا ظالم فوقه، فذلك يتطلب منه الخدمة بأفضلها وعلى وجه الوجوب: وقد مر معنا توجيه الامام الباقر عليه السلام في من لا يحضره الفقيه للصدوق الرواية التالية:

(كنت اعتكف مع محمد بن علي (عليهما السلام) فأتاه رجل فقال له: يابن رسول الله! إن فلاناله علي مال ويريد أن يحبسني، فقال: والله ماعندي مال فأقضي عنك، قال: فكلمه، قال: فلبس (عليه السلام) نعله، فقلت له: يابن رسول الله! أنسيت اعتکافك؟ فقال له: لم أنس ولكني سمعت أبي (عليه السلام) يحدث عن [جدي] رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنما عبد الله عز وجل تسعة آلاف سنة، صائما نهاره، قائما ليله)(65).

وخدمة الناس من قبل السياسي والحاكم، واجب مطلوب على وجه الدقة، وبمعنى الامانة، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (66).

والسياسي عندما ينتخبه الناس، انما يحملونه امانة، يقلدونها في عنقه، ليكون في خدمتهم، وليس ليشرفونه بامتيازات المنصب لمجرد سواد عينيه، فعليه ان يؤدي الامانة في خدمتهم، وهو مكلف ايضا بالعدل في الحكم والأداء.

البيان السابع التثقيف لدولة العدل: واقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا

ص: 248

عليه ظالمين:

ما دام ملاك السياسة العدل؛ كما يقول امير المؤمنين (عليه السلام)(67) فالغاية والمطلوب في المشروع السياسي الاسلامي هو العدل بين الناس، ونهج الامام في السياسة هو منهج قراني محكم وواضح لكن في الغالب الكثير يصعب على الناس تحري العدل من مظانه من غير المعصوم، لماذا؟

لان العدل هو السنة البديهية التي يقوم بها وعليها الكون كله، وتوضيح البدهي من الامور الصعبة. وذلك لصعوبة معرفة متى واين يتطابق خيار الفعل الصادر من الانسان مع النسق الكوني، واين ومتى لا يتطابق معه، ولكن يسهل تحديد الفعل اذا لم يكن مطابقا للنسق الكوني، لانه عندها سيكون مشهورا بكونه نشازا ومقرفا ومرفوضا، ذلك هو الظلم.

فصار احسن طريق لتحري الحق وإقامة العدل؛ هو بغض الظلم ايا كان مصدره ومنابذة الظالمين وعداوتهم. فاذا حصل هذا وبان القبح من الحسن فليس للإنسان إلا ان يختار وهو طريق قراني واضح:

قال الله تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (68).

والآية محكمة واضحة المعاني والدلالات على بغض الظالمين وعداوتهم كأساس للتوحيد كعقيدة تستوعب النفوس.

وفي موضع اخر من نهج القران في كون بغض الظالمين وعداوتهم هو نهج

ص: 249

الموحدين؛ قال تعالى على لسان ابراهيم عليه السلام:

«قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ٭ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ٭ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ»(69).

وفي موضع أخر يقول الله تعالى عن سيد الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام في جده لامه أو عمه:

«وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» (70).

وقال تعالى في وصف الامام العادل بانه غير ظالم:

«وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (71).

فالمسؤلية السياسية في الاسلام لا تختلف عن اي مسؤولية اخرى، اذ كل المسؤوليات هي تكليف شرعي، بمعنى انها عبادة واجبة، وفيها مستحبات ايضا لا ينالها الا ذو الحظوظ، وهي في المقابل مهلكة لمن اخل بها، لان السياسي على اعتاب مسؤولية كبرى، ففي هذه حاله يكون كربان سفينة اذا اخل اغرق الجميع فخيره مثل شره يعم.

ان الظلم الذي تعرض له اهل بيت النبوة يمثل تاريخا حافلا وكنزا كبيرا، بل التاريخ كله هو حكاية الظالم والمظلوم، وذلك من حكمته الله تعالى وحجته على العباد، فليس لأحد ان لا يعرف الظالم من المظلوم في حكاية التاريخ كلها، وبعدها فليس له ان يصطف مع الظلمة، وقد مرت معنا وصية الامام علي عليه السلام: (واقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين)(72).

ص: 250

وان في احياء امر اهل البيت عليهم السلام تذکیرا بالظلم وتعريفا بالظالمين، والاصطفاف اما معهم عليهم السلام او مع الظالمين، وعندما تلعن الظالمين وتعرف بهم عليك أن تتذكر انك متيقن انك لست منهم، وإلا فانه تصرف مستلب واضح لن تلوم احدان هزئ او استهزأ بك، فهو مصداق لقول الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ٭٭٭ عار عليك اذا فعلت وخیم

فمثلا قد تلعن حزب الامويين من خلال احیاء امر اهل البيت عليهم السلام، لانهم تفردوا بالتسلط على الناس واتخذوا الدين غرضا، ثم تفعل فعلهم في حزبك للتوسع في السلطة!! وتحيف لجماعتك لتنالوا وجاهة السلطان!! وتنمي حصتك لنيل الوظائف الكبيرة!!، وكل ذلك دون من هم افضل واعلم واكثر اخلاصا منك ومن حزبك.. وتلعن العباسيين لانهم نصبوا للآل الحق ومنعوهم حقهم، وتلعن العهد القريب للصداميين العفالقة، الذين ناصبوا العداوة للمراجع وابادوهم، وانت ترى في المرجع مصدر قلق لك ولحزبك، مع علمك انهم يمثلون امتداد لنظام الملة وطاعة الثقلين العاصمين، فهم حبل الجماعة واركان الطاعة الذي اوصى الامام بلزومها!!

ولذا فان المعيار المقوّم الذي يقاس به بغض المسؤول للظلم؛ هو اقرراه ومشاركته باحياء بصدق، امر اهل البيت عليهم السلام، لانها تاريخ حي يتجدد يحكي ويحيي قصة الصراع الابدي بين الظالم والمظلوم ومن خلاله يتبين الاصطفاف الحقيقي مع من؟

ص: 251

ترجمة بغض الظلم وعداوة الظالمين عند الامام في مشروعه السياسي الاسلامي:

على المسؤول ان يظهر اصطفافا حقيقيا مع من؟ من خلال شعبيته باعتبار ان احیاء امر اهل البيت عليهم السلام اختص به البسطاء والفقراء والمعدمين المظلومين من عامة الشعب، وهذا سيكون ثقيلا على المستكبرين الذين يرون في المنصب عزا وسلطة وليس عبادة وتكليف، وهذا من المعايير القرانية التي لا ينالها الزيف، فقد اختطه ائمتنا عليهم السلام بدمائهم، واوقفوه لتقويم اعمالنا، فلينتبه الغافلون.. قال تعالى: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (73). فالتمييز قانون كوني لايفلت منه احد.

فالسياسة خیار فعل طبقا لهذا القانون الكوني اصطفاف يميز الناس الى ظالمين ومظلومين، ولذا وتحذيرا من فعل القانون الكوني قال تعالى: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ» (74).

والإمام علي عليه السلام يقول: من لم ينصف المظلوم من الظالم سلبه اللهَّ قدرته (75). لان عدم انصاف المضلوم هو اصطفاف مع الظالم، فلا حال وسط في الاصطفافات المميزة للناس امام قانون التمييز الكوني.. فعلي عليه السلام وعلى عظم قدره وعلو ثقته بنفسه واختقاره للدنيا يقسم قسما عظيما انه لا يسكت على كظة ظالم

وعنه (عليه السلام): أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللهَّ على العلماء ألّا يُقارّوا على کِظّة (76) ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها، ولسقیت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنیاکم هذه أزهد عندي من عفطة عنز!(77)

ص: 252

وعنه (عليه السلام): أيّها الناس! أعينوني على أنفسكم، وايم اللهَّ لاُنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتى اُورده منهل الحقّ وإن كان کارهاً (78).

وعنه (عليه السلام): الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحقّ منه (79).

وعنه (عليه السلام) - في عهده إلى مالك الأشتر -: ثمّ انظر في أمر الأحكام بين الناس بنيّة صالحة؛ فإنّ الحكم في إنصاف المظلوم من الظالم والأخذ للضعيف من القويّ وإقامة حدود اللهَّ على سنّتها ومنهاجها ممّا يُصلح عباد اللهَّ وبلاده (80).

ص: 253

الفصل الرابع: الاسس الاخلاقية للمشروع السياسي الالهي العلوي المبارك لدولة الانسان

ماذا على امير المؤمنين ان ياكل کما تاكل الناس ويلبس کما تلبس الناس؟ الا ان له خلق من الكمال عال لايدرك من ربه وهو يقول عن ذاته عليه السلام: (ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام) فقال: (والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحی، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير، ولكني سدلت دونها ثوبا، وطويت الأمالي للطوسي(81).

نعم يعلل عليه السلام تواضعه في الماکل والملبس فيقول: (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق، إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة - ولعل بالحجاز أو اليامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى واكباد حري، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة ٭٭٭ وحولك أكباد تحن إلى القد) (82).

طبعا؛ ليس عليه شيئ ولا باس، لكنه عليه السلام يعطي درسا للمسؤول السياسي ان يتاسی بابسط الرعية وافقرهم، ونراه عليه السلام يقول: (أأقنع من نفسي بأن يقال [لي] أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها،

ص: 254

أو المرسلة شغلها تقممها تكترش من اعلافها وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى وأهمل عابثا، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة)(83).

ويضيف تعليلا اخر لفعله عليه السلام هذا: (وكأني بقائلكم يقول: (إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الاقران، ومنازلة الشجعان). ألا وإن الشجرة البرية أصلب عودا، والروائع الخضرة أرق جلودا، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد. والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أطهر الارض من هذا الشخص المعكوس، والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد)(84).

فقد كان ياكل السويق من جراب يختم عليه لئلا يضيفون اليه بعض الزيت (85)، وكان عليه السلام يرقع مدرعته حتى استحیی من راقعها(86)، وكان يعد رعيته انه جاء اليهم من المدينة بقطيفة عليه فان عاد بغيرها فهو خائن، ورفض ان يدخل قصر الامارة وقال انه بيت خبال (87). وكان يرفض ان يقدم له طعام فيه اكثر من القرص والملح... انها خلاق الرسل وحكم الانبیاء، وليس هذا خاص به بل هو شديد على المترفين انه في حال حرب سجال مع الترف بل ومع المترفين، فقد قيل أن طائفة من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام مشوا إليه عند تفرق الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية طلبا لما في يديه من الدنيا فقالوا له يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقریش على الموالي والعجم ومن تخاف خلافه عليك من الناس وفراره إلى معاوية:

فرد الامام (عليه السلام) رد الواثق بما يفعل وفق مشروعه الالهي: (أتأمرونّي

ص: 255

أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلّيت عليه! واللهَّ لا أطور به ما سمر سمير (88)، وما أمّ نجم في السماء نجماً!ً لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنّما المال مال اللهَّ؟! (89)

وفي اصراره الخلقي على رفض الظلم يقول (عليه السلام): واللهَّ لأن أبيتَ على حَسَك السَّعدان مسهّداً، أو اُجرّ في الأغلال مصفّداً، أحبّ إليَّ من أن ألقى اللهَّ ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام. وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البِلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟!(90)

وفي مثال الظلم المستحيل عليه يقول (عليه السلام): واللهَّ لو اُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي اللهَّ في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإنّ دنیاکم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ولنعيم يفنی، ولذّة لا تبقى!(91)

فبا حسن الوسائل الخلقية يمهد عليه السلام لدولته فأنّ التوسّل بأيّ وسيلة ليس مباح لبلوغ السلطة أو الحفاظ عليها، بل على العكس تماماً؛ فعنده عليه السلام؛ لا يجوز استعمال الأداة السياسيّة غير الشرعيّة، حتى لو كلّف ذلك فقدان السلطة نفسها.

1. استخدام الادوات الانسانية وسيلة للعدل في السياسة:

الادوات والوسائل الاخلاقية والانسانية هي السبيل لسياسته عليه السلام في المجتمع؛ فالسياسة في مدرسة الامام علي عليه السلام کما یعلمنا: هي معرفة الأدوات السياسيّة المشروعة والافضل والاحسن، وتوظيفها لإدارة المجتمع، وتأمين الرفاه المادّي والمعنوي والامان للناس. بل أساساً لا تستحق السياسات

ص: 256

غير الشرعيّة لقب «السياسة» في النهج المعصوم، وقد فند علیه السلام هذا الوصف کما هي عند معاوية؛ فالسياسة عند معاوية (إنّما هي المكر والخدعة والنكراء والشيطنة)(92).

في النهج المعصوم وبناء دولة الانسان ؛ لا تحتاج عملية إدارة النظام في الدولة والحفاظ على السلطة إلى أدوات سياسية غير مشروعة، بل يمكن حكم القلوب من خلال توظيف السياسات الصحيحة والشرعية بالاسلوب الاخلاقي والانساني فقط، وسوق المجتمع صوب الاصطفاف الصحيح في نبذ الظلم وعداوة الظالمين. وإشاعة القيم الانسانية الراقية وفق نظام الملة الذي يعني طاعة المعصوم. وهذا النظام (نظام الملة) يبتني بمحاربة وافرات الترف (المال والسلطة والوقت) کما فعل الامام عليه السلام ويبتني نظام الملة ايضا بمحبة المعصوم، فمحبة المعصوم سبيل لطاعته والتأسي به والاقتداء بسيرته.

جاء في تاريخ دمشق عن أبي اُمامة الباهلي: قال رسول اللهَّ (صلى اللهّ عليه وآله وسلم): خُلق الأنبياء من أشجارٍ شتّى، وخلقني وعليّاً من شجرةٍ واحدة؛ فأنا أصلها، وعليّ فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها نجا، ومن زاغ هوی. ولو أنّ عبداً عَبَد اللهَّ بين الصفا والمروة ألف عام، ثمّ ألف عام، ثمّ ألف عام، ثمّ لم يدرك محبّتنا إلّا أكبه اللهَّ على منخريه في النار، ثمّ تلا: «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (93) (94).

2. حركة بناء دولة الانسان عند الامام علي عليه السلام طابعها الاخلاق:

منذ بداية قيام دولة الامام علي عليه السلام، بعد مقتل عثمان؛ اراد الامام ان يلقي الحجة على من جاءه من الناس يريد بيعته وهم لا يعلمون في فترة عزله عليه السلام عن الامامة ان السياسة قد اخذت منهجا بعيدا عن معناه في الاسلام

ص: 257

ويعلم انه لو حاول ان يعيد الامور في السياسة الى نصابها ومعناها قد ينكرون عليه ذلك فقال قولته المشهرة کما وثقها المؤرخون: کما جاء في تاريخ الطبري عن محمّد وطلحة: غشي الناس عليّاً، فقالوا: نبايعك؛ فقدتری مانزل بالإسلام، وما ابتُلينا به من ذوي القربی! فقال عليّ: دعوني، والتمسوا غيري؛ فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: نُنشدك اللهَّ، ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف اللهَّ!

فقال: قد أجبتُكم لما أری، واعلموا إن أجبتُكم ركبتُ بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم، إلّا أنّي أسمَعُكم وأطوَعُكم لمن ولّيتُموه أمرَكم (95).

وفي نهج البلاغة عن الإمام عليّ (عليه السلام) - من كلام له لمّا أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان -: دَعُوني والتمسوا غيري؛ فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنکّرت، واعلموا أنّي إن أجبتُكم ركبتُ بكم ما أعلم، ولم اُصغِ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعکم وأطوَعكم لمن ولّيتموه أمرَكم، وأنا لكم وزيراً، خير لكم منّي أميراً (96).

على هذا الأساس وبعد ان اعلم الناس بما يجب عليهم ان يعلموا من النهج الحق في السياسة؛ انطلق الإمام مباشرة بعد أن بايعه الناس وتسلّم زمام السلطة السياسيّة بحركة إصلاح حكوميّة بدأَها بعد أعلن صراحة أنّ الفلسفة الكائنة وراء قبوله الحكم تكمن في إيجاد الإصلاحات، وكان (عليه السلام) يعتقد أنّ المجتمع الإسلامي قد تغيّر في المدّة التي كان فيها الإمام بعيداً عن المشهد السياسي، وأنَّ ما یُمارس باسم الحكومة الإسلاميّة ينأي بفاصلة كبيرة عن الإسلام وسيرة النبيّ (صلى اللهّ عليه وآله وسلم) وسنّته.

ص: 258

من جهة أُخرى كان الإمام يعلم جيّداً بأنّ الطريق الجديد والإعلان عن نهج دولة الانسان الذي هو نفسه النهج المحمّدي، لا يتّسق مع مزاج المجتمع في ظلّ الأوضاع السياسيّة التي كانت سائدة، وبحسب قوله (عليه السلام): «لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول»، حيث تستتبع عمليّة مواجهة الانحرافات، ومكافحة الاعوجاج كثيراً من الاضطرابات السياسيّة.

من هذه الزاوية كانت عمليّة بناء الدولة العادلة بحاجة إلى إعداد وتخطيط عميق جدّاً ومحسوب لاجل البيان للاجيال القادمة دروس وبيانات وعبر.

اولا - كانت سياسة الإمام عليه السلام نشطة جدا في مواجهة الانحراف فقامت على الرفض مرّة واحدة وبشكل مباشر لجميع الانحرافات بالرغم من المجتمع اظهر انه معتاد عليها خلال سنوات، حکم الخلفاء الثلاثة قبله، وقد يجرّ إلى عدم الرضا العامّ، ويُفضي إلى الفرقة وضعف بنيان الحكم، بل ولجَ الإمام هذه المواجهة ليعطي درسا للامة وللتاريخ ان الاسلام عقيدة كاملة ولها من ذاتها برنامجا في السياسة كما لها في الفقه والتشريع.

ثانيا - رفض كل ما اقتطعه عثمان بدون وجه حق من بيت المال وكما قلنا يقول عليه السلام في اول يوم يستلم فيه الخلافة: «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال اللهَّ فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدتُه وقد تُزوِّج به النساء وَفُرِّق في البلدان، لرددته إلى حاله؛ فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق».

ثالثا - رفض وجود معاوية في ولاية الشام وعين الولاة من التقاة وعلى اساس من قدرتهم على محاربة الترف وبغض الظلم وعداوة الظالمين مع علمهم بضعهم تحت المراقبة من قبل عيون ثقاة تقاة لامير المؤمنين في مواجهة حقيقية

ص: 259

للفساد الإداري والاقتصادي المحتمل. وبدا هذا العمل منذ الأيّام الاُولى لعهد الإمام السياسي، فعزَل الولاة غير الأكفّاء، وأعاد الأموال العامّة إلى بيت المال.

رابعا - وضع العيون الثقاة التقاة على الولاة ومراقبتهم، وهو امر لم يعرف من قبل الخلفاء من قبل الامام على علیه السلام على الاطلاق، ولم یعرق بعده، فالعيون في كل السياسات السابقة والى الان كانت توضع على الناس من قبل الساسة، وقد بدى ذلك في اكثر من مرة عندما استدعى الامام ولاته ليخبرهم انهم خالفوا سياسته في بسط العدل والاصطفاف مع المظلومين:

مثلا - كتب أمير المؤمنين « عليه السلام» كتابا إلى عامله على البصرة (عثمان بن حنيف) جاء في مستهله: (أما بعد یا ابن حنيف! فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان! وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو) (97).

خامسا - كان يساوي بين الناس في العطاء فثار لذلك بعض من يرون انهم وجوه القوم وأنهم يجب ان لا يساووا بالناس مثل طلحة والزبير. فقال أمير المؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً - وبعد هنيئة - قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي، فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ویسفکان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وكفيت المؤمنين شرهما؟ فقال أمير المؤمنين متعجباً: یا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدا؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظنة والتهمة؟ وأؤاخذ بالفعل

ص: 260

قبل كونه؟ كلا والله، لا عدلت عما أخذ الله علي من الحكم والعدل، ولا ابتدأ بالفصل، یا ابن عباس: إنني أذنت لها وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مناهما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي وبغيهما علي (98).

ولعل فيما صب على الامام من الفتن كان بعين الله ليعطي للانسانية تراثا کاملا في انسانية الدولة وكيفية بناء دولة الانسان، فمن الفتن وجدما عند الامام رصيد لمواجهتها.

3. نماذج من انسانية المشروع السياسي الاسلامي المعصوم:

إنّ انسانية المشروع السياسي الاسلامي مثله الأعلى الذي يحتذي به هو عليّ عليه السلام، فبتعبير جميل للإمام أمير المؤمنين نفسه: «الحقّ أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف». لهذا كلّه لم تتخطّ العدالة الاجتماعيّة واحترام حقوق الإنسان على مرّ التاريخ كلّه تخوم الشعار، بل تحوّل هذا الشعار - أيضاً - إلى أداة لابتزاز حقوق الناس والاعتداء عليها أكثر.

1 - الامام يشكو حيف رعيته: على مدى عصور التاريخ الإسلامي بعد عهد رسول اللهَّ (صلى اللهّ عليه وآله وسلم) سنحت فرصة استثنائيّة واحدة لجهة استقرار العدالة الاجتماعيّة تمثّلت في العهد القصير الذي أمضاه الإمام عليّ في الحكم، بید أن الاُمة لم تغتنم هذه الفرصة، بل وقع الظلم على حكم الإمام من قِبل الرعيّة ذاتها، حتى قال (عليه السلام): «إن كانت الرعايا قبل لتشكو حيف رعاتها، فإنني اليوم لأشكو حيف رعيّتي».

2 - رعايته عليه السلام لحرية الانسان: الحرّية التي دعا القرآن إليها، في قوله

ص: 261

سبحانه: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ». وهي ذاتها التي عناها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعدّها بمنزلة فلسفة بعثة النبيّ (صلى اللهّ عليه وآله وسلم)، وهو يقول: «إنّ اللهَّ بعث محمّداً ليُخرج عباده من عبادة عبادهِ إلى عبادته... ومن ولاية عباده إلى ولايته».

3 - طابع حكمه الرفق بالناس: يقول عليه السلام: «إنّ سخط العامّة يُجحِف برضى الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضى العامّة».

4 - حماية المظلومين والاصطفاف معهم: لقد كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ينتهز كلّ الفرص من أجل توسعة ثقافة مكافحة الظلم ويستفيد منها لحماية المظلومين، كما كان يحثّ الناس على مساعدته لإصلاح مجتمعهم، وهو یهتف: «أيّها الناس أعينوني على أنفسكم، وايم اللهَّ لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بحزامته».

فلم يعرف الإسلام قبل عليّ (عليه السلام) هذه البادرة، فلأوّل مرّة في التاريخ الإسلامي بادر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أثناء تولّيه السلطة، إلى تأسيس «بيت القصص» لكي يكون موضعاً لمعالجة مشكلات الناس وتظلّماتهم؛ فمن لا يستطيع من أبناء الشعب أن يوصل مشكلته شفوياً أو لا يرغب أن يُعبِّر عنها بهذه الصيغة، بمقدوره أن يكتب قصته، ويوصل قضیّته عن هذا الطريق.

5 - الدفع عن الموالي: فقد لحق الظلم بالموالي في المجتمع الاسلامي دفعهم الى بث شكواهم عند علي عليه السلام وقال لهم الامام (يبدو ان هذا الكلام كان قبل خلافته): ((يا معشر الموالي، ان هؤلا صيروكم بمنزلة اليهود والنصاری، يتزوجون اليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ماياخذون فاتجروا بارك اللهّ فیکم ()، وفسح الامام المجال للموالي بشكل ملحوظ حتى اعترض عليه بعض

ص: 262

العرب من امثال الاشعث بن قیس، وخاطبوه قائلين: غلبتنا هذه الحمرا على قربك)) بيد ان الامام كان يقول: ما كنت لاطردهم فاكون من الجاهلين.

وهذا لا يعني ان الامام كان يعتمد عليهم، بل ان هذا الاعتراض کان منطلقا من الروح القومية لاشخاص کالاشعث ممن ادانوا التفاف الموالي حول الامام - عليه السلام - حتى لو كانوا قليلين نهم ربما شاركوا في الحروب الى جانبه وهذا الموقف الذي ابداه الامام حيال الموالي لم يشجعهم على دعمه فحسب، بل ورسخ في أذهانهم حقيقة تتمثل في انه لا يرتضي امتهانهم.

ويذكر بعض الباحثين ان من عادة علي - عليه السلام - ان يخصص نصيبه ((النقدي)) في الانفال لافتدا الاسرى الفرس وكثيرا ما اقنع الخليفة عمر بمشورته، فعمد إلى تخفيف عب الرعية في فارس.

ويقول فان فلوتن: ان من اسباب میل الخراسانيين وغيرهم من الفرس للعلويين هوانهم لم يعاملوا معاملة حسنة، و ماراوا عدلا الا في حكومة الامام علي (عليه السلام)

6 - رعاية النصاری (اهل الذمة) ومتابعة احوالهم:

في كتاب تهذیب الأحكام عن محمّد بن أبي حمزة عن رجل بلغ به أمير المؤمنين (عليه السلام): مرّ شیخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني! قال: فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أستعملتموه، حتى إذا کبر وعجز منعتموه؟! أنفِقوا عليه من بيت المال (99).

7 - حماية الطبقات السفلي من المجتمع وذوي الاحتياجات الخاصة والامر

ص: 263

برعايتهم:

الإمام عليّ (عليه السلام) - من كتابه إلى قثم بن العبّاس -: انظر إلى ما اجتمع عندك من مال اللهَّ فاصرفْه إلى من قِبَلَك من ذوي العيال والمجاعة، مُصيباً به مواضع الفاقة والخَلّات(100)، وما فَضَل عن ذلك فاحملْه إلينا لنقسمه فيمن قِبَلَنا (101).

عنه (عليه السلام) - في عهده إلى مالك الأشتر -: ثمّ اللهَّ اللهَّ في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين وأهل البُؤْسي والزَّمْنی (102)؛ فإنّ في هذه الطبقة قانِعاً ومُعتَرّاً(103)، واحفظ للهَّ ما استحفظك من حقّه فيهم،. واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلّات صَوافي(106) الإسلام في كلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استُرعيتَ حقَّه، فلا يشغلنّك عنهم بطَر، فإنّك لا تعذَر بتضييعك التافِه لإحكامك الكثير المهمّ، فلا تُشخِصْ همّك عنهم، ولا تُصعِّرْ خدّك لهم.

وتفقَّدْ اُمور من لا يصل إليك منهم ممّن تَقتحمة العيون، وتَحْقره الرجال، ففرِّغْ لاُولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع. فليَرفعْ إليك اُمورهم، ثمّ اعمل فيهم بالإعذار إلى اللّهَّ يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكلٌّ فأعذِر إلى اللهَّ في تأدية حقّه إليه.

وتَعهَّدْ أهل اليُتم وذوي الرِّقّة (105) في السنّ ممّن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه. وذلك على الولاة ثقيل، والحقّ كلّه ثقيل (106).

عنه (عليه السلام) - في عهده إلى مالك الأشتر (في رواية تحف العقول) -: وتعهّد أهل اليُتم والزمانة والرقّة في السنّ ممّن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، فأجرِ لهم أرزاقاً، فإنّهم عباد اللهَّ، فتقرّب إلى اللهَّ بتخلّصهم ووضعهم

ص: 264

مواضعهم في أقواتهم وحقوقهم، فإنّ الأعمال تخلص بصدق النيّات. ثمّ إنّه لا تسكن نفوس الناس أو بعضهم إلى أنّك قد قضيت حقوقهم بظهر الغيب دون مشافهتك بالحاجات، وذلك على الولاة ثقيل، والحقّ كلّه ثقيل، وقد يخفّفه اللهَّ على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا نفوسهم، ووثقوا بصدق موعود اللهَّ لمن صبر واحتسب، فكن منهم واستعن باللهَّ(107).

عنه (عليه السلام) - في عهده إلى مالك الأشتر، وهو في بيان طبقات الناس -:

اعلمْ أنّ الرعيّة طبقات... ثمّ الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقّ رِفدهم ومعونتهم. وفي اللهَّ لكلٍّ سعة، ولكلٍّ على الوالي حقّ بقدر ما يُصلحه (108).

عنه (عليه السلام) - من كتابه إلى بعض عمّاله، وقد بعثه على الصدقة -: إنّ لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضاً، وحقّاً معلوماً، وشركاء أهل مسكنة، وضعفاء ذوي فاقة، وإنّا موفّوك حقّك، فوفِّهم حقوقهم، وإلّا تفعل فإنّك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبُؤسي لِمن خصمُه عند اللهَّ الفقراء والمساكين، والسائلون، والمدفوعون، والغارمون، وابن السبيل! (109)

دعائم الإسلام: إنّه [عليّاً (عليه السلام)] أوصى مِخْنَف بن سُليم الأزدي - وقد بعثه على الصدقة - بوصيّة طويلة أمره فيها بتقوى اللهَّ ربّه، في سرائر اُموره وخفيّات أعماله، وأن يلقاهم ببسط الوجه، ولين الجانب، وأمره أن يلزم التواضع، ويجتنب التكبّر؛ فإنّ اللهَّ يرفع المتواضعين ويضع المتكبّرين. ثمّ قال له: يا مِخنف ابن سُليم، إنّ لك في هذه الصدقة نصيباً وحقّاً مفروضاً، ولك فيه شركاء: فقراء، ومساكين، وغارمين، ومجاهدين، وأبناء سبيل، ومملوكين، ومتألَّفين، وإنّا موقّوك حقّك، فوقِّهم حقوقهم، وإلّا فإنّك من أكثر الناس يوم القيامة خُصَماء، وبؤساً لامرئٍ أن يكون خصمه مثل هؤلا!(110)

ص: 265

8 - العناية الخاصّة بالأيتام: الكافي عن حبيب بن أبي ثابت: جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عسل وتين من هَمدان (111) وحُلْوان (112)، فأمر العُرَفاء (113) أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الأزْقاق (11) يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحاً قدحاً، فقيل له: يا أمير المؤمنین، ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى، وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء(115) .

وفي ربيع الأبرار عن أبي الطفيل: رأيت عليّاً - كرّم اللهَّ وجهه - يدعو اليتامی فيطعمهم العسل، حتى قال بعض أصحابه: لوددت أنّي كنت يتيماً(116).

أنساب الأشراف عن الحكم: شهدت عليّاً واُتي بزِقاق من عسل، فدعا اليتامى وقال: دِبُّوا (117) والعقوا، حتى تمنّيت أنيّ يتيم، فقسمه بين الناس وبقي منه زِقّ (118)، فأمر أن يُسقاه أهل المسجد (119).

9 - متابعته الدقيقة للرعية لاتحطئ:

ناخذ من تلك المتابعات مثالين:

اولا - (نظر عليّ عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها فقالت: بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقُتل، وترك عليَّ صبياناً يتامى وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس. فانصرف وبات ليلته قلقاً. فلمّا أصبح حمل زِنْبِيلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك. فقال: مَن يحمل وِزري عنّي يوم القيامة! فأتي وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإنّ معي شيئاً للصبيان. فقالت: رضي اللهَّ عنك وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب! فدخل وقال: إنّي أحببت اکتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين (120)

ص: 266

وتخبزين، وبين أن تُعَلِّلين (121) الصبيان لأخبز أنا. فقالت: أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان؛ فعلِّلْهم حتى أفرغ من الخبز. فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليّ (عليه السلام) إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بنيَّ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلٍّ ممّا مرَّ في أمرك. فلمّا اختمر العجين قالت: يا عبداللهَّ، سجِّر التنّور. فبادر لسجره، فلمّا أشعله ولفَح في وجهه جعل يقول: ذُق يا عليّ! هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامی. فرأته امرأة تعرفه فقالت: ويحكِ! هذا أمير المؤمنين. قال: فبادرت المرأة وهي تقول: واحَياي منك يا أمير المؤمنين! فقال: بل واحَياي منكِ يا أمة اللهَّ فيما قصّرت في أمرك)(122)

ثانيا - (وروي أنّه [عليّاً (عليه السلام)] اجتاز ليلة على امرأة مسكينة لها أطفال صغار يبكون من الجوع، وهي تُشاغلهم وتلهيهم حتى يناموا، وكانت قد أشعلت ناراً تحت قدر فيها ماء لا غير، وأوهمتهم أنّ فيها طعاماً تطبخه لهم، فعرف أمير المؤمنين (عليه السلام) حالها، فمشي (عليه السلام) ومعه قنبر إلى منزله، فأخرج قَوْصَرَّة (123) تمر وجِراب (124) دقیق و شيئاً من الشحم والأرز والخبز، وحمله على كتفه الشريف، فطلب قنبر حمله فلم يفعل.

فلمّا وصل إلى باب المرأة استأذن عليها، فأذنت له في الدخول، فارمی شيئاً من الأرز في القدر ومعه شيء من الشحم، فلمّا فرغ من نضجه عرّفه للصغار وأمرهم بأكله، فلمّا شبعوا أخذ يطوف بالبيت ویُبَعْبِع لهم، فأخذوا في الضحك.

فلمّا خرج (عليه السلام) قال له قنبر: يا مولاي، رأيت الليلة شيئاً عجيباً قد علمت سبب بعضه وهو حملك للزاد طلباً للثواب، أمّا طوافك بالبيت على يديك ورجليك والبَعْبَعة فما أدري سبب ذلك!

ص: 267

فقال (عليه السلام): یا قنبر، إنّي دخلت على هؤلاء الأطفال وهم يبكون من شدّة الجوع، فأحببت أن أخرج عنهم وهم يضحكون مع الشبع، فلم أجد سبباً سوى ما فعلت (125).

10 - النهي عن الجود بأموال العامّة

الإمام عليّ (عليه السلام): جود الولاة بفيء المسلمين جور وخَتْر (126) (127).

عنه (عليه السلام) - من كلام له کلّم به عبداللهَّ بن زمعة، وهو من شیعته، وذلك أنّه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً -: إنّ هذا المال ليس لي ولا لك، وإنّما هو فيء للمسلمين وجَلْب أسيافهم؛ فإن شركتَهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، وإلّا فجَناةُ (128) أيديهم لا تكون لغير أفواههم (129).

هوامش البحث:

(1) طه / 123 - 125

(2) جاء في معاني الأخبار: 132 / 2 و132 / 1، ودراسات في الكافي للكليني والصحيح للبخاري - (ج 12 / ص 18): جاء عن الإمام زين العابدین (عليه السلام) انه قال: لا يكون الإمام منا إلا معصوما، وليست العصمة في ظاهر الحلقة فتعرف، قيل له فيا معنى المعصوم قال: المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة، فالإمام يهدي إلى القرآن والقرآن يهدي إلى الإمام،. (انظر ايضا: مجمع البحرین مادة عصم).

(3) أعلام الدين في صفات المؤمنین (12 / 12)، ومیزان الحكمة - محمدي الريشهري (1 / 91)، والبحار: 75 / 359 / 74.، شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد (ج 1: ص: 323).

(4) الإرشاد: 1 / 247، نهج البلاغة: الخطبة 33 نحوه، بحارالأنوار: 32 / 113 / 90.

(5) مشكاة الانوار (ص: 243)

(6) جامع الأخبار: او معارج اليقين في أصول الدّين تأليف الشيخ محمد بن محمد السبزواري تحقيق؛ علاء آل جعفر:: ج 1، ص: 21.

(7) غرر الحکم و درر الكلم (ص: 241)

ص: 268

(8) کما يروي البخاري ومسلم ان عمر بن الخطاب سمی اختیار ابا بكر للخلافة في السقيفة ( فلتة وقي الله الاسلام شرها) وصرح ان سيقتل من یيعود لمثلها

(9) السنن الكبرى للبيهقي (8 / 157)، ورواه صحیح مسلم (3 / 1475)، والجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم (1 / 164).

(11) هود: 113

(11) الأحزاب: 33]

(12) [الحديد: 20]

(13) البقرة - 124

(14) الأعراف: 159

(15) الأعراف: 181

(16) الأمالي للمفيد (ص: 3)، والبيان والتبيين: 3 / 211؛ نثر الدرّ: 1 / 273، تاريخ اليعقوبي: 2 / 210 نحوه، وراجع نهج البلاغة: الحكمة 262 وروضة الواعظين: 39.

(17) البقرة - 124

(18) الأنعام: 73

(19) العنكبوت: 44

(20) الإسراء - آية 16

(21) هود - 116

(22) الأنبياء: 11 - 13

(23) المؤمنون: 33 - 41

(24) سبأ - 34

(25) هود: 27

(26) المؤمنون: 24

(27) القصص: 78

(28) جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 102) في ترجمة الوليد هذا خليفة رسول الله!!! (وكان فاسقاً شريباً للخمر منتهكاً حرمات الله أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه وخرجوا عليه فقتل في جمادى الآخر سنة ست وعشرين. وفي كتاب العبر في خبر من غبر (ص: 29): (كان فاسقاً متهتكاً. زعم أخوه سليمان أنه راوده عن نفسه). وفي مرآة الجنان وعبرة اليقظان

ص: 269

في معرفة حوادث الزمان (1 / 122): ذكروا عنه أشياء قبيحة في الدين والعرض أكره ذکرها، وفي البدء و التاريخ (ص: 342): ولاية الوليد بن یزید بن عبد الملك ويقال له الخليع بن الفاسق وكان صاحب لعب ولهو.، وفي النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (1 / 116) يقول: الوليد بن یزید بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الهاشمي الأموي الدمشقي المعروف بالفاسق، تاريخ الإسلام للذهبي (2 / 463، بترقيم الشاملة آليا): (الوليد بن یزید بن عبد الملك بن مروان بن الحكم. الخليفة الفاسق أبو العباس الأموي الدمشقي لم يعرف عنه الكفر ولكنه كان يتلوط.

(29) الأعراف: 138

(30) الشعراء: 40

(31) القصص: 79

(32) الحج: 11

(33) فصلت: 50

(34) التوبة: 101

(35) الأنفال: 49

(36) التوبة: 67

(37) قال تعالى: لاينال عهدي الظالمين ( البقرة - 124).

(38) الاحتجاج للطبرسي: ج 1: ص: 134

(39) العلق - 6 - 7.

(40) قال رسول الله صلى الله عليه واله: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقي الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنکم کما لعنهم).

اخرجه؛ (أبو داود، والبيهقي عن ابن مسعود) وللحديث أطراف أخرى منها: ؉إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص ؉، ؉لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ؉. ومن غريب الحديث: ؉ولتأطرنه على الحق أطر أ ؉: أي لتردنه إلى الحق. ؉و لتقصرنه على الحق قصرًا ؉: أي لتحبسنه عليه وتلزمنه إياه (جامع الأحاديث (8 / 441)، وأخرجه أبو داود (4 / 121، رقم 4336)، والبيهقي (10 / 93، رقم

ص: 270

19983). أبي يعلى في مسنده ج 8 / ص 449 ح 5035، وأخرجه الطبرانی کما في مجمع الزوائد (7 / 269) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضًا: الشجرى في أماليه (2 / 230). ويقول جامع الأصول من أحاديث الرسول (أحاديث فقط) (1 / 109): ورواية الترمذي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما وَقَعَتْ بنو إسرائيل في المعاصي، نَهْتُهم علماؤهم، فلم ينتَهُوا، فجالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهِم، وآکَلُوهم وشَاربوهم، فضربَ اللهُ قُلُوبَ بعضهِم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعیسی بن مریم، ذلك بما عَصَوْا وكانوا يعتدون» فجَلسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مُتَّكئًا، فقال: «لا، والذي نفسي بيده، حتى تأطِروهم على الحق أطرًا». وفي المعجم الكبير (10 / 146) قال: تأطرونه تقهرونه).

ولذا فان التاطير الايديولوجي بدعة اتي بها الانقلابيون في السقيفة وكانت سبب الانحراف عن الاسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله مباشرة مع ان الرسول صلى الله عليه واله حذر من التأطير ومنعه منعا باتا کما مرّ توثيقه.

(41) الحديد: 25

(42) تصنيف نهج البلاغة: ج: 1، ص: 661، لبيب بیضون. وشرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد (236 / 4)، نهج البلاغه ؉خطبه (31 / 10) الخطبة التي خطبها عليه السلام بصفين.

(43) نهج البلاغة: الخطبة: 216. وايضا راجع الكافي: 8 / 352 / 550.

(44) الانبياء - 107.

(45) جاء في التفسير الوسيط للسيد محمد طنطاوي (ج: 1، ص: 1138) عن حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه في تفسيره حيث قال: حدثنا إبراهيم بن محمد. عن أبي إدريس الخولاني ؉عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: كم عدد الأنبياء؟ قال: ؉ مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قلت يا رسول الله. كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر.. ؉ ؉؉؉.

(46) المؤمنون - 44.

(47) الاحزاب - 33.

(48) البقرة - 124.

(49) نهج البلاغة: الخطبة رقم: 13، المناقب لابن شهر اشوب: 2 / 110، دعائم الإسلام: 1 / 396، شرح الأخبار: 1 / 373 / 319 کلاهما نحوه.

(50) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ (5 / 6)

(51) جامع الاصول ج 10 ص 409 وتراه في مشكاة المصابیح ص / 320. العَضوض: البِئْر البعيدة

ص: 271

القعر (المجلسي: 8 / 323).

(52) أخرجه الطيالسي (ص 289، رقم 2178)، وأحمد (3 / 84، رقم 11817)، والبخاري (3 / 1274، رقم 3269)، ومسلم (4 / 2054، رقم 2669)، وابن حبان (15 / 95، رقم 6703).

(53) المستدرك للحاكم 4 / 487 وصححه.

(54) المستدرك للحاكم، 4 / 479 وكنز العمال،6 / 39 واخرجه ابن عساکر کما روی صاحب الکنز

(55) الاصابه لابن حجر، 1 / 353 والسيوطي في الجامع الكبير 6 / 39، 1354، 91

(56) كنز العمال 6 / 91.

(57) الحائف؛ من الحيف، أي الجور والظلم. والدول: جمع دولة بالضم هي المال لانه يتداول أي ينتقل من يد ليد. والمراد من يحيف في قسم الاموال فيفضل قوما في العطاء على قوم بلا موجب للتفضيل.

(58) المقاطع: تعني الحدود التي اقرها الدين. محمد عبده؛ نهج البلاغة: ج 2: ص: 14

(59) نهج البلاغة، محمد عبده، ج 1 ص: 80

(60) نهج البلاغة، محمد عبده، ج 1: ص: 80

(61) الادغال في الامر: إدخال ما يفسده فيه.

(62) نهج البلاغة: الخطبة 216 وراجع الكافي: 8 / 352 / 550.

(63) محمد عبده؛ نهج البلاغة: ج 2: ص: 200

(64) محمد عبده؛ نهج البلاغة: ج 2: ص: 200

(65) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 2 / ص: 189 / ح: 2108.

(66) النساء - 58.

(67) غرر الحكم: 9714، عيون الحكم والمواعظ : 486 / 8960.

(68) الممتحنة - 4

(69) الشعراء: 75 - 77

(70) التوبة: 114

(71) البقرة - 124.

(72) نهج البلاغه ؉ ج: 2: خطبة 151

(73) آل عمران - 179

(74) هود - 113.

ص: 272

(75) غرر الحكم: 8966، عيون الحكم والمواعظ: 428 / 7261.

(76) الكِظّة: ما يعتري الممتلئ من الطعام (النهاية: 4 / 177).

(77) نهج البلاغة: الخطبة 3، معاني الأخبار: 362 / 1، الإرشاد: 1 / 289 نحوه وفيهما «حضور الناصر»ف بدل «حضور الحاضر»، علل الشرائع: 151 / 12، الاحتجاج: 1 / 458 / 105 وفيه «أولياء الأمر» بدل «العلماء» وفيها «يقرّوا» بدل «يقارّوا» وكلّها عن ابن عبّاس، المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 205.

(78) نهج البلاغة: الخطبة 136، بحارالأنوار: 32 / 49 / 33.

(79) نهج البلاغة: الخطبة 37، بحارالأنوار: 39 / 351 / 25.

(80) تحف العقول: 135.

(81) أمالي الطوسی ج 1 / 382، حلية الأبرار (2 / 233)، معاني الاخبار: 360 ح 1. نهج البلاغة: الخطبة 3، علل الشرائع: 150 / 12، الإرشاد: 1 / 287، الأمالي للطوسي: 372 / 803 كلّها عن ابن عبّاس، الجمل: 171 وليس فيه من «فسدلت» إلى «أحجی».

(82) نهج البلاغة: الكتاب 45؛ ربيع الأبرار: 2 / 719 نحوه وفيه إلى «وتلهو عمّا يراد بها» وراجع المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 101.

(83) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (33 / 474). و (نهج السعادة - الشيخ المحمودي (5 / 23). نهج البلاغة: الكتاب 45. شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد (ج: 20).

(84) نفس المصدر السابق: وأن مراده (عليه السلام) من الشخص المعكوس، والجسم المركوس هو معاوية، لانه كان معهودا بعدم المبالات بالشريعة. والمدرة - كالشجرة -: قطعة الطين اليابس. والحصيد: المحصود.

(85) جاء في كتاب كلمات الإمام الحسين (ع) - الشيخ الشريفي - (ج 2 / ص 80): ( أن عليا عليه السلام كان معتكفا في مسجد الكوفة جاء أعرابي وقت إفطاره، فأخرج على من جراب سويق شعير فأعطاه منه شيئا فلم يأكله الاعرابي، فعقده في طرف عمامته، فجاء إلى دار الحسنين (عليهما السلام) فأكل معهما فقال لهما: رأيت شيخا غريبا في المسجد لا يجد غير هذا السويق فترحمت عليه فاحمل من هذا الطعام إليه ليأكله، فبکیا وقالا: (انه أبونا أمير المؤمنين على يجاهد نفسه بهذه الرياضة). (انظر ايضا: ينابيع المودة: 174).

(86) حلية الأبرار - (ج 2 / ص 143).

(87) جاء في كتاب: الامام علي - (ج 1 / ص 67): وأبى أن يدخل قصر الإمارة بل اختار بیت

ص: 273

جعدة بن أبي هبيرة المخزومي، وكان ابن أخته أم هاني، وقال عن قصر الإمارة: إنه قصر خبال لا تُنزلونيه.

(88) السَّمير: الدهر، أي لا أفعله ما بقي الدهر (النهاية: 2 / 400).

(89) نهج البلاغة: الخطبة 126، تحف العقول: 185 وفيه «أموالهم» بدل «مال اللهَّ».

(90) نهج البلاغة: الخطبة 224، عيون الحكم والمواعظ: 506 / 9285، الصراط المستقیم: 1 / 163؛ ينابيع المودة: 1 / 442 / 6 وفيه إلى «الحطام» وراجع الأمالي للصدوق: 719 / 988.

(91) نهج البلاغة: الخطبة 224، الصراط المستقیم: 1 / 163؛ ينابيع المودّة: 1 / 442 / 6 وراجع الأمالي للصدوق: 722 / 988.

(92) يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في وصف دهاء معاوية السياسي: «تلك النكراء! تلك الشيطنة! وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل» (الكافي: 1 / 11 / 3).

(93) الشوری: 23.

(96) تاریخ دمشق: 42 / 65 / 8412 وص 66، شواهد التنزيل: 1 / 554 / 588، كفاية الطالب: 317؛ مجمع البيان: 9 / 43 وزاد فيه «حتی یصیر کالشنّ البالي» بعد «ثمّ ألف عام» وكلّها نحوه.

(95) تاريخ الطبري: 4 / 434، الكامل في التاريخ: 2 / 304، نهاية الأرب: 20 / 13 وفيهما «بين القرى» بدل «ذوي القربی»؛ الجمل: 129 عن سيف عن رجاله نحوه.

(96) نهج البلاغة: الخطبة 92، المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 110 وفيه إلى «وعتب العاتب».

(97) نهج البلاغة: الكتاب رقم 45، والعائل هو: الفقير. ووسائل الشيعة 18: 116.

(98) علي (عليه السلام) من المهد إلى اللحد (16 / 9).

(99) تهذیب الأحکام: 6 / 293 / 811.

(100) جَمْع خَلَّة: الحاجة والفَقْر (انظر النهاية: 2 / 72).

(101) نهج البلاغة: الكتاب 67، بحارالأنوار: 33 / 497 / 702.

(102) جَمْع زَمِين. ورجلٌ زَمِنٌ وزَمِينٌ: أي مُبْتَلى بَيِّنُ الزَّمانَة. والزَّمانة: العاهَة (انظر: لسان العرب: 13 / 199).

و (103) المُعْتَرّ: هو الذي يتعرّض للسؤال من غير طلب (النهاية: 3 / 205).

(104) الصَّوافي: الأملاك والأرض التي جَلا عنها أهلُها أو ماتوا ولا وارث لها، واحدتها صافِية (لسان العرب: 14 / 463).

(105) يقال: رقّت عظام فلان إذا كبر وأسنَّ (لسان العرب: 10 / 122).

ص: 274

(106) نهج البلاغة: الكتاب 53 وراجع دعائم الإسلام: 1 / 366.

(107) تحف العقول: 141.

(108) نهج البلاغة: الكتاب 53، تحف العقول: 132 وفيه «في في ء اللهَّ» بدل «في اللهَّ» وراجع دعائم الإسلام: 3571.

(109) نهج البلاغة: الكتاب 26.

(110) دعائم الإسلام: 1 / 252، بحارالأنوار: 96 / 85 / 7.

(111) هَمَدان: مدينة تقع في غرب إيران، وهي مركز محافظة همدان، قريبة من مدينة كرمانشاه.

(112) حُلْوان: مدينة قديمة في العراق العجمي (إيران) فتحها العرب 640 م. أحرقها السلجوقيّون 1046 م. وأكمل الزلزال هدمها 1149 م (المنجد في الأعلام: 257).

(113) جَمْع عَرِيف: وهو القيِّم باُمور القبيلة أو الجماعة من الناس يَلي اُمورَهم ويتعرّف الأميرُ منه أحوالهم (النهاية: 2183).

(114) الزِّقّ: السِّقاء يُنْقَل فيه الماءُ، أو جِلدٌ يُجَزّ شَعْرهُ ولا يُنْتَف نَتْفَ الأدِيم. وقيل: الزِّقّ من الاُهُب: كلّ وعاءِ اتُّخِذ للشراب وغيره. والجمع أزْقاق وزِقاق وزُقّان (تاج العروس: 13 / 196).

(115) الكافي: 1 / 406 / 5، بحارالأنوار: 41 / 123 / 30.

(116) ربيع الأبرار: 2 / 148، المعيار والموازنة: 251 نحوه؛ المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 75.

(117) الدبيب: حركة على الأرض أخفّ من المشي (معجم مقاييس اللغة: 2 / 263).

(118) في المصدر: «زقّاً»، وهو تصحيف.

(119) أنساب الأشراف: 2 / 373.

(120) كذا في المصدر وبحارالأنوار، ومقتضى القواعد النحوية المعمول بها اليوم أن يقال: «أن تعجنى وتخبزى... وتعلّلي»؛ لمكان «أنْ» الناصبة للفعل المضارع. لكن ذكر صاحب النحو الوافي أنّ بعض القبائل العربيّة يهملها، فلا ينصب بها المضارع برغم استيفائها شروط نصْبه؛ كقراءة من قرأ قوله تعالى: (وَالْوَلِدَتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) برفع المضارع «يتمُّ» على اعتبار «أنْ» مصدريّة مهملة. والأنسب اليوم ترك هذه اللغة لأهلها، والاقتصار على الإعمال؛ حرصاً على الإبانة، وبُعداً عن الإلباس (النحو الوافي: 4 / 267).

(121) عَلَّلَهُ بطعامٍ وحديثٍ ونحوهما: شَغَلَهُ بهما (لسان العرب: 11 / 469).

(122) المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 115، بحارالأنوار: 41 / 52. راجع : القسم العاشر / الخصائص العمليّة / إمام المستضعفين.

ص: 275

(123) هي وعاءٌ من قَصَب يُعمَل للتمر، ويُشَدَّد ويُخفَّف (لسان العرب: 4 / 121).

(124) هو وِعاءٌ من إهاب [: جلد] الشاء لا يُوعَي فيه إلّا يابس (لسان العرب: 1 / 261).

(125) کشف الیقین: 136 / 129.

(126) اثر: الغدر (النهاية: 2 / 9).

(127) غرر الحكم: 4725.

(128) جَنَى الثَمَرةَ ونحوها وتَجَناّها: تناولها من شجرتها. والجَنَي: ما يُجْنَي من الشجر، واحدته جَناة، وقيل الجَناةُ كالجَنَي (لسان العرب: 14 / 155).

(129) نهج البلاغة: الخطبة 232، المناقب لابن شهر آشوب: 2 / 110، غرر الحكم: 3702 نحوه.

ص: 276

المصادر والمراجع

1 - القران الكريم.

2 - الشريف الرضي؛ نهج البلاغة، لأمير المؤمنين بشرح محمد عبده، (4 أجزاء).

3 - البحراني، السيد هاشم؛ (مدينة معاجز الائمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر، مؤسسه المعارف الاسلامية، طبع حجري إيران 1290 ه.

4 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال)، تحقیق علي اکبر الغفاري، مكتبة الصدوق - طهران.

5 - ابن ابي شيبة؛ أبي بكر عبد الله بن محمد العبسي، (المصنف في الاحاديث والاخبار)، ط. دار الفکر، بیروت لبنان.

6 - ابن شهر اشوب؛ ابو جعفر محمد بن علي السروي المازندراني؛ (مناقب ال ابي طالب)، دار الاضواء، الطبعة الثانية، بيروت - 1991 م - 1412 ه.

7 - الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (التوحيد) تحقيق هاشم الحسيني الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي - قم - ط 1 (1398 ه).

8 - المالكي؛ المكي المشهور بابن الصباغ بن محمد بن احمد (الفصول المهمة في معرفة احوال الأئمة)، ط 2، طبع دار الاضواء بيروت - 1988 م.

9 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (أمالي الصدوق)، مؤسسة الأعلمي - بيروت، ط 5، (1400 ه)

10 - ابن الأثير؛ أبو الحسن عز الدين علي بن أبي الكرم الجزري (أسد الغابة في معرفة الصحابة) تحقیق على محمد معوض وعادل احمد، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى (1415 ه).

11 - الصادق؛ جعفر بن محمد (شرح مصباح الشريعة، المنسوب إلى الإمام الصادق) تحقیق حسن المصطفوي، دار القلم - طهران، ط 1 (1363 ه).

12 - ابن الأثير الجزري؛ أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، ( الكامل في التاريخ)، طبع مصر 1303 ه.

ص: 277

13 - التميمي، عبد الواحد لامدي (غرر الحكم ودرر الكلم) تحقيق، مير سيد جلال الدين محدث الأرجوي - جامعة طهران، ط 3 (1360 ه).

14 - الكنجي؛ الشافعي، (كفاية الطلب)، ط 3. دار احياء تراث اهل البيت عليه السلام).

15 - الشهيد الثاني؛ زين الدين بن علي بن احمد الجيعي العاملي (مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد)، تحقيق نشرن مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم، ط 3، (1412 ه).

16 - الهيثمي؛ علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي نور الدين، (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) (ط. دار الفكر - بيروت).

17 - الشجري؛ الجرجاني، (يحيى (المرشد بالله) بن الحسين (الموفق) بن إسماعيل بن زید الحسني) ترتيب الأمالي الخميسية، تحقيق: محمد حسن إسماعيل، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - 1422 ه - 2001 م.

18 - الطوسي؛ أبو جعفر محمد بن الحسن (أمالي الطوسي) تحقيق مؤسسو البعثة، دار الثقافة - قم، ط 1 (1414 ه).

19 - الهيثمي؛ أحمد بن حجر المكي (الصواعق المحرقة في الرد على اهل البدع والزندقة) مكتبة الحقيقة، استنبول - 1424 ه / 2003 م.

20 - الشهيد الأول، أبو عبد الله محمد بن مكي العاملي الجزيني (الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة) تحقيق داود الصابري مشهد ط 1، (1365 ه).

21 - الشامي، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (الترغيب والترهيب من الحديث الشريف) تحقيق مصطفى محمد عمارة، دار إحياء التراث - بيروت، ط 3، (1388 ه).

22 - الشافعي، كمال الدين محمد بن طلحة، (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) النسخة المخطوطة في مكتبة آية الله المرعشي - قم المقدسة.

23 - الطوسي؛ ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي (اختيار معرفة الرجال) المعروف ب رجال الكشي تحقيق: جواد القيومي الاصفهاني مؤسسة النشر الاسلامي التابعة

ص: 278

لجماعة المدرسین بقم المشرفة الطبعة: الاولى 1427

24 - ابن کثیر الدمشقي؛ اسماعیل بن عمر القرشي، (البداية والنهاية)، ط. دار عالم الكتب، بیروت - 1424 ه - 2003 م.

25 - الطبرسي؛ أبو علي الفضل (مشكاة الأنوار في غرر الأخيار)، دار الكتب الإسلامية - طهران ط 1 (1385 ه).

26 - الشريف الرضي، أبو الحسن محمد أبو الحسين بن موسى الموسوي (نهج البلاغة) تحقيق كاظم المحمدي ومحمد الدمشقي - انتشارات الإمام علي (عليه السلام) - قم، الطبعة الثانية (1369 ه).

27 - الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي (المجازات النبوية) تحقيق طه محمد الزيني - مكتبة بصيرتي - قم.

28 - السيوطي؛ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (الدر المنثور في التفسير المأثور)، دار الفكر - بيروت ط 1 / (1414 ه).

29 - السبزواري؛ محمد بن محمد الشعيري (جامع الأخبار) أو معارج اليقين في أصول الدين، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم ط 1 (1413 ه).

30 - البيهقي؛ أبو بکر احمد بن الحسين بن علي (السنن الكبرى) تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 (1414 ه).

31 - زین العابدین، علي بن الحسين (عليه السلام) (الصحيفة السجادية)، تحقيق علي أنصاريان، المستشارية الثقافية - دمشق.

32 - الرضا؛ علي بن موسی (علیه السلام)، (فقه الرضا، المنسوب إلى الإمام الرضا (عليه السلام))، تحقيق مؤسسة أهل البيت (عليه السلام) المؤتمر العالمي للإمام الرضا (عليه السلام) - مشهد ط 1، (1406 ه).

33 - الجويني الخرساني؛ إبراهيم بن محمد (ت 730)، ( فرائد السّمطين)، بیروت ۔ مؤسسة المحمودي، الطبعة الاولى - 1398 ه.

34 - الرضا؛ علي بن موسی (علیه السلام) (صحيفة الإمام الرضا (عليه السلام)) تحقیق ونشر مؤسسة الإمام المهدي (عج) - قم - ط 1 / (1408 ه).

ص: 279

35 - الطبرسي؛ أبو علي الفضل بن الحسن (مجمع البيان في تفسير القرآن)، تحقيق هاشم ألرسولي ألمحلاتي، وفضل الله اليزدي الطبطبائي، دار المعرفة - بيروت، ط 2، (1408 ه).

36 - الراوندي؛ قطب الدين، أبو الحسين عيد بن عبد الله (قصص الأنبياء) تحقيق غلام رضا عرفانیان - مشهد، (1309 ه).

37 - الراوندي؛ قطب الدين أبو الحسين سعيد بن عبد الله (الدعوات)، تحقيق ونشر مؤسسة المهدي (عج) ط 1 (1407 ه).

38 - الراوندي، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن عبد الله (الخرائج والجرائح) تحقيق ونشر، مؤسسة الإمام المهدي (عج) - قم ط 1 (1409 ه).

39 - الراوندي، فضل الله بن علي الحسيني (نوادر الرواندي)، المطبعة الحيدرية - النجف الأشرف، ط 1، (1370 ه).

40 - الثعلبي؛ أحمد أبو إسحاق الثعلبي، (الكشف والبيان (تفسير الثعلبي))، دار إحياء التراث العربي سنة النشر: ه 1422 - 2002 م.

41 - الديلمي، أبو محمد الحسن بن أبي الحسن (أعلام الدين في صفات المؤمنين) تحقیق ونشر، مؤسسة ل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم) - قم ط 2 (1414 ه)

42 - الصدوق؛ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن بن بابويه القمي (إكمال الدين وتمام النعمة)، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط 1 (1405 ه).

43 - الديلمي؛ أبو محمد أبي الحسن بن أبي الحسن (إرشاد القلوب)، مؤسسة الأعلمي - بیروت، الطبعة 4، (1398 ه).

44 - ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن یزید القزويني، (سنن ابن ماجة) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث - بيروت، ط 1 (1414 ه).

45 - الحويزي، عبد علي بن جمعة العروسي، (تفسیر نور الثقلين) تحقيق السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المطبعة العلمية، قم.

46 - الحلي؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إدريس (النوادر مستطرفات السرائر)، تحقيق

ص: 280

نشر، مؤسسة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) - قم ط 1 (1408 ه).

47 - الحلي؛ أبو جعفر محمد بن منصور بن احمد بن إدريس (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي) تحقيق نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط 2 (1410 ه).

48 - الطبرسي؛ أبو علي الفضل بن الحسن (أعلام الوری بأعلام الهدی) تحقیق علي أكبر الغفاري، دار المعرفة - بيروت، ط 1 (1399 ه).

49 - الطريحي؛ فخر الدين (مجمع البحرین) تحقیق احمد الحسيني، مكتبة نشر الثقافة الإسلامية - طهران، ط 2، (1408 ه).

50 - الحسيني، محمد بن الحسن (المواعظ العددية) تحرير الميرزا علي المشكيني الأردبيلي، دار الهادي - قم، ط 1، (1406 ه).

51 - ابن قتيبة؛ أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري، (عيون الأخبار)، ط. دار الكتب المصرية، (تصویر: دار الكتاب العربي) سنة النشر - 1343 ه.

52 - البحراني، السيد هاشم، (حلية الأبرار في أحوال محمد وآله الأطهار علیهم السلام)، طبع إيران سنة 1356 ه.

53 - البيهقي؛ أبو بكر احمد بن الحسين (شعب الإيمان) تحقيق أبو هاجر محمد العبد ابن بسيني زغلول، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 (1410 ه).

54 - البيهقي؛ أبو بکر احمد بن الحسين بن علي (السنن الكبرى) تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1 (1414 ه).

55- النسائي؛ ابو عبد الرحمن احمد بن شعيب، (خصائص امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه) طُبع بمطبعة التقدّم بجوار القطب الدردير - بمصر - سنة 1319 ه. الناشر في إيران؛ (منشورات مكتبة الصدر - طهران ( أُوفسيت)).

56 - البرقي، أبو جعفر احمد بن محمد بن خالد (المحاسن) تحقيق مهدي الرجائي، المجمع أبو بكر أحمد بن علي (تاریخ بغداد مدينة السلام) المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

57 - الانطاكي؛ محمد مرعي امين، (لماذا اخترت مذهب اهل البيت عليهم السلام)، ط، مؤسسة تحقيقات ونشر معارف اهل البيت عليهم السلام، ایران.

ص: 281

58 - أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح (تاريخ اليعقوبي) دار صادر - بيروت - ب. ت.

59 - الخوارزمي؛ الموفق بن احمد بن محمد المكي ( المناقب) تحقیق: مالك المحمودي الناشر: مؤسسة النشر الاسلامية الطبعة: الثانية، قم المقدسة - 1411 ه.

60 - أبو حنيفة، النعمان بن محمد بن منصور بن احمد بن حيون التميمي المغربي (دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام القضايا والأحكام) دار المعارف - مصر، ط 2، (1389 ه).

61 - ابن هلال الثقفي، أبو إسحاق إبراهيم بن محمد (الغارات) تحقيق جلال الدين المحدث - طهران ط 1 (1395).

62 - ابن همام، أبو علي محمد بن همام الإسكافي (التمحيص) تحقيق نشر مدرسة الإمام المهدي (عج) - قم، ط 1 (1404 ه).

63 - ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري (سيرة ابن هشام (السيرة النبوية))، تحقيق مصطفی سقا إبراهيم الأنباري، مكتبة المصطفى - قم، ط 1 (1355 ه).

64 - ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم (لسان العرب) دار صادر - بيروت - ط 1 (1410 ه).

65 - ابن کثیر، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر البصري الدمشقي (نهاية البداية والنهاية في الفتن والملاحم) تحقيق الشيخ محمد فهيم أبو عبيه، مكتب النصر الحديث، الرياض، ط 1 (1968 م).

66 - السيوطي؛ ابو الفضل جلال الدين عبد الرحمن ابن ابي بكر، (الخصائص الکبری)، نشر وتوزيع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ۔ 1405 ه - 1985 م.

67 - ابن المغازلي؛ علي بن محمد بن الطيب بن ابي يعلى، (مناقب امير المؤمنين علي بن ابي طالب)، طبع دار مكتبة الحياة بيروت لبنان.

68 - ابن عساكر الدمشقي، علي بن الحسين بن هبة الله (تاريخ مدينة دمشق)، تحقيق محمد باقر المحمودي، دار التعارف - بيروت ط 1 (1395 ه).

ص: 282

69 - ابن الرازي؛ أبو محمد جعفر بن احمد بن علي القمي (جامع الأحاديث) تحقيق السيد محمد الحسيني النيسابوري، الحضرة الرضوية المقدسة - مشهد، ط 1 (1413 ه).

70 - ابن الجوزي؛ يوسف بن قزغلي سبط الحنفي (تذكرة خواص الامة بذكر خصائص الأئمة)، طبع النجف الأشرف 1369 ه.

71- الطرابلسي؛ أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجکي (کنز الفوائد) إعداد عبد الله نعمة، دار الذخائر - قم ط 1، (1410 ه).

72 - ابن طاووس، أبو القاسم علي بن موسى الحلي (الملاحم والفتن)، مؤسسة الأعلمي - بیروت، ط 1، (1408 ه).

73- ابن طاووس الحسيني، أبو القاسم رضي الدين علي (کشف المحجة لثمرة المهجة) تحقيق محمد الحوت - مكتبة الإعلام الإسلامي - قم - ط 1 (1412 ه).

74 - ابن طاووس، أبو القاسم علي بن موسی الحلي (فتح الأبواب) تحقیق حامد الخفاف مؤسسة أهل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم) - قم، ط 1 (1409 ه).

75 - ابن طاووس؛ أبو القاسم علي بن موسی الحلي (سعد السعود)، مكتبة الرضي - قم، ط 1 (1363 ه).

76 - البغدادي؛ الحافظ ابو بکر، (تاریخ بغداد)؛ (ط. دار الكتب العلمية بيروت).

77 - ابن طاووس؛ أبو القاسم علي بن موسى الحلي (الدروع الواقية) تحقيق نشر مؤسسة آل البيت (صلى الله عليه وآله وسلم) - قم ط 1 (1414 ه)

78 - الخلوتي؛ الجراحي المردي حسام الدين، (آل محمد) نسخة من مكتبة السيد الاشكوري بقم. (آل محمّد کتاب جمع فيه المؤلف (2337) حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وفي آله عليهم السلام، وهناك نسخة مصوّرة عن نسخة الأصل بخط المؤلّف، وهو كتاب كبير. طبعته مكتبة المفيد في بيروت سنة 1415).

79 - ابن طاووس؛ أبو القاسم علي بن موسى الحلي (إقبال الأعمال)، مكتب الاعلام الاسلامي، ط 1، قم المشرفة - 1414 ه.

80 - الاهوازي؛ أبو محمد الحسين بن سعيد الكوفي (الزهد)، تحقيق غلام رضا عرفانیان

ص: 283

- قم، ط 2 (1402 ه).

81 - الشافعي؛ المقدسي شهاب الدين ابو محمد عبد الرحمن بن اسماعیل بن ابراهیم، (عقد الدرر في اخبار المنتظر)، ط 1. انتشارات مسجد جمکران، قم المقدسة، ایران.

82 - الأصبهاني؛ أبو نعيم، أحمد بن عبد الله (الأولياء وطبقات الأصفياء) دار الكتاب العربي، ط 2 ، بيروت - 1387 ه.

83 - الطباطبائي؛ محمد حسين (الميزان في تفسير القرآن) إسماعیلیان - قم - ط 2 (1393 ه).

84 - ابن أبي الحديد؛ عز الدين عبد الحميد بن محمد المعتزلي (شرح نهج البلاغة) تحقيق؛ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث - بيروت - ط 2 (1387 ه).

85 - مسلم، أبو الحسين مسلم الحجاج التستري النيسابوري (صحیح مسلم) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث - القاهرة ط 1، (1412 ه).

86- ابن شعبة؛ أبو محمد الحسن بن علي الحراني (تحف العقول عن آل الرسول)، تحقيق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، ط 2 (1404 ه).

87 - ابن فرخ؛ أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار القمي، (بصائر الدرجات)، مكتبة آية الله المرعشي - قم، ط 1 / (1404 ه).

ص: 284

محور القضايا المعاصرة

ص: 285

ص: 286

أسس التنمية البشرية في المنظور الاسلامي فكر الإمام علي (علیه السلام) انموذجا

اشاره

م. مناف مرزة نعمة أ. م. د. نزار كاظم صباح كلية الادارة والاقتصاد - جامعة القادسية

ص: 287

ص: 288

المقدمة:

في ضوء ما تواجهه الأمة الإسلامية اليوم من تحديات كثيرة ألقت بظلالها ليس على وجود امتنا الاسلامية فقط لابل حتى على مستقبلها نعيد إلى الأذهان قضية بالغة الأهمية وهي (اسس التنمية البشرية) ببعديها النظري والعملي لما لهذه التنمية من أثر في المحافظة على حقوق الانسان واصبح اليوم تحقيق التنمية البشرية من المتطلبات التي ينبغي الاستجابة له،، اذ يزخر الدين الاسلامي بتراث ضخم جدا يمكنه من بناء اساس قوي ومتين للتنمية البشرية والمحافظة على حقوق الانسان وكون الامام علي عليه السلام هو باب علم الرسول الاكرم (صل الله عليه واله) فقد كان فكر الإمام (عليه السلام) نموذجا فذا في الحفاظ وتعزيز مؤشرات التنمية البشرية.

مشكلة الدراسة:

على الرغم من أن الدين الاسلامي يحتوي على ارث ضخم من المبادئ والأسس التي يمكن أن تجعل من المجتمعات الاسلامية مثالا للتقدم والرقي إلى انه نلاحظ المجتمعات الاسلامية في تراجع كبير في مؤشرات التنمية البشرية والحفاظ على مبادئ وحقوق الانسان من هنا تحديدا حددت مشكلة البحث.

فرضية الدراسة:

تنطلق الدراسة من فرضية مفادها أن الفكر الاسلامي وفكر الامام علي کنموذج يزخر في العديد من الأسس التي يمكن لها أن تكون ذات اثر ايجابي في تعزيز مؤشرات التنمية البشرية.

ص: 289

اهداف الدراسة:

تسعى الدراسة إلى الوصول الى جملة من الاهداف منها الاطلاع على مؤشرات التنمية البشرية ومفهومها ومعرفة الجذور التاريخية لمفهوم التنمية البشرية فضلا عن معرفة العلاقة بين مؤشرات التنمية البشرية وحقوق الانسان فضلا عن معرفة مدى اهمية مؤشرات التنمية البشرية في المنهج الاسلامي والوقوف على فكر الامام علي (عليه السلام) وكيفية الحفاظ على مؤشرات التنمية البشرية وتعزيزها

هيكلية الدراسة:

لتحقيق اهداف الدراسة والتحقق من فرضيتها قسم البحث إلى ثلاث مباحث تناول الأول منها الاطار النظري والمفاهيمي للتنمية البشرية فيما اختص المبحث الثاني في تسليط الضوء على مؤشرات التنمية البشرية في المنظور الاسلامي وتناول المبحث الثالث اسس التنمية البشرية في فكر الامام علي (عليه السلام)

ص: 290

المبحث الاول: التنمية البشرية الاطار النظري والمفاهيمي

اولا: الجذور التاريخية لمفهوم التنمية البشرية:

ينبغي علينا وقبل تناول مفهوم التنمية البشرية ان نتعرف على مفهوم التنمیة الاقتصادية إذ يعد مفهوم التنمية الاقتصادية من الموضوعات المهمة التي شغلت تفكير الكثير من الاقتصاديين سواء في البلدان التي بلغت اقتصاداتها درجة عالية من التقدم، او التي لاتزال حديثة النمو على اعتبار ان التنمية الاقتصادية عملية معقدة تنطوي عادة على اقامة انشطة اقتصادية جديدة فضلا عن تطوير القطاعات الانتاجية وتوظيف الانشطة القديمة بطرق مختلفة جذرياً وقد اختلف الكتاب والاقتصاديون في تعريف التنمية الاقتصادية حيث يرى الاقتصادي المعاصر (kind Leberger) هي الزيادة التي تطرأ على الناتج القومي في فترة زمنية معينة مع ضرورة توافر تغيرات تكنولوجية وفنية وتنظيمية في المؤسسات الانتاجية القائمة، او تلك التي ينتظر انشاؤها كما يعد البعض التنمية الاقتصادیة هي احداث تغيرات تدريجية في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير فرص العمل، وتحسين نوعية الحياة من اجل تعزیز الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.(1))

ومع تطور مفهوم التنمية الاقتصادية برز مفهوم التنمية البشرية كمفهوم واسع وشامل يغطي جميع الخيارات في جميع المجتمعات البشرية وفي جميع مراحل التنمية واصبح هذا المفهوم يوسع حوار التنمية من مجرد مناقشة الوسائل (نمو الناتج المحلي الإجمالي) لمناقشة الغايات النهائية كما يتعلق بتولید النمو الاقتصادي الحال بالنسبة لتوزيعه، كما يُعنى بالاحتياجات الأساسية كما هو الحال مع

ص: 291

طائفة شاملة من تطلعات البشر، مثل التخلص من الحرمان البشري. حيث ان مفهوم التنمية البشرية ينسج التنمية حول الناس وليس الناس حول التنمية(2).

وتشير الأدبيات التنموية بأن المفهوم التنمية البشرية قد مر بمرحلتين، الأولى تمثلت بالمدة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع التسعينيات، كان مفهوم التنمية في هذه المرحلة مقتصراً على ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات، فكلما استطاع الحصول على المزيد من تلك السلع والخدمات، كلما ارتفع مستواه، ومن ثم زادت رفاهيته، كما ركزت على معالجة الفقر والبطالة وسد الحاجات الأساسية جاعلة الإنسان وسيله لها.

والمرحلة الثانية امتدت من تسعينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحاضر بعدما تبنی برنامج الأمم المتحدة (UNDP) ووكالاتها الدولية المتخصصة مفهوماً جديداً للتنمية الذي اعاد للإنسان مكانته الطبيعية في الجهد التنموي، واصبح الإنسان هو صانع التنمية وهدفها، وان قدرات أي أمة تكمن بما تملكه من طاقات بشرية مؤهلة ومدربة وقادرة على التكيف والتعامل مع أي جديد بكفاءة وفاعلية، لان البشر هم الثروة الحقيقية للأمة(3).

ثانيا: مؤشرات التنمية البشرية

اعتمد برنامج الامم المتحدة الانمائي ثلاث مؤشرات لقياس التنمية البشرية هي:

الدخل: ان احد عناصر المؤشرات الأساسية في التنمية البشرية هو معرفة نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي والذي يعبر عن مؤشر الدخل فانخفاض مستوى دخل الفرد يجعل الفرد أقل من المستوى المعاشي والاستهلاكي

ص: 292

مما يقلل من رفاهية الفرد، اما زيادة دخل الفرد الحقيقي، يعني تطور مستوى المعيشة الذي يرتبط بزيادة الاستهلاك من السلع والخدمات ومن ثم يؤدي الى زيادة رفاهيته.

التعليم: هناك عدة مؤشرات لقياس بعد التعليم المعبر عن التنمية البشرية، منها وصول الطلبة الى مرحلة الخامسة ومعدل الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الشباب، فهذان هما المؤشران المستخدمان في قياس التقدم المحرز نحو هدف تحقيق تعميم التعليم الابتدائي(4).

الا ان هذين المؤشرين غير كافيين للوقوف على المستوى التعليمي للبلد، لذا لابد من استخدام مؤشرات تكميلية أخرى كمعدلات الالتحاق بالتعليم على جميع المستويات ومعرفة مستوى الأمية.

الصحة: يقاس البعد الصحي بمؤشرات عديدة اهمها قياس توقع الحياة عند الولادة أو معدل وفيات الرضع ووفيات الأطفال دون سن الخامسة من العمر أو معدل وفيات الأطفال

أدخل تقرير التنمية البشرية لعام 2010 تعديلات جديدة على دليل التنمية البشرية مع الحرص على ألا تمس هذه التعديلات بما يتميز به من بساطة ووضوح. حيث يبقى دليل التنمية البشرية مقياسا للتقدم في الأبعاد الثلاثة ولكن التغيير الذي أدخل عليه ذلك العام يتعلق بالمؤشرات المستخدمة لقياس التعليم والدخل وبطريقة تجميعها ولقياس بُعد التعليم حل متوسط سنوات الدراسة محل الالمام بالقراءة والكتابة. ويُقاس المعدل الاجمالي للالتحاق بالمدارس على أساس السنوات المتوقعة في الدراسة أي مجموع السنوات التي يتوقع أن يقضيها طفل في المدرسة على أساس معدلات الالتحاق الحالية. ويقدر متوسط سنوات الدراسة

ص: 293

لعدد أكبر من البلدان ويمكن أن يساعد على التمييز بين البلدان. بينما تستخدم السنوات المتوقعة في الدراسة لقياس البُعد المتعلق بالتعليم بالسنوات. ومقاييس بهذا البُعد تتجاوز مجرد تقدير الكمية الى تقويم النوعية. أما بالنسبة الى قياس القدرة على التمتع بحياة صحية فلم يطرأ عليه تغيير لان التقرير لم يجد مقياسا أفضل من متوسط العمر المتوقع عند الولادة. ولقياس مستوى المعيشة يستخدم نصيب الفرد من الدخل القومي الاجمالي بدلا من الناتج المحلي الاجمالي؛ وفي عالم تجتاحه العولمة تلاحظ فوارق كبيرة بين دخل سكان البلد الواحد والناتج المحلي ويمكن توضيح ذلك من خلال الشكل(1):

عناصر دليل التنمية البشرية

دليل التنمية البشرية - ثلاثة أبعاد وأربعة مؤشرات

دليل التنمية البشرية

ثلاثة أبعاد / مستوى المعيشة / التعالیم / الصحة

أربعة مؤشرات / نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي / متوسط سنوات الدراسة المتوقع / متوسط سنوات الدراسة / العمر المتوقع عند الولادة

الشكل (1) عناصر دليل التنمية البشرية

المصدر: البرنامج الانمائي للأمم المتحدة 2010، تقرير التنمية البشرية لعام 2010، الامم المتحدة، نيويورك، 2010، ص 13.

ص: 294

وبناء على تقرير الامم المتحدة تم تحديد القيم القصوى والدنيا لكل مؤشر وكما مبين في جدول(1)

جدول (1) مؤشرات التنمية البشرية

ت - المؤشر - القيمة القصوى - القیمة الدنیا

1 - العمر المرتقب عند الولادة - 85 سنة - 25 سنة

2 - معدل القراءة والكتابة - 100٪ - 0٪

3 - نسبة القيد الاجمالي لجميع مراحل التعليم - 100٪ - 0٪

4 - نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي - 40,000 دولار - 100 دولار

المصدر: ابراهيم عبد الله جاسم عيسى، الانفاق على التعليم ودوره في التنمية البشرية في العراق للمدة من (1990 - 2014) مجلة تكريت للعلوم الاقتصادية والادارية، المجلد 12، العدد 35، 2016، ص 215

وبعد تحديد القيمة لكل مؤشر يتم احتساب مستوى الانجاز وفق الصيغة الآتية:

مستوى انجاز المؤشر = القيمة الفعلية للبلد - القيمة الدنيا / الحد الاقصى للمؤشر - الحد الادنى للمؤشر اما في حالة احتساب قيمة الانجاز لكل مؤشر يصبح تحديد دليل التنمية البشرية واضحا وفق المعادلة الآتية دليل التنمية اليشرية = 1 / 3 (مؤشر الصحة ) + 1 / 3 (مؤشر التعليم) + 1 / 3 (مؤشر الدخل) وتتراوح قيمة دليل التنمية البشرية بين قيمتين (الصفر والواحد) وهو يستخدم في ترتيب الدول من حيث درجة التنمية البشرية فيها فكلما اقتربت القيمة القصوى من الواحد دل على ارتفاع التنمية البشرية فيها وكلما اقتربت القيمة الدنيا من الصفر دل على انخفاض التنمية البشرية فيها وعلى ذلك تقاس التنمية البشرية في البلد وحسب الاوزان المبينة في جدول (2)

ص: 295

جدول (2) مستوی التنمیة البشریة في البلد

قیمة المؤشر - تصنيف التنمية

8 , 0 - 0 , 1 - عالیة جدا

7 , 0 - 8 , 0 - عالیة

5 , 0 - 7 , 0 - متوسطة

اقل من 5 , 0 - منخفضه

المصدر: ابراهيم عبد الله جاسم عيسى، الانفاق على التعليم ودوره في التنمية البشرية في العراق للمدة من (1990 - 2014) مجلة تكريت للعلوم الاقتصادية والادارية، المجلد 12، العدد 35، 2016، ص 215

فضلا عن ما ذکر أعلاه من مؤشرات التنمية البشرية هناك مؤشرات أخرى مكملة لقياس التنمية البشرية ابرزها:

أ - الفقر: يقيس هذا المؤشر درجة الفقر الناتج عن النقص في الدخل أو في الاستهلاك، الذي يؤدي الى النقص في القدرة الاستهلاكية اللازمة لتلبية الاحتياجات الأساسية أو بلوغ حد أدنى من مستوى المعيشة.

ب - مؤشرات أخرى - وهناك مؤشرات أخرى كالبيئة وتمكين المرأة أو تحسين إدارة القطاع العام و التخطيط للموارد البشرية، وتوفير الحاجات الأساسية للبشر(5)

ثالثا: التنمية البشرية وحقوق الانسان:

نلاحظ مما سبق ان التنمية البشرية هي عملية توسيع الخيارات الناس عف طريق توسيع الوظائف والقدرات البشرية، وهي تمثل عملية وغاية في الوقت نفسه وعلى جميع مستويات التنمية تتمثل القدرات الأساسية الثلاث في ان يحيا الناس

حياة مديدة وصحية، وان يحصلوا على المعرفة وان يحصلوا على الموارد اللازمة

ص: 296

لمستوى معيشة اللائق ولكن لا تنحصر التنمية البشرية بذلك بل تمتد إلى ماهو ابعد من ذلك، فمجالات الاختيار الأخرى التي يعطي لها الناس قيمة فائقة تتضمن المشاركة والامن والقابلية للاستدامة وحقوق الإنسان المضمونة، لكي يكون الإنسان خلاقا ومنتجا ولكي يتمتع باحترام الذات وبالتمكين وبالإحساس بالانتماء إلى المجتمع. وفي التحليل الأخير التنمية البشرية هي تنمية الناس لآجل الناس وبواسطة الناس يؤكد التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، على الصلة التي لا تنفصل بين التنمية وحقوق الإنسان، ويقدم طائفة من المقترحات

ويحث التقرير الهيئات الدولية، بما فيها منظمة التجارة العالمية، على الاهتداء بمبادئ والتزامات حقوق الانسان في عملية صنع القرارات وذلك لتهيئة نظام اقتصادي عالمي عادل وشامل للجميع، ويقول للشركات العالمية ان تحقيق أرباح لا يكفي فعليها مسؤولية ان تحترم حقوق الانسان كذلك، ويؤكد التقرير على ان الحكومات يجب ان تأخذ مركز الصدارة فيما يتعلق بحماية حقوق الانسان.(6)

ص: 297

المبحث الثاني: التأصيل النظري لأسس التنمية البشرية في المنهج الإسلامي:

اولا - مؤشر التعليم والتعلم في المنظور الاسلامي:

حث الدين الاسلامي على التعليم ونيل المعرفة في مواضع عديدة اذ نجد آيات قرآنية كثيرة كانت تحث على طلب الحصول على العلم والمعرفة منها قول الله تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (آل عمران: 18) فأشهد الله العلماء دون غيرهم من البشر وقرن شهادتهم بشهادته سبحانه وشهادة الملائكة ولا يستشهد الله إلا العدول(7).

فضلا عن ذلك كرم الله سبحانه وتعالى العالم ومنع سبحانه المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم في قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» (الزمر: 9) فضلا عن ذلك أخبر الله تعالى عن رفعه لدرجات أهل العلم والإيمان في قوله سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» (المجادلة: 11)، وما یدل على فضل العلم أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله مزيداً من العلم فقال: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) (طه: 114)، کما وصف تعالى من أوتي علماً فقد أوتي خيراً كثيرا في قولة سبحانه: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» (البقرة: 269).

ولم يكتفي الدين الاسلامي في الحث على التعليم فقط وانما اهتم بجودة التعليم اذ تنطلق فلسفة الجودة في التعليم من أن طلب العلم فريضة على كل

ص: 298

مسلم كما ورد في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللِّهَ (صل الله عليه واله) (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَی كُلِّ مُسْلِمٍ...)(70)، والله هو المعلم الأول للبشرية لقوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (البقرة 31) ويعد الرسل من بعده معلمين لأقوامهم وشعوبهم لقوله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» (آل عمران 164) ومن هذه المنزلة العالية للعلم أكتسب المعلمين مكانة قديرة عالية في الإسلام وقد عدهم الرسول ورثة للأنبياء ففي الحديث: (أَنَّ الْعُلَاَءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللُّهَ لَهُ طَرِيقًا إِلَی الَجْنَّةِ... وَقَالَ النَّبِيُّ (صل الله عليه واله وسلم): (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَیْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ).(8)

نلاحظ من الآيات الكريمة اعلاه في وجوب التعلم والحصول على المعرفة التي يمكن تعريفها على انها الطاقة التي تنقل الانسان في حركته التطورية من حالة الاستعداد الكامن (القوة) الى حالة العلم والادراك (والفعل) ولكن كيف تحصل المعرفة وفق تعليل الفلسفة الاسلامية تجيب الفلسفة الاسلامية عن هذا التساؤل بتقسيم الادراك الى قسمين ادراك تصوري بسيط الذي لا ينطوي على الحكم والادراك التصديقي المركب الذي ينطوي على حكم والمهم في البحث هو كيفية نشوء المعرفة عبر هذا التقسيم وهذا ما توضحه نظرية الانتزاع في الفلسفة الاسلامية والتي تقسم التصورات اولية (بسيطة مركبة) وتصورات ثانوية (مركبة اكثر من تصور أولي) وفي الجانب الاخر توجد تصديقات والتي تمثل مرحلة اصدار الحكم وتوليد المعرفة الموضوعية.(9)

ص: 299

ولا يقتصر تعليم على داخل المدرسة فقط لقوله تعالى: «فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» (طه 114) وقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة 282) فكل من الطالب والمعلم مطالب بالاستزادة من العلم، وتقوى الله لأنها سبب في حصول العلم.(10)

والمدرسة مقدمة للخدمة التربوية والتعليمية. والطالب باعتباره المستفيد من خدمة المدرسة لا يعد في الأصل هو المنتج، إنما المنتج العائد وهو ما يكتسبه الطالب من خلال عملية التربية والتعليم وهو مجموعة العلوم والمعارف والمهارات والقيم الأخلاقية والجمالية التي تعمل على تنمية الفرد المسلم ذاتياً في الجوانب المتصلة بامتلاك المعارف والمهارات والخبرات والمبادئ التربوية الإسلامية المبنية على الجودة والإتقان في التعليم والعمل، فلكي تتحقق الجودة الشاملة في التعليم لا بد من تربية المتعلم وتعليمه الإتقان والتجويد في عمله وذلك من خلال العمليات التعليمية المستمرة، والأنشطة المتنوعة، وعمليات التقويم المتنوع والمستمر.(11)

ص: 300

ويقوم المنهج التعليمي في الإسلام على مجموعة اسس تتضح معالمها من خلال تأكيد استعمال العقل في التفكير في مخلوقات الله عز وجل و النهي عن التقليد والإتباع الأعمى لأنه يولد التعصب ويعطل التفكير فضلا عن رفض الظن والمجادلة التي تُقصي القلب وليس لها استدلالات تؤكد مصداقيته لهذا الجدل وقول الزور والهوى و إعطاء الحرية الشخصية للدارس وخاصة في مسألة الاقتناع بالدين، وتأمل مخلوقات الخالق بالكون و تدريب طالب العلم على منهج الاستقراء وهذه الأسس والتعاليم الإسلامية للمنهجية التعليمية مستدل عليها في الأصل من القرآن الكريم كدليل مادي وروحاني على مصداقيتها.(12)، وكما هو موضح في مخطط (2)

المصدر. حسن بن عبد القادر حسن البار، «الثقافة التربوية والعلمية الفكرية»، الجزء الأول،مكتبة الملك فهد الوطنية، 2009، ص 20

ص: 301

ثانيا: مؤشر الصحة في المنهج الاسلامي:

نجد من خلال تعاليم الإسلام سواء في القرآن الكريم أو في أحاديث الرسول الكريم هنالك الكثير من الوصايا التي تحث المسلم على سلوك نمط حياة صحي، من خلال السلوك القويم إذ لم يعد فهم الصحة يقتصر على فهم البعد العضوي الحيوي فقط وإنها أصبحنا ننظر إليه على أنه تداخل عوامل ثلاثة هي (العضوية الحيوية و النفسية السلوكية والاجتماعية) وإن التعريف الشامل للسلوك ليعطينا فهما أفضل لعلاقته بالصحة وسلامتها فيعرّف السلوك بأنه كل ما يصدر عن الإنسان من فكر ومواقف وكلام وعواطف وأفعال ومن هذا التعريف ندرك كيف يرتبط السلوك ببعض جوانب الصحة، ويعطينا كذلك طريقة للتدخل وتعديل السلوك عن طريق تغير بعض الأفكار أو المواقف أو الأفعال حرصت الشريعة الإسلامية على أن يحيا الإنسان في بيئة صحية مناسبة ويشير القرآن الكريم إلى دور الإنسان المركزي في تغير نعمة الصحة هذه، حيث نقرأ قوله تعالى «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» [الأنفال: 53] كذلك حث الرسول الاكرم (صل الله عليه واله) على نعمة الصحة مبينا من خلال الحديث الشريف (مَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِنِ خَیْرًا مِنَ الْمُعَافَاةِ) اذ يفهم من هذا الحديث الشريف مدى قيمة نعمة الصحة حيث هي النعمة الكبرى بعد نعمة الإيمان باللهَّ فمن واجبنا الحفاظ على نعمة الصحة هذه بمفهوميها المعروفين، فهناك مفهوم ردّ الصحة على المريض وهو المعنى الشائع للطب والطبّ العلاجي بشكل خاص، والمعنى الآخر وهو الأهم وهو حفظ الصحة على الصحيح والاهتمام بمعافاة البدن وتعرّف المعافاة أو الصحة بأنها: (حالة من المعافاة الكاملة بدنياً ونفسياً واجتماعياً وروحياً)

ص: 302

وبجانب ذلك التفتت الشريعة الاسلامية الى جانب مهم في تعزيز صحة الانسان وهي البيئة اذ اوصى الدين الاسلامي في الحفاظ على البيئة كونها هي الاطار الذي توفر للإنسان الموارد ويلبي من خلالها احتياجاته وتبعا لذلك وضعت في الشريعة الاسلامية العديد من القواعد والمبادئ التي تكفل سلامة البيئة وحمايتها من العبث اذ تعد البيئة هي المهد والاساس الذي يمد الموطن في السكن والحياة للإنسان، فقد سخرها الله له وزودها بكل مقومات الحياة الآمنة الصحية السليمة إذ وردت الكثير من الآيات القرآنية لتحقيق التوازن البيئي فقد أشار القرآن الكريم إلى تحقيق هذا التوازن، وإلى خلق الكون بشكل هندسي رائع وسليم، قال تعالى «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ» [الملك: 3، 4]

ووفقا لهذا الوصف الدقيق يبين الله تعالى النعم التي زودها سبحانه للإنسان فقد زود الله الأرض من موارد توفر موارد الاساسية لحياة الإنسان، ونجد ذلك واضحا في قولة تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» [البقرة: 21، 22] ومع ما خلق الله (سبحانه وتعالى) من موارد وسخرها للإنسان لا شك أن ذلك يقتضي من الإنسان أن يحافظ على ما أعطاه الله حتى يعيش سليما معافی، قادرا على العمل وعلى الإنتاج، ومتمتعا بما أعطاه الله له، ولن يتحقق له ذلك إلا بالحفاظ على البيئة التي يعيش فيها، وبوقاية نفسه من أية أضرار تحدث فيها، وكذا بالمسارعة بالعلاج كلما اقتضى الأمر ذلك. يقول الحق - سبحانه

ص: 303

وتعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» [التين: 4]، «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» [الإسراء: 70].

ثالثا: مؤشر عدالة توزيع الدخول في الشريعة الاسلامية:

اهتمت الشريعة الاسلامية في عدالة توزيع الدخل بين الناس وحفظت حقوقهم الإنسانية كاملة، ووضعت لهم نظاماً مالياً قويماً، يضمن لهم أدنى مراتب الغنى، ليواصل الفقير والضعيف نشاطه وكدحه، في ميادين العمل والإنتاج، وذلك عن طريق المشاركة الفعلية والمتجددة بين الأغنياء والفقراء، من خلال فريضة تعرف في الإسلام بالزكاة، لضمان حق توزيع الدخل بشكل عادل بين شرائح المجتمع حيث تستهدف الزكاة تفتيت الثروة التي تتكدس في بعض الأيدي، التي ما كانت لها أن تعطي صدقة أو هدية لولا هذا الفريضة الشرعية فتتسع بذلك دائرة توزيع الثروة، لتشمل ذوي الحاجة، الذين لو لم يخصص لهم جزءاً منها لكانوا حرباً على أصحابها، وخطراً على أمن المجتمع وسلامته، يهدده بين حين وآخر.(13)

وقد اهتم الدين الاسلامي اهتماما خاصا بظاهرة الفقر ووضع العلاج لهذه الظاهرة نظرا لأثرها السلبي على المجتمع فمفهوم الفقر في الاطار المعرفي والدلالي لفلسفة المذهب الاقتصادي الاسلامي يتم بناؤه من خلال الربط المنطقي لمجموعة الصفات والخصائص التي تدخل في تركيب هذا المفهوم وبالاستناد الى المنهج المعرفي الاسلامي في عملية بناء المفاهيم فالمفهوم في التصور الاسلامي هو ذلك الوصف المعبر عن حقيقة كونية واجتماعية او تشريعية تتيح عملية الادراك هذه الحقيقة قدرة تفسيرية للعلاقات او الظواهر الكونية والاجتماعية. يعرف

ص: 304

مفهوم الفقر في المذهب الاقتصادي الاسلامي على انه الحاجة وفعله الافتقار (اي الاحتياج) وبإعمال هذا المعنى العام في النظر الى حقيقة التصور الاسلامي للنشاط الاقتصادي.(14)

ولذلك لا نعجب إذا رأينا أن الإسلام يكره للناس الفقر والفاقة والحاجة، ويحتم أن ينال كل فرد قادر على العمل كفايته أو شيئاً فوق الكفاية من جهده وعرق جبينه، فالإسلام كما أوضحت سابقاً يحث على العمل ويحفز إليه، باعتبار الكسب عن طريق العمل الذي يعتبر عنصراً أساسياً من عناصر الإنتاج في الإسلام هو الأسلوب الأول لمحاربة الفقر وجلب الرزق، أو ما يعرف بالدخل، ذلك أن الإسلام يبث في الناس روح الجد والكفاح «أطيب الكسب عمل الرجل بيده ويحث الفرد على امتلاك الموارد غير ذات النفع العام لتكون مصدر رزق له، لا يخضع فيه حتى للجماعة، ليرفع عنه ضغط الحاجة والعوز من ناحية، وسلطان الجهة التي تملك موارد الرزق من ناحية ثانية.(15)

وقد سبقت الشريعة الاسلامية بوضع اسس ثابته في عملية اعادة توزيع الدخل اذ نرى ان الاقتصاد الوضعي وضع الضريبة والتي تعرف على انها مبالغ نقدية تحصل عليها الدولة من الافراد جبرا وبدون مقابل بهدف تمويل نفقاتها العامة وتحقيق الاهداف النابعة من مضمون فلسفتها السياسية نجد ان الدين الاسلامي وضع الخراج (وهو عباره عن مبالغ مالية تحصل عليها الدولة الاسلامية في نهاية الحصول من العاملين على الارض الموقوفة اصلا للدولة الاسلامية)(16) من خلال التعريفين يتضح ان هناك اختلاف بين الخراج والضريبة وكما يأتي:

ص: 305

جدول (3) الفرق بين الضريبة والخراج

ت - الخراج - الضریبة

1 - تشریع رباني - تشریع وضعي

2 - يتصف في الثبات الدائم - لا تتصف في الثبات المطلق بل تتغير مع القانون والدولة

3 - يفرض على الاموال - تفرض على الاشخاص والاموال

4 - يفرض عند حصول النصاب وحلول الحول - تفرض في نهاية السنة (الضرائب المباشرة)

5 - لا يتعدد ولا يتضمن الازدواج - تتعدد الضرائب وتتنوع وقد تضمن الازدواج

6 - عنصر الايجار يعكس العلاقة بين المكلف وربه - عنصر الايجار يعكس العلاقة بين المكلف والدولة

7 - المكلف يتقرب من ربه في ادائها - يحاول التهرب منها بارتفاعها

8 - منفعة الخراج تتعدى الحياة الدنيا الى منفعة الضريبة دنيوية حياة الأخرة - منفعة الضریبة دنیویة

9 - هدف الخراج يعكس هدف الله سبحانه وتعالى - هدف الضريبة تعكس سياسة الدولة

10 - تؤدي الى تقليل التفاوت بين فئات المجتمع وتؤدي الى زيادة التراحم بینهم - اذا كانت الضريبة غير مباشرة الى زيادة التفاوت والإساءة الى الفقير

11 -تؤدي الى زيادة الانتاج وتحسين الاوضاع الاقتصادية - قد تؤدي الى تدهور الانتاج والاستهلاك والاستثمار

المصدر: رضا صاحب ابو حمد، السياسات المالية في عهد الامام علي (عليه السلام)، الطبعة الاولى، مركز الامير لأحياء التراث الاسلامي، النجف الاشرف، 2006، ص 82

ص: 306

رابعا: دور الشريعة الاسلامية في المحافظة على حقوق الانسان:

جاءت الشريعة الاسلامية بأحكام تنظم مختلف شؤون الحياة وتحقق سعادة الناس وتعمل على بناء مجتمع تتساوى فيه الحقوق والواجبات بين أبناء البشر وتوجد الكثير من الآيات القرآنية التي جاءت حافلة بما يدعوا إلى الحقوق والحريات على مختلف أنواعها، والأحاديث النبوية جاءت مكرسة لها في الكثير من أحكامها فقد شرع الإسلام للبشرية منذ أكثر من 1400 سنة حقوق الإنسان بصورة عميقة وشاملة وصاغ مجتمعه على مجموعة مبادئ إنسانية تدعم هذه الحقوق. وكان من أهم مبدأ من مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام هو مبدأ (كرامة الإنسان) الذي أكد عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والكرامة الإنسانية أهم ما يميز الإنسان من سائر المخلوقات فينبغي على الإنسان فهمها واحترامها وشكرها وقد وهبها الله للإنسان من دون الإشارة إلى دينه أو لونه أو عنصره.(17)

وتتجسد حقوق الإنسان في الإسلام في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما جاء به الفقه الإسلامي من أحكام وقواعد، فأحكام الشرع الإسلامي من بدايتها إلى نهايتها جاءت من اجل الإنسان وحمايته، لا من الآخرين فحسب، بل لحمايته من نفسه أيضا فلم يكن الإنسان في الإسلام مخرا بأن يفعل ما يضر نفسه، فلا توجد آية في القرآن الكريم أو حديث نبوي شريف إن لم تتضمن حماية للإنسان والحفاظ على حقوقه وحقوق الاخرين ولعل ما يميز الإسلام من غيره من العهود والمواثيق الدولية الحديثة المتعلقة بحقوق الإنسان «شموليته وعالميته«. فالإسلام لم يكن مقتصراً على مكة وما حولها، والرسول العربي لم يكن مبعوثاً لقومه شأن الرسل الآخرين. ولكنه كان مبعوثاً للناس جميعاً

ص: 307

بصريح الآيات القرآنية التي تدل على انه أُرسل للعالمين من الإنس والجن على حد سواء فالإسلام بشريعته السمحاء أقر للمسلمين حقوقاً وحريات يمكن أن نسميها الحقوق والحريات الأساسية والمدنية تعالج احتياجات الفرد نفسه، وكذلك أقر حقوقاً أخرى تشملهم جماعة وأمة، وتسمى بالحقوق السياسية، وهي بذلك تكون قد حددت معنى حقوق الإنسان ومدلوله وحرياته، بما يصون كرامته ويكفل حقوقه وحرياته.(18)

فضلا عن ذلك اهتم الاسلام بالطفل اهتام خاص قبل ان يخرج للحياة وبذلك سبق الانظمة الحديثة بعشرات القرون في ضمان حقوق الطفل في مختلف مراحله العمرية، حيث ان الامم المتحدة لم تقر وثيقة حقوق الطفل الا عام 1950 وقد امتاز الاسلام بمرونته وقوانينه واحكامه قابلة التطبيق في كل زمان ومكان، ولن ترقى اية قوانين لاحقة لما وصل اليه الاسلام من الكمال، فالشريعة الاسلامية اوجدت منهجاً ونظاماً لا يدانيه اي نظام، فقد اكمل الله الرسالة واتم بها النعمة قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) واهتم الاسلام بنيل العلم والتعليم وجعله من أهم حقوق الانسان التي يجب ان يتم السعي الحثيث لتحقيقه وخصوصاً للطفل لينير عقله ویرقی بوجوده ويعلو من شأنه.(19)

نری مما سبق ان الدين الاسلامي قد اولى اهمية كبيرة لمؤشرات التنمية البشرية وهذا ما اكدته الآيات الشريفة واحاديث الرسول الاكرم (صل الله عليه واله وسلم) فعند ملاحظة المخطط (3) يتبين لنا علاقة مؤشرات التنمية البشرية في الدين الاسلام

ص: 308

المخطط (3) علاقة مؤشرات التنمية البشرية في الدين الاسلام

لها مفهوم اجتماعي ومفهوم أمني - لها مفهوم عقائدي - لها مفهوم صحي

لها مفهوم اقتصادي - أركان الإسلام الخمسة - لها مفهوم تربوي

تكوين الانسان جسديا وروحانيا - مجتمع إسلامي أمن على نفسه وأهله وماله ومحب السلام - أركان الإسلام الخمسة

حياة معيشية تنعم بالعدل والمساواة والأمن والأمان والإخلاص والوفاء والتضحية من أجل الدين والوطن

التكامل الاجتماعي والاقتصادي والصحي والثقافي والتربوي والتعليمي والأمني

المصدر. حسن بن عبد القادر حسن البار، «الثقافة التربوية والعلمية الفكرية»، الجزء الأول، مكتبة الملك فهد الوطنية، 2009، ص 18

ص: 309

المبحث الثالث: مؤشرات واسس التنمية البشرية في فكر الامام (عليه السلام)

اولا - السياسة المالية ومؤشر عدالة توزيع الدخل:

تمثل السياسة المالية في عهد الامام علي (علية السلام) في حرصة الشديد على اموال المسلمين وكيفية تحصيلها وانفاقها في مجالاتها الصحيحة واتضحت سياسة الامام عليه السلام في جانب النفقات في اول يوم من خلافته حيث في الناس واوضح انه سوف يتبع نظام المساواة في العطاء بين الناس وانه هو كأحدهم اذ يقول عليه السلام (فأنتم أيها الناس عباد الله المسلمون، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، وليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، وللمتقين عند الله خير الجزاء، وأفضل الثواب لم يجعل الله الدنيا للمتقين جزاءاً، وما عند الله خير للأبرار) كذلك قولة عليه السلام (ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الفصائل الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقنا)(20).

وقد توجه الامام علي عليه السلام الى مرحلة اخرى متقدمة من مراحل التثقيف لبناء مالي وهي بيان المفهوم السامي للاقتصاد وملحقاته المفهوم الذي نستطيع ان نسميه مفهوم واقعي اخلاقي وهو مفهوم التوسط أو الوسطية في التعامل مع المال، ويلاحظ من وصيته الى عامله على البصرة وصيته زياد بن أبیة (فدع الإسراف مقتصدا، واذكر في اليوم غدا، وامسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك)

ص: 310

واوصى عليه السلام في كيفية تعامل الحاكم مع اموال الشعب كونه ليس فرد وانما يتعامل مع اموال الشعب على مستوى الاعتدال والتوسط وليس على مستوى الاسراف والتبذير لان التوسط هو ابرز المعان التي يراها الامام عليه السلام لاقتصاد.(21)

وكان الامام يحرص على زيادة ثقافة عدم الاسراف والتوسط في الانفاق بهدف ايصالها الى الاخرين بحكم مركزه السياسي، وايضا لبناء نظام مالي رصين مبني على اختيار الخبراء أو المستشارين وقد حدد المساوئ التي قد تصيب النظام في حال تجاوز الاختصاص لان ذلك سيؤدي الى ظهور الفساد المالي وبالتالي الإداري ایضا» اذ بين ذلك في وصيته الى عامله مالك الأشتر حينما قال (لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزيف لك الثمرة بالجور، فان البخل والجبن والحرص غرائر شتی يجمعها سوء الظن بالله) وإذا أردنا أن نستفيد من هذا الكلام بما يحقق البناء المالي الرصين يجب أن نتعمق في دراسته وفق المنظار الذي يعتمد على النقاط الآتية:

1 - ان ذكر الامام علي عليه السلام للصفات السالفة هو يمثل صورة تثقيفية للعمل وفق قوانين علمية وأخلاقية وليس غرائز نفسية كحب المال وبالتالي البخل والحرص أو الجبن والخوف التي تمنع من اتخاذ القرارات الشجاعة المناسبة.

2 - اختيار المتخصصين في النظام المالي لإدارة الأمور الحسابية ووضع ورسم السياسات المالية وعدم التخبط في ذلك.

3 - في الوقت الذي اكد به الامام على عدم التبذير فأنه يدعو الحكام إلى عدم التقتير على الشعب بل يجب أن تكون السياسة التي وضعها المتخصصون قائمة على اسس علمية ومراعية للمستحقين اذ كان الإمام (علية السلام) اذا تجمعت

ص: 311

الاموال في بيت المال اخذ بتوزيعها على كافة المسلمين في التساوي حيث قال (انتم عباد الله، والمال مال الله يقسم بینکم بالسوية) وهذا التوزيع العادل للثروة العامة ساهم كثيرا في تحسين الأموال المعاشية، واشباع الحاجات الضرورية من سكن وملبس ومأكل وغيرها من الاساسيات العامة للناس، لاسيما الفئات الفقيرة وقد اشارت العديد من الدراسات إلى أن المدة التي امضاها الامام في الخلافة تميزت بالازدهار والنمو الاقتصادي وزيادة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية واضمحلال مشكلة البطالة والتضخم والسكن والجريمة والفقر وغيرها من المشكلات الاقتصادية ويمكننا من ملاحظة مخطط (4) ان نوضح اهم المؤشرات لنظرية الامام علي (علية السلام) في الخراج المعتدل وتوفير مستلزمات الحياة.

مخطط لنظرية الإمام علي علیه السلام في الخراج المعتدل

اجراءات الخراج المعتدلة - إعمار البلاد وسادة العباد و استقامة النظام

تحفز المنتجين الزراعيين علي زيادة جهودهم - العيش الكريم في المسکن والمأكل والملبس - زيادة اعمار الأرض وتصاعد معدلات النمو الاقتصادي

زيادة الإنتاج وزيادة الارباح لأهل الخراج - زيادة الإنتاج لعموم القطاعات الاقتصادية

زيادة الطلب عل عناصر الإنتاج با فيها العمل - زیادة نسبة الخراج ثم زیادة ایرادات الدولة - زيادة الاستثمار في معظم القطاعات الاقتصادية

زیادة الاسختدام واقلیل البطالة - زیادة التحولات النقدیة والعینیة لفنات المجتمع الأخری - زیادة الطلب علی المنتجات الزراعیة والمنتجات المرتبطة بها

زيادة توزيع الدخول

تحسین المستوى المعاشي

زيادة الاستهلاك والادخار

المصدر: رضا صاحب ابو حمد، الإمام علي بن ابي طالب وسياسته في الخراج لمعالجة السكن والاعمار، مجلة الغري للعلوم الاقتصادية والادارية، المجلد العاشر، 2015-، ص 127

ص: 312

مخطط لنظرية الإمام علي علیه السلام في الخراج المتشدد

اجراءات الخراج المتشددة - العيش السقیم في السکن والماکل والملبس - خراب البلاد واهلاك العباد و عدم استقامة النظام

زيادة حصة الدولة من إنتاج أهل الخراج - انخفاض الاعمار وتد هور معدلات النمو الاقتصادي

انخفاض الحافز لدي اهل الخراج على الإنتاج - انخفاض الإنتاج لعموم القطاعات الاقتصادیة

هجرة الفلاحين من الزراعة إلى مناطق ونشاطات أخرى - هجرة الفلاحين من الزراعة إلى مناطق ونشاطات اخرى

انخفاض الإنتاج في النشاط الزراعي - انخفاض الأستثمار في معظم القطاعات الاقتصادية

الخفاض الطلب علی عناصر الإنتاج بما فیها العمل - ارتفاع اسمار السلع الزراعية الغذائية لقلة عرضها

انخفاض الأستخدام وزيادة البطالة - انخفاض الاستهلاك والادخار

انخفاض الاستخدام وزیادة البطالة - انخفاض الاستهلاك والادخار

انخفاض توزيع الدخول - تراجع المستوی المعاشي

المصدر: رضا صاحب ابو حمد، الإمام علي بن ابي طالب و سیاسته في الخراج لمعالجة السكن والاعمار، مجلة الغري للعلوم الاقتصادية والادارية، المجلد العاشر، 2015، ص 127

ولم يكتفي الامام (عليه السلام) في توصيف المال العام فقط بل اهتم في كيفية ادارة الأموال في التي في حوزة الفرد ولم يجعله يتصرف بها كيف يشاء بل حدد له اوجه الانفاق لأنه يعلم أن ملكية الفرد لهذه الأموال هي ليست ملكية مطلقة وانما هي ملكية ثانوية اي ان الافراد مستخلفين على هذه الاموال فيجب عليهم ان ينفقوها في الوجوه التي ترضي المالك الاصلي لها وهو الله جل جلاله ولتحقيق المساواة في الدخل وتبعا لذلك حدد الإمام (عليه السلام) اوجه الانفاق في الاتي:(22).

ص: 313

اولا: انفاق المال خارج حدود العائلة

أ - انفاق المال على القرابة اي على الاقارب والجيران لزيادة التراحم والتواصل والمحنه بينهم.

ب - انفاق المال على الضيافة.

ج - انفاق المال من اجل فك الاسير والعاني.

د - انفاق المال على الفقير.

ه - انفاق المال على الغارم على المدين الذي لا يستطيع أن يسدد ما عليه من دیون.

و - يعطي حق الله في ماله من خمس وزكاة وكفارات وغيرها مما فرض الله تعالى عليه من كفارات.

انفاق المال داخل حدود العائلة:(23)

أ - انفاق الأموال على الغذاء بالمعروف أي ما يسد حاجته من الغذاء.

ب - انفاق المال على الحاجات الضرورية الاخرى من مسكن وملبس وغيرها ايضا بالمعروف اي بالاعتدال والاقتصاد.

ثانيا: مؤشر حق التعليم والتعلم في فكر الامام عليه السلام:

جعل الامام علي (عليه السلام) من الرسالة الاسلامية مسؤولية علمية، ناهيك عن ابعادها الاخرى، حيث يقول (عليه السلام) (ان اولى الناس بالأنبياء اعلمهم بما جاؤوا به)، وان قول الرسول الاكرم (صل الله عليه واله ) (خمسة لا يحل منعهن الماء والملح والكلأ والنار والعلم قد وجدت صدى وتطبيقا عمليا في دولة الامام حيث اكد (عليه السلام) على مسؤولية الدولة من جهة وحق

ص: 314

الفرد عليها من جهة اخرى اذ اكد نشر العلم واشاعته في المجتمع ونظرا لأهمية العلم في بناء الدولة وتحقيق النجاح في قيادة المجتمع جعل الامام من الشخصية العلمية الناضجة للحاکم احد الشروط والمواصفات التي سعى الى ايجادها في شخص الحاكم وسياسته حيث يصفه وجعل نشر العلم احدی دعائم شرعية حكمه إذ يقول (عليه السلام): مخاطباً الامة «قد (دارستکم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرفتكم ما انكرتم).

ونجد ان الامام (عليه السلام) قد وصف المجتمع توصیفا دقیقا اذ قال (الناس ثلاثة: عالِم رباني، ومتعَلِّم على سبيل نجاة، وهَمَج رعاع، أتْباع كل ناعق، يميلون مع كلِّ ريح، لَم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ، العلم خيْرٌ من المال، العلم يحرُسك، وأنت تحرُس المال، العلم يزْکُو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقةُ، العلمُ حاکم، والمال مَحْكوم عليه، ومحبة العلم دِین یُدان بها، العلمُ يُكْسِب العالِم طاعةً في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزوالِه، مات خُزَّان المال، وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقيَ الدَّهْر، أعيانُهم مفْقودة، وأمثالهم في القلوب موْجُودة)

حضي الاتفاق على التعليم اهمية بالغة عند الإمام (عليه السلام) اهمية بالغة إذ نجد منشأ سلوكه وسيرته في هذا الجانب على اساس النظرة التي يحملها إلى للإنسان لان قيمة كل امرئ ما يحسن ومن البديهي تكون نتيجة هذه النظرة صرف الكثير من المال للحصول على العلم والمهارة(24).

وهذا ما نجده اليوم في المجتمعات التي تمتلك مؤشرات جيدة في التنمية البشرية تهتم بجانب الانفاق على التربية والتعليم فضلا عن ذلك حمل الامام الحاكم مسؤولية النهوض بالعلم لم يجعلها حكرا عليه انما هي مسؤولية جماعية

ص: 315

وفردية كذلك حيث يقول (عليه السلام): «تزاوروا واكثروا مذاكرة الحديث فان لم تفعلوا يندرس الحديث» أي قيام العلوم، ومنها علم الحديث، ينتعش ويزدهر اذا تبناه المجتمع وتحول الى ثقافة عامة، فالعلم ملك للجميع، كل حسب قدرته، وليس حكرا على فئة معينة، وهو ما نجده في قوله (عليه السلام): «ان الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى اخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال ومن هذا المنطلق خاطب الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الأجيال بما يوقظهم على أن الحياة الحرة لا تطبق من القيود إلا ما كان سبباً في مجراها و واسطة لبقائها و قبساً من ضيائها وناموساً من نوامیسها، وأنها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس فعليهم ألا يحاولوا وتقديمها وإلا انقلبت إلى فناء وملاحظة الإمام علي (عليه السلام) الدقيقة والعميقة للحياة ونواميسها مکنت في نفسه الإيمان بثورية الحياة المتطلعة أبداً إلى التطور والنمو فترتب على ذلك إيمان عظیم بان الإحياء يستطيعون أن يصلحوا أنفسهم وذلك بان یماشوا قوانين الحياة ويستطيعون أن يكونوا أسياد أمصارهم وذلك بان يخضعوا لعبقرية الحياة وبهذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد وضع مفهومه عن ماهية التربية وأهدافها وطبيعتها فهو يلخص التربية بمفهوم الإيمان بمبدأ التكيف العاقل وأعداد للبيئة من جانب المتعلم. والعمل على بناء الإنسان بما جاء به الإسلام ومنهج الدين الإسلامي والسنة والعمل بمنهج وسنة الرسول محمد والتربية بناء وإصلاح للفرد والمجتمع وتنظيم العلاقة المخلوق بالخالق وعلاقة الإنسان بنفسه ومجتمعه.(25)

ثالثا: تجسيد حقوق الانسان في فكر الامام علي (عليه السلام):

ينطلق الإمام في سعية نحو المساواة العادلة من النفس البشرية فالعدالة الانسانية الفردية هي الأساس والبنية التحتية للعدالة في المجتمع، فيخاطب الإمام

ص: 316

الانسان ابتداءً (ما لابن ادم والفخر، اوله نطفة واخره جيفة) فالأمام يصوغ فلسفة المساواة وتأصليها في ثقافة الانسان ووعيه حين يذكره ببدء خلقه ونهايته حتى تكون هذه الحتمية المصيرية هي اولى تجليات المساواة البشرية (فكلكم لأدم وادم من تراب) فضلا عن ذلك حقق الإمام علي (علية السلام) في مجال سیاسته العادلة نجاحا بارزا فقد شعر الجميع بتلك السياسة، حتى قالت احدى النساء اللواتي عشن في كنف حكمه: (اني احببت عليا (عليه السلام) على عدله في الرعية وقسمه بالسوية بل أن سمة العدل شهد له بها حتی اعداؤه حتى قال الإمام الحسن (عليه السلام) (رحم الله عليا ما استطاع عدوه ولا وليه ان ينقم عليه في حكم حكمه ولا قسم قسمه)(26).

وضع الامام امير المؤمنين مناهج وآداب خاصة للولاة وامرهم في التحلي بها ليكونوا هداة للناس وامثلة للحكام الصالحين وذلك في عهدة الى مالك الأشتر ونشير الى بعضها:(27)

1 - على الولاة أن يشعروا في قلوبهم الرأفة والرحمة للرعية من دون فرق بين المسلمين وغيرهم

2 - ان لا يتخذوا الامرة والسلطة وسيلة للاستعلاء على الناس والتكبر عليهم

3 - على الولاة أن ينصفوا الله تعالى في طاعته وامتثال أوامره وان ينصفوا الناس في اعطائهم حقوقهم وقد حفل ذلك وغيره من صنوف العدل فنجد بذلك مثالا للعدل الذي ينعش الشعوب ويعود بالخير العميم على الجميع ويساوي بين السلطة والشعب ولا يجعل لأي احد سلطانا او تفوقا على غيره كما اكد الامام على الإحسان الى الرعية والبر بهم والتخفيف عنهم فإن ذلك مما يوجب ارتباط الشعب بحكومته وهو من انجع الوسائل واكثرها نجاحا لاستقرار الدولة وسلامتها من الفتن الخارجية.

ص: 317

الاستنتاجات والتوصيات:

1 - اهتم الاسلام بنيل العلم والتعليم وجعله من أهم حقوق الانسان التي يجب أن يتم السعي الحثيث لتحقيقه وخصوصاً للطفل لينير عقله ويرقى بوجوده ويعلو من شأنه فضلا عن وقد امتاز الاسلام بمرونته وقوانينه واحكامه قابلة التطبيق في كل زمان ومكان، ولن ترقی اية قوانين لاحقة لما وصل اليه الاسلام من الكمال، فالشريعة الاسلامية اوجدت منهجاً ونظاماً لا يدانيه اي نظام

2 - قدم الامام (عليه السلام) مرحلة متقدمة من مراحل التثقيف لبناء مالي في كيفية تعامل الحاكم مع اموال الشعب كونه ليس فرد وانما يتعامل مع اموال الشعب على مستوى الاعتدال والتوسط وليس على مستوى الاسراف والتبذير وعلى هذا الأساس تتحقق عدالة توزيع الدخل الذي يعد من مؤشرات الرئيسية في التنمية البشرية.

3 - شغل مبدأ حقوق الإنسان حيزا مهما من فكر الإمام (عليه السلام) وهذا ما يتضح لنا من خلال احث على التعليم ومبدأ المساواة والعدل الذي حث عليه الامام من خلال الرسائل الذي بعث بها إلى الولاة لتجسد هذه الرسائل مثالا يحتذى به في الحفاظ على حقوق الانسان.

التوصيات

يوصي الباحث الجهات التربوية بدراسة فكر الإمام علي (عليه السلام) في جميع المراحل الدراسية وكذلك النظر في طريقة ادارة الشؤون المالية واخذ العبرة منها بما يخدم جميع فئات المجتمع.

العمل على اشاعة تجربة الامام علي (عليه السلام) ورؤيته لحقوق الانسان

ص: 318

ببعديها النظري والعملي، الامر الذي يسهم في تطور وعي ممارسة حقوق ومما الاشك فيه ان خطب الامام علي (عليه السلام) للحكام وكيفية التعامل مع المجتمع تمثل رسالة ذات مضمون حضاري فريد الأمر الذي يمكننا استخدام هذه الوصايا كمنهج عمل في المؤسسات الرسمية والدينية والاجتماعية في مجتمعنا.

العمل على تقوية أواصر المجتمع من خلال السعي إلى تلبية احتياجاته وتعزيز الانتماء الى الدين الاسلامي واظهار جوهر الإسلامي الحقيقي الذي يضمن للفرد حق التعليم والصحة وعدالة توزيع الدخل.

هوامش البحث:

(1) - محمد مدلول علي، الاستثمار في التعليم والتدريب ودوره في التنمية الاقتصادية / العراق وكوريا الجنوبية إنموذجاً، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى مجلس كلية الادارة والاقتصاد، جامعة القادسية، 2013، ص 10

(2) United Nations Development Programme، Human development

report 1992، United Nations، New York، 1992، p 13.

(3) محمد عبد العزيز عجيمه و د. محمد علي الليثي، التنمية الاقتصادية مفهومها، نظرياتها، سياساتها، مطبعة الدار الجامعية، الإسكندرية 2000، ص 17

(4) الاهداف الانمائية للالفية في المنطقة العربية 2005، الأمم المتحدة، 2005، ص 9.

(5) عثمان هاشم، ورقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عمان في ندوة التنمية البشرية في الوطن العربي، (عمان 10 - 11 نیسان 1994)، ص 212.

(6) رواء زكي يونس، التنمية البشرية وحقوق الإنسان، مجلة اداب الرافدين، العدد 55، 2009، ص 8

(7) طالب حسین فارس الكريطي، الاقتصاد الاسلامي في الفقر تأصيل نظري لمنهج اقتصاد بلا فقر في المذهب الاقتصادي الاسلامي، الطبعة الاولى، مرکز کربلاء للبحوث

ص: 319

والدراسات، 2016، ص 127

(8) بدرية بنت صالح الميمان، الجودة الشاملة في التعليم العام: المفهوم والمبادئ والمتطلبات (قراءة إسلامية)، بحث مقدم للقاء الرابع عشر للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن)، 2007، ص 24

(9) طالب حسین فارس الكريطي، الاقتصاد الاسلامي في الفقر تأصيل نظري لمنهج اقتصاد بلا فقر في المذهب الاقتصادي الاسلامي، الطبعة الأولى، مرکز کربلاء للبحوث والدراسات، 2014، ص 127

(10) بدرية بنت صالح الميان، مصدر سابق، ص 24

(11) بدرية بنت صالح الميان، مصدر سابق ، ص 24

(12) - حسن بن عبد القادر حسن البار، الثقافة التربوية والعلمية الفكرية، الجزء الأول، مكتبة الملك فهد الوطنية، 2009، ص 20

(13) عمر بن فيحان المرزوقي، اقتصاديات الغنى في الإسلام، جامعة الملك سعود، مرکز البحوث التربوية، 2002، ص 20

(14) طالب حسین فارس الكريطي، مصدر سابق ص 146

(15) عمر بن فيحان المرزوقي، مصدر سابق، ص 21

(16) رضا صاحب ابو حمد، السياسات المالية في عهد الامام علي (عليه السلام)، الطبعة الاولى، مركز الأمير لأحياء التراث الاسلامي، النجف الاشرف، 2009، ص 81

(17) أمل هندي كاطع الخزعلي و جابر جواد کاظم الحمداني، مفهوم حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي، مجلة مرکز بابل للدراسات الإنسانية المجلد 4 / العدد 2014، 3، ص 6

(18) أمل هندي كاطع الخزعلي و جابر جواد کاظم الحمداني ، مصدر سابق، ص 7

(19) انعام مهدي جابر الخفاجي، حق الطفل في التعليم / دراسة مقارنة مع الشريعة الاسلامية وبعض التشريعات العراقية المعاصرة، مجلة جامعة بابل للعلوم الانسانية، العدد 22، المجلد 2014، 2، ص 475

ص: 320

(20) محمد عبده، نهج البلاغة لامير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت، الجزء الرابع، ص 65

(21) حمید سراج جابر، نظم ضمان الجودة في فكر الامام علي ع (دراسة في رسائل نهج البلاغة)، مجلة كلية التربية الأساسية جامعة بابل، العدد 2012، 8، ص 87

(22) رضا صاحب ابو حمد، السياسات المالية في عهد الامام علي (عليه السلام)، الطبعة الاولى، مركز الامير لأحياء التراث الاسلامي، النجف الاشرف، 2006، ص 46

(23) رضا صاحب ابو حمد، مصدر سابق، ص 67

(24) رضا الحسيني، السيرة الاقتصادية للامام علي (عليه السلام)، دار الولاء، بيروت، لبنان، 2014، ص 74

(25) علي تركي شاكر الفتلاوي، خطب الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة - قراءة في الفكر التربوي، مجلة جامعة بابل العلوم الانسانية، المجلد 23، العدد 2015، 4، ص 1832

(26) د. غسان السعد، حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، الطبعة الثانية، بغداد، 2008، ص 78.

(27) باقر شريف القرشي، موسوعة الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب، الطبعة الأولى، الجزء التاسع عشر، دار الحسنين للطباعة والنشر، 2002، ص 21

ص: 321

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

المصادر باللغة العربية

1 - ابراهيم عبد الله جاسم عیسی، الانفاق على التعليم ودوره في التنمية البشرية في العراق للمدة من (1990 - 2014) مجلة تكريت للعلوم الاقتصادية والادارية، المجلد 12، العدد 35، 2016

2 - أمل هندي كاطع الخزعلي و جابر جواد كاظم الحمداني، مفهوم حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي، مجلة مرکز بابل للدراسات الإنسانية المجلد 4 / العدد 3، 2014.

3- انعام مهدي جابر الخفاجي، حق الطفل في التعليم / دراسة مقارنة مع الشريعة الاسلامية وبعض التشريعات العراقية المعاصرة، مجلة جامعة بابل للعلوم الانسانية، العدد 22، المجلد 2، 2014.

4 - باقر شريف القرشي، موسوعة الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب، الطبعة الاولى، الجزء التاسع عشر، دار الحسنين للطباعة والنشر، 2002.

5 - بدرية بنت صالح الميمان، الجودة الشاملة في التعليم العام: المفهوم والمبادئ والمتطلبات (قراءة إسلامية)، بحث مقدم للقاء الرابع عشر للجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية (جستن)، 2007.

6 - تقرير الأمم المتحدة الاهداف الانمائية للألفية في المنطقة العربية 2005، الأمم المتحدة، 2005.

ص: 322

7 - حسن بن عبد القادر حسن البار، «الثقافة التربوية والعلمية الفكرية»، الجزء الأول، مكتبة الملك فهد الوطنية، 2009.

8 - حميد سراج جابر، نظم ضمان الجودة في فكر الامام علي «ع» (دراسة في رسائل نهج البلاغة)، مجلة كلية التربية الأساسية جامعة بابل، العدد 8، 2012.

9 - رواء زكي يونس، التنمية البشرية وحقوق الإنسان، مجلة اداب الرافدين، العدد 55، 2009.

10 - رضا الحسيني، السيرة الاقتصادية للامام علي (عليه السلام)، دار الولاء، بیروت، لبنان، 2014.

11 - رضا صاحب ابو حمد، السياسات المالية في عهد الامام علي (عليه السلام)، الطبعة الاولى، مركز الامير لأحياء التراث الاسلامي، النجف الاشرف، 2006.

12 - رضا صاحب ابو حمد، الإمام علي بن ابي طالب و سیاسته في الخراج لمعالجة السكن والاعمار، مجلة الغري للعلوم الاقتصادية والادارية، المجلد العاشر، 2015-.

عثمان هاشم، «ورقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، عمان في ندوة التنمية البشرية في الوطن العربي، (عمان 10 - 11 نیسان 1994).

13 - علي تركي شاكر الفتلاوي، خطب الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة - قراءة في الفكر التربوي، مجلة جامعة بابل العلوم الانسانية، المجلد 23، العدد 2015، 4، ص 1832

14 - عمر بن فيحان المرزوقي، اقتصاديات الغني في الإسلام، جامعة الملك سعود، مركز البحوث التربوية، 2002.

ص: 323

15 - طالب حسین فارس الكريطي، الاقتصاد الاسلامي في الفقر تأصيل نظري لمنهج اقتصاد بلا فقر في المذهب الاقتصادي الاسلامي، الطبعة الأولى، مرکز کربلاء للبحوث والدراسات، 2014.

- 16 غسان السعد، حقوق الانسان عند الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) رؤية علمية، الطبعة الثانية، بغداد، 2008.

17 - محمد عبد العزيز عجيمه و د. محمد علي الليثي،» التنمية الاقتصادية مفهومها، نظرياتها، سياساتها، مطبعة الدار الجامعية، الإسكندرية 2000، ص 17

18 - محمد عبده، نهج البلاغة لامير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بيروت، الجزء الرابع.

19 - محمد مدلول علي، الاستثمار في التعليم والتدريب ودوره في التنمية الاقتصادية / العراق وكوريا الجنوبية إنموذجاً، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة الى مجلس كلية الادارة والاقتصاد، جامعة القادسية، 2013.

1 - United Nations Development Programme. Human development report 1992، United Nations، New York، 1992.

ص: 324

الحوار الحضاري في فكر الامام علي (علیه السلام)

اشارة

الأستاذ المساعد الدكتورة عامرة تمكين نعمة الياسري جامعة الكوفة / كلية التربية الأساسية

ص: 325

ص: 326

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله استماما لنعمته، واستسلاما لعزته، واستعصاما من معصيته، واصلي على الدليل اليه في متاهات الضلال رسوله المصطفی محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى آله موضع سره وملجأ أمره، وعيبة علمه، والمنتجبين من صحبه الأخيار.

وبعد:

تكالبت الأهواء، وشحذت المطامع ظبة سيوفها، واشرأبت الأعناق، عندما بدأ المسلمون يبحثون عن طرق النهوض من جديد، بعد ان تباطئت مسيرة حضارتهم لقرون، وتشرذمت شعوبهم إلى دويلات، وتشتت شملهم الى طوائف وفرق وتيارات.

وبعد ان تهرأت لغة السياط، واندحر منطق القوة، وصرامة الطغاة، وجبروت الإستعمار.

ومن اخطر الأسلحة فتكا على الإسلام، تلك الدعوات التي تستند الى دلائل واهية، وبراهين لاتعتمد العلم منهجا، فغيرت المفاهيم الإسلامية الى معاني لاتبت إلى الإسلام بصلة، واستعملت المصطلحات الاسلامية في غير هداها، لتختلط على العامة وبعض الخاصة الذين لا يؤمنون بالبحث والتنقيب عما ورثوه ويتضيقوا على النص بجمود و تحجر لاينتمي إلى منطق العلم والعقل.

فاختلط السقيم بالصحيح، والأصيل باللصيق، وزادت الأمية الثقافية والفوضوية العارمة بالخطاب الديني المعاصر الأمر عتمة 0 فاصبح الواقع غریب

ص: 327

كل الغرابة في اكثر مفاصله عن الإسلام، مع دعوات المتطفلين عليه تحت غطاء الإسلام او الدفاع عن الإصالة.

ولكن هنا وهناك بين الحين والآخر دعوات وندوات ومؤتمرات ودراسات تدعو إلى إزالة الصدأ الذي ران على البصائر، والعتمة التي حجبت الأبصار عن الحقيقة.

فاذا اختلفت الآراء في النص المقدس (من قرآن او سنة نبوية) وتباينت الافكار في قراءته بين الأصالة والتجديد 0 فالتطبيق الأمثل للنظريات الإسلامية أوفق السبل، وأوضح الطرق للوصول الى الحقيقة لمن أراد ان يبحث عنها 0

والإمام علي (عليه السلام) الإنموذج الأفضل عند كافة اهل القبلة - (وحتى النواصب منهم وباعترافاتهم) - ليكون فيصل التفرقة، و میزان الفصل بين الإسلامي الأصيل من الزائف أو المبتدع.

ولما كان البحث في الإمام علي (عليه السلام) بكل ابعاده امر يتطلب مؤسسات علمية وجهود مضنية في الجهد والوقت لا يسعها بحث كهذا 0 إرتأينا آن نأخذ (الحوار الحضاري) ولغته في فكر الإمام (عليه السلام)، لكونه اکثر الصحابة أعداءا، وأقربهم الى القرآن والسنة علما وتطبيقا، وقد تطابقت أفعاله مع المأثور من أقواله وما استطاع أعدائه ان يحوروا تلك الأفعال ولا يحرفوا تلك الأقوال مع كثرة المحاولات على ذلك.

فجاء هذا البحث جهدا لاندعي فيه الكال، ولكنه محاولة متواضعة في سفر الإمام علي ( عليه السلام).

عساه أن يأخذ طريقه بين جهود الباحثين المشاركين في مؤتمركم هذا.

ص: 328

متمنين له النجاح وللقائمين عليه التوفيق ورضا الله

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

توطئة:

تتكالب على الحياة اليوم نزاعات متعددة الاتجاهات مختلفة الابعاد، متنوعة الأهداف وعلى مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكنها تنطلق من تعدد الرؤى وتنازع الأفكار التي قد يكون بعضها سليم القصد، طيب النوايا، ولكنه جهد بشري، محدود المكان، ضيق الزمان، يقف مكتوفا امام متغيرات الحدث، ومستجدات الأحداث، فتتلقف الحلول اراء واهواء متعددة ويبدأ النزاع، ويتعاظم الحوار الى الخصام. فيسلكون طرق متعددة للنهوض من جدید فتزيد الطين بلة وتنتهي الى الصراع.

في حين ينطلق بعضها من سوء النوايا والاطماع والمصالح الخاصة يلبسها أصحابها لغة العلم وسلامة القصد، لتنطلي على العوام، وتجذب الشعوب بزخرفها، فيكونون لها عونا ويطبلون لها، ويجندون ها وسائل الاعلام لتشغل حيزا من الحياة العامة.

وما ان تتحول تلك النظريات الى التطبيق على واقع الحياة، حتى تنكشف تلك النوايا، وتتوضح اهداف الداعين لها فتأن الشعوب من ظلم الرعاة، ويتعاقب سلاطين الجور، ويتكالب الطغاة، ولات حين مندم.

فينخرط آخرون على الهدى ذاته، ويدعون إلى الحق المضاع حسب ما يرونه هم، فتعود الكرة من جديد، وينتصر لها من شاء دون تروي وتدبر، ولا يرعوي اللاحقون مما أصاب السابقين، ولا يتعظ الأبناء مما احتمله الآباء، فينخرط

ص: 329

الدعاة ليحذروا الناس من مغبة ما يفعلون ولكن دعواتهم لا يردد صداها سوى الصخور الصم وتبح أصواتهم وتنزوي دعواتهم بين ركام الضلال. لضياع الحقيقة عند المدعوين بين زحام الأوهام وزبرجة مظاهر الأكثرية الساحقة. لتكون الكثرة دليلا لهم على هدي الطريق ويكون الحق غريبا، والصراط السوي شاذاً.

وهذا الأمر عاما و شاملاً، حدثنا عنه القرآن الكريم كثيرا في استعراضه لكل دعوات الرسل والانبياء في قصصهم التي شغلت مساحة كبيرة من آياته.

وأشارت آیات أخرى الى سوء المنقلب، والى ضلالة السائرين عليه.

قال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ *وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ»(1)

وقال تعالى: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»(2)

وقال تعالى في الكثرة: «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ»(3)

ونهانا عن اطاعة الكثرة بقوله تعالى «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ»(4)

ولذا فان ((الأرقام التي تتكاثر تبعا لتكاثر الاطماع والشهوات والانفعالات. لا يمكن أن تمثل حركة الانسان نحو الحقيقة، لانها تتعامل مع العاطفة التي تثير أمامه ضبابا كثيفا يحجب عنه وضوح الرؤية الأشياء، ويبعده عن معرفة الساحة الحقيقية للشخص وللموقف والمبادئ، الا من خلال ما يريده أولئك الذين يحركون الاطماع والشهوات والانفعالات في لعبة الباطل المتعددة الأساليب

ص: 330

والاشكال والألوان))(5).

حتى يتكالب الامر ويضيع كل شيء فتنهد الحضارة من أسسها، لتبدا أخرى زائفة من جديد، ومن هنا اتهم التاريخ بالدوران، وامتلات الحياة بالتناقضات واختلط الحق بالباطل، وزاد الصراع الفكري عتمة لتصدي من لا يعي خطابه، ولم يتدبر آرائه.

ولعل من أخطر الصراع الفكري عندما يكون في الفكر الديني فتنشأ تبعا لذلك المذاهب والتيارات، ويتفاقم الأمر حتى تصل ببعض الآراء ان تكون بعيدة كل البعد عن مبادئ ذلك الدين. وغريبة أشد الغرابة عن أهدافه واسسه وتشريعاته. وبنظرة سريعة لعبادة الأوثان ومبادئ الاشراك على الأرض منذ نبي الله نوح (عليه السلام) الى رسولنا محمد (صلى الله عليه وآله) سنجدها تکرار لدورات التاريخ، وكأن أرواح أولئك الذين طواهم الطوفان، والذين أهلكوا بالطاغية، او بريح صرصر عاتية، أو الذين اصبحوا في ديارهم جاثمين. كأنها بعثت في أجساد أبنائهم ولم يكن الإسلام بدعا من الأديان، ولا أحداث تأريخه غريبة عما مضى.

رغم كثرة موارد الاتفاق، ووحدة منابع التشريع فيه، ووحدة عباداته بكل جزئیاتها. ولكن تداخل الأفكار، وتعدد الرؤى في آيات القرآن، واختلاف مفاهیم الألفاظ بين الحقيقة والمجاز، وبين التشابه والإحكام، وبين هذا وذاك، ناهيك عن الاثار الخارجية من الأفكار التي تعايشت مع الإسلام من أديان أو فلسفات فكرية، ألقت بحرانها في معترك الفكر فوافقها هذا، وخالفها ذاك.

فوصلت بالفكر الإسلامي الواحد الى التقاطع والنزاع بل الى البدعة والتكفير والقتل.

ولذلك توجب العودة الى التطبيق الأمثل، والأنموذج الاكمل لمبادئ الإسلام

ص: 331

وتشريعاته واحكامه. كي يكون مناراً لمن شاء منهم أن يستقیم.

ولما كان الامام علي (عليه السلام) الصحابي الوحيد الذي اتفق عليه أصحاب الأفكار المختلفة، والآراء المتعددة، واتفقوا على صحة مسيرته، واستقامة سيرته - إلا من شذ منهم او سبق عليه القول -.

ولذا اختير ان یکون ذلك الانموذج الأمثل. ومسيرته فيصل التفرقة عندما تتصارع الآراء ((وقال جمهور أهل الآثار منهم والنقل والفقه بالروايات، وطبقه من المتكلمين منهم وأصحاب الحجاج: انه عليه السلام (الامام علي) افضل من كافة البشر سوی رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) فانه افضل منه.

ووقف منهم نفر قليل في هذا الباب فقالوا: لسنا نعلم أكان أفضل ممن سلف من الأنبياء، أو كان مساوياً لهم، أو دونهم. فيما يستحق به الثواب. فأما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محمد بن عبد الله فكان أفضل منه على غير ارتياب.

وقال فريق آخر منهم: ان أمير المؤمنین (صلوات الله وسلامه عليه) أفضل البشر سوى أولي العزم من الرسل فأنهم أفضل منه عند الله))(6)

الإمام علي (عليه السلام) والنهج الإسلامي:

قيل ((إنَّ ظاهرة التنوع الديني هي واحدة من اكبر الاثارات أو التساؤلات المطروحة أمام الفكر الديني اليوم. كما أن وجود المجتمعات التي تتعايش في اوساطها قيم وتعاليم دينية مختلفة ومتباينة وما تمليه هذه المعايشة في ضرورة توسيع العلاقات الاجتماعية وما أحدثته وتحدثه ثورة الاتصالات على أعتاب الألفية الثالثة وكل ذلك او بعضه ربما يكون سبباً لأن تمنح هذه المفردة الحيوية أهميتها المطلوبة))(7).

ص: 332

ولهذا فإن ظاهرة التنوع والتعدد في الرؤى والفلسفات وكذا الأديان أمر طبیعي عاش مع الانسان منذ أن وطأ الأرض. انطلاقاً من تشابك الاهواء والنوازع والرؤى والمصالح والعاطفة على العقل الإنساني المجرد وتبعا لذلك اختلفت الثقافات داخل الدين الواحد، وتعددت الاديان داخل الثقافة الواحدة. ولكن الأمر الذي يفرضه الدين والثقافة معاً هو الحوار الحر الهادف في موارد الاختلاف. فلا دين دون ثقافة، ولا ثقافة بدون دین. وان ادعت بعض موارد الثقافة بعدم وجود الدين فيها، فأنها تخرج من دائرة الثقافة بمفهومها العام والخاص لتدخل في مفهوم الجهل، بل والجهل المركب، لأن أولئك المدعين بعدم وجوده بثقافتهم يرفضون ذلك في حياتهم الخاصة. ومع المجتمع.

والاسلام واحد من تلك الاديان بل هو خاتمها. وموقفه في التعدد والاختلاف واضحاً وبيناً في الكثير من آيات القرآن الكريم قال تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ..».

وهذه السورة من اوائل السور النازلة لتوضح لنا الطريق الأمثل الذي ينتهجه الاسلام مع المخالفة لدعوته. فهي مكية ومن لحنها ((نفهم انها نزلت في زمان كان المسلمون في اقلية والكفار في اکثرية والنبي يعاني من الضغوط التي تطلب منه ان يهادن المشركين، وامام هذه الضغوط كان النبي يعلن صموده واصراره على المبدأ، دون أن يصطدم بهم، وفي هذا درس عبرة لكل المسلمين أن لا يسامحوا أعداء الاسلام في مبادئ الدين مهما كانت الظروف، وان يبعثوا اليأس في قلوبهم متى ما بادروا إلى هذه المساومة))(8).

ففي السورة هذه يصل الأمر بين الفريقين الى التقاطع، بدليل التكرار للآيات الأربعة في وسطها(9)، وينتهي باختصاص كل منهم بدينه، او بالجزاء الذي ينتظره

ص: 333

من دينه(10) 0 فبعد أن أوضح لهم سبيل الطريق الذي هم سالكيه من الضلال، وهم بمغبة النهاية، ناداهم: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..»(11). أي ((أنَّ الدين لا إكراه فيه، والهدى الذي يكره عليه لن يهتدي به أحد، وإنما هو إكمال الحجة واتمام عناصرها، ليستبين الرشد ویتمایز عن الغي، ومن هنا لا يكون هم المؤمنين جبر الناس على الهدى، وانما ابلاغ آیات الهدى اليهم، حتى يتبين لهم الحق))(12)

وفي قوله تعالى «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(13)

«وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»(14)

وغيرها الكثير توضح مدى التعايش السلمي والمدني الذي يدعو اليه الاسلام بكل حيثيات الموضوع من اختلافات وفروق.

أما ما علق في الاذهان أو ما قيل غير ذلك في مدونات ومؤلفات المفكرين المسلمين فأنها ملتبسة مع ((طبيعة الظروف والأحوال والظواهر السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، فولادة وطغيان واستبداد الخلفاء والسلاطين من العصر الأموي الى آخر سلطان عثماني، رسخ صورة للإله طمست رحمته ورأفته وعفوه وجماله وجلاله، الذي يتجلی مشرقا في النص القرآني، وجرى تهميش واقصاء الآثار العلماء الذين لا يتطابق موقفهم مع هذه الرؤية، لأنها كانت تفصح عن اجتهادات تسعى لمقاربة تلك الموضوعات من منظور مختلف، وتفضي الى اكتشاف الأبعاد الانسانية في الدين والاعلان عن احتقار الاخر أو عدم احترامه، لا صلة له بالدين. لأن الدين هو الحب، والحب هو الدين))(15).

ص: 334

فما كان مطبقا على مسرح الحياة في تاريخ المسلمين على حقبه المتعددة لا يمثل النظرية الاسلامية لكل مناحي الحياة، وقد اعتبره البعض مسيرة تطبيقية للإسلام. وفي الحقيقة فالإسلام شيء وما جرى شيء لا ينتمي اليه.

ومن هنا جاء البحث في مسيرة علي (عليه السلام). فقد أشار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقف متعددة الى مكانة الامام علي (عليه السلام) في الاسلام ودوره في مسيرته. فقد شهدت آيات القرآن الكريم بدور الامام علي (عليه السلام) من الاسلام وعقيدته(16). وأشار الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقف متعددة بسيرته وحديثه الى ذلك الدور ومكانته من الاسلام(17) 0 وحفلت أقواله وخطبه في ذلك الدور وتلك المكانة فمن قوله: ((وقد علمتم من موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة. وصنعني في هجره وانا ولد يضمني الى صدره و یکنفني في فراشة، ويمسني جسده، ويشمني عرفه،. وكان يمضغ الشيء ثمر يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلى الله عليه واله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد کنت اتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان يجاور في كل سنة سجراء فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غیر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما أری نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة))(18).

وفي اخرى يبين فيها فضله على الصحابة في الاسلام: ((ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في الموطن التي ينكص فيها الأبطال، وتتأخر الاقدام

ص: 335

بنجدة أكرمني الله بها.

ولقد قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وان رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غسله (صلى الله عليه وآله وسلم) والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هيمنة منهم، يصلون عليه حتی واریناه ضريحه. فمن ذا أحق به مني حياً أو ميتاً، فأنفذوا على بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوکم، فو الذي لا اله الا هو اني لعلى جادة الحق، وأنهم لعل مذلة الباطل. اقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم))(19).

ونكتفي بهاتين الخطبتين من خطبه الكثيرة بالإشارة والتلميح لنهجه الذي يسلكه ومسيرته في الحياة التي تمثل الأنموذج الأمثل والميزان الحق للفصل بين الأصيل واللصيق، وبين الحق والباطل، وبين الاسلامي والدخيل عليه، وصرح بصدق نیته، وسلامة قصده، وخوفه من الله وبيانه للصراط المستقيم، نظرية الاسلام ومبادئه في التعامل مع العدو والخصم. وفي فترات النزاع والحرب، وما عرف عنه حتى عند ألد أعدائه أنه كنز من الأموال شيء في كل مراحل حياته.

وقد صرح بذلك بقوله: ((فوالله ما كنزت من دنیاکم بتراً، ولا أدخرت غنائمها وقرا))(20).

فقال: ((والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لکنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة او الله ما استغفل بالمكيدة، ولا استغمز بالشديدة))(21).

وانطلاقاً من توضيح طريق الهداية واتباع سبل السلام عندما تحتدم الافكار وتتحور الحقائق، وتتناوش الأهواء والآراء البدع والضلالات فتختلط مع السنين

ص: 336

والهدي. وتزيد عتمة الابصار البصائر زيفاً فقد أشار الى ميزان الحق وفيصل الهدى متمثلاً في اتباع آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فوصفهم بقوله:

((هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم من علمهم، وظاهرهم من باطنهم، وصمتهم من حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، هم دعائم الاسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق في نصابه، وانزاح الحق عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدین عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل))(22). ولم يكن بعيداً عن المبدأ القرآني الذي اوضح الرشد من الغي. ونكتفي بهذا القدر من الاشارات بوضوح النهج الاسلامي الأصيل في مسيرة الامام علي (عليه السلام) العامة في الحياة. وفي النظم وفي التشريعات والاحكام. ليكون لنا دليلاً على لغة الحوار الحضاري الإسلامي من اصفی منابعه، وادق تطبيقاته من خلال التطبيق الذي انتهجه الامام علي (عليه السلام) واقواله التي ذكرت لنا.

نهج الامام علي (عليه السلام) في الحوار الحضاري:

إن من أبرز المواقف تتوضح في احرج الظروف، وخاصة عندما تتفق تلك المواقف مع الأهواء والاطماع والمصالح الخاصة. فالانخراط في مغبتها یکون أقرب للنفس الإنسانية الأمارة بالسوء. لكننا نراه يطوي عن الاطماع كشحاً، وعن الأهواء ردعاً، لا تجذبه الدعوات، ولا تقوده النوازع. ففي أمر الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المؤهل الأول بدون منازع. ولكن الكثيرة التي اشرنا اليها غلبت الحق واهله. فانزوی و تحاور مع الطامعين بالتي هي احسن، فسدل عنها ثوباً وصبر على طحية عمياء. ورأى أن الصبر على ذلك أحجي. وقد اشار موقفه ذلك قولاً وفعلاً(23).

ص: 337

فلم يكن الأمر وليد عصر الامام علي (عليه السلام) ولا قريب عهد من ذلك، فالنتائج التي اولدها (صلح الحديبية) و(فتح مكة) ودخول الناس للإسلام افواجا(24). اعطت للكثرة كفة راحجة على النوع.

وقد خاطبهم القرآن الكريم بقوله تعالى «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(25)

فظهرت حركة النفاق واسعة النطاق داخل المجتمع الاسلامي واستشرى أمرها. وقد وصفتها سورة التوبة وصفاً دقيقاً رائعاً «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ»(26)

بل حذر المؤمنين الذين هاجروا وتركوا الاهل والاحبة والاموال ودافعوا عن الاسلام وعقائده. حذرهم أن يتأثروا في مسيرة ایمانهم من هذه الحركة. حتی وان كان بعضهم من ابائهم او اخوانهم او عشيرتهم.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ

ص: 338

وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ»(27)

ولهذا فأن احداث السقيفة التي خلفت الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) وعصفت بالامة لم تكن وليدة عصرها، ولم تكن بعيدة عن التخطيط المسبق لها، ولم تكن بعيدة عن ايدي اولئك المؤلفة قلوبهم او ما يدعونهم بمسلمة الفتح، بعدان اصبحو من الطبقة المتدينة في ذلك المجتمع الجديد الذي اعتبر الايمان والسبق له طريقاً للمفاضلة.

فتأثر الاوائل بها واهوتهم اراء القادمين الجدد. اضف الى ذلك العصبية القبلية واضغاث الجاهلية واحقادهم وثارات قتلاهم(28).

كل هذه ابعدت الامام علي (عليه السلام) عن تولي قيادة الأمة وقتذاك . واضافت الى المسيرة المطامع والاهواء والمصالح الخاصة والفئوية واضافت الى المسيرة المطامع والاهواء والمصالح الخاصة والفئوية التي لا يستطيع الانسان ان يتخلص منها الا من رحمه الله فإذا أردنا أن نخفف لغة الخطاب في بحثنا هذا، ولا نطلق على هؤلاء من اعانهم لفظة (الاعداء). فعلى الاقل هم مخالفون ومناوئون، ومع كل هذا فقد كان للإمام علي (عليه السلام) معهم لغة حوار حضاري بالوعي والارشاد والنصح والتوجيه بعيدا عن التشنج والتمرد والاعتداء(29).

((والله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الا عليَّ خاصةً))

وقد تطابقت اقواله مع افعاله فكان له اعظم الادوار لأنه ((يعتبر نفسه امیر المؤمنين خارج الخلافة، كما أنه أمير المؤمنين داخل الخلافة، وانه مسؤول عن الاسلام کله سواء كان على راس المسؤولية او لم یکن))(30).

ص: 339

فاذا ما تعدينا تلك الحقبة التاريخية بعجالة تتطلبها طبيعة بحثنا هذا، ولربع قرن من الزمن بما تحمله من مفارقات وأحداث ومحن عصفت بالأمة، وخلفت إنحرافات تلو الإنحرافات في نظمها السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية، وحتى العبادية منها في بعض الأحايين.

ولهذا فقد ورث الإمام علي (عليه السلام) تبعة كبيرة من حصيلة تلك الأعوام، وإنطلاقا مما يحمله من علم ودراية ووعي وحرص على النظرية الإسلامية. كان لابد له من حركة تصحيحية في مسار الأمة بكل حيثيات نظمها السائدة آنذاك. وإعادة الواقع المعاش الى التطبيق الأمثل للنظرية الإسلامية باعتباره الإنموذج الأمثل لها.

وكان يعي ما سيحدث له لذلك رفض قبول بيعتهم في أول الأمر وخاطبهم ((أنا لكم وزير خير من اكون امير)) وقال (عليه السلام): ((أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ على العلماء ان لايقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنیا کم هذه أزهد عندي من عفطة عنز))(31)

وأوضح نهجه لهم بعد تسنمه دفة الحكم في النظام الإداري والقيادي.(33) وبالنظام الإقتصادي وتوزيع الثروات ومحاسبة المفسدين والمثرين على حساب الطبقات الفقيرة.(33)

وفعلا بدأ بحركة الإصلاح والتغيير بكل مفاصل الدولة والمجتمع.(34)

ومن البديهي أن تضيف له هذه الإصلاحات أعداءا الى أعدائه، وتزيد لأعدائه التقليديين أنصارا الى انصارهم.

ص: 340

فكيف خاطبهم الإمام علي (عليه السلام) وما الحوار الذي واجههم به وتعامل به معهم.

فالناكثون (اصحاب الجمل)

كانت ثورة القائمين بها والمشتركين معهم إعتداءا على السلطة الشرعية، وإمتناعهم عن حركة التصحيح التي نهض بها ودعا اليها، ولا يحتاجأعتدائهم الى دليل أو برهان يدلل على أنهم هم المعتدون، فمسرح المعركة بين البصرة والكوفة وبعيدا عن مواطنهم في مكة والمدينة، وقد جندوا لها الجند وأعدوا العدة للقتال، واصطحبوا زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله) معهم وقطعوا الطريق من مكة والمدينة إلى البصرة فالكوفة، من اجل اسقاط داعي الحق والعودة بالإسلام إلى الجاهلية الأولى مع علمهم بمكانة علي من الإسلام ورسوله.

ولم تكن الحرب بينهم على اختلاف في الرأي أو على نكثهم لبيعته بعدان بايعوه.

فلم يبد أهم الإمام علي (عليه السلام) بالقتال، وهذا منهجه ومنهج الإسلام في لغة فض النزاعات وإختلاف الرؤى(35)، ولكن حربه لهم لأنهم أشاعوا الفساد في الأرض وإعتدوا على الشعب. فقد إعتدوا على (ابن حنيف) عامل الإمام علي على البصرة بعد الضرب المبرح والعقوبة الشديدة من دون ذنب. وقتلوا السيابجة وقتلوا (حکیم بن جبلة العبدي) وقتلوا رجالا صالحين ثم تتبعوا كل من نجا منهم وأخذوهم في كل حائط وتحت كل رابية ثم يضربون رقابهم.(36) فعاثوا في الأرض فسادا، وحاربوا الله ورسوله عمدا، فما كان للغة الحوار معهم غير الوقوف امام حركة الإفساد وتأمين حياة الناس. ومع كل هذا فقد ترك لهم فرصة العودة فجادلهم بالتي هي احسن ووعظهم وحاججهم قبل أن يقع السيف بينهم، فأبوا

ص: 341

الإ العناد والحرب.

وقد أوضح الإمام علي (عليه السلام) الموقف باختصار وما دار بينه وبين قادة التمرد (الزبير وطلحة) وكيف بایعاه ونقضا العهد والبيعة، ووصف خروجهما بالغدرة. ومن نص قوله (عليه السلام) لهم: ((وبايعني في أولكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، والله يعلم أنهما يريدان الغدرة، فجددت عليها العهد في الطاعة وأن لايبغيا للأمة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيالي ونكثا بيعتي ونقضاعهدي. فعجبا لهما من إنقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي، ولست دون أحد الرجلين! ولو شئت ان اقول لقلت اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقي وصغرا في امري وظفرني بهما))(37)

اما القاسطون (أهل صفين)

فقد كان معاوية قد أعلن الحرب مستعدا للقتال بعد امتناعه الإنصياع الى ارادة الدولة وارادة الأمة وتنحيته من مناصبه التي كلفوه بها الذين سبقوا الإمام علي (عليه السلام)(38). ولربما تتطلب مسالك السياسة في امر معاوية هذا - عند البعض - انه كان بالإمكان الإبقاء عليه في ولايته على الشام لفترة من الزمن ومن ثم تنحيته عن منصبه بعد ذلك، وذلك لتجذر معاوية على ولاية الشام منذ فتحت عام 18 ه ولم ترى الشام واليا منذ مصروهاغير معاوية، أي ما يقارب عقدين من الزمن في وقتذاك.

لم يغب هذا عن الامام علي (عليه السلام) ولكنه يدخل في باب المكر والخديعة التي تتصف بها السياسة السلطوية الدنيوية، وهذا ليس من مباديء الاسلام التي جاهد الإمام علي (عليه السلام) من اجل تطبيقها بكل حيثياتها. هذا اولا.

ص: 342

والأمر الثاني لم يكن خافيا على معاوية ومن احاط به هذا الأمر حتى يقبل به. فسياسة الإمام علي (عليه السلام) الإدارية في تولية الولاة واعتراضاته على الكثير منهم منذ توليهم أول مرة من قبل الخلفاء الذين سبقوه وعلى مر الزمن واضحا لكل الناس.

وكان حوار الإمام علي (عليه السلام) مع هؤلاء حوارا حضاريا سلميا في باديء الأمر برسائل متبادلة ورسل وقد استفرغ وسعه معهم حتى آخر لحظات الحرب ووقوع السيف بينهم. وجاهد على أن لاتقع الحرب أو يصل الأمر اليه، ولكنهم أبوا إلا الحرب ولغة السيف، عندها لابد له من الدفاع عن الحق و مسيرة الإصلاح التي بناها الإمام علي (عليه السلام) (39).

اما المارقون (الخوارج)

فلم يقاتلهم الإمام علي (عليه السلام) على اختلافهم بالرأي معه، ولاعلى عدائهم إياه، أو لأنهم كفروه، ولاعلى معتقداتهم التي حوروها. بل لأنهم أشاعوا الفوضى والرعب والإرهاب على الناس وقطعوا الطريق على من يخالفهم الرأي، ولا يعتقد بما يعتقدون. وفي قتلهم للصحابي الجليل (عبد الله بن الحباب) وإمراته وهي حامل والتمثيل بهم، في حين انكروا على رجل منهم قتل خنزيرا، فاعدوا ذلك من السعي في الأرض فسادا(40).

ومع كل هذا لم يترك الإمام علي (عليه السلام) الحوار الحضاري معهم ولم يأل جهدا في ردعهم عن مغبة افعالهم بنصحهم ومنعهم من التعدي على الناس، فلم ينصاعوا ولم يرتدعوا. فارسل اليهم (الحارث بن مرة العبدي) ليفاوضهم في الكف عن الأذى والحرب، فقتلوه عنوة، وارسل اليهم ابن عمه (عبد الله بن العباس)، فخاصمهم بالحجة، ودحضهم بالدليل، وكشف لهم جهل ما يفعلون. فاصروا

ص: 343

على الجهالة والعمى. عند ذلك كلمهم الإمام علي بنفسه وذكرهم بمواقفهم ملقيا الحجة الأخيرة عليهم، فعاد جماعة منهم واستقبلهم برحابة صدر وسامحهم.

بینما اصر الباقون الا لغة الحرب والسيف، وما بدأهم بالقتال إلا من بعد ما رموه بالسهام إيذانا منهم بمنطق الحرب والسيف، عندها كان الواجب يحتم على الإمام علي (عليه السلام) الدفاع عن الحق والمجتمع(41).

أما حواره مع الممتنعين عن بيعته ومواقفهم فكان صورة رائعة من صور الحوار الحضاري، أوضحها في قوله لهم في اروع مادة دستورية يحتكم اليها:

((ايها الناس انکم بایعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي وانما الخيار الى الناس قبل أن يبايعوا، فاذا بایعوا فلا خيار لهم، وان على الإمام الإستقامة وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غیر سبیل اهله، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس امري و امرکم واحد، واني اريدكم لله، وانتم تريدونني لأنفسكم، وأيم الله لأنصحن للخصم ولإنصفن للمظلوم، وقد بلغني عن سعد واسامة وعبد الله وحسان بن ثابت امور کرهتها، والحق بيني وبينهم))(42)

ومع كل ذلك وفي كل الأحداث فنراه في ضراوة الحرب وآلامها، ونشوة النصر وخذلان العدو(43) لانرى الشماتة في خطابه ولا القساوة في لغته معهم بل براه يتألم للقتلى في الحرب، ويرثيهم، ويصلي عليهم 0 ويوصي بالجرحى، ويتعامل مع الأسرى المعاملة الإنسانية، ويحرص على إطعامهم، ويسامح المنهزمين منهم ويعفو عنهم ويسامحهم ويوصل عطائهم(44).

وطالما قدم الصلح والمفاوضة على الحرب مع الأعداء انطلاقا من قوله تعالى

ص: 344

«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(45)،

وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ»(46)

اما لغته في الحوار الحضاري في منهجه في القضاء فقد اعلن مبدأ علنية المحاكمة وعلى رؤوس الأشهاد، والمساواة بين الخصوم المتنازعة دون تفريق بين المكانات الإجتماعية مهما كانت ولا حصانة دبلوماسية لأحد في حكومته 0

ف(47) لما قام (شريح القاضي) إجلالا وإكبارا له بصفته خليفة المسلمين فيما روي من قضية بينه وبين ذمي كان خصم له في درع، بادره الإمام علي (عليه السلام) بقوله: ((یا شریح هذا اول جورك))(48).

وفي عهده (لمالك الأشتر النخعي) أروع ما سطره الموروث البشري من إنسانية، وأبدع ما احتواه العهد من دستور، وما تضمنه من مواد قانونية 0 آثرنا عدم الخوض فيه خوف الإطالة، إذ من المؤكد ان تكون له منزلة من بحوث هذا المؤتمر. فمن مواده ((الناس صنفان: أما أخ لك في الدين أو شبيه لك في الإنسانية)) ومن مواده ((الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمنی. فان في هذه الطبقة قانعا ومعتر)(49)

وفي نهاية المطاف، ونهاية رحلة العمر المضنية بين شظف العيش ومقارعة الخطوب، وبين تهكم الأعداء، وكثرة النوائب، فقد دنت منيته في السيف في محراب صلاته وهو بين يدي الله وأقرب حالة يكون بها القرب إلى الله، بعد ان بدأت حياته وولادته في اقدس محراب. وفي خضم الالام ونزاع الروح يوصي بقاتله ان يطعموه ويسقوه ولا يمثلوا به لو ارادوا قتله.

ص: 345

وكانت آخر كلماته لولديه (الحسن والحسين)(50):

((اوصيكم بتقوى الله ولاتبغيا الدنيا وان بغتكما))

و ((قولا بالحق)) و ((إعملا للأجر)) و ((كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا))

ومن وصاياه ((خالطوا الناس مخالطة أن متم معها بكوا عليكم))

فمضى إلى ربه راضيا مرضيا محتسبا وترك تراثا لمن اراد ان يعرف حقيقة دين محمد بن عبد الله خاتم النبین (صلى الله عليه وآله).

والحمد لله اولا وآخر ونستغفره عن الخطأ والنسيان وما شذمن شطحات الفكر وزلات القلم.

هوامش البحث

(1) سورة المؤمنون: 70، 71

(2) سورة الأعراف: 186

(3) سورة الأعراف: 17

(4) سورة الأنعام: 116

(5) فضل الله (السيد محمد حسین): علي میزان الحق: 35، اعداد وتنسيق: صادق اليعقوبي، ط 1، الناشر: دار الملاك، بيروت، 2003 م - 1423 ه.

(6) الشيخ المفيد (محمد بن عبد النعمان بن المعلم ابو عبد الله العكبري البغدادي ت 413 ه) تفضیل امير المؤمنين: 19، مطبوع مع مجموعة مصنفات الشيخ المفيد (المجلد السابع) من اصدارات المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد (بدون تفصیلات طبع).

(7 ) ليکنها وزن (محمد): الاسلام والتعددية الدينية: 7، دار الفكر الجديد / النجف الاشرف - العراق.

(8) الشيرازي (الشيخ ناصر مکارم): الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل:

15 / 567، ط 1، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات: بيروت - لبنان، 1428 ه، 2007 م.

(9) ينظر / الفخر الرازي: التفسير الكبير: حج 11 / 330 وما بعدها ج 32، ط: 1: دار احیاء التراث

ص: 346

العربي الاسلامي: بيروت - لبنان. (10) ينظر / الطبطبائي (السيد محمد حسين): الميزان في تفسير القرآن: 20 / 433 وما بعدها، ط 1: منشورات مؤسسة دار المجتبى للمطبوعات - قم - ایران 1430 ه - 2009 م.

(11) سورة البقرة: 256.

(12) المدرسي (السيد محمد تقي): من هدى القرين: 1 / 340، ط: 2، دار القارئ: بیروت 1429 ه - 2008 م.

(13) سورة النحل: 125

(14) سورة فصلت: 34

(15) الرفاعي (عبد الجبار): تحرير الدين من الكراهية: 5 بحث لمجموعة مفكرين في مجال فلسفة الدين والكلام الجديد منشور في كتاب (التسامح ليس منة أو هبه) ط: 1، دار الهادي: بیروت، 1427 ه - 2006 م.

(16) للتوسعة في ذلك ينظر / الشيرازي (السيد صادق الحسيني): علي في القرآن، فقد فصل القول فيما انزل في الامام علي (عليه السلام) من القرآن الكريم، ط: 7، مطبعة كوثر: قم ایران: 1423 ه.

(17) للتوسعة في ذلك ينظر / الاميني (الشيخ عبد الحسين): الغدير في الكتاب والسنة.

(18) نهج البلاغة: الناشر: العتبة العلوية المقدسة / في النجف الاشرف 1431 ه - 2010 م.

(19) نهج البلاغة: الخطبة رقم (197) / 339، 340.

(20) نهج البلاغة: الخطبة رقم / 45.

(21) نهج البلاغة: الخطبة رقم 200 / 346.

(22) نهج البلاغة: الخطبة رقم 237 / 384 - 385.

(23) ينظر / نهج البلاغة: الخطبة رقم (3) المعروفة بالشقشقية / ص 50، و كذلك الخطبة رقم (5) / 58.

(24) وقد اشارت سورة النصر الى ذلك صراحة.

(25) سورة الحجرات: 14

(26) سورة التوبة : من 7 الى 10

(27) سورة التوبة: 23، 24، 25

(28) ينظر / الطبري: التاريخ: 2 / 252.

(29) ينظر في التوسعة من مواقفه مع الخلفاء: الشيخ المفيد / الارشاد / مع ابي بكر 101 وما بعدها، ومع عمر بن الخطاب 103 وما بعدها، المجلد (11) من مصنفات الشيخ المفيد.

ص: 347

(30) فضل الله (محمد حسین): علي میزان الحق: 121.

(31) نهج البلاغة: الخطبة (33): 91

وانظر كذلك: ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة: 1 / 135

(32) ينظر: نهج البلاغة: الخطبة (16): 66

(33) يبظر: نهج البلاغة: الخطبة رقم (15): 65

(34) في تفصيلات ذلك ينظر: الخفاجي (د. محمود شاکر عبود): الإمام علي يحاكم التاريخ: الكتاب الثاني / 58 وما بعدها

من كتاب (بحوث ودراسات في الفكر الإسلامي المعاصر)، ط: 1: دار ابن السكيت: ديوانية - العراق، 2015 م

(35) ينظر في تفصيلات مفاوضاته معهم ورسله اليهم واحتجاجه في حقه: ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة: 1 / 160 ومابعدها

وكذلك ينظر: مرتضى الميلاني: محاضرات في المعارف الاسلامية: 1 / 291

ط: 1، الناشر دار الأسوة، طهران، 1424 ه ق

(36) ينظر: الشيخ المفيد: الإرشاد: 128

(37) الشيخ المفيد: الإرشاد: 124

(38) راجع تفصیلات ذلك: المسعودي (ابو الحسن علي بن الحسين بن علي ت 346 ه): مروج الذهب ومعادن الجواهر

ط: 2، دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان، 14628 ه - 2007 م، 2 / 394 وما بعدها

(39) ينظر: المصدر نفسه

(40) ينظر: مرتضى الميلاني: محاضرات في المعارف الاسلامية: 1 / 195 ومابعدها

(41) ينظر: المصدر نفسه: 1 / 197 ومابعدها

(42) الشيخ المفيد: الإرشاد: 124

(43) ينظر امثلة كثيرة على ذلك في: المياحي (د. شکري ناصر): الإمام علي (دراسة في فكره العسكري): 80 ومابعدها

ط: 1، مؤسسة التاريخ العربي، بیروت، 1434 ه - 2013 م

(44) سورة الأنفال: 1

(45) سورة البقرة: 208

ص: 348

(46) ينظر: فاضل عباس الملا: الإمام علي ومنهجه في القضاء:103 وما بعدها

ط: 1، الناشر: العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 1432 ه - 2010 م

(47) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة: 17 / 85

(48) المصدر نفسه: 3 / 245

ص: 349

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. الاميني (الشيخ عبد الحسين): الغدير في الكتاب والسنة

2. ط: 1، دار احیاء التراث العربي، بیروت 1976 م

3. الخفاجي (د. محمود شاكر عبود): الإمام علي يحاكم التاريخ:

4. من كتاب (بحوث ودراسات في الفكر الإسلامي المعاصر)

5. ط: 1: دار ابن السكيت: ديوانية - العراق، 2015 م

6. الرفاعي (عبد الجبار): تحرير الدين من الكراهية

7. بحث لمجموعة مفكرين في مجال فلسفة الدين والكلام الجديد

8. منشور في كتاب (التسامح ليس منة أو هبه)

9. ط: 1، دار الهادي: بیروت، 1427 ه - 2006 م.

10. الشيرازي (السيد صادق الحسيني): علي في القرآن ط: 7، مطبعة كوثر: قم ایران: 1423 ه.

11. الشيرازي (الشيخ ناصر مکارم): الامثل في تفسير كتاب الله المنزل

12. ط 1، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: بيروت - لبنان، 1428 ه، 2007 م.

13. الطباطبائي (السيد محمد حسین): الميزان في تفسير القرآن ط 1: منشورات مؤسسة دار المجتبی، قم - ایران 1930 ه - 2009 م

14. الطبري: التاريخ دار احیاء التراث العربي - بيروت لبنان

15. فاضل عباس الملا: الإمام علي ومنهجه في القضاء: ط: 1، الناشر: العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف، 1432 ه - 2010 م

ص: 350

16. الفخر الرازي: التفسير الكبير: ط: 1: دار احیاء التراث العربي الاسلامي:

بيروت - لبنان.

17. فضل الله (السيد محمد حسین): على ميزان الحق اعداد وتنسيق: صادق اليعقوبي ط 1، الناشر: دار الملاك، بیروت، 2003 م - 1423 ه.

18. ليکنها وزن (محمد): الاسلام والتعددية الدينية دار الفكر الجديد / النجف الاشرف - العراق

19. المدرسي (السيد محمد تقي): من هدى القرآن ط: 2، دار القارئ: بیروت 1929 ه - 2008 م.

20. مرتضى الميلاني: محاضرات في المعارف الاسلامية: ط: 1، الناشر دار الأسوة، طهران، 1424 ه ق

21. المسعودي (ابو الحسن علي بن الحسين بن علي ت 346 ه) مروج الذهب ومعادن الجواهر ط: 2، دار الكتاب العربي: بيروت - لبنان، 1428 ه - 2007 م

22. المياحي (د. شکري ناصر): الإمام علي (دراسة في فكره العسكري) ط: 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1434 ه - 2013 م

23. نهج البلاغة الناشر: العتبة العلوية المقدسة / في النجف الاشرف 1431 ه - 2010 م.

ص: 351

ص: 352

الخطاب الديني ونفور الشباب منه وأليات بناء الثقة في ضوء فكر الإمام علي عليه السلام

اشارة

الباحث محمد قاسم عبد الحميد الحبوبي

ص: 353

ص: 354

المقدمة

بسمه تعالي خالق الخلق وله الحمد، وبه نستعين من دون أحد، والصلاة والسلام على صفوة الخلق محمد وآله ذوي النهى وخير سند، وبعد..

يمتاز الخطاب الديني من بين أنواع الخطاب بأنه أكثر شمولية وأقرب وجدان للناس، فأما عنصر الشمولية فلاستيعابه الجوانب المختلفة، من نفسية واجتماعية وأخلاقية وتربوية وعلمية واقتصادية وسياسية وغيرها.. فضلاً عن جانب التبليغ الديني، وأما العنصر الوجداني فمن الواضح أنه يمثل انعكاساً للفطرة التي ولد الانسان عليها، فطرة التوحيد والإخلاص لله تعالى، تلك الفطرة التي يعنيها الحديث الشريف للنبي الأكرم (صلى الله علیه و آله) ((كل مولود يولد على الفطرة إلا أن يأتي أبواه فيهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))، فطرة الدين الحنيف، وشريعته السمحاء، والمُعبرّ عنه في القرآن الكريم بتأكيد دون تردید ((إن الدين عند الله الإسلام)).

فإذا كان الخطاب الديني بهذه الشمولية والوجدانية، فلا عجب أن تكون له من الآثار الكثيرة والخطيرة على المجتمعات الإنسانية عامة، والإسلامية خاصة، فكيف لو كان الخطاب الديني مثلاً خطاباً علوياً، فإنه حتماً سيعطي للخطاب ألوان الحرية والتضحية والشجاعة، فيصير بذلك خطاباً جماهيريا يتجاوز الحدود رغماً عن أنوف الحكومات الوضعية، وصفعةً لضوابط الحدود والجنسية، وحينها ما خالف الصواب من قال: ((إذا أردت مشروعاً یزیل القيود وسجن المعاصر الحدود فدع عنك مشاريع الوحدوية والعولمة، وخذ صادقاً فکر علي..))، ونشد الأزر لكل من يسعى في تهذيب الخطاب الديني تطويراً للخطاب المعاصر.

ومن هنا نرى أن الخطاب الديني كي يُعطى حقُه ليُجنى ثمره، لا بد عند

ص: 355

البحث والتحقيق في أصوله وأبعاده التخلي عن التساهل والمجاملة وعن تقديم الأهداف والغايات البسيطة على الأهداف العليا والغايات العظيمة، تلك الغايات الشريفة التي لا شك أنها تمثل المبادئ الأساس للإسلام الحنيف، ومن أرادها واضحة بلا تكلف فلا يعدو سيرة المعصومين عليهم السلام، محمد وآل محمد عليهم السلام، ومن ثم سيرة من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

لقد آثرنا الحديث هنا عن الخطاب الديني من جهة التحديات المعاصرة، وأن الخلل فيه يلزم منه سلبا النفور العام وخاصة شريحة الشباب، مما يستدعي ضرورة إعادة الثقة أو بناؤها من خلال الذوبان في التراث العلوي وديمومة عطائه، ووجوب التصدي المنطقي والأخلاقي لتلك العقليات الا عقلية، والوثنيات المتزمتة التي لا ترى غير أوثانها..، فعمدنا إلى بحث آفات الخطاب وآليات علاجها، غايتنا منه الإصلاح ما استطعنا، عليه توكلنا وإليه أنبنا.

وقبل الغور في مطالب البحث وفروعه نقدم مجموعة من الأمور الأساسية، التي تمهد للمعرفة الإجمالية لفكرة البحث، وهذه الأمور عبارة عن بيان لأهمية البحث وأهدافه، ومنهجه ونطاقه، والهيكلية العامة للبحث، وكما يأتي تباعاً:

أولاً: أهمية البحث

يمكن تحسس أهمية هذا البحث من خلال طبيعة التحديات التي تعترض اليوم المنبر الديني في خطابه، لذا يمكن إجمال عناصر الأهمية بما يأتي:

التعرف على أسباب هذه التحديات، بعد تشخيصها بصورة إجمالية.

تمييز التحديات الداخلية المتعلقة بنفس الخطاب عن التحديات الخارجية، ثم حصر البحث في الأولى، للتركيز على أهمية تحصين الخطاب في ذاته وحفاظاً على

ص: 356

قدسيته، قبل الانطلاق به إلى العالم الخارجي، لأن التحديات الداخلية تُمثل بعبارة أخرى سلبيات الخطاب.

مناقشة التحديات باختصار تفرضه أجواء البحث، ومن ثم وصف بعض العلاجات من كلام أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام وتراثه الفذ في تصحيح مسار بناء الثقة، ومنه تعالى العون والتسديد.

ثانياً: أهداف البحث

وهي مجموعة من الرؤى المستقبلية التي يسعى البحث إلى إبرازها والتي أهمها:

الصياغة العلمية لتعريف التحدي المعاصر للخطاب الديني.

تشخيص التحديات المعاصرة الأكبر أثراً في نفور الشباب من الخطاب الديني.

السعي لبلورة فكرة لجان التقييم الخطابي التي تُعد خطوة أساسية وجريئة في تفعيل فكر الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة أملاً في تحصيل طفرة نوعية للواقع الخطابي.

ثالثاً: منهج ونطاق البحث

يلتزم البحث في دراسته هنا بمنهج الوصف والتحليل، وإن كان في بعض الفقرات يأخذ بمنهج المقارنة إلا أن ذلك لم يصل إلى حد المنهج العام للبحث.

وأما نطاق البحث فهو دراسة خصوص التحديات التي يعيشها الخطاب الديني اليوم وليس مطلق الأزمنة، كذلك يختص البحث بدراسة التحديات الداخلية أي التي تواجه نفس الخطيب بخصوص خطابه شكلاً ومضموناً، فلا

ص: 357

يشمل البحث التحديات الخارجية، من قبيل تحديات العقيدة، وتحديات الثقافة الغربية والعولمة المزيفة أو تلك التي تواجه السلوكيات الاجتماعية وغير ذلك مما يطول ذكره، فغاية البحث التوجه لتحصين الخطيب في ذات خطابه، ليكون خطوة أساس لمن يسعى إلى دراسة التحديات الخارجية والتخطيط لمواجهتها.

رابعاً: خطة البحث

يتألف البحث من أربعة مطالب و مجموعة من العناوين الضمنية، فالمطلب الأول عام لبيان مفهوم تحديات العصر، فيشمل تعريفها وأسبابها وتقسيماتها وفقاً لرؤية الباحث، وأما المطلبين الثاني والثالث فهي لبيان التحديات الشكلية والموضوعية المواجهة للخطاب الديني فقط، والتي تمثل بمجموعها علل الخطاب في نفور الشباب، وأما المطلب الرابع فيختص ببيان آليات بناء الثقة المستوحاة من فكر الإمام علي عليه السلام، وأخيراً الخاتمة التي نجمل فيها نتائج البحث ومقترحاته، ومنه تعالى نرجو القبول والتوفيق.

ص: 358

المطلب الأول مفهوم التحديات

يشمل المفهوم كل ما يدخل في بيان معنى التحديات، للوصول إلى أوضح وأدق صورة ذهنية في نفس المتلقي عن مصطلح التحديات المعاصرة للخطاب الديني، ولذا سيتضمن تعريفها وأسبابها وأقسامها، من خلال ثلاثة فروع وكما يأتي:

الفرع الأول: تعريف التحديات

يمكن الاطلاع على المعنى الاصطلاحي لكلمة التحديات في العنوان من خلال التعرف أولاً على المعنى اللغوي للفظ التحديات، وحسب ما يأتي:

أولاً: المعنى اللغوي

إن لفظ التحديات هو جمع لكلمة «التحدي«، وترجع كلمة التحدي إلى الفعل حدَّ وحدا، وله عدة معاني إلا أن أهمها وما يعنينا هنا معنيان، الأول يعني قَیَّدَ، وَقَفَ حائِلاً دونَ انْتِشارِ الشيء، والثاني يعني المانع لكلّ ما ليس منه، و حَدَّهُ عَنِ الأَمْرِ: صَرَفَهُ عَنْهُ ومَنَعَهُ(1)، ويرجع أصل المعنى في كليهما إلى ما ذُكر في لسان العرب: «تحديت فلانًا إذا بارته في فعل ونازَعْته الغلبة»، وهي الحُدَیَّا»(2).

ثانياً: المعنى الاصطلاحي

قبل بيان المعنى الاصطلاحي للتحدي المراد في عنوان البحث لا بد أن نميز بين التحدي الصادر والوارد، فالتحدي الصادر هو طلب الإتيان بالمثل عن طريق المحاججة والغلبة، كما في التحدي الصادر من القرآن لعتاة قريش وغيرهم

ص: 359

في طلب الإتيان بمثله: (وإن کنتم في ریب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)(3)، وليس هنا محله، وأما محل البحث هنا فهو التحدي الوارد، وهو ما يرد على الشيء ويعترضه، فالتحدي الاصطلاحي هو كل ما يجابه شيئا لنقده أو إزالته.

لذا فالمعنى الاصطلاحي المراد هنا من التحدِّيات المعاصرة التي تواجه الخطاب الديني هي كل ما يعترض اليوم منبر الخطابة في ذاته أو خطابه، شکلاً وموضوعاً، بما یُقيِّده أو يُقوِّمه، أو يَمنعه من تأدية دوره الرسالي.

الفرع الثاني: أسباب التحديات

تُعد مسألة البحث في أسباب نجاح أو تعثر منبر الخطابة، خطوة أساس الإنعاشه وتطويره، لذا يمكن إرجاع عموم التحديات التي تواجه المنبر الديني إلى عدد من الأسباب الرئيسة التي يمكن إجمالها تسلسلاً من شخص الخطيب وواقعه إلى أحوال المجتمع وثقافته سعياً لإمكانية استشراف مستقبله، وكما يأتي:

أولاً: أسباب ذاتية

تختص هذه الأسباب بذات الخطيب في نفسه وخطابه، أي مقوماته الشخصية ومؤهلاته الخطابية، بحيث يشكل الخلل في بعضها أو مجموعها غرضاً للغير، حتى يمتد الأمر ببعضها إلى مناجزة المنبر في ذاته، ولا بأس من أن يكون هناك أنموذجاً يُحتذى أو يُستعان به، ثم إلى خصوص ما يتعلق بالخطاب من هذه الأسباب الذاتية سوف يرتكز البحث، لأنها تشكل أدوات لخلق التحديات الموجهة للخطاب الديني، سواء في شكله أو مضمونه، ونُرجئ بحثها تفصیلاً تبعاً لتحدياتها في المطلب الثاني والثالث، وأما باقي الأسباب فتبحث هنا استطراداً.

ثانياً: أسباب اجتماعية

ص: 360

يمكن إجمالها بما يأتي:

تطلعات المجتمع في أن يقدم المنبر حلولاً لمجموعة من المشاكل الاجتماعية المتعلقة بتربية الأسرة ومشاكل الزواج والطلاق، والميراث والجوار وغيرها.

معاناة الخطيب من آثار التناسب العكسي بين نسبة الحضور والتفاعل الأخلاقي، وازدواجية الحق والباطل عند المخاطب.

ندرة القدوة الاجتماعية في عالم اليوم وضعف الدور التوجيهي لمؤسسات المجتمع المدني والإخفاق في توظيف التراث توظيفاً إيجابياً.

ثالثاً: أسباب اقتصادية

يعزو البعض(4) انتشار المنبر واتساعه إلى ارتفاع المستوى الاقتصادي لمقيمي المجلس وتنافسهم في بذل الخدمات للجمهور وفي عطاء الخطيب فيندفع بذلك التحدي القائم حيال اتساع رقعة المنبر الجغرافية، ولكن الواقع يُثبت أن ارتفاع المستوى الاقتصادي لا يلازمه دائماً الأثر الإيجابي، بل كثيراً ما ينعكس الأمر ويتضارب ذلك مع رسالة المنبر الإلهية، فيغدو منبراً شكلياً، لذا فإن ارتفاع المستوى الاقتصادي العام لا يشكل عاملا أساساً لانتشار المنبر وفاعليته إلا بعد الحفاظ على مبادئ منبر الخطابة وأهدافه.

رابعاً: أسباب سیاسة

يمكن إجمالها بما يأتي:

التضييق الذي تمارسه السلطة السياسية سواء على الخطيب، أو على من يعقد المنبر، أو على مرتاديه، أو جبرهم على تبني أفكارها.

تسييس الخطيب، حتى يغدو صوتاً إعلامياً للكتلة أو الحزب السياسي.

ص: 361

إقحام الخطاب بالتجاذبات السياسية حتى إذا ما بان خطأ أفكار الخطيب وتقييماته انجرت الألسن إلى ذات المنبر لتجريده مصداقيته.

خامساً: أسباب علمية

وهي عبارة عن مجموعة من الأسباب التي ترجع إلى تدني الحصيلة العلمية للخطيب، أي في المخزون العلمي وليس في أصل خطابه، سواء كان الضعف في الإعداد العقدي، أدلة وتبياناً، أو في الإعداد الفقهي إذا ما أراد التوسع في بيان المسائل الفقهية، خصوصاً فقه المسائل الخلافية، أو ضعف التفسير العلمي الذي يخالف ما عليه تطور العلوم، طبية كانت أو تطبيقية، بل حتى النفسية والإنسانية، مما يشكل مؤشراً سلبياً على ثقة المستمع بالمنبر عامة والخطيب خاصة(5)، فيتحول من كونه تحدياً علمياً مجرداً إلى تحدي علمي وأخلاقي خطير، يصطدم بذلك مع مبدئية المنبر وهيبته.

سادساً: أسباب عدائية

تختلف جذور العدائية للمنبر الخطابي باختلاف أرضية المعادي والغرض الذي يرمي إليه، لذا يمكن إجمال هذه الأسباب بما يأتي:

استمرار النواصب لأهل البيت عليهم السلام ومن هم على طريقتهم (فعلاً أو حكماً) في بث سمومهم وافتراءاتهم، أو إرهاب الفكر والدم، كما في سعيهم لكف المؤمنين عن لسانهم الصادح بالحق «المنبر الحسيني».

الفكرة الخاطئة لمدعي الثقافة العصرية في أن المنبر الديني يُشكِّل حجر عثرة في طريق العصرنة والعولمة، كالحاصل في محاربة المنبر الحسيني، إذ تراهم على أهبة الاستعداد للتعاون مع شياطين الإنس والجن إرضاءً لكل عدو وإعلاماً لثقافة النفاق التي يحملون وزرها بجهل مركب إلى يوم القيامة.

ص: 362

سابعاً: أسباب افتراضية

وهي مجموعة من الاحتمالات التي تدخل ضمن عالم التوقع الإمكاني لانبثاق محتملات من التحديات الجديدة، بناءً على الفكر التطرفي أو الجاهلي الذي تستند إليه، فيلزم منّا الكون المستمر بوضع الأهبة والاستعداد، حذراً وحمايةً للمنبر من عواقب الغفلة والعفوية، وهي كما يأتي:

استمرار الفكر التكفيري لإتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، الذي دأبه المواجهة وتهميش الغير، فهو ماكنة شغّالة لتوليد التحديات.

استمرار الفكر اليهودي وأتباعه للنيل من الإسلام المحمدي الأصيل، فيلزم الحذر منه أشد الحذر تبعاً لإيماننا بإخبار القرآن بذلك: ((لتجدنّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا))(6).

الاستعداد للشبهات والإشكالات المختلفة التي يُثيرها الجدليون أو الشواذ ويهتف بها جهلة الناس، كشبهة ألوان العزاء المبتدعة مثل التطبير بالهراوات أو تطيين الوجه، أو جدلية التساؤل عن نجاسة أو طهارة دمع اليهودي الباكي على الحسين وكيفية الجواب المناسب حذراً من هياج العوام(7).

الفرع الثالث: أقسام التحديات

توجد للتحديات تقسيمات عديدة، وذلك تبعاً لاختلاف حيثية التقسيم، فالتقسيم قد يكون من حيث أسباب هذه التحديات، وقد يكون من حيث الانتهاء العقدي وعدمه، وقد يكون من حيث عموم أركان المنبر، أو من حيث أحد أركان المنبر، ويمكن التعرف على تفصيل التقسيمات المذكورة من خصوص خلال ما يأتي:

ص: 363

أولاً: التقسيم من حيث السبب

بناءاً على أن أسباب التحديات تكون مختلفة وكثيرة ولا يمكن حصرها، إلا أنه يمكن تقسيمها وفقاً للأسباب الشائعة التي يأخذ فيها التحدي اسمه من السبب نفسه، والتي تختلف فيما بينها تأثراً وتأثيراً، وعليه تُقسم إلى تحديات سياسية واجتماعية واقتصادية وعلمية وعدائية ونفسية وذاتية وغير ذلك، تبعاً للسبب الذي تختلف فيه الأنظار، في عمومه وخصوصه، وفي إطلاقه وتقييده.

ثانياً: التقسيم من حيث الانتماء العقدي

يُعد الجانب العقدي أو العقائدي على درجة كبيرة من الأهمية، حتى أن كثير من المشاكل والحروب ذات جذور عقدية، لأنه على ضوء هذا الجانب تتوقف علاقة الانسان بخالقه، بل إن أكثر سلوكياته يمكن توقعها تبعاً للأصل العقدي، ومدى التزامه الحقيقي بذلك الأصل، ثم إن كثير من موارد الخلاف بين الأفراد والمجتمعات، ووسائل النفور والتقريب بينها مما يرتبط بهذا الجانب، وعليه تقسم التحديات تبعاً للانتهاء العقدي إلى تحديات عقدية أو طائفية وأخرى غير عقدية.

ثالثاً: التقسيم من حيث عموم أركان المنبر

يقصد بأركان المنبر: الخطيب والخِطاب والمُخاطب (الجمهور)، وهذه الأركان مها كانت تفصيلاتها فلا تتوجه التحديات إلى خصوصياتها، بل إلى عموم الأركان من خلال توجيه التحدي إلى أصل المنبر الحسيني، للقضاء عليه أو الحد من تأثيره، وعليه ترجع هذه التحديات في عمومها إلى أسباب عدائية، لذا فإن التخفيف من حدتها يكمن في الانفتاح على تراث المذاهب الإسلامية الأخرى والتفاعل معها(8)، وبناء على هذه الحيثية تقسم التحديات إلى تحديات منبرية وغير منبرية.

ص: 364

رابعاً: التقسيم من حيث خصوص أحد أركان المنبر

يستند هذا التقسيم إلى أحد أركان المنبر، فقد تتوجه التحديات إلى الخطيب، فتُقسم إلى تحديات شخصية وغير شخصية، يترتب على أثرها وضع مجموعة من الشرائط الواجب توفرها في شخصية الخطيب مثل فصاحته وبلاغته وتأريخه وعلميته وغير ذلك مما له دخل في الحد من تلك التحديات الشخصية، والمقارنة بينها سلباً وإيجاباً لمعرفة الأكثر تأثيراً للاهتمام به، وتارةً أخرى تتوجه إلى المُخاطب، فتُقسم إلى تحديات الجمهور (المتلقي) وغير الجمهور، يترتب على أثرها ضرورة الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية لمجابهة تلك التحديات، والمقارنة بين أشدها وقعاُ وأعظمها نفعاً، من قبيل التقليل من المجالس الفردية (مجالس البيوت) لأجل المجالس العامة ذات الحضور الكبير ولمختلف فئات المجتمع رغبة في التوعية الهادفة والإرشاد الجماعي مقارنة عما عليه الحال في آثار المجالس الفردية.

وتارةً ثالثة تقسم التحديات وفقاً للخطاب إلى تحديات داخلية ترجع إلى خصوص الخطاب، وتحديات خارجية ترجع إلى كل ما يحيط بالخطاب سواء ما تعلق بأركان المنبر الأخرى أو ما هو خارج نطاق المنبر، والتحديات الداخلية هي نطاق البحث هنا إذ تخص ذات الخطاب، ولذا تُقسم وفقاً لظاهر الخطاب إلى تحديات شكلية كما في المطلب الأول، ووفقاً لجوهر الخطاب إلى تحديات موضوعية كما في المطلب الثاني، والتي آثرنا البحث عنها لإيماننا بأنها الداء العضال الذي هو وراء نفور الشباب وامتعاضهم من جملة الخطاب الديني، وهي كما يأتي.

ص: 365

المطلب الثاني: تحديات الخطاب الشكلية

وتعني تلك التحديات المتوجهة نحو صورة الخطاب الصادر، من حيث أسلوب عرضه وألفاظه وأحكامه، التي تكون سبباً لنقد الخطاب والتعريض به، ومن ثم اتساع الهوة بين الخطيب والمخاطب، لاسيما الشباب فينفروا منه فرار المعزة من ذئب الفلاة، وقد تتداخل بعض هذه السلبيات مع مواصفات الخطيب، وهو أمر طبيعي بناء على العلقة الشديدة بين الخطاب وجهة صدوره، إلا أن مرادنا الأساس يبقى حول تقييم ذات الخطاب، ويمكن إجمال التحديات الشكلية بما يأتي:

الفرع الأول: ضعف اللغة

تُعد اللغة أساس الخطاب، ومهما كانت درجة الأهمية لفكرة الخطاب، أو خطورة الظرف الذي يُحتم قصر النظر نحو هدف الخطاب، فإنه لا يمكن التساهل بأخطاء اللغة التي تسلُب الخطاب رونقه، وحرارة وقعه في قلبه المُخاطب(9)، كأخطاء التلفظ للحروف، أو أخطاء قراءة الآيات القرآنية وأحاديث المعصومين عليهم السلام التي شواهدها ما لا يسع المحل لذكرها، وكذلك الأخطاء النحوية التي أضحت المعضلة الشائعة، من قبيل الاستعمال الكيفي لعلامات الإعراب، بما تمجُّها الأسماع، فتُسيء كثيراً إلى سمعة المنبر وأصالته العربية بشكل مخجل،، والتي سببها الأساس سوء الاستماع وعبث الاستعمال، فإذا السليقة السليمة معدومةٌ عنده (فتسمع بعضهم قائلاً «يمكن» بفتح الياء وضم الكاف)، أو يعيَ في تركيب الجمل (كمن يقول: أستأذن منك، والصحيح أستأذنك، أو: أكّد على كلامه، والصحيح أكّد كلامه)، أو تخمة الخطاب باللهجة العامية فيبدو شائعاً التلكؤ

ص: 366

بانتقاء الكلمات المناسبة، أو التخبط في ضوابط التقديم والتأخير، وغير ذلك مما ينبغي لعلاجه الاستعانة بأهل اللغة وذوي النطق السليم والكتب المختصة بأخطاء المنشئين، أو لا أقل من تلافي أخطاء التعبير الذاتي بالإكثار من ذكر كلام أهل البيت عليهم السلام وتأديته بصورته الصحيحة(10).

الفرع الثاني: تشوش العرض

الا ليس المراد تقييد الخطاب بأسلوب واحد، بل للخطيب الابتداء بما شاء من آية قرآنية أو حديث شريف أو قصة، لكن ينبغي الالتزام بما قدّم ولا ينتقل عنه إلا بعد تمام الفكرة المقصودة، وإلا ضاع الفكر والوقت، بل قد يتذمر المتلقي كثيراً لسوء العرض والذي أقله عدم التفاعل مع الخطاب، حتى يصبح الوقت ثقيلاً عليه، فمثلاً تقديم ذكر المصيبة أمر جيد إذا كان الهدف مجلساً بكائياً كأيام العشرة الأولى من المحرم، وأما في الأيام الاعتيادية أن نعمد إلى تقديم ذكر المصاب ثم ننتقل إلى موضوع الخطاب ثم نختم بذكر المصاب أمر لا يخلو من الإرباك وتشوش الفكر.

الفرع الثالث: التكرار

يعني التكرار إعادة بعض الكلمات أو التراكيب، وأصله من الكر بمعنى الرجوع، وهو أحد أساليب التوكيد في اللغة لغرض بيان أهمية الشيء أو لشدِّ السامع، بل هذا القرآن الكريم مما يبدو فيه التكرار اللفظي كثيراً لمناسبته لأغراض التنبيه والتحذير والتشويق والتذكير وغيرها مما يبدو حسنه واضحاً جلياً، ولكن في المقابل لا يصح الإفراط فيه إذا غابت عنه الفائدة وخالف مقتضى حال المخاطب، حتى يصبح في حالات شائعة علامة مميزة للخطيب ومدعاة لتوجيه التحدي للمنبر، كالاعتياد على اسلوب عرض واحد مما يلزم منه الرتابة والملل، أو تكرار نفس الكلمة أو العبارة بلا مناسبة، أو التكرار بطريقة اللف والدوران حول قصة

ص: 367

بسيطة واضحة البناء والمضمون، فلا يُجدي عندها الوعظ أو النصيحة حينئذ.

الفرع الرابع: التعميم

وهي ظاهرة إضفاء الشمولية للقضايا المطروحة بإحدى صيغ العموم (کل، جميع، صيغ الجمع المحلى بالألف واللام) وهي حالة تعبيرية سليمة حينما تكون عقيدة كما في الإيمان بجميع الرسل والأنبياء، أو حكماً فقهيا كما في الحكم بطهارة كل شيء حتى نعلم بنجاسته، أو أمراً منطقياً كما قولنا: كل إنسان حيوان ناطق، حيث لا يتخلف أي مصداق من مصاديق تلك القضايا وإلا لم تكن قضايا كلية وأصبح استخدام أدوات العموم عيباً كلامياً، وهو ما يحدث كثيراً في خطابات المنبر عند الحديث عن مفردة سلبية مثلاً فينقلب الحكم فيها فجأة إلى التعميم، كما لو أساء البعض في تأدية إحدى الشعائر الحسينية فيصدر الحكم الجزافي من المنبر ببطلان أصل الشعيرة أو تخطئة جميع الممارسين، بل قد تصل الجرأة في الحكم إلى حد التبشير بجهنم وبئس المصير لجميع الناس من أهل تلك المنطقة التي شوهد فيه منظراً على غير هدىً، فيلزم من ظاهرة التعميم الجزافي حينئذ سخرية المتحدي لعشوائية الأحكام وظلم الأنام، بل المشكلة الأكبر أن صاحب الخطاب ينه نفسه دائماً من عموم السلبية وهذا ما ينافي شفافية النقد ومصداقية المنبر(11).

الفرع الخامس: القطع

يقسم علماء المنطق العلم بالأشياء إلى ثلاث مراحل، هي مرحلة الاحتمال (العلم الضعيف) والظن (العلم الراجح) والقطع (العلم الجازم)، فالقطع أعلى مراتب العلم بالشيء الذي لا يقبل احتمال ما يخالفه، كما في قطع الإنسان بأنه موجود، وبقدر ما يسعى الإنسان إلى زيادة خزينة مقطوعاته بناءاً على أنها مؤشر

ص: 368

لرسوخ علمه، كما في سعي المؤمن لترسيخ إيمانه أحكام القطع بقدرة الباري عز وجل وحلمه وحكمته وتدبيره ورحمته.. إلا أن القطع لا يحسن في جميع الأحوال بل إن دائرة القطع نسبية، إذ تزيد في حال الكلام عن الحق المطلق، وتنقص فيما سواه، بل إن الحكمة في غيره تكون مع سعة الاحتمال، وعندها يقبح الظن فكيف بالقطع؟، لذا فمن مساوئ الخطاب حينئذ هو سرعة القطع أو كثرته مما يولِّد تحدياً للمنبر وتزلزل ثقته، ولذا يُقال لكثير القطع: (قطع القطاع لا اعتبار به)(12).

الفرع السادس: المزاجية

المزاجية هي شعور انفعالي مؤقت ومتكرر مثل الحزن أو الفرح، وهي أمر طبيعي ضمن دائرة الفرد ونفسه، إذ تنعدم الحواجز بين نفسه وجوارحه، فقد يُكلِّم نفسه أو يؤنبها وغير ذلك، ولكن عندما ينطلق الفرد بتنقلات سريعة في استشعاراته النفسية حين خطابه على المنبر، فإن الأمر يبدو مستغرباً أو مستهجناً، إذ يُفترض بالخطاب كونه رسالة إلى الجمهور لنقل المعلومة وبسطها وتحليلها وإيقاعها في قلوبهم بأحسن وجه وأجمل صورة، وأما المشاعر الانفعالية فهي شأن الجمهور، ولا بأس أن يُشارك صاحب الخطاب جمهوره في الانفعال، لكن من دون أن يطغى عليهم، حتى يصل إلى درجة تكلف الانفعال فيمثل تحدياً لنزاهة الخطاب، أو يصل به الحال أن يكون المنبر مسرحاً لعرض ما يُحب أو لا يُحب، أو تتأثر نغمة الخطاب برخاوة الأعصاب أو شدها تبعاً لأجواء ما قبل صعود المنبر، فيصبغ المنبر ألوان انفعالاته، بينما الحق أن لا صبغة للمنبر غير دم الحسين ومبادئه.

ص: 369

المطلب الثالث: التحديات الموضوعية

تعني هذه التحديات كل ما يجابه الخطاب في موضوعه نقداً أو تضعيفاً، وهو من الأهمية بمكان لأنه يتعلق بمادة الخطاب التي يمكن إرجاع الكثير من حالات نفور الشباب إليها، كما عليه ما تقدم من التحديات الشكلية، ويمكن التعرف على التحديات الموضوعية من خلال الفروع الآتية التي تتدرج من الأصل وهو فكرة الموضوع وإلى الهدف من الموضوع ومنه إلى الخلل في مصادر الموضوع ومن ثم الخلل في مادة الموضوع سواء في عدم مراعاة المقابل وعدم التمييز بين الثوابت والمتغيرات والضعف في ربط الموضوع بالواقع، وكما يأتي:

الفرع الأول: فكرة الموضوع

يمكن تصور فكرة موضوع الخطاب من خلال عنوانه، فإذا كان عنوان الخطاب أو موضوعه هو آية الجهاد مثلاً، فإن فكرة الموضوع هو بيان فضل الجهاد ومنزلة المجاهدين وآثار الجهاد، ولذا يحسُن اختيار الموضوع بما يُناسب ظرف الخطاب، وأما فكرة موضوع الخطاب فينبغي فيها الالتفات إلى ما يأتي:

سلامة الفكرة، كما في حال التفسير السليم للآية مثلاً موضوع الخطاب، أو التفسير السطحي الذي لا يتلاءم وثقافة المستمع ونوعيته (13).

المحافظة على الفكرة، فلا يحسن ترك موضوع الجهاد (موضوع الخطاب) وصرف الخطاب نحو الشهادة، لأنها وإن كانت ضمن موضوع الجهاد إلا أنها أثرٌ كباقي آثار الجهاد كالنصر والصبر والثبات والإيثار وغيرها، ولو كانت غاية الخطاب هي الشهادة للزم أن يكون الموضوع هو آية الشهادة.

ص: 370

تطبيقات الفكرة، وهي الأمثلة التاريخية أو الواقعية التي تقرب الفكرة وتزيد تفاعل الجمهور معها، لذا فإن الإتيان بأمثلة بعيدة عن الفكرة يمثل تحدياً للمنبر في فكرة خطابه، ووقوعه أسير الشتات والبعثرة.

الفرع الثاني: هدف الموضوع

خطاب المنبر رسالة إسلامية لا وسيلة كسب، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)، لذا فإن جوهر الخطاب وأهميته تكمن في غايته، وعندئذ فإن تحدي المنبر في خطابه قد يكون عن طريق الخلل في هدف موضوعه(14) بما يأتي:

خلو الخطاب من أي هدف، ويُعرف هذا الخلل من خلال تشتت فكرة الموضوع أو انعدامه.

عدم تناسب هدف الخطاب مع موضوعه، كما لو كان الهدف بعث الهمة في الجهاد، بينما موضوع الخطاب آية كونية، وقد لا يصعب إيجاد العلقة بينهما إلا أن الخلل في التناسب واضح، وتكلف العلاقة بينهما أوضح.

سوء الهدف، كما لو كان الهدف إثارة الشبهات في زمان الفتنة أو الحرب.

الفرع الثالث: اشكالية المصدر

تعتمد قوة الخطاب وتأثيره إلى ما يتضمنه من نصوص أحاديث المعصومين عليهم السلام وقصص السيرة والموعظة وأقوال العلماء والأولياء وغير ذلك من صور المنقول، إلا أن أثر النقل وغايته مما يتوقف على صحة المنقول ومدی مصداقية مصدره، وإلا أضحى المنقول معولاً هادماً وسبباً لتحدي المنبر، بل قد يؤدي (والعياذ بالله) إلى السخرية والتهكم بكونه بوقاً للفرية والخرافة، ولعل هذا

ص: 371

من السرطان الذي تعايشنا معه مضضاً من دون علاج، وقد يصعب علاجه بالمرة لعدم السيطرة على مواضعه، ولكن يمكن التخفيف من حدته بضرورة التمييز بين صورتي انعدام المصدر أساساً فيُرفض علناً بلا مجاملة بدلیل عدم الدليل، وصورة ضعف المصدر، فيجب إنصافاً ذكر المصدر لمن يرى ضرورة نقل الخبر، وطوبی الأمانته لو ذکر مباني التقوية أو التضعيف، وشواهد ذلك كثير بما لا يسعه المقام.

الفرع الرابع: تغييب المخاطب

تُعد ثقافة المخاطب أمراً ضرورياً مكملاً للخطاب الناجح، فإذا كان المخاطب مستمعاً جيداً كان خير وسيلة محفزة لتطور الخطاب وكفاءته العالية لأن يكون إعلاماً راقياً، اقليمياً ودولياً، وأما لوكان عكس ذلك (أي جمهور أحسنت أحسنت كثيراً..!) كان داعياً لاحتضان من لا أهلية له للخطاب الواعي والمسؤول، فيلزم منه الضعف الموضوعي للخطاب الديني ورتابته وهمه الدمعة المجردة من الهدف بسبب عدم محفزية المقابل لتدني ثقافته، فيكون سبباً في بروز التحديات نحو المنبر، لذا فإن الخطاب المثقف والمسؤول من لا يتغافل مثل هكذا جمهور، بل يستشعر وجودهم، فينفعهم بأسلوب خطابه من دون أن تنعكس ثقافة الجمهور على خطابه، لذا فإن السعي الدؤوب لإحاطة الخطاب بفلسفة التواصل الجماهيري خير حافز للخطيب في إعادة الترتيب لأساليبه الخطابية(15)، لرفع الأداء في مجابهة التحديات الثقافية التي تجابه المنبر خاصة والعالم الإسلامي عامة (16).

الفرع الخامس: ضبابية الثابت والمتغير

تدخل جدلية الثابت والمتغير في جميع مجالات الحياة، سواء كانت في الكونيات کما في ثبات جملة من الظواهر كوجود الشمس والأرض والقمر، وتعاقب الليل

ص: 372

والنهار، أو تغير حركات الأرض ودرجات الحرارة وغيرها، وكذلك الحال فيما يتعلق بالشريعة، فمنها ما هو ثابت من أصول الدين وضروراته کوحدانية الباري عز وجل وعدله، وخاتمية النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وعصمته والأئمة الاثني عشر، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي المنتظر عليهم السلام وفريضة الصلاة اليومية والصوم والحج والزكاة وغير ذلك، ومنها ما هو متغير کالأمور الفقهية التي هي محل النظر والاجتهاد، كتحديد المسافات ومواضع القصر والتمام للمسافر الشرعي وتطور الاقتصاد الإسلامي(17)، ومن ثوابت منهج أهل البيت عليهم السلام على سبيل المثال الورع عن المحارم(18)، لذا فإن فسح المجال للاجتهاد في مثل هذه الثوابت والترخيص بخلاف الورع، فتنتهك حرمة الطريق والأموال بحجة الخدمة الحسينية يُعد محاربة علنية لأهل البيت ومنهجهم الواضح، وكذا الجرأة بإصدار الحكم البات والجازم في المتغيرات يُعد من التخبط في خطاب المنبر، كما في ارتجالية الحكم بحلية سلب أموال الدولة بذريعة كونه مجهول المالك فيَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ (19) فيكون مثل هذا الخطاب سبباً لتوجه التحديات نحوه، سواء كانت الغاية من التحديات تنزيه المنبر من هذه الترهات أو غايتها تحطيم المنبر بذريعة قطع الترهات، ففي کليهما للمؤمن الغيور الحق في حماية المنبر بإزالة هذه الضبابية بتمييز الثوابت وحفظها والتذكير بها، لأنها بر الأمان عند الغور في أي بحث أو جدال، وكي تبقى في الجهة المقابلة ساحة المتغيرات مفتوحة الأبواب للفكر والجدل، إذ يستحيل غلقها إلا بوحي إلهي.

الفرع السادس: سذاجة الربط الواقعي

جرت العادة على سبيل المثال للمنبر الحسيني في خطابه أن يكون ختامه حول مصائب عاشوراء وما جرى في كربلاء، إبقاءً لجذوة المصاب وحرارته في قلوب

ص: 373

المؤمنين، لذا فإن حُسن الانتقال من موضوع الخطاب إلى ذكر المصاب یکون له في نفس المخاطب وقعاً طيباً يبقى أثره حاضراً في القلب للعلقة الحسنة بين الموضوع والمصاب، وهكذا الحال لمطلق الخطاب الدني، لذا فإن سذاجة الربط تعني البساطة المبتذلة في ربط موضوع الخطاب بقضية واقعية والتي تُثير النقمة والملل، بل تفتح التحدي ضد المنبر لفشله في إحداث التأثر القلبي لدى المخاطب والخيبة من رجاء نقله إلى أجواء عاشوراء واستشعار حرارة المصاب (20).

ومن هنا يمكن للمتتبع إرجاع بعض سذاجة الربط الحسيني للأسباب الآتية:

تنافر الألفاظ ما بين موضوع الخطاب والشاهد الواقعي، كما إذا كان موضوع الخطاب بحث عقائدي وألفاظه مصطلحات فلسفية، بينما ينتقل إلى الشاهد الواقعي وإذا ألفاظه من اللهجة العامية الغير ملائمة لسابقاتها (21).

تنافر موضوع الخطاب مع موضوع الشاهد الواقعي، فيصعب معه الانتقال.

فجائية الانتقال من موضوع الخطاب إلى الشاهد الواقعي، فلا يُجدي معه تحقق التناسق اللفظي والموضوعي بينهما.

غياب فنية الانتقال، إذ مع وجود التمهيد للربط بالواقع وتلافي العيوب أعلاه، فقد يخفى معه هدف الربط کما في ضياع هدف الربط الحسيني (تحسس المصاب وحرقته) لبرودة الانتقال، وهكذا الحال مع قصد الخطيب في التوجيه والإرشاد فيغيب عنه حسن الاستشهاد لمواعظ علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بأمور واقعية خالية من التكلف.

ص: 374

المطلب الرابع: آليات بناء الثقة من فكر الإمام علي عليه السلام

لقد وضع المختصون في علم التربية والنفس جملة من الوسائل والآليات لبناء أو إعادة بناء الثقة عند الناس في مختلف فئاتهم العمرية، ولكن ما يهمنا هو كلام رائد الفكر والتربية الإمام علي الذي حير الألباب في سعة علمه ودقة تشخيصه، وتكفينا وصيته إلى ابنه الامام الحسن (عليه السلام) كتبها إليه بحاضرین منصرفاً إلى صفين (22) حيث يمثل بخطابه انموذجا للخطاب الراقي في تكريم الشباب وبناء الثقة لديهم، والذي سوف نستقرئ منه جملة من آليات بناء الثقة بعد الاستعانة بالله تعالى: -

الفرع الأول: الاعتصام بالله

يوصي الإمام علي (عليه السلام) ولده الإمام الحسن (عليه السلام) أن لا ملجئ لأحد وفي جميع أمور الناس وأحوال الدنيا غير الله تعالى إذ يقول: ((وألجئ نفسك في الأمور كلّها إلى إلهك، فإنّك تُلجئها إلى كهفٍ حريز، ومانعٍ عزیز، وأخلِصْ في المسألة لربّك، فإنّ بيده العطاء والحرمان )) وهو بذلك يعطينا الدرس الأول والأساس الذي لا يمكن أن يغيب عن كل انسان يدعي الإيمان، كيف لا يلجئ إلى الله عز وجل عند كل أمر تقل فيه الحيلة ويضعف عنده الفؤاد؟! وكيف نزرع في قلوبنا ونحن لا ثقة لنا في إيماننا!! ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.

الفرع الثاني: إكبار الشأن

يحتاج الشباب من يرفع من شأنهم ويجعله في محل المسؤولية، بل إن أمير

ص: 375

المؤمنين (عليه السلام) يمضي إلى أكثر من ذلك حيث يخاطب ابنه الشاب کما لو كان في عمره ويعده إعداداً نفسياً كما لو كان هو بنفسه بکلمات بليغة لا أحد سبقه بتلك الرقة والدقة سوى القرآن وحدیث المصطفى (صلى الله عليه وآله) حيث يقول الإمام علي (عليه السلام) ((من الوالد الفان.. وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي، حتّى كأنَّ شيئاً لو أصابك أصابني، وحتّى كأنَّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني عن أمر نفسي)) لتأخذ هذه الكلمات أثرها في صقل شخصية الشاب وثقته بنفسه.

الفرع الثالث: الاعتزاز بالنفس

وهنا مرض اجتماعي شائع يشخصه الإمام علي (عليه السلام) وكثيراً ما نجده متأصلاً عند الكثير من الناس وهو إزراء الإنسان نفسه من دون موجب، وجعلها في موضع الضعف والعبودية، بل حتى في مجال العمل وكسب الرزق فإنه يزيدنا ثقة بأنفسنا أن لا نكون أجراء عند غيرنا ما استطعنا، إذ يقول (عليه السلام): ((ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً.... وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنّك مدرك قسمك وآخذ سهمك، وإنّ اليسير من الله أكرم وأعظم من الكثير من خلقه وإن كان كلٌ منه)) وقد قال تعالى «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (23).

الفرع الرابع: تناسي الهموم

کم جميل هذا التشبيه وهو يصور قلب الشاب أرض خصبة تستجيب لكل ما يلقى فيها، لذا ينبغي الإسراع أن یکون زرعها طيباً وبإرادة مالكها، ذلك الشاب، وهذا أبلغ درس في بناء الذات الشبابية ((وإنّما قلب الحدث كالأرض الخاليةَ ما

ص: 376

أُلقي فيها من شيء إلا قبلته، فبادر بالأدب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبّك)) وإلا ضاعت النفس وأعجزت وعّاضها.

الفرع الخامس: أخذ الأهبة

يقول تعالى: فاستبقوا الخيرات (24)، ويقول أيضاً عز وجل: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين (25)، وأفضل البر صلة الرحم وحسن المعاشرة مع الناس إذ يقول (عليه السلام): ((وأكرمْ عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، وإنك بهم تصول، وبهم تطول اللذّة عند الشّدة، وأكرمْ کریمهم، وعُد سقيمهم، وأشركهم في أمورهم، وتيسّر عند معسورهم)) والتي لا شك أنها ستترك أثرا نفسياً بالغاً في شخصية الشباب وحسن تعاملهم مع الآخرين مما يزيدهم ثقة في المواقف الصعبة وخبرة في القول العمل وتصريف الأمور من دون خوف أو تردد.

الفرع السادس: مبادرة البر والخير

يذكر الدكتور ابراهيم الفقي خبير التنمية البشرية في ضرورة التحكم في الذات وأن تجبر نفسك على التركيز على الإيجابيات وتعود البحث عليها وتجنب الأفكار السلبية (إذا نظرت بعمق إلى حياة الناجحين، فسوف تكتشف أنها تمتلئ بتجارب الفشل المثيرة، سنجد مثلاً أن ابراهام لینکولن قد فشل كأمين مستودع وكجندي وكمحام ومع ذلك ساعدته كل هذه التجارب على نحو خاص في أن يقود الولايات المتحدة في أسوء أزماتها في الحرب الأهلية)(26)، وقد لخص الإمام علي (عليه السلام) ذلك بقوله: ((واطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين)) فإنه بعبارة بليغة يصف السلبيات وآثارها بلفظ دینامیکی (واردات) يفسر القلق والاضطراب النفسي الذي يعيشه الانسان من جراء سيطرة الأفكار السلبية على نفسه.

ص: 377

الخاتمة

بعد تلك الرحلة الموجزة عن آفاق المنبر الديني وما يمكن أن يتعرض له خطابه من تحديات معاصرة، فإنه يمكن تلخيص نتائج البحث ومقترحاته بما يأتي:

أولاً: تمثل التحديات كل ما يتعرض له المنبر من نقد أو هدم أو عداء، لذا ينبغي التعامل معها بكل جدية وخلقية من أجل المحافظة عليه وتطويره بهيبة ووقار.

ثانياً: المراد من مصطلح التحدِّيات التي تواجه المنبر الديني هي كل ما يعترض ذلك المنبر في ذاته أو خطابه، شکلاً وموضوعاً، بما يُقیِّده أو يُقوِّمه، أو يَمنعه من تأدية دوره الرسالي.

ثالثاً: اقتصر موضوع البحث على خصوص التحديات التي تواجه المنبر الديني في خطابه، والتي يرى الباحث أنها الأساس في أسباب هبوط الخطاب الديني.

رابعاً: لقد آثر البحث تقسيم التحديات الموجهة نحو المنبر في خطابه إلى تحديات شكلية وأخرى موضوعية، والتي تشكل بمجموعها حجر العثرة وراء نفور الشباب من الخطاب الديني..

خامساً: يقترح البحث أهمية اعتماد ما ذكره من تحديات موجهة نحو الخطاب الديني شكلاً وموضوعاً كأساس للتقييم والمفاضلة والتي يمكن تعديلها وتفريعها.

سادساً: يوصي البحث بضرورة إقامة لجان تقييم وتقويم الخطاب المنبري،

ص: 378

خدمة لقضايانا المصيرية وبنائنا الحضاري، وأن تتبناها جهات معروفة بوزنها الخطابي والعلمي في دراسات نهج البلاغة إيماناً بمسؤولية الخطاب الديني الخطيرة وحرصاً على ثقة الناس به.

هوامش البحث:

1. المعجم الجامع للمعاني، كلمة حدَّ.

2. ابن منظور، لسان العرب، مادة حدا.

3. سورة البقرة / آية 23.

4. الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي، المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل، ط 1 2004 م، ص 384.

5. الشيخ علي حسن سند، مقالة بعنوان: مخاطر التحديات التي تواجه المنبر الحسيني، موقع حوزة الهدی.

6. سورة المائدة / آية 82.

7. الشيخ مهدي العطار - عبد الجبار الرفاعي، کتاب قضايا إسلامية عدد 5 سنة 1997 م ص 16، نقلاً عن السيد هبة الدين الشهرستاني، مجلة العلم، السنة الثانية 1911 م، ص 266.

8. الشيخ أحمد الوائلي، تجاربي مع المنبر، دار الزهراء - بيروت، بلا سنة طبع، ص 152.

9. عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: ؉ اعلم أنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث رُسُله حيثُ (حين) بعثها ومعها ذهب ولا فضّة، ولكن بعثها بالكلام، وإنّما عرَّف اللهُ نفسه إلى خلقه بالكلام.. ؉نقلاً وسائل الشيعة، ج 12 في أحكام العشرة باب 119 ح 5.

10. عن ابن عبدوس، عن ابن قتيبة، عن حمدان بن سليمان، عن أبي الصلت الهروي قال: ( سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول: رحم الله عبد أحيا أمرنا فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن کلامنا لاتبعونا) نقلاً عن کتاب عيون الأخبار للشيخ الصدوق، ج 2 ص 275.

11. محمد الحبوبي، الأبعاد العقائدية في الشعائر الحسينية، ط 1 مطبعة الرائد 1430 ه، ص 52 وما بعدها.

12. الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، شبكة الإمامين الحسنين، ج 1 ص 25.

13. الشيخ عبد الحافظ البغدادي الخزاعي، مقالة بعنوان أسباب انخفاض الطرح الثقافي في المنبر

ص: 379

الحسيني، موقع شبكة أخبار الناصرية، بتاریخ 27 / 8 / 2014.

14. الشيخ د. محمد باقر المقدسي، فن الخطابة الحسينية، دار الاعتصام، ط أولى 1427 ه، ص 123.

15. عبدالمنعم علي الحيلمي - الأحساء، ملامح المنبر الحسيني الواعي في الإحساء بين الواقع والمأمول، موقع آفاق للدراسات والبحوث، زیارة بتاريخ 7 / 1 / 2017.

16. الشيخ محمد مهدي الآصفي، الخطاب الحسيني، ط أولى 1426 ه، ص 122.

17. السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ط 6، 1974 دار الفكر - بيروت ص 65، ص 385 وما بعدها.

18. عن الإمام الباقر: من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدواً لله فهو لنا عدو، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع.

19. فهم مصداق قوله تعالى: ((الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) الأعراف / 51.

20. - إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً -1 نقلاً عن مستدرك الوسائل، ج 10 ص 319.

21. الشيخ أحمد الوائلي، مصدر سابق ص 213.

22. كتاب نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، دار المعرفة للمطبوعات، بیروت - لبنان، بلا سنة طبع ح 3 ص 37.

23. سورة النحل / 96.

24. سورة البقرة / 148.

25. سورة آل عمران / 133.

26. د. ابراهيم الفقى، الثقة والاعتزاز بالنفس، الناشر فری، رقم الايداع 1272 لسنة 2007 ص 5.

ص: 380

المصدار والمراجع

القرآن الكريم

1. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، دار الكتب العربية بمصر 1329 ه

2. د. ابراهيم الفقي، الثقة والاعتزاز بالنفس، الناشر فري، رقم الايداع 1272 لسنة 2007.

3. ابن منظور محمد بن مکرم (ت 711 ه) لسان العرب، مكتبة أهل البيت.

4. الشيخ أحمد الوائلي، تجاربي مع المنبر، دار الزهراء - بيروت، بلا سنة طبع

5. الميرزا حسين النوري (ت 1320 ه) مستدرك الوسائل، ج 10.

6. الشيخ عبد الحافظ البغدادي الخزاعي، مقالة بعنوان أسباب انخفاض الطرح الثقافي في المنبر الحسيني، موقع شبكة أخبار الناصرية.

7. عبدالمنعم علي الحيلمي - الأحساء، ملامح المنبر الحسيني الواعي في الإحساء بين الواقع والمأمول، موقع آفاق للدراسات والبحوث.

8. الشيخ علي حسن سند، مقالة بعنوان: مخاطر التحديات التي تواجه المنبر الحسيني، موقع حوزة الهدى.

9. الشيخ فيصل الخالدي الكاظمي، المنبر الحسيني نشوؤه وحاضره وآفاق المستقبل، ط 1 200 م.

10. الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، شبكة الإمامين الحسنين، ج 1.

11. کتاب نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، دار المعرفة للمطبوعات، بيروت - لبنان، بلا سنة طبع.

ص: 381

12. موقع المعجم الجامع للمعاني، انترنت.

13. الشيخ د. محمد باقر المقدسي، فن الخطابة الحسينية، دار الاعتصام، ط أولى 1427 ه.

14. الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (ت 381 ه).، تصحیح وتذييل: السيّد مهدي الحسينيّ اللاجَوَرديّ، الناشر: رضا المشهدي، مكتبة طوس - قمّ المقدّسة، الطبعة: الثانية - سنة 1983 م.، ج 2.

15. الشيخ أبو جعفر محمد بن الشيخ الحسن الحر العاملي / وسائل الشيعة، ج 12.

16. محمد الحبوبي، الأبعاد العقائدية في الشعائر الحسينية، ط أولى، مطبعة الرائد، النجف الأشرف 1430 ه.

17. الشيخ محمد مهدي الآصفي، الخطاب الحسيني، ط أولي 1426 ه.

18. السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ط 1، 1974 دار الفكر - بيروت.

19. الشيخ مهدي العطار - عبد الجبار الرفاعي، کتاب قضايا إسلامية عدد 5 سنة 1997 م.

ص: 382

بناء الإنسان وتنمية الموارد البشرية في فكر الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

الأستاذ المساعد الدكتور خميس غربي حسين جامعة تكريت / كلية الآداب

ص: 383

ص: 384

لا يختلف اثنان على أهمية خطط التنمية البشرية في صقل وبناء شخصية الإنسان وتأسيس البنية الحضارية للمجتمع، وصولاً إلى بناء الدولة على أسس من التنظيم والتخطيط التي تقود إلى تقدم حياة الإنسان والرفاهية، التي هي نتيجة مباشرة للتنمية، والشواهد المذكورة في المتون التاريخية تشير إلى أن التغيير والانتقال في أطوار التاريخ، والتقدم اللذين يصيبان المجتمع لا يأتيان من فراغ، إنما هما نتيجة مباشرة للتخطيط والتدريب والدراسة المتأنية التي نطلق عليها في التعبير المعاصر (التنمية)، وهذه التنمية بطبيعة الحال تحتاج كثيراً من الجهد حتى يتم الوصول إلى الغاية المنشودة.

ومن هذا المنطلق فإن التنمية البشرية بدأت منذ أن بدأ الإنسان ينظم أمور حياته اليومية بمختلف متطلباتها الصحية والغذائية، وتوفير قوته لأيام مقبلة، وطريقة تنقله من مكان إلى آخر من أجل تأمين حاجته من الغذاء والمأوى، فضلاً عن تنظيم حياته مع الطبيعة، ثم بناء منظومة علاقات مع الآخر (الإنسان) الذي يشاركه الحياة في البقعة التي يعيش فيها وفي مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية هذه الجوانب مجتمعة تمثل التطور الإنساني لحياة البشرية، وهي كذلك تمثل، البداية المتواضعة لفكرة التنمية عند الإنسان، وبهذا التنظيم لسلوك الأفراد داخل المجتمع، استطاع الإنسان أن يرسم نمط حياتي منظم، ويطور أسلوب حياته تباعاً من جيل إلى آخر إلى أن تبلورت حياة الإنسانية على ما أصبحت عليه اليوم، وهذه بلا شك تحمل الملامح الأولى لفكرة التنمية عند الإنسان.

من المعلوم، أن الإسلام جاء من أجل بناء الإنسان وتنظيم المجتمع وصولاً إلى تحقيق أهداف اجتماعية، والحفاظ على بنية الأخلاق على أساس من التوازن بين ما هو روحي ومادي، بغية توفير الأمن مع التهذيب الاجتماعي القائم على الالتزام بتعاليم الإسلام وآدابه وقيمه، في معادلة متكافئة بين الحاجات الروحية

ص: 385

والاجتماعية من أجل تحقيق العدالة والسعادة والرفاهية لأبناء المجتمع، وكل ذلك من أجل التعايش السلمي.

ينظر الإسلام إلى قضايا الإنسان بوصفها شبكة مترابطة لا انفصام لها، ومن ذلك علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بأخيه الإنسان، وبكل أشكال الحياة الأخرى، ولما كان الإنسان هدفاً اسمي في تعاليم الإسلام نلحظ أن آیات القرآن الكريم وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) تؤكد على هذا المنحنی، والإمام علي (عليه السلام) وراث الدوحة المحمدية ما انفك يؤكد هذا المنهج ويحث على تطبيقه قولاً وفعلاً.

والتنمية البشرية في الإسلام مسألة تمس الحياة بشكل مباشر، وتؤثر في مجالاتها وأبعادها وتطورها، لأنها تعني التنظيم والتخطيط المبرمج، لذا أصبح الاطلاع على رؤية الإمام علي (عليه السلام) في هذا الموضوع بشكل أهمية بالغة وملحة، لأن المجتمعات الإسلامية لا تستطيع التخطيط لبناء منظومة فكرية حول بناء شخصية الإنسان الفعال المؤثر، وتنمية المجتمع على أسس من الأخلاق الفاضلة، دون الرجوع إلى أعلام الفكر الإسلامي ومنهم الإمام علي (عليه السلام).

إن المتتبع لسيرة الإمام علي (عليه السلام) وأقوله وأفعاله سيدرك بسهولة أن بناء الإنسان الذي هو حجر الأساس في تكوين المجتمع كان من أولويات اهتماماته، وكان (علیه السلام) يبغي من وراء ذلك تنمية الموارد البشرية من أجل بناء مجتمع متكامل كي يعم النفع والخير للناس جميعاً.

ومن استقراء النصوص والتوصيات التي صدرت عن الإمام علي (عليه السلام) لا سيما في كتاب نهج البلاغة نجد أن الإمام علياً (عليه السلام) قد تناول وفي مناسبات عديدة، بصورة مباشرة أو من خلال التضمين إلى مسألة بناء.

ص: 386

الشخصية الإنسانية الصالحة الفاعلة في المجتمع، وهذا بطبيعة الحال يعني، فيما يعني، تطور المجتمع بأسره، واللافت للنظر هو أن الإمام علي (عليه السلام) أراد من مقولاته تشخیص مرض وتحديد علاجه في الوقت نفسه.

ومما لا شك فيه أن المؤلفات والكنوز العلمية في التراث الإسلامي كثيرة ومتنوعة، فيها تعاليم ودعوات إلى الكيفية الصحيحة لبناء شخصية الإنسان وتنمية المجتمع، وكتاب نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) يعد واحد من هذه الكنوز، إذا ما قلنا أهمها، ولكن ما يلفت النظر أننا نحن المسلمون قد اتجهنا بإبصارنا صوب التجارب الغربية وتركتنا هذه المؤلفات القيمة وراء ظهورنا.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن تنمية الإنسان وبناء شخصيته في المنظور الإسلامي، وهي من مفاهيم التنمية الرئيسة لم يتم تناولها بموضوعية وما زالت بحوثها دون المستوى الأكاديمي، ذلك أن الذين يكتبون في هذا الموضوع أغلبهم من رجالات الدين، وهؤلاء بطبيعة الحال، دائماً ما ينطلقون من قاعدة أساها العاطفة الدينية، علاوة على ذلك فإن معظم المعالجات والدراسات لهذه الإشكالية تمت في إطار الفكر الاقتصادي، والتاريخ الاقتصادي، كما أن إطارها المفاهيمي النظري بحاجة إلى التحديد، ويسري هذا الأمر على آليات العمل التي ما زالت غير محددة في كثير من الدراسات التي تعرضت لموضوع التنمية في الإسلام.

وفي بحثنا هذا سوف نركز بشكل مباشر على ما جاء في فكر الإمام علي (عليه السلام) في الطريقة والاسلوب الصحيح لبناء الإنسان وتنمية المجتمع، وسيكون كتاب نهج البلاغة الذي يعد موسوعة علمية المصدر الرئيسي لهذا البحث، وهو بطبيعة الحال، کتاب زاخر بالمعلومات والأمثلة التي تبين فکر الإمام علي (عليه السلام) والكيفية التي يمكن من خلالها صياغة نظرية علمية متكاملة لبناء شخصية الإنسان، وتنمية المجتمع، وعلى هذا المنوال فإننا سنتبع

ص: 387

المنهج التاريخي العلمي القائم على استقراء النصوص وتحليلها، ومن ثم، وضع النتائج لهذا الاستقراء بغية الوصول إلى الحلول، ونحن هنا نقتفي أثر الجيل الأول من المسلمين الذين استطاعوا أن يؤسسوا مجتمع صالح مبني على أسس إنسانية، أخلاقية، نحن بأمس الحاجة لها في الوقت الحاضر.

ومن نافلة القول: إن التطرق بصورة تفصيلية إلى موضوع تنمية شخصية الإنسان وبناء المجتمع في فكر الإمام علي (عليه السلام) موضوع واسع جداً يحتاج الى مجلدات، لذلك آثرنا النمذجة والاختصار بغية تقديم صورة مبسطة لهذه الموضوع الهام، ومن ثم، دعوة المؤسسات العلمية في العراق لإعداد دراسة موسعة يمكن أن تكون دليل لدراسة خطط التنمية في المدارس والمعاهد والجامعات العراقية والإسلامية.

من هذا المنطلق فإن بحث موضوع التنمية البشرية ضمن المنظور الإسلامي، يحتاج إلى كتب ومجلدات لتغطية جميع فصوله، ولكي يكون موضوع بحثنا هذا يتوافق مع محاور الملتقى وتحديداته في عدد الصفحات لكل بحث، لذا فقد آثرنا أن تكون هذه المداخلة التعرض فقط إلى فكرة تنمية الإنسان وبناء شخصيته، ومن ثم تنمية قدراته الفكرية والأخلاقية والإنسانية في فكر الإمام علي (عليه السلام)، والتي من خلالها يتم تطوير المجتمع، ونحن لا نريد الغوص في التفاصيل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تدخل ضمن مفهوم التنمية البشرية بشكل عام، بقدر ما تريد صياغة رؤية عامة عن مفهوم التنمية البشرية ومتطلباتها وأسسها وفق المنظور الإسلامي ورؤية الإمام علي (عليه السلام).

وعلى الرغم من إدراكنا أن هذا البحث قد لا يخلو من نواقص وهنات، شأنه شأن أي عمل أو جهد فكري يقوم به الإنسان، إلا إننا نأمل أن يكون قد ساهم ولو بجزء يسير في الكشف عن موضوع التنمية البشرية وبناء المجتمع في فكر الإمام علي (عليه السلام).

ص: 388

لقد اقتضت طبيعة البحث تقسيمه على ثلاث مباحث سبقتها مقدمة وانتهى البحث بخاتمة، تضمنت المقدمة تمهيد للموضوع وفيه إشارة إلى أهمية موضوع التنمية وبناء المجتمع، وتطرقنا فيها إلى التنمية في المنظور الإسلامي وفي فكر الإمام علي (عليه السلام) وبينا أن المنظومة الفكرية الإسلامية كان جل أهدافها وغاياتها تنمية روح الإنسان وبناء شخصيته وصولاً إلى بناء المجتمع الصالح، والذي هو نتيجة حتمية لبناء الإنسان الملتزم الصادق الذي يحب الخير للإنسانية جمعاء.

تضمن المبحث الأول الذي حمل عنوان تنمية شخصية الإنسان وبناء المجتمع في المنظور الإسلامي عرجنا فيه على الدعوات التي أطلقها الإسلام ممثلاً القرآن الكريم وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وأقوال الإمام علي (عليه السلام) فضلاً عن التظيرات التي وضعها الفقهاء والمجتهدون والتي تخص موضوع التنمية البشرية.

والمبحث الثاني يسلط الضوء على بناء شخصية الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام) هذا الصحابي الزاهد العابد الحليم الرحيم الذي كانت أقواله وأحاديثه تفيض محبة ورحمة للناس جميعاً، وهي إذ ما درست على وفق منهج النبوة نراها استكمالاً وتوكيداً لأقوال وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله).

جاء المبحث الثالث لدراسة موضوع تطوير المجتمع في فكر الإمام علي (عليه السلام) وفيه بيان لأهمية تطوير المجتمع الإسلامي ومن ثم بناءه وفق المنهج الذي يكفل الآمان والسعادة والرفاهية لجميع أفراده، من دون النظر إلى لونه أو جنسه أو دينه، وهذه سجية نادرة تضاف إلى فضائل الإمام علي (عليه السلام).

أما الخاتمة فقد تضمنت أهم النتائج والاستنتاجات التي توصلنا إليها، فضلاً عن عدد من التوصيات التي أشرنا إليها ضمنياً في الخاتمة.

ص: 389

المبحث الأول: التنمية وبناء الإنسان في المنظور الإسلامي

مما يؤشر أهمية التنمية في الفكر الإسلامي، هو ما تعرض له القرآن الكريم والسنة النبوية والمذاهب الفقهية على اختلاف توجهاتها، من دعوة إلى بناء شخصية الإنسان المثابر الصادق العامل المخلص العادل، الذي يضحيّ في سبيل الآخرين، والحريص على التزود بالعلم والمعرفة والتخطيط للمستقبل وعدم إغفال الدار الآخرة بعد أن يأخذ نصيبه في الدنيا إلى آخر شبر في الحلال، فلا رهبانية في الإسلام بحجة الزهد والورع ذلك أن الإسلام يدعو أتباعه إلى أن لا يضحوا بالدنيا من أجل الآخرة، لأن الإسلام دين الوسطية، فلا ترك للدنيا على حساب الآخرة، ولا إيغال في الماديات بحيث يكون الإنسان عبداً للدرهم والدينار. كذلك نفهم التنمية البشرية في الإسلام أنها الاستغلال الأمثل للثروات والاعتدال في استخدام الموارد المتاحة وعدم استنزافها في أعمال لا تتفق وخير البشرية، قال تعالى: ((ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا))(1).

أما أئمة المسلمين ومفكروهم فقد اعتنوا وعلى مر العصور في إبراز النواحي التنموية والتنظيمية في الإسلام، لأن التنظيم هو جوهر التنمية وحجر الأساس في بنائها، وعلى هذا فقد كانت عنايتهم بها تسير جنباً إلى جنب مع عنايتهم بالعبادات وفقهها، يدلنا على ذلك ما تركوا لنا من تراث ضخم في التنظیمات والتشريعات تزخر بالتفرد والأصالة والتقدم الحضاري والعلمي. وعلى هذا الأمر، فإن الدراسة التاريخية لموضوع التنمية البشرية في المنظور الإسلامي تؤسس إطاراً مرجعياً يمكن من خلاله أن نفهم على نحوٍ أفضل الأصول الفكرية للتنمية، ومن ثم تعميمه على الواقع والاستفادة منه في سبيل تنمية وبناء شخصية الإنسان،

ص: 390

والنهوض بالمجتمع وبناءه وفق المنظور الإسلامي.

إن التنمية البشرية في الإسلام، مسألة تمس الحياة بشكل مباشر وتؤثر في مجالاتها وأبعادها وتطورها، لأنها تعني التنظيم والتخطيط المبرمج للحاضر والمستقبل، لذا أصبح الاطلاع على رؤية الإسلام في هذا الموضوع يشكل أهمية بالغة، لأن المجتمعات الإسلامية لا تستطيع التخطيط لبناء منظومة أفكارها حول التنمية من دون الرجوع إلى تعاليم الإسلام لأنها تعد الخلفية المرجعية الفكرية لهذه المجتمعات، ولا غرو في ذلك، إذ إن شريعة الإسلام وتعاليمه، كما هو معروف تصلح لكل زمان ومكان، لأن القرآن الكريم دستور المسلمين كتاب حي ومتجدد مع تطور الحياة وأن الفكر الإسلامي يقدم الحلول للمشكلات التي تواجه المجتمع من جميع الجوانب، ويقدم معالجات موضوعية واقعية صادقة، تضع الحلول للمشكلات التي تواجه أفراد المجتمع، ولاسيما في موضع التنمية البشرية، وحيث الهدف العام لهذه المعالجات هو الأخذ بيد الإنسان إلى شواطئ الأمان الذي يتمثل في تحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة.

والتنمية البشرية في الإسلام هدفها بناء الإنسان السوي، الناضج، المبدع، والمنتج من أجل عمارة الأرض كي يحقق الغرض الذي خلقه الله من أجله وهو أعمار الأرض وخلافته عليها، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (2)، وعلى هذا المنوال فإن الإنسان مكلف تكليفاً شرعياً بعمارة الأرض، فلم يخلق الإنسان للعبث أو لمجرد الأكل والشرب كالدواب الأخرى على سطح الأرض، بل خلق لتنفيذ واجب أعده الله من أجله يتمثل في عبادة الله وتنمية الحياة وتطويرها بمختلف جوانبها في الأرض، قال تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»(3).

ص: 391

ومن هذا المنطلق ذهب إبراهيم العسل إلى تأكيد القول: ((إن التنمية المتكاملة والشاملة لا يمكن تصورها إلا في مجتمع إسلامي، فأخطاء الحضارة الغربية، والمأزق الأخلاقي الذي تتخبط فيه، والروح العدوانية التي تسيطر على أذهان القادة المخططين، لا تعالج إلا بمبادئ ترسم صراطاً مستقيماً للفرد والمجتمع، يوصلها إلى الكمال في شتى الميادين))(4).

والواجب على المستخلف أن يعمر وينمي ما أستخلف عليه، لذا عليه أن يستفيد مما سخره الله له، وعندما يتحدث القرآن الكريم عن تسخير السموات والأرض وما فيها لخدمة الإنسان، فإنه يستحثه على العمل والتنمية والبناء من أجل قطف ثمار هذا التسخير (5)، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً» (6)، أي تعلموا يا مخاطبين أن الله سخر لکم ما في السموات من الشمس والقمر وما في الأرض من انهار وكنوز وثروات لتنتفعوا بها(7).

من المعلوم أن التنمية الشاملة، والبشرية من ضمنها، تهدف بالدرجة الأولى إلى توفير سبل العيش الرغيد والرفاهية بما تحويه من معانٍ مختلفة لأبناء المجتمع، أي مجتمع، في الحاضر والمستقبل، والحفاظ على البيئة وصيانتها، وكذلك حفظ نظام دعم الحياة في مختلف جوانبها(8)، ومع ذلك تبقى تنمية وبناء شخصية الإنسان هو جوهر التنمية وهدفها الرئيس في الفكر الإسلامي، عموماً، وفي فكر الإمام علي على وجه الخصوص، هذا، ناهيك انه من المستحيل إغفال حقيقة جوهرية ومهمة، وهي إن التنمية ليست مشكلة منفصلة عن جذرها التاريخي، إنما تكمن جذورها في قيم وأخلاقيات وثقافة كل من الفرد والمجتمع الممتدة عبر التاريخ، بما يحويه من عادات وتقاليد لها امتداد زمني يشكل التاريخ بعده الأساسي.

ص: 392

والتنمية البشرية في الإسلام، تتجسد من خلال نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية على أساس أن المجتمع يتكون من أفراد لهم صفاتهم الفردية وعلاقاتهم الاجتماعية، لذلك كانت عناية الفكر الإسلامي التنموي بكل المصالح الفردية والجماعية وفق نسق خاص يجمع بينهما، ويحرص عليهما ما دام ذلك ممكناً، إلا إذا تعارضتا، فتقدم المصالح الجماعية أو العامة لأنها أولى بالاهتمام والرعاية(9)، وهذا يعد من صلب موضوع التنمية البشرية.

وإذا كان صحيحاً أن تحليل الماضي يقدم لنا مفاتيح الحاضر كما نقل عن (كارل مارکس)(10)، فإن الحاضر العربي الإسلامي بما يحويه من رؤى وأفكار في التنمية لا يمكن فهمه دون الرجوع إلى الماضي بتجلياته الفكرية التي تخص موضوع التنمية البشرية.

إن المعاني الأنفة الذكر، قد أناره السبيل للمباحث التي تألفت منها هذه الدراسة، فأولت عناية لمفهوم التنمية البشرية، ومتطلباتها وأسسها في المنظور الإسلامي، ومدى ارتباط هذه المعاني برسالة الإسلام، وما جاءت به من مبادئ وقيم سامية، وأسست نظم اجتماعية وسياسية، كان من نتائجها التاريخية الواضحة بناء الإنسان في المجتمع الإسلامي، بناءاً نفسياً وعاطفياً حتى يكون عنصراً فعالاً في تنمية الحياة في مختلف مجالاتها.

والمسلمون اليوم مطالبون بإعادة عزهم وإحياء مجدهم وبعث تراثهم ووصل حاضر هم بماضيهم لكي يستمدوا منه الهدى والرشاد دون التعصب والانغلاق، وصولاً إلى بناء حاضر منفتح على الجديد، وبناء شخصية الإنسان الذي يؤمن أن الحياة هي عملية تواصل بين القديم والجديد، ولا يمكن بأي حال بناء تجربة إنسانية ناجحة دون المزاوجة بين الماضي والحاضر في استنباط البرامج والأفكار

ص: 393

التي تدفع بعملية التنمية إلى أمام.

إن المؤلفات والكنوز العلمية في التراث الإسلامي كثيرة ومتنوعة، وهي على كثرتها وتنوعها فيها ملامح وإشارات تؤكد بناء شخصية الإنسان وتنميتها ضمن مفهوم التنمية البشرية، ولكن ما يلفت النظر أن تلك المؤلفات والكنوز لازالت تنتظر الأيادي التي تمتد إليها من أجل سبر أغوارها، لأن ثمرات جهود أولئك العلماء مبعثرة في دور الكتب ومراكز حفظ المخطوطات، ولا شك أننا اليوم بحاجة لإعادة دراستها واستخلاص مضامينها وما تحويه من الرؤى والأفكار العلمية والاجتماعية والسياسية مما يصب قسماً منها في موضوع التنمية.

من هنا جاء هذا البحث في محاولة لتتبع المعطيات التاريخية لموضوعة التنمية البشرية في المنظور الإسلامي على وجه العموم وفي فكر الإمام علي (عليه السلام) على وجه الخصوص من أجل معرفة وتأصيل أبعادها التاريخية، والوقوف على التجارب السابقة في الفكر الإسلامي، وصولاً إلى الاستفادة من هذه التجارب في بناء منظومة فكرية للتنمية البشرية في العالم العربي الإسلامي، تأكيداً للمقولة التي تؤكد ((أن التاريخ موضوع حي يقوم بدور بليغ في الثقافة والتكوين الاجتماعي والخلقي، وله أثر في فهم الأوضاع القائمة وفي تقدير الاتجاهات والتطورات المقبلة))(11).

وهنا يجب أن ننوه إننا عندما نكتب عن موضوع التنمية البشرية في الإسلامي، فإن هذا لا يعني إننا نعيش عقلية الماضي، التي ربما لا يتوافق مع موضوعة التنمية، التي تعني فيما تعني، النمو والتطور والتقدم إلى أمام، أو في هذا تراجع إلى الوراء لعجزنا عن مواجهة الحاضر بكل مشاكله وأزماته، هذا الواقع الذي أثبتت التجارب أن الإنسان دائما ما يتوق إلى التطور والتقدم والتغيير في

ص: 394

مستويات حياته المختلفة.

إن موضوع التنمية البشرية في الفكر الإسلامي، بصورة عامة، واسع ومتداخل وتتفرع عنه موضوعات كثيرة، بل أننا لا نغالي إذ قلنا، إن جل اهتمام الفكر الإسلامي متمثلاً بالأصول التي اشتقت التشريعات منها بالقرآن الكريم وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأقوال وأفعال الإمام علي (عليه السلام) وأطروحات فقهاء المسلمين ومشرعيهم، وهي في مجملها تنصب بالدرجة الأولى نحو تنمية الجوانب الإنسانية في شخصية الإنسان، وبنائها بناءً يتجه صوب إعمار الأرض وتوفير الحياة الرغيدة للبشرية جمعاء دون النظر إلى جنسهم أو لونهم أو عرقهم، وهذا يرجح الرأي القائل، أن الإسلام جاء من أجل إسعاد البشرية، بل جعل سعادة الإنسان هي الغاية القصوى لتعاليم الشريعة الإسلامية.

ص: 395

المبحث الثاني: بناء شخصية الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام)

من المعلوم، أن الإسلام جاء من أجل بناء الإنسان وتنظيم المجتمع وصولاً إلى تحقيق أهداف اجتماعية، والحفاظ على بنية الأخلاق على أساس من التوازن بين ما هو روحي ومادي، بغية توفير الأمن مع التهذيب الاجتماعي القائم على الالتزام بتعاليم الإسلام وآدابه وقيمه، في معادلة متكافئة بين الحاجات الروحية والاجتماعية من أجل تحقيق العدالة والسعادة والرفاهية لأبناء المجتمع، وكل ذلك من أجل بناء شخصية الإنسان وتطوير المجتمع.

عن جميع القيم والإمكانات الفكرية التي اتصف بها الإمام علي (عليه السلام) لم تأتي من فراغ، فقد كان (عليه السلام) وارث الدوحة المحمدية، وأن عناية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) للإمام علي (عليه السلام) في بواكير حياته هو السبب في نضوج الشخصية العلمية الفكرية للإمام علي (عليه السلام)، وهكذا اتسعت علومه لتصقل موهبته مع تقادم الزمن، فضلاً عن ذلك فإن تعمقه في دراسة القرآن الكريم وعلومه، كان سبباً آخر لبناء منظومته الفكرية، وعلى هذا فإن الإمام علي (عليه السلام) قد تتلمذ علي يد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وورث أخلاقه وأسلوبه في النظر إلى الحياة، وجرى الميراث في قلبه وعقله سواء بسواء، وعكف على دراسة القرآن الكريم دراسة المتبصر الحكيم(12).

إن رسوخ مبادئ الإسلام في شخصية الإمام علي (عليه السلام) لم تأتي من فراغ وإنما كان يستلهمها من الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد عاش في كنفه منذ صباه، وكانت الروح الإنسانية طاغية على فكر الإمام (عليه السلام)،

ص: 396

فكان متحرراً ومتوسعاً في اكتساب العلوم ((فكان في كل مفهم من مفاهيمه، وفي كل معارفه وحكمه، وفي كل عمل من إعماله، ومنطق من أفكاره تقدمياً واقعياً يؤمن بالإنسان على صعيد الإنسانية العام حيث لا حدود جغرافية، ولا موانع قومية، ولا نزعة ضيقة عقائدية فهو يؤمن بالإنسان ويحيطه بكل ما يسعده)) (13).

يركز الإمام علي (عليه السلام) في بناء الإنسان على القيم الروحية والتي مبتدأها الإيمان بالله (سبحانه وتعالى) لأن هذا الإيمان يقود إلى الفضائل، فالإنسان المؤمن يخاف الله في حركاته وسكناته، لذلك نرى الإمام علي (عليه السلام) يركز على مسألة مهمة وهي خلق العالم وإنشاؤه يقول الإمام علي (عليه السلام): ((أنشأ الخلق إنشاءُ، وابتدأه ابتداءَ، بلا رويةٍ أجالها ولا تجربةٍ استفادها، ولا حركةٍ أحدثها، ولا همامةِ نفس اضطرب فيها. أحال الأشياء لأوقاتها ولأم بين مختلفاتها وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها عالما بها قبل ابتدائها محيطها بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأحنائها))(14).

وهكذا نجد الإمام علي (عليه السلام) يركز في مقولاته على تهذيب الشخصية الإنسانية وذلك بالدعوة إلى القناعة والابتعاد عن الجشع في جمع الأموال، لأن الإنسان وفق المنظور الإسلامي وجد على الأرض لعمارتها وليس لجمع المال واكتنازه، وأن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، ((أما بعد فإن الأمر يَنْزِلُ من السماء إلى الأرض كقطرات المطر، كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرةٌ في أهلٍ أو مالٍ أو نفسٍ، فلا تكون له فتنة، فإن المرء المسلم ما لم يغشى دناءةً تظهر فيخشع لها إذا ذكرت، ويغرى بها لئام الناس... وكذلك المسلم البريء من الخيانة ينتظر من الله أحدى الحسنيين: إما داعي الله فما عند الله خيرٌ له، وإما رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال))(15).

ص: 397

ولأن صلاح الرعية بصلاح الحاكم، بل أن الحاكم هو القدوة لأبناء المجتمع، ولهذا نجد الإمام علي (عليه السلام)، حريص على اختيار المسؤول في الدولة الإسلامية، لأن في صلاحه صلاح العامة، ومتى كان الحاكم لا يتصف بصفات المسلم الصالح فإنه يعد عاملاً مساعدا لفساد رعيته، وعند ذلك بدلاً من أن يكون عامل للبناء يصبح أداة للهدم، ولهذا فإن بناء شخصية الفرد المسلم وفق منظور الإمام علي (عليه السلام) يتوجب اختیار حاکم تتوافر به عدد من الصفات، وعلى هذا المنوال، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادی في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصر مهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء)(16).

إن تربية الفرد وبناء شخصيته في المجتمع الإنساني تتطلب توجيه على أن يقدم في دنياه ما يرضي الله كي يعمر الأرض ويفوز بنعيم الجنة، والإمام علي (عليه السلام) يحذر من فتنة الدنيا، لأن ذلك سيؤدي بالمحصلة النهائية خسارة الدنيا والآخرة، ((إن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام، فاحذروا من الله ما حذركم نفسه، واخشوه خشية ليست بتعذیر، وأعملوا في غير رياء، ولا سمعة، فإن من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له))(17).

والدعوة إلى طاعة الله (سبحانه وتعالى) مقرونة بالعمل الصالح المنتج وهذه الفرضية من أهم القضايا التي ركز عليها الإمام علي (عليه السلام)، وعلى ما يبدو أن الإمام علي (عليه السلام) قد أدرك ذلك بفطرته وسجيته، لذلك يوجه

ص: 398

الإنسان إلى الاستعداد ليوم الحساب بالعمل الصالح بقوله: ((ألا وإن اليوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار، أفلا تائب من خطيئته قبل منيته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه، ألا وإنكم في أيام أمل، ومن ورائه أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضره أجله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضره أجله، ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة))(18).

ولكي يعطي الإمام علي (عليه السلام) لموضوع تنمية الإنسان وبناء شخصيته بعدا روحياً يقرن ذلك بخلق الملائكة كيف أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلق السموات والأرض جعل فيها الملائكة وهم على أربعة أصناف وهذا التقسيم يراد به تقريب الصورة للإنسان كي يدرك بمشاعره وأحاسيسه عظمة هذا الخلق، وضعف الإنسان وقلة حيلته أمام قدرة الله (سبحانه وتعالى)، وهي دعوة للإنسان للتواضع وعدم الغرور، وهذا يشكل معناً مهم لبناء شخصية الإنسان وفق منظور الإمام علي (عليه السلام)، فالملائكة على عظمة خلقهم ساجدون الله عابدون لا يعصون الله أمراً، ((فمنهم ساجدون لا يركعون، وقسم ركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العين، ولا سهو العقول ولا فترة الأبدانِ، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيهِ، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظةُ لعبادهِ، والسدنة لأبواب جنانه))(19).

ومن أجل بناء شخصية إنسانية تتمتع بالوسطية في حياتها فإن الإمام علي (عليه السلام) يحذر الناس من الاقبال على مباهج الدنيا، ونسيان الآخرة لأن في ذلك ما يجعل الإنسان اشبه بالآلة الصماء غايته فقط الحصول على الملذات، وفي ذلك سحق لإنسانيته، يقول (عليه السلام): ((ما أَصِف من دارٍ أولها عناءٌ،

ص: 399

وآخرها فناءٌ، في حلالها حساب وفي حرامها عِقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حَزِنَ، ومن ساعاتها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته))(20).

إن بناء شخصية الإنسان في فكر الإمام علي تتطلب من أفراد المجتمع التحلي بالإيمان بالله، والصبر، وعدم التردد بالاعتراف بالخطأ إن وقع فيه أحد منهم، ويفهم من المقولة الآتية أن الإمام علي (عليه السلام) أراء بناء مجتمع الفضيلة الذي تسود فيه عظمة النفس وإباءها يقول عليه السلام في هذا الشأن: ((أوصيكم بخمس لو ضربتم بها آباط(21) الإبل لكانت لذلك أهلًا: لا يرجون أحدكم إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحين أحدكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحين أحد منكم إذا لم يعلم أن يتعلمهُ، وعليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه))(22).

لقد أراد الإمام علي (عليه السلام) بناء شخصية الإنسان من جوانبها كافة، نجد ذلك من كلامه لسائل ((من أهل الشام لما سأله: أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره ؟))(23)، فكان جواب الإمام علي (عليه السلام) هو محصلة لشخصية علمية فلسفية إنسانية، قد تمثل الإسلام فيها على أحسن صوره، يقول الإمام مخاطباً السائل: ((ويحك! لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حاتماً؛ ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله سبحانه وتعالى أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً. وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثاً، ولا خلق السموات والأرضَ وما بينهما باطلاً))(24).

ص: 400

المبحث الثالث: تطوير المجتمع في فكر الإمام علي (عليه السلام)

من البديهي أن بناء شخصية الإنسان تنعكس بصورة أو أخرى على تطور المجتمع، لأن المجتمع ؉ أي مجتمع - هو عبارة عن مجموعة من الأفراد بينهم روابط مشتركة، من هنا فإننا نرى إن التنظير الإسلامي يؤكد على بناء الإنسان روحياً ومادياً، وهكذا نجد أن الإمام علي (عليه السلام) قد تطرق إلى مواضيع عدة هي في مجملها تعد أشبه بالأنظمة والقوانين التي تعمل على تطوير المجتمع.

إن من أهم الطرق الناجعة التي تسهم في تطوير المجتمع هي العدالة بين الرعية ومن هذا الجانب نرى أن الإمام علي (عليه السلام) يؤكد على هذه المسألة حتى مع أهل بيته يظهر ذلك من قوله (عليه السلام): ((إن للولدِ على الوالدِ حقاً، وإن للوالدِ على الولدِ حقاً، فحق الوالدِ على الولدِ أن يُطيعه في كل شيءٍ، إلا في معصية اللهِ سبحانهُ، وحق الولد على الوالد أن يحسنَ أسمهُ، ويحسن أدبه، ويعلمهُ القرآن))(25).

وبناء المجتمع في فكر الإمام علي مقرون بالإيمان القاطع بالله (سبحانه وتعالى) وهذا الإيمان لا يأتي من فراغ أو إيمان ساذج إنما أصله النظر إلى نعمه على الإنسان والخلائق الأخرى يقول عليه السلام: ((الحمد الله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانح كل غنيمةٍ وفضلٍ، وكاشف كل عظيمة وأزلٍ(26)، أحمده على عواطف كرمه، وسوابغ نعمه، وأمن به أولاً بادياً، واستهديه قريباً هادياً، واستعينه قاهراً قادراً، وأتوكل عليه كافيا ناصراً))(27)، مما لاشك فيه أن تحليل النص السابق يبين لنا أن الإمام علي (عليه السلام) يركز على نقطة جوهرية ألا وهي معرف الله (جل

ص: 401

جلاله) من خلال معرفة عظمته وهذه بلا شك ستقود الإنسان إلى التواضع الذي يقود المجتمع إلى التصافي والمحبة التي هي أساس بنائه وتطوره.

وتقوى الله من أهم الأسس التي يبنى عليها المجتمع لأن الأفراد الذين يكونون المجتمع متى خافوا الله (سبحانه وتعالى) فإنهم سوف يطيعوه ويلتزموا أوامره وينتهوا بنواهيه، وهذا الأمر كان من جل اهتمامات الإمام علي (عليه السلام) يتجسد في ذلك مقولاته وأفعاله، والتي فيها دعوات لأفراد المجتمع الإنساني ((أُوصيكم عباد الله بتقوى اللهِ الذي ضرب الأمثال، ووقت لكم الآجال وألبسكم الرياش، وأرفغ لكم المعاش، وأحاط بكم الإحصاء، وأرصد لكم الجزاء، وآثركم بالنعم السوابغ، والرفد الروافغ، وأنذركم بالحجج البوالغ، فأحصاكم عدداً، ووظف لكم مدداً، في قرارِ خِبرةٍ، ودار عبرةً، أنتم مختبرون فيها، ومحاسبون عليها))(28).

وفق هذه المسارب الفكرية يتضح فكر الإمام علي (عليه السلام) في نظرية إسلامية إنسانية مجتمعية شاملة غايتها أن يبنى المجتمع على أسس من التقوى، وعند ذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) لا يترك فرصة إلا ويحذر الناس من الغرور بالدنيا، يقول عليه السلام: ((فإن الدنيا رنقٌ مشاربها، ردغ مشرعها، يونق منظرها، ويوبق مخبرها، غرورٌ حائلٌ، وضوءٌ آفلٌ، وظل زائل، وسناد مائل، حتى إذا أنس نافرها، واطمأن ناكرها، قمصت بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرء أوهاق المنية، قائدة له إلى ضنك المضجع، ووحشة المرجع، ومعاينة المحل، وثواب العمل، وكذلك الخلف بِعَقْبِ السلف))(29).

يُذكّرْ الإمام علي (عليه السلام) الناس أهوال يوم القيامة، ونعقد أن هذا التذكير الغاية منه بناء الإنسان الذي ستكون النتيجة الحتمية له بناء المجتمع

ص: 402

الصالح وتطوره، لأن الإنسان إذا خاف من عقاب الله تجنب المعاصي واتجه بروح وقلبه نحو الخير والصلاح، وبذلك يتجنب كل ما يسئ لأخيه الإنسان من قول أو فعل، والمعروف أن الإنسان إذا أمن من العقاب لم يتوانى من عمل المعاصي، لذلك نرى الإمام علي (عليه السلام) دائما يذكر بأهوال يوم القيامة (30) لعله يوقظ الناس من غفلتهم، ((واعلموا أن مجازكم على الصراط ومزالقه دحضه،...، فأتقوا الله عباد الله، تقية ذي لب شَغَلَ التفكير قلبه، وانصب الخوف بدنه، واسهر التهجد غرار نومه، وأظمأ الرجاء هواجر يومه، وظلف الزهد شهواته، واوجف الذكر بلسانه، وقدم الخوف لأمانه، وتنكب المخالج عن وضح السبيل، وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور، ولم تعم عليه مشتبهات الأمور، ظافراً بفرحة البشرى، وراحة النعمى))(31).

ولأن بناء المجتمع وتطوره يتطلب من أبناءه التزام حدود الله وهذا لا يتحقق إلا من خلال عدد من الصفات يتوجب على الإنسان أن يتصف بها، بل العمل بها، لذلك نجد الإمام علي (عليه السلام) يبين صفات المسلم الذي يأتمر بأوامر الله وينتهي بنواهيه ((عباد الله، إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعد القِرى ليومه النازل به، فقرب على نفسه البعيد، وهون الشديد، نظرَ فأبصرَ، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فُرَتٍ سهلت له موارده، فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى من الهموم إلا هماً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى، ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أصحاب أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع عماره، واستمسك من العروة بأوثَقِها، ومن الجبال بأمتنها))(32).

ص: 403

والإمام علي (عليه السلام) ينبه أفراد المجتمع إلى لزوم طاعة الله لأنها السبب المباشر لبناء المجتمع الصالح المتكامل، ولهذا فإن نظر الإنسان إلى عيوبه وحاسبة نفسه هي السبيل لبناء شخصيته، ومن ثم بناء المجتمع الذي يخلوا من الكراهية والحقد ويعيش أبناءه في وئام وسلام، وفي هذا الصدد يقول عليه السلام: ((يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وطوبى لم لزم بيته وأكل قوته، واشتغل بطاعة ربه، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل، والناس منه في راحة))(33).

وبناء المجتمع على قواعد سليمة يبدأ من رأس الهرم (الحاكم) لذا نجد الإمام علي (عليه السلام) يخاطب الولاة وأولي الأمر من المسلمين بقوله: ((والله لأن أبيت على حسكِ السعدان مسهداً، أو في الأغلال مصفداً، أحب إليه من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظلماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها))(34)

إن الطريقة المثلى لبناء المجتمع أن يكون رئيسه أو قائده قدوة للرعية، وهذا منهج واضح بصورة جلية في فكر الإمام علي (عليه السلام)، كان يطبقه على نفسه، ويدعو ولاته إلى الأخذ به بل أنه يدعو إلى الاهتمام بالفقراء ورعايتهم، وعلى الخليفة أة الوالي أن يعيش حياتهم ويشاركهم في مأساتهم ويساعدهم عليها ويتضح ذلك من خلال إنكاره على عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة(35)، وقد كتب الإمام علي (عليه السلام) إلى عامله يعاتبه عدم الاهتمام بالرعية، وتخصيص الجيد من الطعام والشراب له، منبهاً أياه على أن الإمام علي (عليه السلام) يفضل حياة التقشف ومشاركة الرعية همومهم وأن (عليه السلام) لو أي أصناف من الطعام واللباس لحصل عليه، يقول الإمام علي (عليه السلام):

ص: 404

((ولو شئت لأهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة))(36).

نستقرئ من هذا النص دروساً تدعو إلى إشاعة روح الفضيلة والابتعاد الرذيلة، وهو رسالة لكل الحكام والملوك والأمراء وأصحاب الوظائف تصلح أن تكون خارطة طريق للمسلمين في الوقت الحاضر، سيما وأن الفساد الإداري والهدر المالي أصبح صفة تلازم معظم الحكام المسلمين في الوقت الحاضر، وهو ايضاً - أي النص السابق - درس في النزاهة والحفاظ على حقوق الرعية كي يضعوها في مواضعها دون تفضيل لأحد على أحد.

ومن نافلة القول أن نذكر، أن الإمام علي (عليه السلام) قد بين الأسباب التي تؤدي إلى تدهور المجتمع وانحلاله، وهو إذ يذكر به الأسباب يدعو افراد المجتمع إلى التمسك بالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، ويحثهم على احترام الوعد والعهد وصدق الحديث لأنها أسباب موجبة للتقوى والصلاح على مستوى الفرد والجماعة، وبالتالي بناء المجتمع الصالح وتطوره، وهذه الأسباب هي بلا شك من ابرز مقومات التنمية البشرية، وصولاً إلى تكوين منظومة من الأفكار الراجحة لصيرورة المجتمع الإنساني بأكمله نحو الفضيلة والتعايش السلمي القائم على الاحترام والمحبة بين إفراد المجتمع الإنساني، يقول الإمام علي (عليه السلام) في الأسباب التي تؤدي إلى تدهور المجتمع: ((أما بعد فإن الله لم يقصم ظهر جباري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء، ولم يجبر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزلٍ وبلاء: وفي دون ما استقبلتم من عتبٍ وما استدبرتم من خطبٍ معتبر وما كل ذي قلب بلبيب، ولا كل ذي سمعٍ بسميع: ولا كل ذي ناظر ببصير، فيا عجباً، ومالي لا اعجبُ من خطا هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون اثر نبي،

ص: 405

ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب)) (37).

لقد امتزج في وعي الإمام علي (عليه السلام) تجربته السياسية في إدارة شؤون الدولة الإسلامية التي انتهت بظهور الكثير من الفتن والأصوات النشاز التي تحاول تغيير روح الإسلام من دين العدالة والمساواة بين الناس على أخلاف ألوانهم وأعراقهم، إلى التفرقة على أساس العشيرة أو النسب، فوقف بوجه هذا التيار غير مبالٍ بالمصير الذي قد يواجهه، وهكذا انتهت حياته (عليه السلام) شهيدا للقيم الإنسانية العليا والمبادئ الإسلامية، فتحول الذاتي في شخصيته إلى الموضوعي، يقول (عليه السلام): ((اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه)) (38).

والمجتمع الصالح يبنى على أسس من المحبة والتآلف بين أفراد الرعية، لأن ذلك سيقود إلى بناء إنسان مثالي، والنتيجة تطوير المجتمع من جوانبه كافة، يقول الإمام علي (عليه السلام): ((ليتأس صغير كم بكبيركم، وليرأف كبير كم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية: لا في الدين يتفقهون، ولا عن الله يعقلون))(39).

ص: 406

الخاتمة

بعد أن أكملنا هذا البحث لا بد أن نضع خاتمة نلخص فيها أهم النتائج والتوصيات التي توصلنا إليها، وهي الآتي:

أولاً: - إن رسوخ مبادئ الإسلام في شخصية الإمام علي (عليه السلام) لم تأتي من فراغ وإنما كان يستلهمها من الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد عاش في كنفه منذ صباه، وكانت الروح الإنسانية طاغية على فكر الإمام (عليه السلام)، فكان متحرراً ومتوسعاً في اكتساب العلوم، والروح الإسلامية ماثلة في كل مفهم من مفاهيمه، وفي كل معارفه وحكمه، وفي كل عمل من أعماله، ومنطق من أفكاره، فكان تقدمياً واقعياً يؤمن بالإنسان على صعيد الإنسانية العام حيث لا حدود جغرافية، ولا موانع قومية، ولا نزعة ضيقة عقائدية، فهو يؤمن بالإنسان ويحيطه بكل ما يسعده.

ثانياً:- المسلمون اليوم مطالبون بإعادة عزهم وإحياء مجدهم وبعث تراثهم ووصل حاضر هم بماضيهم لكي يستمدوا منه الهدى والرشاد دون تعصب أو انغلاق، وصولاً إلى بناء حاضر منفتح على الجديد، وبناء شخصية الإنسان الذي يؤمن أن الحياة هي عملية تواصل بين القديم والجديد، ولا يمكن بأي حال بناء تجربة إنسانية ناجحة دون المزاوجة بين الماضي والحاضر في استنباط البرامج والأفكار التي تدفع بعملية التنمية إلى أمام.

ثالثاً: - يركز الإمام علي (عليه السلام) في بناء الإنسان على القيم الروحية والتي مبتدأها الإيمان بالله (سبحانه وتعالى) لأن هذا الإيمان يقود إلى الفضائل، فالإنسان المؤمن يخاف الله في حركاته وسكناته، وكما هو معلوم أن التنمية البشرية

ص: 407

في الإسلام هدفها بناء الإنسان السوي، الناضج، المبدع، والمنتج من أجل عمارة الأرض كي يحقق الغرض الذي خلقه الله من أجله ألا وهو خلافة الأرض.

رابعاً: - لقد اتضح لنا أن الإمام علي (عليه السلام) كان في أقواله وأفعاله أنموذج حي للتعاليم الإسلامية، حتى أننا وجدنا إنسان تمثلت فيه الشريعة الإسلامية السمحاء، فهو يقول الكلام ويتبعه بالتطبيق، وهذا، وفق المنظور السياسي لإدارة الدولة وسياسة الرعية يعد مثال يحتذى به للسياسة والإدارة الناجحة، من هنا كان فكر الإمام علي (عليه السلام) فكراً واقعياً، ولا يدخل ضمن النظريات الطوباوية، بل أنه يمكن تطبيقه على أفراد المجتمع بدون أي تعقيدات أو إجراءات روتينية.

خامساً: - إقامة مؤسسة دولية ترعاها منظمة المؤتمر الإسلامي، أو عدد من الدول الإسلامية، يكون مركزها في النجف الأشرف تختص بدراسة فكر الإمام علي (عليه السلام)، ومنطلقاته الإنسانية والأخلاقية، وكذلك رؤيته في مجال حقوق الإنسان، وهذا المؤسسة شاملة لجميع المذاهب الإسلامية، يتفرع منها عدد من المراكز البحثية، فضلاً عن المعاهد والكليات الإنسانية التي تدرس العلوم وفق المنهج الوسطي للإسلام منهج الإمام علي (عليه السلام) لكي تحقق التواصل والتقارب بين أبناء المسلمين جميعاً.

سادساً: - نستقرئ من فكر الإمام علي المبثوث في كتاب نهج البلاغة، دروساً، وعبر، تدعو إلى إشاعة روح الفضيلة والابتعاد الرذيلة، وهذه الدروس والعبر تعد رسالة لكل الحكام والملوك والأمراء وأصحاب الوظائف تصلح أن تكون خارطة طريق للمسلمين في الوقت الحاضر، سيما وأن الفساد الإداري والهدر المالي أصبحت صفة تلازم معظم الحكام المسلمين في الوقت الحاضر.

ص: 408

هوامش البحث:

(1) سورة الإسراء، آية: 29.

(2) سورة البقرة، آية: 29.

(3) سورة هود، آية: 59.

(4) إبراهيم العسل، التنمية في الإسلام، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، ط 1، (بيروت / 1996 م)، ص 62.

(5) عباس هاشم علوي شهاب، معالم الفكر التنموي الإسلامي، دار العصمة، ط 1، (البحرين / 2007 م)، ص 108.

(6) سورة لقمان، آية: 20

(7) السيوطي، جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبكر، تفسير الجلالين (الدر المنثور)، دار إحياء التراث العربي، (بيروت / د. ت)، ص 545.

(8) ف. دوجلاس موسشيت، مبادئ التنمية المستدامة، ترجمة: بهاء شاهين، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، ط 1، (القاهرة / 2000 م)، ص 13.

(9) إبراهيم العسل، التنمية في الإسلام، ص 65

(10) محمد عابد الجابري، العقل العربي، محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 4، (بيروت / 2007م)، 46.

(11) عبد العزيز الدوري، مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، (بيروت / 2005 م)، ص 15.

(12) جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة والإنسانية، دار ومكتبة صعصعة، ط 1، (البحرين / 2003 م)، ج 1، ص 97.

(13) مهدي حبوبة: ملامح من عبقرية الإمام علي، مطبعة الإرشاد، ط 2، (بغداد / 1967م)، ص 116.

(14) نهج البلاغة، ج 1، 25 - 26.

(15) نهج البلاغة، ج 1، ص 69.

(16) نهج البلاغة، ج 1، ص 526.

(17) نهج البلاغة، ج 1، ص 69.

(18) نهج البلاغة، ج 1، ص 79.

(19) نهج البلاغة، ج 1، ص 28.

ص: 409

(20) نهج البلاغة، ج 1، ص 135.

(21) الآباط جمع إبط، وضرب الآباط: كناية عن شد الرحال والمسير. (نهج البلاغة، ج 1، ص 579، هامش 1).

(22) نهج البلاغة، ج 1، ص 579.

(23) نهج البلاغة، ج 1، ص 578.

(24) نهج البلاغة، ج 1، ص 578.

(25) نهج البلاغة، ج 1، ص 646.

(26) الأزل: الضيق والشدة (نهج البلاغة، ج 1، ص 136، هامش 3)

(27) نهج البلاغة، ج 1، ص 136.

(28) نهج البلاغة، ج 1، ص 137.

(29) نهج البلاغة، ج 1، 137- 138.

(30) ينظر نهج البلاغة، ج 1، ص 65، 130، 144، 354.

(31) نهج البلاغة، ج 1، ص 144.

(32) نهج البلاغة، ج 1، ص 152 - 153.

(33) نهج البلاغة، ج 1، ص 317 - 318.

(34) نهج البلاغة، ج 1، ص 425.

(35) ذكرى عواد ياسر العامري: الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة، رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية التربية، جامعة البصرة / 2009 م، ص 144.

(36) نهج البلاغة، ج 1، ص 529.

(37) نهج البلاغة، ج 1، ص 156 - 157.

(38) نهج البلاغة، ج 1، ص 302.

(39) نهج البلاغة، ج 1، ص 299.

ص: 410

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

أولاً: المصادر.

1 - السيوطي، جلا الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبكر: تفسير الجلالين (الدر المنثور) دار إحياء التراث العربي، ط 1، (بیروت / د.ت).

2 - نهج البلاغة: مجموعة خطي الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، شرح: الأستاذ محمد عبده، اشرف على تحقيقه وطبعه: عبد العزيز سيد الأهل، منشورات مكتبة التحرير، (د.ب / د.ت).

ثانياً: المراجع.

1. إبراهيم العسل: التنمية في الإسلام، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، ط 1، بيروت / 1996 م).

2. جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة والإنسانية، دار ومكتبة صعصعة، ط 1، (البحرين / 2003 م).

3. عباس هاشم عليوي: معالم الفكر التنموي الإسلامي، دار العصمة، ط 1، البحرين / 2007 م).

4. عبد العزيز الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، (بیروت / 2005 م).

5. ف. دوجلاس موسشیت: مبادئ التنمية المستدامة، ترجمة: بهاء شاهين، الدار الدولية للاستثمار الثقافي، ط 1، القاهرة / 2000 م).

ص: 411

6. محمد عابد الجابري: العقل العربي، محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 4، (بيروت / 2007 م).

7. مهدي حبوبه: ملامح من عبقرية الإمام علي، مطبعة الإرشاد، ط 2، بغداد / 1967 م).

ص: 412

فكر الإمام علي (عليه السلام ) في تجديد الخطاب الديني

اشارة

المدرس الدكتور جمعة ثجيل الحمداني ذي قار كلية الآداب

ص: 413

ص: 414

المقدمة

ان من متطلبات وتحديات الواقع المعاصر، ان لاتكون سمته الجمود والانغلاق والانعزالية والتقليد، بل الحراك والانفتاح والابداع، وحتى يتمكن الخطاب الديني من تلبية وتحديات الواقع المعاصر ومواجهة قضايا وهموم الافراد والمجتمعات والارتقاء بشخصية وامكانات الافراد، فلابد من مواكبة هذه التحديات المعاصرة بروح علمية تتلائم مع مايحدث من تغييرات سريعة في الفكر الانساني، وبما ان القرآن الكريم يحث على اعمال العقل والتفكر والتدبر في آيات كثيرة في القران الكريم(1)، فهذا يعني ان ادوات التحرر من الانغلاق والجمود الذي يشوب بعض الخطابات الدينية هي ادوات متوفرة في صميم الدين الاسلامي ودستوره القرآن الكريم.

وحتى يطمئن بعض المشككين في صدق الدعوة الى تجديد الخطاب الديني نقول: ان التجديد في الخطاب الديني، لا يكون في ثوابت واصول الدين والعقيدة، وانما تطوير لغته ومضمونه والمطالبة باخذ كل ماهو جديد لمواكبة الواقع المعاصر والتغيرات الحادثة والمستجدات المستمرة، وما يحيط بها من تحديات.

والتجديد سنة من سنن الكون وضرورة من ضرورات العصر التي لا غنی عنها، ومصداقا لقوله صلى الله عليه واله وسلم: ( ان الله يبعث لهذه الامة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). والفرد والمجتمع معنيان دائما بالتجديد والتحديث والتغيير والابداع.

والمقصود بالتجديد هو: تجديد النظر في الدين او تجديد الفهم الديني، ذلك الفهم الذي انتجه العقل الانساني في علاقته تاريخيا مع الدين: فهما وتاویلا وتفسيرا، وليس المقصود تجديد الدين نفسه: حذفا او اضافة او ماشابه(2).

اما مشكلة الشباب وكيفية تعاطيهم مع الخطاب الديني التقليدي فهذه بحاجة

ص: 415

الى وقفة مهمة وجادة، فالملاحظ ان الشباب في ضوء ثورة الاتصال والمعلوماتية، وما افرزته الحضارة المعاصرة من تداعيات، اصبح اليوم اكثر تمردا وخروجا على المألوف لتراثي.

وعلى هذا الاساس ينبغي أن لا يتم التعامل مع جيل الشباب على انه قطيع ساذج، ويكفي التعاطي مع مع اشکالاتهم بالوعظ المجرد وحسب، على امل تحصينهم من الغواية والفساد، كما يطمح لذلك الدعاة والمصلحون، ومن ثم نضمن الحيلولة دون وقوعهم في شطط التمرد على المألوف من الاعراف والمعتقدات بمثل هذه السهولة.

کما انه لابد من الاشارة الى ان التعويل على اسلوب الردع بمختلف الاساليب، واعتماد العقاب، صعودا الى التكفير بعد الموعظة، للحد من هذه الظاهرة ؉ لن يجدي نفعا على قاعدة: (افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(3) وخاصة على المدى الطويل.

ويبدو ان التمسك بالاليات المطروحة فقط في هذا المجال غير مجدية، بعد ان اخفقت في وقف انتشار مظاهر التحلل والفساد والالحاد، في المجتمع بشكل عام، وبين شريحة الشباب بشكل خاص.

ويلاحظ ان كثيرا من الدعاة بقصور ادوات تناوله، يفتقر الى التاثير الفاعل في الاوساط الاجتماعية للناس، والشباب بالذات، وبالتالي عجز عن تقديم اجابات مقنعة، او حلول موضوعية - للاستفهامات المتزايدة للجيل الجديد من الشباب، ورد نقدهم لاساليب الدعاة في الوعظ، وتفنيد شعورهم بتيبس الموروث المعرفي الديني الذي اثبت في نظرهم عجزه عن التصدي للمناهج الفكرية المعاصرة.

ان الدعاة اليوم ورجال الدين مطالبون بضرورة حل الاشكاليات المزعومة

ص: 416

عن وجود تعارض بين تفسير النصوص الدينية والاحكام الفقهية، وعليهم الانصات الى صوت الشباب والرد على تساؤلاتهم واستفساراتهم ومناقشتهم مناقشة عقلية صرفة.

هناك سؤال يؤرقنا جميعاً هو: من اين جاءت النظرة السلبية للإسلام؟ هل اتت من المجتمعات الاخرى؟؛ والجواب على ذلك نقول: جاءت هذه النظرة من الخطاب الديني ومن روایات لدى طوائف من المسلمين لا تليق بالإسلام، نقلها جهلة او متزلفون لأعداء الاسلام من الداخل مضادوا يتكلمون باسم الاسلام، ورغم ان الخط المحمدي ؉ خط اهل البيت عليهم السلام - اقام الحجة على انحراف هؤلاء الا ان البعض لازال يتخذ من هذه المنقولات الخاطئة، والمسيئة ذريعة للانتقاص من الاسلام ونسبته إلى المصادر الاسلامية.

ولا يخفى على احد في الوقت الحاضر كيف تعمل وسائل الاعلام الكثيرة، حيث نراها تركز على الحوادث المثيرة ولا تسلط الضوء على الامور الطبيعية ولا الامور الحسنه، وكم من السلوكيات الصالحة لا يتم نقلها في اعلام اليوم الذي لا يهتم للإصلاح والتقريب بين الثقافات بل يهدف الى خدمة الممولين کما هو معروف، وهذا التضليل الاعلامي لم يكن وليد اليوم، وانما تمتد جذوره الى اعماق التاريخ، وقد انتبه الائمة الاطهار علیهم السلام الى هذا النوع من التضليل لذلك دعوا في خطاباتهم الى ان تكون الممارسات الدينية والشرعية وفق الفكر والعلم والعمل الصحيح، وهذا ما تستطيع أن تفهمه من النص الاتي الصادر عن الامام الرضا عليه السلام، والذي يدعو فيه الى الخطاب الاعلامي الذي يبرز محاسن العلوم والسيرة لفكر اهل البيت عليهم السلام. قال عليه السلام: (احيوا امرنا، رحم الله من احیا امرنا، قالوا: وكيف نحيي امركم يا ابن رسول الله؟ قال: بتعلم علومنا وتعليمها للناس، لان الناس لو علموا محاسن کلامنا لاتبعونا..)(4)، وهذا

ص: 417

يعني ان الناس كانت ؉وربما لازالت ؉ تتلقى الفكر الديني باسلوب خطابي مضلل.

ولما كان فکر اهل البيت عليهم السلام يدعو الى دراسة محاسن علومهم التي ورثوها عن المصطفى صلى عليه وآله وسلم الذي جاء رحمة للعالمين وجاء ليتمم مکارم الاخلاق وحسب ما مشهور ومعروف في الكتاب والسنه فما الذي حصل حتى يتغير هذا السلوك نحو الانحدار؟ وما الذي حصل حتى تخرج دعوات النبي (صلى الله عليه واله وسلم) الاخلاقية ودعوات اهل بيته الاطهار (عليهم السلام) الاصلاحية والعلمية عن نقاوتها لدرجه لانرى لها تطبيقياً؟ الجواب: ان السبب السبب ليس وليد الحاضر، وانما تمتد جذوره الى ايامهم عليهم السلام ؉كما اشرنا ؉، وبسبب الخطاب الاعلامي المضلل الصادر من مناوئيهم والمنحرفين عن الدين الاسلامي الصحيح، ومن ادوات هذا التضليل والتحريف هو نشر الاخبار المخالفة للحقيقة، وفي هذا الخصوص قال الامام الرضا (عليه السلام): ((ان مخالفينا وضعوا في فضائلنا، وجعلوها ثلاثة اقسام، احدها الغلو، وثانيها التقصير في امرنا، وثالثها التصريح بمثالب اعدائنا، فأذا سمع الناس الغلو فينا كفروا شیعتنا ونسبوهم الى القول بربوبيتنا، واذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، واذا سمعوا مثالب اعدائنا بأسمائهم ثلبونا باسمائنا وقد قال الله عز وجل: لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فیسبوا الله عدواً بغير علم))(5).

ويفهم من هذا النص الوارد عن الامام الرضا عليه السلام: ان الاعلام المعادي والخطاب المناوئ وفي كل زمان ومكان يعمل بالاتجاه المضاد لفكره والمحاربة القوية لمعارضيه وخصومه وبطرق مختلفة ووسائل قويه قد تنطلي على الكثير من الناس، وبالتالي يؤدي الغرض الذي يطمح اليه بهذه الوسائل المخادعة، ويفهم ايضاً من النص السابق ان الامام عليه السلام اعطانا ادوات العمل واشار الى الانذار النهائي الذي ينبغي ان نكون فيه يقظين، هذا في زمان ومكان لم

ص: 418

تكن ادوات الخداع والاعلام بالمستوى الموجود الان في حياتنا المعاصرة التي تتعدد فيها اساليب الخداع والتضليل فكم هي اذن المهمة صعبة وثقيلة؟

لهذا نرى ان التفكير في طرح الخطاب الديني بطريقه عقلانية بعيدة عن العواطف والاهواء هي الاسلوب الامثل، والانجح للقضاء على الافكار البالية.

ومن الشواهد الاخرى الدالة على تزييف الحقائق عبر التاريخ والتي تؤيد ما ذهب اليه اهل البيت (عليهم السلام) في طروحاتهم ما نقلته لنا المصادر الاسلامية فقد ذكر ابن الجوزي عن حماد بن زید(6)، قال: (( وضعت الزنادقة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) اربعة عشر الف حديث))(7).

وقال الذهبي(8): عند ذكر عبد الكريم بن ابي العوجاء(9) الذي قتل في زمن المهدي العباس، وبعد ان أيقن بالموت وأخذ ليضرب عنقه قال: ((وضعت فیکم اربعة الالاف حدیث احرم فيها الحلال واحلل فيها الحرام)) وفي رواية: ((والله لئن قتلتموني لقد وضعت فیکم اربعة الاف حدیث احرم فيها الحلال واحل فيها الحرام ولقد صومتكم يوم فطر کم، وفطرتكم يوم صومكم)) (10).

اننا يجب ان نعمل من أجل جعل ائمة اهل البيت عليهم السلام يتحركون معنا في حياتنا ومواقعنا من جديد ليقودوا حركتنا من موقعهم الفكري الاسلامي، ومن موقعهم الروحي الإيماني، ومن امامتهم المتحركة في اتجاه حماية الدين من الانحراف عن خط الله تعالى ورسوله الكريم (صلى الله عليه واله). من هذا المنطلق ندعو الامة ممثلة بعلمائها ومفكريها ودعاتها العاقلين المنفتحين الداركين لجوهر وحقيقة الدين کرسالة محبة وانفتاح وقيم انسانية رفيعة الى اثارة كل مفاهيمهم عليهم السلام عقيدة وشريعة، وبهذا الخصوص قال الامام الباقر عليه السلام: (وهل الدين الا الحب) (11)، فما ابلغ هذا الكلام وما اجمله وما اروعه من تصوير نابع من الاعماق وغير مشوش، ورغم كلماته القصار فهو ذات معنى كبير وعميق.

ص: 419

المبحث الاول: دور القرآن في الخطاب الديني: عند الامام علي (علیه السلام) وتجديده

القرآن الكريم الذي: ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حکیم حمید))(12) يطرح بوضوح التميز الذي تقوم به حركة لتاريخ بمتغيراته وتنوع وقائعه واحداثه. والقرأن يقدم منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، والقران الكريم هو الحل الوحيد لحل والغاء التناقضات في الافكار المنحرفة التي اصيب بها الكثير. والقرأن الكريم فيه تبيان لكل شيء.

اما كتب التراث الاسلامي كما هو معروف فيها من الاختلاف والتناقض مايفوق بكثير من المشتركات والتوافقات.

بينما يؤكد لنا القرآن وبصريح الكلام: ((أفلا يتدبروا القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلاف كبيراً))(13). وليس هناك أبلغ من كلام الخالق جل وعلا الذي يجزم بعدم وجود الاختلاف في الأمور الدينية العقائدية كونها تنبع ن مصدر واحد هو الخالق عز وجل.

أي أن الخطاب الديني يجب أن يعتمد بالدرجة الأساس على القرآن الكريم في شحذ الخطاب بنصوصه الشريفة لانه كتاب الله تعالى ومرجع التشريع الإسلامي فضلاً عن حاکميته التي ستفرض الايمان بالله ورسوله.

والذي نتمناه ان یکون هكذا ولكن هذا لا يمثل الواقع كونه يصطدم بمشكله كبيرة ليست بغريبه عن المتابعين للخطاب الديني على مر التاريخ. وهي أن الناس

ص: 420

فهمت القرآن وطيلة القرون والعقود الماضية بطريقة كتب التراث الاسلامي.

وعلى مدى اكثر من الف سنه لم تستطع هذه الكتب ان توصل الاسلام الحقيقي الذي اراده القرآن، والسبب في ذلك أن الروايات التي ملأت بطون هذه الكتب كان توظيفها سياسياً قبل كل شيء، فأصبحت بمرور الزمن ونتيجة لتكرارها و تردیدها وكأنها امر واقع مسلم به.

أن الدور العظيم والواضح الذي سلكه امير المؤمنين عليه السلام في توجيه العامة من الناس الى الفكر الاسلامي الصحيح كان من خلال خطاب دیني يدعو الى اعمال العقل والفكر والتدبر في كتاب الله العزيز، وفي هذا الاطار قال (عليه السلام): ((سلوني قبل أن تفقدوني فو الذي خلق الحية وبرء النسمة لو سألتموني عن اية نزلت في ليل ام في نهار.... ناسخها ومنسوخها، محکمها ومتشابهها وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم..))(14).

وهذا النص يؤكد ان القرآن وتخصصه المعرفي هو الأولى والارجح في الشروع بعملية الاصلاح المجتمعي، ومن هذه النقطة فأن الخطاب الديني المعاصر يجب ان يكون متوافقاً مع متطلبات الحياة المعاصرة. اذ لم يزل القرآن هو المرجع الأول والمنهل الأساس في بناء مكونات الخطاب الديني، ويبقى الاصلاح والافساد مرهوناً بتلك المعرفة بكتاب الله تعالى وهو ماجعل هذا الخطاب يتفاوت في التأثير في المجتمعات التي يلقى فيها فضلاً عن الأفراد.

ان من سلبيات الخطاب الديني التقليدي هو الجمود على النص والحكم المسبق للفكرة المطروحة للنقاش وتعطيل العقل ومحاربة مبدأ الاختلاف والتنوع، وبهذا يكون العالم الاسلامي قد مني بحركة مناقضة لكل اصلاح وتجدید.

اما ضرورة التجديد في الخطاب الديني فتتمثل في تفعيل منهج الحوار، ولا

ص: 421

ضير في تضارب الاراء عند الحوار، طالما انه يتضمن الحث على تلاقح الأفكار، ويعمل على ازالة الاختلافات والوصول الى الفكر الصحيح، وفي هذا المقام يقول امير المؤمنين عليه السلام: (إضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب) (15)، وهذا يعني ان امير المؤمنين عليه السلام كان يحمل فكرا خطابيا ثاقبا منذ القرون الأولى، وذلك من خلال امتلاكه ادوات التفسير والتحليل العلمي.

ولكي يتسنى للمتحاورين الوصول إلى أرضية مشتركة عمادها الفكر الصائب، فانه يجب على المتحاورين ؉ من وجهة نظر الاسلام ؉ أن لا يبتعدوا في حوارهم عن المعايير العقلية والمنطقية، ويتحاوروا باسلوب علمي، ويستندوا الى ما تؤمن ضمائرهم بانه حق، ولا يخرجوا عن اطار البراهين العقلية، ولا يظنوا بان مجهولاتهم العلمية معلومة، واذا روعي هذا الجانب من الأدب فهو كفيل بانهاء جميع الاختلافات الناتجة عن خطا الفكر، وهذا المعنى تشير اليه حكمة الامام علي عليه السلام: (لو سكت الجاهل ما اختلف الناس)(16)

اما السنة النبوية التي تعد المصدر الثاني للتشريع بعد کتاب الله عز وجل، فهي مليئة بالكثير من الخطابات العقلانية التي تتوافق مع كتاب الله، وفي الوقت نفسه هناك الكثير من الخطابات والمرويات التي لايقبلها القرآن ولاتقبلها السنة الصحيحة، والسبب في ذلك أن هناك نسبة كبيرة ممن نقلوا لنا هذه الرويات متأثرين بثقافة السلطة على التاريخ فجاءت رواياتهم مشوشة وتصب في مصلح الحاكم، اضف الى ذلك أن الكثير مما كتب وسجل، اما کتب بعقلية غير ناضجة تنطلق من تعصبات مقيتة، او من هوى مذهبي رخيص، لا يلتزم بالمنطق السليم، ولايهتدي بهدي العقل، ولا يؤمن بالحوار والفكر كاسلوب افضل للتوضيح وللتصحيح.

ص: 422

أن كتب التراث الاسلامي ؉ للاسف الشديد ؉ تولد عند قارئها شعورا بالتناقض بين محتواها والنص القرآني من ناحية، وبينها وبين المنطق البدهي من ناحية أخرى، فالقرآن اعطي صورة نقية وواضحة لرسالة الاسلام ورفع من قيمة الدين الاسلامي، لكن كتب التراث مليئة بالتناقض والاختلافات.

لذلك برز فکر مدرسة اهل البيت عليهم السلام کمتصدي لحل هذا الاشكالات والتناقضات، فالامام الصادق عليه السلام كان اول من دعا إلى تصحيح المسار التشريعي والتاريخي بعرض هذه الروايات على القران للتاكد من صحتها، والزم تلاميذه ومريديه قبل غيرهم بان يعرضوا الروايات المنقولة عنه على القران والسنة الصحيحة حتى تكون مقبولة والا فلا يعتد بها في قوله عليه السلام: (اذا جاءكم الحديث عنا فاعرضوه على الكتاب والسنة فاذا خالفهما فاضربوه عرض الجدار) (17).

واستنادا لكل ما تقدم فان الحاجة الى تجديد الخطاب الديني بطريقة معاصرة بعيدة عن الاقصاء ورفض الاخر، وبعيدة عن لغة البغض والكراهية، اصبحت حاجة ملحة وضرورية، بل لابد منها، ولا يتم ذلك الا بالاعتماد على القرآن والصحيح من روایات اهل البيت عليهم السلام، والصحيح من الروايات في المؤلفات الاسلامية الأخرى.

ان اعتماد الخطاب الديني على روايات الكراهية والذبح وقطع الرؤوس هو الذي انتج لنا الدواعش وامثالهم، بينما كتاب الله عزوجل مليء بايات التسامح والمحبة والمودة بين الناس، فلماذا كل هذا الابتعاد عن طريق الصواب، هذه هي مسؤولية الخطباء والباحثين فهل من يتصدى؟

ولنأخذ امثلة من الروايات الصحيحة والتي تحث على تحريك العقل والفكر،

ص: 423

ومنها قول رسول الله (صلى الله عليه واله): (تفکر ساعة خير من قيام ليه (18)

وعن أمير المؤمنين عليه السلام عندما سأله رجل بعد انصرافه من الشام: هل أن خروجهم بقضاء وقدر؟ فقال الامام عليه السلام: (نعم ياشيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم واديا الأبقضاء من الله وقدره، قال الرجل: عند الله احتسب عنائي وما ارى لي من الاجر شيئا، عندها قال الامام علي عليه السلام: بلى فقد عظم الله الأجر في مسيركم وانتم ذاهبون وعلی منصرفكم وانتم منقلبون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين، فقال الرجل: وكيف لا نكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا؟ قال الامام عليه السلام: لعلك اردت قضاء لازما وقدرا حتما؟ لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والامر من الله والنهي وما كانت تاتي من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن، ثم قال: ان الله تعالى امر تخييرا ونهي تحذيرا وكلف يسيرا... ولم يطع مکرها ولم يرسل الرسل هزلا ولم ينزل القرآن عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا)(19).

درس ما أعظمه، وکلمات ما انورها وهي تفك قيد العقل وتحل اغلال التفكير من رواسب التقليد الأعمى، وتطلق العنان لعقل الانسان متاملا ومتدبرا. وتاتي متوافقة ومتطابقة لما يريده الله عز وجل في أن تستخدم نعمة العقل والفكر من خلال وصايا في كتابه العزيز.

ولم يكن فكر الامام الصادق عليه السلام بمعزل عن الدعوة إلى القضاء على الجمود الفكري واحداث الثورة الفكرية التي طالما تبتنها مدرسته العلمية الكبيرة، فقد ورد عنه عليه السلام قوله: (افضل العبادة ادمان التفكر في الله وفي قدرته)(20). ويفهم مهذا النص أن التفكير واعمال العقل ورفض الجمود الفكري والانغلاق يقع في اولويات الدين الاسلامي الى درجة اصبح فيها التفكر والتعقل

ص: 424

افضل العبادات.

ان الافكار المتوارثة عند بعض المذاهب الاسلامي آن الأوان لأن تصحح، لكي يغادر المسلم من خانة الانغلاق الفكري الذي اجبر عليه بفعل احکام وفتاوی مناقضة لكلام الخالق جل وعلا ومناقضة للواقع الذي يعيشه، والا مالذي يجبره إلى أن ينصاع لفكر اناس ماتوا منذ مئات السنين ولا زالوا يحكموننا من قبورهم، وكشاهد على هذا التزام ابناء بعض المذاهب الاسلامية بفتوى الإمام الأوزاعي عندما فال: (ان السنة قاضية على الكتاب، ولم يجيء الكتاب قاضيا على السنة)(21)، كيف يقال هذا لكتاب الله الذي فيه تبيان لكل شيء، وكيف يعمل المؤمن بهكذا قول ويوجه لان يعمل على ترك كتاب الله ليتجه الى اقوال البشر الخطائين، انها مفارقة عجيبة عملت من جانبها على صناعة الارهاب والتطرف

عندما انطلقت صناعة الحديث كفعل بشري، كان ضروريا وفق منطق الاجتماع الانساني الذي يؤسسه مبدأ التناقض ان تاتي مرویات اهل الحديث متناقضة إلى درجة يصعب الجمع بين حديث وآخر، مما شكل تحديا خطيرا لجماعة اهل الحديث، أن هذا التناقض الكبير بين رواية واخرى ينهض دليلا ضمنيا على انها من صنع البشر لا من عند الله. لان كلام الله ينفي التناقض في الأقوال جملة وتفصيلا لقوله تعالى: (أفلا يتدبروا القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (22) فكلام الله يرفض التناقض بصريح الاية، فايهما نصدق كلام الله أم كلام البشر؟

لقد انتج الخطاب الديني المتشدد والبعيد عن العقل نصوصا مخالفة للحكمة الالهية في خلق البشر، وكمثال على ما نقول: فان الانحراف بموقع الحوار الذي كان لاهل الكتاب في الاسلام القرآني الى موقع العداء الذي اسسوا فيه من الأحاديث به

ص: 425

التي وضعت على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونموذجها الاحادیث التالية: (لايموت رجل مسلم الا ادخل الله مكانه يهوديا او نصرانيًا) (23)، او: (قال رسول الله صلى الله عليه ؉ واله ؉: اذا كان يوم القيامة دفع الله عزوجل إلى كل مسلم يهوديا او نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار)(24)، وفي رواية أخرى: (عن النبي صلى الله عليه ؉واله ؉قال: يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب امثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى) (25).

ولابد من القول بعدم صحة هذه الروايات احتراما لقوله تعالى: (ولا تزروا وازرة وزر اخرى)(26)، واذا طلقنا عقولنا وقبلنا بها، فلماذا اليهود والنصارى، لماذا لاتوزع على المجوس والبوذيين وغيرهم من اصحاب الديانات الوضعية، فهل لايحاسب يوم القيامة الا نحن واليهود والنصارى؟ طبعا المسالة مسالة روايات لا اساس لها من الصحة، ووضعت لهدف واحد هو الاساءة لمنهج الله تعالى.

ونتيجة هذه الرغبة في السيطرة والهيمنة انطلقت الية صناعة الحديث بجنون ضد العقل المنطقي في اباحة للمسلم أن يتقبل جميع التناقضات بنوع من الانشطار في الشخصية، وبخنوع وخضوع للمشيئة البشرية.

ص: 426

المبحث الثاني: الخطاب الديني بين الجمود والحداثة

ثبت بما لا يقبل الشك ان التمسك بالاليات المطروحة غير مجدية في معظم الأحيان، ولن تجد لها من يتلقاها بالمقبولية والرضا في أحيان كثيرة ايضا. بعد ان اخفقت في وقف انتشار مظاهر التحلل والفساد والالحاد في هذا المجتمع بشكل عام، وبين شريحة الشباب بشكل خاص.

ويلاحظ أن كثيرا من الخطباء بقصور ادوات تناولهم، يفتقرون إلى التأثير الفاعل في الأوساط الاجتماعية للناس، والشباب بالذات، وبالتالي عجزهم عن تقديم اجابات مقنعة، او حلول موضوعية للاستفهامات المتزايدة للجيل الجديد من الشباب، ورد نقدهم لاساليب الحطيب وطريقته في الوعظ والارشاد، وتفنيد شعورهم بتيبس الموروث المعرفي الديني الذي اثبت في نظرهم عجزه عن التصدي للمناهج الفكرية المعاصرة.

ان الثقافة الاسلامية التي خلفها لنا الخطاب الديني التقليدي اوصلت للمتلقي فكرة ان الحياة غير ذات قيمة من خلال ایراد الروايات والأحاديث التي تقلل من قيمة الحياة وتعتبر التمسك بها نوع من المذمة، فركز الخطيب على احادیث الموت في سبيل الله، وتعليم الشباب كيف يموتوا في سبيل الله ولم يعلموهم في يوم من الايام كيف يحيوا في سبيل الله.

وكشاهد على ما نقول: يبتدئ الخطيب حديثه بتفسيره للحديث القدسي: (قال الله عز وجل... يا ملائكتي اخرجوا من النار كل عين بكت من خشية الله...)، ويقول: جمود العين ؉ اي عدم بکائها ؉ من قسوة القلب، وقسوة القلب

ص: 427

من كثرة الذنوب، وكثرة الذنوب من نسيان الموت، ونسيان الموت من طول الامل، وطول الأمل من شدة الحرص، وشدة الحرص من حب الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، والافتتان بها سبب كل مصيبة، وموجب للافلاس والخسارة في الدنيا والاخرة، وكم من الناس من جرهم حب الدنيا والافتتان بها الى ظلم الناس بالشتم والقذف وشهادة الزور...)، ثم يكمل روایته بحديث اخر ويقول مخاطبا بصوت عال: (أيها المسلمون ورد في الاحادیث ان كل خطيئة اصلها حب الدنيا) (27)، وفي الحديث: (ما من عمل بعد معرفة الله ورسوله أفضل من بغض الدنيا)(28).

هذه الكلمات تطالب وبلا مواربة وبصوت يبعث في المستمع احساسا بذنب ما، بالادبار عن الدنيا والسعي وراء البكاء، ثم يختم الخطيب توظيفه للحديث بالتاكيد على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وكأن حب الحياة شيء مذموم، واحتقار الحياة وازدرائها شيء حميد، وهذا ما يولد شعورا بالاحباط وعدم الثقة بالنفس التي هي اشد الامراض الاجتماعية واخبث الافات الروحية، ولا يتسلط هذا الداء على امة الا وساقها الى الفناء.

وحين يقدم الخطيب الديني هذه الثقافة الانهزامية المخيفة، فهل يبقى مجال للابداع والعمل والانتاج، وهل يستطع العقل المحدود بتفكيره من هذه الأجيال الشابة استيعاب مايطرح من فکر تشاؤمي الى حد يصل به المطاف كراهية الحياة؟ فتسد بوجهه ابواب الحياة عندما يحرم عليه أن يفكر حتی بطول الأمل.

وحين نلجأ إلى النصوص القرآنية نجد ان كل هذه الروايات مخالفة وبشكل واضح لا لبس فيه الى النص القرآني الذي يفرض على الفرد المسلم أن لا ينسی نصيبه من الدنيا لقوله تعالى: (وابتغ ما اتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) (29)

ص: 428

اما احادیث اهل البيت عليهم السلام بهذا الخصوص فهي موافقة للقران وتحث على حق الفرد المسلم في ان يستمتع بحياته التي وهبها الله له، ويقف في مقدمتها حديث امير المؤمنين عليه السلام: (اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا، واعمل لاخرتك كأنك تموت غدا) (30)، ومنها حديث الامام الصادق عليه السلام: (ان نعم العون على الاخرة الدنيا)(31)، وقال عليه السلام: (لا خير في من لايحب المال من حلال، یکف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه)(32)، ولا شك ان حب المال وحب الحصول عليه نابع من محبة الانسان للدنيا والعيش برخاء ونعيم، وفي الحديث: (ليس منا من ترك دنياه لاخرته) (33).

ان الصورة الغالبة للخطاب الديني المعاصر تحتاج الى النقد والى المراجعة الهادئة في غير مبالغة أو تهويل. وان من الخطأ التعميم في اصدار الأحكام، وان من الخطباء والمفتين من خلال خطاباتهم من ابتعدوا عن هذه المظاهر، فقدموا بذلك للاسلام وللتدين به صورة مشرقة موصولة بالاصول مستجيبة لحاجات الناس واعية بما طرأ على الدنيا من تغييرات.

وكثيرا ما توقف بعض العلماء والباحثين عن البوح بالحقيقة، او عن بعض المظاهر الدينية في الفكر الاسلامي، او في الشعائر والطقوس الدينية خشية تأليب من لا فهم لهم بهذه القضية او تلك، او ان من ورائهم سلطة دينية او سیاسية مستفيدة او منتفعة من الواقع.

واحيانا يتهم الناقد بميله الى فكر اخر وطائفة أخرى وتنكره لعقيدته وایمانه، او انه انحرف عنها وتزندق وارتد، وادل مثال على ذلك توقف بعض العلماء عن النقد او توجيه التهمة بالارهاب لبعض القتلة او المستخفين بالحرمات الانسانية، وايضا نقد بعض المظاهر العاشورائية.

ص: 429

واذا رجعنا إلى تعاليم الاسلام نجد انها لا تضيق ذرعا بالاختلاف، ولا تشمئز وتقف بوجه النقد، بل تكفل كل الحرية، ولكن ذلك نادر في تاريخ المسلمين، فالتاريخ أثبت ان معظم الذين باحوا بما في صدورهم مما اعتقدوه حقيقة علمية او فلسفية أو دينية نالوا من الاضطهاد بالتعذيب والحبس او القتل الشيء الكثير.

وهذا ما حدث للسيد محسن الأمين العاملي وللسيد ابي الحسن الأصفهاني والسيد فضل الله، حيث اتهموا بالزندقة، والمروق من الدين بسبب نقدهم لبعض السلوكيات الدينية ووصفوا هم واتباعهم بالامويين بينما المعارضون لهم او من سوقوا لهم التهم يصفون انفسهم بالعلويين، انها نكبة المقاييس.

المطلوب في النصوص الدينية ان تتناسب والتطورات المعرفية في كل الأزمنة، بمعنى انها لابد ان تكون قادرة على ركوب الأمواج المعرفية فتتناسب او قل لا تتناقض مع العلوم والمعارف البشرية في كل حقبة من الحقب.

ص: 430

المبحث الثالث: الاسباب والمعالجات

وتأسيسا لما تقدم يمكننا أن نشخص اسباب الانحراف في الخطاب الديني التقليدي بعدة عناصر:

أولا: يركز الخطاب التقليدي على الترهيب والتخويف واهمال الترغيب.

الذي يحصل في الخطاب الديني هو طغیان اسلوب الترهيب والتخويف على اسلوب الترغيب، والترغيب هو سنة كونية تتلائم مع الفطرة الإنسانية، واقوى الأدلة على ذلك ان كتاب الله العزيز يوازن بين الترهيب والترغيب والاعتدال بينهما، والمتامل في ايات القرآن يجد ان الله تعالى كثيرا ما يردد اية نعيم ويردفها باية عذاب، وكذلك يورد اية عذاب ثم يتلوها باية نعيم، كقوله تعالى: (فاما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فان الجحيم هي المأوى، واما من خاف مقام ربه ونهی النفس عن الهوى، فان الجنة هي المأوى)(34).

واسلوب الترغيب والترهيب واضح منذ اوائل السور القرانية، فقد ابتدأت سورة البقرة حديثها عن الكافرين واعمالهم ومصيرهم، ثم اتبعت ذلك بالحديث عن المنافقين واعمالهم، ثم تلت الحديث عن المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ان لهم جنات تجري من تحتها الأنهار)، ومنها قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ» (35)، وقوله عز وجل: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (36).

ان اسلوب الترغيب اسلوب قرآني بامتياز، اما اسلوب الترهيب فهو نتاج

ص: 431

الازمات النفسية التي يعاني منها المجتمع، ومنها الخطيب الذي نراه في معظم الحالات يجعل كل حدیثه ترهیبا او کله ترغیبا ؉ حسب توظيفه للفكرة التي يريد تسويقها للناس - ولا يتناوب بين الاثنين حتى لا يطغى جانب على جانب، فيفرط في التمني للثواب دون عمل، او يقنط من رحمة الله وعفوه.

فالخطاب الديني الاسلامي غالبا ما يعتمد على الفرد وعلى الارتجالية وسرد القصص التي تحدث مع الخطيب نفسه لدرجة انه يفي بعض الاحيان يتحول وكأنه يسرد قصة حياته ومعتقده وفكره وثقافته ويسقطها على الاخرين ليتعضوا منها، دون مراعاة لطبيعة وتركيبة المتلقين الجالسين، ومنها عدم معرفته بمستوياتهم الثقافية والبيئية، ولا يعتمد الخطيب ابدا على التخطيط او على الاستراتيجيات، ولذلك يقع في اشكال كبير.

والحق يجب أن يقال: أن من المهم للدعوة اليوم وللدعاة المتخصصين أن يبينوا للمدعوين أن الاسلام جاء للحياة، جاء لكي ينعم الناس بحياة افضل، وان الاسلام دين لم يأت للعزاء والمآتم فقط، وإنما جاء للحياة، وحث الشباب المتطلع للحياة والبقاء، وكلنا يكره الموت.

وكمثال على نجاح جانب الترغيب في دعم قوة الاسلام والمسلمين منذ عصر الرسالة، فقد نتج عن اسلوب الترغيب بالمال الذي استخدمه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، دخول بعض المشركين في الاسلام وتثبیت قلوب الاخرين عليه، ثم تحولهم جميعا جنودا مجاهدين تحت راية الاسلام، ونتج عن اسلوب الترهيب أن دخلته اعداد وافراد تحت سلطة الخوف فلم يؤمنوا به رغم استسلامهم واعلان اسلامهم، فقد دخلوه مكرهين فاصبحوا منافقين يكيدون بالاسلام واهله، وخير مثال على ذلك استسلام أبو سفيان حين قال له العباس بن عبد المطلب: (ويحك

ص: 432

ابا سفيان اسلم واشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله والا تضرب عنقك) (37) فاستسلم ولم يسلم.

وخلاصة القول: اننا لو نظرنا الى ايات الترغيب والترهيب في القران لوجدناها متلازمات، والحكمة من ذلك ان من لا يؤثر فيه الترغيب وثوابه يؤثر فيه الترهيب وعقابه، فالترغيب في الثواب يشجع على النشاط والعمل، بينما الترهيب من العقاب يردع عن التمادي في الغي والضلال، خاصة بعد بيان سوء عاقبة ذلك واثره.

ثانيا: من اساليب الخطاب الديني التقليدي: تمجيد التاريخ والتغني بالماضي وبالامجاد.

المعروف عن الشخصية العربية انها شخصية ماضوية تحب الماضي وتعشق الحنين اليه والتغني به، وللاسف سارت هذه العادة في الفكر الديني فاخترقت الخطاب الديني الاسلامي. فاصبح الفكر الاسلامي يعاني من مشكلة النزعة الماضوية التي تعيد انتاج مقولات الفقهاء الموتى فقهاء القرون الاولى. فبين الفينة والاخرى يخرج علينا فقهاء الدين بفتاوى تثير الاستغراب مثل رضاعة الكبير، وتحليل قتل المرتد وقتل تارك الصلاة، وما الى ذلك من فتاوى كل واحدة منها اغرب من الاخرى، والادهى من ذلك ان هذه الفتاوى رغم غرابتها تجد لها مناصرين كثر داخل مجتمعاتنا الاسلامية التي تعاني من الفصام الزمني.

هذه الفتاوى هي نتاج لماضوية مطلقيها الذين يعيشون في الحاضر بعقلية تعود لازمان خلت، الحاضر ملغى عندهم فكرا وفلسفة، حداثة وحضارة، فقهاء ومتدينون بر مجت عقولهم ببرامج ماضوية فاصبحوا يعيشون حالة شيزوفرانيا زمنية حادة، وكلما زاد ارتباطهم بالحرف والنص وبالشخصيات التراثية كلما

ص: 433

زادت حدة الفصام الزمني لديهم، انهم يعيشون الماضي، انهم اناس يعيشون خارج التاريخ، المسالة الاخطر هي انهم اناس يحلمون باستعادة الماضي على حالته في المستقبل، وحركة داعش خير مثال على ذلك، حين يصرحون بانهم يريدون اعادة امجاد الصحابة.

ان تمجيد التاريخ وراءه دوافع سياسية، وهذه الدوافع السياسية هي التي ادت بفقهاء السلاطين أن يزوروا الأحاديث والروايات ويشرعوا من خلالها احکاما فقهية لخدمة الحاكم، فاسسوا اسلاميا سياسيا على مقاس الحاكم لتبرير سياسته. وكمثال على مانقول نذكر بعض الأحاديث التي تدعوا لطاعة الحكام حتى ولو كان فاسقا. فقد نقلوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأحاديث الآتية:

؉ (تسمع وتطيع للامير، وان ضرب ظهرك، واخذ مالك، فاسمع واطع) (38)

؉ (من رأى من اميره شيئا يكرهه فليصبر فانه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية)(39)

؉ (اسمعوا واطیعوا فانما عليهم ماحملوا وعليكم ما حملتم)(40)

وهذه الأحاديث الموضوعة والموظفة توظيفا سياسيا لا علاقة للدين بها لا من قريب ولا من بعيد، هذه الاحادیث اتت ثمارها واكلها في القرون القادمة حين قال ابن تيمية مهاجما الحسين عليه السلام لخروجه على يزيد: (أنه لم يكن في خروجه مصلحة لا في دين ولا في دنيا، وكان في خروجه و قتله من الفساد مالم يحصل لو قعد في بلده فان ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار سببا لشر عظیم، وكان قتل الحسين مما اوجب الفتن...) (41)

ص: 434

هذا مثال لتمسك البعض بتمجيد التاريخ الذي ولد تمجید وتعظيم الحاكم ومن ثم ادی كل ذلك الى وضع وتزوير الاحاديث التي تحرم الوقوف بوجه الحاكم، فاصبح الخطاب الديني داعيا - سواء بقصد او من دون قصد ؉ إلى مناصرة ظلم الحكام، وضرب ثورة المسلم الذي يقف بوجه هذا الظلم حتى لا يتورع على تکرار رفض الظلم والقبول بما يفرضه الحاكم، مع اننا لو فتشنا كل ايات القران الكريم لم نجد اية واحدة تدعوا الى ظلم الناس، او تدعوا الناس الى قبول الظلم وعدم مواجهته.

وعندما نقول ان الاحاديث المارة الذكر غير صحيحة ومزورة، فان مما يدعم قولنا هو وجود العديد من الأحاديث المناقضة لها، ومنها قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله)(42).

وهذا الحديث يتناقض تماما مع ما ورد في الأحاديث السابقة، كونه يوصي وعلى لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالثورة ضد الحاكم الظالم الفاسق الذي تعدى حدود الله، وحکم بغیر ما انزل الله.

ص: 435

الخاتمة:

توصل البحث بعد ان اكتملت صورته الأخيرة الى جملة من النتائج والتوصيات يمكن اجمالها بالاتي: -

1. ضرورة تجديد الخطاب الديني بطريقة فكرية معاصرة تلائم التطور الحاصل بمختلف مجالات الحياة، فالثورة التكنولوجية والاعلامية القوية التي تغزو بيوتنا، جعلت منا ان نكون مقرين ومعترفين بما لهذه الثورة من تأثير فكري قد يغزو عقول مختلف الفئات العمرية؛ وهنا يجب مخاطبة الشياب بعقلية القرن الحالي لا بعقلية القرون القديمة بعد ان ثبت عدم نجاح الاخير.

2. ضرورة تحليل النصوص الدينية عن طريق العقل والمنطق وازالة اللبس الحاصل بين معارضة النصوص الدينية للواقع الحالي ومعارضتها كذلك في كتب الفقه.

3. ان فكر اهل البيت (عليهم السلام) نابع من كتاب الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبما ان الائمة عليهم السلام اوصونا بعرض الروايات على القرآن، فالاجدر بنا ان نعتمد على كتاب الله والابتعاد عما خلفته لنا كتب التراث الاسلامي التي تمجد الماضي والتغني به حتى لوكان على حساب الحقيقة.

4. من خلال البحث هناك اشارات للعلماء والخطباء والدعاة بضرورة اخذ دورهم الفكري في التفسير والابتعاد عن الجمود الذي ثبت عدم جدواه. وهذا الدور لايأتي بسهولة الا اذا كان هناك اصرار لبث الفكر الاسلامي المتنور والملائم لجميع العصور والامكنة.

ص: 436

5. الخطاب المعتدل: ضروري ومهم جداً لانتشال الواقع الاسلامي الحالي والمرير. والخطاب المعتدل هو الطريق الوحيد لمحو النظرة السلبية عن الاسلام. حيث فشل الخطاب التقليدي في ايصال الاسلام الصحيح. كما هو معروف.

6. نشر العلم والمعرفة الشرعية قبل الانفتاح الثقافي على الامم لتحقيق التحصين الفكري، ومعالجة الخطاب الديني المتطرف والرد عليه بأساليب فكرية وليس بالعنف.

7. ادخال الوسائل الحديثة في تقديم الخطاب الديني واصلاح مناهج التعليم.

والله ولي التوفيق

هوامش البحث:

1. الاعراف: 176؛ یس: 68؛ الحشر: 21.

2. صلاح الجابري، مشاريع نهوض ام مشاريع انتكاس، ص 33.

3. يونس: 99

4. الصدوق، عیون الاخبار، ج 2، ص 275.

5. المصدر نفسه، ج 2، ص 272

6. حماد بن زيد: احد الاعلام، اصله من سجستان، سبي حدها درهم منها، عاش فترة من حياته بالبصرة. ينظر: (الذهبي، سير الاعلام النبلاء، ج 7، ص 457).

7. ابن الجوزي، الموضوعات، ج 1، ص 38.

8. میزان الاعتدال، ج 2، ص 644.

9. عبد الكريم ابن ابی العوجاء، خال معن بن زائدة، زندیق معثر، قتله محمد بن سليمان العباسي الأمير بالبصرة. ينظر: (الذهبي، سیر اعلام النبلاء، ج 2، ص 644).

10. المجلسي، بحار الانوار، ج 55، ص 357.

11. البرقي، المحاسن، ج 1، ص 263.

12. فصلت: 42.

13. النساء: 82.

14. الصدوق، الامالي، ص 422.

ص: 437

15. الليثي الواسطي، عيون الحكم، ص 91.

16. الاربلی، کشف الغمة، ج 3، ص 141.

17. الكليني، الكافي، ج 1، ص 69.

18. البرقي، المحاسن، ج 1، ص 26.

19. الكليني، الكافي، ج 1، ص 155.

20. الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 15، ص 196.

21. ابن قتيبة، تأويل مختلف الحدیث، ص 186.

22. النساء: 82.

23. احمد بن حنبل، مسند احمد، ج 4، ص 398.

24. مسلم، صحیح مسلم، ج 8، ص 105.

25. المصدر نفسه والصفحة.

26. الاعراف: 164.

27. الكليني، الكافي، ج 2، ص 315.

28. التحفة السنية، السيد عبد الله الجزائري، ص 41.

29. القصص: 77.

30. الصدوق، من لایحضره الفقیه، ج 3، ص 156.

31. الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 13، ص 58.

32. الكليني، الكافي، ج 5 ص 72.

33. الصدوق من لا يحضره الفقیه، ج 3، ص 156.

34. النازعات: 37 - 41.

35. الزمر: 17.

36. النساء: 13.

37. الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 6، ص 166.

38. مسلم، صحیح مسلم، ج 6، ص 20.

39. الشوكاني، نبل الأمطار، ج 7، ص 356.

40. المصدر نفسه، ج 4، ص 220.

41. السيد علي الميلاني، دراسات في مناهج السنة، ص 357.

42. ابن الأثير، الكامل؛ ج 4، ص 48.

ص: 438

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

أولاً: المصادر الأولية

ابن الأثير، أبو الحسن عز الدين بن أبي الكرم بن محمد بن عبد الكريم الشيباني (ت 630 ه / 1232 م).

1 - الكامل في التاريخ، تحقيق: عبد الله القاضي، ط 3، (دار الكتب العلمية، بيروت، 1415 ه / 1994 م).

احمد بن حنبل (ت 241 ه / 854 م).

2 - مسند احمد، (دار صادر، بيروت، د. ت).

الاربلي، ابن ابي الفتح (ت 693 ه / 1293 م).

3 - كشف الغمة في معرفة احوال الائمة، ط 2، (دار الاضواء، بيروت، 1405 ه / 1985 م).

البرقي، احمد بن محمد بن خالد (ت 274 ه / 887 م).

4 - المحاسن، تحقيقق: جلال الدين الحسيني، (دار الكتب الاسلامية، طهران، 1370 ه / 1950 م).

ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597 ه / 1200 م)

5 - الموضوعات، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، ط 1، (المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1386 ه / 1966 م)

الحر العاملي، محمد بن الحسين بن علي بن محمد (ت 1104 ه / 1692 م)

6 - تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ط 2، (مؤسسة آل البيت (عليه

ص: 439

السلام) لإحياء التراث، مطبعة مهر، قم، 1414 ه / 1994 م).

الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 ه / 1347 م)

7 - سير أعلام النبلاء، تحقیق: خيري سعيد، (المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ت).

8 - میزان الاعتدال، تحقيق: علي محمد البجاوي، ط 1، (دار المعرفة للطباعة والنشر، بیروت، 1382 ه / 1963 م).

عبداللة الجزائري (ت 1180 ه / 1786 م).

9 - التحفة السنية (مخطوط)، تحقيق: شرح الجزائري، مخطوط (میکروفیلم مكتبة أستانة قدس).

الشوكاني، محمد بن علي بن محمد (ت 5 125 ه / 1840 م)

10 - نیل الاوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، (دار الجيل، بیروت، 1393 ه / 1973 م).

الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه / 991 م)

11 - عیون اخبار الرضا (عليه السلام)، تحقيق: حسين الأعلمي، مطابع مؤسسة الأعلمي، بیروت، 1404 ه / 1984 م.

12 - من لا يحضره الفقیه، ط 1، (الأميرة للطباعة، بيروت، 1429 ه / 2008 م).

ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 ه / 889 م)

13 - تأويل مختلف الحديث، (دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت).

الكليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الرازي (ت 329 ه /941 م)

14 - الكافي - الأصول والفروع والروضة، ط 1، (دار المرتضی، بیروت، 1426 ه / 2005 م).

الليثي الواسطي، ابو الحسن علي بن محمد (ق 6 ه).

ص: 440

15 - عيون الحكم والمواعظ، تحقيق: حسين الحسيني البيرجندي، ط 1، (دار الحديث، قم، د.ت).

المجلسي، محمد باقر (ت 1111 ه / 1700 م)

16 - بحار الأنوار لدرر الأئمة الأطهار، ط 2، (مؤسسة الوفاء، بیروت، 1403 ه / 1983 م).

مسلم، أبو الحسن بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه / 874 م)

17 - صحیح مسلم، ط 1، (دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 ه / 2000 م).

الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر (ت 807 ه / 1308 م)

18 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، (دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 ه / 1988 م).

ثانياً المراجع الحديثة

السيد علي الميلاني.

19 - دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيمية، مدخل شرح منهاج الكرامة، ط 1، (یاران، قم، 1419 ه / 1999 م).

صلاح الجابري

20 - مشاريع نهوض أم مشاريع انتكاس، مجلة فضاءات، العدد 17، 2005، ليبيا.

ص: 441

ص: 442

المحتويات

المحور الإداري والاقتصادي

الفساد الإداري... الوقاية والعلاج حكومة الإمام علي (عليه السلام) أُنموذجاً الاستاذ المساعد الدكتور عبد الزهرة جاسم الخفاجي الكلية الإسلامية الجامعة - النجف الأشرف

المقدمة...11

مدخل...14

تعريف الفساد...14

السنة النبوية تذم الفساد:...16

الفساد الإداري:...17

المبحث الأول...21

اختيار (الموظفين) الولاة والعمال:...21

تعريف الاختيار...21

معايير اختيار الولاة:...29

علاقة الإمام علي (عليه السلام) مع ولاته:...34

ص: 443

ولاة الإمام علي (عليه السلام):...36

1 - عثمان بن حُنَيف...37

2 - عبيد الله بن عباس...39

3 - قیس بن سعد:...40

4 - مالك الأشتر:...42

5 - سهل بن حنیف...47

6 - حذيفة بن اليمان:...48

المبحث الثاني...49

الرقابة...49

تعريف الرقابة...49

الرقابة الرئاسية (الرقابة الخارجية)...58

الرقابة الشعبية...67

الخاتمة...71

تكافؤُ فرصِ العملِ بينَ الذكرِ والأنثى وأثرُهُ في زيادةِ البطالةِ نظرةٌ فاحِصَةٌ في فكر الإمام علي (عليه السلام) والواقعِ الاجتماعيّ المعاصر

الدكتور عبد الهادي كاظم کریم

كليَّة التربية الأساسيَّة - جامعة تلعفر

المُقدِّمة...91

المبحث الأول: التشريع الإسلاميّ وموجبات خلق فرص العمل والبحثُ عنها...94

المبحث الثالني...103

ص: 444

الجانب التطبيقيّ...103

خلاصة البحث...104

أولًا: فكرة البحث ومضمونهُ:...104

ثانيًا: أهداف البحث:...104

ثالثًا: توصيات البحث:...105

المصادر والمراجع...113

مدخل إلى المعالجات الاستراتيجية التي اتبعها الإمام علي (عليه السلام)

في معالجته لمشكلة الفقر

فاطمة مصحب لفته

جامعة واسط / كلية الادارة والاقتصاد

المقدمة...119

مشكلة البحث...119

أهمية البحث...119

فرضية البحث...120

أهداف البحث...120

منهجية البحث...120

هيكلية البحث...120

المبحث الأول...122

مفهوم الفقر...122

المبحث الثاني...124

ص: 445

أسباب الفقر...124

1 - ملكية الدولة...124

القاعدة الأولى...124

القاعدة الثانية...125

2 - نهب المال العام...125

3 - الفساد...126

4 - الربا...127

5 - انعدام المساواة...129

6 - إعطاء الأولوية للضرائب على حساب الأعمار والتنمية...130

7 - المقامرة...131

8 - الاحتكار...132

9 - تلوث البيئة...133

10 - التسليح...133

11 - كثرة الموظفين...134

المبحث الثالث...136

معالجات الفقر عند الإمام علي (عليه السلام)...136

أولا: امتلاك الناس لكل الثروات ...136

ثانيا / الضمان الاجتماعي...137

ثالثا / التكافل الاجتماعي...139

رابعا / الحرية من المقومات الأساسية لنهوض المجتمعات...140

ص: 446

خامسا / المساواة...141

سادسا / تحديد الضرائب...141

سابعا / تقليص ساعات العمل...142

ثامنا / التنظيم والتخطيط...143

تاسعا / مبدأ المساءلة والمحاسبة...144

عاشرا / منع الربا والاحتكار والمقامرة والاكتناز والإسراف والتبذير وكل العوامل الأخرى المساهمة في نشوء الفقر...144

الاستنتاجات والتوصيات...145

أولا: الاستنتاجات...145

ثانيا: التوصيات...146

المصادر والمراجع...153

أولا / الكتب...153

ثانيا / البحوث والرسائل...155

ثالثا / التقارير والمؤتمرات...156

رابعا / المصادر الانكليزية...156

دور الدولة في التخفيف من الفقر في العراق في ضوء سياسة الامام علي (علیه السلام) م.م حسين علي الكرعاوي كلية الإمام الكاظم (علیه السلام) فرع النجف م.د سلطان جاسم النصراوي كلية الإدارة والاقتصاد - کربلاء

المقدمة:...159

المبحث الأول: الإطار النظري لدور الدولة في مواجهة الفقر: تحليل مقارن للانظمة

ص: 447

الوضعية والنظام الاسلامي...162

المبحث الثاني: واقع الفقر في العراق...176

اولاً: نظرة تاريخية على الفقر في العراق...176

ثانياً: حال الفقر في العراق بعد 2003...179

المبحث الثالث: سبل مواجهة الفقر في ضوء فلسفة الأمام علي (عليه السلام)...188

أولاً: الدولة والفقر في منهج وفلسفة الأمام علي (علیه السلام)...189

ثانياً: فلسفة الإمام علي (عليه السلام) في محاربة الفقر: الدروس المستفادة...194

1. محاربة الفقر من خلال التعليم...194

2. الضمان الاجتماعي:...195

3. رعاية ذوي الحاجات الخاصة:...196

4. الرقابة على السوق: الحد من اثر التضخم...197

5. تنظيم الأسرة:...198

6. الفساد والاستئثار بالامتيازات:...198

7. الحقوق الاجتماعية: للفقراء حق في اموال الاغنياء...199

8. التوازن بين الريف والحضر:...199

9. بنك الفقراء: تجربة بنك جرامين...200

الاستنتاجات والتوصيات...202

أولاً: الاستنتاجات...202

ثانيا: التوصيات...204

ص: 448

الإمام علي (عليه السلام) بيان الدولة الإنسان وإنسانية الدولة الباحث محسن وهيب عبد

مقدمة...213

الفصل الأول: تمهيد...215

1. طبيعة السياسة في التاريخ البشري ک(شر لابد منه)...215

2. اطروحة تطابق العدل مع السياسة...217

3. متى يتطابق العدل مع السياسة؟...218

4. خصائص دولة الانسان وميزات انسانية الدولة:...219

5. ماهية العدل وكيفية قيام الناس به:...220

6. المترفون في تاريخ السياسة البشرية رأس حربة ضد العدل ودولة الانسان:...222

7. السياسة هي جدل الظواهر الثلاث في التاريخ البشري:...223

8. المستلبون مساعدو المترفين على انفسهم في التصدي للمعصوم:...223

الاستلاب بالفوقية في قصص الانبياء:...224

النفعية:...225

الفصل الثاني: النموذج الكوني لدولة الانسان والانسانية...229

1. هل هناك اطروحة سياسية اسلامية لدولة العدل والانسانية؟...229

2. التثقيف المشروع سياسي کوني لدولة العدل:...230

3 - التعريف بنظام الملة...231

4 - التيتيف باهية المنهج المعصوم كمشروع سياسي اسلامي لدولة العدل:...232

5 - على مر التاريخ البشري لم نجد بيانا لدولة الانسان او انسانية الدولة الا من خلال

ص: 449

الامام علي عليه السلام:...233

6 - لا تتحقق انسانية الدولة الا في نظام الملة (طاعة المعصوم):...234

7 - اذن الاطروحة الأهم في تاريخ البشر وحاضرهم ومستقبلهم مهملة...236

8 - واقع جدل الظواهر الثلاث يغلب تحذيرات الرسالة...239

الفصل الثالث: بيانات الامام علي (علیه السلام) لبناء دولة الانسان وإنسانية الدولة...242

البيان الاول:- المستثنون من المناصب السياسية في دولة الانسان...242

البيان الثاني:- امران مطلوبان من السياسي المسؤول لبناء دولة الانسان...244

البيان الثالث:- حقوق السياسي على الناس من اعظم الفروض...244

البيان الرابع -- اطراء الحاكم قبيح...246

البيان الخامس: والتزلف للمسؤول خرق لمعنى انسانية الدولة...246

البيان السادس: السياسة هي قضاء حوائج الناس...247

ترجمة بغض الظلم وعداوة الظالمين عند الامام في مشروعه السياسي الاسلامي...252

الفصل الرابع: الاسس الاخلاقية للمشروع السياسي الإلهي العلوي المبارك لدولة الانسان...254

1. استخدام الادوات الانسانية وسيلة للعدل في السياسة...256

2. حركة بناء دولة الانسان عند الامام علي عليه السلام طابعها الاخلاق...257

3. نماذج من انسانية المشروع السياسي الاسلامي المعصوم...261

المصادر والمراجع...277

ص: 450

محور القضایا المعاصرة

أسس التنمية البشرية في المنظور الاسلامي فكر الإمام علي (علیه السلام) انموذجا

م. مناف مرزة نعمة أ. م. د. نزار كاظم صباح

كلية الادارة والاقتصاد - جامعة القادسية

المقدمة:...289

مشكلة الدراسة:...289

فرضية الدراسة:...289

اهداف الدراسة:...290

هيكلية الدراسة:...290

المبحث الاول: التنمية البشرية الاطار النظري والمفاهيمي...291

اولا: الجذور التاريخية لمفهوم التنمية البشرية:...291

ثانيا: مؤشرات التنمية البشرية...292

ثالثا: التنمية البشرية وحقوق الانسان:...296

المبحث الثاني: التأصيل النظري لأسس التنمية البشرية في المنهج الإسلامي:...298

اولا - مؤشر التعليم والتعلم في المنظور الاسلامي:...298

ثانيا: مؤشر الصحة في المنهج الاسلامي:...302

ثالثا: مؤشر عدالة توزيع الدخول في الشريعة الاسلامية:...304

رابعا:دور الشريعة الاسلامية في المحافظة على حقوق الانسان:...307

ص: 451

المبحث الثالث: مؤشرات واسس التنمية البشرية في فكر الامام (عليه السلام)...310

اولا - السياسة المالية ومؤشر عدالة توزيع الدخل:...310

اولا: انفاق المال خارج حدود العائلة...314

ثانيا :مؤشر حق التعليم والتعلم في فكر الامام عليه السلام:...314

ثالثا: تجسيد حقوق الانسان في فكر الامام علي (عليه السلام):...316

الاستنتاجات والتوصيات:...318

التوصيات...318

المصادر والمراجع...322

الحوار الحضاري في فكر الامام علي (علیه السلام)

الأستاذ المساعد الدكتورة عامرة تمكين نعمة الياسري

جامعة الكوفة / كلية التربية الأساسية

المقدمة...327

توطئة:...329

الإمام علي (عليه السلام) والنهج الإسلامي:...332

نهج الامام علي (عليه السلام) في الحوار الحضاري:...337

فالناكثون (اصحاب الجمل)...341

اما القاسطون (أهل صفين)...342

اما المارقون (الخوارج)...343

المصادر والمراجع...350

ص: 452

الخطاب الديني ونفور الشباب منه وآليات بناء الثقة

في ضوء فكر الإمام علي (عليه السلام)

الباحث محمد قاسم عبد الحميد الحبوبي

المقدمة...355

أولاً: أهمية البحث...356

ثانياً: أهداف البحث...357

ثالثاً: منهج ونطاق البحث...357

رابعاً: خطة البحث...358

المطلب الأول: مفهوم التحديات...359

الفرع الأول: تعريف التحديات...359

أولاً: المعنى اللغوي...359

ثانياً: المعنى الاصطلاحي...359

الفرع الثاني: أسباب التحديات...360

أولاً: أسباب ذاتية...360

ثانياً: أسباب اجتماعية...360

ثالثاً: أسباب اقتصادية...361

رابعاً: أسباب سياسية...361

خامساً: أسباب علمية...362

سادساً: أسباب عدائية...362

سابعاً: أسباب افتراضية...363

ص: 453

الفرع الثالث: أقسام التحديات...363

أولاً: التقسيم من حيث السبب...364

ثانياً: التقسيم من حيث الانتماء العقدي...364

ثالثاً: التقسيم من حيث عموم أركان المنبر...364

رابعاً: التقسيم من حيث خصوص أحد أركان المنبر...365

المطلب الثاني: تحديات الخطاب الشكلية...366

الفرع الأول: ضعف اللغة...366

الفرع الثاني: تشوش العرض...367

الفرع الثالث: التكرار...367

الفرع الرابع: التعميم...368

الفرع الخامس: القطع...368

الفرع السادس: المزاجية...369

المطلب الثالث: التحديات الموضوعية...370

الفرع الأول: فكرة الموضوع...370

الفرع الثاني: هدف الموضوع...371

الفرع الثالث: اشكالية المصدر...371

الفرع الرابع: تغييب المخاطب...372

الفرع الخامس: ضبابية الثابت والمتغير...372

الفرع السادس: سذاجة الربط الواقعي...373

المطلب الرابع: آليات بناء الثقة من فكر الإمام علي عليه السلام...375

ص: 454

الفرع الأول: الاعتصام بالله...375

الفرع الثاني: إكبار الشأن...375

الفرع الثالث: الاعتزاز بالنفس...376

الفرع الرابع: تناسي الهموم...376

الفرع الخامس: أخذ الأهبة...377

الفرع السادس: مبادرة البر والخير...377

الخاتمة...378

المصدار والمراجع...381

بناء الإنسان وتنمية الموارد البشرية في فكر الإمام علي (عليه السلام)

الأستاذ المساعد الدكتور خميس غربي حسين

جامعة تكريت / كلية الآداب

المبحث الأول: التنمية وبناء الإنسان في المنظور الإسلامي...390

المبحث الثاني: بناء شخصية الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام)...396

المبحث الثالث: تطوير المجتمع في فكر الإمام علي (عليه السلام)...401

الخاتمة...407

المصادر والمراجع...411

فكر الإمام علي (عليه السلام) في تجديد الخطاب الديني

المدرس الدكتور جمعة ثجيل الحمداني

ذي قار / كلية الآداب

المقدمة...415

ص: 455

المبحث الاول: دور القرآن في الخطاب الديني: عند الامام علي (علیه السلام) وتجديده...420

المبحث الثاني: الخطاب الديني بين الجمود والحداثة...427

المبحث الثالث: الاسباب والمعالجات...431

الخاتمة:...436

المصادر والمراجع...439

ص: 456

المجلد 3

هوية الکتاب

نهج الإمام علي علیه السلام في بناء الإنسان وانسانیة الدولة اعمال المؤتمر العلم الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3664 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: أعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3664 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: أعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الإسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احادیث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الأخلاق الإسلامية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق تاریخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (2) المؤتمر العلمي الثاني منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة أعمال المؤتمر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة الجزء الثالث للمدة 13 - 14 / ربيع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 2017/12/3 م اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1440 ه - 2019 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org الإيميل:

Info@lnahj.org

ص: 4

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» صَدَقَ اللهُ العَلِي العَظِيم مریم: 55

ص: 5

ص: 6

المحور التربوي والأخلاقي

ص: 7

ص: 8

أثر القيم الأخلاقية في بناء النفس البشرية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع في ضوء سيرة الإمام علي (علیه السلام) الباحث احمد محمد جواد الحكيم

اشارة

ص: 9

ص: 10

مقدمة

إن البحث في طبيعة النفس البشرية ومن ثم الوصول إلى فهم أفضل لمسلك الإنسان وتصرفاته في المجتمع، من خلال مؤثرات القيم الأخلاقية، هي من أعقد ما واجهته مجموعة العلماء والمفكرين والمصلحين والقادة على مر العصور، الذين كانت غاياتهم، هي الضبط الأخلاقي لميول هذا الإنسان والسيطرة على أهوائه وأنانيته من جشع وعدوانية وقساوة، وظلم وتهالك نحو السلطة والزعامة، وجمع الثروة، والجري وراء المناصب والرغبات، التي يحاول تحقيقها بوسائل منافية لمبادئ الدين والأخلاق والقواعد الاجتماعية الحميدة. وقد حاول قسم من هذه المجموعة إصلاح ذلك بإجراءات نظرية فحسب، من خلال الوعظ والإرشاد المجرد، دون أن يكون له أي موقع عملي مؤثر في المجتمع. بينما في المقابل هناك من انطلق في جهده بالجمع بين الناحيتين النظرية والعملية.

ومن هؤلاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي كان عالماً، حکیماً، فقيهاً، من ناحية. ومن ناحية أخرى هو الحاكم والخليفة للمسلمين. لذلك جاءت سيرته وخطبه ووصاياه ورسائله، في خضم معاركه وكفاحه الصلب في سبيل تثبیت قیم الحق والعدل والمساواة. أضف إلى ذلك نضاله الشديد ضد مختلف أنواع الشر الأخلاقي وضد السلوك المنحرف عن مستلزمات الأخلاق الإسلامية. لهذا نجده، من خلال سيرته، يقوم بتحليل دقيق ووصف عميق لطبيعة النفس البشرية وسبر أغوارها وخفاياها. غير أن الذي أكسب مضامین سيرة الإمام، أهمية بالغة، كونها نابعة من معاناته ومن خبرته عند تعامله مع أصناف متعددة من الناس، بخاصة مناوئيه، فضلا عن تعقيدات المشكلات التي واجهته.

وعلى أساس هذه السيرة، سنتناول في هذا البحث أثر القيم الأخلاقية في

ص: 11

بناء النفس البشرية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع، من خلال أربعة محاور هي: المراد من القيم الأخلاقية، وسلوك الإنسان وتصرفاته، ثم وسائل بناء النفس البشرية وانعكاسات القيم الأخلاقية على الإنسان في المجتمع، ومفارقات في الأخلاق والسلوك.

يتضمن المحور الأول، معنى القيم الأخلاقية، وما المقصود بسلوك الإنسان وتصرفاته، ومن ثم بيان العلاقة بينهما. فالقيم الأخلاقية هي باختصار صفات إنسانية مجردة، تقوم بدور أدلة لسلوك الناس في كافة ميادين الحياة المختلفة. كما أن القيم الأخلاقية الإيجابية، التي سنركز عليها، تشمل العديد من الأسس، مثل العدل، والحق، والصدق، والفضيلة، والنزاهة، والأمانة للواجب، والمساواة والرحمة، والتعاون، والتواضع، والتقوى، والعفو، والإحسان، والخير، والنصيحة، والوفاء، والتعاطف.

وبدور هذه القيم ومقاصدها، تتشكل ثوابت ومبادئ ترتكز عليها الأخلاق الاجتماعية، التي تتحقق من خلال تصرفات الناس وأفعالهم، أي سلوكهم الاجتماعي. هذا السلوك يخرج في أحيان كثيرة ، بصورة بارزة عن الخط السوي، عن الإستقامة، عند ذاك يكون ذا طبيعة سلبية وآفة من آفات المجتمع المؤلمة. أما المحور الثاني، فيتضمن وسائل عملية لبناء النفس البشرية، اعتماداً على الفضائل الأخلاقية. من هذه الوسائل: تأثير قوة المثال، ووحدة القول والفعل، والقدرة على تشخيص مواطن الضعف وعلى تصنيف النفس البشرية، والإستقامة وما تتضمنه من نبذ المحاباة والمداهنة والمصانعة والنفاق، والمحاسبة الذاتية الصارمة، والموازين الدقيقة في التعامل مع الآخرين، وأهمية اتباع قادة الحق، والعمل الجماعي والابتعاد عن الإنعزالية، ووحدة المصالح الاجتماعية والشخصية. أما

ص: 12

المحور الثالث، فيبحث انعكاسات القيم الأخلاقية على المجتمع، ويتضمن: اعتماد نهج سياسي قائم على الفضيلة وليس على المكر والغدر والخداع، وتطبيق الأحكام الإلهية دون استثناء، والمساواة في المعاملات، والتشديد على مبدأ الحوار والنصيحة أولا مع المناوئين قبل الانتقال إلى القتال، ومتابعة الولاة في تطبيق القيم الأخلاقية، والتعاطف والرحمة مع الفئات الضعيفة والمظلومة، ونقد للمواقف الحيادية بين الحق والباطل، ومعايير دقيقة للحق والباطل. أما المحور الأخير، فهو عن المفارقات والتناقضات في السلوك والأخلاق، وازدواجية السلوك والتصرفات، وتغير المقاييس والأحكام.

أولاً: المراد من القيم والأخلاق والسلوك الإنساني

إن القيم والأخلاق والسلوك، هي مفاهيم مترابطة، متداخلة، من ناحية المعنى والممارسة العملية، التي تؤثر فيها تأثيراً كبيراً الحاجات والمصالح السائدة في المجتمع. والقيم، قد ذكرنا معناها في المقدمة، تعتبر مبادئ أولية، معناها في الفلسفة: ظاهرة مادية أو روحية، تلبي متطلبات معينة للإنسان أو المجتمع، وتخدم مصالحه وأهدافه (1). وتشمل صنفين أحدهما إيجابي وآخر سلبي. فالإيجابي مثل الخير والحق والعدل. والسلبي كالغدر والمكر ونقض العهد. وتتيح هذه القيم للإنسان أن يتصرف ويتعامل مع غيره في الحياة اليومية بالنحو الذي يراه ويعتقده، وتتمثل في طبيعة نفسه البشرية.

أما الأخلاق، فهي جمع كلمة الخُلُق، وهي السجية والطبع وصورة الإنسان الباطنية، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة به، حسنة كانت أو قبيحة (2). وفي علم الفلسفة، فإن الأخلاق أو الآداب، هي مجموعة أصول وأحکام و قواعد سلوك الناس في المجتمع. وهي تعكس تصورات الناس عن العدل والظلم والخير

ص: 13

والشر والكرامة والخيانة إلخ (3). وللأخلاق تأثير مباشر على مختلف ميادين الحياة، من السياسة والاقتصاد وغيرها. ويترافق مع مفهوم «الأخلاق» كلمتان مشتقتان منه و تشیعان في الإستعمال اليومي هما «الأخلاقي»، و «غير الأخلاقي» أو أحيانا «اللاأخلاقي». فالأخلاقي هو: ما يتفق وقواعد الأخلاق أو قواعد السلوك المقررة في المجتمع. وعكسه اللاأخلاقي (4). إن المعضلة الأساسية في مفهوم الأخلاق، ترتبط بفرز التناقض بين المتطلبات الأخلاقية العامة للمجتمع، وبين سلوك الإنسان الفعلي.

والسلوك الإنساني، یعني سيرة الإنسان، اتجاهه، تفكيره، ومجمل تصرفاته وأفعاله الذي يتجه بها إلى وجهة معينة، معبرة عن شتی جوانب طبعه الأخلاقي. ومن المعروف أن صفات الإنسان وتصرفاته الأخلافية، ليست جميعها بالقضايا التي تولد معه، إنما هي أشياء يكتسبها من محيطه بمرور الزمن، بخاصة في المراحل الأولى من حياته. وينحصر سلوك الإنسان من جانبين أساسين. أحدهما جانب الخير والفضيلة. والآخر جانب الشر والرذيلة. الذي يهمنا هنا، هو البحث عن محركات السلوك، بمعنی ما الذي يدفع الإنسان أو الجماعة إلى تبنّي سلوك معين، والإلتزام بقيم أخلاقية معينة ومتطلباتها. فقد أشار بعض علماء النفس، أن القيمة الهادفة هي المهمة في توجيه السلوك، أي ما يتوقعه الإنسان من نتيجة هو الذي يقرر نوعية سلوكه، وهناك من اعتقد أن أن «إزالة التوتر» و «إشباع الحاجة» المحرك الأهم في تثبيت السلوك وتعزيزه (5).

ومهما يكن من أمر فإننا نجد في نهج البلاغة، من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام، دلالات سبقت علماء النفس تشير إلى أن الرغبة والشهوة، والتعلق الشديد بنعم الحياة، واتباع هوى النفس المذموم، والطمع، جميعها تعد من المحركات

ص: 14

الأساسية للإنسان، وهي طاقات نفسية حيوية عامة، تجعل الإنسان يميل إلى ما يحب ويشتهي ويحرص عليه ويطمع فيه، سواء كان محموداً أو مذموماً. وقد شبه عليه السلام، الإنسان، عندما تتملكه الرغبة في الدنيا، كأنه الأسير المقيد بالسلاسل، فيقول: «یَا أَسْرَی اَلرَّغْبَهِ أَقْصِرُوا فَإِنَّ اَلْمُعَرِّجَ عَلَی اَلدُّنْیَا لاَ یَرُوعُهُ مِنْهَا إِلاَّ صَرِیفُ أَنْیَابِ اَلْحِدْثَانِ». المعرج: المائل إليها أو المعول عليها أو المقيم بها. ويروعه: يفزعه. والصريف: صوت الأسنان عند الإصطكاك. والحِدثان - بالكسر- النوائب (6). اقصروا: قللوا.

ويتداخل مع معنى «الرغبة»، مفهوم آخر هو «الشهوة»، وهي الرغبة الشديدة، التي تتمناها النفس وتنزع إليها. إذ يقول الإمام: «وَ مَا مِنْ مَعْصِیَةِ اللَّهِ شَیْءٌ إِلاَّ یَأْتِی فِی شَهْوَةٍ». لهذا فهو يدعو بالخير والنعمة لمن ينزع من نفسه الشهوة والهوى فيقول: «فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَی نَفْسِهِ» (8).

وهناك مصطلح آخر، يأتي بذات معنى الرغبة الشديدة، والشهوة، وهو «اللذة»، أي نقيض الألم، وملاءمة الشيء للشهوة والرغبة (9). وفي علم النفس إنها لاتعني المتعة الحسية - المادية فقط، بل الشعور الذاتي بالرضا والإسترخاء والسعادة (10). لهذا يحذر أمير المؤمنين أن تكون اللذة هي أفضل شيء في دنيا المرء، فيقول: «فَلا يَكُنْ أَفْضَلُ مَا نِلْتَ فِى نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغَ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءَ غَيْظٍ وَ لَكِنْ إِطْفَاءَ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءَ حَقٍّ» (11). ويقول أيضا: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالاً وَ إِدْبَاراً، فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا، فَإِنَّ اَلْقَلْبَ إِذَا أُکْرِهَ عَمِیَ» (12).

كذلك يتداخل مفهوم «الطمع» مع ما ذكرناه من مصطلحات، ويعني أيضاً الرغبة في الشيء واشتهاؤه (13). لذلك يحذر عليه السلام من التمسك الشديد بالطمع، وما يؤدي من نتائج مهلكة، فيقول: «وَ إِيّاكَ أَن تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطّمَعِ

ص: 15

فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الهَلَكَةِ». توجف: تسرع، والمناهل: من ترده الإبل ونحوها (14). کما يؤكد الإمام ذلك بقوله: «أَکْثَرُ مَصَارِعِ اَلْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ اَلْأَطْمَاعِ» (15).

والنفس البشرية إنما تتجه نحو هذا السلوك المنحرف الذي يتمثل بالطمع، واللذة والرغبة والشهوة، للحصول على المكاسب الدنيوية، نتيجة عوامل عديدة منها، أن الإنسان لا يمكنه الصمود أمام المغريات، من مال وسلطة وزعامة، لذلك فهو يستسلم أمامها، نتيجة ضعف إيمانه، وضعف إلتزامه بالقيم النبيلة، فهو إذن يبحث عن «الإستمتاع»، مكافحاً من أجل هذه المغريات، جاعلا من مصالحه الخاصة فوق كل اعتبار، غير مبالي بمصير الناس من حوله، وبهذه الحالة يصبح عبدا لشهواته ويعيش من أجل الاقتناء، الأمر الذي يجعله لا يلتزم بقيمه ومبادئه الروحية والأخلاقية.

ويبين لنا عليه السلام، أن الإنسان عندما تصبح الدنيا وملذاتها هي الهدف، والغاية الأساسية الأولى عنده، فإنه سيفضلها على اتباع أوامر الله وأحكام الدين الحنيف، ويصبح بهذه الحالة عبدا لهذه الحياة، فيقول: «مَنْ عَظُمَتِ اَلدُّنْیَا فِی عَیْنِهِ وَ کَبُرَ مَوْقِعُهَا فِی قَلْبِهِ وَ آثَرَهَا عَلَی اَللَّهِ وَ اِنْقَطَعَ إِلَیْهَا صَارَ عَبْداً لَهَا» (16). وبهذه الحالة يصبح عقل الإنسان، عبدا لعواطفه ومشاعره. وقد أشار أمير المؤمنين بشكل رائع إلى ثلاث قضايا رئيسية من نعم الحياة، يسعى كثير من الناس نحوها ويهلكون أنفسهم ودينهم في سبيل الحصول عليها وهي: الثروة والسلطة والزعامة، فيقول عن أحد الناس: «قَد أَشرَطَ نَفسَهُ وَ أَوبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنتَهِزُهُ أَو مِقنَبٍ يَقُودُهُ أَو مِنبَرٍ يَفرَعُهُ» (17). و أشرط نفسه: أي هيأها وأعدها للشر والفساد في الأرض أو للعقوبة وسوء العاقبة. أوبق دینه: أهلكه. والحطام: المال. ينتهزه: يغتنمه أو يختلسه. والمقنب: جماعة من الناس أو غيرهم. ومقنب يقوده، إشارة

ص: 16

للسلطة التي يتكالب عليها الكثير من الناس، بسبب أهميتها ومتعتها. وفرع المنبر: طاله وعلاه. وقد استخدم عليه السلام، جملة «منبر يفرعه»، أي يصعد المنبر ويخطب في الناس، كناية على الرفعة وزعامة الناس وأمرتهم.

ويبين الإمام کیف تتغير أخلاق الإنسان إلى الشر والرذيلة، عندما يختار هذا الإنسان الدنيا على الآخرة، فيقول: «کَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَی فَاسِقِهِمْ وَقَدْ صَحِبَ الْمُنْکَرَ فَأَلِفَهُ وَبَسِئَ بِهِ وَوَافَقَهُ حَتَّی شَابَتْ عَلَیْهِ مَفَارِقُهُ وَصُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً کَالتَّیَّارِ لَایُبَالِی مَا غَرَّقَ أَوْ کَوَقْعِ النَّارِ فِی الْهَشِیمِ لَایَحْفِلُ مَاحَرَّقَ».

بسيء به: استأنس به. المفرق: من الرأس حيث يفرق الشعر. وصبغت به أخلاقه: صار عادة له وسجية. مزبدا كالتيار: هو كالماء عنفوان جریانه وفيضانه. والهشيم: اليابس من كل شيء.

يبين عليه السلام هنا، كيف أن المنكر أصبح ملازما للفاسق، معتادا عليه، ومستأنسا به، طوال حياته، وقد أصبح هذا المنكر جزءا لا يتجزأ من أخلاقه، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أصبح هذا الفاسق لا يكترث ولا يهتم بما يحصل للأخرين نتيجة فجوره ومعاصيه وتركه أوامر الله، وتجاوزه على حدود الشرع.

ثم يتسائل بألم عن مكان أولئك الذين يسيرون على طريق الهدى والتقوى وطاعة الله، فيجيب أنهم يتدافعون على متاع الدنيا ويتنازعون على الأشياء المحرمة، فيقول: «أَیْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِیحِ الْهُدَی وَالْأَبْصَارُ الْلَّامِحَةُ إِلَی مَنَارِ التَّقْوَی أَیْنَ الْقُلُوبُ الَّتِی وُهِبَتْ لِلّهِ وَعُوقِدَتْ عَلَی طَاعَهِ اللّهِ ازْدَحَمُوا عَلَی الْحُطَامِ وَتَشَاحُّوا عَلَی الْحَرَامِ» (19). ازدحموا: تدافعوا. الحطام: متاع الدنيا. تشاحوا:تنازعوا.

ص: 17

ثانيا: وسائل عملية لبناء النفس البشرية

إن وسائل بناء النفس البشرية تدخل في ميدان التربية الأخلاقية، التي تتمثل في مستويين. أولهما ذاتي، وهو فهم واستيعاب القيم الأخلاقية من جانب الفرد، من حيث امكانية ممارستها بصورة واعية. والمستوى الثاني، هو متطلبات المجتمع الخارجية من سلوك الفرد، وتفاعله مع محيطه. سنبين قسا من هذه الوسائل العملية.

1. قوة المثال الشخصي

يتسم المثال الذي يضربه الشخص في المجتمع، بخاصة إذا كان في موقع المسؤولية، ببالغ الأهمية في التربية الأخلاقية، ذلك من خلال أفعاله وتصرفاته وسيرة حياته. ومعنى المثال، هو شيء يقاس عليه ويتخذ نموذجا (20). ويسمى هذا الشيء أيضا المثل الأعلى، وهو الشخص الذي يهتدي به الأخرين. ونحن نقصد هنا المثل الأعلى الأخلاقي الإيجابي، الذي ينشأ نتيجة تعميم كل ما هو خير وفضيلة وحق وعدل. لذلك نجد الإمام علي عليه السلام قد ضرب لنا مثلا صارخا في الالتزام بمبادئ الدين الحنيف، حين طبقها على نفسه أولا، ثم على الآخرين. ومن هنا تبرز، وحدة القول والفعل عند الإمام، وليس الوعظ النظري فحسب، وهناك أمثلة عديدة عملية على ذلك. إذ يقول الإمام في هذا المجال: «إِنِّي وَاللهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا» (21).

وتعد عملية الإهتداء والإقتداء بالمثل الأعلى الأخلاقي أحد الأساليب التي تدفع الإنسان إلى الإلتزام بالقيم النبيلة وإصلاح نفسه كي يقترب من سمات المثل الأعلى. ولكن لماذا المثال يمتلك قوة للتأثير في سلوك الآخرين؟ يُرجع علماء

ص: 18

الاجتماع ذلك إلى أربعة عوامل:

1- لأن المثال مرئي. فهو لا يؤثر في الذهن وحسب، بل يؤثر كذلك قبل كل شيء، في الميدان الانفعالي الحسي.

2- المثال مُعِد، فهو يشكل علامة الهدف، ويجتذب، ويوقظ الهمة ويستحثها.

3- في المثال ترد القيم الأخلاقية في وحدة تمازج مع الفعل المادي الملموس.

4- ينطوي المثل ويقدم البرهان على وحدة القول والفعل، ويخلق جو الثقة والصدق اللذين لا يمكن بدونهما عموما أن يقوم التأثير الأخلاقي، وبالتالي التربية الأخلاقية (22).

لابد من التأكيد هنا، أن فعل أي شخص يكون أكثر أثرا في نفوس الآخرين من أقواله، وهو ما نلاحظه عند اللذين يتاجرون بالمجردات، مثل العدالة والحق، دون أن يطبقوها في الواقع العملي، أو يعملوا بعكسها تماما، فهم لا أثر فعلي لديهم لذلك نجد الإمام قد حذر من هذه الحالة بقوله: «لاَ تَکُنْ مِمَّنْ یَرْجُو اَلْآخِرَةَ بِغَیْرِ عَمَلٍ وَ یُسَوِّفُ اَلتَّوْبَةَ بِطُولِ اَلْأَمَلِ یَقُولُ فِی اَلدُّنْیَا بِقَوْلِ اَلزَّاهِدِینَ وَ یَعْمَلُ فِیهَا بِعَمَلِ اَلرَّاغِبِینَ» (23).

كما أن هذه الصفة كانت عند المتخاذلين من أنصاره، لذلك فقد ذمهم بقوله: «کَلامُکُمْ یُوهِی الصُّمُّ الصِّلاَبَ وَ فِعْلُکُمْ یُطْمِعُ فِیکُمُ الاْءعْداءَ». ثم يتعجب بقوله: أقولاً بِغَيرٍ عَمَلٍ» (25).

2. تحليل وتصنيف مواطن الضعف الأخلاقي

قدّم أمير المؤمنين علي عليه السلام، وصفاً دقيقا، وتحليلا عميقا، لمواطن الضعف الأخلاقي وانحطاطه، ولرغبات الإنسان المنحرفة التي تقوده لتحقيق

ص: 19

أمانيه وغاياته، سواء عند مناوئيه أو أنصاره. فضلا عن ذلك، فقد صنّف هؤلاء المنحرفين إلى مجموعات حسب سلوكها وتصرفاته.

(أ) وصف للخصائص السلبية للنفس البشرية

لقد وصف الإمام النفس البشرية، وصفاً، رائعا، حيث قام بترتيب خصائص النفس بصيغة ثنائيات، كل ثنائية تتكون من حدين. الأول يمثل صفة معينة للنفس البشرية، والحد الثاني يبين طريقة تصرف الإنسان حين يتمتع بهذه الصفة، التي تكون سلبية، عادة، عند كثير من البشر. سنذكر قسما مما أشار له الإمام وهو يبين ما يحصل للإنسان في هذه الحالات:

«فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ»، أي إذا حصل على ما يريد، أهانه الطمع في المزيد. «وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ»، وإن تحرك وفار به الطمع أماته الجشع، وهو شدة إرادة الشيء بشدة. «وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرِّضَا نَسِيَ التَّحَفُّظَ»، وإن سارت أحواله على نهج ما يحب ويرغب، غفل عن التحرز والتوقي والتيقظ من المضرات. «وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ»، وإن حصل على ما يريد وذهب عنه الخوف والوجل وصار آمنا على نفسه وماله، استهوته الغفلة واستولت عليه وذهبت به عن رشده (25).

(ب) تصنيف النفس البشرية

هناك تصنیفات عديدة للنفس البشرية المنحرفة، ذكرها عليه السلام، في مناسبات عديدة، نستطيع استخلاصها، لكنها قد تكون متداخلة فيما بينها وهي:

- المجموعة التي لايمكن الثقة بها في حمل مبادىء الدين.

بين الإمام أن هناك أربعة أصناف من الناس الذين لا يلتزمون بمبادئ

ص: 20

الدين وليسوا من رعاته، ولا يمكن الثقة بهم، بقوله: «مُستَعمِلًا آلَةَ الدّينِ لِلدّنيَا وَ مُستَظهِراً بِنِعَمِ اللّهِ عَلَي عِبَادِهِ وَ بِحُجَجِهِ عَلَي أَولِيَائِهِ أَو مُنقَاداً لِحَمَلَةِ الحَقّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحنَائِهِ يَنقَدِحُ الشّكّ فِي قَلبِهِ لِأَوّلِ عَارِضٍ مِن شُبهَةٍ أَلَا لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ أَو مَنهُوماً بِاللّذّةِ سَلِسَ القِيَادِ لِلشّهوَةِ أَو مُغرَماً بِالجَمعِ وَ الِادّخَارِ لَيسَا مِن رُعَاةِ الدّينِ فِي شَيءٍ» (26). أحنائه:جمع حنو، أطراف الشيء ونواحيه. ينقدح: يخرج بقوة. أما الأصناف الأربعة فهي: الأول، يستعمل وسائل الدين لطلب الدنيا، ويستعين بنعم الله تعالى على إيذاء عباده. والثاني، يتبع أهل الحق لكن لا بصيرة له بمعرفة الحق وخفاياه. الثالث، مولع بطلب ملذات الدنيا، وسهل الانقياد للشهوة. والرابع، مغرم بجمع المال وادخاره.

- مجموعة الساعين لطلب السلطة

يعد تصنيف الإمام، للساعين نحو السلطة والحكم بأي وسيلة، من أهم القضايا التي تشغل الناس، فقد حددهم في أربعة أصناف بقوله: «والنَّاسُ عَلى أَربَعَة أصنَافٍ مِنهُم مَن لا یَمنَعُة الفَسادَ في الأَرضِ إلا مَهانَةُ نَفسَه وَكَلالَةُ حَدَه ونَضَيضُ وَفِرِه وَمِنهُم المُصلِتُ لِسَيفه وَالمُعلِنُ بشَره وَالمُجلِبُ بخیلَه ورَجِله ومِنهُم مَن يَطلُبُ الدُّنيَا بِعَمَل الاخِرَة وَأتَّخَذ سَّر الله ذَريعَةً إلَى المَعصِيَة ومِنهُم مَن أَبعَدَه عَن طَلَب المُلكَ ضُئُولَة نَفسِه وانقِطاعُ سَببَه».

کلالة حده: أي ضعف سلاحه عن القطع في أعدائه. ونضيض وفرة: قلة ماله. الضؤولة: الضعف (27). بمعنى أن الأول، لا يستطيع الوصول إلى السلطة بسبب قلة أنصاره وماله وضعف سلاحه. والثاني يستعمل القوة لتحقيق غاياته. والثالث يستخدم الدين ستارا له لطلب الحكم، أي يستخدم المكر والخداع والحيلة. والرابع ضعف حاله وانقطاع مؤيديه.

ص: 21

- مجموعة الشر والضلالة

لقد بين لنا أمير المؤمنين، أن مجموعة الشر والضلالة، تتألف من ثلاثة أصناف: أبغض الخلائق، وشر الناس، والتي ينبغي محاربتها ومقاتلتها. أما مجموعة أبغض الخلائق إلى الله، فهي مجموعة الضلالة والفتنة والتغرير، وتضم فئتين، كما يقول الإمام: «إنَّ أَبْغَضَ اَلْخَلاَئِقِ إِلَی اَللَّهِ رَجُلاَنِ رَجُلٌ وَکَلَهُ اَللَّهُ إِلَی نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِیلِ مَشْغُوفٌ بِکَلاَمِ بِدْعَةٍ وَ دُعَاءِ ضَلاَلَةٍ... وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ». وكله الله إلى نفسه: كناية عن ذهابه خلف هواه فيما يعتقد، لا يرجع إلى حقيقة من الدين ولا يهتدي بدليل من الكتاب. قمش جهلا: جمعه. موضع في جهال الأمة: مسرع فيهم بالغش والتغرير. عاد: مسرع. أغباش الليل: بقایا ظلمته، أي أنه ينتهز افتتان الناس بجهلهم وعماهم في فتنتهم فيعدو إلى غايته من التصور فيهم والسيادة عليهم مما يظنه الجهلة علا وليس به (28).

باختصار إن أحد الفئتين، هي التي تسير خلف هواها فيما تعتقد، وعن قصد، والأخرى تدعي العلم والمعرفة، غرضها التحكم بالناس والسيادة عليهم. وأما مجموعة شر الناس، وتضم هذه المجموعة، شر الناس عند الله، وهم الظلمة كالحاكم الظالم أو الإمام الجائر، الذي يخلط الحق بالباطل، ويغيّر الأحكام حسب هواه، لذا وصفه أمير المؤمنين بقوله: «وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً» (29). كما أن المجموعة التي ينبغي مقاتلتها، تضم فئتين أيضاً، كما يقول الإمام: «وَإِنَّی أُقَاتِلُ رَجُلَیْنِ رَجُلاً ادَّعَی مَا لَیْسَ لَهُ وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِی عَلَیْهِ» (30). أي أن هناك فئة تدعي ما ليس لها وتحاول الحصول عليه بشتى الطرق والوسائل . وفئة تمنع الذي عليها من واجبات.

ص: 22

3. الإستقامة في المعاملات

يرشدنا أمير المؤمنين علي عليه السلام، في مبدئيته الصارمة والتزامه التام بالأحكام الإلهية، إلى أحد وسائل بناء النفس البشرية، وهي الإستقامة في المعاملات التي تتصل اتصالا مباشرا مع عامة الناس. إذ تتجلى هذه السياسة برفض جميع أنواع المساومات غير الأخلاقية، وما تتضمنه من مداراة ومحاباة ومداهنة ومصانعة، التي تؤدي إلى التساهل أو الإبتعاد عن تطبيق حدود الله في العدل والمساواة. لأن جميع هذه المسالك تستلزم بطريقة أو أخرى الكذب والغش والخداع والغدر ونقض العهد.

وقد برزت هذه المسالك أكثر في موضعين رئيسيين هما طريقة توزيع الأموال على المسلمين، وعملية اختيار ولاة الأقاليم وعمالها. ففي الموضع الأول، سار الإمام في سياسته العامة على مبدأ تقسيم الأموال بين المسلمين جميعا بالتساوي، بما فيه هو، وأهله وذوي القربی، رافضا المحاباة والمداراة لكبار القوم وغيرهم، اللذين ألفوا حياة التساهل في تطبيق حدود الله، لذلك لم يسهل عليهم مساواتهم بمن هم دونهم، فناصبوا العداء للإمام وحاربوه. على هذا الأساس فإن الإمام يقسم بالله أنه لن يصيب أي من متاع الدنيا بغير حق، بقوله: «وَاللهِ لاَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الاَغْلاَلِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْء مِنَ الْحُطَامِ» (31) .الحسك: الشوك. السعدان: نبات بري له شوك. سهد: أرق ولم ينم بالليل. مصفدا: مقيدا. الحطام: متاع الدنيا.

أما الموضع الثاني الذي تدخل فيه المحاباة والمساومة وغيرها، هو عملية اختیار ولاة الأقاليم وعمالها. لذلك نجد أن الإمام يؤكد ويوصي أن يكون

ص: 23

الاختيار سليما معتمدا على الأخلاص والكفاءة والخبرة، كما يوصي واليه مالك الأشتر فیقول: «ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِیَانَةِ وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ» (32). أثرة:

أي فضله على غيره.

وتدخل في المعاملات، أيضا وسائل المصانعة والمداهنة، التي تعني سلوك الإنسان المتلون، المنافق، ظاهره خلاف باطنه. لذلك ينهى الإمام، عن المداهنة فيقول: «وَلَا تُدَاهِنُوا فیَهجُمَ بکُمُ الإدهَانُ عَلَی المَعصِیَةِ» (33). يهجم بكم: يدخل بکم بسرعة. كذلك ينهى الإمام، أنصاره، عن مخالطتة بالمصانعة، فيقول: «وَلَا تُخَالِطُونِيِ بِالمُصَانَعَةِ» (34).

4. محاسبة دقيقة من النفس ومن الآخرين

من الوسائل المؤثرة في بناء النفوس وتهذيبها، التي أشار لها أمير المؤمنين، هي محاسبة الإنسان لنفسه، وتقبّل محاسبة الآخرين له، من أجل كشف أخطاء النفس وانحرافاتها وتذليلها، كي يسير الإنسان على طريق الخير والفضيلة، مبتعدا عن الرذيلة والخطأ. وقد بين لنا الإمام منافع المحاسبة الذاتية، كما أرسى لها أسسا تقوم عليها، نذكر منها: أولا، أن منافع المحاسبة الذاتية، هي بالتأكيد للإنسان نفسه، ومن ثم تنعكس على المجتمع بأسره. إذ سيكون هو الرابح، لأنه سيسلك طريق الإستقامة، وبعكسها سيكون هو الخاسر، كما يقول أمير المؤمنين: «مَن حَاسَبَ نَفسَهُ رَبِحَ، وَمَن غَفَلَ عَنهَا خَسِرَ» (35).

ثانيا، يحذر الإمام تحذيرا شديدا اللذين لا يقومون بمحاسبة أنفسهم، أنه سيأتي اليوم الذي سيحاسبه الآخرون على ما اقترفه من موبقات وانحرافات، عند ذلك لا يبقى أي مجال للتغيير أو التصحيح، فيقول: «عِبادَ اللّهِ زِنُوا أَنْفُسَکُمْ

ص: 24

مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا وحَاسِبُوها مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا» (36). ثالثا، يؤكد الإمام أن الذي لا يستطيع أن يزجر نفسه ويبعدها عن الأخطاء والإنحرافات، لا يمكنه قبول مواعظ الآخرين ونهيهم له، فيقول: «وَ اعلَمُوا أَنّهُ مَن لَم يُعَن عَلَي نَفسِهِ حَتّي يَكُونَ لَهُ مِنهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ لَم يَكُن لَهُ مِن غَيرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ» (37).

كانت هذه المحاسبة الذاتية للإنسان من نفسه، لكن هناك محاسبة أخرى، تأتي من الآخرين، مهما كان هذا الإنسان، لذلك فإن الإمام وهو الحاكم للمسلمين يطلب من أنصاره، أن لا يترددوا في قولهم الحق والعدل، کما جاء من کلام له: «وَلاتَظُنُّوا بى اسْتِثْقالاً فى حَقٍّ قيلَ لى... فَلاتَكُفُّوا عَنْ مَقالَة بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل» (38). يرشدنا عليه السلام هنا إلى أمر هام في توجيه النقد أو المشورة بين الحاكم والرعية، وهو أنه ليس لديه حرج في الإستماع إلى ما يقوله أنصاره، من حق أو عدل أو مشورة، من ناحية. ومن ناحية أخرى أوصاهم أن لا يتركوا قول الحق والعدل والمشورة.

كما أن المحاسبة وهي الرقابة الواعية للسلوك تهدف إلى التمكن من رؤية الإنحراف عند الفرد، وتسمى أيضا التقييم، بمعنى إثبات تطابق أو تباین التصرف أو الفعل مع معايير الأخلاق الاجتماعية. لكن هذه العملية لا تجري بيسر وسهولة دائماً، إنما تواجه صعوبات وتناقضات. فالإنسان قد يحاسب أفعال الآخرين بموجب مقياس مبالغ فيه، مثلا بمقياس المثل الأعلى، بينما يحاسب أفعاله بمقياس منخفض، ناظرا بتساهل و تسامح إلى نواقصه وعيوبه وجوانب ضعفه الأخلاقي. وفي هذه الحال تنشأ محاسبة غير صحيحة، فقد تنشأ لدى الفرد صفات الغرور وعدم تحمل المحاسبة، الأمر الذي يؤدي إلى الصراعات والتوتر بين الفرد والمجموعات الأخرى.

ص: 25

5. موازين دقيقة في تعامل الإنسان مع الآخرين

القدسار الإمام، وفقاً لقواعد أساسية، تنظم علاقة الإنسان مع الآخرين، نابعة من السيرة المحمدية، التي تحدد واجب هذا الإنسان تجاه الآخرين، وتوازن کفتي الحقوق والواجبات، القائمة على أساس أن كل ما يرغب به الإنسان لنفسه، ينبغي أن يكون للآخرين مثله، وكل ما لا يرغب به، ينبغي أن يبعده عن الآخرين، ويعامل الناس كما يجب أن يعاملونه به. فضلا عن ذلك، يبين لنا الإمام کیف يتصرف الإنسان عند قوته، وعند ضعفه، وكيف ينظر لعيوبه وعيوب الآخرين.

أولاً، توازن كفتي الواجب تجاه النفس واتجاه الآخرين.

إن المبادئ التي كان ينادي بها عليه السلام، هي إنسانية في جوهرها تنطلق من فكرة المساواة بين جميع الناس. وكما أن لكل إنسان الحق في السعادة، فإن الآخرين لهم الحق ذاته، وما لا يريده لنفسه ينبغي أن لا يفعله للغير. ففي وصيتة لولده الحسن يقول: «يَا بنُيَ ّ اجعَل نَفسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَينَكَ وَ بَينَ غَيرِكَ فَأَحبِب لِغَيرِكَ مَا تُحِبّ لِنَفسِكَ وَ اكرَه لَهُ مَا تَكرَهُ لَهَا وَ لَا تَظلِم كَمَا لَا تُحِبّ أَن تُظلَمَ وَ أَحسِن كَمَا تُحِبّ أَن يُحسَنَ إِلَيكَ وَ استَقبِح مِن نَفسِكَ مَا تَستَقبِحُهُ مِن غَيرِكَ وَ ارضَ مِنَ النّاسِ بِمَا تَرضَاهُ لَهُم مِن نَفسِكَ» (39). وفي القصار من كلماته يقول، بالمعنى ذاته: «كَفَاكَ أَدَباً لِنَفسِكَ اجتِنَابُ مَا تَكرَهُهُ مِن غَيرِكَ» (40). كما يحذر الإمام أيضا، الإنسان من الأعمال التي يحبها لنفسه ولكنها غير مرغوبة عند الآخرين کما جاء في كتابه إلى الحارث الهمداني بقوله: «واحْذَرْ کلّ عَمَل یَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ، ویُکرِهُهُ لِعَامَّهِ الْمُسْلِمِینَ» (41). إن هذه العلاقات الإنسانية بين الفرد والآخرين التي ذكرها الإمام تعتبر «قواعد ذهبية» في الأخلاق حسب علماء الاجتماع، ولها صيغ متماثلة، في مختلف أنحاء العالم، منذ قبل الميلاد. فمثلا الحكيم الصيني القديم كونفوشيوس

ص: 26

يقول: «ما لا تريده لنفسك لا تفعله للغير». والحكيم الإغريقي طاليس يقول: «لنمتنع عن فعل ما نعيبه في الآخرين» (42). كذلك الحديث المروي عن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله، هو: «لاَ یَؤُمِنُ أَحَدُکُمْ حَتَّی یُحِبَّ لِأَخِیهِ مَا یُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، عن أنس بن مالك (43). المشكلة هنا في تطبيق هذه المبادئ، لأن العلاقات أصبحت في كثير من الأحيان، لا إنسانية، وكل يفكر بمصلحته، دون أن ينظر إلى مصالح الآخرين، أو لايهتم بهم.

ثانيا: تصرف الإنسان عند قوته وعند ضعفه.

يضع لنا أمير المؤمنين منهجاً رائعاً، عن تصرفات الإنسان وسلوكه عندما يصبح قوياً، سواء من ناحية ثروته أو مكانته أو منزلته، ومدى التزامه بالقيم والأخلاق وطاعته للأوامر الإلهية. وبمقابل ذلك يبين ما هو المطلوب من الإنسان أمام الله عندما يكون ضعيفاً، فيقول: «وَإِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَإِذَا ضَعُفْتَ فاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ» (44). لكن ما نلاحظه، في زمننا الحالي، هو العكس تماما فالكثير من الناس، حينما يكون واسع القدرة، ينسى الواجبات الإلهية، وآخرون تهبط نفوسهم، في حالة ضعفهم وحاجتهم للمال والناس، فيرتكبون المعاصي والإنحرافات. والأمر المؤسف حقا، أن نجد من أنعم الله عليه بالكثير، يستغل هذه النعم في ارتكاب المعاصي، لذا يحذر الإمام من هذه التصرفات بقوله: «أَقَلُّ مَا یَلْزَمُکُمْ لِلَّهِ أَلاَّ تَسْتَعِینُوا بِنِعَمِهِ عَلَی مَعَاصِیهِ» (45). لأن أكثر ما يكون الإنسان في غفلة عن نعم الله، حين يكون مغمورا بتلك النعم، والمحزن أنه لا يعرف فضل النعم إلا بعد زوالها.

ثالثاً: نظرة متساوية لعيوب الإنسان وعيوب الآخرين.

من أسوأ الطبائع والأخلاق هي أن يوجه الإنسان الاتهامات إلى الآخرين

ص: 27

بعيوب،هو يشكو مثلها. لذلك يقول أمير المؤمنين: «أَکْبَرُ اَلْعَیْبِ أَنْ تَعِیبَ مَا فِیكَ مِثْلُهُ» (46). أي أن يرى الإنسان سيئات غيره وينتقدها، لكنه يفعل ما يأباه على الآخرين، ويبيح لنفسه ما يحرمه عليهم. كما يصف الإنسان الذي يقوم بذلك بالأحمق أي قليل العقل، بقوله: «وَمَنْ نَظَرَ فِی عُیُوبِ النَّاسِ فَأَنْکَرَهَا ثُمَّ رَضِیَهَا لِنَفْسِهِ فَذلِكَ آلْأَحْمَقُ بِعَیْنِهِ» (47). لهذا يمدح عليه السلام، الإنسان الذي يفتش عن عيوبه، عوضاً عن الإنشغال في التفتيش عن عيوب الآخرين فحسب، فيقول: «طُوبَی لِمَنْ شَغَلَهُ عَیْبُهُ عَنْ عُیُوبِ اَلنَّاسِ» (48).

6. اتباع قادة الحق

من القضايا التي تساعد في بناء النفس البشرية، هي اتباع قادة الحق والصالحين من المؤمنين، بخاصة إذا كانوا في مواقع قيادية ذات مسؤولية كبيرة. غير أن هذا الاتباع والطاعة، ينبغي أن يكون على درجة من الوعي والمعرفة. فمخالفة هؤلاء القادة هو الذي يؤدي إلى نتائج وخيمة وتعطيل تطبيق أحكام الشريعة والدين في المجتمع. وهذا ما حدث زمن أمير المؤمنين عليه السلام، الذي يمكن أن نرجعه إلى ثلاثة عوامل متداخلة:

أولاً: نقص الوعي والمعرفة بأحكام الدين.

يعد الجهل بأحكام الدين الحنيف، هو العامل الأساسي في نشوء الإنحرافات ومخالفة قادة الحق والعدل. وقد قسم الإمام الناس في زمانه إلى ثلاثة أقسام، منهم هؤلاء الذين ذكرناهم فيقول: «النّاسُ ثَلاثَةٌ: فَعالِمٌ رَبّانِیٌّ، ومُتَعَلِّمٌ عَلی سَبیلِ نَجاةٍ، وهَمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ کُلِّ ناعِقٍ، یَمیلونَ مَعَ کُلِّ ریحٍ، لَم یَستَضیئوا بِنورِ العِلمِ، ولَم یَلجَؤوا إلی رُکنٍ وَثیقٍ» (49).

ص: 28

ثانياً: طاعة كبار القوم بغير حق.

لا يتبع كثير من عامة الناس، قادة الحق والعدل، إنما تذهب طاعتهم إلى غيرهم من كبار القوم وشخصيات يحترمونها ويرتبطون بها بعلاقات مختلفة، فهم بهذه الحالة ينقادون بها دون وعي ودون تفحص وبصيرة، لذلك نجد الإمام يحذر الناس من طاعة ساداتهم وكبراءهم، غير الملتزمين بالحق ومبادئ الدين الحنيف، فيقول: «أَلاَ فَالْحَذَرَ اَلْحَذَرَ مِنْ طَاعَهِ سَادَاتِکُمْ وَ کُبَرَائِکُمْ! اَلَّذِینَ تَکَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَ أَلْقَوُا اَلْهَجِینَةَ عَلَی رَبِّهِمْ، وَ جَاحَدُوا اَللَّهَ عَلَی مَا صَنَعَ بِهِمْ، مُکَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَ مُغَالَبَةً لِآلاَئِهِ، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ اَلْعَصَبِیَّةِ، وَ دَعَائِمُ أَرْکَانِ اَلْفِتْنَةِ، وَ سُیُوفُ اِعْتِزَاءِ اَلْجَاهِلِیَّةِ». الهجينة: الفعلة القبيحة (50)، لآلائه: لنعمه.

ثالثاً: اختلاف الغايات والمقاصد.

كانت أهداف الإمام هي في إصلاح المجتمع وتطبيق حدود الله بالعدل والحق، بينما كانت غايات قسم من أنصاره، هي مصالح شخصية، لهذا يقول: «وَلَیْسَ أَمْرِی وَأَمْرُکُمْ وَاحِداً، إِنِّی أُرِیدُکُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لاِنْفُسِکُمْ» (51). كذلك يقول: «أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ» (52).

7. العمل الجماعي والابتعاد عن الانعزالية

من القضايا التي تؤثر في سلوك النفس البشرية، هي تلك القائمة على وحدة المصالح العامة والشخصية، بمعنى أن يكون الفرد للجميع، والجميع للفرد (53). وهذا يحتم الابتعاد عن الانعزالية والفردية، التي تجعل كل فرد، ذاتاً، منعزلة لا يفكر إلا في مصلحة نفسه، دون أن يعير الآخرين أي اهتمام، الأمر الذي يؤدي إلى تفكك الروابط بين النسيج الاجتماعي. وقد وصف الإمام هذه الحالة الأنانية، الانعزالية، خير وصف حين شبه الناس الغافلين بالإبل أو الغنم المعدة للذبح

ص: 29

لا تعرف ما يراد بها، بقوله: «کَأَنَّکُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَی مَرْعیً وَبِیٍّ، وَمَشْرَبٍ دَوِیٍّ، وَإِنَّمَا هِیَ کَالْمَعْلُوفَهِ لِلْمُدَی لَاتَعْرِفُ مَاَذا یُرَادُ بِهَا! إِذَا أُحْسِنُ إِلَیْهَا تَحْسَبُ یَوْمَهَا دَهْرَهَا، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا». النعم: الإبل أو هي الغنم. أراح بها: ذهب بها، السائم: الراعي. الوبي: الردي يجلب الوباء. الدوي: الوبيل يفسد الصحة، أصله من الدوا بالقصر، أي المرض. المدى. جمع مدية - السكين، أي معلوفة للذبح. تحسب يومها دهرها: أي لا تنظر إلى عواقب أمورها فلا تعد شيئاً لما بعد يومها، ومتی شبعت ظنت أنه لا شأن لها بعد هذا الشبع (54).

فضلا عما سبق فأن مفاهيم الروابط الاجتماعية تتبدل لتصبح معاكسة لمبادئ القيم الأخلاقية كما وصفها عليه السلام بقوله: «وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدَّينِ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصَّدْقِ» (55).

ثالثا، انعكاسات القيم الأخلاقية على المجتمع

إن الأخلاق، بصفة عامة، تعتبر حلقة وصل بين الفرد والمجتمع، بمعنى أن المعايير والفضائل الأخلاقية هي التي تدفع الفردي في الاجتماعي، وتضفي معنی ذا دلالة على تعدد الأفعال و جوانب السلوك في المجتمع، حيث تشكل الجوهر الأساسي للتربية الأخلاقية التي تتكون من الوعظ والإرشاد المجرد، والتطبيق الفعلي والممارسة في نواحي الحياة المتعددة، التي سنبين قسما منها.

1. اعتماد نهج سياسي قائم على الفضيلة

لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ملتزما التزاما شديدا في نهجه السياسي، بمبادئ الشريعة الإسلامية، لا يدع مجالا لمخالفتها من أجل رغبة معينة. لهذا فهو لا يجيز استعمال الوسائل غير النبيلة على الإطلاق في سبيل تحقيق غاية معينة، الأمر

ص: 30

الذي جلب له تبعات خطيرة وألحقت ضررا به، بعكس ما كان يفعل مناوئيه، فعندهم كل شيء جائز، طالما يؤدي إلى الغاية المنشودة. فالكذب والغش والخداع والخيانة والسرقة، جميعها من الوسائل الممكنة، غير الأخلاقية، التي قد توصل إلى الغاية النهائية. أي أن الغاية تبرر الوسيلة، حسب ميكافيللي. لهذا فهو يوصي ولده الحسن بقوله: «وَ لاتَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ» (56). وتصل درجة التمسّك بالقيم عند الإمام، إلى الحالة التي يحصل ضرراً من وراء هذا الإلتزام، فيقول: «نَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ» کرثه: اشتد علیه الغم بحکم الحق»(57). والحقيقة أن العلاقة بين الغاية والوسيلة، هي علاقة فيها إشكاليات عند تطبيقها في الواقع العملي. فعند الإمام «الغاية لا تبرر الوسيلة»، بمعنى أنه يرفض رفضا قاطعا استخدام أي وسيلة غير نبيلة، غير أخلاقية. فعنده الغايات نبيلة والوسائل نبيلة. لكن هناك من يرى أنه لا يمكن تطبيق «الغاية لا تبرر الوسيلة»، دائما، فعندهم يمكن تبرير الوسائل بالغاية، بمعنى أن هناك مساومة، تتطلب من الفرد تضحية ببعض القيم الأخلاقية لأجل الحفاظ أو الوصول إلى قيم أخرى من مستوى أعلى. هذا يعني استخدام وسائل اضطرارية لتحقيق هدف معين، وتطبيق مبدأ «الضرورات تبيح المحظورات».

والأمثلة كثيرة في الواقع العملي على استعمال هذا التجاوز. لكن هذا يتعارض مع فلسفة الإمام والمبادئ والقيم التي سار عليها. ومهما يكن، كان من الأفضل أن يقرن استعمال الوسائل الاضطرارية للتنازل عن قيمة ما في صالح قيمة أعلى، شرطاً وهو استئصال ضرورة اللجوء إليه في المستقبل والعمل على معرفة أسبابه ومنعه نهائيا. فضلا عن ذلك ينبغي منع ظاه-رة تبادل القيم، أي عندما تنقلب

ص: 31

الغاية إلى وسيلة، أو العكس. على سبيل المثال قيمة «الوظيفة» التي هي غاية يستثمرها بعض الناس حتى يحققوا بها بعض المصالح، فتتحول إلى وسيلة.

2. التشديد على مبدأ الحوار أولاً

جميع الحروب الداخلية التي حدثت زمن الإمام علي عليه السلام، جاءت بعد حوارات ورسائل متبادلة بينه وبين مناوئيه، فضلا عن ذلك كان يوصي أنصاره وولاته أن لا يكونوا هم البادئين في الحرب (58). على سبيل المثال، کلّم طلحة والزبير بعد بیعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما، وكذلك حين غضبا من التسوية بين المسلمين في قسمة الاموال (59)، لقد كان ذلك قبل حرب الجمل. كذلك كلامه مع الخوارج، حين اعتزلوا الحكم (60). أيضاً بعث كتاباً إلى عمرو بن العاص، يحاول أن يهديه إلى الصواب (61). أما معاوية بن أبي سفيان، فكانت للإمام رسائل كثيرة عددها ستة عشر کتاباً (62).

وتأكيدا على ما ذكرناه، نجد أن أمير المؤمنين يحاول دفع الحرب وتأخيرها على أمل أن يهدي مناوئيه، كما في كلامه إلى أنصاره بقوله: «فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ اَلْحَرْبَ یَوْماً إِلاَّ وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِی طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِیَ بِی وَ تَعْشُوَ إِلَی ضَوْئِی، وَ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَی ضَلاَلِهَا وَ إِنْ کَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا». تبوء بآثامها: ترجع بها. تعشو إلى ضوئه: تستدل عليه وإن كان ببصر ضعيف في ظلام الفتن فتهتدي إليه (63).

3. متابعة دقيقة للولاة والأنصار

لقد رسم أمير المؤمنين علي عليه السلام، خطة في إدارة الحكم، تتضمن متابعة إدارية دقيقة لولاته، التي تشمل الموعظة والتوجيهات والإرشادات، والتنبيه عن الأخطاء والتحذير والإنذار والتعنيف والنهي، والمحاسبة المالية. سنذكر قسما من

ص: 32

رسائله إلى ولاته بهذا الشأن.فمن أكثر كتبه عليه السلام شهرة في الإرشاد والتوجيه، هو كتابه إلى الأشتر النخعي عندما ولاه مصر (64)، التي تعد بحق خطة متكاملة للحكم، التي ينبغي أن يقرأها ويستنير بها كل من يتصدى إلى المسؤولية، لكن مما يؤسف له نجد الكثير من أنصاره ومحبيه في زماننا الحالي لن يطبقوا ما جاء فيها. وفي كتابه إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أردشير خُرّه، يحذره تحذيرا شديدا من المحاباة في تقسيم مال المسلمين (65). وللتأكد من حسابات عماله، بعث كتاباً إلى بعض عماله يأمره برفع حسابه إليه (66). وقد كتب إلى عامله على أذربيجان، الأشعث بن قيس، يأمره بالأمانة (67). ومن المحاسبات الدقيقة التي قام بها الإمام، كتابه إلى قاضيه، شريح بن الحارث، عندما اشترى دارا بثمانين ديناراً (68)، حيث أراد الإمام التأكد من أن ثمن هذه الدار، كان من مال قاضيه وحلاله، وليس من أموال المسلمين. ومن المتابعات التي تعد في غاية الأهمية من وجهة نظرنا، التي قام بها عليه السلام، جاءت في موقفين. الأول توبيخه واليه على البصرة، عثمان بن حنيف، عندما حضر إلى وليمة دعي إليها (69). والتوبيخ كان بسبب حضور الأغنياء فقط إلى الوليمة دون حضور المحتاجين من الفقراء وغيرهم. أما الموقف الثاني، هو انتقاده لأحد أنصاره في البصرة وهو العلاء بن زياد الحارثي، عندما دخل عليه، ووجد سعة داره. لكن الإمام لم يمنعه من امتلاك هذه الدار الواسعة، إنما وضع شروطا لها وهي: «تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَتُطْلِعُ مِنْهَا الُحُقُوقَ مَطَالِعَهَا» (70). تقري فيها الضيف: تستقبل فيها الضيوف. تطلع منها الحقوق مطالعها: تؤدي ما افترض عليك من حقوق إلى مستحقيها. فأين نحن ما يحدث اليوم من امتلاك القصور وحضور الولائم لكبار القوم فحسب؟

ص: 33

4. التعاطف والتراحم مع الفئات الضعيفة

لقد أكد الإمام في وصاياه على أهمية الإقتراب من الناس والإتصال المباشر معهم، بخاصة الفئات الضعيفة والمظلومين والفقراء والمحتاجين. كما بين سلبيات الإبتعاد عنهم، وحذر من الصفة السيئة التي تصيب الذين يحصلون فضل أو نعمة أو زعامة أو منصب، إذ تتغير نفوسهم، ويزدادون تباعدا عن عامة الناس، بوجه خاص من ذوي الحاجات أو الطبقة السفلى من المجتمع. لهذا يقول في كتاب له إلى أمرائه على الجيوش: «فَإِنَّ حَقّاً عَلَی الْوَالِی أَلاَّ یُغَیِّرَهُ عَلَی رَعِیَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ وَ لاَ طَوْلٌ خُصَّ بِهِ وَ أَنْ یَزِیدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ وَ عَطْفاً عَلَی إِخْوَانِهِ» (71). كما يوصي عليه السلام، بصورة تأكيد، في الإهتمام بالطبقة السفلى في المجتمع، فيقول في عهده للأشتر النخعي: «ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى». البؤسى: شدة الفقر والزمني: وهو المصاب بالزمانة، أي العاهة (72). كما يقول أيضاً في العهدة نفسها: «وَاجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَكَ» (73). وهنا يشير الإمام إلى قضيتين أساسيتين. الأولى أن يفرغ الوالي جزءاً من وقته لمقابلة ذوي الحاجات والاستماع إلى مطالبهم. والثانية، هي في طريقة جلوس الوالي، إذ ينبغي أن يكون متواضعا وليس مترفعاً، متكبراً عليهم. ثم يبين عليه السلام أن لا تطول فترة احتجاب الوالي عن الرعية، لأن في ذلك سلبيات عديدة، كما يقول: «وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِیَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاَةِ عَنِ الرَّعِیَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّیقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَالْإِحْتِجَابُ مِنْهُمْ یَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَیَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِیرُ وَیَعْظُمُ الصَّغِیرُ وَیَقْبُحُ الْحَسَنَ وَیَحْسُنُ الْقَبِیحُ وَیُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ» (74).

ص: 34

والشيء المؤسف، في زماننا، أن الالتزام بتوجيهات الإمام، قليلة جداً، والإبتعاد عن شريحة المستضعفين هي السائدة في المجتمع. لكننا نلاحظ العكس تماما، إذ أن المترفين والأقوياء ونحوهم، هم الذين لهم وصول مباشر إلى المسؤولين الكبار. والمفارقة هنا أن المواطن العادي لا يمكنه الاتصال هاتفيا مثلاً، بأي مسؤول، لكن في المقابل نجد أن هؤلاء المترفين والأقوياء يحتفظون بأرقام الهواتف المباشرة لمعظم المسؤولين الكبار.

5. نقد للمواقف الحيادية

هناك فئة من الناس تتخذ موقفا غريباً نحو الصراع بين الحق والباطل، بخاصة أثناء الأزمات والمنعطفات السياسية وغيرها. إذ أنهم يستطيعوا التعرف على الحق من الباطل، لكنهم لا يرغبوا في التزام أي من هذه المسارين، لذلك يتبعوا ما يسمى بالموقف الحيادي، أو النأي بالنفس. السبب في ذلك، يعود، غالباً، لرغبتهم في المحافظة على مصالحهم ووجودهم. غير أن هذا الموقف، هو موقف غير أخلاقي، لأنه عملياً سيكون ضد الحق، وتعود فوائده في النهاية لصالح الباطل. لأن التهرب من مقاومة الباطل وفضحه، إنما يعني الوقوف عملياً إلى جانب الباطل. حدث هذا الموقف زمن الإمام علي عليه السلام، حين انتقد ضمنياً موقف كل من سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر، لأنهما لم یبایعاه، فيقول: «إنَّ سَعیداً وعَبدَاللهِ بنَ عُمَرَ لَم یَنصُرُوا الحَقَّ، وَلَم یَخذُلَا البَاطِلَ» (75). هذا الموقف السلبي قد أضعف الحق وأضعف موقف الإمام عند مناوئيه. تكرر هذا الموقف أثناء قتاله لهولاء المناوئين، حين اعتزل قسم منهم القتال، فيقول عليه السلام: «خَذَلُوا الحَقَّ وَلَمْ یَنْصُرُوا البَاطِلَ» (76). على هذا الأساس، يؤكد أمير المؤمنين، ما ذهبنا إليه، وهو من لم یکن الهدى واتباع الحق دلیله، جره الضلال إلى الهلاك،

ص: 35

فيقول: «وَ مَنْ لاَ یَسْتَقِیمُ بِهِ اَلْهُدَی یَجُرُّ بِهِ اَلضَّلاَلُ إِلَی اَلرَّدَی» (77). ومن المؤسف، أن الأحداث تتكرر في وقتنا الراهن، إذ تشهد على ذلك مواقف معينة لقسم من الجماعات أو الأفراد، هو ذاته الموقف السلبي الحيادي، في الصراع بين الحق والباطل. ومن خطورة هذا الموقف، هو مساواته بين الحق والباطل. لذا يتطلب الأمر جرأة في قول الحق، والاتجاه نحو مصلحة المجتمع. ولا بد من التأكيد هنا أن هذا الموقف الحيادي الخاطئ، هو بين الحق والباطل فحسب. أما إذا كان الصراع بين الباطل والباطل، أي بين الظالمين، فالموقف هنا هو الإبتعاد عنهم وتجنبهم، وعدم نصرة أي منهما، كما يقول الإمام في القصار من كلماته: «كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لا ظَهْرُ فَيُرْكَبَ، وَلا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ» (78). أما إذا كان النزاع بين أصحاب الحق أنفسهم، فالصلح والحوار، هو الحالة الطبيعة لها كل هذه المواقف التي ذكرناها تتطلب وعيا ومعرفة عالية لتمييز الحق من الباطل، ووضع مقاييس دقيقة للتعرف على منهج العدل والاستقامة.

رابعاً: مفارقات في الأخلاق والسلوك

تشمل مفارقات الأخلاق والسلوك، تناقضات في التصرفات وازدواجيتها، وتحوّل القيم الأصلية إلى أضدادها أو تحريفها، إذ تتبدل مقاييس مفاهيم الحياة والمبادىء، إلى صيغ أخرى منافية لها، فضلاً عن استغلال الحق لتمويه الآخرين وخداعهم وغشهم. ولابد من القول هنا أن هذه المفارقات قد تتداخل مع معضلة الوسائل والغايات التي ذكرناها سابقاً.

ص: 36

1. تناقضات في السلوك والأخلاق.

المقصود بالتناقضات، هو أن الرذائل والموبقات والشر معنية.

بالدوافع، مثلما هي معنية بالنتائج. لذلك نجد كثير من الناس يعتقدون أنهم يدافعون عن الحق والعدل، لكنهم في الواقع إنما يدافعون عن قضايا اجتذبتهم أو مصالح فردية خاصة بهم. أضف إلى ذلك هناك الأدعياء الذين يتظاهرون بمعرفة طرائق علاج وحل مشكلات المجتمع وأزَماته، لكنهم يسعون إلى تحقيق منافعهم الذاتية. وقد انتقد أمير المؤمنين، هذا التناقض بقوله: «وَمَا خَیْرُ خَیْرٍ لَایُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ، وَیُسْرٍ لَایُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ» (79)، بمعنى أنه لا فائدة بالخير الذي يناله الإنسان بالشر، ولا فائدة باليسر الذي يناله الإنسان بالرذيلة. كذلك يبين عليه السلام النتائج غير المرغوبة لهذه الأفعال بقوله: «مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الاْءِثْمُ بِهِ، وَالْغالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ». أي إذا كانت الوسيلة لظفرك بخصمك ركوب إثم، واقتراف معصية، فإنك لم تظفر، حيث ظفرت بك المعصية فألقت بك إلى النار، وعلى هذا قوله: «وَالْغالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ» (80).

2. ازدواجية السلوك

إن ازدواجية السلوك هي إحدى خصال النفس البشرية المنحرفة، التي تظهر فيها الفجوة والاختلاف بين الإيمان النظري، والعمل والممارسة. لذلك نجد أن الإنسان يدعو بأقواله إلى سلوك معين، لكنه يمارس عكسه. فمثلاً يدعو ويتظاهر بالصدق ويصطنع الأمانة، لكن ليس لديه ما يمنعه أن يتخذهما ذريعة لتحقيق منافعه الذاتية فقط. تتجلى هذه الازدواجية عند كثير من الناس في كل زمان ومكان. فمثلاً يعترف أحد هؤلاء الناس، عندما سأله الإمام علي عليه السلام، عن سبب تفضيله معاوية فأجاب أننا لم نفضل معاوية لكننا فضلنا متاع الدنيا، هذا ما ذكره

ص: 37

أبو حيان التوحيدي في كتابه «الامتاع والمؤانسة»، بقوله: «وقال علي بن أبي طالب - کرم الله وجهه - لرجل من بني تغلب يوم صفين: أآثرتم معاوية؟ فقال: ما آثرناه، ولكنا آثرنا القسب الأصفر، والبر الأحمر، والزيت الأخضر». القسب: التمر اليابس (81). إن هذا الاعتراف يمثل حالة غريبة في السلوك البشري، وهو الإصرار على ترك الحق والعدل والتوجه نحو متاع الدنيا. كما أن هذه الأفعال المتناقضة تتواجد في نفس الإنسان، في حالة نزاع دائم، بين ما يضطر هذا الإنسان إلى فعله، وما يريده ويرغبه داخل سريرة نفسه. لذا فإن هذا الازدواج الداخلي، وهذه القطيعة بين النوايا الطيبة والأفعال السيئة، هي التي تؤدي إلى النفاق والرياء.

3. تغير المقاييس والأحكام

في زمن الانحلال الفكري والأخلاقي، زمن اختلاط الحق بالباطل تتبدل مفاهيم الحياة، إذ تتحول إلى أضدادها، أو إلى تحريفها عن مسارها الصحيح، فيصبح، مثلاً، الحق باطلاً، والباطل حقاً، والغدر حُسن تدبير، وهكذا. وقد ذكر الإمام عليه السلام، ما قال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما سيحدث من بعده في تحريف الأحكام: «یَا عَلِیُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَیُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَیَمُنُّونَ بِدِینِهِمْ عَلَی رَبِّهِمْ وَیَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَیَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ وَیَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْکَاذِبَهِ» (82). كما وصف عليه السلام هذه الحالة بقوله: «وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِی زَمَانٍ قَدِ اِتَّخَذَ أَکْثَرُ أَهْلِهِ اَلْغَدْرَ کَیْساً وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ اَلْجَهْلِ فِیهِ إِلَی حُسْنِ اَلْحِیلَةِ». الكيس: العقل، وأهل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة» (83).

ص: 38

خاتمة

بعد رحلة طويلة، مع سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، التي تخص أثر القيم الأخلاقية في السلوك الإنساني، حيث كان فيها عالماً عارفاً بسريرة الإنسان وتصرفاته وسلوكه، كما نجده في الوقت ذاته ثابتا على مواقفه المبدئية الأخلاقية النابعة من الأحكام الإلهية والسيرة المحمدية. لذلك كانت غايته إصلاح المجتمع، وتهذيب النفوس وتربيتها تربية صالحة وفقا لهذه الأحكام. غير أن جميع محاولاته في هذا المجال واجهت مقاومة شديدة من تلك النفوس المريضة الضالة، التي أصرت على تفضيل مصالحها الأنانية ومنافعها الشخصية، مستخدمين في ذلك جميع الأساليب التي لا تنسجم مع المبادئ والقيم الأخلاقية للدين الحنيف. يمكننا إذن أن نستخلص من السيرة العلوية، بعض القضايا التي تهم السلوك الأخلاقي من أهمها: أولا، إن درجة وعي الإنسان ومعرفته بأحكام الدين الحنيف، والمبادىء الإنسانية، هي ضرورة من أجل التوجه الصحيح في المجتمع وإصلاحه. ثانيا، الاعتماد على الدليل العادل والمرشد الأخلاقي الذي يعين الناس في خياراتهم ويرشدهم إلى المبادئ السليمة في السلوك والأخلاق، وتشخيص الانحرافات في المجتمع، ثم معرفة الحق من الباطل، والفضيلة من الرذيلة، والصواب من الخطأ. ثالثا، يوجد مبدأين أساسيين متصارعين يحكمان السلوك الإنساني: الرغبات الأنانية، والقيم الأخلاقية الإيجابية. رابعا، إن القيادة الجيدة الحكيمة، يبدو في كثير من الأحيان أنها لا تنجح في بيئة سيئة فاسدة، إذ يظهر ذلك بوضوح الفرق الشاسع بين القيادة الأخلاقية والجمهور المنحرف. خامسا، التأكيد على الإحساس في معاناة الضعفاء والمحتاجين، والتعاطف معهم ودعمهم ،فضلاً عن التواضع لهم. سادسا، نتيجة للتعلق الشديد بنعم الحياة، بخاصة تلك الناجمة عن استخدام

ص: 39

وسائل غير أخلاقية، فإنها تشكل طبع فرید عند كثير من الناس، إذ نجد هناك من يستسلم أمام أحوال الطمع ويصبح عبداً لرغباته، وهناك من يعيش ليأكل، وهناك من يجيز في سلوكه التذبذب والانحراف عن معايير الأخلاق الحميدة. سابعا، لا يمكن التضحية بالقيم الأخلاقية الإيجابية من أجل مصلحة أنانية شخصية.

هوامش البحث:

(1) لاوبنكبرا وبانتاه، المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو، 1986، ص 382.

(2) إقبال زكي وآخرون، المعجم الكبير، ج 6، حرف الخاء، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 2004، ص 738.

(3) أفاناسييف، أسس المعارف الفلسفية، دار التقدم، موسكو، 1985، ص 397.

(4) محمد خير أبو حرب، المعجم المدرسي، وزارة التربية، دمشق، 1985، ص 326.

(5) فخري الدباغ، السلوك الإنساني، كتاب العربي، 12، الكويت، 1986، ص 31.

(6) محمد عبده، نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1993، ص 706.

(7) نفسه، ص 352.

(8) نفسه، ص 352.

(9) المعجم المدرسي، مصدر سابق، ص 942.

(10) السلوك الإنساني، مصدر سابق، ص 31. (11) نهج البلاغة / عبده، مصدر سابق، ص 613.

(12) نفسه، ص 669.

(13) المعجم المدرسي، ص 656.

(14) نهج البلاغة / عبده، ص 538.

(15) نفسه، ص 674.

(16) نفسه، ص 320.

(17) نفسه، ص 100.

ص: 40

(18) نفسه، ص 292.

(19) نفسه، ص 293.

(20) المعجم المدرسي، ص 971.

(21) نهج البلاغة / عبده، ص 352.

(22) ألكسندر تيتارينكو، علم الأخلاق، ترجمة دار التقدم، دار التقدم، موسكو، 1990، ص 345.

(23) نهج البلاغة / عبده، ص 662.

(24) نفسه، ص 96.

(25) نفسه، ص 649.

(26) نفسه، 660.

(27) نفسه، ص 100.

(28) نفسه، ص 72.

(29) نفسه، ص 331.

(30) نفسه، ص 348.

(31) نفسه، ص 467.

(32) نفسه، ص 583.

(33) نفسه، ص 178.

(34) نفسه، ص 452.

(35) نفسه، ص 671.

(36) نفسه، ص 187.

(37) نفسه، ص 188.

(38) حسين الأعلمي، شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد، مج 3، بيروت، 1995، ص 304.

(39) نهج البلاغة / عبده، ص 533

(40) نفسه، ص 718.

(41) نفسه، ص 615.

(42) علم الأخلاق، ص 293.

(43) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ج 1، تحقيق شعيب الأرنؤوط وابراهيم باجاس،

ص: 41

مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001، ص 302.

(44) نهج البلاغة / عبده، ص 714.

(45) نفسه، ص 701.

(46) نفسه، ص 705.

(47) نفسه، ص 704.

(48) نفسه، ص 357.

(49) نفسه، ص 659.

(50) نفسه، ص 398.

(51) نفسه، ص 284.

(52) نفسه، ص 271.

(53) علم الأخلاق، ص 288.

(54) نهج البلاغة / عبده، ص 351.

(55) نفسه، ص 236.

(56) نفسه، ص 528.

(57) نفسه، ص 270.

(58) نفسه، ص 501 ، 503.

(59) نفسه، ص 436.

(60) نفسه، ص 131.

(61) نفسه، ص 551.

(62) نفسه، ص 746 - 749.

(63) نفسه، ص 128.

(64) نفسه، ص 571.

(65) نفسه، 556.

(66) نفسه، ص 552.

(67) نفسه، ص 494.

(68) نفسه، ص 491.

ص: 42

(69) نفسه، ص 558.

(70) نفسه، ص 439.

(71) نفسه، ص 568.

(72) نفسه، ص 587.

(73) نفسه، ص 588.

(74) نفسه، ص 590.

(75) نفسه ، ص 687.

(76) نفسه، ص 627.

(77) نفسه، ص 94.

(78) نفسه، ص 627.

(79) نفسه، ص 538.

(80) نفسه، ص 700.

(81) إبراهيم الكيلاني، من كتاب الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، القسم الأول، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، 1978، ص 312.

(82) نهج البلاغة / عبده، ص 314.

(83) نفسه، ص 115.

ص: 43

ص: 44

الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام) أ. م. د. فلاح حسن عباس كلية الآداب - جامعة ذي قار

اشارة

ص: 45

المقدمة

يتكون هذا البحث من عدّة مباحث ناقش الباحث من خلالها عدّة مواضيع حول القيم الإنسانية المتجسدة في فكر الإمام علي عليه السلام الذي يُعد امتداداً لفكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالرسالة الإنسانية الأخلاقية لنشر قيم العدالة والمساواة والتسامح والحوار والتعايش السلمي مع الآخر، والابتعاد عن العنف والاعتداء على حقوق الإنسان، وناقش الباحث أيضاً قضايا أخرى مرتبطة بالموضوع.

ناقش الباحث في المبحث الأول موضوعاً عن التحرر الفكري والإنساني الذي تميز به الإمام عليه السلام، وتكلّم عن إنسانية الإنسان، وأهميتها في بناء المجتمع الصالح المستند على عماد العدالة والمساواة بين أفراده، وبيّن وقوف الإمام مع المظلومين والمحرومين في قضاياهم المختلفة، وسعيه عليه السلام لتحرير الإنسان من جميع القيود التي تحدد تحرره، وتكبّله وتحول دون عيشه بكرامة.

أمّا المبحث الثاني فجاء ليتكلم عن الآخر والتعايش السلمي الذي له الأثر الكبير في تكامل الحياة الإنسانية وتفاعل المجتمعات إيجابيًا بسبب التعدد والتنوع، وأنّ التنوع الإنساني المستند على أساس الشعوب والقبائل هو حقيقة خلقية غير مصطنعة، وليس لمجموعة بشرية أفضلية على أخرى بسبب اللون والعرق واللغة...

بينما ناقش المبحث الثالث التواضع وسعة الصدر، وهما من السجايا الإنسانية والأخلاقية التي يتصف بها الإمام عليه السلام.

كما تكلّم الباحث في المبحث الرابع عن عدالة الإمام عليه السلام، وتأكيده

ص: 46

عليها؛ لأهميتها في شيوع الثقة والاطمئنان، فمع العدالة والمساواة لا يشعر الإنسان بإهدار حقة ولا تفضيل عند الإمام عليه السلام بسبب القرابة أو العلاقات الاجتماعية الأخرى.

وتناول المبحث الخامس القضايا الاقتصادية والاجتماعية وأهمية التكافل الاجتماعي بين افراد المجتمع، وبه تزدهر الحياة فالإنسان أخ الإنسان والعدالة الاجتماعية أساس مهم لتحقيق مجتمع متوازن، وهي من المسائل التي أكد عليها الإمام عليه السلام.

ثم الخاتمة التي لخصّ الباحث فيها أهم النتائج التي توصل اليها، كما ذكر بعض المقترحات.

ص: 47

المبحث الأول التحرر الفكري والإنساني

إنسانية الإنسان عند الإمام علي عليه السلام من القضايا الأساسية التي لها دور كبير في بناء المجتمع الإنساني الصالح القائم على أسس الحياة العادلة والمساواة بين أفراده، فعند اطلاعنا على أقواله نرى بشكل جلي وقوف الإمام لنصرة المظلومين والمستضعفين ومما يدل على ذلك قوله: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ له الحق، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه» (1) وهو تجسيد لجميع المعاني التي دعت اليها مبادئ حقوق الإنسان ونصرة الفقراء والضعفاء في هذا العالم، وما هو حجم السعادة التي تعتري الضعيف عندما يجد من ينصره ويقف معه في جميع قضاياه، ويعيد اليه حقه المغتصب من قبل القوى الظالمة، وكيف تنعكس تلك السعادة على المجتمع لتعيد اليه الثقة بنفسه ومحيطه الاجتماعي، فالذليل عند علي عليه السلام عزيز، والقوي الظالم ضعيف؛ لاغتصابه حق الآخر الضعيف، وحالة الضعف التي تعتري القوي الظالم عند استرجاع الحق منه؛ تؤدي إلى شعوره بالضعف والخنوع، وعدم تعاليه على الآخر الضعيف. (2)

سعى الإمام عليه السلام وبشكل واقعي إلى تحرير الإنسان، وحرية الإنسان عنده هي ليست الحرية الإباحية الرعناء، بل هي حرية مقترنة بالشعور بالمسؤولية على كافة الأصعدة، كما وسّع معنى الشعور بالمسؤولية في مدارك الناس. (3)

وفي الوقت الذي يشير الإعلام فيه بواسطة وسائلة المتطورة والكثيرة إلى أنّ دول العالم المتقدم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية تحث الخطى نحو نشر حقوق الإنسان، وتحرير الإنسان من جميع القيود التي تحول دون عيشه بكرامة،

ص: 48

نشاهدها وبصورة واضحة تسعى لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم ولاسيّما دول العالم الثالث. فالمصالح الاقتصادية والسيطرة على منابع الربح الوفير أصبح هدفاً إستراتيجياً للكثير من دول العالم المتقدم، والسيطرة على الدول الضعيفة وعلى إمكانياتها الاقتصادية تعد من الاستراتيجيات المهمة لدى الدول القوية، فدول العالم اليوم في تسابق مستمر نحو التسلح بشتّى أنواعه؛ مؤدياً إلى نشر القلق والهلع وزعزعة الثقة بين المجتمعات الإنسانية. وإذا تأملنا بشكل واقعي لأنظمة الدول المتقدمة وبالأخص الولايات المتحدة نجد أنّ لديها وجهان: الوجه الإيجابي المشرق الذي يعكس صورة التقدم العلمي والحضاري والتكنولوجي مع قوانينها التي تؤكد على حماية حقوق الإنسان وحريته وتمتعه بالديمقراطية الليبرالية - وما للإعلام من دور في بيان ذلك وإظهار امريكا بالوجه الحسن - والوجه الآخر هو الوجه السلبي.

يقول السناتور الأمريكي الاسبق وليم فولبرايت: «لقد دأبنا في سنوات قوتنا العظيمة، على أن نحيّر العالم، إذ نقدم له في وقت ما الوجه المشرق من وجهي أمريكا، ثم ندير له الوجه الآخر، وقد نقدم له الوجهين في وقت واحد. وتنظر شعوب كثيرة في مختلف أنحاء العالم إلى امريكا على أنها قادرة على التسامح وبعد النظر، ولكنها قادرة أيضاً على أن تضمر سوء النية، وأن تكون وضيعة، وينجم عن ذلك عجز عن توقع أفعال أمريكا لدى الناس» (4).

ويبدو جليّاً تفكك النسيج الاجتماعي في الولايات المتحدة، وتراجع بمستويات الجماعة لصالح الأنانية والفردية واللامبالاة، والجسم الاقتصادي تعرّض للتفكك أيضاً؛ بسبب عدم التكافؤ بين طبقات المجتمع. كما أنّ اهتمام الأفراد بمصالحهم الفردية والذاتية على حساب الآخرين، والاهتمام بالوسائل الاستهلاكية على

ص: 49

حساب الغايات الإنسانية نتج عنه تراجع الضمير الإنساني. ويبدو أنّ الولايات المتحدة تهتم بتأمين مصالحها في العالم بالدرجة الأولى، وكل ما تدّعيه حول إيمانها بمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية ومبادئ الحرية إنما هو لتأمين مصالحها بغية نشر هيمنتها ونفوذها على العالم. (5)

إنّ الهدف الواضح للولايات المتحدة هو الهيمنة على العالم؛ لذلك نراها غير مترددة في فرض الاستبداد في أي مكان منه؛ لتحقيق غاياتها ومصالحها في الوقت الذي تدّعي فيه سعيها لتحقيق الحرية للشعوب، كما أنّها لا تبالي بحقوق الإنسان بغية تحقيق مصالح شركاتها العملاقة متعددة الجنسية، فهي ليست مع مبادئ أخلاقية أو إنسانية أو دينية وإنّما تسعى لتحقيق الأرباح لها، وتسعى لربط الآخرين بها لمصالحها الاستراتيجية؛ لذلك وقفت إلى جانب الحكومات الشمولية المستبدة والظالمة لشعوبها، والمصادرة لحقوقهم سواء في منطقة الشرق الأوسط، أو أمريكا اللاتينية أو في آسيا؛ لأنّ تلك الأنظمة - المستبدّة - تؤمّن مصالحها، وتنفّذ استراتيجياتها طويلة الأمد (6)

ص: 50

المبحث الثاني الآخر والتعايش السلمي

يبدو أنّ الإنسان في الزمن المعاصر وفي جميع دول العالم يعاني من أفكار وآيديولوجيات مختلفة زعزعت ثقته بأخيه الإنسان المختلف باللون أو العرق أو الدين أو الطائفة أو اللغة وغيرها. وأزمة الثقة في زمننا هذا أخذت تعصف بالمجتمعات البشرية وتهدد استقرارها، ففي الحقيقة أنّ ظاهرة تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان المختلف؛ تؤدّي إلى التكامل في الحياة الإنسانية والوجود الكوني، فالتنافس أو الصراع بين المختلفين لا يهدف إلى إفناء الآخر أو إبادته، بل يهدف إلى إغنائه. وهذه حكمة الله سبحانه، فالتعدد والتنوع في المجتمعات يؤدي إلى نتائج إيجابية. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (7). وهنا تجسيداً واضحاً لاتحاد الإنسانية من حيث المصدر ووحدة منشأها، ويلغي كل ترتیب زائف من القيم والمفاهيم والممارسات التي يشوبها النقص نتيجة الفهم الخاطئ في التعامل مع الآخر المختلف بعد تقييم الإنسان وتصنيفه حسب العرق أو اللون أو الدم... فالخطاب هنا موجّه لكل الناس دون استثناء: «يا أيّها الناس» والخالق واحد يؤكّد وحدة الإنسانية من النوع والهوية والجوهر: «إنّا خلقناكم». وهنا لا توجد قيمة لكل الاعتبارات الزائفة التي وضعها الإنسان التي تصادر هذه الوحدة التعددية للإنسانية من خلال مصادرة استحقاق هذا الانتماء الإنساني المشترك في التكافؤ والمساواة إستناداً إلى التنوع والتعدد في اللون والشكل والعرق... فالخالق جعل خلقه «شعوباً وقبائل».

إنّ التنوع الإنساني القائم على أساس الشعوب والقبائل هو حقيقة خلقية

ص: 51

غير زائفة وهو إرادة إلخالق عز وجل ولم يحدث صدفة أو بسبب طفرة وراثية، وهذا التنوع الإنساني القائم على أساس النسب أو الشكل لم يأت للوجود بسبب الاعتبارات الإنسانية المتغيرة عبر المراحل الزمنية والتطور، بل يستمد وجوده من الخالق الموجد لهذا الجعل التكويني، ووفق ذلك لا تمتلك أيّ جهة حق إلغاء هذا التنوع والتعدد في الخلق، وهذا يهدينا إلى عدم الاعتراف بخصوصية أي جماعة تختلف في العرق أو اللون أو اللغة فضلاً عن الخصائص التي يشترك بها بني البشر لأنّ هذه الاختلافات طبيعية بذاتها فهي تجسّد إرادة الخالق الجاعل لهذا التنوّع. (8)

قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ» (9).

إنّ الفاعلية الإنسانية كعلّة لهذا التنوّع والتعدد ذلك إنّ الكون لا يمكنه الحركة والتفاعل والإبداع إلاّ وفق آليات الاختلاف الذي يُنتج التنوع والتعدد بعكس التشابه والتماثل الذي يقضي على إمكانية الحركة والتدافع الكوني والوجودي المطلوب لنشوء الحياة. قال تعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ». (10)

وبناءً على ذلك فإن الاعتراف بالتعدد والتنوع يقودنا إلى احترام نتائجه، ومنها احترام الخصوصيات الذاتية للأفراد والجماعات البشرية الناتج عنها أشكالاً متعددة في التعبير عن ذاتها ثقافياً وحضارياً ومعرفياً... وهو يعبّر عن خصوصية الإبداع وتميّزه، ولا يعني الصراع والخلاف لإثبات من هو الأجدر والأفضل في الوجود الإنساني. إنّ التعارف أمراً إيجابياً في بناء الإنسانية الصالحة، وله دور كبير لحل إشكالية الخلاف، ووقف الصراع بين الناس «لتعارفوا» فالتعارف مبدأ صالح يجمع الناس على الود والتسامح، وبالإمكان توظيفه لجعل الخلاف إيجابياً،

ص: 52

وجعل التعدد والتنوع نعمة وليس نقمة من خلال الاعتراف بالآخر، واحترام خصوصیاته ليتحقق بذلك تعایشاً سلمياً حضارياً وثقافياً، ومن هنا يتبيّن ما للتعارف من أهمية كبيرة في نشر بذور المحبة والود والتعايش السلمي بين بني البشر، والتعارف ناتج عن التنوع والتعدد، ولولا التنوع لما كان التعارف، ولا قيمة له ولا وجود إلّا مع هذا الجعل التكويني، ومن ثماره تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان بسلام ومحبة وتبادل الطاقات والخبرات وتلبية جميع احتياجات الإنسان. (11)

ومما جاء في الوثيقة الإنسانية الجامعة لكل المعاني الأخلاقية في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر النخعي عندما أرسله لولاية مصر: «وأشعر قلبك الرّحمة للرّعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان: امّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق...» (13).

وهنا الرسالة الحقيقية للإنسان الرسالي والمصلح الحقيقي والقائد الذي يشعر لشعور الرعية دون تمييز بينهم، وهو تأسيس لمبادئ حقوق الإنسان التي أصبحت شعارات وأبواق للكثير من حكام العالم ولكن دون تطبيق.

فالرحمة والمحبة للرعية واللطف بهم من أسباب النجاح في إدارة الدولة ورقيها على كافة الأصعدة، ولو وجدت هذه الأسباب بصورة واقعية في العالم اليوم؛ لما شهدت دول العالم نزاعات لأسباب كثيرة ومنها، الظلم والتمييز في التعامل مع الشعوب والأقليات العرقية أو الدينية أو المذهبية... الخ

وقوله عليه السلام: «ولا تكونن عليهم كالوحش الضاري تغتنم الفرص للإيقاع بهم، والاستيلاء على ما بين أيديهم، حيث الناس تجمعهم وإياك إمّا العقيدة، وإمّا صلة النوع والمشاعر والمظاهر» (13)

ص: 53

وهنا تتجلى الإنسانية فالمحكوم نظير الحاكم في الإنسانية. والاختلاف بالعرق واللغة والدين والفكر ليس مسوّغاً للحاكم ظلمه للرعية.

لقد أكّدها الإمام عليه السلام منذ ذلك الوقت؛ لتكون منهجاً في دولته العادلة بعمقها الحضاري والإنساني والفكري. وهو عكس ما نلاحظ اليوم في الكثير من الدول لاسيّما بلدان العالم المتقدم التي تعاني تمزّقاً في نسيجها الاجتماعي، وتجسد ذلك من خلال ظهور الكثير من الأفكار التي روّجت لفكرة الصِدام بين الحضارات الإنسانية المختلفة وأبرزها اطروحة صِدام الحضارات للكاتب صموئيل هنتنجتون الذي اعتبر الحضارات قبائل إنسانية كبيرة وصدام الحضارات هو صراع قبلي على نطاق عالمي والفروق الثقافية هي الاساس في التصنيف والتمييز بين بني البشر في الزمن المعاصر، فالهوية الثقافية عنده تتحدد بالتضاد مع الآخرين وفي الحروب تترسخ... (14).

وفي الحقيقة أصبح الإنسان المعاصر يشعر بالمشكلة الاجتماعية أكثر من شعوره بها في المراحل التاريخية السابقة، كما أصبح أكثر وعيًا، ويتحسس المشكلة بشكل أشد من السابق کما فهم تعقيداتها بشكل كبير، فالمشكلة الاجتماعية هي من صنع الإنسان كما أثبت التاريخ من خلال إسقرائه بأنّ الحياة كلما أخذت بالتطور تزداد مشاكلها وتعقيداتها - وهذا ما نلاحظه في زمننا المعاصر حيث تزايد وتصاعد نسبة المشاكل بشتّى أنواعها بسبب التقدم التكنولوجي والأنترنت والإعلام - فالإنسان المعاصر سيطر بشكل كبير على الطبيعة، (15) وهذه السيطرة أدت إلى تغيّرات كثيرة في النظام الاجتماعي، وهذا ما تعانيه الكثير من المجتمعات لاسيّما مجتمعات العالم المتقدم، فضلاً عن وقوع مجتمعات العالم الثالث، أو المجتمعات الفقيرة تحت موجات من الغزو الثقافي والفكري والحضاري المفروض بشكل مباشر أو غير مباشر وبطرق مختلفة.

ص: 54

المبحث الثالث التواضع وسعة الصدر

التواضع سمة بارزة في حياة الإمام عليه السلام، وهو فیض من أخلاقه العالية وقيادته الصالحة للمجتمع فهو القائد والمصلح، كان يرتدي الملابس البسيطة، ويأكل خبز الشعير واللبن، ويرقع ثوبه البالي (16) وهو وهو القائد العادل للمجتمع، المتمكّن من أسباب الدولة الاقتصادية وغيرها، وتواضعه نابع من جوهر شخصيته وسجاياها، لا يبتغ بذلك إتباع اسلوب متصنِّع كما يفعله الكثير من قادة العالم على اختلاف المراحل الزمنية.

فإحساسه بالرعية ومعاناتها وعدالته الواقعية؛ جعله يعيش واقع الحياة الاجتماعية وما يترتب عليها من إجراءات تستوجب من القيادة العادلة اتخاذها؛ كونها جزء من ذلك المجتمع تتأثّر بما يتأثّر به.

وهنا يستحسن الإمام تواضع الأغنياء تجاه الفقراء بقوله:» ما أحسن تواضعَ الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله! وأحسنُ منه تِيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله» (17) وتيه الفقراء أحسن: «لأنّ تيه الفقير وأنفته على الغني أدل على كمال اليقين بالله، فإنّه بذلك قد أمات طمعاً ومحا خوفاً؛ وصابر في بأسٍ شديد، ولا شيء من هذا في تواضع الغني» (18)

وقوله عليه السلام: «آلة الرياسة سعة الصدر» (19) فيه بيان واضح للذين يتصدّون لإدارة الدول والمؤسسات والموظفين كل حسب مسؤولياته فهنا يؤكد الإمام عليه السلام على التحلّي بمكارم الأخلاق، والسماح للرعية بالتعبير عن آرائهم، واحترام وجهات النظر، وتقبّل النقد واحتواء الآخرين، واستيعابهم

ص: 55

ومعالجة الأمور بتقديم المقترحات والحلول، وهو اسلوب حضاري ناجح ومهم للقائد ويعكس عمقه الحضاري والثقافي والإنساني والاجتماعي، وبعده المعنوي، وهو دعوة إلى التحلّي بالصّدق والتسامح والعفو والرحمة والابتعاد عن الغضب والسيطرة على النفس، وعدم إصدار الاحكام على الأشياء في حالة الغضب، وعدم مقابلة الرعيّة بالمِثل فلا يقابل الإساءة بالإساءة بل ينطلق بتعامله مع المسي من موقع أبوي شامل وكان يمتلك بعد نظر ويحلل الأمور والمواقف تحليلاً واقعياً سليماً بعيداً عن الأهواء الشخصية والاستبداد بالرأي، فذلك من الأمور المهمة بالنسبة للقائد والمربي الناجح. (20)

وقوله عليه السلام: «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتِكم وكبرائِكم الذين تکبّروا عن حسبِهِم وترفعوا فوق نسبهم» (21) وهنا يحذر الإمام عليه السلام المجتمع بشكل صريح بعدم طاعة المتكبرين والمترفعين على المجتمع. وهو بیان لسادة وقادة المجتمع أن يكونوا قريبين من تطلعات مجتمعاتهم، وأن يتحسسوا معاناتهم وآلامهم وهمومهم ولا يضعون أنفسهم في أبراج عاجيّة ولا ينظرون إلى الناس من قمم عالية ليستصغروا حجمهم ويقللوا شأنهم.

ص: 56

المبحث الرابع العدل

سعی أمير المؤمنين عليه السلام بشكل واقعي إلى إشاعة العدل والمساواة بين الناس دون تفريق وتمييز بينهم لأسباب مختلفة. ووقف بمسافة واحدة من الرعيّة، وكان معارضاً لسياسة عمر في التفضيل؛ لأنّ العباد عباد الله، والمال مال الله، وهم شركاء فيه على قدر الجهد.

إنّ الناس سواسية عنده وكان يرفض سياسة التمييز القومي، والاستعلاء القبلي (القرشي)؛ كونها تريد تحويل تراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مکاسب خاصّة، لانّ الإسلام دين جاء للناس جميعاً، وهو لا يفرّق بين الناس على أساس عرقي أو قومي، وكان الإمام عليه السلام في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أساس متين من الأسس التي بني عليها الإسلام وقاعدة (العدل أساس الحكم) من القواعد الأساسية التي سعى لتطبيقها، وتثبيتها؛ ليحقق بذلك العدالة بين الناس في جميع مجالات الحياة لاسيّما المجال الاقتصادي. (22)

يقول عليه السلام: «ألا وأيّما رجل استجاب لله ورسوله فصدّق ملتنا، ودخل دیننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله؛ يُقسّم بینکم بالسويّة ولا فضل فيه لأحد على أحد وللمتقين عند الله أحسن الجزاء». (23)

يُعد المنهج العادل في الحكم وتوزیع ثروات بیت المال على الناس بلا فروق وتمييز بين الناس على أساس القرابة أو غيرها من الأمور، هو - المنهج - المطبّق في عهده؛ لذلك نرى أنّ الإمام عليه السلام صادر ما وهبه عثمان من الأموال

ص: 57

الكثيرة لطبقة الأرستقراطيين، وأبلغهم في سياسته في توزيع الثروات:

«أيها الناس! إنّما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلّي ما عليكم، ألا وإنّ كل قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحق القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدته وقد تُزُوّج به النساء، وملك الإماء، وفرق بين البلدان لرددته. فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق» (24)

«أيها الناس.. ألا يقولنّ رجال منكم غداً؛ قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار وركبوا الخيل واتّخذوا الوصائف المرقَّقة، اذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصونهم إلى حقوقهم التي يعلمون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ألا وأيّما رجلٍ من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أنّ الفضل له على سواه بصحبته، فإنّ الفضل غداً عند الله، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يُقسم بينكم بالسويّة ولا فضل فيه لأحد على أحد» (25).

وهذا الأمر زعزع المتنفذين من المجتمع الذين أساؤوا لصورة المسلم الحقيقي المتمثلة بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه الأبرار، ويبدو أنّ ردة فعل المتنفذين جعلتهم يساومون الإمام عليه السلام على أن يطيعوه مقابل غض النظر عن ما سلف منهم، فبعثوا اليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، (26) فقال للإمام (عليه السلام): «يا أبا الحسن! إنّك قد وترتنا جميعاً، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال أيّام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنّا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام» (27).

فردّ عليهم الإمام (عليه السلام) قائلاً: «فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به

ص: 58

أقررنا وله أسلمنا و عهد نبینا بين أظهرنا فمن لم يرض به فيتول كيف شاء» (28).

وهذا دلالة حقيقة للقائد العادل الذي لا يميّز بين الرعية والمتمسّك بالنهج الذي خطّه وسار عليه لإحقاق الحق الذي يؤدّي بدوره إلى ترسيخ الأسس الحقيقة للثقة التي يحتاج إليها الإنسان في عالمنا المعاصر بشكل كبير وبصورة مستمرة، كما أكّد إتّباعه مبدأ العدل في توزيع الثروات على الرعية، وبينّ لهم بأنّ التقوى والسبق بالإسلام لا تمنح من يتمتع بها امتیازات دنيوية، فالناس سواسية في هذه الدنيا، والله سيجازي من له فضل السبق بالإسلام. وبذلك جسّد الإمام أروع الصور لروح المواطنة الحقيقية بين الرعيّة. أنتم أ

وذكر ابن الأثير أنّ الشعبي قال: «وجد علي درعاً له عند نصراني فأقبل إلى شُرَیح و جلس إلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي. فقال النصراني: ماهي إلّا درعي ولم يكذِب أمير المؤمنين.

فقال شريح لعلي: ألك بيّنة؟ قال: لا. وهو يضحك فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أنّ هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين قدَّمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه. ثم أسلم واعترف أنّ الدرعَ سقطت مِن عليّ عند مسيره إلى صفين» (29) هذه القصة تؤكد أيضاً قيادة الإمام عليه السلام العادلة والإنسانية. وهذا نموذج رائع للإنسانية في اسلوب التعامل مع الآخر وعند مقارنة ذلك بما يفعله حكّام الكثير من البلدان لوجدنا فارق كبير وهوّة واسعة.

کما ذکر التأريخ أروع الأمثلة والعبر التي تجسد وتعكس عدالة الإمام علي (عليه السلام) مع كافة طبقات المجتمع، ومنها: روي أنّ عقيل أخ الإمام عليه السلام، كان ضريراً أتي إلى الإمام يوماً يطلب صاعاً من القمح من بيت المسلمين زيادة على حقّه، وكرر طلبه على علي عليه السلام، فأحمي الإمام حديدة على النار،

ص: 59

وأدناها منه، ففزع منها عقيل، فوعظه الإمام عليه السلام: (30) «یا عقيل أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه! أتئنّ من الأذى ولا أثن من لظى» (31). ومن المواقف الفريدة التي جسّدتها إنسانيته وعدالته ما روي عنه عليه السلام، بلغه أنّ واليه على البصرة عثمان بن حنيف دُعي إلى وليمة قوم من أهلها، فذهب اليها، فأرسل اليه الإمام علي عليه السلام کتاباً تأديبياً (32) يجسّد فضائل الإنسانية السامية التي تنادي بها قوانین حقوق الإنسان والعدالة في إدارة الدولة والمؤسسات التابعة لها، ووقوف الحاكم تجاه الرعية من موضع واحد: «أما بعد، یا ابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك تستجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألا وإنّ لكل مأموم إماماً، يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد» (33).

وقوله عليه السلام: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومَن لكَ فيه هوی من رعیتك؛ فانَّك إلّا تفعل تَظلِم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عِبادِه، ومن خاصمه اللهُ أدحضَ حُجَّتَه.. وليكن أحبُّ الأمورِ إليك أوسطها في الحقِّ، وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعيّة» (34)

اتصف الإمام عليه السلام بأنبل الصفات وأروعها، كان يوصي بإقامة الحق وكان لا يؤمن بنسبية الحق وفقاً للبيئة والمحيط، والحدود الجغرافية المصطنعة بل كان يؤمن به منهجاً شاملاً لا تحده حدود، والحق عنده لا يخضع للإرادة

ص: 60

والهوى (35) فهو يحث على الحق في كل زمان ومكان، وفي كل الاحوال عند الرضا، وفي حالة الغضب وعلى الصديق والعدو، فهو يتعامل معهم على أساس العدل والحق:

«عليكم بكلمة الحقِّ في الرِّضا والغضب، وبالعدل على الصّديق والعدو». (36)

وهنا دعوة لإشاعة الحق بين الناس، والتعاون به، والأخذ على يد الظالم السفيه، بسبب إستهانته بحقوق الآخرين فبالحق يقف المظلوم بوجه الظالم، ولإحقاق الحق دور كبير في تغير حالة الفرد والمجتمع من السلب إلى الإيجاب، وبالحق تهاوت حكومات ظالمة كثيرة على المراحل الزمنية المختلفة والتأريخ الإنساني شهد الكثير من الثورات التي غيرت من أحوال المجتمعات:

«تعاطوا الحق بینکم وتعاونوا به وخذوا على يد الظالم السفيه» (37)

وقوله (عليه السلام): «ولا تضيّعنَّ حقَّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه؛ فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقَّه» (38) فيه حث لعدم تضييع حقوق الاخوان والأقرباء مستغلاً بذلك المعرفة والقرابة أو صلة الرحم.

ص: 61

المبحث الخامس القضايا الاقتصادية والاجتماعية

يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع البشري، وعلى أن يشعر أفراده ببعضهم البعض، فلا يصح أن يعيش الغني متنعماً بالنعم الوفيرة تاركاً أخاه الإنسان الفقير يكابد قساوة الحياة وآلام الحاجة والحرمان. فقوله عليه السلام: «فما جاع فقير إلّا بما متِّع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك» (39)، وقال: «ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيَّع» (40) فالعدالة الاجتماعية من القضايا المهمة التي أكد عليها الإمام علي عليه السلام، والتكافل الاجتماعي أحد أسبابها، فإذا أخذت الدول بإنشاء مؤسسات عادلة تعنى بأمور الفقراء والنظر في قضاياهم الاجتماعية وإيجاد الحلول لهم، لعاشت المجتمعات البشرية بأمن اقتصادي ونفسي مستقر. وكذلك تقل الفوارق الطبقية بين بني البشر. لكن الذي يحصل - في زمن الحداثة وما بعدها - أنّ الكثير من المجتمعات الفقيرة يعاني أبناءها من الفقر والبؤس وتفشّي الأمراض المختلفة، بينما تعيش مجتمعات العالم المتقدم برخاء اقتصادي. إلّا أنّها تعاني من أزمة الثقة ومن ثم عدم الاطمئنان فالإنسان في تلك المجمعات كأنّه تحول إلى آلة.

والأنباء عن الممارسات عن حرق ملايين الأطنان من الحنطة وبعض المواد الغذائية حفاظاً على الأسعار، وجعل الدول الفقيرة في تبعية مستمرة للدول الغنية في الوقت الذي يتعرض فيه الكثير من البشر وفي مناطق مختلفة من العالم إلى الموت بسبب الفقر والمرض والجوع، دليل على الممارسات اللا إنسانية للدول الإمبريالية کما عانت - ولا تزال - الكثير من المجتمعات ويلات الحروب المدمرة بسبب التعصب القومي والعرقي مثال ذلك نظرية صفاء العرق الجرمني الآري التي كان

ص: 62

شعارها: (المانيا فوق الجميع)، وكذلك الدعاوى الفاشية التي دمّرت الكثير من البشر باسم التعصب القومي والعنصري. (41)

وفي قوله عليه السلام: «خالطوا الناسَ مُخالطةً إن متّم مَعَها بكوا عليكم، وإن عشتم حَنّوا اليكم» (42) دعوة واضحة وصريحة إلى إقامة علاقات إنسانية واجتماعية محمودة بين الناس، بالشكل الذي يكون فيه الإنسان مؤثراً بشكل إيجابي بالآخر أيا كان، فبموته وفراقه يشعر الآخر بفراغ مكانه، ويحزن لذلك بسبب الإحساس الإيجابي للعلاقات الإنسانية الصالحة وتأثيرها في النفس البشرية على الرغم من اختلاف الرؤى والأفكار، والتأثير الإيجابي في الآخر لا يتم بصورة عفوية أو عن طريق الصدفة، إنما هو بسبب عوامل اجتماعية وإنسانية نبيلة تضفي للحياة روحها الحقيقية وجمالها الروحي، وبآداب العشرة الصالحة يحين الإنسان لأخيه الإنسان، وبالتفاعل الإنساني تكتمل الحياة بسلام وود بين بني الإنسان (43).

وقوله عليه السلام: «الصدقة دواء منجح، وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم» (44) دعوة صادقة إلى التصدّق وبذل الأشياء المادية والمعنوية لمن يستحقها؛ مما تساعد على رفد الإنسان بفرص الحياة الكريمة وتؤدّي إلى تواصل وتقارب أفراد المجتمع، وتعمل على التقليل من الجرائم والمشاكل التي تحدث بسبب الفقر والعوز وبهذا يكون لها دور كبير في إشاعة الأمن والاطمئنان والثقة بين أفراد المجتمع (45).

إنّ تطبيق العدالة والمساواة يحتاج إلى أجهزة وأدوات وعناصر مؤمنة بالعدل والمساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة تعني بناء علاقات عادلة ومستقرة بين الثروة الاجتماعية والمجتمع ومنع تركز الاموال عند طرف صغير وحرمان الطرف الآخر منه، فمحدودية الثروة الاجتماعية، والأزمات التي يتعرض لها

ص: 63

الإنسان كالحروب، والمجاعات، والامراض والأوبئة والكوارث الأخرى جعلت من العدالة الاجتماعية أن تكون حقاً لجميع أفراد المجتمع؛ كون الثروات تنفذ بمرور الزمن ويهلك الاثرياء، ويبقى المجتمع، ويستمر بفقره وبؤسه إذا لم يكن هناك عدل و مساواة لذا فالعدل يحفظ المجتمع من الأضرار بأنواعها وفي كل الأوقات لاسيّما العصيبة. (46)

کما يبيّن الإمام عليه السلام بأنّ على الحاكم تطبيق القانون بعدالة بين الرعية أي أنّ الأغنياء وأصحاب الجاه ممن لهم مكانة اجتماعية مرموقة أو مناصب معينة، والفقراء والطبقات الكادحة من الشعب يكونون بموضع واحد قبال القانون: «ولا يدعونَّك شرف امريٍ إلى أن تعظِّم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امريٍ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظیماً» (47) وهنا يحث الحاكم على الاهتمام بالطبقات الفقيرة والكادحة من المجتمع: «ثم الله الله في الطبقة السُّفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني...» (48) ويؤكد الإمام على السلم المجتمعي، وعدم سفك الدماء وهنا دعوة إلى نبذ العنف والاقتتال بين الناس، على عكس ما نراه اليوم من ممارسات العنف في مناطق كثيرة من العالم وتحت عنوانات مختلفة، والتعامل المزدوج من قبل بعض قادة الدول المتقدمة تجاه الجماعات الإرهابية المتطرفة وحسب مصالحها: «إيَّاك والدِّماء وسفكها بغير حلِّها فإنَّه ليس شيء أدني لنقمة، ولا أعظم لتبعه، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقِّها» (49).

کما یدعو الإمام عليه السلام إلى الابتعاد عن الاحتكار لكي لا يتزعزع الاقتصاد ومن ثم يجوع الناس، وتتردي حالة المجتمع فيؤثر على تماسك نسيجه الاجتماعي، ويتفشّى بذلك الاستغلال من قبل التجار والأغنياء بأبشع صوره

ص: 64

وهو ما يتنافى مع المبادئ الإنسانية في دولته العادلة: «فامنع من الاحتكار فانَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، منع منه. ولیكن البيع بيعاً سمحاً: بموازين عدلٍ، وأسعارٍ لا تُجحفُ بالفريقينِ منَ البائعِ والمبتاع» (50)

وقوله عليه السلام: «لا تستح من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقل منه» (51) يمثّل دعوة إلى أن يساهم الإنسان ضمن حدود قدرته وإمكانياته المادية والمعنوية، وأن لا يستحي عند عدم قدرته على إنفاق المزيد في الوقت الذي يرى فيه آخرين أكثر إنفاقاً، وإن بعض الأغنياء ممن يسعون لتحقيق شهرة وظهور ووجاهة اجتماعية قد لا يشارك ببذل القليل؛ كونه ينقص من مكانته الاجتماعية فيتهرب من الإنفاق بطريقة أو بأخرى لكي لا يُنتقد من قبل الآخرين، ولا يعيّرونه بالقلة أو الإفلاس.

وفي قوله عليه السلام: «القناعةُ مالٌ لا ينفد» (52) قاعدة اقتصادية واجتماعية ترتقي بالإنسان إلى درجات عالية في سلّم السعادة النفسية والروحية والاطمئنان والثقة بالنفس، وفيها فيض من الطاقة الإيجابية تتحلى بها النفوس السائرة عليها، وهي حث إلى الناس للرضا في ما يتيسر لهم من الأشياء والاكتفاء بما موجود، وعدم اللهفة وراء المفقود، فالتعوّد على القناعة تحصن الإنسان، وتجعله متمكناً مما سيتعرض له من محن وأزمات في الحياة: كالفقر والمرض ... والأمور المعنوية، كالقيمة الاجتماعية... إنّ القناعة والرضا عاملان مهمان وفاعلان في جعل الإنسان في حالة ثقة دائمة بنفسه وراحة ووضع نفسي مستقر، حيث يبرمج الإنسان حياته وفق إمكانياته ومؤهلاته الاقتصادية والاجتماعية المتوفرة مع سعيه المشروع لتحسين أحواله المعيشية، بعكس الإرباك والتخبط الذي يسببه القلق والسعي وراء الأشياء المفقودة التي تكون خارج حدود إمكانياته ومؤهلاته لتحصيلها. (53)

ص: 65

کما حث الإمام الآباء بعدم فرض عاداتهم وتقاليدهم على الجيل الذي يأتي بعدهم؛ كونهم سيعيشون في زمن يختلف عن زمنهم: «علّموا أولادكم على غير عاداتكم فإنَّهم خلقوا لزمان غير زمانكم» (54) فأفكار الناس وأنماطهم الاجتماعية وطرق عيشهم تتعرض إلى تغيّرات فهنالك الكثير من العادات والأمور التي تتعلق بأنماط الحياة وثقافة المجتمع تكون لائقة في زمنٍ ما و مستهجنة في زمن آخر، فمواكبة التقدم الحضاري والفكري المقترن بالحفاظ على القيم الإنسانية النبيلة التي دعا لها جميع الأنبياء ضروري لتقوية البنية الفكرية والحضارية للمجتمع، كما أنّ الكثير من العادات والتقاليد بحاجة إلى غربلة لتحديد المفيد من الضار. (55)

وفي الجانب الإداري نرى أنّ الإمام عليه السلام قام بإصلاحات مهمة وعادلة، وقد حدد لذلك مواصفات خاصة لبعض أصحاب المناصب والذين يتصدون لإدارة وقيادة المجتمع، ومن جملة ما قاله عليه السلام: «إنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنّة فيهلك الأمّة» (56)

وعلى هذا الأساس المتين والوصف الرصين للمواصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها القائد فقد استغني عن خدمات بعض الولاة من الذين لا يتحلّون بهذه المواصفات کما بيّن الأسباب: «ولكنّي آسي أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خَوَلاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإنّ منهم الذي قد شرب فیکم الحرام...» (57) وعلى خلاف ذلك: «لقد سبق للخليفة عثمان أن قرّب ممّن طردهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو

ص: 66

أقصاهم، لقد ردّ عمه الحكم بن أُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصبح يسمّى طريد رسول الله، وآوی عبد الله بن سعد بن أبي سرح وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أهدر دمه، وولّاه عثمان مصر کما ولّی عبد الله بن عامر البصرة، فأحدث فيها من الأحداث ما جعل المؤمنين ينقمون عليه وعلى عثمان» (58)

ص: 67

الخاتمة

توصّل الباحث من خلال البحث إلى النتائج والمقترحات الآتية:

جسّد الإمام علي عليه السلام جميع القيم الإنسانية النبيلة، وإن فكره وسيرته امتداد لفكر وسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله).

سعى الإمام عليه السلام إلى تحرير المجتمع فكريا وحضاريا وعمل على نشر وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان والتسامح واحترام الرأي الآخر، کما عمل على إرساء أسس العدالة والمساواة بين الناس، وحث على التعايش السلمي والمجتمعي؛ لأثره الكبير في تكامل الحياة الإنسانية.

وقوف الإمام (عليه السلام) في جميع مراحل حياته مع قضايا الفقراء والمظلومين والمحرومين.

إنّ التنوّع والتعدد ليس مدعاة إلى الخلاف والصراع، وإنّما يثري الحياة الاجتماعية بالإبداع والتفاعل، وليس لفئة اجتماعية أفضلية على أخرى بسبب اللون أو العرق أو اللغة..

إنّ للتكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والتسامح دور كبير ومهم في ترسيخ الاواصر الاجتماعية وحفظ النسيج المجتمعي.

الحاجة الماسّة لإنشاء مؤسسات ثقافية وفكرية وبحثية تأخذ على عاتقهانشر مبادئ حقوق الإنسان والتسامح والتعايش السلمي والمجتمعي واحترام الرأي الآخر والعدالة والمساواة التي دعا اليها الإمام عليه السلام وجسّدها في حياته، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب بشتى أنواعه.

ص: 68

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة: صبحي الصالح: 81.

2. ينظر: ملامح من عبقرية الإمام: 192

3. للإطلاع بشكل أكثر، ينظر: الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: 157.

4. ينظر: التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة: 138

5. ينظر: التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة: 139 - 140

6. ينظر: التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة: 140

7. الحجرات: 13.

8. ينظر: التعدية الدينية في الفكر الإسلامي: 34 - 36.

9. الروم: 22.

10. الحج: 40.

11. ينظر: التعددية الدينية في الفكر الإسلامي: 36 - 38.

12. نهج البلاغة: ج 3: 93.

13. ملامح من عبقرية الإمام: 111.

14. ينظر: صدام الحضارات: 10.

15. ينظر: الإسلام يقود الحياة: 16 - 17.

16. ينظر: الإمام علي بن أبي طالب علي السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 173

17. نهج البلاغة: ج 3: 250.

18. نهج البلاغة: ج 3: 250.

19. نهج البلاغة: ج 3: 194.

20. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: ج 2: 7 - 8.

21. نهج البلاغة: ج 2: 166.

22. ينظر: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 228

23. المصدر نفسه.

ص: 69

24. روائع نهج البلاغة: 95.

25. روائع نهج البلاغة: 95.

26. يُنظر: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 229

27. المصدر نفسه: 229.

28. المصدر نفسه: 230.

29. الكامل في التاريخ: المجلد الثالث: 265.

30. ينظر: أهل البيت ع ومصلحة الإسلام العليا: 112.

31. نهج البلاغة: تح صبحي الصالح: 347.

32. ينظر: أهل البيت ع ومصلحة الإسلام العليا: 112

33. نهج البلاغة: ج 3: 78 - 79.

34. نهج البلاغة: ج 3: 95 - 96.

35. ينظر: ملامح من عبقرية الإمام: 45

36. روائع نهج البلاغة: 214.

37. روائع نهج البلاغة: 226.

38. نهج البلاغة: ج 3: 60 - 61.

39. نهج البلاغة: ج 3: 231.

40. ملامح من عبقرية الإمام: 99.

41. ينظر: الحرية بين الدين والدولة: 11 - 12

42. نهج البلاغة: ج 3: 153.

43. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: 166.

44. نهج البلاغة:ج 3: 153.

45. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: 207 - 208.

46. ينظر الامام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 226.

47. نهج البلاغة: ج 3: 103.

48. نهج البلاغة: ج 3: 111.

ص: 70

49. نهج البلاغة: ج 3: 119.

50. نهج البلاغة: ج 3: 110 - 111.

51. نهج البلاغة: ج 3: 165.

52. نهج البلاغة: ج 3: 266.

53. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: ج 1: 254.

54. ملامح من عبقرية الإمام: 158.

55. ينظر: المصدر نفسه

56. نهج البلاغة: تح :صبحي الصالح: 189.

57. نهج البلاغة: ج 3: 131 - 132.

58. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 232.

ص: 71

المصادر والمراجع

1. ابن الأثیر، الکامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، المجلد الثالث، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

2. جورج جرداق، الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية، اختصره وحققه حسن حميد السنيد، مطبوعات دار الأندلس - النجف الأشرف، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2010.

3. جورج جرداق، روائع نهج البلاغة، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1426 ه - 2005 م.

4. حسن السيد عز الدين بحر العلوم، التعدية الدينية في الفكر الإسلامي، العارف للمطبوعات، الطبعة الأولى، 2011 م.

5. صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة: طلعت الشايب، الطبعة الثانية، 1999.

6. صبحي الصالح، نهج البلاغة، دار الكتب المصرية - القاهرة، دار الكتاب اللبناني- بيروت، الطبعة الرابعة، 1425 ه - 2004 م.

7. عادل الأديب، الإمام علي بن أبي طالب علي السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام، مطبعة المغرب، الطبعة الأولى، 1434 ه - 2013 م.

8. فاضل الصفار، الحرية بين الدين والدولة، دار سحر للطباعة والنشر والتوزيع، کربلاء المقدسة، العراق، الطبعة الثانية، 1424 ه - 2003 م.

9. فؤاد كاظم المقدادي، أهل البيت عليهم السلام ومصلحة الإسلام العليا،

ص: 72

المؤسسة الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، الطبعة الأولى، مطبعة الهدى، 1419 ه - 1998 م

10. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره).

11. محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، أخلاق الإمام علي عليه السلام، ج 1 - ج 2، دار المرتضى، الطبعة الثامنة، 1436 ه - 2015 م.

12. محمد عبدة، نهج البلاغة، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، ج 1، ج 2، ج 3، مطبعة الإستقامة، مصر.

13. مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية الإمام، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1399 ه - 1979 م.

41. هادي المدرسي، التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1432 ه - 2011 م.

ص: 73

ص: 74

الخطاب الوعظي وهدفه الإصلاحي في سيرة الإمام عليه (عليه السلام) (جوانب من خطبة الوسيلة أنموذجا) إعداد الباحثان أ.م.د أنسام غضبان عبود الباهلي كلية الآداب / جامعة البصرة م. قاسم عبد سعدون الحسيني كلية التربية / جامعة ميسان

اشارة

ص: 75

ص: 76

المقدمة

تُعد خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، منهلاً ثراً لكثير من المعارف والحكم التي تناقلتها الألسن وتعلقت بها القلوب مشغوفة بظاهرها الأنيق وباطنها العميق و أسرارها التي تدفقت من علم الإمام علي عليه السلام، بحراً متلاطماً يغدق فيضهُ على الأزمنة، يحدث كل زمان بلسانه حتى يوم الناس هذا، يُسلط البحث الذي بين أيدينا الضوء على واحدة من تلك الخطب، وهي خطبة الوسيلة التي اجتمعت فيها جواهر من الكنوز البلاغية لأمير المؤمنين عليه السلام، وحكمهِ البليغة، وقد تناول الباحثان جوانب مهمة من هذهِ الخطبة، واقتضت طبيعة الموضوع تقسيمه إلى مقدمة وثلاث مباحث و خاتمة، تناول المبحث الأول مفهوم الخطاب الوعظي وأدواتهِ، أما المبحث الثاني فقد جاء بعنوان النهج الوعظي في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، کما تناول المبحث الثالث، خطبة الوسيلة في محاور عدة وهي:-

1. سندها وأهم مصادرها.

2. عنوانها وتاريخها.

3. محورية قضية الإمامة في خطبة الوسيلة.

4. جوانب من الخطاب الوعظي في خطبة الوسيلة.

ونحن نأمل في عملنا هذا ذكر شيئاً بسيطاً من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ودوره الكبير في تهذيب النفس وبناء شخصية الإنسان، تربية إسلامية تتوافق مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف.

ص: 77

المبحث الأول مفهوم الخطاب الوعظي وأدواتِه

الإطار اللغوي والاصطلاحي

الخطاب لغة: الخطب سبب الأمر، والخطاب مراجعة الكلام والخطبة مصدر الخطب (1)، وفي خطبِ الخاء والطاء والباء أصلان أحدهما الكلام من اثنين، يُقال خاطبهُ يخاطبهُ خطاباً والخطبة من ذلك (2)، والخطب الأمر يقع وإنما سُمي ذلك لما يقع من التخاطب والمراجعة وخطب الخاطب على المنبر، يخطب خطبة ورجل خطیب حِسن الخطبة والجمع خُطباء (3).

المعنى الاصطلاحي: الخطاب في معناه الاصطلاحي يقترب كثيراً من المعنى اللغوي، فالخطاب هو اللفظ المتواضع عليهِ المقصود به إفهام من هو مُتهيئ لفهمهِ، أحترز باللفظ على الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة عن الألفاظ المهملة، وبالمقصود به الإفهام عن كلام يُقصد به إفهام المستمع فإنهُ لا يسمى خطاباً، وبقوله لمن هو مُتهيئ لفهمهِ عن الكلام لا من لا يفهم كالنائم، والكلام يطلق على العبارة الدالة بالوضع وعلى مدلولها القائم بالنفس، فالخطاب أما الكلام اللفظي، أو الكلام النفسي الموجه نحو الغير للإفهام (4).

والخطابة قياس مرکب من مقدمات مقبولة، أو مظنونة من شخص معتقد فيه، والغرض من ترغيب الناس فيما ينفعهم معاشاً ومعاداً کما يفعلهُ الخطباء الوعاظ (5).

من خلال ما ورد من تعريفات نستطيع أن نقول بأن الخطاب عملية تفاعلية تتم بين طرفي الخطاب ، وهي المتكلم والمخاطب (المرسل والمتلقي) وهذهِ هي

ص: 78

عناصر الخطاب (6). وتخضع عملية التواصل بالخطاب لشروط عدة هي:

1. الإفهام باللفظ.

2. أن يكون المتلقي (المُخاطب) متهيئ لفهم المرسل (المتكلم).

3. أن يكون المرسل (المتكلم) معتقداً فيهِ.

4. أن تكون الرسالة (الخطاب) يحمل مضامین مقبولة لدى المتلقي (المُخاطب).

5. أن للخطاب أهداف يتوخاها الخطيب من خطابهِ بحسب نوع ذلك الخطاب (7).

والملاحظ هنا تعدد الآراء والمواقف النقدية المعاصرة في تعريف الخطاب، فالخطاب هو الصيغة التي نختارها لتوصيل أفكارنا إلى الآخرين، والصيغة التي نتلقى بها أفكارهم، فينبثق من المفهوم الضيق إلى الرحب ليدل على ما يصدر عن المرسل من كلام أو إشارة أو أبداع فني، والخطاب يتجاوز حدود اللغة المنطوقة ليضم تحت جوانحهِ كل ما نعبر بهِ عن أنفسنا للآخرين، وعلى مايعبرون لنا بهِ عن أنفسهم، فيولد عندنا لُغتين: منطوقة وغير منطوقة، ونوعين مباشر وغير مباشر أيضاً، فيتنوع الخطاب (8) وتختلف أشكاله ومضامينه وحالاتهِ الدلالية وهو في كل حالة يخضع لقواعد وقوانين مما يستلزمهُ التبليغ من تقنيات ظاهرة أو خفية عمدية أو عفوية، مما يلجأ إليهِ المرسل لتأمين بلوغ مقصود إلى المتلقي بأكبر قدر ممكن من الوضوح والمفهومية والمقبولية، أي أنه يعمل على ضمان أفضل حد ممكن من المقروئية لخطابهِ (9). وقد تعددت أنواع الخطاب بحسب مضامینه إلى عدة أنواع وتقترن بعدة أوصاف مثل: الخطاب السياسي، الديني، الصوفي، التاريخي، الاجتماعي والثقافي وغير ذلك (10).

ص: 79

الوعظ. الأصل اللغوي: الواو والعين والظاء كلمة واحدة، فالوعظ التخويف والعظة، والاسم منه قال الخليل هو التذكير بالخير وما يرق له القلب (11)، والوعظ هو النصح والتذكير بالعواقب، نقول وعظتهُ وعظاً وعظتهُ فأتعظ أي قِبل الموعظة (12).

المعنى الاصطلاحي: الوعظ هو اهتزاز النفس بموعود الجزء ووعيدهُ، وقيل التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والوعظ زجر مقترن بتخويف ودعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها، فالوعظ تذكير بالعقاب والثواب مقترن بالترغيب والترهيب للوصول إلى الطاعة والانقياد لإله الحق بما يخوفها (13). فها هو موضوع الوعظ وهدفه ولا يكون الوعظ إلا بواسطة الخطاب، فالخطاب وسيلة لنقل الموعظة وهو بهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخطاب. ويُدرس الخطاب بأنواعهِ في ميدان الدراسات اللسانية في إطار نظرية تُعرف بالنظرية التواصلية أو التداولية، وفق منهجية تتناول الجانب الوظيفي والتداولي والسياقي في النص أو الخطاب، وتدرس مجمل العلاقات الموجودة بين المتكلم والخاطب مع التركيز على البُعد الحجاجي والإقناعي وأفعال الكلام داخل النص (14)، فهي تهتم بالمتكلم ومقاصدهِ بعدَّهِ محركة لعملية التواصل، وتراعي حال السامع أثناء الخطاب، كما تهتم بالظروف والأحوال الخارجية المحيطة بالعملية التواصلية ضماناً لتحقيق التواصل ولتستغلها في الوصول إلى غرض المتكلم وقصدهِ من كلامهِ (15).

أثر الخطاب وأهميته في بناء الأمة:

تؤدي الخُطب غاية مهمة في حياة الأمة فهي وسيلة لإيصال رسالة تختلف مضامينها ومعطياتها بحسب أهدافها أو غاياتها، وهي بالتأكيد تلامس الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري لعامة الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم

ص: 80

وتوجهاتهم، وهي بهذا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع المُعاش للفرد والجماعة فلا تخرج في مسارها في هذه الأطر، وأن تنوعت موضوعاتها الدينية، التربوية، السياسية والثقافية.

لابد ان يكون للخطاب أثرهُ وانعكاسهُ في المجتمع سلباً وإيجاباً فقد يُعباً الخطيب جمهوره للثورة على ظاهرة اجتماعية منبوذة، أو سلوك منحرف هدام، أو عادات اجتماعية ممقوتة عفا عليها الزمن وعرتها يد الإصلاح والتهذيب، او دعوة للثورة على الظلم والدفاع عن المظلومين، والجهاد لنصرة الدين والذود عن الوطن، أو تحفز النفوس للتخلص من أمراضها وتطهيرها من أدرانها للوصول (17) بها إلى أعلى مراتب الكمال الذي خلقت لأجلهِ، فالخطاب في هذا الإطار يسیر في مسار إيجابي يتوخى الإصلاح والتركيز على البعد الروحي والإنساني في حياة الفرد والمجتمع، وقد يسير الخطاب في مسار سلبي غير مُعلن بل متلبس بلباس الفضيلة، ونصرة الحق والدفاع عن الإنسان ومساندة القيم النبيلة وتوحيد الأمة وحقن دماء أبنائها ووئد الفتن ومتخفياً دون إظهار أهدافهِ الحقيقية، وإنما يحاول التمويه (16)، عن المقاصد والغايات التي وجد لأجلها وعادة ما يكون أصحاب هذا الاتجاه أصحاب السلطة وحاشيتهم وأنصارهم، أو من هم في ركابهم (17)، من وعاظ السلاطين وصنائعهم واللاهثين وراء مصالحهم وغاياتهم المشبوهة، وقد يستغل هؤلاء عواطف الجماهير فيوجهون خطابهم لصالح قضية باطلة (18).

إمكانيات الخطيب وأدواتهه:

لابد للخطيب من امتلاك الأدوات التي تمكنهُ من التأثير في الجمهور وشدهم نحو خطابهِ واقتناعهم بما يدعو إليهِ (19)، ومن أهم هذهِ الأدوات وأكثرها تأثيراً على المخاطب هي اللغة، فالخطاب بحاجة إلى بلاغة وخطيب ضليع في فهم القضايا

ص: 81

والتعبير عنها، ولا بد ان يكون خطابهِ أكثر انسياباً، وتدفقاً دون تكلف في الخطاب، وأن يتصف بعمق انتمائه إلى القضية التي يتحدث عنها، وإلى من يمثلهم أو ينوب عنهم، فالخطيب هو الذات المحورية في أنتاج الخطاب لأنهُ هو الذي يتلفظ به ويجسد ذاتِه من خلال بناء خطابهُ، وهو الذي يوظف اللغة في مستوياتها المتمايزة بتفعيلها في نسيج خطابه ذلك التفعيل الذي ينوع طاقاتها الكامنة (20).

أن طبيعة الخطاب الوعظي أنه خطاب مؤثر يعمل على مخاطبة القلوب وتليينها وخشوعها، وإحداث التأثير على جمهور المتلقين في عملية التواصل اللغوية وهو أهم أهداف اللغة التي يشير إليها فلاسفة اللغة المعاصرين، ولكن التأثير الوجداني الذي يمكن أن يُقاس حصولهُ وتحقيقة من خلال المشاهدة (البكاء أو فيضات الدموع، أو الإقبال الشديد على الواعظ)، او من خلال شعور المتلقي الداخلي (حضور القلب وخشوعه أو فرحهِ أو سرورهِ)، أو من خلال التأثير بعيد المدى والذي يكون بتعديل السلوك من السلب للإيجاب أو التدرج الحسن إلى الأحسن (21).

أن مفهوم التأثير لا يمكن تحديدهُ بمقادير محددة تظهر جملة وتختفي جملة، بل لكل متلق ما يخصهُ من تأثير، وما يترتب على التأثير من نواتج سلوكية واستجابات شرطية، وإذا حاولنا أن نبحث عن سر التأثير في الخطاب الوعظي يمكننا أن نضع أيدينا على سبيين الأول: سحر الخطاب، والثاني: سحر الأداء، وقد شبه الخطاب بالسحر وامام السحر يصبح المتلقي مكتوف اليدين تستمليه رقى الكلام وجماليات اللغة وصرف الأمور في ظواهرها ولا يمتلك المتلقي إلا أن يلين قلبهُ وتذرف عيناه (22). والوعظ المتمكن من أدواتهِ اللغوية يسير في هذا الفلك ألتأثيري على المخاطبين، بما يحويهِ من أدبية تكمن في: المجاز والذي من

ص: 82

شأنِه ان يقرب البعيد القريب ويصور الحسي ويكون قاموساً جديداً للمتلقي يرى من خلاله الأشياء والتشبيهات بطرائقها المختلفة، وما یلحق بها من ضرب الأمثال، كذلك النظم على مقتضى المعاني النحوية ويقصد بها سياق الجمل على هيأة مخصوصة من تقديم وتأخير وذكر وحذف وغير ذلك والاعتماد على الجمل القصيرة غالباً ذات القرع والإيقاع المؤثر على السمع، وكذلك استخدام الجمل الإنشائية بنوعيها، إذ أن هذه الجمل درٌ على مخاطبة الوجدان واستثارة العواطف والاستشهاد والتضمينات من القرآن والسنة النبوية، وبليغ الكلام شعراً ونثراً (23).

أن للايجابية أو التلميحية في اللغة دورها القوي والمؤثر في الخطاب، وهي تختصر معانٍ جمة، وأفكاراً عميقة في كلمة أو كلمات قصيرة (24)، حيث أنها أحد أهم استراتيجيات الخطاب التي يعبر بها المرسل عن القصد بما يُغاير معنى الخطاب الحر في لينجز بها أكثر مما يقوله، إذ يتجاوز قصدهُ مجرد المعنى الحرفي لخطابهِ فيعبر عنه بغير ما يقف عنده اللفظ مستثمراً بذلك عناصر السياق (25)، وبهذا يكون مصدر قوة اللغة الذاتية كونها تحتوي طبقات من المعنى في كل عنصر من عناصرها، فالطبقة الأولى ما تشير إليهِ الكلمات مباشرة أو ما يسمى الدلالة الذاتية، والطبقة الثانية ما تتضمنهُ أو توحي بهِ أو ما يسمى الإيحاء (26).

أما الأداة الثانية التي يجب أن يمتلكها الخطيب فهي مهارة الأداء أو ما أشير إليهِ سلفاً (بسحر الأداء) وهذه الأداة لها ارتباط وثيق بشخصية الخطيب ومدى قوتها وتأثيرها ومكانتها في نفوس المخاطبين فهي بناء مختلط من الذكاء والإبداع والثقة، فالطريقة التي يعبر بها المتحدث عن نفسه لها تأثير في صورتهِ وبخاصة على المدى الطويل (27).

أن مهارات الأداء الخطابي كثيرة جداً، وأهمها استخدام الصوت خفضاً ورفعاً

ص: 83

بطريقة مؤثرة يتفاعل الخطيب بها مع إيقاع كلماته ووقعها في النفوس، ويضاف إلى الصوت وحسنِه تعبيرات الجسد وحركاته وإيماءاتِه وما يظهر عليهِ من ملامح التأثير حماساً وحزناً، وكذلك حسن الوقف على الجمل تامة غير منقوصة مع الابتعاد عن أللحن والخطأ كل ذلك وغيرهِ من مهارات إذا أحاط بها الواعظ علماً وتطبيقاً مع لغة راقية كان التأثير في أوجه وقوتهِ (28).

لابد للخطيب الواعظ أن يكون عالماً حكيماً، ذلك أن الجاهل لا يعرف ما يعظ بهِ وغير الناصح ربما يتخير من الكلام ويستخدم من البيان ما له فيه غرض وغاية ومنفعة صُلح به الناس أم فسدوا كما أن غير الحكيم ربما كان ضرره اكبر من نفعه لو وضع وعظه في غير محله وإيرادهُ في غير موقعهِ. أن الواعظ حكمة والحكمة إذا أعطيتها لغير أهلها فقد ضيعتها وظلمتها والواجب أن يعطى لكل ما يناسبهُ وما ينتفع به ويفهمهُ (29).

ص: 84

المبحث الثاني النهج الوعظي في سيرة الإمام علي (عليه السلام)

كان البعد الوعظي حاضراً في شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهِ السلام، ولم يقتصر على الجانب النظري الذي طغى على خطبهِ وكلماتهِ بل شمِل أيضاً الجانب العملي في كل جزيئية من تفاصيل حياتهِ الشريفة (30)، وهو بهذا يقدم درساً تطبيقياً للأمة إذ لا يكفي أن يكون الواعظ واعظاً بلسانهِ دون عملهِ، كما أنه عليه السلام يتمثل بالنهج القرآني دستوراً للحياة ورائداً للسير في طريق الإصلاح «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» (31)، فالقول والعمل في منظور أمير المؤمنين صنوان يعضد احدهما الآخر لا يفترقان إلا أن يكون النفاق والرياء قريباً لهما، وقد آثر عنه دعائهِ عليه السلام ((اللهم إني أعوذ بك من أن تُحسن في لامعة العيون علانيتين، وتقبح في أبطن لك سريرتي، محافظاً على رئاء والناس من نفسي بجميع ما انت مطلع عليه مني فابدي للناس حُسن ظاهري وأفضي إليك بسوء عملي...)) (32).

حرص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على أن لا يترك مناسبة أو يضيع فرصة إلا واغتنمها موعظة الناس وتذكيرهم بما ينتظرهم من الثواب والعقاب على حِسن عملهم أو قبيحهُ لإدراكهِ عميق اثر الموعظة وأهميتها ولهذا فقد جاء في وصيتهُ لأبنهِ الإمام الحسن عليه السلام قوله: ((أحيي قلبك بالموعظة...)) (33)، كما روي أنه قلما أعتدل به المنبر إلا قال أمام خطبتهِ ((أيها الناس اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثاً فيلهو ولا ترك شدى فيلغو وما دُنياه التي تحسنت له بخلفٍ من الآخرة التي قبحها سوء النظر عنده...)) (34)، فهو لايبدأ حديثه إلا بالموعظة والتذكير، وهذه هي الرسالة التي بُعث بها الأنبياء وسار بها

ص: 85

المصلحون بين الناس ليحيوا في ضمائرهم ما أماتتهُ الغفلة ودفنهُ ركام الذنوب والآثام، وهو قولهُ عليهِ السلام: ((فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستادوهم ميثاق فطرتهِ ويذكروهم من نسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبيلغ ويثيروا لهم دفائن العقول ...)) (35).

خاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الناس على قدر عقولهم، لأنهُ كان يدرك أن قدرات البشر الاستيعابية، وتركيبهم النفسي يختلف فيما بينهم، وقد أثر عنه قولهُ: ((حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون ان يكذب الله رسولهُ...)) (36)، ولو ان الإمام أراد أن يفيض عليهم بغزير ما كان يحمل صدرهُ من علم لأضر بهم ذلك ولكنه علم بما يصلحهم وهو القائل: ((بل اندمجت على مكنون علم لو بحت بهِ لاضطربتم اضطراب الأرشية (37) في الطوي البعيدة...)) (38)، ولكنهُ عليهِ السلام بالرغم من ذلك ترك باب السؤال مفتوحاً لكل باحث عن الحقيقة وكان يقول وهو يضرب على صدرهِ: ((سلوني قبل أن تفقدوني فأن بين جنبي علماً ...)) (39)، ولهذا نرى أن الإمام لم يبخل بالإجابة عن ما كان يُسأل عنهُ فكانت إجاباتهِ بمثابة بحر متلاطم من العلم والحكمة (40)، لم يكن سلام الله عليهِ ناصحاً أميناً لأصحابه، ومن تبعهُ فحسب بل انه بذل النصح لأعدائهِ أكثر مما بذلهُ لغيرهم ليلقي عليهم الحجة ويؤدي ما عليهِ من حق الرعية على الإمام الرفيق بهم الحريص على استنقاذهم من الضلالة وحيرة الجهالة والمآلِ إلى النار، ففي حرب الجمل لم يترك منفذاً للدخول في السلم وحقن دماء المسلمين إلا ولجه وقد بعث إلى الزبير بن العوام (41)، وهو من هو فيمن ألب عليهِ، يدعوه بلين القول ويذكرهُ بالرحم التي بينهما وبمكانه عليهِ السلام من رسول الله صلى الله عليه وآلهِ وسلم، وأنه لم يحد عن نهجه، ولم يغير بعده فعلى ما يقاتله الناس

ص: 86

ونلمس في خطابه إليهِ على لسان عبد الله بن عباس (42)، أسلوباً يفيض محبة ورحمة ويمتزج فيه العتاب بالألم على غير ما توقع من زعماء الحرب وإبطالها من أسلوب التهديد والوعيد والترهيب والغلظة في العقول وهو يخاطب الزبير: ((يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا على ما بدا...)) (43)، ولكن الزبير لم يرتدع ولم يرجع عن غيه، ولم يترك الإمام محاولة أخرى لردهِ، وكان ذلك في ميدان القتال حين خرج أمير المؤمنين عليه السلام حاسراً منوهاً انه لايُريد قتالهُ فناداه: يا زبیر اخرج إليَ فخرج إليهِ شاكاً سلاحه ظناً منه أن الإمام يُريد قتالهِ ولكنه عليه السلام عانقهُ وذكرهُ بحديث رسول الله صلى الله عليه وآلهِ وسلم بأنه - أي الزبير - سيُقاتل علياً وهو له ظالم فاستغفر الزبير وقال: والله لو ذكرتها ما خرجت، فقال الإمام: يازبير أرجع ولكن الزبير أبى وقال: هذا والله العار الذي لا يغسل وكان أنه لو رجع سُيرمى بالجبن والتخاذل، فقال له الإمام: أرجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار فرجع الزبير، ثم كان ما كان من اتهام ولدهِ عبد الله (44) له بالجبن وأنه خاف على نفسهِ سيوف آل أبي طالب، ثم قتل عمر بن جرموز (45) له (46).

أما طلحة بن عبيد الله (47) فقد حاول الإمام رده وهو الآخر حين رجع الزبير فنادى: يا أبا محمد مالذي أخرجك؟ قال الطلب بدم عثمان قال الإمام عليهِ السلام قاتل الله أولانا بدم عثمان أما سمعت رسول الله يقول: اللهم والِ من ولاه وعادِ من عاده وأنت أول من بايعت ثم نكثت، وقد قال الله عز وجل ((ومن ينكث فإنما ينكث على نفسهِ ...)) (48)، فقال استغفر الله ثم رجع فلما رآه مروان بن الحكم (49) قال: رجع الزبير ويرجع طلحة فرماه في أكمله فقتله (50).

وفيما كتب الإمام (عليه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان ما ينبا عن تلك

ص: 87

السيرة في بذل النصح والموعظة للموالي والمخالف على حد سواء، إذ كتب إليهِ يقول: ((وكيف أنت صانع إذ تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيهِ من دُنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذتها، دعتك فأجبتها وقادتك واتبعتها، وأمرتك فأطعتها، وانه يوشك أن يقفك واقف على ملا ينجيك منه منج فأقعس عن هذا الأمر...، ولا تمكن الغواة من سمعك، والا تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك...)) (51).

في حربه عليه السلام لم يكن أقل رغبة ولا حرصا على هدايتهم بالتذكير والموعظة، وكانوا بعد منصرفه من صفين (52)، قد اجتمعوا بحروراء (53) فأرسل إليهم أبن عباس يناظر هم فلم يرجعوا، ثم ذهب إليهم بنفسهِ فناظرهم ووعظهم وكانوا ثمانية آلاف وقيل أثنا عشر ألفاً (54)، فرجع منهم ألفان (55)، كما أنه خطب فيهم يوم النهروان وقبل أن يبتدئهم بقتال (56) قائلا: ((فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى هذا النهر، وباهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم، قد طوحت بكم الدار واحتبتكم المقدار، وقد كنت نهيتكم عن هذهِ الحكومة فأبيتم على إباء المخالفين المنابذين ...)) (57).

واجه الإمام مجتمعاً عاني من كثير من السلبيات والأمراض الاجتماعية الخطيرة، والتي كانت موجودة قبل بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) (58)، وقد استطاع رسول الله أن يُغير كثيراً من القيم والعادات والأعراف التي ابتدعتها جفوة الصحراء وطبائعها القاسية، وأن يُسير بهذا المجتمع قُدماً في طريق الإصلاح والانفتاح على القيم الإسلامية التي تجعل من الإنسان قيمة عليا وكرامة لاتُمس، إلا أن ذلك المشروع الإلهي العظيم قد أنحرف عن مسارهِ بوفاته، فقد أبت الزعامات القرشية وأنصارها من القبائل الأخرى التي سكنت على مضض

ص: 88

حتى حين أن يسير المجتمع سيرته التي بدأت مع البعثة النبوية الشريفة، وما أن أغمض النبي عيناه راحلاً حتى تكشفت مكامن الصدور وكان ما كان من أمر السقيفة (59)، وسلبت الإمام علي عليه السلام حقهُ بالخلافة واستقبال عهد جديد، تُعد فيهِ العصبية القبلية والطبقية الاجتماعية أساساً ومرتكزاً يتبناه المجتمع شكلاً ومضموناً في نظمه السياسية والإدارية والاجتماعية (60).

كان عهد الخليفة الأول أبو بكر والثاني عمر بن الخطاب ممهداً لما أثمر في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (61)، الذي بلغت فيهِ الأوضاع غايتها في الابتعاد عن النهج النبوي والإسلام المحمدي الأصيل الذي تمثلهُ النبي محمد طيلة فترة حياتهِ المباركة وقد بدا واضحاً كيف أن تلك السياسة تمخضت عن إثراء طبقة دون أخرى فمن أنثالت عليهم غنائم الفتوح وأموال الخراج والجزية وغيرها (62)، على حساب فقر الأكثرية وتردي أحوالهم وتفاقم مشكلات التفاوت الطبقي وتداعياته، وعادت الأيدلوجية القبلية المتعصبة المقيتة تنتج قيمها ومتبنياتها الفكرية في ظل نظام يحتضنها ويروج لها، ولعل مقولة سعيد بن العاص (63) ((إنما السواد بستان لقريش...)) (64)، تكشف عن معالم الذهنية القرشية المتطرفة وابعاد منظورها الاستعلائي الذي بقي مغموراً برواسب الماضي وجاهليتهُ الجهلاء وان توشح بثوب الإسلام. وتحدثنا كتب التاريخ عن حجم الثروات التي جمعها ارستقراطيون قرشيون من امثال الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ومروان بن الحكم وأبو سفيان وابناؤه (65)، وعمر بن العاص (66) فمن شغلوا مناصب في دولة الإسلام محاولين تكريس تلك السياسة التي خُطط لها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل الرجوع بالأمة إلى ما كانت عليهِ قبل الإسلام (يعطى رقم) (67).

ص: 89

حفلت خطب الإمام علي عليه السلام بالكثير من الإشارات تصريحاً وتلميحاً عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، وما تركتهُ من أثار سيئة على المجتمع حتى بعد توليهِ الخلافة سلام الله عليهِ، إذ لم يستطع المجتمع أن يتخلص من تلك الآثار سيما وأن قادة الحزب القرشي المتنفذون ما فتئوا يعارضون السياسة الإصلاحية التي تبناها الإمام وأعلنها حين أختارهُ الناس للبيعة بعد مقتل الخليفة عثمان قائلا: ((أعلموا أني أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغِ إلى قول القائل، وعتب العاتب...)) (68) فكان اول ما بدأ به برنامجهُ الإصلاحي تغيير ضوابط توزيع العطاء وأعادتهِ إلى ما كان عليهِ أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد أفرز هذا الأجراء معارضة شديدة من الزعامات القرشية الذين كبرُ عليهم أن يساوى بهم غيرهم بدعوى سبقهم في الجهاد ونصرة الإسلام وهذا ما صرح به طلحة والزبير عندما سألهم الإمام عن أسباب خلافهما له بقولهم ((أنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا أو رجلنا وظهرت عليهِ دعوتنا ...)) (69)، فكان رد الإمام حاسماً بقوله: ((قد وجدت أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك وأما قولكما جعلت فيئنا وما افاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا، فقديما سبق قوم إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله... والله موفٍ السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم)) (70).

يمكننا أن نلمح في خطب الإمام أشارات واضحة لأسباب الفساد ومكامن الداء التي أنهكت المجتمع الإسلامي وأضعفت وازعهِ الديني وأفسدت منظومتهِ القيمية فتسربت إليهِ الأسقام وعصفت بهِ ريح الهمجية الجاهلية، وفي مواعظهِ عليه السلام تفصيلات وافية وإيضاحات كافية لرسم صورة واضحة تغني عن

ص: 90

الشرح الطويل ومن اصدق منه عليهِ السلام في كشف الحقائق وتوضيح ما طمس وما غُيب ففي خطبة له عليهِ السلام بعد مقتل محمد بن ابي بكر يُبين ما كان من أحداث وقعت له مع من سبق من الخلفاء وما جرى على الأمة بعد مصيبة فقد رسول الله، غذ يقول بعد أن يُبين منزلتهُ صلى الله عليهِ وسلم وفضلهُ على الأمة وما كان بعد وفاتهِ من أحداث السقيفة: ((فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى صحف دين الله وملة محمد صلى الله عليهِ وسلم فخشيتُ أن لم انصر الإسلام وأهله أن رأى فيهِ ثلماً وهدماً يكون المصاب بهما عليّ أعظم من فوات ولاية أموركم... فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعتهُ ونهضت فيتلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق...)) (71)، ثم يتحدث بعد ذلك عن مسيرتِه مع الخليفة الثاني عمر وكيف صرف الأمر عنه إلى عثمان تمهيداً لأن تكون الخلافة في بني أمية بقولهِ عليهِ السلام: ((وأخرجوني منها رجاء أن ينالوها إذ يئسوا أن ينالوا بها من قبلي...)) (72)، ثم يعرض إلى ما جرى من قتل عثمان وبيعة الناس له ونكث الناكثين والقاسطين والمارقين (73)، وتُعد هذه الخطبة وثيقة تاريخية لأحداث تلك الفترة العصيبة من تاريخ الإسلام، کما عرض في خطبتهِ المعروفة بالقاصعة لطرف من التاريخ السياسي والاجتماعي عن المسلمين في تلك الفترة في أطار وعظي بليغ أختص بذم الكبر والعصبية والحمية وتمكنها من الكثير من المسلمين حتى ذهبت بدينهم فربط بين الغنى والعصبية. يقول (عليهِ السلام): ((وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لإثارة مواقع النعم فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين...)) (74)، في أشارة إلى الزعامات التي أتخمتها الأموال التي جُمعت بغير حق فباع أصحابها دينهم بدنياهم دون النظر إلى مصلحة الأمة، ومثل هذه المضامين أيضاً جاءت في الخطبة المعروفة بالشقشقية (75).

ص: 91

المبحث الثالث خطبة الوسيلة

1- خطبة الوسيلة . سندها وأهم مصادرها

أقدم المصادر التي وردت فيها الخطبة هو كتاب الكافي للكليني (76)، المتوفي سنة 329 ه، كما وردت بعض مقاطع الخطبة في كتاب التوحيد والامالي للشيخ الصدوق (77) المتوفي سنة 381 ه، كذلك فقد وردت في كتاب تحف العقول عن آل الرسول لأبي محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني (78) وهو من اعلام القرن الرابع الهجري، أما الشريف الرضي (79) المتوفي سنة 404 ه فلم يذكر الخطبة في كتابهِ نهج البلاغة بعنوان مستقل، لكن معظم عباراتها ورد في باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليهِ السلام ومواعظه، ويوجد هناك بعض الاختلافات في عبارات الخطبة بين الزيادة والنقصان في هذهِ المصادر ولكن هذه الاختلافات لاتغير في جوهر معانيها، وقد نقلت معظم المصادر المتأخرة الخطبة عن كتاب الكافي (80)، وأشار العلامة المجلسي الثاني (81) المتوفي سنة 111 ه في كتابهِ مرآة العقول عن شرحهِ لها بأن سندها ضعيف لكن قوة مبانيها ورفعة معانيها تشهد بصحتها ولا تحتاج الى سند، أما سند الخطبة كما ورد عند الشيخ الكليني محمد بن علي بن معمر (83) عن محمد بن علي بن عكابة التميمي (84) عن الحسين بن النضير الفهري (85) عن أبي عمر أبي عمر الاوزاعي (86) عن عمر بن شمر (87) عن عمر بن شمر ( عن جبر بن يزيد (88) عن الإمام أبي جعفر الباقر عليهِ السلام ، بالرغم من ضعف سند هذهِ الخطبة إلا أن المتمعن في مضامين متنها يُدرك أنه لأمير المؤمنين عليه السلام لما عُرف عن بلاغتهِ وعمق معاني كلامه عليه السلام وهو ما أشار إليهِ العلامة

ص: 92

المجلسي فيما سلف (89)، كما أن المنهج الذي يتبعهُ الإمام في هذهِ الخطبة هو ذاتهُ الذي نراه في خطبة الأخرى (90)، وسنعتمد في دراستنا للخطبة على كتاب الكافي للشيخ الكليني لأنه أقدم المصادر التي نقلت الخطبة وأوثقها بالنسبة لغيرها (91).

2- خطبة الوسيلة عنوانها وتاريخها

يبدو أن عنوان الخطبة قد استوحى مما جاء في أحدى فقراتها التي اشتملت ذكر الوسيلة ومقامها وكيفيتها ومن عليها (92)، وهي الدرجة التي وعد الله نبيهُ في الجنة وقد وصفها الإمام عليهِ السلام بقوله: ((إلا وان الوسيلة على درج الجنة وذروة ذوائب الزلفة ونهاية غاية الأمنية لها ألف مرقاة ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام...)) (93).

3- محورية قضية الأمامية في خطبة الوسيلة

تُعد خطبة الوسيلة من خطب أمير المؤمنين التي تزخر بكنوز من المعارف والحكم العلوية الفريدة التي شملت كل أركان المنظومة الدينية التي تضم العقائد، العبادات، الأخلاق. وتشير المصادر إلى أن الإمام خطبها في الناس بعد سبعة أيام (94) من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (95)، ولهذا التاريخ أهميتهُ فهو قريب عهد بمصاب فقد رسول الله ذلك الحادث الجلل الذي كان فاتحة لأحداث جسيمة وقعت كان لها أثارها في حياة الإمام عليه السلام والأمة الإسلامية جمعاء، ولهذا نراه عليهِ السلام يسهب في الحديث عن ظلامتهِ وما أفضت إليهِ كارثة السقيفة من حوادث ورزايا، لكن الإمام عليهِ السلام قبل أن يتحدث عن نفسهِ يتحدث عن مقام رسول الله صلى الله عليهِ وسلم وانه كان أمل الأمم ومخلصها الذي إليهِ يتطلعون ((فما من رسول سلف ولا نبي مضى إلا وقد كان مخبراً

ص: 93

أمتهِ بالمرسل الوارد من بعده مبشراً برسول الله صلى الله عليهِ وسلم، وموصياً قومه باتباعهِ فكانت الأمم في رجاء من الرسل وورود من الأنبياء...)) (96)، ثم يصف عليهِ السلام مصاب فقده فيقول: ((ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله ختم بد الإنذار والأعذار وقطع به الاحتجاج...)) (97)، وبعد أن تحدث الإمام عن طاعة النبي وإنها قرنت بطاعة الله فكان ذلك دليلاً على ما فوض إليهِ وشاهداً له على من اتبعهُ وعصاهُ عرج بعد ذلك للحديث عن نفسهِ وأفاض في بيان حالهِ ومكانهِ من الله ورسولهِ صلى الله عليهِ وسلم وما خصهُ بهِ من مقامات الخلافة الإلهية التي فُضل بها على غيرهِ إذ يقول: ((فأن الله تبارك اسمهُ امتحن بي عباده، وقتل بيدي أضداده وأفنى بسيفي جحادهِ، وجعلني زلفة للمؤمنين وحياض موت على الجبارين وسيفه على المجرمين ... واصطفاني بخلافتهِ في أمتهِ...)) (98)، ثم يتحدث عليهِ السلام عن بيعة القيروان وأن الله أكمل الدين بولايته فكانت ولايتهِ ولاية الله وعداوتهِ عداوة لله وكمال الدين ورضا الرب وكان هذا من فضل الله عليهِ دون غيرهِ من سائر الناس ((في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع فطال لها الاستماع...)) (99).

يتبين من خلال ما تقدم الصلة الوثيقة بين موضوع الخطبة والظرف الذي قيلت فيهِ، وكيف أن الإمام عليهِ السلام قد أوضح محورية قضية الإمامة وإنها منصب الهي لا دنيوي، وأن ما وقع من اغتصاب لحقهِ عليهِ السلام هو اعتداء على حق من حقوق الله وتضييع لاصل من اصول الدين التي لا يصح الإسلام إلا باجتماعها، ولهذا فقد أكد الإمام عليهِ السلام على هذا الأمر في أكثر من مناسبة (100)، حاول أن يربط دائماً في خطابه الوعظي بين قضية الإمامة ومواعظه الدينية معتبراً أن معرفة الإمام ومنزلة الإمامة هي التي توصل إلى معرفة الله الحقة،

ص: 94

وأنها السبيل الوحيد للوصول إلى حقيقة التوحيد فإذا أجهل المسلمون معرفة إمامهم جهلوا سبل الوصول إلى تلك الحقيقة التي لا يمكن الولوج إلى بيان معارفها إلا من خلال رسول الله صلى الله عليهِ وسلم، ولهذا فقد كان من أهم نتائج تنحية الإمام وأهل بيتهِ عن مراتبهم ومناصبهم أن تعددت النظريات والفرق والتيارات الفكرية في تحديد أطر المعارف العقائدية التي تُعد أهم مرتكزات المنظومة الدينية تى انتهى المسلمون إلى تجسيد الذات الإلهية وتشبيهها والتخبط في الوصول إلى معرفتها (101)، فإذا كان الأساس الذي قامت عليهِ العقيدة باطلاً فأن البناء الديني بأكملهِ سيكون باطلاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام أو الدين معرفتهِ (102).

4- جوانب من الخطاب الوعظي في خطبة الوسيلة

يبدأ الإمام خطبتهِ بالحمد والثناء على الله وذلك بالقول: ((الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجودهِ، وحجب العقول أن تتخيل ذاتهِ لامتناعها من الشبه والتشاكل، بل هو الذي لم يتفاوت في ذاتهِ ولا يتبعض بتجزئة العدد في کمالهِ...)) (103).

استفتح الإمام علي عليه السلام كلامهُ كما هو في أغلب خطبه الوعظية بالحديث عن أصول الدين وأول هذه الأصول وأهمها التوحيد، فالتوحيد في علم أمير المؤمنين يمثل منهجاً مستقلاً لم يُسبق إليهِ في معارف التوحيد ففي نهج البلاغة وحده خمسون خطبة عن التوحيد عدا ما هو مثبوت في الكتب من النصوص الأخرى (104)، إذ أجتهد أمير المؤمنين عليه السلام في إيضاح التوحيد الحقيقي حتى في أحرج الظروف وأشدها صعوبة والرواية التي ينقلها الشيخ الصدوق، أصدق دليل على ذلك إذ يروي: أن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليهِ السلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول أن الله واحد؟ فحمل الناس عليهِ وقالوا يا أعرابي أما

ص: 95

ترى ما فيهِ أمير المؤمنين من تقسم القلب، فقال أمير المؤمنين عليهِ السلام: دعوة فان الذي يريده الأعرابي هو الذي تريده من القوم ثم أنبرى أمير المؤمنين في بيان معاني التوحيد وأدلته، وهو في ذلك الظرف الحرج من احتدام صراع الحرب (105).

ولقد تعددت مذاهب المعرفة الدينية والإنسانية، واختلفت في معنى الوحدة الإلهية، وفي العصر الإسلامي تبلورت عدة اتجاهات توزعت على المناهج المشهورة في المعرفة وهي: الكلامي، الفلسفي والعرفاني بيد أن الرؤية ظلت مشوبة بالنقص والسذاجة حتى مع جهود عقول فلسفية جبارة برزت على هذا الصعيد (106).

يُشير الإمام عليهِ السلام إلى أن أقوى الأدلة على وجود الله سبحانهُ وتعالى هو عجز الإنسان أن يتوهم كنه هذا الوجود الإلهي او يتخيل جوهرهِ، لأن الأوهام لاتدرك إلا المعاني الجزئية المعلقة بالمحسوسات والمواد الجسمانية كالوضع والتحيز والمقدار ونحوها والله سبحانه ليس شيئاً من هذهِ الأمور، فلا يمكن للأوهام أن تدركه وتطلع على حقيقته نعم لها أن تنال وجودهِ لظهورهِ في صورة وجودها ووجود سائر مدركاتها وعوارض وجوداتها والتغيرات اللاحقة بها من جهة ما هو صانعها وموجودها إذ الوهم عن مشاهدة هذهِ المدركات الشخصية يحكم بذاتهِ أو بمعونة العقل بوجودهِ تعالى لحاجتها إلى موجد ومقيم ومغير (107)، فلا سبيل للمحدود المتناهي أن يعلم كنه اللامحدود واللامتناهي ثم يعرج الإمام بعد ذلك ليُبين خصائص تلك الوحدة فهو الذي ليس بذي أجزاء متفاوتة مختلفة (108)، کما انه سبحانه لا يمكن أن تكون وحدته كوحدة العدد فالوحدة العددية (109) يمكن تجزئتها وتبعيضها، ولكن وحدته سبحانه وتعالى وحدة لا تتجزأ ولا تتبعض وهذا من خصائص الوحدة اللا عددية الحقيقية الحقة، وهو من كمالاتهِ سبحانه فالعدد هو الذي يتجزأ ويتبعض (110).

ص: 96

ويسترسل الإمام في بيانه لبعض خصائص الذات الإلهية فالله سبحانه وتعالى لا يكون في مكان والخلق في مكان مباين لاستحالة أن يكون له مكان فيكون البعد بينه وبينها مكانياً كما هو بين الأشياء المتباعدة بل المراد بمفارقتهِ للأشياء مباينة ذاتهِ وصفاتهِ عن مشابهة شيء منها، وهو تمكن منها ومحيط بها بالعلم والقدرة لا بالمداخلة والمازجة الظرفية (المكانية) (111)، وقد اشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه الحقيقة أيضاً في خطبة التوحيد بقوله: ((موجود لا عن عدم مع كل شيء لا بمفارقته وغير كل شيء لا بمزايلة...)) (112).

يتناول الإمام في الفقرة الأولى من كلامه أيضاً صفة من صفات الله وهي العلم فالله عالم إلا أن صفة العلم غير زائدة عنه - أي أن العلم شيء والذات الإلهية شيء آخر - بل أن صفة العلم وباقي صفاتهِ الأخرى هي عين ذاتهِ فالله هو العالم (113)، وأن علمه لا يكون بأداة أو بواسطة كما أن علمه بالمحسوسات ليس منه جهة الحواس والآلات الجسمية والقوى البدنية كعلم الإنسان بها فهو منزه عن الصفات الجسمانية والأدوات البدنية (114)، ثم يتحدث عليهِ السلام عن أزلية الله سبحانه وتعالى وأبديتهُ وهو في هذا البيان الرائع والبليغ لخصائص الذات الإلهية إنما يبني على القاعدة التي أسس لها في بداية خطبتهِ في إيضاحاتهِ للوحدة غير العددية اللا متناهية واللا محدودة الله سبحانه وتعالى، فكانت الخصائص التي أشار إليها بمجملها إنما هي النتيجة الحتمية لتلك الوحدة الحقيقية والحقة (115).

ثم يجعل الإمام عليهِ السلام الإقرار اللساني بالوحدانية والشهادة بنبوة النبي محمد صلى الله عليهِ وسلم تالية للمعرفة، ونتيجة لها وان ذلك الإقرار هو المحصلة التي ترفع القول وتضاعف العمل عند الله، فلا تصح الثانية دون الأولى أي لا يصح الإقرار ما لم تترسخ المعرفة وتبنى على أساس سليم، فالإقرار بالشهادتين

ص: 97

هو الإذعان والتسليم ((خف ميزان ترفعان منه، وثقل ميزان توضعان فيه وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار والجواز على الصراط، وبالشهادة تدخلون الجنة وبالصلاة تنالون الرحمة، فأكثروا من الصلاة على نبيكم أن الله وملائكتهِ يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما...)) (116).

ينتقل الإمام بعد ذلك إلى الفقرة الثانية للحديث عن الجانب الأخلاقي في حياة الإنسان، وتشكل ثنائية الفضيلة والرذيلة الركيزة الأساسية في خطابهِ الوعظي، وهو يبدأ كلامه في هذهِ الجزئية المهمة بالنداء (أيها الناس)، وحرف ياء يفيد النداء والتنبيه (117)، وكأن الإمام يُريد أن ينبه إلى عظيم ما سيقوله كما انهُ لم يحدد كلامه للمسلمين أو المؤمنين أو أي فئة دون أخرى، أنه يوجه خطابه للناس من أي دین أو ملة أو طائفة أو جنس، وفي كل مكان وزمان وهو يتمثل في هذا الأسلوب المنهج القرآني في جانب من جوانبهِ فهذا النداء ورد في القرآن الكريم أحدى وعشرون مرة (118)، مما يوحي أن هناك خطاباً عاماً في القرآن يشمل المسلمين وغير المسلمين، والإمام في هذهِ الفقرة من خطبتِه يضع دستوراً للحياة يمكن أن يتمثل خطاه المسلمون وغير المسلمين، وإذا كانت الأديان السماوية تنبع من منهل واحد فلا بد أن تتوافق فيها الروى وتتلاقى فيها الأفكار، ولم يأتِ الإسلام إلا ليكمل ذلك المسار ويصحح ما حرفه البشر من مبانيها الفكرية وتشريعاتها السمحاء.

((أيها الناس أنه لا شرف له أعلى من الإسلام)) (119)، وقد جعل أمير المؤمنين الإسلام منبعاً لكل فضيلة وخلق رفيع وهو أساس لبناء فردي واجتماعي سليم ومتكامل يكون الإسلام الحقيقي محركه الفاعل في المعاملة بين الناس فلا يتعاملون فيما بينهم إلا على أساسه، وقد اتجه كثير من المسلمين بالإسلام اتجاه عبادة

ص: 98

وحسبوه صلاة وصوماً وتسبيحاً وتناسوا جانب المعاملة فيهِ في حين أن الإسلام يهتم اهتماما كبيراً بالمعاملة، ومن القواعد التي وضعها الأصوليون أن صفوف الله مبنية على المسامحة، وحقوق الناس مبنية على المشاححة، فإذا قصر المسلم في حق من حقوق الله فأن التوبة تغفر وعفو الله قد يشملهُ، ولكن إيذاء الناس لا يغفر إلا إذا عفا الناس. الإسلام ينظم علاقات الناس بالناس على أساس من الحب والعدالة مع إتباع النظم الإسلامية في البيع والشراء والميراث والزواج والطلاق وغيرها. ومع أتباع آداب الإسلام في معاملة الناس والإخلاص للعمل ولتضامن في أداء الواجب والبعد عن إيذاء الناس، كل هذا وما يماثله أجزاء مهمة من الدين الإسلامي ولا يكمل الدين بسواها (120)، ولهذا فان البعد الأخلاقي أهم مصداق من مصاديق الإسلام وعظمتهِ.

يجمع الإمام عليه السلام في هذهِ الفقرة من خطبتهِ بين جملة من الصفات والمزايا الروحية المحمودة التي هي في حقيقتها جزء من رصيد المؤمن في رحلتهِ نحو الكمال الإنساني وهي: التقوى، الورع، التوبة السلامة - عن إيذاء الناس - (121). لعل ترتيب هذهِ الألفاظ في خطبة الإمام عليهِ السلام له دلالتهُ فهو يبدأ بالتقوى ويصدر كلامه بالقول ((لا كرم أعز من التقوى...)) (122)، فيجعل التقوى كرم فيها غاية وعزة ليس في غيرها، والعزة أما العظمة أو القدرة أو الغلبة والتقوى مستلزم لجميع ذلك لأنها تحمي أولياء الله، وألزمت قلوبهم مخافتهِ حتى أسهرت لياليهم وأظمأت هواجرهم وتربط الأبدان بالعبادات فصاروا بذلك من أهل العظمة والقدرة والغلبة لأنهم حزب الله الغالبون (123).

وقد وردت لفظة التقوى في القرآن الكريم في أكثر من معنى فقد جاءت بمعنى الخشية في أكثر من موضع لكن حقيقة التقوى، وأن كانت هي التي

ص: 99

ذكرت بمعنى الخشية إلا أنها جاءت والغرض الأصلي منها الإيمان تارة والتوبة تارة أخرى والطاعة ثالثاً، وترك المعصية رابعاً والإخلاص خامساً، والتقوى مقام شريف بقوله تعالى: ((أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون...)) (124)، وقال: ((أن أكرمكم عند الله أتقاكم)) (125) (126)، ولهذا فأن الإمام يبدأ بها فهي كلمة تتسع لمعانٍ كثيرة أختصرها الإمام عليه السلام في كلام له آخر بقولهِ: ((التُقى رئيس الأخلاق...)) (127)، أي أفضلها وبذلك سادها ورئسها (128)، ويعني بها الأخلاق الدينية (129).

وهي كل صفة من الصفات التي ذكرها الإمام مرتبطة بما قبلها وبعدها، تؤدي إليها ولا تنفك عنها، وقد استخدم الإمام عليه السلام صيغ المبالغة في الألفاظ ((أعلى، أحرز، أنجح، أجمل، أمنع، أذهب، أغنى...)) تدل على أن لكل صفة من صفات الكمال مراتب في هذا الوجود متقدمة على ماقبلها، (فعالٍ وأعلى، وحرز وأحرز، وناجح وأنجح، وجميل وأجمل...))، وهذا يترتب عليهِ أن يتفاوت المؤمنون في مراتبهم كلما ساروا في طريق تحصيل الكامل فالأكمل، يحاول الإمام في خطابهِ الوعظي أن يربط بين هذهِ الصفات وآثارها في تهذيب النفس، فان ثمرة تحصيلها ينعكس بالدرجة الأولى والأساس على الإنسان من الداخل فتظهر آثارها على أفعاله من الخارج، الجوانح، الجوارح وبهذا ينوه سلام الله عليه بأهميتها في بناء الإنسان لبناء مجتمع صالح وسوي.

ينتقل الإمام في المقطع اللاحق من الخطبة للحديث عن الصفات المذمومة في الإنسان والتي هي نقيض ما تحدث عنه في المقطع الذي سبقهُ فهي صفات سوء تهوي بصاحبها في دركات التسافل والانحطاط فتمثل به عن طريق السلامة وهو رضا الله إلى ما هو دونه من حسرات وندامة (الرغبة، الحسد، البغي، الطمع،

ص: 100

...)، فالإنسان الذي تتسرب إليهِ هذهِ الآفات الروحية، إنسان مهدوم من الداخل، وكل آفة من هذهِ الآفات لها آثارها وانعكاساتها على الذات الإنسانية.

الرغبة مفتاح للمتاعب في حياة الإنسان، لأن في تحصيل ما يرغب فيه وحفظه تعب شديد مع عدم الحاجة إليها (الاحتكار مطية النصب)، شبه الإمام الاحتکار - وهو جمع المال وحبسهِ - بالمطية وهي ما يركبه الإنسان للوصول إلى غاية هي في حقيقتها جالبة للمتاعب، أما الحسد فهو المرض المفسد للدين لأن الحاسد يضاد الله في إرادتهِ في التقسيم والتدبير والأفضال والأنعام ويحتقر نصيبه ويكفر بهِ ويتمنى زوال نعمة الغير، لما يعمهم من خير، وهذا يصرفه عما يعود نفعه عليهِ من تحصيل الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وكل هذا موجب لفساد دين الحاسد (130)، وقد نبه الإمام علي عليهِ السلام إلى أثر الحسد في هدم الدين في خطبتهِ المعروفة بالقاصعة في حديثه عن قصة سيدنا آدم عليهِ السلام وإبليس فأن حسد إبليس لآدم أحبط دينه وجهده الجهيد في العبادة التي طالت (ستة آلاف سنة لا يُدري أمن سني الدنيا أم سني الآخرة) (131)، ولهذا قال عليهِ السلام في خطبة أخرى له ((لا تحاسدوا فان الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب...)) (132).

ثم يتحدث الإمام عليه السلام عن الحرص فأنه يقول: ((دع للتقحم في الذنوب)) لان الحريص لا يبالي الدخول في المحرم من المكاسب أو المباح المذموم منها (133)، والتقحم في الذنب الدخول فيهِ من غير روية (134)، وأن كل ذلك داعي للحرمان، ولعل الإمام يقصد بالحرمان هذا الحرمان في الدنيا والآخرة فالحريص على الدُنيا يُحرم سكينة النفس لأنه في تعب دائم لحرصهِ على ما يجمع وخوفهِ من ذهاب ما بيدهِ فهو محروم، وأن ملك ماملك وأما حرمانه في الآخرة فهو

ص: 101

الحرمان من رضوان الله ورحمتهِ للذنوب التي جناها حرصاً على الدنيا غير مبالٍ بسخط الله.

والبغي سائق إلى الحين فبالغي الى الظلم والاستطالة ومجاوزة الحدود كلها أمور تقود الإنسان إلى حينهِ أي هلاکهِ (135)، ولهذا روى الإمام زین العابدین علیهِ السلام بالقول: ((الذنوب التي تُغير النعم البغي على الناس، الزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف وکفران النعم...)) (136)، فجعل عليهِ السلام البغي أول الذنوب التي تِغير النعم، وقد يسلب الإنسان نعمة الحياة حين يهلکه الله بذنوبهِ، أما الشدة والطمع فصفتان ترتبط أحدهما بالأخرى ولذلك والى بينهما الإمام في حديثه، فالطمع أبن الشره ولا يطمع الإنسان إلا حين يكون حريصاً على أن ينال فوق ما عنده فلا ينتهي به الطمع عند حد من الحدود، كما لا ينتهي بهِ الأمل وان كان أملاً خائباً ورجاه يؤدي إلى الحرمان وتجارة تؤول إلى الخسران، وهي تجارة الدنيا التي هي غير تجارة الآخرة الرابحة دائماً، فكل حال من هذهِ الأحوال هي نتيجة لما قبلها وسبب لما بعدها وهي بالتالي الثمرة التي يجنيها الإنسان حين يتسافل بهِ عمله القبيح وتسقطهُ أخلاقه وصفاته الذميمة التي ذكرها الإمام عليهِ السلام وجعل الرغبة مفتاح كل ذنب يرتكبه، وهي سبب تعبه وشقاؤه (137)، حتى إذا ما انغمس بكثرة الذنوب أحاطت به کما تحيط القلادة بالعنق، ولذلك قال الإمام ((بئست القلادة الذنب للمؤمن...)) (138)، وهو تشبيه لا مزید علی بلاغتهِ وعمقه.

ص: 102

الخاتمة

يمكننا أن نلمس من خلال دراسة خطبة الوسيلة أكثر من بُعد معرفي و أنساني فهي غيظ من فيض في معارف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهِ السلام، التي تنهل من معين النبوة الثر، ولهذا فان استنطاق نصوص الخطبة يكون بقدر متلقيها لا بقدر ملقيها أو صاحبها، من هنا تختلف مستويات القراءة بحسب الإمكانيات والأدوات التي يمتلكها القارئ ولهذا لا ندعي أبداً أننا أحطنا بما تتبعناه من فقرات الخطبة واستقصينا أسرارهِ، فهذا إدعاء لا يمكن الإتيان بهِ، کیف ونحن نتعامل مع نص هو فوق کلام المخلوقين ودون کلام الخالق، إنما هي محاولة للقراءة قد تصف فكرة أو تنبه لجانب من الجوانب المعرفية من ذلك الكنز الذي ينتمي إلى كنوز أمير المؤمنين المعرفية والفكرية. ومن خلال ذلك اتضح لنا:-

1- استخدم الإمام منهجاً واضحاً في تناول موضوعات خطبهِ الوعظية ومنها خطبة الوسيلة فهو يبدأ كلامهُ بالحديث عن أصول الدين الذي هي أصول المعرفة الدينية (أول الدين معرفته)، ولكم حرص أمير المؤمنين على تعميق مفهوم التوحيد عند المسلمين فهو سارٍ في كل خطبه.

2- التأكيد على قضية الإمامة والتذكير بما لحق بالإمام من ظلم وإقصاء فالإمامة التي ضيعها المسلمون في خضم الأطماع والمصالح الشخصية لا يكتمل الإسلام إلا بها ومعها، من هذا وزخرف ما طمع بهِ غيرهِ، لم يترك التنويه بظلامتهِ وحقهِ المغتصب وتراثهِ الضائع.

3- حاول الإمام في خطابهِ الوعظي أن يكون الجانب الروحي هدفهُ فالإصلاح يبدأ من الداخل، ولكنهُ وفي هذا الإطار أيضاً وازن بين العقل والوجدان، ولذلك

ص: 103

زخرت خطبه بتنوع المعرف الإنسانية والعقلية فهي تؤدي غرضاً دینياً وعلمياً في آنٍ واحد.

4- حرص الإمام أن يكون خطابهِ مفهوماً لكل سامعيهِ على اختلاف مستوياتهم الاستيعابية على الرغم من عمق معانيهِ وكثرة أسرارهِ وذلك من خلال تقریب المعاني بأبسط صورة وأبلغ لغة فخطابه يفهمهُ العامة والخاصة كل على قدرهِ و معرفتهِ وأدواتهُ المعرفية وتمثلهِ الحقائق والمضامين والمعطيات كما أن خطابهُ كان عاماً لكل الناس - في بعض جوانبهِ - وليس للمسلمين فحسب ولقد صدر نداءه في عدد منم الخطب بلفظة (أيها الناس).

هوامش البحث:

1. الفراهيدي، العين، 4/ 222.

2. ابن فارس، معجم، 198/2.

3. ابن السكيت، ترتيب أصلاح المنطق، ص 19؛ الزمخشري، اساس البلاغة، ص 239؛ ابن سيدة، المخصص، 1/ ق 2، 144.

4. الكفوي، الكليات، ص 419.

5. المناوي، التوقيف، ص 156.

6. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 21؛ حمدان، أشكال التواصل، ص 49 وما بعدها.

7. المناوي، التوقيف، ص 156؛ الكفوي، الكليات، ص 419؛ المظفر، المنطق، ص 434.

8. برهومة، تمثلات اللغة، ص 122.

9. بو معزة، تحليل الخطاب، ص 5.

10. برهومة، تمثلات اللغة، ص 123.

11. ابن فارس، معجم، 6/ 126.

12. الجوهري، الصحاح، 3/ 1181؛ أبن منضور، لسان العرب، 466/7؛ الزبيدي، تاج العروس، 10/ 498.

ص: 104

13. المناوي، التوفيق، ص 339.

14. حمداوي، التداوليات، ص 7.

15. بوحشة، محاضرات في اللسانيات، ص 11.

16. العيني، عمدة القاري، 20/ 135، العجمي، اللغة والسحر، ص 23.

17. ابن عساکر، تاریخ، 12/ 1132؛ القلقشندي، صبح الأعشى، 261/1؛ القرشي، حياة الامام الحسين، 2/ 160.

18. السفياني، الخطاب الوعظ،؛ البياتي، الأخلاق الحسينية، ص 165.

19. حمدان، أشكال التواصل، ص 90 وما بعدها.

20. برهومة، تمثلات اللغة، ص 123 - 124.

21. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 76 - 78.

22. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 76 - 78.

23. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 78 - 79؛ حمدان، أشكال التواصل، ص 56 وما بعدها.

24. العسكري، الصناعتين، ص 205 وما بعدها.

25. الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص 370.

26. العجمي، اللغة والسحر، ص 70.

27. العجمي، اللغة والسحر، ص 70.

28. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 84 - 85.

29. القبانجي، شرح وصية أمير المؤمنين، ص 30 - 31.

30. الشيرازي، السياسة، ص 76 وما بعدها.

31. سورة الصحف، الآية، 30.

32. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 4/ 67.

33. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 3/ 38.

34. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 19/ 300.

35. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 113.

36. البخاري، صحيح البخاري، 1/ 41.

37. ومقصوده عليه السلام أنه أنطوى على علم ممتنع لموجبهِ من المنازعة، وأن ذلك العلم لا يباح

ص: 105

بهِ، ولو باح بهِ لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشية، وهي الحبال في البئر البعيدة القعر، وهذهِ إشارة إلى الوصية التي خص بها عليهِ السلام أنه قد كان من جملتها الأمر يترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه. ينظر: الراوندي، منهاج البراعة، 1/ 146؛ أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 215.

38. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 41/1.

39. الشريف المرتضی، رسائل، 394/1.

40. عاشور، من غير علي يجيب، ص 44 وما بعدها.

41. الزبير بن العوام بن خویلد بن أسد بن عبد العزیکنی أبا عبد الله أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قتل بسفوان في البصرة سنة 36 ه ينظر: أبن سعد، طبقات ابن سعد، 3/ 100وما بعدها؛ أبن خیاط، طبقات، ص 43.

43. عبد الله بن عباس:

43. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 2/ 162.

44. عبد الله بن الزبير بن العوام بن خویلد بن أسد بن عبد العزی بن قصي القرشي الأسدي یکنی أبا بكر، وقال بعضهم فيه أبو بكير، قُتل بمكة سنة 73 ه. ينظر: أبن خیاط، طبقات، ص 9.

45. عمرو بن جرموز التميمي بم مجاشع قاتل الزبير بالاشتراك مع الشعر وفضاله بن حابس التميميان ينظر: أبن عساکر، تاریخ، 18/ 434.

46. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 182 - 183؛ ابن عقدة الكوفي، فضائل أمير المؤمنين، ص 167؛ المسعودي، مروج الذهب، 2/ 363.

47. طلحة بن الزبير بن عبيد الله بن عمرو بن کعب بن سعد بن تیم بن مرة، ويكنى أبا محمد قُتل يوم الجمل وهو أبن 64 سنة، سنة 36 ه، ينظر: أبن سعد، الطبقات، 3/ 24.

48. سورة الفتح، الآية (10).

49. مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي يُکنی أبا عبد الملك ولد على عهد رسول الله سنة 2 ه وقيل عام الخندق، وقيل يوم أحُد، توفي سنة 65 ه وهو أبن 63 سنة. ينظر: أبن عبد البر، الأستيعاب، 2/ 365.

50. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 182؛ المسعودي، مروج الذهب، 2/ 365؛ وتختلف رواية الطبري عما

ص: 106

جاء عند اليعقوبي والمسعودي بعض الاختلافات ينظر: الطبري، تاریخ 3/ 520 و ما بعدها.

51. أبن ابی الحدید، شرح النهج، 79/15.

52. صفين: موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس، وكانت وقعة صفين عندها سنة 37 ه ينظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3/ 414.

53. حروراء: هي قرية بظاهر الكوفة وقيل موضع على ميلين منها، وهي كورة نزل بها الخوارج الذين خالفوا أمير المؤمنين فنسبوا إليها. ينظر: الحموي، معجم البلدان، 2/ 245.

54. اختلفت المصادر في عدد الخوارج وفي عدد من رجعوا منهم إلى معسكر أمير المؤمنين. ينظر: أبن خیاط، تاریخ، ص 144؛ النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2/ 38؛ أبن أبي الحديد، شرح النهج، 275/2.

55. اليعقوبي، تاریخ، 191/2.

56. المسعودي، مروج الذهب، 403/2؛ أبن کثیر، البداية والنهاية، 319/7.

57. أبن ابي الحديد، شرح النهج، 2/ 265.

58. علي، المفصل، 541/4؛ خطبة الزهراء، 5/ 526.

59. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 123؛ ابن الجوزي، المنتظم، 4/ 64.

60. شمس الدين، دراسات، ص 21 وما بعدها.

61. القرشي، حياة الإمام الحسين، 1/ 276 وما بعدها.

62. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 178؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 9/ 426.

63. سعید بن العاص بن سعید بن اصبحه بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي كان والياً للخليفة عثمان على الكوفة وقد أضر كثيراً بأهلها حتى ثاروا عليهِ وأخرجوه عنها. ينظر: أبن سعد، الطبقات، 5/ 30؛ ابن عساکر، تاریخ، 21/ 105.

64. البلاذري، أنساب الأشراف، 5/ 433؛ الطبري، تاریخ، 3/ 3650؛ الأصفهاني، الأغاني، 12/ 366.

65. أبو سفيان بن حرب بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي واسم ابو سفیان صخر أسلم يوم الفتح وتوفي في المدينة سنة 31 هو كان له من العمر 88 سنة ينظر: أبن عبد البر، الأستيعاب، 2/ 714؛ ابن حجر، الإصابة، 3/ 332.

66. عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم ويكنى أبا عبد الله أسلم بأرض

ص: 107

الحبشة قم قدم المدينة على رسول الله ولاه عثمان بن عفان مصر ثم عزلهُ ثم صار إلى معاوية بعد مقتل عثمان وشهد معهُ صفين ثم ولاه معاوية مصر وتوفي بها سنة 43 ه. ينظر: أبن سعد، الطبقات، 7/ 493.

67. أبن سعد، الطبقات، 3/ 222؛ الدنيوري، الأخبار الطوال، ص 158؛ محمد الثقفي، الغارات، 2/ 748؛ المسعودي، مروج الذهب، 2/ 322؛ الطائي، نظريات الخليفتين، 2/ 48.

68. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7/ 33.

69. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7/ 41.

70. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4/ 41 - 42.

71. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 6/ 94 وما بعدها.

72. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 6/ 96.

73. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 6/ 101.

74. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 2/ 150.

75. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 151.

76. 8/ 18 ومابعدها.،

77. ص 72، ص 398 - 399.

78. ص 92 وما بعدها.

79. 4/ 3 وما بعدها.

80. الكليني، 8/ 18.

81. 25/ 35.

82. 8/ 18.

83. محمد بن علي بن معمر الكوفي يكنى أبا الحسن صاحب الصبيحي سمع منه التلعکبري، روی عنه الكليني في الروضة، وروي عن محمد بن علي بن عكابة التميمي. ينظر: التفرشي، نقد الرجال، 4/ 280؛ الخوئي، معجم، 18/ 31؛ 17/ 358.

84. محمد بن علي بن عكابة التميمي روى عن الحسين بن علي بن النضر الفهري وروى عنه محمد بن علي بن معمر، مجهول روی رواية في الروضة الحديث الرابع. ينظر: الخوئي، معجم، 17/ 358؛ الجواهري، المفيد، ص 555؛ الشاهرودي، مستدرکات، 7/ 238.

ص: 108

85. الحسين بن النضير الفهري: لا يُعلم من أحوالهِ شيء سوى أن أبن شراشوب أورد عنه في المناقب بيتين من الشعر يمدح بهما النبي والإمام علي. ينظر: الأمين، أعيان الشيعة، 6/ 188: الشاهرودي، مستدرکات، 3/ 209.

86. أبن عمرو الأوزاعي: روى عن عمرو بن شمر وروى عنه عبد الله بن أيوب الأشعري. ينظر: الخوئي، معجم، 14/ 76.

87. عمرو بن شمر: أبو عبد الله الجعفي عربي روي عن أبي عبد الله عليهِ السلام ضعيف جداً زیدَ أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليهِ والأمر ملبس. ينظر النجاشي، الفهرست، ص 87؛ أبن الفضائري، رجال أبن الفضائري، ص 74.

88. جابر بن یزید الجعفي من أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر لقي أبا جعفر وأبا عبد الله عليهِ السلام، ثقة في نفسهِ، ولكن جل من يروي عنهم ضعيف روى عنه جماعة غُمز وضعفوا منهم عمرو بن شمر. توفي سنة 12 ه. البرقي، الرجال، ص 9؛ النجاشي ، فهرست، ص 128؛ الطوسي، الفهرست، ص 95؛ أبن الغضائري، رجال الغضائري، ص 110.

89. مرآة العقول، 25/ 35؛ على الرغم مما يشير إليهِ العلامة المجلسي من ضعف سند الخطبة إلا انه من ناحية أخرى يعتقد بصحة كل ما جاء في كتاب الكافي وهو لا يذكر هذا الضعف في السند إلا من باب ترجيح بعضها على بعض عند التعارض. ينظر: المجلسي، مرآة العقول، 1/ 22.

90. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 1/ 14، 1/ 31، 2/ 137.

91. العاملي الكركي، هداية الأبرار، ص 34 وما بعدها؛ العقيلي، سبيل المؤمنين، ص 408 وما بعدها.

92. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 229.

93. الكليني، الكافي، 8/ 18.

94. يذكر الشيخ الصدوق في كتابه الأمالي أن الخطبة كانت بعد تسعة أيام من وفاة رسول الله في حين أنه يذكر أنها بعد سبعة أيام في كتابه التوحيد ويبدو أن تصحيفاً وقع في ذكر تاريخها. ينظر: الصدوق، الأمالي، ص 398، التوحید، ص 72.

95. الكليني، الكافي، 8/ 18؛ المجلسي، مرآة العقول، 25/ 35.

96. الكليني، الكافي، 8/ 25؛ المجلسي، مرآة العقول، 25/ 58.

ص: 109

97. الكليني، الكافي، 8/ 25؛ المجلسي، مرآة العقول، 25/ 58.

98. الكليني، الكافي، 8/ 26؛ المجلسي، مرآة العقول، 25 / 61.

99. الكليني، الكافي ، 27/8 ؛ المجلسي ، مرآة العقول ، 91/25 .

100. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 202، 6/ 95.

101. عبد الحميد، تاريخ الإسلام، ص 35؛ المغربي، الفرق الكلامية، ص 135 وما بعدها.

102. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 1/ 15.

103. الكليني، الكافي،

104. الحيدري، التوحید، 1/ 91.

105. الصدوق، التوحید، ص 83.

106. الحيدري، التوحید، 1/ 40.

107. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 232.

108. المجلسي، مرآة العقول، 25/ 37.

109. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 72.

110. المازندراني، شرح أصول الكافي، 237، 11؛ الحيدري، التوحید، 1/ 63.

111. المجلسي، مرآة العقول، 25/ 37؛ المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 237.

112. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 72.

113. الحيدري، التوحید، 1/ 144 وما بعدها.

114. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 238.

115. المجلسي الأول، روضة المتقين، ص 167؛ الحيدري، التوحید، 1/ 75.

116. الكليني، الكافي، 8/ 18 - 19.

117. أبن عقیل، شرح أبن عقیل، 2/ 210.

118. سورة البقرة، الآية، 168، 21؛ سورة النساء، الآية، 1/ 170، 133، 174؛ سورة الأعراف، الآية، 158؛ یونس، 108، 104، 57، 23؛ الحج، الاية، 1/ 5، 49، 73؛ سورة النمل، الآية، 16، لقمان، الآية، 33، فاطر، الآية، 3، 5، 15؛ الحجرات، الآية، 13.

119. الكليني، الكافي، 8/ 19.

120. شلبي، مقارنة الأديان، ص 175.

ص: 110

121. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 241.

122. الكليني، الكافي، 8/ 19.

123. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11، 235.

124. سورة النحل، الآية، 128.

125. سورة الحجرات، الآية، 13.

126. الفخر الرازي، تفسير الرازي، 2/ 20.

127. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 20، 47.

128. الزبيدي، تاج العروس، 8، 300.

129. أبن ابی الحدید، شرح النهج، 20، 47. 130. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11، 232.

131. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 2، 139.

132. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 1/ 151.

133. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11، 232.

134. المجلسي، مرآة العقول، 25، 40.

135. المجلسي، مرآة العقول، 25، 40.

136. الصدوق، معاني الأخيار، ص 270.

137. فالإنسان الذي لا يعصم نفسه من الذنوب فأنها تجره إلى التورط في أفضع العواقب سوءاً فالورطة: هي الغامض والهلكة وكل ما یعسر النجاة منه وأصله الهوة العميقة والوهدة من الأرض ثم استعيرت للأمر المذكور. ينظر: المازندراني، شرح اصول الكافي، 11/ 243.

138. الكليني، الكافي، 8/ 19.

ص: 111

المصادر والمراجع

قائمة المصادر

القرآن الكريم

البخاري، أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، (ت 256 ه/ 869 م)

1- صحيح البخاري، دار الفكر، 1981.

البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، (279 ه/ 892 م)

2- أنساب الأشراف، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1979.

التفريشي، مصطفی بن الحسين الحسيني، (ت القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي)

3- نقد الرجال، تحقیق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأولى، قم 1418 ه.

أبن الجوزي، أبي الفرج عبد الرحمن بن علي، (ت 597 ه/ 1200 م)

4- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقیق عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، بيروت 1992.

الجوهري، اسماعیل بن حماد، (ت 393 ه/ 1002 م)

5- الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الرابعة، دار العلم للملايين، القاهرة، 1987

أبن حجر، أحمد بن علي، (ت 852 ه/ 1448 م)

6- الإصابة في تمييز الصحابة، تحقیق، عادل احمد عبد الموجود و علي محمد معوض، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.

أبن ابي الحديد، عز الدين أبو حامد، (ت 256 ه/ 1257 م)

7- شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى دار أحياء

ص: 112

الكتب العربية، 1959

أبن خیاط، خليفة، (ت 240 ه/ 854 م)

8- تاریخ ابن خیاط، تحقیق سهیل زکار، دار الفكر، بيروت، د. ت.

الرازي، فخر الدين، (ت 606 ه/ 1209 م)

9- تفسير الرازي، الطبعة الثالثة، د. م، د. ت.

الراوندي، قطب الدين أبي الحسن، (ت 573 ه/ 1177 م)

10- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقیق عبد اللطيف الكوكهمري، مكتبة آية الله المرعشي، قم 1406 ه.

الزبيدي، محي الدين أبي فيض محمد مرتضى الحسيني، (ت 1205 ه/ 1790 م)

11- تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق علي شيري، دار الفکر، بیروت، 1994.

الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر، (ت 538 ه/ 1143 م)

12- تفسير الكشاف، دار ومطابع الشعب، القاهرة، 1960.

ابن سعد، محمد، (ت 330 ه/ 941 م)

13- الطبقات الکبری، دار صادر، بيروت، د. ت.

أبن سيدة، أبي الحسن علي بن اسماعيل، (ت 458 ه، 1065 م)

14- المخصص، تحقيق لجنة أحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.

أبن السكيت، أبو يوسف يعقوب، (ت 244 ه/ 858 م)

15- ترتيب أصلاح المنطق، رتبه وقدم له محمد حسن البكائي، الطبعة الأولى، مجمع البحوث الإسلامية، إيران، 1412 ه.

الشريف الرضي، أبو الحسن محمد، (ت 404 ه/ 1013 م)

16- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، الطبعة الأولى، دار الذخائر، قم، 1412 ه.

الصدوق، أبي جعفر محمد بن الحسين بن بابویه، (ت 381 ه/ 991 م)

ص: 113

17- التوحید، تصحیح و تعليق السيد هاشم الحسين الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، د. ت.

18- الأمالي، تحقیق قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى، مؤسسة البعثة، طهران، 1417.

الأصفهاني، أبي الفرج، (ت 356 ه/ 966 م)

19- الأغاني، دار إحياء التراث العربي، د. ت

الطبري، أبي جعفر محمد بن جریر، (ت 310 ه/ 922 م)

20- تاریخ الرسل والملوك، صححه وضبطه نخبة من العلماء، الطبعة الرابعة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1983.

الطوسي، أبي جعفر محمد بن الحسن، (460 ه/ 1067 م)

12- الفهرست، تحقیق جواد القيومي، الطبعة الأولى، مؤسسة نشر الفقهاهة، 1617 ه.

أبن عبد البر، أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد

13- الاستیعاب، تحقیق علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى، دار الجبل، بيروت، 1992.

أبن عساكر، أبي القاسم علي بن الحسن، (ت 571 ه/ 1175 م)

14- تاريخ مدينة دمش، تحقیق علي شيري، دار الفكر، بيروت، 1995.

العسكري، أبي هلال الحسن بن عبد الله، (ت 395 ه/ 1004 م)

15- الصناعتين في الكتابة والشعر، الطبعة الأولى، الأستانة، 1319 ه.

أبن عقدة الكوفي، (ت 333 ه/ 944 م)

16- فضائل أمير المؤمنين، د. م، د. ت.

أبن عقيل، بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي، (ت 799 ه/ 1367 م)

17- شرح أبن عقيل، الطبعة الرابعة عشر، المكتبة التجارية الكبرى، مصر،

ص: 114

1964 م.

العيني، أبا محمد محمود بن أحمد، (ت 855 ه/ 1451 م)

18- عمدة القارئ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.

أبن الغضائري، أحمد بن الحسين، (ت القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي)

19- رجال الغضائري، تحقيق محمد رضا الحسيني الجلالي، الطبعة الأولى، قم، 1422 ه.

أبن فارس، أبي الحسن أحمد، (ت 395 ه/ 1004 م)

20- معجم مقاییس اللغة، تحقیق عبد السلام محمد هارون، مکتب الأعلام الإسلامي، قم، 1404 ه.

أبي الحسن أحمد، (ت 395 ه/ 791 م)

21- معجم مقاییس اللغة، تحقیق عبد السلام محمد هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1408 ه.

الفراهيدي، أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد، (ت 395 ه/ 1004 م)

22- العين، تحقيق مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي، الطبعة الثانية، مؤسسة دار الهجرة، 1409 ه.

القلقشندي، أحمد بن علي، (ت 821 ه/ 1418 م)

23- صبح الأعشى في صناعة الأنشا، شرحه وعلق عليه محمد حسین شمس الدین، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.

أبن كثير، إسماعيل بن كثير، (774 ه/ 1372 م)

24- البداية والنهاية، تحقیق علي شيري، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي. 1988.

الكفوي، أبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني، (ت 1094 ه/ 1682 م)

ص: 115

25- الكليات، قابله ووضع حواشيه عدنان درويش ومحمد المصري، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة بيروت، 1998.

الكليني، الرازي، (ت 329 ه/ 940 م)

26- الروضة في الكافي، صححه وعلق عليه علي اکبر العقاري، الطبعة الثانية، طهران، 1389.

المازندراني، محمد صالح، (ت 1081 ه/ 1670 م)

27- شرح أصول الكافي، تحقيق الميرزا أبو الحسن الشعراني، الطبعة الأولى دار إحياء التراث العربي، 2000 م

المجلسي، محمد باقر، (ت 111 ه/ 729 م)

28- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، الطبعة الأولى، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1410 م.

المجلسي الأول، محمد باقر، (ت 1070 ه/ 1659 م)

29- المسعودي، أبي الحسن علي بن الحسن، (ت 346 ه/ 957 م)

مروج الذهب و معادن الجوهر، الطبعة الثانية، تدقیق وضبط یوسف اسعد داغر، دار الهجرة، قم، 1984.

المناوي، عبد الرؤف، (ت 952 ه/ 1031 م)

30- التوقيف على مهمات التعاريف، تحقیق عبد الحميد صالح حمدان، الطبعة الأولى، عالم الكتب، القاهرة، 1990.

أبن منظور، أبي الفضل جمال الدين، (ت 711 ه / 1311 م)

31- أدب الحوزة، قم، 1405 ه.

النجاشي، أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد، (ت 450 ه / 1058 م)

32- أسماء مصنفي الشيعة، تحقيق موسى البيري الزنجاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1416 ه.

ص: 116

النعمان المغربي، أبي حنيفة بن محمد التميمي، (ت 363 ه/ 973 م)

33- شرح الأخبار، تحقيق محمد الحسيني الجلالي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، د. ت.

یاقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله، (626 ه/ 1228 م)

34- معجم البلدان، دار التراث العربي، بيروت، 1979.

اليعقوبي، أحمد بن ابي يعقوب، (284 ه/ 897 م)

35- تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت، د. ت.

قائمة المراجع

برهومة، عیسی عودة

36- تمثلات اللغة، مجلة عالم الفكر، العدد الأول، المجلد 56، لسنة 2007.

بوحشة، خديجة

37- رمحاضرات في اللسانيات التداولية، د. م، د. ت.

بومعزة، نوال

38- تحليل الخطاب، محاضرات مقدمة لطلبة السنة الثانية جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، 2012 - 2013.

البياتي، جعفر

39- الأخلاق الحسينية، الطبعة الأولى، مطبعة مهر، أنوار الهدى، قم، 1418 ه.

الجواهري، محمد

40- المفيد من معجم رجال الحديث، الطبعة الثانية، منشورات مكتبة المحلاتي، قم، 1424 ه.

حمدان، سلیم

41- أشكال التواصل، رسالة ماجستير غير منشورة، الجزائر، جامعة الحج الخضر، 2008 - 2009

ص: 117

حمداوي، د. م، 2015.

42- التداوليات وتحليل الخطاب، الطبعة الأولى، د

الحیدری، کمال

43- التوحید، تقریر جواد علي كسار، الطبعة الخامسة، دار فرقد، إيران، 2006 م

الخوئي، أبو القاسم

44- معجم رجال الحديث، الطبعة الخامسة، د. م، 1992.

السفياني، عبد الله بن رقود

45- الخطاب الوعظي (مراجعة نقدية وأساليب الخطاب ومضامينه)، مرکز نماء للبحوث والدراسات، د. ت.

الشاهرودي، علي النمازي

46- مستدرکات علم رجال الحديث، الطبعة الأولى، طهران، 1412 ه.

شلبي، أحمد

47- مقارنة الأديان، الطبعة الرابعة، مكتبة النهظة المصرية، القاهرة، 1973.

شمس الدين، محمد مهدي

48- دراسات في نهج البلاغة، الطبعة الثانية، بيروت، 1972.

الشهري، عبد الهادي بن ظافر

49- استراتيجيات الخطاب، الطبعة الأولى، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس،

الشيرازي، صادق الحسيني

50- السياسة من واقع الإسلام، الطبعة الخامسة، دار صادق، کربلاء، 2005.

عاشور، علي

51- من غير علي يجيب، الطبعة الأولى، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 2008.

ص: 118

عبد الحميد، صائب

52- تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي، الطبعة الثانية، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، قم، 2005 العجمي ، فالح شبيب

53- اللغة والسحر، الطبعة الأولى، الرياض، 2003.

العقيلي، عبد الرحمن

54- سبيل المؤمنين إلى طريقة المعصومين، الطبعة الأولى، دار الحسين، 1437 ه.

علي، جواد

55- تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الثانية، بغداد، 1993.

القبانجي، حسن

56- شرح وصية أمير المؤمنين، دار الضياء، النجف الأشرف، 2012.

القرشي، باقر شریف

57- حياة الإمام الحسين، الطبعة الأولى، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1974.

محسن، الأمين

58- أعيان الشيعة، تحقیق و تخریج حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، د. ت

المظفر، محمدرضا

59- المنطق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، د. ت.

ص: 119

ص: 120

النسق القيمي التكاملي أثره الاصلاحي في مستوى تشكيل الذات السلوكية للمجتمع بحث في ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر (رضی الله عنه) أ. م. د. مكي فرحان كريم جامعة القادسية / كلية التربية أ. م. د. ضياء عزيز الموسوي جامعة كربلاء / كلية العوم الإسلامية

اشارة

ص: 121

ص: 122

مقدمة

ليس من السهل أن يتكامل البحث في الدين نفسه وقد تجسدت تكاملية هذا الدين في فكر الإمام علي «عليه السلام» وشخصيته، وتعددت الأبعاد المعرفية في هذه الشخصية، حتى باتت مادة خصبة للتنقيب في فكرها، والبحث في رؤيتها، وهي مؤسسة على أسس المدرسة الإلهية، منهجها القرآن الكريم، ومعلمها الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله وسلم»، شخصية ربطت العلم بالعمل، عنایتها المطلقة الدين القيم، والإنسانية، والحياة الحرة الكريمة، والعدالة في الحكم... تفاعلت والواقع الاجتماعي بمجالاته المختلفة، فاقترنت شخصيته باسمه عالية - الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» - حتى أصبح رائد العدالة والإنسانية، وثبّت أسسها بعهده الدولي (لمالك الأشتر) وعدّه دستوراً لبناء المجتمع العادل، ينظم إدارة شؤون دولته، ويسهم في بناء منظومته القيمية السلوكية، وتشکیل ذاته، ليشعر حراً بعبوديته المطلقة لله تعالى وحده...

في ضوء هذه الإشارة المعرفية لشخصية الإمام علي «عليه السلام»، وأهمية ما تضمنه نصّ عهده المبارك، تولدت الفكرة الرئيسة لأهداف البحث، وهي معرفة النسق القيمي التكاملي في مضمون العهد، ومعرفة أثره الإيحائي الإصلاحي في مستوى تشكيل الذات السلوكية للمجتمع...

وعليه قسم البحث على مبحثين، تناول المبحث الأول دراسة المداخل النظرية لمحددات البحث، وتناول المبحث الآخر دراسة العينة التطبيقية للبحث، وختم البحث بخاتمة تضمنت أهم نتائجه واستنتاجاته.

ص: 123

المبحث الأول دراسة المداخل النظرية لمحددات البحث

تمثل المنظومة القيمية للإنسان مرجعيته المعيارية التي تنظم حياته وتحكم سلوكياته، وهي بالنتيجة تسهم في حفظ هوية المجتمع وتجانسه وتماسكه وترابطه، ولعل الاهتمام بالنسق القيمي ودراسته هولما يحصل من تسارع في التغيير الثقافي وتأثيره في البناء المجتمعي، وكذلك انحلال التربية القيمية للفرد بصورة عامة.

إنّ القيم السائدة في هذه الأيام هي ليست نفسها القيم التي كانت سائدة في المجتمع منذ سنين أو عقود مضت، إذ إنّ تبدلاً كبيراً أصاب منظومات القيم اليوم، لاسيما مع تنامي موجات العولمة وما ارفقها من تطورات هائلة في مجال المعلوماتية وما أحدثه ذلك من تأثير في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع بشكل عام، والنسق القيمي على وجه الخصوص؛ لأنّ القيم انعکاس لثقافة المجتمع من جهة، واحتكاك هذه الثقافة مع الثقافات الأخر من جهة أخرى؛ ولأنّ ثقافة مجتمعاتنا تتعرض أكثر فأكثر إلى تغيرات كبرى وهي عرضة للتآكل والانطمار؛ لأنّ ما يشهده العالم المعاصر هو محاولة سيطرة نمط واحد من الثقافة الطاغية وهو النمط السائد عند الدول المتقدمة، وهذا ما كانت حصيلته تعرُّض الفرد للصراع بين القيم الموروثة والتقاليد المستوردة ما جعله يصاب بالحيرة والقلق (1).

إذ إنّ التغير الذي يطرأ على النسق القيمي المجتمعي اليوم هو التراجع الروحي في مقابل الإحباط والنفور والسخط المتولد عند الأفراد من مجموعة الظروف المحيطة بهم، وإنّ هذا التراجع من شأنه أن يجعل منهم أشخاصاً حاملين لقيم

ص: 124

متشددة متعصبة في ظل غياب مفهوم القيمة الروحية الحقيقية، أو قيماً مادية متدنية مثل: الرغبة في الثراء السريع، والرشوة، والوساطة... ورغم أنّها قيماً سلبية إلّا أنّها تلبي الحاجة الملحة لهم والتي فرضها عليهم الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي يسيطر عليه النمط الاستهلاكي الناتج عن استيراد أنماط الحياة الغربية بمظاهرها السلبية، وغياب قيمة العمل والنمط الإنتاجي الحقيقي وأكثر من ذلك فقد لحظ عزوفاً عن كثيرٍ من القيم الإيجابية عند البعض منهم، مثل قيم التعاون والتسامح، وحلّ بدلاً عنها تمسكهم بقشور القيم تاركين لجوهرها، إذ باتت مثل هذه القيم عبئاً عليهم في ظل سيطرة قيم سلبيةٍ، غالباً ما تكون مادية، وهذا بمجمله يعني فکراًمضطرباً، ولأنّ القيم التي يتبناها الفرد لا تنشأ من فراغ، ولا هي مجردة مطلقة، ولا ثابتة ولا أبدية، بل هي جزء من الخبرة الإنسانية الواقعية، وجزء من حاجات الفرد، كما أنّ لها دوراً كبيراً في توجيه سلوكه، وتحديد العلاقة بينه وبين مجتمعه، وبالنتيجة فهي تؤثر على نوعية حياته، وإنّ مدى هذا التأثير يحدده عمق تبني الشخص لهذه القيم، فمدى عمق هذا التبني قد يكون تأثيره سلبي أو إيجابي على نمط حياته، وهذا يعود إلى نوع القيمة التي يتبناها الشخص، والمفهوم المرتبط بها عنده، فهل هي قيم يغلب عليها الطابع المادي أو الطابع الروحي مثلاً، وقد أصبحت القيم ذات الطابع المادي هي الغالبة على قيم الأفراد (2).

ولعل ذلك يشكل أحد الأسباب الرئيسة من أسباب اشكالية البحث، مما تتطلب بحث معالجاتها في ضوء عهد الإمام علي «عليه السلام» لمالك الاشتر «رضوان الله عليه»، وهو اختيار تحددت فيه أكثر من سمة، منها: الذات الشخصية للإمام «عليه السلام»، والبعد الاستراتيجي للمعرفة بشكل عام في نصّ عهده المبارك ، وشخصية مالك الاشتر «رض» التي تنماز بالنمط المطيع،

ص: 125

وكذلك منها طبيعة الفرد وتأثره بالتطورات الثقافية المتسارعة المغرية التي تسير سلوکه ضمن إدارة غير صحيحة في تشكيل ذاته وتنظيمها، وتجعله مرتبكاً في إدارتها... إذ إنّ الطريقة المناسبة في إحداث تغيير في السلوك الإنساني هي أن يحدث التغيير في مفهوم الذات (3)؛ لأنّ هذا المفهوم هو فكرة الفرد وعلاقته ببيئته، وإنّ الكيفية التي يدرك الفرد بها ذاته تؤثر في الطريقة التي يسلك بها، كما أنّ سلوکه يؤثر في الكيفية التي يدرك فيها ذاته (4).

وبما أنّ الذات هي جزء من تشكل شخصية الفرد وبعد من أبعادها المهمة فإنّها العامل الأساسي المتفرد في التأثير على السلوك (5).

فالذات هي الاتجاهات والأحكام والقيم التي يحملها الفرد بالنسبة لسلوكه وقدراته وقيمته بوصفه إنساناً (6)... وهاهنا مصداق يتجسد في نمط ذات شخصية الإمام علي «عليه السلام» وهو نمط الشخصية العبقرية؛ «أنّه فتق أكثر من ثلاثين علماً، لم يعرفها المسلمون من قبل...» (7).

و ثابت هذا في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» (8)، ومفصح عنه بقوله «علیه السلام» «علمني رسول الله ألفَ بابٍ من العلم ينفتح لي منها ألفُ باب...» (9). ومن بين العلوم التي انفرد بها الإمام (عليه السلام) وضعه لأنظمة الحكم والإدارة في عهده الدولي للزعيم مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، فقد وضع فيه أدق أنظمة الحكم وأعمّها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية (والعامة)، في مجتمع لم يقفه أي بند من أنظمة الحكم والإدارة، وقد شرّع الإمام (عليه السلام) أروع صور الحضارة، وأبهي ألوان التطور والتقدم الفكري. (10)

وقد تجسد هذا الإصلاح الاجتماعي في نصّ عهده (عليه السلام) بالقيم

ص: 126

التي ضمنها فيه - النص - وبالتحديد القيم السياسية؛ إذ يعبر عنها باهتمام الفرد بالنشاط السياسي، وتعني تحقيق أهداف الفرد السيطرة والحكم والقوة كما يتميز الأشخاص الذين تسود عندهم هذه القيم بالقيادة في نواحي الحياة المختلفة، ويتصفون بقدرتهم على توجيه غيرهم ويكون عادة من المشتغلين بالسياسة (11).

إذ تتشكل في بنية النص المبارك دائرة من القيم التي بضمنها القيم السياسية وما تنتجه هذه القيم من دلالات ووظائف مختلفة ومتنوعة في ذهن الفرد يشكل بدوره سلوك ذاته، وينظم في ضوئها حياته الشخصية، متخذاً من تكاملها نسقاً قيمياً لضبط مركزه المحيطي والذاتي.

وهو - النسق القيمي - الذي عدّ (نظاماً في) إطار مرجعي للسلوك بين أولويات القيم، ينظم سلوك الفرد، ويأتي على قمة الإطار المرجعي العام لسلوك الفرد (12).

ص: 127

المبحث الثاني عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر (علیه السلام) أمثلة تطبيقية

يوثق الخطاب التوجيهي للإمام علي (عليه السلام)، في نصه المبارك الأطر المنهجية للنصوص القرآنية، ويرسمها على شكل نسق قيمي تکاملي يوضح عن طريقه صورة الذات الإلهية وانطباعها في ذهن الفرد، ليتمثل قيم هذه الصورة بأبعادها وصفاتها، واسمائها الخالصة، لتصبح سلوكاً، وفكراً، وكينونة، وهدفاً، ومنهجاً، يحدد مسالك طرق حياته العامة والخاصة، وبالنتيجة تتشكل عند تمثلها الذات السلوكية للمجتمع، إذ إنّ ذات الخطاب يعُظِّم هذه القيم بنسق ترابطي يبين أهميتها وفاعليتها الاجتماعية، فقد افتتح عهده (عليه السلام)، بالأمر والتذكير بتقوى الله تعالى واتباع أوامره، والالتزام بنواهيه، وهذا واضح في قوله (عليه السلام): «أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلاَّ مَا رَحِمَ اللهُ. ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْل وَجَوْر، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِى مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ. فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الاْنْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ» (13).

حينما نقب في متن هذ المقطوعة من نص عهد الإمام (عليه السلام)، نلحظ أنّ

ص: 128

مفهوم (التقوى) أخذ الموقع الأصل في متن الحديث؛ وهو يشكل القيمة الأساس التي تستند (عليها) وترتبط (بها) وتتكامل (معها) القيم الأخرى مشكلة نسقاً قيمياً في بنية نص العهد المبارك، قدمها بصيغة الأمر (لمالك الأشتر- رض -)، فقد أمره بأوامر خمسة أولها إصلاح نفسه، العامل الأهم في تقوى الله تعالى - أحد هذه الأوامر - فهو القائل (عليه السلام) «فَمَن أَشعَرَ التَّقوَي قَلبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ - وَقَازَ عَمَلُه» (14)؛ أي من اتّقی تقوى حقيقة برزت تؤدته؛ أي ظهرت عليه آثار الرحمة الإلهيّة في السكينة والوقار والحلم والأناة عن التسرّع إلى مطالب الدنيا، وعلمت راحته في الآخرة، وفاز عمله فيها بالجزاء الأوفي. ثمّ أمرهم بإحكام التقوى؛ أي أن تتّقوا الله تقوى حقيقيّة فإنّها الّتي يستحقّ بها الثواب الدائم، وأن يعملوا للجنّة عملها الّتي تستحقّ به (15).

فهذا هو سياق القرآن الكريم الذي أوصى عباده بالتقوى فقال تعالى «وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا» (16)؛ والمعنى «جُعل الأمر بالتقوى وصيةً؛ لأنّ الوصية قول فيه أمرٌ بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول؛ لأنّها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله، والتقوى تجمع الخيرات؛ لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي... والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله... وبيَّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس، ولكنّها لصلاح أنفسهم...» (17).

فالتقوى قيمة ضابطة لقيمة العمل، كما أنّها قيمة موجبة تقع على رأس منظومة القيم، على اعتبار أنّ سيادة التقوى في أعمال المسلمين يؤدي إلى صلاح

ص: 129

أحوال المجتمع... (18)

والثاني: اتّباع أوامره في كتابه من فرائضه و سننه، ورغّب في ذلك بقوله: لا يسعد... إلى قوله: إضاعتها. وتكرّر بيان ذلك (19).

فالطاعة هي القيمة المشار إليها باتباع الأوامر؛ إذ إنّ عبادة الله تعالى تتکامل بها، في اتباع لأوامره، واجتناب لنواهيه، عملاً خالصاً نابعاً من الذات، كما أنها حق من حقوق الله تعالى على البشر، فمن يطع الله تعالى ورسوله يغدق عليه بنعمه ففي قوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا» (20)؛ بمعنى إنّ الطاعة لازمة من لوازم «صلاح النفس والذات» (21)، ومقام المطيعين عند الله تعالی مقام النبين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم «... منزلون منزلتهم عند الله أي بحكم منه لهم أجرهم ونورهم» (22).

وقد ساق الإمام علي (عليه السلام) في موقع آخر من خطبه جاعلاً من الطاعة بأنّها حق من حقوق الله تعالى، بقوله: «... وَ لَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَی الْعِبَادِ أَنْ یُطِیعُوهُ - وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَیْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ - تَفَضُّلاً مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِیدِ أَهْلُهُ... فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ - وَ لاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیَّةِ..» (23)

«... بيّن فيها أنّ حقوق الخلق بعضهم على بعض من حقّ الله تعالى من حيث إنّ حقّه على عباده هو الطاعة، و أداء تلك الحقوق طاعات لله كحقّ الوالد على ولده وبالعكس، وحقّ الزوج على الزوجة، وحقّ الوالي على الرعيّة وبالعكس ... (ف) صلاح حال الولاة منوط بصلاح الرعيّة واستقامتهم في طاعتهم، وفساد أحوالهم بعصيانهم ومخالفتهم. فإذا أدّى كلّ من الوالي والرعيّة الحقّ إلى صاحبه عزّ

ص: 130

الحقّ بينهم ولم يكن له مخالف (24).

والثالث: أن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه في جهاد العدوّ. وإنكار المنكرات. رغّب في ذلك بقوله: قد تكفّل. إلى قوله: أعزّه (25). كقوله تعالى «إِن تَنصُرُوا الله يَنصُركُم ويُثَبِّت أَقدامَكُم».

فقد قرن الإمام (عليه السلام) قيمة النصر بقيمة الجهاد، ووظيفة الخاصة وهي (مجاهدة العدو - الخروج عن دين الله وطاعته)، وقد استشهد بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (26)؛ وهو «تحضيض لهم على الجهاد ووعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييداً لدينه وإعلاء لكلمة الحق لا ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجده وشجاعة (27)».

ووظيفته العامة وهي (مجاهدة النفس)؛ بدليل قوله (عليه السلام) (یَکسِرَ نَفسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ .. فَإِنَّ النَّفسَ أَمَارَةٌ بِالسُّوءِ).

وقد ذكر الجهاد بتعدد وظائفه في موقع مهم في خطبه (عليه السلام) وأسنده إلى التقوى، وجعله باباً من أبواب الجنة، إذ قال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ - فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِیَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَی - وَ دِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِینَةُ وَ جُنَّتُهُ اَلْوَثِیقَةُ» (28)

«وبيانه أنّ الجهاد تارة يراد به جهاد العدوّ الظاهر كما هو الظاهر هاهنا، وتارة يعنی به جهاد العدوّ الخفي وهو النفس الأمارة بالسوء.

وكلاهما بابان من أبواب الجنّة، والثاني منهما مراد بواسطة الأوّل إذ هو لازمة له؛ وذلك أنّك علمت أنّ لقاء الله سبحانه و مشاهدة حضرة الربوبيّة هي ثمرة

ص: 131

الخلقة وغاية سعى عباد الله الأبرار، ثمّ. قد ثبت بالضرورة من دين محمّد صلی الله عليه وآله وسلم أنّ الجهاد أحد العبادات الخمس، وثبت أيضا في علم السلوك إلى الله أنّ العبادات الشرعيّة هي المتمّة والمعينة على تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، وأنّ التطويع كيف يكون وسيلة إلى الجنّة الّتي وعد المتّقون» (29).

وفي مجاهدة النفس فقد انطلق الإمام (عليه السلام) من المصدر الأصل وهو القرآن الكريم، لتبيان والوظيفة الذاتية في قيمة الجهاد مستشهداً بقوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (30)؛ أي إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، وإنّما تكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل» (31).

وتتكامل الوظيفة الجهادية ضمن النسق القيمي في الأمر الرابع، أن يكسر من نفسه عند الشهوات. وهو أمر بفضيلة العفّة (32).

فالعفة؛ قيمة تطلق على معنيين عام و خاص، فالعام هو ضبط النفس في مقابل الرغبات والميول النفسانية والإفراط في اتباعها، وأمّا الخاص هو ضبط النفس في مقابل متطلبات الغريزة الجنسية والتحلل الأخلاقي (33).

وفي حديث للإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) «ما من شيءٍ أحب إلى الله بعد معرفته من عفة بطن وفرج، وما من شيء أحب إلى الله من أن يُسأل (34).

بمعنى إنّ العفة مانعة من وجود السبب المزاحم، والسبب المزاحم أشدُّ تأثيراً من السبب المعد دائماً، وفي الأمور المعنوية كذلك، فإنَّ الإنسان الذي يأتي بالعبادات كثيراً ولكنه في نفس الوقت يُدخل على قلبِهِ وروحِهِ الذنب والمعصية فهنا لن يكون لعباداته أية أثرا، بخلاف ما إذا لم يدنس القلب شيءٌ من الذنوب؛

ص: 132

فإنَّ فطرته الإلهية سوف تهديه إلى الرشد والكمال (35). فالعفة هي السمو والترفع عن ملذات الدنيا وترك شهواتها، وهذا هو دفها الأصل.

والأمر الخامس: أن يكفّها ويقاومها عند الجمحات. وهو أمر بفضيلة الصبر عن اتّباع الهوى وهو فضيلة تحت العفّة، وحذر من النفس.. (36) (بدليل الآية المباركة).

قال الله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» (37). فالصبر قيمة تعبر عن؛ قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامر ونواهي، وهو دليل رجاحة العقل، وسعة الأفق، وسمو الخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة الله تعالى ورضوانه، وسبب الظفر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد (38).

والصبر ضربان: إما أن يكون بدنياً، وإما نفسياً، فأما البدني کتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها، وكتعاطي الأعمال الشاقة، وأما النفسي فيكون عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، ثم إن هذا الضرب إن كان صبراً على شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان على احتمال مکروه، اختلفت تسمياته عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر، فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر، وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع، وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت و ضرب الحدود وشق الجيوب وغيرهما.

وإن كان في احتمال الغني سمي ضبط النفس، و تضاده حالة تسمى البطر، وإن كان في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلماً ويضاده التذمر... وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً ويضاده الحرص، وإن كان صبراً عن قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده

ص: 133

الشر (39).

وقد ذكر الإمام (عليه السلام) الصبر بقوله: «رَحِمَ اللهُ عَبداً سَمِعَ حُكماً فَوَعَی،... جَعَلَ الصَّبرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ، والتَّقوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ...» (40).

ف (الصبر) قيمة خلقية ومظهر من مظاهر الشخصية الإنسانية المؤمنة، تُعرف به حقيقة الإيمان وحسن اليقين بالله، والصبر والتقوى في الإسلام صنوان لا يفترقان، أحدهما منوط بالآخر لا يتم كلُّ واحد منهما إلا بصاحبه، فمن كانت التقوى مقامه كان الصبر حاله، ومن هنا يكون الصبر أفضل الأحوال من حيث كانت التقوى أعلى المقامات، إذ الأتقي هو الأكرم عند الله تعالى، والأكرم على الله تعالى هو الأفضل، وإن كان كل شيء به وكل عمل صالح له ولا يصف الله تعالى عبداً ولا يثني عليه حتى يبتليه، فإن صبر وخرج من البلاء سليماً مدحه ووصفه وإلّا بين له كذبه ودعواه (41).

فقد تجسدت وصية الإمام علي (عليه السلام) في عهده المبارك لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) بدعوته إلى الشجاعة والجرأة والعمل بما خير وتحمل الداء وعدم الاستنامة إليه، والصبر بمراتبه، وإخفاء الزهد، أي الزهد في سبيل التظاهر والزهد في القلب مع مواصلة العمل والجهاد، و نهيه عن الإعجاب بالنفس وحب الثناء، ولا تعرض نفسك للهلاك إلّا أن تقضي غاية سامية وضرورة لازمة، فأنه أدخل في نطاق المعاملة النفسية، كل هذه العهود يتناولها الإنسان بينه وبين نفسه، وبين نفسه وبين الآخر (42).

فقد تجسدت تكاملية القيم بشكلها النسقي والترابطي بحسب أهميتها في هذه المقطوعة من نص العهد المبارك للإمام علي (عليه السلام) بصورة خطاب رسم عن طريقه لوحة الإدارة والحاكمية (لمالك الأشتر - رضوان الله عليه -) وتطبيقها

ص: 134

بمعية رعيته فيما إذا حصل الاستعداد الذاتي من الرعية، وإظهار هذه القيمة لهم في سلوك حكمه تمثلاً ذاتياً لمنهج القرآن، ولا مصطنعاً بحسب الرغبة واللذة والشهوة... وجعل هذه القيم مرکزاً مهماً للتنشئة الاجتماعية حصيلتها أن يتمثلها الفرد لتصبح منهجه في تشكيل ذاته السلوكية في المجتمع.

لأنّ القيم تعد من أهم موجهات السلوك الإنساني وهی ضوابط اجتماعية تضبط السلوك المرغوب والسلوك غير المرغوب (43)، إذ إنّ الوعي بقيمة الأشياء هو بمثابة رد فعل إنساني أو حركة تبادلية بين عالم الأشياء ووجودها الواقعي من جهة، وبين عالم الذات وظروفها الاجتماعية من جهة أخرى (44). وهذا ما خاطب به الإمام (عليه السلام) العام من الناس بالخاص منهم متمثلاً بشخص مالك الأشتر (رضوان الله عليه) بتقبل القيم وتمثلها والعمل بمضمونها في الحياة العامة والخاصة.

ص: 135

الخاتمة

(أهم النتائج والاستنتاجات)

1. جسد الإمام علي (عليه السلام) منظومة القيم الإلهية بنسق منتظم مترابط الوظيفة والأهمية، في منهج سياسته وإدارته في توعية المجتمع وإصلاحه، عن طريق ما تضمنه عهده إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه).

2. اتسمت القيم المتضمنة في وثيقة العهد المبارك بشمولية النسق من جهة زمکانیتها، وأهدافها، ووظائفها، وتحفيز الدافع نحوها؛ لما يحمله النص من بلاغة عالية وأسلوب يحاكي الوجدان، وينشط الذاكرة الإدراكية للفرد بإعادة بناء شخصيته و تشکلها ذاتياً.

3. تتضح أهمية النسق القيمي في نص العهد المبارك للفرد في استعداده على تهيئة التقنية المناسبة في تقبل القيمة وتمثلها، وجعلها أداة مساعدة في إدارة حياته العامة والخاصة.

4. (التقوى، والطاعة، والجهاد، والعفة، والصبر، صفات عليا وهي من صفات الله الحسنى، وقد جعلها من عزم الأمور، وأضاف إليها في القرآن أكثر الدرجات وأكبرها، وأعلى المراتب وأسماها، وجعلها صفات منتجة دائماً.

5. تعد شخصية الإمام علي (عليه السلام) هي المصدر الحقيقي الصادق لقيم القرآن؛ وهذا ما تضمنه نص عهده المبارك، من منهج فكري، وعلمي، ودستوري، وعلمي، وتربوي، يتمثله (العام / الخاص)، (المسلم / غير المسلم) في كل مكان وزمان.

ص: 136

هوامش البحث:

1. ينظر: الزيود، ماجد، الشباب والقيم في عالم متغير، ط 1، الأردن، عمان، دار الشروق، 2006 ص 46.

2. عبود، ضحی، و بشری نبيل خليل، النسق القيمي وعلاقته بالقلق لدى عينة من طلبة جامعة دمشق، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية - سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية (المجلد 63) (العدد 3)، 2014. ص 135 - 136.

3. حامد زهران، 1990، ص 291.

4. صالح ابو جادو، 1998، ص 151

5. نعيمة الشماع، 1977، ص 185.

6. من رسالة مفهوم الذات ص 7

7. العقاد، عبقرية الامام علي ع

8. مناقب علي بن أبي طالب، أبن المغازلي الشافعي: 101،

9. الاختصاص، الشيخ المفيد: 283

10. - القريشي، باقر شریف، شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، تحقيق: مهدي باقر القريشي، ط 1، ستارة للطباعة، النجف الأشرف، د. ت.

11. زهران ص 125.

p ،1976 Kitwood .12 227

13. شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 135.

14. نفسه، ج 3، ص 151.

15. شرح نهج البلاغة. مصدر سابق. ج 3، ص 153.

16. النساء / 131.

17. تفسير ابن عاشور، ص 99.

18. في فلسفة التربية، نظريا وتطبيقيا، أحمد على محمد، المنهل، 2014. ص 130.

19. شرح نهج البلاغة. مصدر سابق. ج 5، ص 135.

20. النساء / 69.

21. تفسير الميزان، الطباطبائي، ج 1، ص 176.

ص: 137

22. تفسير الميزان. مصدر سابق. ج 19، ص 88.

23. شرح نهج البلاغة (ابن میثم)، ج 4، ص 39

24. نفسه، ج 4، ص 43 - 44

25. نفسه، ج 5، ص 136.

26. محمد / 7.

27. تفسير الميزان. مصدر سابق. ج 18، ص 120.

28. شرح نهج البلاغة (ابن میثم) ، ج 2، ص 30.

29. نفسه، ج 2، ص 33.

30. يوسف / 35.

31. تفسير الميزان. مصدر سابق. ج 11، ص 106.

32. شرح نهج البلاغة (ابن میثم)، ج 5، ص 36.

33. الأخلاق في القرآن ج 2: 259.

34. تحف العقول: 282.

35. العفة القرآنية.. سورة يوسف مثالاً، جعفر علي المالكي، مجلة رسالة القلم - العدد 27 - 7 رجب 1432 ه ( https://www.olamaa.cc /).

36. شرح نهج البلاغة (ابن میثم)، ج 5، ص 36.

37. الكهف: 28.

38. ينظر: مفردات غريب القرآن: 273.

39. الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، دار الحديث، القاهرة، 1994. ج 4، ص 104.

40. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ج 6، ص 173.

41. قوت القلوب في معاملة المحبوب: أبو طالب المكي: 1/ 331.

42. الاغراض الاجتماعية في نهج البلاغة، محسن الأمين، ط 2، مؤسسة البلاغ، 1987.

43. سيف الإسلام على مطر، التغير الاجتماعي، ط 2 (المنصورة دار الوفاء للطباعة، 1988) ص 79

44. قاری محمد إسماعيل، قضايا علم الأخلاق، مرجع سابق، ص 77

ص: 138

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم

1. ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 2008.

2. أبو جادو، صالح محمد، سيكولوجية التنشئة الاجتماعية، ط 1، دار المسيرة، عمان، 1889.

3. الأمين، محسن، الاغراض الاجتماعية في نهج البلاغة، ط 2، مؤسسة البلاغ، 1987.

4. البحراني، العلامة كمال الدين میثم بن علي بن میثم، شرح نهج البلاغة، ط 1، منشورات دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع، 1999.

5. تفسير الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائی، صححه وأشرف على طباعته: الشيخ حسين الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، طبعة 1 محققة، 1997.

6. الحراني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، انتشارات الإسلامية، 1384 ه. ق.

7. الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف (ت: 502 ه)، المفردات في غريب القرآن: تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، دمشق، ط 1412، 1 ه.

8. زهران، حامد عبدالسلام، علم نفس النمو، «الطفولة والمراهقة»، ط 5، علم الكتب، القاهرة، 1990.

9. الزيود، ماجد، الشباب والقيم في عالم متغير، ط 1، الأردن، عمان، دار الشروق، 2006.

10. سيف الإسلام، على مطر، التغير الاجتماعي، ط 2، دار الوفاء للطباعة، المنصورة 1988.

11. الشماع، نعيمة، الشخصية النظرية والتقييم مناهج البحث، المنظمة العربية للتربية

ص: 139

والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1977.

12. الشيرازي، الشيخ ناصر مکارم (دام طلّه العالي) بالتعاون مع مجموعة من الفضلاء، الأخلاق في القرآن، مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. د. ت.

13. عبد الله، نبوية لطفي، مفهوم الذات لدى الاطفال المحرومين من الام دراسة مقارنة، جامعة عين شمس، مصر، 2000.

14. عبود، ضحی، وبشری نبیل خليل، النسق القيمي وعلاقته بالقلق لدى عينة من طلبة جامعة دمشق، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية - سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية (المجلد 63) (العدد 3)، 2014.

15. العقاد، عباس محمود، عبقرية الامام علي ع المكتبة العصرية للطباعة والنشر، مصر، 1949

16. الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، دار الحديث، القاهرة، 1994.

17. القريشي، باقر شریف، شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، تحقيق: مهدي باقر القريشي، ط 1، ستارة للطباعة، النجف الأشرف، د. ت.

18. المالكي، جعفر علي، العفة القرآنية.. سورة يوسف مثالاً، مجلة رسالة القلم - العدد 27 - 7 رجب 1432 ه ( https://www.olamaa.cc /).

19. محمد، أحمد علي، في فلسفة التربية، نظريا وتطبيقيا، المنهل، 2014.

20. المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ط 2، تحقيق: محمد ابراهیم، دار الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع ،بیروت، 2007.

21. المغازلي (المتوفي: 483 ه)، علي بن محمد بن محمد بن الطيب، مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المحقق: أبو عبد الرحمن تركي بن عبد الله الوادعي، ط 1، دار الآثار ، صنعاء، 2003.

ص: 140

22. المفيد، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي،، ط 1، نشر وتحقيق: مؤسسة ال البيت لإحياء التراث، د. ت.

23. المكي، أبو طالب (ت 386 ه)، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، ط 1، دار العلوم، القاهرة، 2001.

ص: 141

ص: 142

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الإنسان في ضوء سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) وانعكاسها في خدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا أ. د. صباح حسن عبد الزبيدي جامعه بابل / كلية التربية للعلوم الإنسانية

اشارة

ص: 143

ص: 144

الفصل الاول مدخل عام

مشكلة البحث

من المعلوم ان الانسان كائن اجتماعي عظيم ومفضل عند الله سبحانه وتعالى. فقد اکرمه تبارك وتعالى بجملة من الخصائص المميزة، وقد فاق بها على جميع الخلائق والكائنات. وبذلك اعتلى في سلم المراتب والدرجات الى القمه الرفيعة من التكريم والتفضيل. استنادا الى قوله تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» سورة الاسراء / 70 (عبد العزيز: 1984)

وفي ضوء ما تقدم اهتم الاسلام بالإنسان والعناية به والحرص عليه. فقد احاط الاسلام بالإنسان بان جعله سيد الخلائق وبلا منازع حيث انه منذ وجوده في بطن امه جنینا، ومروا بفتره الطفولة والفتوه والشباب ثم انتهائنا بالشيخوخة. فقد اهتم الاسلام بالإنسان كون (الاب. الام. الزوج. الزوجة. الشباب. الفتاه. العامل، الطبيب. المحامي. المعلم. القاضي. المجاهد في سبيل الله. يقدم خدمته للمجتمع الذي يعيش فيه. اي ان الذي يؤمن بالعقيدة الإسلامية دون تفريق وهي الايمان (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر. والقدر، وكذلك يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم شهر رمضان وحج البيت ان استطاع اليه سبيلا. وكذلك يريد الانسان الوالد الذي يفرض على الابوين واجب العناية والرعاية والتكريم والتقدير والاحترام. فقد حدد مكانه الاب والام او الزوج والزوجة، وكذلك بر الوالدين.

ص: 145

وكذلك اكد الاسلام على الانسان الجار الذي وجب عليه العناية بالجار. في تقديم المعونة له في اوقات الضيق والحاجه. والاهتمام بالإنسان اليتيم والضعيف والمسكنين الذي فقد ابه وامه، وكذلك اكد على الانسان العالم الذي يمثل مرکز الصدارة من حيث التقدير والعناية. وذلك بما يحمل من علم ثاقب ونظرة وتفكير وتعظيم اهل العلم وطالبيه. والأنسان العامل الذي يعمل بالعقيدة الإسلامية في الخير النافع، فيعمل بمصلحة العامة وليس بمصلحته الخاصة وكذلك الانسان المجاهد الذي يجاهد بالعلم واللسان من خلال الكلمة الطيبة واصلاح المجتمع وفي تايد الواجبات المقدسة ضد العدو.

ومن هنا جاءت سيرة المير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان خلقا وعلما وروحا یما يقدمه من خدمات للمجتمع الاسلامي، فالأمام (عليه السلام) يريد من الانسان قيم فاضله تتمثل بالإنسان العابد الذي يمتثل للطاعه والخضوع إلى الله سبحانه وتعالى بمشاعره وعاطفته. وان یکون واعيا ترسخت به العقيدة الإسلامية وحب اخيه المسلم بغض النظر عن لغته التي ينطق بها او جنسه الذي ينتمي اليه او او قومه الذي يحيا بينهم.

وبذلك يريد الأنسان المؤمن الذي يكون بناءه وفق ایمانه الصادق. وان الله سبحانه وتعالى معه في ايمانه الصادق في كل مكان وزمان وعند ذلك تتحقق المضامين. الاستقرار النفسي ومهما تعرض هذا الانسان إلى مشاكل او متاعب او وساوس او اوهام ويبدل ذلك حياته من الخوف والقلق الى حالة الامن والسلام. ويشعر الإنسان بالتالي بالسعادة والهاء استنادا الى قوله تعالى «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» 28 سورة الرعد / 28 (الحيالي. صبر واخرون: 2014)

ص: 146

أهمية البحث:

1. بناء شخصيه قوية العقيدة، قوي في الفكر الاسلامي، متمسكة بتطبيق القيم الأخلاقية الفاضلة في مؤسساتنا المختلفة مقتديه بهذه القيم في عملها مستقبلا مستمدة من منابع القيم الإسلامية واهل البيت (عليهم السلام) جعل هذه القيم خطوط عريضة في بناء الامه الإسلامية التي تستنير بقادتها ورموزها الدينية فب بناء الفرد والمجتمع

2. التأكيد على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة التي جاء بها الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام (القناعة، الكرم، العفة، الأمانة، التأخي، اليقين، الكلم الطيب، محاسبه النفس، التوبة،. طاعه الله وتقواه، الثبات على المبدأ، الشكر... الخ

3. لقد اكدت الأهداف التربوية في العراق على ضروه بناء شخصيه الانسان المتكاملة. وان بناء شخصيه الانسان تتأثر بالعناصر التأليه (الروح. والنفس. والعقل) سلبا او ايجابا. فأي خلل في هذه العناصر أو المكونات يؤدي الى ضعف في جوانب شخصيه الانسان وذلك تبعا للمرحلة العمرية ومستوى الادراك والاستيعاب والبيئة المحيطة به والاسس العقائدية والفكرية. كما اكدت عليها عدة دراسات وبحوث في مجال التربية وعلم النفس التي تحدثت عن جوانب بناء الشخصية وانماطها واشكالها وخصائصها وقوتها وضعفها ومن الخصائص هذه الشخصية ومنها:

• الشخصية المتوازنة: فهي الشخصية الإيجابية المقبولة عند الله والرسول والناس ولابد للمسلم ان يتحلى بها ويلتزم بثوابتها

ص: 147

• الشخصية المتفاعلة:- فهي الشخصية التي تتفاعل مع الاحداث والمواقف بالإيجاب او السلب مما يصبها في بعض الاحيان (التهور والاستعجال) او تكون بعيده عن ذلك وتوصف هذه الشخصية بانها غامضه

• الشخصية الإنتاجية: فهي الشخصية التي تتحرك حسب قوانين وسنن الحياه وتستخدم كافه عوامل الخير في ذاتها لأجل الوصول إلى أهداف إنتاجيه حسب الطلب والغاية

• الشخصية المرنة: فهي الشخصية التي تتصف بالمرونة والجذابة وتمتلك اساليب التعامل والتفاعل والتكييف ولها القدرة على التخطيط الواعي والناجح والتعامل مع كافة الظروف ولها القدرة على التغير الايجابي في مواجهه الصدمات والمفاجئات. (الخاقاني: 2011)

1. استنباط القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة من منابعها الأساسية (القران الكريم والسيرة النبوية المطهرة والعترة الطاهرة ويقف في مقدمة ذلك سيدنا و مولنا الإمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

2. ان القيم الأخلاقية الفاضلة تشكل رکینا اساسيا في بناء الشخصية السوية الإسلامية لأنها تتمثل في تنظيم المجتمع وهي مصدر سعادة الانسان واستقامته، استنادا الى قوله تعالى «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» سورة القلم / 4

3. ان القيم الأخلاقية الفاضلة لها دور كبيرا في نظم الاسلام. استنادا الى قول الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (انما بعثت لا تتم مکارم الاخلاق) فهي ترض بکمال الدين والسعادة النفسية في عالم الدنيا والاخر

4. تمكن المجتمع ومؤسساته الاخرى ان تغرس هذه القيم قولا وسلوكا وهي

ص: 148

(الصدق. الرحمة. العدل. الأمانة. المحبة. الايثار. الثقة بالنفس. الجد في العمل كلها تساهم في بناء الانسان المؤمن المجاهد المتعلم الذي يواجه مشکلاته بسلوك العادل القائم على الاستقامة والتفاعل والانسجام

أهداف البحث:

يهدف البحث الإجابة على الأسئلة الأتية:

1. التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان وخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في الفلسفة الإسلامية

2. التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

3. توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في خدمة المجتمع الاسلامي

4. توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا

حدود البحث:

يقتصر حدود البحث على الأدبيات الآتية:

أ- الأدبيات التي تناولت موضوع القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة والمنشورة في الأدبيات حتى عام 2017

ب- الأدبيات التي تناولت سيرة أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد المنشورة حتى عام 2017

ص: 149

تحديد المصطلحات:

سيتم تحديد المصطلحات الآتية وهي:

أولا: الدور: ويعرف بعدة تعاريف منها:

أ- وهو توقعات لأنماط معينة من السلوك تشكلها الخصائص الرسمية والتي يحددها الفرد او الجماعة (قمر: 2005)

ب- يعرفه مذكور، هو وضع اجتماعي ترتبط به مجموعة من الخصائص الشخصية ومجموعة من ضروب النشاط التي يعزو اليها القائم بها والمجتمع معا

ج- مجموعة من الافعال المكتسبة التي يؤمن بها شخص في موقف تفاعلي اجتماعي (مذکور: 1975)

د- ويعرف اجرائيا (هو سلوك متوقع تقوم به السيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في ضوء القيم الأخلاقية الفاضلة لبناء الانسان وخدمة المجتمع الاسلامي وتضمينها في المناهج الدراسية الجامعية

ثانيا:- القيم الأخلاقية الفاضلة:

1- القيم:- وتعرف القيم بعدة تعاريف بجانبها النظري والعملي

أ- القيم المادية هي كالمعادن النفيسة.

ب- القيم المعنوية وهي الاستقامة وحسن السمعة.

ج- القيم في نظر علماء الاجتماع- هي حقائق تعبر عن التركيب الاجتماعي يعتمد الافراد والجماعات على تطبيقها بغية الوصول اهداف ما. (النروه

ص: 150

جي: 1990).

د- عرفها الخوري: هي القواعد والسلوك التي يستطيع الناس من خلالها وبواسطتها ان يستمد امالهم ويجربوا تصرفاتهم (خوري: 1983).

ه- هو كل مفهوم او موضوع او هدف مرغوب فيه وتسعى المدرسة الى ترسيخه وجعله سلوكا ممارسا مطلوبة تحقيق، وهذه القيم، على انواها (وطنيه، قوميه، انسانيه) (وزارة التربية العراقية: 1992)

و- عرفها کنعان:- هي معيار للحكم على كل ما يؤمن به مجتمع ما ويؤثر في سلوك أفراده حيث يمكن خلالها الحكم على شخصية الفرد، من حيث صدق الانتماء نحو المجتمع لكل افكاره ومعتقداته واهدافه وطموحاته. وقد تكون هذه القيم ايجابيه او سلبيه (کنعان: 1999)

ز- ويعرفها الباحث اجرائیا:- مجموعه المبادئ والقواعد والمثل العليا والسلوك والمستمدة من القران الكريم والسنة النبوية المطهرة والتي اكد عليها الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) التي يستطيع الناس من خلالها ان يستمدوا امالهم ويزنوا تصرفاتهم وسلوكهم في الحياه العامة ولاسيما التربوية منها

2-: الاخلاق:-. وتعرف بعدة تعاريف: بجانبها النظري والعملي:

أ- عرفها مهدي واخرون:- هي الفعل السلوكي الذي يتضمن العادات والتقاليد والآداب والمثل المرعية في مجتمع ما. (مهدي واخرون: 2002).

ب- عرفها عبد العزيز: هي السلوك الذي يسلكه الانسان في الحياة (عبد العزيز: 1981)

ص: 151

ج- يعرفها الباحث اجرائیا:-

هي الفعل السلوكي الذي يتضمن العادات والتقاليد والآداب والمثل المرعية في مجتمع ما. والذي يسلكه الانسان من خلال حياته العامة والتي تساير المعايير الاجتماعية في المجتمع الذي يعيش فيه الانسان والتي يمكن ان تظهر من خلال التنشئة الاجتماعية والتربية وتهذيب بالدين والقانون الطبيعي للحياة

3-: القيم الأخلاقية:- وتعرف بعدة تعاريف: بجانبها النظري والعملي:

أ. عرفها احمد (بانها مجموعه من العادات والتقاليد والمعاير والاهداف العليا التي يؤمن بها المجتمع وتعمل على تنظيم الحياه الاجتماعية وتوجيه السلوك الاخلاقي نحو وجهه الخير والفضيلة ودرء الاخطار والمشكلات التي تواجه المجتمع (بركات: 1982)

ب. عرفها الطهطاوي: - بانها (مجموعه المبادئ والقواعد والمثل العليا التي يؤمن بها الناس ويتفقون عليها فيما بينهم ويتخذون منها میزانايزنون به اعمالهم ويحكمون تصرفاتهم المادية والمعنوية: (الطهطاوي: 1996)

ج- وعرفها الباحث: بانها مجموعه المبادي والقواعد والمثل العليا التي يؤمن بها المجتمع والمستمدة من القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) والتي اكد عليها امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا.

ص: 152

ثالثا:- امیر المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

وهو الامام علي بن ابي طالب امير المؤمنين (عليه السلام) شخصيه عظيمه لا تنحصر على المسلمين فحسب بل هي شخصيه عالميه للناس كافه نستمد منها دروس وعبر في الحياه

ولد الامام في (13) من شهر رجب عام 23 قبل الهجرة النبوية الشريفة، وقد قدر له ان يولد في بيت الله الحرام واحتضنه ابن عمه الرسول الاعظم محمد (صلی الله عليه وآله) منذ صغره فقد غداه من علمه عندما بعثه الله سبحانه وتعالى، فكانت حياته مشتركه مع حياة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فكان الشخصية الوحيدة التي يليق هذه المكانة والمنزلة، وقد عاشر حياه مجاهد في سبيل نشر الاسلام والحفاظ عليه حتى قتل مظلوما شهيدا المحراب على يد اشق الاشقياء عبد الرحمن ابن ملجم في (19) من شهر رمضان سنه (40 ه) (سوادي: 2010)

من المعلوم ان الدين الاسلامي، هو دين الاخلاق الكريمة، والمثل العليا وفي هذا الصدد يقول الامام امير المؤمنين (عليه السلام) ((لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشی نارا ولا ثوابا ولا عقابا لكان ينبغي لنا أن نطلب مکارم الاخلاق، فأنها تدل على سبيل الناجح)

رابعا:- البناء - (Structure) وتعرف نظريا

أ- هو الكل المؤلف من الظواهر المتضامنة بحيث تكون كل ظاهرة فيها تابعه للظواهر الاخرى ومتعلقة بها، بعبارة أخرة وهو (تنظيم دائم نسبيا تسير اجزاؤه في طرق مرسومه ويتخذ نمطه بنوع النشاط الذي يتخذ، فيقال (

ص: 153

(البناء الطبقي، البناء الاجتماعي) (بدوي: 1977)

ب- ويعرف اجرائیا:- هو مجموعه اجراءات وخطوات تتضمن الاطلاع على الادبيات السابقة ثم استنباط مفاهیم مفهوم بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في ضوء القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا

خامسا: بناء الشخصية:

وتعرف بعدة تعاریف بجانبها النظري والعملي:

أ- عرفها البورت (Allport) في كتابه 1937 بعدة تعاريف المختلفة وهي (هي تنظیم دینامیکی يمكن داخل الفرد من تنظيم كل الاجهزة، النفسية والجسمية التي تملىء على الفرد طابعه الخاص في التكييف مع بيئته.

ب- عرفتها وهي مجموعة الاستعدادات والقدرات (العقلية + الجسمية + الوجدانية + المهارية + الاجتماعية) التي تميزه عن بقيه الاخرين (هناء: 1985)

ج- يعرف الباحث اجرائيا:- وهي مجموعه من القدرات والاستعدادات والميول والاتجاهات والمعلومات والافكار وقيم أخلاقية التي اكد عليها امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الشخصية الإسلامية لخدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا التربوي

سادسا:- المجتمع:

بصورة عامه:- (بانه مجموعه من الافراد يعشون فوق بقعه معينه من الارض

ص: 154

ويتسمون بالتعاون والتضامن ويربطهم تراث ثقافي معين ولديهم احساس بالانتهاء والولاء لمجتمعهم ويكونوا مجموعه من مؤسسات تقدم لهم خدمات تحقيق اشباع حاجاتهم ولهم تنظيم من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مكونين حضارة انسانية (ناصر: 1983)

سابعا:- المجتمع الاسلامي الموحد

ويمكن تعرفه اجرائيا:- الذي يحمل رساله انسانية وعلميه هادفه تحارب الأميه والجهل والمرض والتخلف والفساد بكل اشكاله، ويؤمن أفراده بالتطورات والمستجدات الحديثة في بناء المجتمع الانساني، کما یؤمن بالقيم الأخلاقية الفاضلة العدل، المساواة، الحرية، التسامح، والتعايش السلمي، الحوار وقبول الاخر، قولا وفعلا، وكذلك يؤمن افراده بالوحدة الوطنية للأرض والشعب واللغة والهوية والانتماء والولاء الحقيقي للامه في تمسك المجتمع. اي المجتمع الذي يطبق مبادى الاسلام والشريعة الإسلامية القائم على الايمان بالله الواحد وكتبه ورسله واليوم الآخر والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله الایمان بالقضاء والقدر، والجنة حق والنار حق، والبعث حق، واداء الصلاة والصوم والحج والزكاة وحمايه الجار والفقراء والمساكين اي العامل بكتاب الله وسنة رسوله الكريم واهل بيته الاطهار وتسمو فيه كل القيم الأخلاقية الفاضلة، بعيدا عن السرقة والقتل وشرب الخمير والميسر، الفساد بكل اشكاله، اي المجتمع

وفي ضوء ما تقدم، ان المجتمع الاسلامي الموحد يستمد اصوله من (القران الكريم والسنة النبوية المطهرة واهل البيت (عليهم السلام) وهذا يطلب من المجتمع الاسلامي تطبيق مبادى الاسلام النظرية والعملية التي تبدا من الأسرة والمدرسة وبقيه المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وبذلك

ص: 155

تنعكس على سلوكيات افراده في التعامل مع الاخرين سواء في الاسواق، الشارع، الجامعة، الإدارة، اي كيف يحب البعض البعض، وكيف يقدم مصلحته الوطن والعامة على مصلحته بعيدا عن التمييز والتفرقة العنصرية والفئوية والعشائرية والقومية والتعصب لكل اشكاله، اي دون تمييز بين اللون والجنس والدين والقومية والمذهب

ثامنا:- المنهج الدراسي:

ويعرف بعدة تعاریف

• وهو وثيقه تربوية مكتوبة تصف اهداف التعلم التي ستعمل المدرسة على تحقیقیها لدى التلاميذ مع ما يناسبها من معارف والخبرات والأنشطة التربوية والتعليمية (الزبيدي: 2010)

• ويعرفه الباحث اجرائیا:- وهو جميع الخبرات التي تخططها المدرسة سواء داخل المدرسة او خارجها بقصد تعديل سلوكهم لأبناء شخصية متكاملة في جوانبها العقلية والجسمية والوجدانية والمهارية والاجتماعية طبقا للفلسفة التربوية للبلد لتعزيز مفهوم القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان والمجتمع في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

منهجية البحث:

اعتمد الباحث على المنهج البحث الوصفي التحليلي للأدبيات المرتبطة بالقيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع في ضوء سيرة أمير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتوظيفيها في المناهج الدراسية الجامعية

ص: 156

الفصل الثاني التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد

إن التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية في بناء الإنسان والمجتمع الإسلامي الموحد يشمل

طبيعة القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:

من المعلوم ان مصدر القيم الأخلاقية الفاضلة مستمده نمت القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) واهل البيت (عليهم السلام) لذا على كل مسلم مؤمن ان يتمسك بهذه القيم الأخلاقية الفاضلة ويجسدها في عمله وسلوكه اليومي استنادا الى قوله تعالى «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» سورة الحشر / 7

وبذلك يعد القران الكريم المصدر الاساسي للإسلام في استنباط القيم الأخلاقية وهي التي وردت في القران الكريم والتي يطلب من المسلمين التطبيق الفعلي والسلوكي لما ورده، ويمكن نقلها وتطبيقها في التربية ولاسيما المناهج التربوية الإسلامية لأجل الحفاظ على وحده الأمة الإسلامية ووحدتها الفكرية والثقافية

اهمية القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:

وعليه فان اهمية القيم الأخلاقية الإسلامية تكمن ب

أ- انها تستهدف الى اقامة علاقات طيبيه بين (الانسان وربه) وبتأدية حق الله سبحانه وتعالى والالتزام بأوامره ونواهيه في اداء العبادات الواجبة

ص: 157

ب- انها تستهدف اقامة علاقات طيبه بين (الانسان والناس) لذا يجب ان يلتزم كل واحد بواجباته اتجاه الاخر. يهدف البحث الإجابة على الأسئلة الأتية:-

ج- التعرف على القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

د- توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في خدمة المجتمع الاسلامي

ه- توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سير امير المؤمنين علي ابي اب طالب (عليه السلام) في بناء المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا

و- انها تستهدف في اقامة علاقاه طیبیه [ین الانسان ونفسه) وما مطلوب ان ينهض به من عمل وواجب وضمير يشعره بالرضاعن ذاته ويبعده عن التوترات النفسية والعقد وحل محلها الايمان بالدين و ممارسه الشعائر وبذلك يحقق الخير

خصائص القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:

من المعلوم ان القيم الأخلاقية الإسلامية في الدين الاسلامي هي حقائق مطلقه لأنها مستمده من القران الكريم وسيرة الرسول محمد (ص) واهل البيت (عليهم السلام) فهي تستهدف في بناء الانسان المسلم السوي وكذلك المجتمع الاسلامي معا

وان خصائص القيم الأخلاقية الإسلامية هي:

ص: 158

• انها مطلقه وثابته وليست نسبيه: وهي بذلك لا تتغير ولا تتبدل فهي تدور في اطار حياة الفرد والمجتمع بالثبات

• مصادرها الوحي الإلهي:- فهي مستمده من القران الكريم وأحاديث الرسول محمد (ص) و اهل البيت (عليهم السلام). فهي لا تخضع للتجريب وتبي ان تختبر علميا للتأكد من صدقها. اي فهي صادقه لا تحتاج إلى التصديق او تصویب

• موضوعيه وليست ذاتیه: أي لا تخضع للتأويل الفردي ولا لمزجه والاهواء. وهي لا تتأثر بالظروف والاحوال، ولا تكون مطيه لتحقيق مارب و منافع اخرى

• لها سلم ثابت ومتوازن بين (القيم الروحية التي يقف الايمان على راسها) وبين القيم المادية التي ينم تفسيرها بعده تفسيرات في التطبيق وتنسجم مع علاقه الفرد مع ربه وعلاقته مع نفسه وعلاقته مع الناس الاسدي ويحيی 2012)

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة ودورها في بناء (الانسان والمجتمع):

لقد اهتم الاسلام بالجانب القيم والأخلاقي للإنسان والمجتمع معا. حيث ورد في القران الكريم (1504) مفهوم اخلاقي وما يتصل بالأخلاق والقيم سواء بالجانب النظري او العملي ويمثل القيم الأخلاقية في القران الكريم (ربع القران الكريم) وبذلك اثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) بقوله «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» سورة القلم / 4 وكذلك اكد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) على الأخلاق بقوله (صلى الله عليه وآله) (إنما بعثت

ص: 159

لأتتم مکارم الاخلاق)

وفي ضوء ما تقدم أن الاسلام نظر الى الاخلاق بجانبين عما (القول والفعل) استنادا الى قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» سورة الكهف / 107

وبناء على ما تقدم ان نظرة الاسلام الى القيم الأخلاقية نظرة شمولية (للإنسان والمجتمع) وكذلك للكون وهي مستمده من القران واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الاطهار بنظرة تقديس والعمل والعبادة والترابط بين (الفرد والمجتمع والمعرفة) وهي مصدر التشريع القرآني ضمن الشريعة الإسلامية (الزبيدي: 2018)

لقد اكد الدين الاسلامي على مجموعه من القيم الأخلاقية الفاضلة والتي لها دور كبير في بناء (الانسان والمجتمع) انظر الى الجدول رقم (1) يمثل مجموعه من القيم الأخلاقية الإسلامية وهي

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة

الاخلاص لله تعالى القوة والايمان الاستقامة النصح والموعظة الصفح والتجاوز عن السيئات التواضع العدل والمساواة قضاء حوائج الناس ترك الضن والسوء التعاون والتكافل الوفاء بالعهد الإصلاح بين الناس احترام الاديان والشائر الرحمة بين المؤمنين الصبر حسن الكلام الأمانة تحمل المسؤولية المشاورة في الامور الحياء

ص: 160

العطف على اليتامى والمساكين الاعتزاز باللغة

1. الاخلاص لله تعالى: -: - قال سبحانه وتعالى «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» سورة الزمر / 65))

2. القوة والايمان:- قال الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» سورة القصص / 26))

3. الاستقامة: - قال الله سبحانه وتعالى «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» سورة فصلت / 30

4. النصح والموعظة: - قال الله سبحانه وتعالى «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ» سورة الاعراف

5. الصفح والتجاوز عن السيئات: - (قال الله سبحانه وتعالى «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» سورة الشورى / 40

6. التواضع: - قال الله سبحانه وتعالى «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا» سور الاسراء / 37 - 38

7. العدل والمساواة: - قال الله سبحانه وتعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ

ص: 161

وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» سورة النحل / 90

8. قضاء حوائج الناس: - قال الله سبحانه وتعالى «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» فبما رحمه من ربك) سورة ال عمران / 159

9. احترام الاخرين -: قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» سورة الحجرات / 11

10. ترك الضن والسوء:- قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» سورة الحجرات / 12

11. التعاون والتكافل:- ((قال الله سبحانه وتعالى «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» سورة المائدة / 2

12. الوفاء بالعهد: - قال الله سبحانه وتعالى «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» سورة الاسراء / 34

ص: 162

13. الاصلاح بين الناس:- قال الله سبحانه وتعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» سورة الحجرات / 10

14. احترام الاديان والشعائر: - قال الله سبحانه وتعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» سورة البقرة / 136

10. مصاحبه الاخبار:- قال الله سبحانه وتعالى «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» سورة المجادلة / 22

16. الرحمة بين المؤمنين:- قال الله سبحانه وتعالى «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» سورة المائدة / 54

17. الصبر:- قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» سورة البقرة 153

18. حسن الكلام:- قال الله سبحانه وتعالى «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا» سورة الاسراء / 53

ص: 163

19. الأمانة:- قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» سورة الانفال / 27

20. تحمل المسؤولية:- قال الله سبحانه وتعالى «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة / 63

21. المشاورة في الامور قال الله سبحانه وتعالى «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ال عمران / 159

22. الحياء:- قال الله سبحانه وتعالى: «فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» سورة القصص / 25

23. الايثار:- قال الله سبحانه وتعالى «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» سوره الحشر / 9

24. العطف على اليتامى والفقراء:- قال الله سبحانه وتعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» الانسان 8 - 9 وقوله تعالى ايضا «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الحشر 9،

25. الاعتزاز بالعروبة والاسلام: - قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» يوسف / 2 (الاسدي ويحى 2012)

ص: 164

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في البناء العقائدي أو الفكري للإنسان من خلال:

اولا:- دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان

1. من المعلوم ان الفلسفة الإسلامية تنظر الى الإنسان بانه افضل ما في الكون الذي يشمل العناصر والموجودات والمخلوقات. وقد يجمله من الخصائص على بقيه المخلوقات. فقد خلقه الله سبحانه وتعالى وزوده بالاستعدادات والقدرات لكسب المعارف والمهارات لأجل القيام بالعمليات العقلية المتعددة، وبذلك وضع الأسماء والمصطلحات لبكل ما موجود في الطبيعة وقد استخلف في الأرض لأجل ان يعمرها، وكذلك حمله المسؤولية المحافظة. استنادا الى قوله تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» سورة الاسراء / 70)

لذلك نقول ان الفلسفة الإسلامية نظرة الى الانسان نظرة متكاملة للأبعاد الثلاث (الجسم + العقل + الروح) اذا جعل فیمها الانسجام في تكوين الشخصية المتكاملة واي انحراف في هذه الجواني لني ينشا الضرر بعلى الفرد نفسه بل على المجتمع (الزبيدي : 2018)

وبذلك تساهم في بناء الانسان العابد. المجاهد. العامل بكتاب الله سبحانه وتعالى ما يريده و ماینهاه الله تبارك وتعالى:

2. الانسان العابد:- من المعلوم ان هذا الكون والعالم شهد لله سبحانه وتعالى بالعبادة والوحدانية والربوبية. ويقرر القران هذا المبدأ في العبادة والتسبيح والصلاة. استنادا إلى قوله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»

ص: 165

سورة الذاريات / 56. لذلك ان الانسان فطر على التوحيد وكون على الاتجاه الرباني استناد إلى إلى قوله تعالى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» سورة الروم / 30

وكذلك روي عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) ما معنى هذه الآية. فقال (عليه السلام) (فطرهم على التوحيد) اي (كل مولود يولد على الفطرة) أي ((يعني على المعرفة بان الله الله خلقه)

وبذلك ان تتحدث المناهج الإسلامية عن ((تنشئه الانسان / الطفل)) على الفطرة وعلى معرفه الله من خلال النظر والتفكير والاستغراب لما يشاهد في الكون من علامات. السماء. التفكير. الاشجار. البحار. الحيوانات.... الخ وان التقرب إلى الله سبحانه وتعالى من خلال (غرس القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها القران الكريم واهل بيته الأطهار (عليهم السلام)

3. الإنسان العامل والواعي:- من المعلوم ان الانسان هو كائن حي عاقل ومفكر يدرك الاشياء بوعي ويكتسب العلوم والمعارف من خلال ادراكه للعالم الذي يحيط به ويأمله في الكون والوجود. وفي ضوء ما تقدم يكتسب الانسان هذه المعلومات من خلال العلم والمعرفة باستخدام العقل واكتشاف القوانين العلمية والاسلام. فقد اكد الاسلام على طلب العلم واعتبره فريضه من الفرائض الإسلامية الواجبة. استنادا الى قول الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (طلب العلم فریضه على كل مسلم) (الخاقاني: 2011)

وبذلك تكسب هذه المعلومات من خلال غرس قيم حب العلم والطلب

ص: 166

والعمل بموجبها....

وتأسيسا على ما تقدم اكد الاهداف التربوية في العراق على بناء الشخصية الانسان وتطويرها بجوانبها الشاملة (الجسمية + العقلية + الروحية + الاجتماعية) لينشا مواطن صالح يؤمن بالله والمثل الإنسانية ويدرك رسالته الوطنية فضلا اكسابه ادوات المعرفة الأساسية الثقافية العربية الإسلامية مؤكد نحو جوانب الشخصية وهي:

بناء الانسان بشكل متكامل في نظر الاسلام:

انظر الى المخطط رقم (2) يمثل بناء شخصية الانسان المتكاملة.

بناء شخصية الانسان المتكامله في نظر الاسلام

بناء الجسم (1) بناء العقل (2) بناء الروح (3) البناء الاجتماعي (4)

1. بناء الجسم: ومن المعلوم ان بناء الانساء في ضوء نظرة الاسلام يبنى بشكل وحدة متكاملة. فقد دعا الاسلام الى اعطاء الجسم حقه في الطعام. الشراب. العلاج. اللباس. السكن. الجنس. واعتبرها ضرورة للحياة. وبذلك وجب على المناهج الإسلامية التركيز على غرس مفاهيم • العناية بالجسد والجسم. وفي تناول الأطعمة والأشربة وممارسه الرياضة ونظافة الجسد. ونظافة اللباس. والبيت والمحلة. والإفاضة في الملابس والزينة استنادا الى قوله تعالى

ص: 167

«قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» سورة الأعراف / 32

وبذلك اكد الاسلام على التوزان في السلوك واحترام الحقوق المادية للجسد والاهتمام بشؤون الحياه والعمل. وكذلك حرم الضرر بالجسم. استنادا الى قوله تعالى «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» وفي تناول المحرمات وممارسات العادات السيئة للجسم خوفا من سقوط الجسم في الامراض ومنها (التدخين. وشرب المسكرات)

2. بناء العقل:- من المعلوم أن الاسلام ينظر الى بناء العقل وتنميته من خلال تنميه قدره التأمل والنظر والتفكير. فهو يدعوه الى النظر الى الطبيعة والكون والنفس وتأملها واستبطانها. فهو يؤكد لدور المناهج الإسلامية بتنمية قدرات التخيل والتصور بما ابدعه القران الكريم في مشاهده الصور الغيبية عن (الغيب والقيامة) وكذلك تقوية الذاكرة والتذكر من خلال حفظ القران الكريم واستيعاب معانيه ومفاهيمه استنادا الى قوله تعالى «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ» سورة الذاريات 22/21/20)

3. بناء الروح: ومن المعلوم ان الاسلام ينظر الى الروح والقيم الروحية بمنظر التقديس فهي تساهم في بناء الانسان بشكل متكامل واستنادا إلى قوله تعالى: «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»

ص: 168

سورة الحشر / 9 وكذلك قوله تعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» سورة الانسان / 8/ 9 ان هذه القيم الروحية هي الت تجعل الانسان يشعر بالراحة النفسية من خلال تقديم الخدمة للإنسان الاخر، وبذلك فهي تساهم في بناء المجتمع الاسلامي وتماسكه

4. البناء الاجتماعي:- من المعلوم ان الاسم ينظر ان بناء الانسان اجتماعي وفق القيم الاجتماعية المرتبطة بإقامة العلاقات الاجتماعية السوية بين البشر وبذلك اكد الاسلام على المناهج الإسلامية على ترسيخ مفهوم (التعاون. الانسجام. التكامل في الأنظمة الإسلامية في اطار سياسي، اجتماعي، اقتصادي. اخلاقي مثل تعزيز القيم الأخلاقية الفاضلة (العدالة الاجتماعية. الحرية. المساواة. ومبادی شوری... الخ

وبناء على ما تقدم ان بناء الانسان او النفس البشرية في ضوء الشريعة الإسلامية السوية كلها تساهم في تهذيب النفس الإنسانية من الرذائل والافعال القبيحة مما تساهم في بناء انسان مستقيما في عمله وفعله وبذلك تتكامل الحياة الدنيوية وعليه يصبح سلوك الانسان مساير لما يريده الله سبحانه وتعالى للنفس البشرية وهي (الاستقامة) وكذلك اهل البيت (عليهم السلام) في بناء النفس البشرية ومن هنا يأتي دور المناهج في ترسيخ القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان مستقبلا (الخاقانی: 2011)

ثانيا:- دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء المجتمع الاسلامي الموحد:-

من الواضح ان الاسلام ينظر الى المجتمع بانه صاحب رسالة ودعوة الى الداخل

ص: 169

والخارج، فهو مجتمع متميز له خصائص ومميزات تميزيه عن بقية المجتمعات الانسانية، فهو مجتمع القدوة او المجتمع الوسط وقوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» سورة البقرة آية 143)

وفي ضوء ما تقدم، ان المجتمع الاسلامي يتميز بعدة خصائص:-

أ- مجتمع يوحد الله وطاعة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» سورة النساء اية / 59

ب- يقدس الدين والقيم الاخلاقية، اي الايمان بالله وملائكته وكتبة ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر

ج- يحترم العلم ويقوم على طلب العلم ويعد طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، حيث ان العلم هو الطريق الموصل الى الله والى الهداية ليكون اهلا لخلافة الله في ارضه

د- يواكب التغيير والتطور والمستمرين في الحياة

ه- يقدر العمل والمال ويجعل المال وظيفية اجتماعية، وان المال مال الله، وان البشر يستخلفون فيه، لذا يجب مراعاة مصادر الكسب ومصادر الانفاق واخراج الزكاة وتأدية حقوق الفقراء والتكافل بين افراد المجتمع واستغلال كل مصادر الثروات في صالح الاسلام والمسلمين

و- نظام اجتماعي يقوم على العدل والمساواة بين الافراد بدون تفرقة اي بعيد

ص: 170

عن الجنس واللون والمراكز الاجتماعي

ز- يحترم العلاقات الدولية التي اساسها احترام حقوق الانسان وعدم العدوان والتأكيد على التعاون في كل خير، مع رفض الذلة في النفس او التفريط في الحقوق (الزبيدي: - 2018)

وفي ضوء ما تقدم تساهم القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ناء المجتمع الاسلامي الموحد ومن المعلوم ان رساله الاسلام لبناء المجتمع الاسلامي. تكمن بالقضاء على الظلم والطغيان وعباده الاصنام والاوثان. والاخلاص في عباده الله وحده. والايمان برساله محمد (صلى الله عليه وآله) لانقاض البشرية. والصلاة بخشوع تقربا لله جل ثنائه. واعطاء الزكاة للفقراء والمحرومين والمحتاجين برغبه قلبيه ونفس راضيه وحجج بيت الله الحرام للقادر. واصلاح شؤون الناس والنهوض بالبلاد الإسلامية من خلال القضاء على الجهل والفقر والمرض والظلم الاجتماعي والقضاء على التنازع والصراع والخلافات الطائفية وجعل المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية.

وبناء على ما تقدم تلعب القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء المجتمع الموحد من خلال ترسيخ القيم الأخلاقية الفاضلة و العمل بموجبها وهي (العدالة الاجتماعية. الحرية. الاخاء والمساواة. التعاون. الاتحاد. تحسين احوال الفقراء والعطف على الضعفاء من الرجال والنساء ومعالجه المرضى. وحسن ومعاملتهم. وكذلك بر الوالدين، وصله الرحم. والعطف على اليتامى، ومراعاه حقوق الجار. والاحسان الى المحرومين. والايثار والصدق في القول واداء الأمانة والاخلاص في القول والعمل والدفاع عن المظلوم والعفو والصفح والتسامح عند المقدرة والوقوف بجانب الحق والوفاء بالعهد والوعد. وكذلك حرم الاسلام (القتر.

ص: 171

الزنى، وشرب الخمر ولعب الميسر والقمار. والتعامل بالربا. السرقة. واكل مال اليتامى والاعتداء على الضعفاء... الخ (الابراشي: 1974)

وفي ضوء ما تقدم ان رساله الاسلام في بناء المجتمع الاسلامي الموحد كلها تساهم في تنظيم المجتمع اجتماعيا مصبوغ بصبغه الإسلامية وهي «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ» سورة. البقر/ 138) بحيث يصبح النظام الاسلامي نظام متكامل شامل (سياسي و اقتصادي. اجتماعي. قانوني. عسكري. عسكري . ترفيهي، تربوي. قائم على القيم الأخلاقية الفاضلة. انظر الى بناء المجتمع الاسلامي الموحد.

ص: 172

المحور الثاني سيرة امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

من المعلوم ان سيرة امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) كانت سيرة الانسان الكامل والمثال الحقيقي لم يغنيه يوما كثره مناصريه ولم يفقره قلتهم. وهو يقول ذلك (لا تزيدني كثره الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشه)

وفي ضوء ما تقدم كان الامام (عليه السلام) مثالا للشجاعة في كل باب من أبواب الحياه. فقد كانت له معاني انسانيه. فهو العطوف مع الفقراء والمساكين. وقويا صلبا قاهرا مع المتجبرين الظالمين وبناء على ما تقدم نقتبس من سيرته العظيمة القيم الأخلاقية الفاضلة في يناء الأنسان والمجتمع وهي:

اولا:- ايمانه: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) هو اول المؤمنين. اي اول من امن برسول الله بعد خديجه الكبرى (عليها السلام) ولم يسجد لصنم ولم يأت بمجرم ولم يدنس اذا امن وصلى قبل البلوغ. لذا يقال له (وحده - كرم الله وجهه). لذا نقول ان حقيقيه الايمان يمكن قياسها بالباطن وحقيقيه الامام (عليه السلام) انه نور من نور محمد (صلى الله عليه وآله) ومحمد خلق من نوره. کما روي عن جابر بن عبد الله الانصاري: قال (سالت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ميلاد علي ابن ابي طالب فقال: سألتني عن خير مولود ولد في شبيه المسيح. ان الله تبارك وتعالى خلق عليا من نوري وخلقني من نوره. وكلانا من نور واحد. ثم ان الله (عز وجل نقل صلبنا آدم في اصلاب طاهره الى ارحام زكيه. فما نقلت من صلب الا ونقل علي معي. فلم

ص: 173

نزل كذلك حتى استرد عني خير رحم وهي (امنه واستوع عليا خير رحم وهي (فاطمة بنت اسد)

ثانيا: - زهده: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) كان زاهدا في الحياة فهو الصادق المؤمن بفناء هذه الدنيا وزوالها. المؤمن بالله تعالى. فقد يأخذ من الدنيا ما يقيم به اوده حتى لا يطول وقوته بين يدي الله (عز وجل) يوم يعرض الناس للحساب. انه الزاهد المواسية لأخيه الانسان.

وفي ضوء ما تقدم كانت حياته بمثابه الزاهد اذا كان يعيش مع اولاده (عليهم السلام) في بيت متواضع. وكان يأكل الشعير ويطحنه لنفسه. ويأكل الخبر اليابس الذي يكسره على ركبته. وكان اذا ارعده البرد واشتد عليه الصقيع لا يتخذ له عدة من دثار بقيه اذى البرد. بل يكتفي بمار رق من لباس الصيف

وفي بناءا على ما تقدم زهد امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وترفع عن الدينا وشهواتها وهو القائل: (تزوجت فاطمة (عليها السلام) وما كان لي فراش. وصدقتني اليوم لو قسمت على بني هاشم لوسعتهم) وبذلك نقول ان الزهد عند الامام (عليه السلام) مفروضة بالأخلاق الفاضلة. وهو يقول (عليه السلام) (ان من اعوان الاخلاق على الدين الزاهد في الدنيا)

ثالثا: - شجاعته: - من المعلوم ان شجاعته ادهشت الباحثين على وصفها فقد احتاروا امام عظمة هذا الامام. فأي جانب يتحدثون عنه، فهو المقدم على الاقران. وفي ضوء ما تقدم ان شجاعة الامام (عليه السلام) نابعه من ایمانه بالله (عزوجل) وبرساله اخيه محمد (صلى الله عليه وآله فكان طيلة حياته الشريفة درعا حاميا للإسلام والمسلمين ولم يرفع سيفه الا من اجل احقاق الحق ورفع الاذى عن المسلمين لأجل تثبيت الرسالة الإسلامية واعلاء كلمه الحق والتضحية

ص: 174

من اجل الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو الذي يقدم نفسه فداء للرسالة الإسلامية حينما بات ليلا في مكان الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في فراشه حرصا على سلامته من الاغتيال من قبل الاعداء اعداء الاسلام

رابعا: - عدله: - من المعلوم ان الانبياء والاوصياء هم ميزان العدالة الإلهية. وهم نسمه العدل في هذا الكون. والمثال لكل طالب يسعى التحلي بالكماليات الإنسانية. وفي ضوء ما تقدم كان الامام (عليه السلام) وهو وصيه رسول الله وخاتم الاوصياء وصي الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في العدل واقامته في الرعية وابعاد الظلم والجور. فقد كان الامام (عليه السلام) اعدل الناس بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فقد كان الناس امه سواسيه لا ميزه لقوي على ضعيف او الغني على الفقير ويعامل القريب منه بنفس معامله البعيد ولا فرق بين عربي او اعجمي الا بالتقوى. وبذلك ينظر الامام (عليه السلام) على انه دواء شاف لأخطر الافاق الاجتماعية التي تؤدي بالمجتمع الى التفكك والانحلال ثم سياده الظلم والجور. وبذلك عندما الت اليه الخلافة اليه (عليه السلام) اقام العدل وهو ميزان الحكم بين الناس. وكان دائرة العدل لديه واسعه تشمل الناس جميعا بغض النظر عن المعتقد. اللون. الجنس. لذلك اصبح عدله يشمل جوانب الحياه، وهو القائل: (ان الله فرض على ائمه العدل ان يقدروا انفسهم بضعفه الناس كيلا يبتغ بالفقير فقره)

خامسا: - مؤاساته للفقراء: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) فقد كان اسوة للفقراء يعيش عيشهم ويأكل اكلهم ويلبس ملبسهم ويتواضع لهم حتى اصبح (عليه السلام) سند من لأسند له. وفي ضوء ما تقدم انه سند اصيل يستند الى معرفته بخلق الله تبارك وتعالى وهو يعلم ان الله سبحانه وتعالى خلق الناس

ص: 175

جميعا وهم متساوون امامه لأغني ولا فقير ولا ضعيف ولا قوي ولأسيد ولا عبد. وذلك استنادا الى خطبته (عليه السلام) (ايها الناس ان ادم لم يلد عبدا ولا امه. وان الناس كلهم احرار ولكن الله خول بعضكم بعضا. فمن كان له بلا فصبر في الخير فلا يمن على الله تعالى. الا وقد حضر شيء. ونحن مسؤولون فيه بين الاسود والاحمر). وبناءا على ما تقدم كان الامام (عليه السلام) طيلة حياته الشريفة متبعا سنه الانبياء والصالحين في مواساتهم للفقراء

سادسا:- علمه: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) كان على علم كبير. ومنبع علمه يفيض بما اصفه واعذبه منه. فهو علم الكتاب. وعلمه علم رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) وكيف لا؟ وهو باب علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) اذا قال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (انا مدينه العلم وعلي بابها فمن اراد العلم فليات الباب) وهو معدن علمه واصله وهو خازن العلم وحاويه. وفي ضوء ما تقدم ان الامام (عليه السلام) كان مثال العالم العامل الذي لأتأخذ في الله لومه لائم. وكانت حياته تجسيدا حقيقيا ومثالا ماديا على سعه علمه فلم يصدر منه قولا او عملا الا وارتكز علمه على علم ثاقب ونبع صافي. وبناء على ما تقدم فقد تعجب الكثير من الباحثين من علمه وحكمته وكذلك اكد الامام (عليه السلام) على اهميه العالم في المجتمع الاسلامي. وقال الامام (عليه السلام) (اذا مات المؤمن العالم ثلم في الاسلام ثلمه لا سدها شيء الى يوم القيامة) ومن هنا يؤكد الامام (عليه السلام) على مكانه العالم المؤمن مثل مشعل النور الذي ينير الطريق للأخرين ضد القوى الظلام والشر. فالعالم هو الذي يهتم بأحوال الناس والامم وهو يفيض بجوارحه وقلبه مقرنه بالعلم والعمل

سابعا: - صدقه: ومن المعلوم ان الامام (عليه السلام) في جوهر جميع

ص: 176

الانبياء والصالحين في صفاتهم وانه الوارث الحقيقي لصفاتهم وأخلاقهم في الخصال والمكارم. فقد جسد الامام (عليه السلام) معاني الخير واهم ما امتاز به (عليه السلام) الصدق. فقد كانت نفسه المرآه التي تعكس كمال الصدق في مجالات الحياه. وقد وصفه الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (انت احسنهم خلقا واصدقهم لسانا)، ويقول الامام (عليه السلام) عن الصدق (الصدق امانه اللسان وحليه الايمان)) (الخيال: 2014)

وصايا امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد:

لقد اخص النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهو وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) والامام الذي فرض الله طاعته على المسلمين جميعا، فقد ادبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكان بكل ما يملك من الصفات المعنوية والنفسية والجسدية قادرا على ايصال الانسان وقيادته الى كماله وسعادته، اي لقد احاط الامام امير المؤمنين علي بني ابي طالب (عليه السلام) بعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الوحي والاكتساب والتحصيل، بل من عند الله وهو لامجال للباطل ان يدخل بل هو الحق والصحيح والمطابق للواقع، وقال تعالى «رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا»

وبناءا على ما تقدم، ان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) هو تلميذ الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) الذي فرع علومه في صدره وعلمه ابواب العلم، حتى قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) (لانا اعلم بالتوراة من اهل التوراة، واعلم بالإنجيل من اهل الانجيل) وبذلك فهو عالم بالشريعة

ص: 177

وتعاليم الاسلام والقضاء والفتوى ودرجات الايمان بالله ومعرفته نابعه من القرآن الكريم ومصاحبه رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)

وفي ضوء ما تقدم امرنا الله ورسوله التسمك بولايته، فهو المثال الالهي الذي كان مقدر له ان يقيم حكم الله في الارض لتغير شكل الحياه على الاض وقادر على ايجاد الحلول السليمة بكل المشاكل التي تعاني منها البشرية، وبذلك تبقى اقواله واقعا نموذجا حيا للإنسانية نستضئ به في لليها الطويل، وتبقى اقواله وحكمته ومواقفه مصباح هدي ينير الدرب للذين تهفو نفوسهم نحو الكمال (الفتلاوي: 2012)

وفي ضوء ما تقدم اهم الوصايا ا الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام):

من نصب نفسه للناس. اماما فعليه ان يبدا بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبيه بسيرته قبل تأديبيه بلسانه. ومعلم نفسه ومؤدبها احق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم)

من لم يصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبيه

سوء الخلق بعدي. وذاك انه يدعو صاحبك الى ان يقابلك غيله

جالس العلماء يكمل عقلك وتشرق نفسك وينتف عنك جهلك

اعلموا ان کمال الدین طلب العلم والعمل به

عليكم بحسن الخلق فانه في الجنة واياكم وسوء الخلق فانه في النار

ص: 178

المحور الثالث:- ((توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة التي يريدها الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي:

من المعلوم، ان الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) كان حريصا على تثقيف الناس وتعليميهم علوم محمد واله محمد (ص) ليكون لهم حصنا من الزيغ والضلال و كل العقائد الزائفة وترسبات الجاهلية التي كانت تعصف بالنفوس ويعلم الناس عباده الله سبحانه وتعالى وتوحيده ويدعوهم الى (معرفه الله وعبادته) لأنه يعلم ان العبادة مع معرفه تكون حصنا من وساس الشيطان، ومن اهواء النفس، لذا فهو يعرف الدين بمعرفه الله تعالى فيقول عليه السلام (اول الدين معرفته) والعبادة لغة هي غايه التذلل والخضوع لذلك لا يستحقها الا المتعلم الاعظم الذي غايته الافضال والانعام وهو الله سبحانه وتعلى وذلك استناد الى قوله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» الذاريات 56 - 58.

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي في نظر امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

الصدق التواضع الايثار العدل الصبر

التوكل الاخلاص الخوف من الله تعالى الرجاء في الله تعالى البصيرة

ص: 179

وقد اكد الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) على القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي: انظر الى الجدول رقم (3) الذي يمثل القيم الأخلاقية الاسلاميه الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي وهي

ملاحظة:- هناك مجموع من القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين (عليه السلام) وهذا يحتاج التوسع في البحث. لذا قررنا الانتباه لطفا:- وسنكتفي بقدر ما يسمح.

1. الصدق:- (وقال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في (الصدق) (الزموا الصدق فانه منجاه)، ومن المعلوم ان الصدق:- هي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (مطابقه القول للواقع،) وهو اشرف الفضائل النفسية والمزايا الخلقية لخصائص الشخصية ولها اثر في حياه الفرد والمجتمع، وبذلك يعد رمز الاستقامة الصلاح وسبب النجاح والنجاة، وقد وصف الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» سورة المائدة 119، وقال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في الصدق (زينه الحديث الصدق الحلم وكظم الغيظ: - وهما من القيم الأخلاقية الفاضلة في ضبط النفس ازاء مثيرات الغضب، ودليلا على سمو النفس وكرم الاخلاق وسبب للمودة والاعتزاز، وقدم مدح الله سبحانه وتعالى الحلماء والكاظمين الغيض في محكم كتابه العزيز «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» سورة ال عمران 134) وكذلك قوله تعالى «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى

ص: 180

الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» سورة الفرقان 63، وقال امير المؤمنين علي ابن ابي طالي (عليه السلام) في الحلم (اول عرض الحليم من حلمه، وان النفس انصاره على الجاهل)

2. التواضع:- قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) عن التواضع (ما احسن تواضع الاغنياء للفقراء طلبا لما عند الله واحسن منه فيه الفقراء على الأغنياء انکالا على الله). ومن المعلوم. وهي من القيم الفاضلة وتعني (احترام الناس حسب اقدارهم، وعدم الترفع عليهم (وقد وصف الله سبحانه وتعالى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الشعراء 215، وقال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (ان احبكم الي واقربكم مني يوم القيامة مجلسا، احسنکم خلقا واشد کم تواضعا، وان ابعد كم مني يوم القيامة، الثرثارون وهم المستكبرون)

3. الايثار:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (الاجاد بالعطاء وهم بأمس الحاجه اليه) وقد وصف الله سبحانه وتعالى اهل البيت عليسهم السلام «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» الانسان 8 - 9 وقوله تعالى ايضا «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الحشر 9، وقال الامام الصادق (عليه السلام) بحق امير المؤمنین علی ابن ابي طالب (عليه السلام) (كان علي اشبه برسول الله. كان يأكل الخبز والزيت ويطعم الخبر واللحم)

4. العدل:- قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه

ص: 181

السلام) (يابني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم کما لا تحب ان تظلم، واحسن کما تحب ان يحسن اليك واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وان قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك) ومن المعلوم ان (العدل) وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة ويعني (مناعة نفسيه تردع صاحبها عن الظلم، وتحفزه على اداء الحقوق والواجبات بشكل عادل) وقد امرنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» النحل 90 وقال الله تعالى «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» الانعام 152 وقال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء 58، وقال الامام الرضا (عليه السلام) (استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة،:

5. الصبر:- وقال الإمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (من لم پنجه الصبر، اهلکه الجزع) ومن المعلوم ان الصبر وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة ويعني (احتمال المكره او المكاره من غير جزع، وهي قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل في اوامرها ونواهيها، وبذلك فهو من السمات البطولة في الظفر والنجاح، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى التحلي بالصبر وقال تعال في محكم كتابه العزيز «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» ال عمران 146 وكذلك قوله تعالى «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا

ص: 182

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» الانفال 46 وقوله تعالى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» الزمر 10 وقال الامام الصادق (عليه السلام) (الصبر من الايمان بمنزله الراس من الجسد فاذا ذهب الراس ذهب الجسد، و كذلك اذا ذهب الصبر ذهب الایمان)

1. التوكل:- وقال الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في وصيه لابنه الحسن (عليه السلام) (والجىء نفسك في اللمور كلها للى الهك، فانك تلجئا الى كهف حريز ومانع عزيز) ومن المعلوم ان التوكل. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (الاعتماد على الله في جميع الامور وتفويضها اليه، والاعراض عما سواه، فهي قوة القلب واليقين) وقد امرنا الله سبحانه وتعالى بالتوكل عليه وقال سبحانه تعالى «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» الطلاق 3 وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ال عمران 159 وقوله تعالى «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» التوبة 51

7. الاخلاص:- وقال أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (الدنيا كلها جهل الا مواضع العلم، والعلم كله جهل الا ما عمل به، والعمل كله رياء الا من كان مخلصا والاخلاص على خطر، حتى ينظر العبد بما يختم له) ومن المعلوم ان الاخلاص. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة، وتعني (صفاء الاعمال من الشوائب والرياء وجعلها خالصه لوجه الله تعالى) وقد صف الله سبحانه وتعالى (الخلص) بقوله تعالى «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» الكهف 110 وقوله تعالى «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» الزمر 2 - 3 وقال الرسول

ص: 183

محمد (صلى الله عليه وآله) (من اخلص لله اربعين يوما، فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)

8. الخوف من الله تعالى: - وقال الإمام أمير المؤمنين علي ابن طالب (عليه السلام) (لا يكون المؤمن موقنا حتى يكون خائفا راجيا، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجوا) ومن المعلوم ان الخوف من الله تعالى. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (تألم النفس خشيه من عقاب الله من جزاء عصیانه و مخالفته) فهي من القيم الأخلاقية الدينية التي تعني الابتعاد عن الشرور والآثام ما يغضب الله في القول والفعل، وبذلك وصف الله سبحانه وتعالى الخائفين من الله بقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» الملك 12، وقوله تعالى «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» النازعات 40 - 41،،

9. الرجاء في الله تعالى: - وقال الإمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالي (عليه السلام) (لرجل اخرجه الخوف الى القنوط لكثره ذنوبه، ايا هذا باسك من رحمه الله اعظم من ذنوبك) وقال الامام الصادق (عليه السلام) (لا يكون المؤمن حتى خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو) ومن المعلوم. ان الرجاء في الله تعالى. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (هو انتظار محبوب تمهدت له اسباب الحصول عليه، کمن زرع بذره في ارض طيبه ورعاها بالسقي والمدارات، فرجاء منها الناتج والنفع) لذلك فالرجاء في الله تعالى هو الجناح الثاني من الخوف، اللذان يطير بهما المؤمن الى افاق طاعة الله والفوز بشرف الرضا، وفي ضوء ما تقدم، يعني الرجاء في الله تعالى (النهي عن الياس والقنوط) وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذي يرجو الله

ص: 184

تعالى «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» الزمر 53 وقوله تعالى «وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» يوسف 87 (السيد مهدي الصدر 2011)

10. البصيرة:- قال امير المؤمنين علي ابن ابي الطالب (عليه السلام) (انما الدنيا دار مجاز والاخر دار قرارا، فخذوا من محرم لمقركم) ومن المعلوم. ان البصيرة: وهي الوعي والتعقل، فالإنسان الواعي والعاقل هو الذي يفكر بالعواقب ويتجنب سخط الله وغضبه، لان الدنيا كما يقول لذلك نقول ان الانسان العاقل هو الذي يميز عن المعاصي يبتعد عن الذنوب لان عقله يصونه من هذه المأثم والخطايا، وقد سئل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ما العاقل يا رسول الله، قال (العمل بطاعة الله وان العامل بطاعة الله هم العقلاء) (القزويني، بلا) (انموذج بناء المجتمع الاسلامي الموحد المستند الى العلم والتعليم

ص: 185

الفصل الثالث توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في المناهج الدراسية الجامعية الإسلامية

من المعلوم ان مناهج الدراسية الجامعية الإسلامية تستهدف بناء الانسان والمجتمع الإسلامي سواء بالتربية الخلقية. او التربية النفسية والتربية العقلية او التربية الجسمية او التربية الروحية وتستمد هذه التربية من (القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)

وفي ضوء ما تقدم ان مناهج التربوية الإسلامية الجامعية ليست مناهج جامده او منفصله. بل تعمل وفق اطر ومفاهیم شامله لأمور الحياة الدنيا وحياة الاخرين. وبذلك فهي مناهج يمكن ان تحتوي على القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) فهي يمكن ان تدفع الانسان المسلم الى النقاش والاستفهام والاجتهاد والتفكير في أمروا الدنيا. فهي تلائم فطرة الانسان وتنسجم مع حركة الكون.

لذا يمكن توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في المناهج الدراسة الجامعية من خلال غرس هذه القيم التي توصل اليها البحث وهي: -

1- قيم المساواة:- وهي من القيم التي اكد عليها الاسلام وسيرة امير المؤمنين (عليه السلام) فهي تؤكد على تكافؤ الفرص اما جميع الناس في الدنيا وعاره الارض وكذلك التكافؤ بين (الفقراء والاغنياء) وبين (اهل الكتاب والمسلمين وبين الرجال والنساء بعيدا عن اللون. او القوميه او الجنس او القومية

ص: 186

2- التسامح:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتعني بذل بعض ما لا يجب وتعرف اي الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة والمرتبطة بالسلوك والراي دون الموافقة عليها. وهي ايضا تقبل تنوع الفكري والعقائدي

3- العفو:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني (العطف على الانسان المذنب فيعفوا كليا أو جزئيا

4- الصبر:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني (حسب النفس من الجزع عن المكروه او عن الشكوى. او هي الامتناع عن اظهار الجزع الباطني ولها ثلاث مراتب وهي:

- الصبر على البلايا والمصائب / اي لا يشكو ولا يجزع

- الصبر على الطاعة / اي ان يتحلى الانسان بالتحمل في العمر والاوامر الإلهية ولأيسمح للنفس الأمارة بالسوء ان تصدی عن ذلك

- الصبر عن المعصية. اي الصبر على الصعاب. مجاهدة النفس وجنود الشيطان

5- الأمانة:- وهي من القيم الأخلاقية التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني اذا ما ائتمن عليه الانسان من الحقوق واجب اداء تلك الأمانة

6- الشجاعة:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام

ص: 187

وامير المؤمنين علي ابن الطالب (عليه السلام) وهي تعني (القدرة على مواجهه المواقف الخطيرة بحزم واراده قويه. وبما يتطلبه الموقف من اتخاذ ضرويه في الوقت المناسب

7- العفة:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليه الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني (ضبط النفس عن الشهوات والامتناع عن اي اتصال جنسي قبل الزواج وبعد الزواج بغير الزوج

8- الوفاء بالعهد: وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتعني (الخروج عن عهد ما قبل عند الاقرار بالربوبيه. أي عدم العودة الى ما تب منه. وعدم التقصير في اداء ما عاهد نفسه على القيام، وتعني الوفاء بالعهد. الثبات على الحب ولوازمه وادامته حتى الموت) (الزبيدي: 2017)

ملاحظة: هناك مجموعه من القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وسيرة أمير المؤمنين الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد وتوظيفيها في المناهج الدراسية الجامعية. وهذا يحتاج إلى الشرح.

وسائل واساليب تنمية القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد:- من المعلوم ان هناك عدة اسالب ووسائل في تنمية القيم الأخلاقية الإسلامية لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في المناهج الدراسية الجامعية الإسلامية. وهي كثيرة وسنكتفي بالقدر الممكن وهي

اولا: التمسك بالعبادات: وهو الاسلوب العلمي في تربيه الانسان (روحیا.

ص: 188

بدنیا. واجتماعيا وعقليا. وهذه العبادات جانب مهم عند الله سبحانه وتعالى من حيث أمر فيها الامر والنهي عن العمل. وفق (فطرة الإنسان) حيث زوده تبارك وتعالى بالاستعدادات الفطرية للتعلم. وبذلك يمكن اكتساب القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان ولخدمة المجتمع الانساني وهذه القيم مرغوبه في المجتمع الاسلاميه وبذلك فهي معيار للضبط والتنشئة الاجتماعية.

وفي ضوء ما تقدم. اكد الاسلام على تنمية القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء شخصية الانسان المتكاملة ولجوانب شخصيته المعروفة (الروحية والعقلية وحواسه) فهي تساهم في بناء الإنسان وتصبح العلاقات الاجتماعية القائمة على الود والمحبة.

ثانيا: التمسك القدوة الإسلامية:- من المعلوم ان قدوتنا في القيم الأخلاقية الإسلامية وهي شخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وكذلك اهل البيت (عليهم السلام) وذلك استنادا الى قوله تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ» سورة الممتحنة / 4 وكذلك يمكن تطبيقها في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي مستقبلا.

ثالثا: الموعظة والنصح، وهما من الوسائل المهمة في غرس القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة. فالموعظة مؤثرة في النفوس ومؤثرة في سلوك الفرد فهي تحقق مرضاه الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم واهل البيت (عليهم السلام)

رابعا: ضرب الأمثال: وهي من الوسائل المهمة والمؤثرة في السلوك. لذا فهي تساهم في غرس القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة حيث تضرب من الحكمة خصوصًا وإن كانت مستمدة من القرآن الكريم. وبذلك اشاره الله تبارك وتعالى في مواضيع كثيرة (الاسدي ويحيي 2012)

ص: 189

أولا: الاستنتاجات:

1. إن القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في الاسلام كثيرة ومتنوعة. حيث ذكرها القرآن الكريم بما يقارب (1504) ذكرت في موضع

2. ان القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في سيرة امير المؤمنين الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) ارتبطه بالإنسان ومست جوانب شخصيه بناء الانسان المسلم في الجوانب (العقلية + الجسمية + الوجدانية + الروحية + الاجتماعية) التي يمكن تساهم في بناء الإنسان المسلم وخدمة المجتمع الاسلامي الموحد اضافه إلى ذلك أن هذه القيم مستمده من القران الكريم وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)

3. ان القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة لها دور مهم في بناء المجتمع الاسلامي الموحد الذي يؤمن برساله الاسلام. وهو صاحب رساله انسانيه. اي تؤمن بان مجتمع يقدس كل القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة لأنها مستمده من القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وكذلك اهل البيت (عليهم السلام)

4. يمكن توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان المسلم ولخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في المناهج الدراسية الجامعية وهناك عدة وسائل واساليب يمكن تضمينها من خلال:

1- التمسك بالعبادات.

2- التمسك بالقدوة الإسلامية.

3- الموعظة والنصح

4- ضرب الامثال)

ص: 190

ثانيا: التوصيات والمقترحات:

1. على وزارة التربية والتعليم العالي والجامعات الأهلية تضمين هذه القيم الإسلامية الفاضلة في سيرة الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) في مناهجها وبرامجها وانشطتها لتعزيز القيم الأخلاقية الإسلامية في نفوس الطلبة مستقبلا.

2. حث الهيئات التدريسية في المدارس والجامعات وأماكن العبادة الأخذ بتضمين القيم الأخلاقية الإسلامية عند الشرح والتفصيل والموعظة والشرح العبادات لأنها تساهم في بناء الانسان المسلم الذي يخدم وطنه وامته الإسلامية

3. ضروه استنباط القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة وتوظيفيها في مجالات الحياة العامة (الاقتصادية، السياسية، الثقافي، العسكرية، القانون، القضاء... الخ

ص: 191

المصادر والمراجع

1. الابراشي، محمد عطية، الاسلام منقذ للإنسانية، مكتبه مصر، مصر، 1974 م

2. الاسدي. سعد جاسم. ويحيى عثمان محمد. اخلاقيات مهنة العمل الاداري. قراءة فكرية تربوية اسلاميه. المركز الوطني للدراسات الاجتماعية والتاريخه سلسله (28) لبنان 2014

3. بدوي، احمد زكي، قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، 1977

4. برکات احمد لطفي بركات في الفكر التربوي الاسلامي ط - الرياض دار المريخ 1982.

5. الحيالي. صبلاي بردان وآخرون. أخلاقيات و آداب مهنة التدريس الجامعي. مرکز ديبونو لتعليم التفكير. الاردن 2012.

6. الخيال. احمد جاسم ال مسلم. المثالي الالهي علي ابن ابي طالب (عليه السلام) مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع. لبنان 2014

7. الخاقاني. فاطمه محمد محمد طاهره. الامن التربوي للطفل في الاسلام. دار المحجه البيضاء لبنان 2011.

8. خوري توما المناهج التربوية ومرتكزات تطويرها وتطبيقاتها ط - بیروت 1983

9. الزبيدي. صباح حسن عبد. مناهج المواد الاجتماعيه وطرائق تدريسها - دار المناهج. الاردن 2010.

10. الزبيدي. صباح حسن عبد المنهج المدرسي المعاصر والكتاب المدرسي. مكتبه الايام. الاردن 2018.

11. الزبيدي. صباح حسن عبد البحث الموسوم (نظرة جديدة... لدور المناهج التربوية الإسلامية في تعزيز قيم التعايش الإنساني في ضوء التعدد لديني) بحث

ص: 192

مقدم إلى المؤتمر العلمي السنوي السابع لكلية الدراسات القرآنية الموسوم (التعايش الإنساني في ضوء التعدد الديني) يوم الخميس 29/ 4 / 2017 بابل - المحور الثالث.

12. سوادي، فليح، عهد الامام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر، مالك الاشتر (رض)، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية 1 / 1، 2010.

13. الشيخ علي الفتلاوي، رسالة في فن الإلقاء والحوار والمناظرة، العتبة الحسينية المقدسة، سلسله (16).

14. الصدر، محمد مهدي، اخلاق اهل البيت مؤسسه دار الكتب الاسلامي قم 2008

15. الطهطاوي، سيد احمد، القيم التربوية في القصص - القرآن الكريم، دار الفكر، القاهرة 1996

16. عبد العزيز صالح التربية وطرق التدريس دار المعارف بمصر 1981.

17. عبد العزيز. امير. الانسان في الاسلام دار الفرقان. الاردن 1984

18. قمر. عصام توفيق. الأنشطة المدرسية والوعي البيئي. الاطر النظرية. الادوار الوظيفية. التجارب الدولية. دار السحاب للنشر والتوزيع. القاهرة 2005

19. كنعان احمد على ادأب الاطفال والقيم التربوية دار الفكر دمشق 1999

20. مهدي عباس علي واخرون اسس التربية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي جامعة الموصل 2002

21. معجم المصطلحات الأخلاقية. مركز باء للدراسات بيروت 2006

22. مذكور، إبراهيم واخرون، معجم العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتب، القاهرة 1975

ص: 193

23. ناصر، ابراهيم، اصول التربية، الوعي الانساني، مكتبه الرائد العلمية، الاردن 2004

24. النورة جي، احمد خورشيد مفاهيم في الفلسفة والاجتماع، دار الشؤون الثقافية العامة بغدادا 1990

25. هناء. عطيه محمود وعبد ميخائيل رزق. الشخصية والصحة النفسية. القاهرة 1985

26. وزاره التربية العراقية. المديرية العامة للمناهج والوسائل التعليمية. بناء مصفوفه القيم الوطنية والقومية والإنسانية. بغداد 1992

27. الكتب والبحوث والمراجع المعتمدة في هذا البحث وهي:

28. العلامة السيد مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت، دار الكتاب الإسلامي، إيران 2008

29. الشيخ الجليل رضي الدين الطبرسي،. مكارم الاخلاق،، مرکز نشر کتاب

30. قمي، عباس، خمسون دراسا في الاخلاق، دار الجوادين، كربلاء المقدسة 2012

31. الزبيدي، صباح حسن عبد، بناء منظومه قيم المواطنة الصالحة واثرها في المناهج الدراسية لتساهم في بناء شخصيه الطالب العراقي، بحث مقدم الى المؤتمر العلمي الرابع لأبحاث الموهبة والتفوق، الجامعة الأردنية وبالتعاون مع المؤسسة الدولية للشباب والبيئة والتنمي-ة للفترة من 11-12/ اب/ 2015 الاردن

32. بحار الانوار ج/ 100 ص 362.

33. اعلام الهدايه. المجمع العالمي لأهل البيت (3).

34. الوافي. الكاشاني ج/ 3/ ص 20.

35. نهج البلاغه / ص 177.

ص: 194

قيمة التواضع في كلام الإمام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة بوصفها مرتكزًا أساسيًا لبناء الهوية الإنسانية د. وسام حسين جاسم العبيدي كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة / بابل

اشارة

ص: 195

ص: 196

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة على محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين..

أما بعد

فقد دعا العقلُ السليمُ، قبل الشرائع والأديان السماوية، إلى أن يفكّر بجِدّيةٍ حول الغاية التي خُلِق من أجلِها، ألا وهي التواصل المثمر لبناء حضارة تمثّل الوجود الإنساني على ظهر هذا الكوكب، وهذا ما أشارت له الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13، ومن الطبيعي أنه لا يتمّ التعارف الذي يؤسّس إلى قاعدة أخلاقية صلبة بين الآخرين، ما لم يكن مبنيًّا على قيم أخلاقية رفيعة، ولعلّ أساس كلّ تلك القيم يرتكز على قيمة التواضع، بوصفها منطلقًا إنسانيًا شاملاً يُحقّق أعلى نِسَب المقبولية عند جميع الأمم والحضارات، على اختلاف توجّهاتها الفكرية والعقديّة، وعبر تلك القيمة الأخلاقية الرفيعة تُجسّر المصالح البشرية الأخرى سواء أكانت مقتصرة على تغطية حاجات الجسد، أم كانت معنويّة تُشبع نهم العقل الباحث عن أجوبةٍ لأسئلته النافرة من صميم مُشكلاته حول الهم الاجتماعي الذي يعيشه، أو ما يعبّر عن طموحه لسبر أغوار الآخر بوصفه مشاركًا له في كثير من القضايا التي تجمعهما في بودقةٍ واحدة متمثّلة بالوجود الإنساني.

ومن منطلق الأهمية القُصوى لقيمة التواضع، كان للباحث أن يسلّط الضوء

ص: 197

على هذه القيمة بين ثنيّات الخِطاب الإمام البيان العربي، وإمام الإنسان الحقيقي الذي يبتغي احترام انسانيّته قبلَ كل شيء.

وكان للباحث بعد رصده ما يندرج تحت موضوع هذه الدراسة، أن يتوقّف عند محاور أساسية، تمثّل منطلقات البحث ومساربه التي تُمهّد الوصول إلى الغاية الأخلاقية التي سعى إليها الخطاب العلوي الأقدس، فكان على النحو الآتي:

المحور الأول: التواضع في المشغل الاصطلاحي للمفهوم.

المطلب الأول: المفهوم اللغوي للتواضع. المطلب الثاني: ثنائية (التواضع / والتكبّر) وموقعيّتهما الدلالية في الخطاب القرآني.

المحور الثاني: قيمة التواضع في الخطاب العلوي الشريف.

المطلب الأول: ضياع القيم الأخلاقية في أمة الغرب.

المطلب الثاني: مفهوم التواضع في الخطاب العلوي.

المطلب الثالث: مخاطر الاستكبار في تشويه الهوية الإنسانية - قراءة في الخطبة القاصعة.

وبعد ختام رحلتنا المعرفية، كان لنا أن نقف عند محطة قطف الثمار، من النتائج التي اجتهدنا في استنباطها من خلال تقليبنا مضامين الخطاب العلوي، ولعلّ بعضها كان مبثوثًا في ثنيّات البحث، ولكن كما هي العادة، أن يكون الختام لملمةً لتلك الثمار المُجتناة، قد لا تكون حصرًا للباحث بقدر ما تكون فاتحةً لباحثين أُخر بإمكانهم أن يتوغّلوا في مشاربها ومن ثمّ يخرجوا لنا ثمار أفكار لم تطأها خيول طموحنا بعد، وهذه سُنّة الحياة، إذ لا يقتصر العلم على واحدٍ من الناس، بل كلٌّ يُدلي بما عنده ويترك الشوط الآخرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

ص: 198

المحور الأول التواضع في المشغل الاصطلاحي للمفهوم.

ينبغي لنا حين التوجه لكشف دلالة مفهوم أن نعود به إلى جذره اللغوي الأساس الذي عبره تتبرعم مختلف الدلالات المبثوثة في لغتنا العربية، ومن ذلك المصدر (التواضع) الذي اشتُقّ من الفعل وضُعَ، يَوضُعُ وَضَاعَةً وضَعةً وضِعةً: صَارَ وَضِيعاً، فَهُوَ وَضِيعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِيفِ، أو الدَّنِيءُ مِنَ النَّاسِ (1).

ومنه اشتُقّت الضَّعةُ والضِّعةُ: وهي خِلاف الرِّفعةِ فِي القَدرِ، يُقَالُ: فِي حسبَه ضَعةٌ وضِعةٌ، أما التَّواضُعُ فهو بمعنى: التَّذَلُّلُ. وتَواضَعَ الرجلُ: ذَلَّ، وَيُقَالُ: دَخَلَ فُلَانٌ أَمراً فَوَضَعَه دُخُولُه فِيهِ فاتَّضَعَ. وتَواضَعَتِ الأَرضُ: انخَفَضَت عَمَّا يَلِيهَا (2).

وعند النظر صرفيًا إلى صيغة المصدر: التواضع نجده مشتقًا من الفعل الثلاثي المزيد بحرفين، على وزن (تفاعل) التي تدلُّ غالبًا على المشاركة، مثل: تحاور، وتناقش، وتعايش،.. الخ، مشتقٌّ من الفعل (وضع) الشيء أي: حطّه وأنزله من مقامٍ إلى مقامٍ أدنى منه.. مثل قول العرب: وضعت الحربُ أوزارها، أي سكنت وهدأت بعد أن ارتفع السيف بين المحتربين، ومن هذه الدلالة بالإمكان أن نجد في الفعل (تواضع)

ومن معاني (تفاعل) هو التحلّي بصفةٍ قد لا تكون أصيلةٍ في المُتّصفِ بها، بقدر ما تكون ظاهرةً عليه لِمُدّة ومن ثمّ تزول بزوال الظرف الداعي إليها، مثل: تباكى، وتغابى،.. الخ وهُنا يُمكن أن يُقصد بالفعل (تواضعَ) أي تحلّ بخُلُق التواضع وأظهر ذلك الخُلُق على سلوكك مع الآخرين، فيُراد به أيضًا في هذا المعنى إفادة

ص: 199

تواصليّة مع الآخر.. ولا يُمكن أن يُطلب التواضع من شخصٍ لا يرغب في التواصل مع الآخرين، أو يتعذّر عليه ذلك التواصل كأن يكون في جزيرة لوحده أو محبوس في سجن انفرادي، فلمن يتواضع إذا لم يفترض وجود أحدٍ معه..؟

وبهذا تصبّ المادة اللغوية بكلا الدلالتين اللتين ذكرناهما، المعنى التواصلي مع الآخر..

المطلب الثاني: ثنائية (التواضع / والتكبر) وموقعيّتهما الدلالية في الخطاب القرآني.

اتضح لنا ما سبق، أنّ دلالة (التواضع) في أصلها، لم يكن معنى محبّذًا يستحسنه العقل، حتى يكون قيمةً عليا يدعو إليها عُقلاء القوم، فهي تمثّل ص رذيلة لا يتّصف بها إلا من لا خرجوا عن إطار إنسانيتهم التي وُهِبَت لهم من دون المخلوقات، فالإنسان كما نعلم حُرّ غيرُ مضطرٍّ على سلوكٍ معيّن، وكما هو معلوم أنّ «الحرية الشرط الأول في المسؤولية. وسواء تعلق الأمر بالمسؤولية أمام القانون أو أمام الله أو بالمسؤولية أما الضمير [...] فإن الحرية هي الشرط المسبق، شرط في قيام الأخلاق نفسها» (3).

وهذا التخيير إنما يمثّل تكريمًا إلهيًّا له، حيث يجعل كل ما حوله من مخلوقاتٍ مسخّرةً له؛ لكونها لا تتمتّع بالشرط الإنساني المُميّز له، وهو (الحُرّية). وما ورد في قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» البقرة: 30، إيذانٌ بأهميّة تلك الحُرّية التي يتمتّع بها ذلك الخليفة، على الرغم من إفرازاتها التي يُفرِط في استعمالها بعضُ من لم يرعوا حقّها، بدليل أنّ الملائكة - وهي عقولٌ محض مسيّرة وليست مخيّرة - استلزمت خطابيًّا أنّ من نواتج تلك الخلافة - بمعنى

ص: 200

أن يكون الإنسان مخوّلًا في إدارة شؤون نفسه - أن يصدر عنها الجور والظلم بما يُؤدّي إلى سفك الدماء، إلا أنّها على أي حال تُشكّل فارقًا مفصليًّا يميّز الإنسان عن سائر الموجودات، وفي الوقت نفسه تعرّض الإنسان إلى اختبارٍ وجوديٍّ تكشف من خلاله عن مقدار تحقّق كينونته، فينجح بعضهم في ذلك الاختبار ويقع آخرون، فالإنسان مهما أُوتِي من مؤهّلات تميّزه عن المخلوقات الأخرى، ولكنه «لا يخلق قيمه بحريته المطلقة ولكنه يختارها من بين القيم التي تعرض نفسها عليه، وتدعوه كل واحدة منها لاختيارها والانخراط تحت لوائها»(4).

وكان الكفرُ نتيجةً حتميّةً لمن يُعلن استكباره على الخالق، مهما أُوتِيَ من مؤهّلات ترفع من شأنه، إلا أنّ صفة الاستكبار توقعه وتُرديه إلى المهالك، وهذا ما كان في قصّة إبليس اللعين الذي أبى أن يمتثل أمر الله سبحانه بالسجود لآدم، فقال في كتابه: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» البقرة: 34، وهذا السجود لم يكن إلا من باب التواضع لله ولمن خلقَه الله، ولكنّ الشيطان أخذته العزّة بعنصره وتناسى أنّ من خلق عنصره هو الذي أمره بهذا السجود لمن هو يراه أدنى منه في أصل الخِلقة، فكانَ كافرًا بالله، أي عالمًا الا بحقيقة جحوده الله كالزارع الذي يُغطّي البذار بالتُراب، فكان إبليس كذلك يُغطّي إيمانه باستكباره على الخالق العظيم، الذي تجلّى عبر سلوكه المتمرّد بعدم امتثاله أمر السجود، «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» النمل: 14، ولعلّ الوضاعة من أبرز صفات مسخ الهويّة الإنسانية وفشلها في عالم الإنسان الذي أُريد له أن يكون متميّزًا عن عالم سائر الموجودات؛ ذلك لأنّها تمسخ الشرط الأساس الذي أراده الله سبحانه وتعالى للإنسان، وهو الحريّة الكفيلة بخلق كينونة الإنسان الخليفة، ولأنها صفة تتناقض مع صفة (العزّة) التي هي من

ص: 201

صفات الله وفي الوقت نفسه أحبّها أن تكون في أوليائه المؤمنين، فقال: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» المنافقون: 8. ويقتضي الخطاب القرآني - بوصفه خطابًا لذوي الألباب - أن يكون المنافقون من فاقدي تلك الصفة الربّانية الجليلة التي منحها لخاصة عباده المؤمنين، ممّن اتّصفوا بالعِزّة، بما يُظهر مكانتها وموقعيّتها الرفيعة.

بل وأكثر من ذلك حين يُخاطب الله سُبحانه أصحاب العقول، في أكثر من آية بما لا حاجة بنا إلى استعراضها بالتفصيل، ولكن لأجل أن نُربُط فيما يتّصل بموضوعنا، وهو أنَّ القرآن الكريم بما فيه من مضامين جليلة إنّما وُجّهت بوصفها رسائل يعيها العُقلاء من البشر، فحين يدعو الله سبحانه إلى التفكّر، إنّما يدعو إلى الاتّضاع والركون إلى الآخرين في تقليدهم واتّباع ما يرونه، إنّما أراد لهم أن يكونوا أحرارًا في خياراتهم ومستقلّين عن المجموعات التي يعيشون معها في اتّخاذ قراراتهم، وهذا ما صرّحت به الآية الكريمة: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» سبأ: 46، أما اتّباع الآخرين فلا يعني إلا إقرارٌ بالذلّ والضِعة، وبمعنى آخر إنما يمثّل انسلاخًا عن الهويّة الإنسانية الممتزجة ببعض الصفات التي منحها الله سبحانه حُبًّا بمن خلقهم.

أمّا صفة التواضع، فهي مما دفع إليها الذوق العُقلائي ويتبعه الشارع الأقدس في من يستحقّ التحلّي له بهذه الصفة؛ ذلك أنّها تمثّل «تحقير النفس وإهانتها بالنسبة إلى عظمة الله وقبول الحق بحسن الخلق» (5). وبهذا تكون من الصفات الخاصّة الاستعمال - إذا صحّ الوصف - لما فيها من سعةٍ دلاليّة قد تأخُذُها إلى ما يسحبها عن تلك الدلالة الإيجابية؛ ولذلك كان التحديد سياقيًّا بوضعها في

ص: 202

ما يدلُّ على رضا الله وطاعته، لتكون بعدها قيمة محمودة تعزّز الهويّة الإنسانية للمؤمن، وتحرّكه للتواصل المثمر مع الآخرين فيما تُفضي به العلاقات الإنسانية من شتى نشاطات اجتماعية لا يمكن لها أن تكون إلا بتوفّر هذه القيمة الأخلاقية، وما تستدعيه من صفات أخلاقية أخرى تتحرّك في ظلال قيمة التواضع وتعمل على تهيئة الجوّ الإنساني الملائم لتنشئة أجيال سعيدة قادرة على النهوض بواقعها ومجابهة الأخطار بخُطًى واثقة ممّا تقوم به.

وبالنظر إلى مجمل الخطاب القرآني، نجد أنّ التواضع هو المِلاك في تعامل الإنسان مع خالقه في العبادة مثلاً، وكان الخشوع إحدى أبرز مظاهر التواضع لله، التي تُبرز مكانة المؤمن الحقيقي عن سواه، فقوله سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ» البقرة: 45 دليلٌ على أنّ الخشوع وهو التواضع، هويّة المؤمن الذي يتحرّر من قيود المادّة، حين يُعلن انتماءه إلى الله غير تابعٍ لأحدٍ، وهذا الاتّباع إنما جاء عن طريق تفكيره بأنّ كل ما حوله يستحيل أن يكون بلا خالقٍ أو جده، فخضوعه لله يترجم عمق إيمانه بذلك الخالق، فالصلاة التي يُؤدّيها إليها ما هي إلا أقلّ الواجب من حقوق المُنعم عليه، وهذا هو خُلُق الملائكة الذين أذعنوا لله الواحد الأحد، فكانوا له متواضعين في الانقياد إليه، يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ» الأعراف: 206.

ويقف الماتريدي (ت: 333 ه) عند قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا» الإنسان: 2 متأمّلاً إلى ما فيه من إشارةٍ جليّةٍ إلى ضرورة أن يكون التواضع سلوكًا يتمثّله الإنسان في عبادته لله سبحانه؛ لأنّ ((إنشاءه كان من نطفة تستقذرها الخلائق، ومن علقة ومضغة يستخبثها كل أحد،

ص: 203

وبعد الممات يصير جيفة قذرة، ومن كان هذا شأنه، لم يحسن التكبر في مثله؛ فكان في تذكير أوائل الأحوال وأواخرها موعظة لهم؛ ليتعظوا، ويتبصروا، وتعريفٌ لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم؛ فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر)) (6).

ولذا كان التواضع سمة الأنبياء والأولياء الصالحين الذين يمثّلون القمّة في السلوك الإنساني، ومن ذلك قوله تعالى حكاية على لسان نبيه عيسى (علیه السلام): «وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا» [مريم: 32] يَقُولُ: وَلَم يَجعَلنِي مُستَكبِرًا عَلَى الله فِيمَا أَمَرَنِي بِهِ، وَنَهَانِي عَنهُ شَقِيًّا وَلَكِن ذَلَّلَنِي لِطَاعَتِهِ، وَجَعَلَنِي مُتَوَاضِعًا (7). وكانت إحدى وصايا لقمان الحكيم أنه أوصى ابنه بحسب ما ورد في قوله: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» لقمان: 19 أي أَمَرَهُ بِالتَّوَاضُعِ فِي مَشيِهِ (8).

أما فيما يخصُّ رسولَنا الخاتم لرسالات السماء محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) فقد كانت التوصيات الإلهية دومًا ما تُشير إلى ضرورة أن يكون النبيُّ متواضعًا للآخرين، ففي قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» [الكهف: 110] قال ابن عباس (رض) ((عَلَّمَ الله تعالى رسولَه التواضع لئلا يزهى على خلقه، فأمره بأن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله: «يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (9).

وفي السياق الاجتماعي أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان بالتواضع لوالديه، فقال سبحانه: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» الإسراء: 24. وَيُطلَقُ الذُّلُّ عَلَى لِينِ الجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَهُوَ مَجَازٌ، وَمِنهُ مَا فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَالمُرَادُ هُنَا الذُّلُّ بِمَعنَى لِينِ الجَانِبِ وَتَوطِئَةِ الكَنَفِ، وَهُوَ شِدَّةُ الرَّحمَةِ

ص: 204

وَالسَّعيُ لِلنَّفعِ (10).

لا عبر ما استعرضناه آنفًا نوجز القول: إنّ التواضع بوصفه قيمة أخلاقية تُعلي من شأن الإنسان بأثره التواصلي مع الآخرين على العكس من مفهومها اللفظي الظاهر، وهذا ما يُشكّل نقطة الافتراق بين مفهومها الظاهر ومفهومها العمَلي - إن صحّ الوصف - حيثُ تنكشف مساحة الحريّة الكامنة في ذات الإنسان بهذه القيمة، فيرتقي أخلاقيًّا إن راعى التعامل وفقها، وبالعكس من ذلك يسقط في حبائل الانغلاق على الذات قبل الآخرين، هذا لأنّ التواصل ينبني على قناعة كلّ طرفٍ بالاستفادة المتحققة من الآخر، وهذه الاستفادة لم تكن حكرًا لأحد من دون الآخر، بل هي خصيصة جوهرية قام عليها التنوّع الإنساني منذ النشأة الأولى له وإلى يوم الناس هذا، فإذا اضمحلّت عُرى التواصل الإنساني التي يترتّب على ثمارها تزايد الألفة بين المجتمعات وانفتاحها ثقافيًّا بما يكسر تلك الصور النمطية الراكزة في مخيال كل مجتمع عن الآخر، لم تكن إلا أشباح مجتمعات هجينة بثقافاتها، ومن ثمّ لا يسود غير الكراهيات التي لا تودي إلا بالمزيد من الانتهاكات بحقّ الآخرين بوصفهم عبيدًا لا يستحقون سوى الإخضاع والسيطرة على مقدّراتهم. وهذا ما لا يقبله منطقٌ إنسانيُّ سليم يروم العيش على هذا الكوكب بسلام وأمان.

ص: 205

المحور الثاني قيمة التواضع في الخطاب العلوي الشريف.

المطلب الأول: ضياع القيم الأخلاقية في أمة الغرب.

مُخطئٌ من يظنُّ أنّ القيم الإنسانية هي مجرّد أوهام لا تقدّم للمجتمعات البشرية شيئًا من الفائدة، محتجًّا بما يجده عند المجتمعات الغربية من تقدّم تكنولوجي على مختلف الأصعدة على الرغم من هدرهم تلك القيم، أو استعمالهم إياها بطريقة كيفية تتبع حسابات الربح والخسارة في عالم سوق المال، فتفوّق الغرب قام على مبدأ (فائض القيمة التاريخي) الذي تحقّق عبر استعمارهم بقية دول العالم، على الرغم من عدم نُكراننا ما قدّمته الثورة العلمية التي أدّت إلى طفرة اقتصادية تشيّدت على أركانها الدولة الوطنية الحديثة، ومن ثمّ جعلها دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية، إلا أنّ وراء ذلك الازدهار كان هنالك نهبُ لخيرات المستعمرات وتسخير سُكّانها، وبالنتيجة تراكمت لديهم الثروة الاقتصادية التي أنعشت الجانب السياسي والتكنولوجي (11)، بمعنى أنّ التطور التقني صاحبه انسلاخ المضمون الإنساني لدى تلك المجتمعات، فكانت الأسلحة الفتّاكة التي تقتل الملايين من الشعوب إذا ما تحرّكت منتفضةً لأجل استرداد كرامتها، فكانت تلك التقنية لأجل الحفاظ على تلك المركزية الغربية القائمة على الاستكبار على الآخرين، بما يُقصيها عن التواصل الإنساني المنشود.

وعليه نستطيع القول: إنّ الحضارة الغربية الحديثة لم تُسهم كثيرًا في إثراء المنظومة الأخلاقية، وهذا ما شهد به علماء الغرب، ومن أولئك الكاتب الانجليزي (جود) بقوله: «إنّ الحضارة الحديثة ليس فيها توازن بين القوّة

ص: 206

والأخلاق، فالأخلاق متأخّرة جدًّا عن العلم، فقد منحتنا العلوم الطبيعية قوّةً هائلة، ولكننا نستخدمها بعقل الأطفال والوحوش... فالانحطاط فالانحطاط هو خطأ الإنسان في فهم حقيقة مكانته في الكون، وفي إنكاره عالم القيم، الذي يشمل قيم الخير والحق والجمال» (12)، وتقول الكسيس كارليل: «في المدينة العصرية قلّما نشاهد أفرادًا يتّبعون مثلاً أخلاقيًّا، مع أنّ جمال الأخلاق يفوق العلم والفن من حيث إنه أساس الحضارة» (13)، وبهذا يمكن أن نفاضل الحضارة الإسلامية التي قامت على القيم والأخلاق، فكان أساس بعثة الرسول الكريم (صلى الله عليه و آله وسلم) ليتمم مكارم الأخلاق ويكملها، وذلك بعد أن تشرذمت وتفرّقت وأهمِلَت بين الأمم والحضارات؛ هذا لأنها كانت وحيًا من الله سبحانه وتعالى، فكان مصدرها التشريع الإسلامي منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان (14). ومن ثمّ كانت النتيجة في مثل هذا المجتمع أن تكون الوسائل بديلاً للغايات، وتتصاعد نزعة الاستهلاك المادي التي تعمل على تدمير الذات والقيم القديمة، من دون أن تتمكن من بناء ذات جديدة، مما يجعل الإنسان في حياته الفردية موزعًا بين قيمٍ فقدت زمنها وحاضرٍ لا يستطيع بلورة قيم تناسبه، الأمر الذي يُؤدي إلى ضياع القيم واندحارها فیما بعد (15).

المطلب الثاني: مفهوم التواضع في الخطاب العلوي.

إذا أردنا أن نسلّط الضوء على أهميّة التواضع بمنظور الإمام علي (علیه السلام) كان لنا أن نقرأ قوله: ((ولا حسبَ كالتواضع)) (16)، بعدّهِ أعلى قمّة يبتغيها الإنسان، ومعلومٌ أنّ الحسب «هُوَ مَا تعده من مفاخر آبَائِك، أَو المَال، أَو الدّين، أَو الكَرم، أَو الشّرف فِي العقل، أَو الفِعل الصَّالح، أَو الشّرف الثَّابت فِي الآبَاء» (17). أي كلُّ تلك المفاخر لا ترقى إلى ما يتمتّع به الإنسان من تواضعٍ لله أو مع عباده الصالحين.

ص: 207

وفي وصف المتّقين، كانت واحدة من أبرز علاماتهم التي شخّصها أميرُ المؤمنين (علیه السلام) هي التواضع، بقوله: ((فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع)) (18)، بمعنى أنّهم لا يُظهرونَ زهوًا على الآخرين يُوجب اجتناب الناس عنهم، بل هُم يتّخذون التواضع شعارًا يعبّرون من خلاله عن انتمائهم للآخرين على الرغم من عُلُوّ شأنهم عند الله سبحانه؛ لعلمهم أنّ الله وحده ممّن له الحق في الكبرياء على جميع مخلوقاته. وفي نصٍّ آخر يبيّن الإمام (علیه السلام) أنَّ تواضعه لغايةٍ مُسبقة، بمعنى إنّ تواضعه يعبّر عن وعيٍ عميق بمضمون هذه القيمة الأخلاقية، فيقول عنهم: ((بُعدُهُ عمن تباعد عنه زهد ونزاهة. ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة)) (19) فكلُّ حركةٍ يقوم بها إنّما تُترجم بُعد نظره وعميق إيمانه، فحين يربأ بنفسه - بوصف هذا السلوك تكبُّرا - فهو لأجل أن يحافظ على تقواه ولا يمكن بحال أن يكون مثل هذا التصرّف ينمّ عن تعجرفٍ منه، وحين يتواضع للآخرين ويدنو منهم في مجمل سلوكه مثل أن يبدأ السلام أو يبشّ في وجوه الآخرين أو يخفض صوته حين يتحدث معهم أو غيرها من سلوكيّات يوميّة، فلأجل تمتين أواصر العلاقة مع من يستحقها من أفراد المجتمع، ومن ثمّ تصبّ النتيجة في إضفاء تلك القيمة لُبوسًا معرفيًّا يوجّه صاحبها إلى الصحيح من السلوك في المقام المناسب وإلى ما عداه فيما إذا تغيّرت شروط المقام الذي يكون فيه.

وفي قوله (علیه السلام): ((وبالتواضع تتم النعمة)) (20) يظهر جليًّا ما توفّره هذه القيمة من فوائد تعود على صاحبها بالخير، إذ من الطبيعي أن يكون محطّ ثقة الناس ومحلّ احترامهم - بصفةٍ عامّة - ومن ثمّ يُؤهل إلى ما هو أعلى مقامًا بين

ص: 208

الناس.

ويُلحظ المقام السياقي الذي يُحدّد دلالة هذه القيمة الأخلاقية، فيجعلها في موضع ما مقبولاً، وفي موضع ما مذمومًا، وذلك في مثل قوله (علیه السلام): ((وَمَن أَتَى غَنِيّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ)) (21) فهنا يعمل الفكر التداولي في تحديد هذه الدلالة، إذ كما هو معروف أنّ معنى الخطاب يتحدد في ضوء الظروف التي يرد فيها، وهذا ما عبّرت عنه البلاغة العربية القديمة ب (مقتضى الحال ولكل مقامٍ مقال) فلم يكن التواضع بوصفه سمة أخلاقية تعمل على التواصل الخلّاق بين الآخرين، سوى وسيلةٍ ذاتيّةٍ تنطلق لتحقيق مآرب آنية من قبل الفرد، وهو بهذا لم يُراعِ أظهر سمات شخصيّته المتحقّقة بإنسانيته ومعرفة قدر نفسه، بل كان مثل ذلك التواضع يمارسُ تشويهًا لتلك الهويّة التي أراد الله تعزيزها في الإنسان، ومن ثمّ تكون النتيجة ما أشار إليه حديث الإمام (علیه السلام) بضياع ثلثا دين الإنسان، والدين لغةً بمعنى الالتزام، فلا يبقى والحالة هذه إلا شعائر ذلك الدين من دون أثرٍ لتجلّياته عليه، كذلك إنَّ في التواضع للأغنياءِ إعلامٌ لهم بوجوب احترامهم من قِبَل الآخرين ومن ثمّ الإذعان لهم، في حين أنهم لم يكن بينهم وبين الآخرين سوى فرق العامل الاقتصادي الذي أتاح لهم أن يكونوا مرفّهين بهذه الأموال، وخضوع الآخرين لهم لا يُشعِرهم بالتقصير لتقاعسهم عن أداء حقوق ما عندهم إلى الآخرين، بل يمدّهم في طغيان الغطرسة والتبختر اللامسؤول تجاه المجتمع، الأمر الذي يُراكم من تفاقم المشكلة الاجتماعية ويُعمّق الهوّة بين أفراده.

وفي المقابل يُحدّد الإمام (علیه السلام) أنّ أفضلَ التواضع وأعلاه أثرًا في المجتمع، حين ينطلق من علية القوم الأغنياء الذين أُوتوا فضلًا من المال، لَمِن حُرِموا منه، وذلك في قوله: ((مَا أَحسَنَ تَوَاضُعُ اَلأَغنِيَاءِ لِلفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِندَ الله وَأَحسَنُ مِنهُ

ص: 209

تِيهُ الفُقَرَاءِ عَلَى اَلأَغنِيَاءِ إِتِّكَالاً عَلَى الله)) (22) إذ ينفرد هذا الحديد بتحديد قيمة التواضع وما يُعاكسها في الاتّجاه إلا أنّهما بحسب السياق النصّي تمثّلان قيمتين فاضلتين يُحبّذهما العقل قبل الشرع؛ لما فيهما من آثار اجتماعية تنعكس فيما بعد على المجتمع، وتبعث على تذويب الفوارق التي صنعتها الوفرة الاقتصادية بين الجميع، فالتواضع الذي يدعونا إليه الإمام (علیه السلام) ليس لأجل منفعة شخصية، بل لأجل منفعة اجتماعية عامة، فالغني حين يتواضع، إنّما يُكرم نفسه، بإكرامه الآخرين بما يجود به عليهم من مالٍ اختبره الله فكان عليه مسؤولاً يوم القيامة، أما إذا كان خطابه معبّرًا عن اعتزازه بقدراته من دون الاستعانة برازقٍ يهب لمن يشاء ويقدر على من يشاء، فهو ساقطٌ في هذا الاختبار الذي عبّر القرآن الكريم: «فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» الزمر: 49، وهنا يکون الوعي الوجودي لهذا الغنيّ سببًا في اجتيازه عقبات هذا الاختبار، ما يُمكن أن نصفه بالوعي العميق لدى الإنسان - بالمعنى الإفلاطوني - الذي يمثّل شعوره بالمصير التاريخي لمجتمعه، وعلاقته بالمقدّرات الراهنة بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، وإلى الشعور بانضمامه وارتباطه بالمجتمع وشعوره بالمسؤولية تجاهه، ولفلسفة الحياة وما تنطوي عليها من شبكة العلاقات، سيما في الرباعية المحورية التي خطّطها علي شريعتي: (الإنسان - ذاته)، (الإنسان - المجتمع)، (الإنسان - الطبيعة)، (الإنسان - الله) وبهذا تكون نباهة الإنسان الفردية والاجتماعية مندرجةً تحت ما سمّاه ب (الوعي الوجودي)، إذ (الذات، المجتمع، الطبيعة، الله) مجتمعةً تُشكل الوجود بالنسبة للإنسان (23).

أما الأفضلُ من ذلك مقامًا عند الله، حين يحفظ الفقيرُ من عباده ماء وجهه، ولا يريقه لأجل استحصال الزهيد من أموال أولئك المستكبرين، وفي ذلك تحقيق

ص: 210

لمبدأ العزّة التي من شأنها أن تحمي الإنسان من الوقوع في شراك التبعيّة للآخرين ممّن لاخلاق لهم، فالتيه الذي يُذمّ عليه الإنسان بصفةٍ عامةً غدى أحسن وأفضل من تواضع الأغنياء للفقراء؛ وذلك لأنّ الشخص المتّصف به لم يكن إلا منطلقًا من صميم إيمانه بالرازق القادر على كل شيء أنّه لا سواه قادرٌ على أن يبدّل حاله إلى أفضل، وإن لم يُبدّل حاله، فذلك لا يُخرجه إلى حدّ الاعتراض، بل يرى أنّه اختبارٌ عليه أن يتخطّى صعابه متوكّلاً في كل ذلك الله.

ويُلاحظُ عبر هذا الحديث أنّه بالإمكان جمع كلا القيمتين الأخلاقيّتين في سلوكِ شخصٍ واحد، فيكون المؤمنُ متواضعًا لله من حيث أداؤه عبادته إليه، ومع الناس المؤمنين خافضًا جناحه لهم، وكذلك بإمكانه أن يتكبّر أو يتّصف بصفات تُحيل إلى هذه القيمة الأخلاقية من زهوٍ وعُجبٍ وتِيه وعزّة بالنفس لمن يستحقُّ مثل هذا السلوك من الأغنياء الذين دائمًا ما يرون الناس بمنظور استعلائي؛ لكون تلك القيمتين (التكبّر / التواضع) بينهما نسبة تضاد - کما في علم المنطق - لا نسبة تناقض، أي «أنّ التكبّر منا أنه صفة وجودية فكذلك التواضع صفة وجودية نفسانية أيضًا ويقعان على الضدّ من الآخر في واقع الإنسان ونفسه، وليسا من قبيل الوجود والعدم الذي يستلزم بالضرورة وجود أحدهما عدم الآخر بالتبع» (24).

المطلب الثالث: مخاطر الاستكبار في تشويه الهوية الإنسانية - قراءة في الخطبة القاصعة.

ولما كان تحذير الناس من إغواء الشيطان من جملة المهام الكبرى للأنبياء. فقد كان الإمام يهدف من كل ذلك إلى تأكيد عداوة الشيطان في النفوس لتنصرف إليه غريزة العدوان. وأعظم خطبة تضمنت ذلك، وتجلى فيها غرض الامام الاجتماعي هي خطبته المسماة (القاصعة). ففيها صرح الأمام بأن الاجتماع الانساني الحق لا

ص: 211

يمكن أن يجتمع مع النزعة القبلية. وفيها يصرح بأن النزعة القبلية ان هي إلا ارث شيطاني يزينه الشيطان لأوليائه (25). وفيها يبين أن الشيطان احق بالمحاربة من هؤلاء الضعفاء الذين يقع عليهم الظلم ويلحقهم الحيف بسبب النزعة القبلية. وذلك في قوله (علیه السلام): ((... واتَخِذوا التواضعَ مسلحةً بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا. ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضلٍ جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ریح الکِبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة والحرص والكبر والحسد دوا إلى التقحم في الذنوب، واستعيذوا بالله من الواقع الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر))

في هذا النص من خطبة الإمام، عدّة أوامر ونواهٍ ذكرها الإمام، بمعنى أنّ مضمونها احتوى على مضامين أخلاقية مهمّة دعت الإمام أن يجعلها طلبات يأمر بها أتباعه؛ لأجل تهذيب أخلاقهم من فساد أخلاقيٍّ مستشرٍ في عصره، ألا وهو داء الكِبر، الذي أوقع إبليس - وهو المقرّب من بين جنسه من الجنّ حتى نال مراتب جعلته في صفوفِ الملائكة - بشراك الذنوب المُهلكة، فالتواضع يمثّل مفتاح نجاح الإنسان وارتقائه اجتماعيًّا في الدنيا باتّباعه الصالح من الأحكام؛ لأنّ امتثاله لدستور الصلاح الموجود في القرآن وتر جمانه المتمثّل بأئمة أهل البيت (علیهم السلام) ماهو إلا ارتقاءٌ وصعود إلى العالم المثال الذي يريدُهُ الله للإنسان الخليفة، ولا يكون ذلك إلا بالتواضع، فهو سلاح، بل أكثر من ذلك، حين يصوّره الإمام علي (علیه السلام) بالمسلحة، أي الموضع الذي يُدّخر فيه السلاح، أو ما يُسمّى بالمشجب، وهو تشبیه بلیغ رائع، اختصر لنا الكثير من الكلام، حين يكون التواضع مصدر قوّة

ص: 212

للإنسان المسلم الذي لا ينفد سلاحه بوجه إبليس الذي رفع شعار الاستكبار وما يحمله من مفردات الرذائل الأخلاقية الأخرى: التكبّر، العُجب، العصبيّة، التيه، الاختيار، التفاخر،.. فمثل هذه الأدواء لا يُقضى عليها إلا بالتواضع فهو يقمعها، ويستأصلها من شأفتها، وذلك حين يتمثّله الإنسان ويجعله شعارًا ومنهجًا يطبّقه في سبيل الارتقاء بإنسانيته فيما يُرضي الله سبحانه وتعالى.

ثم يعرّج الإمام (علیه السلام) إلى مرجّحات عُقلائيّة، يستمدُّها من الواقع التاريخي الذي لا يختلف عليه اثنان، وهي مرجّحات يستلزم منها تعضّد الأمر الذي يلتمس استجابة تحقيقه لدى الجماعة المخاطَبة، وفي الوقت نفسه تعمل على إضعاف المرتكزات التي يتمسّك بها من يتّصف بذلك الوصف، ومن ثمّ تُشارك في إزالة رُکام القناعات التي ملأت ذهن تلك الجماعة، فيقول (علیه السلام): ((فلو رخص الله في الكبر لأحدٍ من عبادِهِ لرخَّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه. ولكنه سبحانه کرَّهَ إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع. فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم. وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، و كانوا أقواما مستضعفين. وقد اختبرهم الله بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة. وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره. فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة والاختبار في مواضع الغنى والاقتدار، وقد قال سبحانه وتعالى: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ» (26) فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم ولقد دخل موسی بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون و عليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصيُّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه فقال: «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل» «فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ

ص: 213

ذَهَبٍ» إعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا للصوف ولبسه. ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الارض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الاسماء معانيها. ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الاعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملا الابصار والاسماع أذى ولو كانت الانبياء أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق)) (27).

من المناسب أن نسلّط الضوء على السياق الحافّ بإنتاج خطابٍ مُكرّس من بداية أول وحدة خطابيّةٍ فيه إلى آخره عن شجب العصبيّة والاستكبار وفي المقابل تحبيذ مسلك التواضع، وهذا ما يُساعد في فتح مغاليق النص بوصفه مرآةً تعكس ما يعتمل في الوسط الاجتماعي والثقافي الذي صدر منه، ولعل ما ذكره ابن میثم البحراني ينفعنا في هذا المقام إذ نقل في سبب هذه الخطبة ((أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السّلام قد فسدوا، وكانوا قبائل متعدّدة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته، فيمرّ بمنازل قبيلة أخرى فيقع به أدني مكروه، فيستعدي قبيلته، وينادي باسمها، مثلاً يا للنّخع أو يا لكندة نداء عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشرّ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة التي قد مرّ بها، وينادون يا لتميم و يالربيعة، فيضربونه فيمرّ إلى قبيلته، ويستصرخ بها وتسلّ بينهم السيوف، وتثور الفتنة، ولا يكون لها أصل في الحقيقة، ولا سبب يعرف إلاّ تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، وكثر ذلك منهم، فخرج عليه السّلام إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة)) (28).

ص: 214

إنّ وضع ما استعرضناه آنفًا من أسبابٍ موضوعية، يُرشِدنا إلى الغايات التي دفعت الإمام علي (علیه السلام) في قوله هذه الخطبة، ولعلّ أسبابًا أخرى تضافرت معها، متمثّلةً بتهيّج الحراك العصبي لدى الجبهة المناوئة لحكومة الإمام علي (علیه السلام)، فالدولة الأموية في الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان، قامت على مبدأ الاستكبار في الأرض، فلم یکن واليها مُذعنًا للحق حين دُعِي إليه، بل أكثر من ذلك كان ملتفتًّا عن مطلب خلعه من كرسيّ السلطة لكونه والیًا انتهت صلاحية حكمه بموت الخليفة الثالث، فلا بُدّ إذن من تنازله عن منصب الحكم، إبّان استلام الإمام علي (علیه السلام) الحكم، ولكنه أبی مُستکبِرًا إلا أن يبقى بمنصبه مستلهمًا التجربة الإبليسيّة في الاعتزاز بالذات، فكان أول من حول الخلافة ملكاً في الإسلام (29)، من دون الالتفات إلى أنَّ الحق لا يعلو عليه أحد، ولا يسوّغ الظلم الصادر منها بأي حال، إن كان مدفوعًا بأسبابٍ تنطلق من تصوُّرٍ واهٍ لا يعتمد الحقائق، بل يقوم على الأكاذيب والأوهام، كما قال المتنبي (30):

إذا ساء فعلُ المرءِ ساءت ظنونُهُ *** وصدّقَ ما يعتادُهُ من توهُّمِ

فكان للإمام علي (علیه السلام) أن يستعرِض سيرة الأنبياء الصالحين الذين اجتباهم الله من دون خلقه ليكونوا أدِلّاء إلى طاعة الله، فكان التواضعُ أبرزَ سمةٍ عُرِفوا بها بين خلقه، بل أستطيع القول: إنهم ضربوا الأمثلة العُظمى في التواضع للآخرين، هذا لأنّهم علِموا أنّ ما يقومون به من سلوكٍ في عين الله، فضلاً عن أنّهم مكلّفون بهداية الآخرين وتنويرهم بها، وعندما يُؤمر الأنبياء أن يكونوا متواضعين للآخرين وما يُصاحب ذلك التواضع من إظهار المحبّة للمؤمنين مهما كان مقامهم، فإنّ وظيفة المؤمنين وتكليفهم الأخلاقي تجاه بعضهم البعض واضح؛ لأن الأنبياء يمثّلون القدوة والأسوة لجميع البشر (31).

ص: 215

ومن المستحيل عقلاً أن تنقاد لهم الناس في حالِ أظهروا التكبُّر والعُجب بأنفُسِهم، وهذا الأمر إنّما لا يُخالف السيرة العُقلائية في من يُريد انجذاب الآخرين لخطابه فحسب، بل يُخالف القيم الإنسانية التي يدعو الأنبياء إلى تذكير الناسِ بالتحلّي بها، والمبادئ الأخلاقية التي تنسجم والفطرة النقيّة للإنسان، ومن تلك القيم التواضع، فكيف يدعون الناس إليه - أي التواضع - وهم يتّصفون بخلافه..؟

إنّ أهمية شدّ المجتمع عبر خطابٍ یُجسّد القيم الأخلاقية التي سار عليها الأنبياء (علیه السلام) ممّا يعمل على تفعيل الهوية الإنسانية؛ هذا لكون من استعرضهم الإمام (علیه السلام) في خطابه كانوا قد أُرسِلوا إلى أمم مختلفة وحملوا کتب سماوية اختلفت في عنواناتها إلا أنّها توحّدت في مضمونها، بما يدفع الحواجز النفسية بين الشعوب، وتعمل على ردم مثل تلك التصوّرات الراكزة في مخيالها عن تفوّق أمّة عن سواها؛ هذا لأنّ الهوية السلبية دومًا ما تعتمد على ثنائية (نحن / هم) التي لا تعرف الذات إلا عبر إقصاء الآخر، وبهذا يجعل النسق الثقافي لكل أمة في حالة تربص دائمة ينقضّ متی ما حانت له الفرصة وهذا ما يحرّف الجميل الثقافي إلى قبحٍ ثقافي (32).

وينفتح خطاب الإمام علي (علیه السلام) في هذه الخطبة إلى احتمالاتٍ أخرى يفترضها على مُتلقّيه، لأجل أن تكون منفذًا يعضّد بها وجهة رأيه، ويُؤصّل بها مبدأه و جوهر سلوكه المستمدّ من سيرة من سبقه من الصالحين، بوصفهم خير مصداق لصياغة الهوية الإنسانية للجماعة المسلمة؛ لأنّ الهوية تمثّل الرمز أو العامل المشترك الذي يُجمع عليه كل أفراد الأمة، من حيث الانتساب والتعلّق والولاء والاعتزاز، وهذا الانتساب يكتسب قداسته؛ لأنه ليس موضع شك من طرف أي فرد، فهي بهذا

ص: 216

تمثّل قاسمًا مشتركًا بين الجميع، استنادًا إلى الخلفية الثقافية والتاريخية الواحدة، ومما يجعل هذا الاعتزاز بالهوية أمرًا مشروعًا، وحدة المصالح والمصير الواحد، وبهذا تكون الهوية مصداقًا للذات الجماعية لأفراد الأمة كلّهم (33).

فيبيّن لهم الإمام (علیه السلام) أنَّ الله سبحانه قادرٌ على أن تكون مشيئتهُ في رُسله أن يجعلهم أفضل الناس من حيث الرفاهية الاقتصادية بأن يهيّئ لهم كنوز الأرض، فتكون تحت تصرّف أيديهم، ويكون أمر الدعوة إليه سهلاً لا مشقّة فيه؛ لما في هذه الثروات من إغراء للناس الذين ينصرفون إلى مصالحهم الدنيوية وتحقيقها بأسهل الطرق، ومن ثم يلتفّوا حول من يعرُضَ عليهم تلك الأموال والكنوز مقابل أن يتّبعوا دعوته، ولكانوا أوّل المدافعين عنهم، ولكن شاءت الإرادة الإلهية أن يختُبَرَ الناس من دون أيّ مغرياتٍ؛ لكون تلك المغريات منافيةً للحكمة عقلاً ومنطقًا؛ لأنها لا تكشف معدن إيمان الناس بالله على حقيقته، لكونها تنسجم ومصالحهم، فيكون بالنتيجة اتّباعهم لله عن طريق تلك المغريات، لا لأنه يستحقّ الاتّباع كونه الإله الواحد الأحد الذي يحق له الإذعان بالعبودية، ولا يحقّ لسواه الاتصاف بالربوبية، بل لأجل تلك الثروات التي يتهافت الناس على استحصالها، فإذا كان سبيل استحصالها متوقّفًا على العبادة، فما أسهلَ ذلك المطلب الذي لا يقف في طريق نیل مصالحهم من دون نصبٍ يبذلونه سوى العبادة.. وفي حينها يسقط الابتلاء - بمعنى الاختبار- لأنّ الناسَ لم يجدوا ثمة أي اصطدام بمصالحهم الدنيويّة التي حصلوا عليها، بل أكثر من ذلك حينَ يُبتلى الناس بأنبياءٍ هم دونَهم في المستوى المعاشي، فيكونوا أفقر حالاً من أيّ فقير، وبهذا تعظمُ البليّةُ حينَ يُؤمر الملك والسَوَقة من الناس بفعلٍ واحد، ويُعامل الجميع بشريعةٍ واحدة، وهنا يحضر التواضع بوصفه قيمةً إنسانيةً عليا ينبغي للإنسان أن لا يفرّط فيها، فيتواضع

ص: 217

للحق مهما كان عنوانه؛ لأجل ارتقاء مقامه في الدنيا والآخرة، ولا ينبغي التكبّر على الحق، فيردي ويهلك من سوء فعله مع الحق؛ ولذا كان السلوك الفرعوني مُنطلقًا من دائرة الأنانية الضيّقة التي تحجب كل محاولة للرقيّ بالمجتمع، ومن ثمّ فمن الطبيعي أن يكون منطق السُخريّة خطابًا تتبنّاه السُلطة الطاغوتية ممثّلةً بالحاكم الأعلى (فرعون) لتسفيه خطاب الأنبياء الداعي إلى وحدة الله وعبادته من دون شريك، بما عبّرت عنه الآية التي استشهد بها الإمام (علیه السلام) «فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» باعتبار أنّ ((السِّوَارُ مِن شِعَارِ المُلُوكِ بِفَارِسَ وَمِصرَ یَلبَسُ المَلِكُ سِوَارَينِ. وَقَد كَانَ مِن شِعَارِ الفَرَاعِنَةِ لُبسُ سِوَارَينِ أَو أَسوِرَةٍ مِن ذَهَبٍ وَرُبَّمَا جَعَلُوا سِوَارَينِ عَلَى الرُّسغَينِ وَآخَرَينِ عَلَى العَضُدَينِ. فَلَمَّا تَخَيَّلَ فِرعَونُ أَنَّ رُتبَةَ الرِّسَالَةِ مِثلُ الُلكِ حَسَبَ افتِقَادَهَا هُوَ مِن شِعَارِ المُلُوكِ عِندَهُم أَمَارَةٌ عَلَى انتِفَاءِ الرِّسَالَةِ)) (34)، الأمر الذي جعله يستخفّ قومه بهذا الادّعاء الذي يُضلّل فيه على الحقائق، ولم يعلم أنّ الاستجابة الحقيقية للإنسان، حين يتجرّد من مصالحه الآنية الفانية، ويتّبع عقله الذي يُثوّره نداء الأنبياء، فهم أنبياءٌ ظاهرون والعقل نبيٌّ باطن - كما يُقال - وهذا لا يتحقّق إلا إذا كان التواضعُ مسبارًا يوجّه الإنسان ويُملي عليه طبيعة الاستجابة التي تتناسب و مستوى الخطاب وأهميّته.

أمّا إذا كانت المصلحة الآنية تمثّل القيمة العُليا للإنسان، فلا يمكن له أن يرتقي إلى ما يُحييه بوصفه فاعلاً في حركة التاريخ؛ ولذلك كان الصدام المستمرُّ - بحسب ما يوضح القرآن في مجمل خطابه - بين الأنبياء والمترفين؛ لأنّ هذا المُترف هو المستفيد من هذا المثال المنخفض، فدين التوحيد يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم، وفي الوقت نفسه يقطع صلة البشرية بهذه (المُثُل العليا المنخفضة) لأجلِ شدّهم بالمثل الأعلى المتمثّل بعبادة التوحيد (35) التي

ص: 218

بوساطتها يتمّ نزع الأغلال الفكرية البالية التي تعمل على إيقاعه في شراك الرؤية القاصرة للآخرين، وتورّطه باتّباع هواه.

ویُحذّر الإمام (علیه السلام) من التداعي لقيمة الکِبر وما تُفرِزهُ من أخلاقيّات تنأى بالإنسان - فضلاً عن كونه مسلمًا - عن هويّته التي أُريد لها أن تكون مُؤشّرًا مائزًا لإنسانيّته، ومعلومٌ أنّ الهويّة لا يمكن أن تكون صفة طارئة للإنسان يخلعها متی شاء؛ فلذا كان التحذير من انطماسها بتظهير أخلاقيات منافية لذلك المخلوق الذي شرّفه الله على سائر مخلوقاته، بقوله (علیه السلام): ((فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ اللاِتي خَدَعَ بِهَا الاْمَمَ الْمَاضِيَةَ والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَمهَاوِي ضَلاَلَتِهِ ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَتَتَابَعَتِ الْقُرونُ عَلَيْهِ وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ ألاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَجَاحَدُوا اللهَ مَا صَنَعَ بِهمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَمُغَالَبَةً لاِلائِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَسُيُوفُ إعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَليْكُمْ أَضْدَاداً وَلاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَلاَ تُطِيعُوا الاْدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ؟ إِبْلِيسُ؟ مَطَايَا ضَلاَلٍ وَجُنْداً بِهمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَمَوْطِىءَ قَدَمِهِ، وَمأْخَذَ يَدِهِ فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الاْمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ)) (36).

بملاحظة هذه الفقرة من الخطبة أنّ الإمام جعل يُفزع النتائج التي يصل

ص: 219

بها المتكبّر منها «باطنة كتحقير الغير وازدرائه، واعتقاد أنه ليس أهلاً للمجالسة والمواكلة والأَنفة عن ذلك. واعتقاد أنه يصلح أن يكون ماثلاً بين يديه وكحسده والحقد عليه، وكنظر العالم المتكبّر إلى الجاهل العامّي بعين الاستخفاف والاستجهال. وأما الظاهرة فكالتقدم عليه في الطرق والارتفاع عليه في المجالس، وكإبعاده عن مجالسته ومؤاكلته، والعنف به في النصح، والغضب عند ردّ قوله، والغِلظة على المتعلّمين وإذلالهم واستخدامهم، والغيبة والتطاول بالقول» (37).

وتحذير الإمام (علیه السلام) لم يكن إلا لأجل إدامة التواصل الإنساني فيما بين أفراد المجتمع الذي يقوده، هذا لأنّ مثل هذه الأدواء التي حذّرهم منها، إنّما تبعث على التصدّع والفُرقة واتّباع الهوى وصولاً إلى التفسخ الأخلاقي الذي يُنذر بدمار البنية المجتمعيّة التي يُفترض أن تتّصف بأجلى قيم الإسلام ممثّلةً بالتواضع، فهو الضمان الوحيد الذي يرکّز مفهوم الهويّة الإنسانية التي بموجبها يصحُّ وصف (الإسلام) على من يتّصف بها؛ لأنّ الإسلام تسليمٌ بأوامر الشرع، والتسليم ليس إلا أبرز مصاديق التواضع، فإذا صحّ انطباقه على الجماعة، يتحقّق مفهوم (دوائر الانتماء) الذي يُوصف به «مجموعة من البشر، يشملهم وضعٌ اجتماعيٌّ لوصفٍ يتّصفون به بالتشابه فيما بينهم، ويكون هذا الوصف ذا فاعلية اجتماعية، أي يُشكّل لمن يتّصف به مرکزًا اجتماعيًّا يتعامل به ويُؤثر في حقوقه وواجباته الفردية أو الجماعية، مما يُوجد صالحًا مشترکًا بين من يشملهم، ويُنتج وعيًا ثقافيًّا والانتساب إليه، ويُحرّك بواعث الدفاع عن وجوده» (38).

وفي الجزء الثاني من كلامه (علیه السلام) الذي استشهدنا به قبل قليل، نجد التحذير ينصبّ على طاعة الکُبراء الذين اتّصفوا بالتكبّر، إذ لا يجوز الانصياع لمثل هؤلاء من باب التعصّب لكونهم ينتمون إلى القبيلةِ نفسها، أو لكونهم يشاطرون أتباعهم

ص: 220

بالفكر، ولكنهم انحرفوا بسلوكهم الأخلاقي المُشين، الذي ينبني عليه انفصالهم عن الجماعة، والشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين، فمن ينشغل بملأ فراغ ذاته الجوفاء، لا يجد شيئًا يُشغله سواها، أما الذي ينطلق من معاناة الآخرين ويتواضع هم من حيث البحث عن مشاكلهم والتفكير بجدّ لوضع حلولٍ تنسجم والواقع الاجتماعي المعيش، مثل هذا الشخص يستحق الاتّباع، لما قدّمه من جهود ترفع من شأن العام قبل الخاص.

ويتوفّر البديل الأخلاقي في خطاب الإمام علي (علیه السلام) حين يجد أن نزعة التعصّب دخيلة في سرائر المجتمع الذي يعيش فيه، فيحاول أن يُحيّدها إلى اتّجاه يلتقي بالمنبع الأخلاقي الرئيس المتمثّل بالتواضع، فمن خلاله تتفرّع الخصال الحميدة التي لا يمكن أن تجسّد في سلوك الإنسان ما لم يكن هنالك ثمة إرادة حقيقة معضّدة بالتواضع الذي يقهر النفس لأداء مثل تلك السلوكيات الحميدة، فيقول: ((فَإِنْ کَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِیَّةِ فَلْیَکُنْ تَعَصُّبُکُمْ لِمَکَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِی تَفَاضَلَتْ فِیهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُیُوتَاتِ اَلْعَرَبِ وَ یَعَاسِیبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلاَقِ الرَّغِیبَةِ وَ الْأَحْلاَمِ الْعَظِیمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِیلَةِ وَ الآْثَارِ الْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِیَةِ لِلْکِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْکَفِّ عَنِ الْبَغْیِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْکَظْمِ لِلْغَیْظِ وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِی الْأَرْضِ)) (39).

لا يخفى أن النص تمثّل فيه ما يُصطلح عليه ب (المفهوم الثقافي) الذي يُركّز على ما تعارف عليه المجتمع سابقًا من الفضائل والشيم لإشاعتها بين الأفراد بوصفها تتواءم مع ما ترمي إليه الشريعة الإسلامي من إشاعة الأخلاق الحميدة، وبهذا تمثل مهمة تصحيح الإمام (عليه السلام) لمفهوم العصبية وغيرها من المفاهيم الخاطئة

ص: 221

التي درج الناس عليها، شعورًا بالمسؤولية الأخلاقية والشرعية تجاه المجتمع (40).

وفي الختام نُلخّص القول: إنّ خطاب الإمام علي (علیه السلام) فيما يخصّ ترکیز قيمة التواضع بوصفها مائزًا تُصاغ عبرها الهوية الإنسانية لجماعة المخاطبين، لم يخلُ من حُججٍ تُعضّد خطابهُ في نفوس السامعين، التي هي أبرز وجوع التفاعل الحي مع الآخرين، ولأنّ الحجّة تعمل على جانبين أحدهما: جانب الفعل والآخر: جانب الخُلُق، فالأوّل يتلخّص فيما يتوفّر في الباث من سلوكيّات تنطبق على سمات خطابه، ومن ثمّ تدعو الآخرين إلى التفاعل بما يبثّه من وصايا لهم، أما جانب الخُلُق فيقوم في فعل الاعتبار الذي يدخل فيه المتكلّم الذي يوجّه به سیر الجانب التغييري من المخاطبة (41).

ولمّا كان الإمام علي (علیه السلام) يمثّل المثال الذي يستطيع - كما يقول هيجل- أن يعبّر عن إرادة عصره في كلمات ويُخبر عصره ما هي إرادته ویُنیرها أو أنّ ما يفعله هو روح عصره (42)، الأمر الذي يعمل على خلق قوی اجتماعية تغيّر شكل العالم وتجذّر الوعي عند قطّاعات كبيرة من المجتمع. حيث يذوب الفرد في طموح الجماعة؛ لأنّ الفرد لا يوجد حضاريًّا إلا في المجتمع، الذي يتكون من أفراد، وبذا يكون التفاعل بين الاثنين دائمًا، فلا إبداع ينجزه الفرد ما لم يكن هناك مجتمعٌ یهیئ له الظروف المساعدة على ذلك الإبداع (43)، فالفرد العبقري إنما ينطلق من رحم تفاعله مع مجتمعه، فهو المصدر الأساسي للفعل والإبداع بحيث كان المجتمع مجالا حيویًّا تم ذلك الفعل الإبداعي داخل إطاره التواصلي.

ص: 222

الخاتمة

آن لنا أن نلقي عصا البحث، بعد أن استقرّ بنا الترحال على عتبة الخاتمة، وبإمكاننا أن نلخّص أهم تلك النتائج التي جهدنا قدر المستطاع أن يقف عندها، بحسب الآتي:

- لفت البحث أنّ مفهوم البحث من حيث الاشتقاق اللغوي، يدلّ على التواصل والاشتراك، وهذا ما ينسجم ومؤدّاه العملي الواقعي، فالتواضع إنّما ينظر إلى أثره الإيجابي أو السلبي بحسب الجهة التي يصدر بحقها، فتارةً يكون التواضع محمودًا، وتارةً يعد مذمومًا حين يكون ضربًا من ضروب الذل والضراعة لمن لا يستحق أن يُقابل بمثل هذه القيمة.

- کشف البحث النقاب عن أهمية هذه القيمة من حيث عرضها على الخطاب القرآني الكريم، وعلى الرغم من أنّ البحث لم يستعرض كل ما يتّصل بهذه القيمة أو يُعاكسها في النص القرآني، إلا أنّه كشف الأثر الكبير لها بما يتصل بسلوك الفرد مع ربه أو مع أهله أو مع الآخرين.

- ألقي البحثُ الضوء على انهيار القيم الأخلاقية في المجتمع الغربي وآثار ذلك الانهيار القيمي في التفكك المجتمعي الذي يعيشه المجتمع، فضلاً عمّا يُرافق ذلك من انسلاخ عن الهوية الإنسانية بقمع الآخر وتهميشه وصولاً إلى انسداد الذات بصنع الأسلحة التدميرية، كلّ تلك الآثار كانت نتيجة تراكم الصورة النرجسية في متخيّل تلك الشعوب بما يجعلها ترى نفسها دون الآخرين.

- يرى الباحث أهمّية الانطلاق من قيمة التواضع لا بوصفها قيمة أخلاقية دعا الإسلام إلى التحلّي بها فحسب، بل بوصفها قيمة إنسانية كبرى تجسّر العلاقة

ص: 223

بين الأمم ومن ثمّ ترصّن الجانب التفاعلي الاجتماعي الخّلاق فيما يرقى بالبشرية إلى دلالة الإنسان الخليفة.

- عمد الإمام علي (علیه السلام) إلى تأكيد سمة التواضع وبثّها في شتی خطاباته مع الآخرين، منسجمًا وسلوكه المستمدّ من الفطرة الإنسانية السامية، فضلاً عن كونه إمامًا مفترض الطاعة يمثّل خُلُق الإسلام الحقيقي.

- رصد البحث السياق الثقافي الذي يمثّل المحضن لكل خطاب، فلقد كشف أنّ ثمة أسبابًا كانت وراء تأكيد الإمام (عليه السلام) على هذه القيمة، بالنظر إلى العصر الذي نشر فيه كل ما يتمّ بالقيم الإنسانية النبيلة، واستُبدلت بقيم غريبة بعيدة عن الروح الإسلامية فضلاً عن الجوهر الإنساني الذي ينسجم و الخطاب القرآني الرفيع.

- وظّف الإمام علي (علیه السلام) عدّة وسائل لترصين هذه القيمة الأخلاقية في مجمل كلامه، تمثّل بالأدلّة العقليّة، ومن ثمّ استشهاده بالأدلة النقلية التي كان القرآن أشهرَها وأكثرها حجّةً على الآخرين.

- لم يفُت الإمام أن يحذّر من عواقب الاستكبار على الفرد وعلى المجتمع، بما تعود عليه من آثار سلبية تتمثّل بسقوطه الأخلاقي في وحل العبودية لذاته، وامتهانه الآخرين من دون وجه حق، وفي ذلك انسلاخ من هويّته الإنسانية التي أريد لها أن تعمل على تقوية علاقته ببني جنسه من حيث احترامهم وقبولهم آخرَ مساوین له في الحقوق والواجبات.

هوامش البحث:

1. ينظر: لسان العرب: 8/ 793.

2. ينظر: لسان العرب: 8/ 793.

3. العقل الأخلاقي العربي - دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري:

ص: 224

97.

4. نظرية القيم في الفكر المعاصر بين المطلقية والنسبية، د. الربيع ميمون: 233.

5. ينظر: التوقيف على مهات التعاريف، عبد الرؤوف المناوي: 111.

6. تأويلات أهل السنة، الماتريدي: 10/ 953.

7. جامع البيان عن تأویل آي القرآن، الطبري: 51/ 335.

8. المصدر نفسه: 81/ 365.

9. الوسيط في تفسير القرآن المجيد، الواحدي: 3/ 271.

10. التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور: 6/ 732.

11. التحرير والتنوير: 2/ 732.

21. مقدمات العلوم والمناهج، أنور الجندي: 4/ 77.

31. الانسان ذلك المجهول: 153.

41. ينظر: الأخلاق والقيم في الحضارة الإسلامية، د. راغب السرجاني: 1.

51. ينظر: النظرية النقدية التواصلية - يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، حسن مصدق: 26.

61. نهج البلاغة، الشريف الرضي: 3/ 081 (ح/ 311).

71. ينظر: أسئلة الثقافة في عالم متحول، د. علي أومليل: 74 - 84.

81. نهج البلاغة: 2/ 381 (ح/ 881).

91. نهج البلاغة: 2/ 681 (ح/ 881).

02. نهج البلاغة: 3/ 402 (ح/ 422).

12. المصدر نفسه: 3/ 402 (ح/ 822).

22. المصدر نفسه: 3/ 452 (ح/ 604).

32. ينظر: النباهة والاستحمار، د. علي شريعتي: 45.

42. ينظر: النباهة والاستحمار: 45.

52. الأخلاق في القرآن - فروع المسائل الأخلاقية، ناصر مکارم الشيرازي: 2/ 75.

62. سورة المؤمنون: 55 - 65.

72. نهج البلاغة: 2/ 821 (ح/ 781) والآية من سورة الزخرف: 35

82. نهج البلاغة، ابن میثم البحراني: 4/ 412.

92. ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير: 8/ 441.

ص: 225

03. ينظر: ديوان المتنبي: 4/ 591.

13. ينظر: الأخلاق في القرآن: 16.

23. ينظر: القبيلة أو القبائلية - هويات ما بعد الحداثة، د. عبد الله الغذامی: 01.

33. ينظر: الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مجموعة باحثين: 52.

43. التحرير والتنوير: 52/ 232.

53. ينظر: المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر: 051 - 151.

63. نهج البلاغة: 2/ 561.

73. نهج البلاغة، میثم البحراني: 4/ 612.

83. دوائر الانتهاء وتأصيل الهوية، نادية مصطفى وآخران: 12.

93. نهج البلاغة: 2/ 271 (ح/ 781).

04. ينظر: الخطاب في نهج البلاغة - بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية، د. حسين العمري: 722.

14. ينظر: التواصل والحجاج، د. عبد الرحمن طه: 91 - 02.

24. ينظر: فلسفة الحق، هيجل: 592 نقلا عن الإنسان و التاريخ: 121).

34. الإنسان و التاريخ - أثر التاريخ وتأثره بسيكولوجية الفرد، د. کريستين نصار: 221 - 321.

ص: 226

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

1. الأخلاق في القرآن - فروع المسائل الأخلاقية، ناصر مکارم الشيرازي، المؤسسة الإسلامية، قم، 1426 ه.

2. الأخلاق والقيم في الحضارة الإسلامية، د. راغب السرجاني، موقع نصرة رسول الله، د. ط، د. ت.

3. أسئلة الثقافة في عالم متحول، د. علي أومليل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، بیروت - لبنان، ط 2، 2011 م.

4. الانسان ذلك المجهول، الکسیس کاریل، ترجمة: عادل شفيق، الدار القومية للطباعة والنشر، د. ط، د. ت.

5. الإنسان والتاريخ - أثر التاريخ وتأثره بسيكولوجية الفرد، د. کریستین نصار، جروس برس، طرابلس - لبنان، ط 1، 1991 م.

6. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت: 774 ه)، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1988 م.

7. تأويلات أهل السنة، محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (ت: 333 ه)، تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، ط 1، 2005 م.

8. التحرير والتنوير، محمد بن عاشور، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 م.

9. تفسير الطبري = جامع البيان عن تأویل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري (ت: 310 ه)، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة

ص: 227

والنشر والتوزيع والإعلان، ط 1، 2001 م.

10. التواصل والحجاج، د. عبد الرحمن طه، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط - المغرب، د. ت.

11. التوقيف على مهمات التعاريف، عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي (ت: 1031 ه)، تحقيق: عبد الخالق ثروت - القاهرة، ط 1، 1410 ه - 1990 م.

12. الخطاب في نهج البلاغة - بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية، د. حسين العمري، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 2010 م.

13. دوائر الانتماء وتأصيل الهوية، نادية مصطفى، أسامة مجاهد، ماجدة ابراهيم، دار البشير للثقافة والعلوم، القاهرة - مصر، ط 1، 2013 م.

14. ديوان المتنبي، وضعه: عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 3، 2011 م.

15. العقل الأخلاقي العربي - دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت - لبنان، ط 2، 2006 م.

16. القبيلة أو القبائلية - هويات ما بعد الحداثة، د. عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2009 م.

17. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور (ت: 711 ه)، دار صادر - بيروت، ط 3، 1414 ه

18. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، مطبعة شریعت، قم، 1424 ه.

19. مقدمات العلوم والمناهج محاولة لبناء منهج اسلامي متكامل، أنور الجندي، دار الأنصار، ط 1، 1979 م.

ص: 228

20. النباهة والاستحمار، د. علي شريعتي، تقديم: د. إبراهيم دسوقي شتا، دراسة وتعليق: عبد الرزاق الجبران، مراجعة: حسين علي شعیب، دار الأمير، بیروت، ط 1، 2004 م.

21. نظرية القيم في الفكر المعاصر بين المطلقية والنسبية، د. الربيع میمون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980 م.

22. النظرية النقدية التواصلية - يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، حسن مصدق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 1، 2005 م.

23. نهج البلاغة، تصنيف الشريف الرضي، شرح: محمد عبده، تصحیح: إبراهيم الزين، منشورات دار الفکر، بیروت، 1965 م.

24. نهج البلاغة، کمال الدین میثم بن علي بن میثم البحراني، منشورات دار الثقلين، بيروت - لبنان، ط 1، 1999 م.

25. الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مجموعة باحثين، مرکز دراسات الوحدة العربية، تحرير وتقديم: رياض زكي قاسم، بیروت - لبنان، ط 1، 2013 م.

26. الوسيط في تفسير القرآن المجيد، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، النيسابوري (ت: 468 ه)، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الدكتور أحمد محمد صيرة، الدكتور أحمد عبد الغني الجمل، الدكتور عبد الرحمن عويس، قدمه وقرظه: الأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1994 م.

ص: 229

ص: 230

نعم لدولة الإنسان من خلال القيم الأخلاقية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)

الدكتور فاضل عبد العباس محمد اللامي باحث في الشؤون الإدارية والاجتماعية

ص: 231

ص: 232

إن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بخلقه الرحيم كان قد مثل الإسلام ومبادئه السمحاء، وقد قال فيه الباري سبحانه: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ..» (القلم: 4)، وخَلَفَهُ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلم تعرف الدنيا رجلاً جمع الفضائل ومكارم الأخلاق بعد الرسول الأعظم كالإمام أمير المؤمنين، فقد سبق الأولين، وأعجز الآخرين، ففضائله أكثر من أن تحصى، ومناقبه أبعد من أن تتناهي، وكيف تعد مناقب رجل قال فيه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) یوم برز لعمرو بن عبدود العامري: (برز الإيمان كله إلى الشرك كله).

تميزت سيرة أمير المؤمنين بخصال عديدة كان من أوضحها تعامله الإنساني مع الآخرين المبني على احترام الإنسان كإنسان، بغض النظر عن أي شيء آخر، والمحافظة على حقوقه وشخصيته المادية والمعنوية في أي موقع ومكان، ومهما كان حجمه ومستواه، وإن حضور هذا البعد في حياته هو الذي جعل من شخصيته شخصية إنسانية خالدة على مستوى البشرية كلها، وليس في تاريخ المسلمين وحدهم، وقد تمثلت في وصيته لولديه الإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه أبن ملجم لعنه الله، بقوله: (أنه أسير فأحسنوا نزله، وأكرموا مثواه، فإن بقيت قَتَلّتَ أو عفوت، وإن مُّتُ، فاقتلوا قاتلي، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين).

فما أحوجنا ونحن نعيش في مجتمعنا العراقي مآسي فقدان المساواة، وفتن الخلافات القومية والطائفية أن نقرأ سيرة الإمام علي (عليه السلام) المليئة بالقيم الأخلاقية الإنسانية وغرسها في النفوس.. لأن الناس لا ينظرون إلى معتقدك ولا إلى عبادتك، وإنما ينظرون إلى خلقك أولاً، فإذا أعجَبهم أخذوا عنك العقيدة والأخلاق والعبادة والعلم، وإذا لم تعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم.

ص: 233

هدف البحث

أنّ الهدف من البحث هو بيان دور أمير المؤمنين (عليه السلام) الرسالي عملياً في تكوين الأسرة الصالحة والمجتمع، فهو الإمام الجامع لصفات الجمال والكمال، والوارث للخصال التي تميز بها الأنبياء والأوصياء بما يتحلى به من قيم أخلاقية إنسانية، للوصول إلى مجتمع إسلامي مثالي ينسجم مع كل الأديان والأطياف من حوله، کما يسعى إلى بناء نظام اقتصادي وسياسي يضمن للجميع الحرية والعدل والمساواة.

فرضية البحث

إن غياب القيم الأخلاقية ستفقدنا الهوية الإنسانية، والعودة إلى ما قبل الرسالة السماوية لخير البشرية خُلُقاً وخَلقاً محمد (صلى الله عليه وآله) من همجية وجاهلية وعصبية قبلية والحاد.

أهمية البحث

تنبع أهمية البحث من خلال النقاط التالية:

1. إطفاء نار روح العنصرية والطائفية والإقليمية بين المسلمين، من خلال روح الأخوة الإسلامية التي كان يعيشها أتباع أهل البيت، وخصوصاً عند أمير المؤمنين (عليه السلام).

2. إطفاء حب الذات - الأنا - وإشاعة روح الجماعة بين الأفراد لتحقيق المساواة والعدالة والديمقراطية.

3. أشاعة روح الأخوة والتعاون من خلال غرس القيم الأخلاقية الفاضلة بين كافة المكونات.

4. غرس القيم الخلقية الفاضلة، والابتعاد عن رذائلها بين الحاكم والمحكوم، وذلك بأن لا يستأثر بشي لنفسه، وأن يساوي بينه وبين الناس.

ص: 234

المبحث الأول الإطار المفاهيمي للأخلاق

المقدمة:

نجد أن علماء الأخلاق وعلماء النفس الحديث عنونوا أبحاثاً عميقة ومفصلة، اعتمدوا فيها على النواحي العلمية في كيفية الوقاية ومكافحة المفاسد الأخلاقية، وكيفية تحصيل الصفات والروحيات الإنسانية العالية، وعلى رأس هؤلاء العلماء وفي مقدمتهم تقدم أئمتنا (عليهم السلام) الذين كانوا هم اعلم المعلمين وأزکی المربين بأوامر أخلاقية عميقة لتربية الملكات الفاضلة في الإنسان، أضف إلى أقوالهم في هذا المجال أنهم كانوا يدرسون البشرية بأعمالهم وسيرة حياتهم دروساً نستطيع أن نعيش في ظلها أناسا سعداء ذوي قيم (1).

وليس غريب أن تكون فكرة او موضوعة الأخلاق موضوعة عالمية تتسارع إليها أعناق وأفئدة الأفذاذ في كل زمان ومكان مع اختلاف جنسياتهم، وقومياتهم، ومذاهبهم، ومشاربهم، والسر في ذلك واضح لان حب وعشق الأخلاق أمر فطري يقتضيه الطبع الإنساني السوي بشكل طبيعي.. إذن فطرة الإنسان السليم لا تقبل إلا الأخلاق، ولا ترضى عنها بدلاً او حولاً (2)، ينبغي معرفة ماذا نعني بالأخلاق:

أولاً: تعريف الأخلاق:

ومما لا شك فيه أنّ الأبحاث الأخلاقية ولدت مع أوّل قَدَم وضعها الإنسان على الأرض، لأن النّبي آدم (عليه السلام) لم يُعلّم أبناءه الأخلاق فقط.. بل إنّ البّاري تعالى عندما خلقه وأسكنه الجنّة، أفهمه المسائل الأخلاقيّة، والأوامر

ص: 235

والنّواهي في دائرة السّلوك الأخلاقي مع الآخرين، وأتخذ سائر الأنبياء (عليهم السلام) طريق تهذيب النّفوس والأخلاق، والتي تكمَن فيها سعادة الإنسان، حتى وصل الأمر إلى السيّد المسيح (عليه السلام)، حيث كان القسم الأعظم من تعاليمه هو أبحاثٌ أخلاقيّةٌ، فَنَعَته حواریّوه و أصحابه بالمعلِّم الأكبر للأخلاق (3) وقال عنه الباري تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ...» القلم: 4، والخُلُق العظيم: هو الخُلُق الأكرم في نوع الأخلاق، وهو البالغ أشدّ الكمال المحمود في طبع الإنسان.. فهو أرفع من مطلق الخُلُق الحسن، وفي ذلك ينقل العلامة المجلسي قولاً في تفسير الآية حيث يقول: (سُمّي خُلُقُه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه) (4).

وبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم أكبر معلّمي الأخلاق، وذلك بشهادة الأحاديث التي نُقلت عنهم حيث ربّوا أشخاصاً بارزين يمكن أن يعتبر كلّ واحد منهم مُعلِّماً لعصرهِ، فحياة المعصومين (عليهم السلام) وأتباعهم هي خيرُ دليل على سُمّو نفوسهم ورفعة أخلاقهم في حركة الواقع.

إن المنظومة الأخلاقية في الإسلام تشتمل على جملة أخلاق يصح أن نسميها (أخلاق التعايش)، ونعني بها تلك الأخلاق المنظمة لشئون المجتمع الإسلامي وعلاقات أبنائه فيما بينهم، سواء العلاقات بين المسلمين أنفسهم، أو العلاقات بينهم وبين غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى، وتلك الأخلاق تزيد من مساحة التعاون والتضامن والتكافل بين المواطنين الذين يعيشون في دولة واحدة أو في وطن واحد، وإن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان أو رؤوس الأخلاق أربعة هي: (الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل)، وأن الأخلاق السافلة مبناها على أربعة أخلاق هي: (الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب)، قال أمير

ص: 236

المؤمنين (صلوات الله عليه): أربع خصال سود بها المرء: العفّة، والأدب، والجود، والعقل (5).

وفي حديث للإمام الصادق (صلى الله عليه وآله): (أربعة من كن فيه كمل أيمانه، وأن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصهُ ذلك وهي الصدق، وأداء الأمانة والحياء، وحسن الخلق).

إن الغاية لكل أحكام الشريعة الغّراء هي التزام المؤمن بالأخلاق الفاضلة اعتقادا وفكراً وسلوكاً وتطبيقاً، لأن الشريعة هي المنبع الصافي الذي ينبغي على المؤمن أن ينهل منه فلسفته الروحيّة والأخلاقية، وهي الحقيقة الموجهة له في الحياة، والمعاملات وشتى المظاهر الاجتماعية (6).

تعريف الأخلاق: لغة:

قال أبن منظور في لسان العرب الخُلُق: الخليقة، أعني: الطبيعة، والجمع: أخلاق، وقال أيضاً: والخُلُق - بضم اللام وسكونها - وهو: الدِّين والطبع والسجية، ويفسر أبن منظور ذلك بقوله: (وحقيقته أي الخُلُق، أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة)، وقد میّزوا بين الخَلق بالفتح والخُلق بالضمّ - وإن كانا في الأصل واحد کالشَرب والشُرب - لكن خص الخَلق بالعينات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلُق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة (7).

ويشير المعنى اللغوي إلى أن الأخلاق هي جمع خُلُق، والخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، فهي بمنزلة الصورة الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولها أوصاف حسنة وقبيحة،

ص: 237

والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة (8).

ومن خلال هذا العرض اللغوي لمفهوم الأخلاق يمكن استخلاص ثلاثة مفاهیم بارزة هي:

1. أن الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خِلقة الإنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة.

2. أن الأخلاق ينضوي فيها أيضاً الصفات المَكتَسَبَة التي صارت كأنها خُلِقَت مع طبيعة الفرد، وانعکاس تلك الصفات على سلوكه وعاداته واتجاهاته، كالاستقامة في السلوك أو الانحراف عن الصواب.

3. أن للأخلاق جانبين: الأول نفسي داخلي باطن، والآخر سلوكي ظاهر، وهو انعكاس للباطن على هيئة سلوكيات و معاملات، وهذان الجانبان هما وجهان لعملة واحدة.

• اصطلاحا:

قال (أبن مِسکَوَیه) في كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق: (إنّ الخُلق هو تلك الحالة النفسانيّة التي تدعو الإنسان لأفعال لا تحتاج إلى تفكّر وتدبّر) (9).

والخُلُق بالضم عبارة عن: هيأة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عن تلك الهيأة أفعالاً جميلة محمودة عقلاً وممدوحة شرعا سمیت تلك الهيأة (خلقاً حسناً)، وإن كان الصادر منها أفعالاً قبيحة سميت (خلقاً سيئاً)، وإنما أشترط فيها الرسوخ لأن من يصدر عنه بذل المال مثلا على الندرة لحاجة عارضة لا يقال (خلقه السخاء) ما لم يثبت

ص: 238

ذلك في نفسه ثبوت رسوخ (10).

وفي قوله: (الخُلُق عبارة عن هيأة للنفس راسخة) إشارة إلى وجود هيئات للنفس غیر راسخة أيضاً.. إذ الهيئات في الإنسان على قسمين (11)::

الأول: هيئات غير راسخة: وهي الهيئات التي تزول بسرعة کاحمرار وجه الإنسان عند الخجل أو اصفراره عند الخوف.

الثاني: هيئات راسخة: وهي الهيئات التي لا تزول، إما لا تزول أصلاً كلون الإنسان - مثلاً - لأنها غير اختيارية، أو لاتزول بسهولة، وإذا زالت لسبب ما فإنها سرعان ما ترجع مرّة أخرى، وهذه مورد بحوثنا وتسمّى (بالملكات الاختيارية کالعدالة والشجاعة)، فالعادل قد يرتكب ما ينافي العدالة ولكنه سرعان ما يندم على فعلته ويعود إلى عدالته، وهذا معنی قولنا: إن العدالة هيأة راسخة في وجود مثل هذا الإنسان (12)، إِذاً الأخلاق هي قوة أو ملكة تدفعك للقيام بالأعمال الحسنة، وتنهاك عن فعل الأعمال السيئة (13).

ثانياً: مفهوم الأخلاق:

إن حدود الشخصية العظيمة ترسمها الأخلاق.. فسمو الذات إنما هو بسمو المعنى، وعلو المكانة هي في تلك الأصول الأخلاقية التي يلتزم بها الرجال، وهي المقياس في تقييم أعمالهم وأفعالهم، فقيمة الإنسان بإنسانيته، و قيمة العمل بمحتواه، وقيمة الدين بالترفع عن الدنايا، و میزان البطولة هو الأخلاق.

فالخُلق وعاء الدين، وهو عنوان صحيفة المؤمن، وما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق.. من هنا فإنه(لا قرين كحسن الخلق) و (لا عيش أهنأ من حسن الخلق) لأن من (حسنت خليقته طابت عشيرته)، وعلى

ص: 239

كل حال فإن) أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (فالأخلاق من ثمار العقل، وصحيح أن قلنا في داخل كل إنسان كوامن خيرة، تدعوه إلى الالتزام بالأخلاق والعمل الصالح، وكوامن شريرة تدعوه إلى الفساد والشر ومناوأة الصالحين، ويقول الإمام علي (صلى الله عليه وآله): (رأس العلم التمييز بين الأخلاق، وإظهار محمودها وقمع مذمومها)، وبمقدار ما تكون الأخلاق الحسنة مطلوبة، فإن سوء الخلق مذموم (14).

إن علم الأخلاق من أشرف العلوم إن لم يكن أشرفها، إذ أن قيمة المرء في الحقيقة تقدر بأخلاقه و أعماله لا بجسمه ولا بعلمه ولا بماله، وتعد الحجر الأساس البناء المجتمع المتكامل، وهي الدعامة القوية لحفظ کیان المجتمع، حيث ترتفع بها النفوس إلى مراتب الكمال (15).

فالأخلاق علم فلسفي تُعرف به الفضائل السامية التي يجب أن يتحلى الإنسان بها وكيفية اقتنائها لتتمثُّلها النفس، وتُعرف به الرذائل وكيفية تَوقِّيها والتخلي عنها، وهو علم فلسفي يعالج سلوكيات الإنسان المترتبة على إدراكه لمفاهيم الخير والشر، وهي مقياس الأمم وثمرات حضارتها وتدنيه (16).

أما مفهوم الأخلاق في نظر الإسلام هو مجموعة المبادئ والقواعد للسلوك الإنساني، والتي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان، وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه (17).

ويعرف (يعقوب فام) في كتابه (التربية الأخلاقية) الخُلُق هو نشاط الفرد في المجتمع البشري وميوله الملآزمة له نحو نظم الجماعة ومنشأها واتجاهاته الفكرية نحو من يحيط به من الناس بما يفيد، ولا يضر بالجماعة البشرية (18).

أما الشهرستاني فيقول (19): (إن الناس يولدون خیرین سواسية بطبيعتهم،

ص: 240

وكأنهم كلما شبوا أختلف الواحد منهم عن الآخر تدريجياً على وفق ما يكتسب من عادات.

إن أفضل طريقة لبيان ومعرفة أهمية علم الأخلاق الرجوع إلى القرآن الكريم، والروايات الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام):

الآيات القرآنية:

كلنا يعلم بأنه كان من اكبر عوامل تقدم الإسلام (حسن أخلاق) الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وكما أن الله تعالى ينسب توسع الإسلام إلى الأخلاق الحسنة للرسول فيقول: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...» (آل عمران: 159) (20).

لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مضرب المثل والقدوة الحسنة في حسن الخُلق، فلقد أثنى عليه ربه عز وجل في كتابه: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (...القلم: 4)، ووصفه سبحانه بالرأفة والرحمة على المؤمنين، وهذا من حسن الخلق فقال: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ...» (التوبة: 128).

الأحاديث والروايات الشريفة:

إنَّ الهدف الأساس من البعثة النبوية هو بمكارم الأخلاق، وهذا معناه أنّ الشريعة الخاتمة التي جاء بها سيّد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) ذات أسس أخلاقية عليها تقوم وبها تنفذ في كل جوانبها الإيمانية والتعبدية والتعاملية، فلا يزكو إيمان ولا عبادة ولا عمل ما لم يكن مصبوغاً بالصبغة الأخلاقية الفاضلة، إذ ليس من خلق كريم ولا فعل جميل إلا وقد وصله الله بالدين.

ص: 241

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنّما بعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق)، وفي رواية: (إنّما بعثت لأُتمّم صالح الأخلاق) وفي ثالثة: (إنّ بعثتي بتمام مکارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال) (21).

وقال أبو الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (أفضل ما يوضع في الميزان حسن الخُلق والسخاء، ولما خلق الله تعالى الإيمان قال: اللهمّ قوّني، فقواه بحسن الخُلق والسخاء، ولما خلق الكفر قال: اللهمّ قوّني، فقواه بالبخل وسوء الخُلق) (22).

قال (صلى الله عليه وآله): (جعل الله سبحانهُ مکارمَ الأخلاق صِلةً بينه وبين عبادِهِ، فحّسبُ أَحدِكُم أن يتمسّك بخُلقٍ مُتَّصلٍ باللهِ) (23).

يقول الشيخ حسن زاده آملي: (والتخلّق هو التحقّق والاتصاف بحقيقة ذلك الخلق لا العلم بالمفهوم بمعناه كما يحصل بالرجوع إلى المعاجم بأن الراحم كذا والعطوف کذا (24).

وقال أمير المؤمنين عليُّ (عليه السلام): (لو كنّا لا نرجو جَنةً، ولا تخشی ناراً، ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها ممّا يدلّ على سبيل النجاح) (25).

فالإنسان الفرد لا يعيش وحده في هذه الحياة، فهو بطبيعته اجتماعي يعيش ضمن مجتمع يحتك فيه بالآخرين، والقيم الأخلاقية إضافة لكونها کمالاً على المستوى الشخصي، لابد منها أيضاً لكمال المجتمع وتحسين العلاقة بين الأفراد، ومن هنا فلا بد من تحديد هذه القيم على ضوء العقل والشرع ثم الالتزام بها وتطبيقها على المستوى العملي.. وإذا ما التزمنا بالقيم كانت السعادة الفردية والاجتماعية، في الدنيا والآخرة (26).

ص: 242

ولا بُّدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة، وتحيطه بهالة وضّاءة من الجمال والكمال و شرف النفس والضمير، وسمو العزة والكرامة، كما تمسخه الأخلاق الذميمة، وتحطّه إلى سويّ الهمج والوحوش، وإن أثر الأخلاق ليس مقصوراً على الأفراد فحسب.. بل يسري إلى الأمم والشعوب، حيث تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها، ومبلغ رقيّها أو تخلفها في مضمار الأمم، وكما قال الشاعر:

وإذا أصيب القوم في أخلافهم *** فأقم عليهم مأتماً وعويلا (27)

لقد خلق الله الإنسان مزودا بمجموعة من الغرائز والقابليات التي امتاز بها على سائر المخلوقات الأخرى، ومن هذه الغرائز المميزة غريزة حب الذات (الأنا)، وطفق الإنسان يتحرك بدافع من هذه الجاذبية الباطنية لإدراك بعض الأمور المعنوية، ولكن الإنسان قلما يواصل سلوك الطريق الذي ينتهي به إلى کماله، إذ يستغرقه السعي لسد حاجاته المادية اليومية المتجددة بدافع من غرائزه الأخرى، وقد تباينت الطرق والمناهج أمام السالكين للحصول على کمال الذات الإنسانية عبر الأجيال المتعاقبة، وشمل جميع المذاهب والديانات السماوية والوثنية، فالكل له شريعة ومنهاج في السلوك، وهكذا كان اختلاف السبل عقبة جدية أمام الإنسان الذي انتشل نفسه من بحر الماديات ليسقط من جديد في متاهات الضلال والضياع (28).

أن الأخلاق عند الإنسان الملتزم تفتح آفاقاً واسعة، فلا يحصرها فقط عند حدود (الأنا) ومنافعها الزمنية، نتيجة حبه الدنيوي لذاته، بل يغدو منفتحاً على كل الناس ينظر لهم كما ينظر لذاته، ويخلص لهم كما يخلص لها، ويتحول حبه لذاته من حب مادي إلى حب أعمق يشمل المادة والروح، لهذا جاءت الأديان

ص: 243

لتصقل العلاقة الروحية بين الإنسان وظروفه الحياتية، وما من نبي جاء لينقض رسالات من كان قبله من الأنبياء.. إنما جاء ليؤكد على جوهر الرسالات السماوية التي سبقته (29).

إن علم الأخلاق هو العلم الباحث في محاسن الأخلاق ومساوئها، والحث على التحلي بالأولى والتخلي عن الثانية، ويحتل هذا العلم مكانة مرموقة، ومحلا رفيعا بين العلوم، لشرف موضوعه وسمو غايته، فهو نظامها وواسطة عقدها، ورمز فضائلها، ومظهر جمالها.. إذ العلوم بأسرها منوطة بالخُلق الكريم تزداد بجماله وتحلو بآدابه، فان خلت منه غدت هزيلة شوهاء تثير السخط والتقزز (30).

ثالثاً: الأخلاق هل هي فطرية أم مكتسبة؟

هل الأخلاق فطرية أم مكتسبة؟ سؤال تُحَّدد إجابتهُ مصدر الأخلاق عند الناس، فهنالك من ذهب إلى أن مصدر الأخلاق هو الفطرة التي فطر الناس عليها، وهنالك من ذهب إلى أن المجتمع والأحداث وأنماط الحياة هي من تصنع أخلاق الفرد، أي أن الأخلاق كلها مكتسبة.. كلا القولين أُخِذَ بطرف وأُهمِلَ الطرف الآخر، إذ من الأخلاق ما هو فطري، ومنها ما هو مكتسب، وإيضاح ذلك بذكر أدلة تثبت فطرية الأخلاق، ثم ذكر أدلة تثبت كونها مكتسبة، ثم بيان (31):

أولاً: أدلة أن بعض الأخلاق فطري:

هنالك أدلة تدل على أن بعض الأخلاق فطري خلقه الله في نفس الإنسان، ومن هذه الأدلة:

1. مما أستدل به بعضهم على فطرية الأخلاق الأحاديث الواردة في الفطرة

ص: 244

وبعض الآيات كقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)... الشمس: 7 - 8)، ونحو ذلك من النصوص التي تدل على المعنى دلالة اقتضاء أو لزوم.

2. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).

3. ومن هذه النصوص نستنتج أن الفطرة من مصادر الأخلاق، بمعنى أن الله أوجد في النفس الإنسانية أخلاقاً في أصل خلقتها، وهي توجد مع الإنسان منذ ولادته وتَرسَخ وتقوی بما يناسبها من أعمال کسبية، وتضعف وتتلاشى بالإهمال أو باکتساب ما يضادها من أخلاق، كقوله تعالى:

«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (.. الشمس: 7 - 8).

4. من أدلة النظر أن المتأمل في طباع الناس وأخلاقهم وخاصة الأطفال، يرى أن هنالك جملة من الأخلاق الحسنة أو الرديئة موجودة فيهم خلقةً، ولا يوجد دليل على أنهم تعلموها من غيرهم، ويمكن إدراك هذا المعنى بجلاء عندما تتأمل حال طفلين شقيقين أو توأمين نشئا في بيئة واحدة وفي ظروف متطابقة، وتجد أحدهما حاد الطبع سريع الغضب، والآخر هادئ الطبع فيه أناة، أو أحدهما کریماً سخياً والآخر شحيحاً ممسكاً (32).

والأخلاق الفطرية نابعة من النفس، وموروثة في جملة العادات والأعراف، أو ذاتية خاصة متاصلة في بعض جينات الإنسان، وهذه الأخلاق ثابتة في نفس المرء، ولا يمكن تغييرها وتدعى (الطَّبع) (33).

ص: 245

ثانياً: أدلة أن بعض الأخلاق مكتسبة:

1. الدعاء النبوي في استفتاح الصلاة، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء العمال وسيء الأخلاق ولا يقي سيئها إلا أنت)، ولو كانت كل الأخلاق فطرية موجودة في النفس لما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه أن يهديه لتحصيل الأخلاق الحسنة وأن يقيه الأخلاق السيئة.

2. دعاؤه (صلى الله عليه وآله): (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء)، فهذه استعاذة من أخلاق يمكن أن تحصل بالاكتساب، کما تحصل الأعمال، وكما تحصل الأهواء.

3. ومن أدلة النظر: أن بعض الناس ينشأ على أخلاق فطرية معينة كالكرم، والشجاعة، ولكنه بسبب ظروف أو تنشئة اجتماعية معينة تضمر فيه هذه الأخلاق، وينمو بالاكتساب المضاد أخلاقاً عكس ما فطر عليه، فيصبح بخيلاً أو جباناً، فأبواه يبخلانه ويجبنانه، وليس الأبوين فقط، بل المجتمع والبيئة العامة التي يعيش فيها، وطبقاً لهذه النظرية (فإن النفس البشرية لوح خال من كل شيء، وكل ما يسيطر عليه تكتبه التجربة)، لذا فإن الإنسان على هذا الأساس لا يأتي إلى هذه الدنيا بأخلاق حسنة أو سيئة، ولكنه سيكتسب هذه الأخلاق من خلال تجاره الحياتية، ومن البيئة المحيطة به، وفي فترة من التربية والتعليم التي يجتازها (34).

والأخلاق المكتسبة يقتبسها المرء من محيطه وبيئته، ويتلقَّنها في مدرسته وجامعته، وفي حياته اليومية من معلمه أو مؤسسته، وقد تكون الأخلاق المكتسبة

ص: 246

مؤقًتة في زمان أو مكان كظاهرة الكرم والبخل، والشجاعة والجبن، والحلم والغضب، وقد تطغى أخلاق على أخلاق كما قد تسود الأخلاق المكتسبة على الأخلاق الفطرية في حين من الزمان، أو تبعاً لظروف خاصة، فإذا زالت هذه الظروف عادت الأخلاق الفطرية والطبعية إلى الظهور، وما دام العقل مستعداً للتغيير فهو قابل للتطور، فقد تنقلب رأساً على عقب.. من ذي أخلاق إيجابية إلى ذي أخلاق سلبية عن طريق فقه السوء، أو خَوَرٍ في النفس (35).

والحقيقة أن الأخلاق المكتسبة قد تطغى على الأخلاق الفطرية لاسيما إذا كان توجيهها إلى الخير أو إلى الدين، والمرءُ يعلم أن الأخلاق المكتسبة تربطه بالدين أولاً وبالمجتمع ثانياً، لأن صاحب الأخلاق الإيجابية أشد تمسكاً بأخلاقياته وأكثر ارتباطاً بالمجتمع، بينما ذو الأخلاق السلبية أبعد عن الروح الاجتماعية لرفضه الأعراف الموروثة، ونخلص من هذه الدراسة إلى أن كلَّ خُلق قابل للتغيير شراً أو خيراً، وسلباً أو إيجاباً، ويرى فيها أنطوان رحمة أن الأخلاق مجموعة القواعد السلوكية التي تستند إلى قيم مختارة سندُها خيرُ المجتمع أو القيم العليا الخَيرة (36).

ويتفق الباحث مع النظرية الاكتسابية بأن الأخلاق قابلة للتغيير، وذلك بالتربية المقترنة بالإرادة والقيم، وهو المقصود بثبات الأخلاق، وأن الفضائل والقيم الأخلاقية الأساسية للمجتمع من (صدق، ووفاء، وبَّر، وأمانة، وعفة، وصبر، وحلم، ورفق، وإيثار..) ثابتة في معناها الديني والفلسفي، وتعد حواجز متينة ضد الفوضى والظلم والشر، بينما سلوك وأخلاق الإنسان هي القابلة للتغيير (37).

ص: 247

ثالثاً: الجمع بين كون الأخلاق فطرية ومكتسبة:

1. اعتبار بعض الأخلاق جبلياً، وبعضها مكتسباً يتوافق مع الواقع والمشاهد من أحوال الناس، وبه يحصل أعمال جميع الأدلة الشرعية، قال ابن القيم بعد أن أورد حديث أشج عبد القيس السابق: (فأخبرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله جبله على الحلم والأناة وهما من الأفعال الاختيارية، وإن كانا خلقين قائمين بالعبد فإن من الأخلاق ما هو کسبي ومنهما ما لا يدخل تحت الكسب، والنوعان قد جبل الله العبد عليهما وهو سبحانه يحب ما جبل عبده عليه من محاسن الأخلاق، ويكره ما جبله عليه من مساوئها فكلاهما بجبله، وهذا محبوب له وهذا مکروه) (38).

ومن الخلق ما هو طبيعة وجبلة وما هو مكتسب، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)، فذكر الكسب والقدر والله أعلم (39).

2. في حديث أشج عبد القيس السابق دلیل ظاهر على أن الأخلاق منها فطري، ومنها مكتسب، وذلك فيما قاله أشج: (یا رسول الله أنا أتخلق بهما، أم الله جبلني عليهما؟) وفي رواية (أنا تخلقت بهما، أم الله جبلني عليهما؟)، ولو كان في الأمر خطأ لبينه (صلى الله عليه وآله)، قال ابن القيم: (وفيه دليل على أن الخلق قد بالتخلق والتكلف، لقوله في هذا الحديث خلقين تخلقت بهما، أو جبلني الله عليهما: فقال جبلت عليهما) (40).

3. إن الأخلاق الفطرية كالحلم والأناة والكرم والشجاعة تنمو بتأكيدها وتثبيتها بما يناسبها من الاكتساب، وتذوي بالإهمال أو بالاكتساب

ص: 248

المضاد، فالفطرة - مثلاً - على الأناة تزداد هذه الخصلة الأخلاقية لديه بالاكتساب، وقد تضعف إذا أهملتها، أو أكتسب ما ينافيها كالعجلة والطيش والتسرع.

4. أن الأخلاق الإنسانية لها تعلق بمكونات الإنسان الأساسية، فمنها ما له علاقة باللسان كالصدق والكذب، ومنها ما هو متعلق بالعقل والإدراك (كالفهم والحكمة والسفه و الحماقة)، ومنها ما هو متعلق بالجوارح (کالخيلاء والرشوة والعنف والإيثار والرفق)، وكل ذلك يندرج تحت الفطري أو المكتسب من الأخلاق.

ص: 249

المبحث الثاني مفهوم القيم الأخلاقية

1)) تعريف ومفهوم القيم

وردت كلمة (قيمة) في القرآن الكريم في آيات متعددة منها قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ..» (البينة: 5) وقوله تعالى: «فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ...» (البينة: 3)، وقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)»... (الكهف: 1 - 2)، نجد أن الآيات جميعها جاءت بمعنى الاستقامة والاستواء والعدل والإحسان والحق، وقد ارتبطت جميع الآيات بالدين.

أهتم علماء المسلمين بموضوع القيم وبحثوها على أنها أحكام شرعية تحت مصطلح الفضائل والأخلاق والآداب، والقيمة يختلف مدلولها عند الناس، وهذا الاختلاف يرجع إلى استعمالاتها في المواقف والمناسبات والحديث الذي جاءت فيه، فالقيمة هي كل ما يُعدُّ جديراً باهتمام الأفراد وعنايتهم لاعتبارات اجتماعية نابعة من المجتمع، أو اعتبارات اقتصادية تهم حياة الأفراد وعيشهم، أو اعتبارات نفسية ترضي نوازع الأفراد وتسد حاجاتهم، أو اعتبارات أخلاقية تربوية تهيئ لهم العيش ألهني بأسلوب مرضٍ عنه بين جماعاتهم (41).

وهنالك من يرى أن القيم تتكون أساساً من مجموعة من الاتجاهات أو المعايير، أو أنها تشكيلة من المعتقدات، وآخرون يرون أن القيم تتمثل في الأنشطة السلوكية التي يمكن أن يمتلكها الأفراد، في حين يتخذ فريق ثالث مواقف وسطية تحاول

ص: 250

أن تجمع بين هذه المفاهيم، فالقيم - في نظر الفريق الأول - ما هي إلا اتجاهات أو اهتمامات حيال أشياء أو مواقف أو أشخاص، والفرد بحكم وجهة النظر هذه إنما يعایش قیمة من القيم من خلال علاقته بشيء أو أشياء تثير اهتمامه أو رغبته (42).

پری مورفي (Murphy) إلى أنه إذا أريد فهم شخصية الفرد وسلوكه ينبغي دراسة نظام القيم لديه، والذي تترتب فيه القيم بشكل هرمي يظهر تفضيلات الشخص، وهذا يساعد في التبؤ بسلوكه، ويتأثر الأفراد بعدة عوامل منها داخلية (تتعلق بالفرد نفسه من حيث قدراته واتجاهاته وميوله والقيم التي يؤمن بها)، و عوامل خارجية (تتعلق بالبيئة المحيطة به کالمجتمع المحلي، والأصدقاء المقربون، والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والثقافة وغيرها)، وتعد القيم من أهم العوامل التي تؤثر في سلوك الفرد واتخاذهم للقرارات.

لقد حاول العديد من الفلاسفة تحديد مفهوم القيمة فذهب ریبوت (Ribot) إلى القول بأن قيمة الشيء هي قدرته على إثارة الرغبة، وإنَّ القيمة تتناسب مع قوة الرغبة جاعلاً هذا التعريف شاملاً لكلَّ من القيمة الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية، ويذهب بعض المفكرين إلى القول بتعريفات أخرى للقيمة مثل:

القيمة صفة الشيء المعتبر أو ما يسمى بالأكسيولوجيا (Axiology) وهي الدراسة المنهجية التي تتناول طبيعة القيم وأنواعها ومعاييرها، ومن هذه الزاوية تعرف القيمة بمعنيين هما (43):

الأول: وجهة النظر الذاتية (Subjective) وتعني: القيمة هنا تلك الصفة التي يتصف بها موجود ما - سواء أكان شخصاً أم شيئاً - إذا ما كان هذا الموجود بالفعل مراداً أو مرغوباً من إنسان أو جماعة من الناس، فالقيمة تعني درجة التقدير أو الرغبة لموجود ما.

ص: 251

الثاني: وجهة النظر الموضوعية (Objective): والقيمة هنا تعني ما في الموجود نفسه - سواء أكان شخصاً أم شيئاً - من سبب لتقديره تقديراً له ما يسوغَّه، فالقيمة هي إذن هذا الذي من الممكن أن يصبح الموجود هدفاً لإرادة صحيحة وليس فقط لرغبة فعل.

وهنالك من يرى بأن القيمة هي: عبارة عن مجموعة من المعايير التي يحكم عليها الناس بأنها حسنة ويردونها لأنفسهم، ويبحثون عنها ويكافحون في سبيل تقديمها للأجيال القادمة والإبقاء عليها جزءاً حیاً مقبولاً من التراث الذي تعامل به الناس جيلاً بعد جيلٍ.

أما (خليفة، 1992) فيرى أن القيمة لها مفاهيم وتعريفات متعددة، وهذا الاختلاف يرجع إلى كون القيمة عملية نسبية تختلف تبعاً برؤية الأفراد في كل مجتمع، وهنالك بعض الدراسات التي ربطت القيمة بمفاهيم محددة مثل الحاجة، والدافع، والاهتمام، السمة، المعتقد، والاتجاه، ومن المهم توضيح الفروق والعلاقات المتبادلة بين القيمة وتلك المفاهيم.

أما القيم من المنظور الإسلامي هي: (مجموعة المبادئ والقواعد والمثل العليا التي نزل بها الوحي والتي يؤمن بها الإنسان، ويتحدد سلوكه في ضوئها، وتكون مرجع حكمه في كل ما يصدر عنه من أفعالٍ وأقوالٍ وتصرفاتٍ تربطه بالله والكون)، ونظراً للانفتاح على العالم صار هناك خليط من القيم التي لا تمت بأي صلة للدين الإسلامي، وإنما هذه القيم مأخوذة من الغرب.

ثانياً: مصادر القيم

تختلف المصادر التي تستقي منها القيم باختلاف ثقافات المجتمعات والأفراد الذين يعيشون فيها، وعندما نتساءل بقولنا: مَّن يضع القيم الأخلاقية؟ نرى أن

ص: 252

هنالك فئة تقول: أن الفرد هو نفسه الذي يحدد القيم، في حين أن هنالك قولاً آخر يرى أن المجتمع هو الذي يضع القيم، وهنالك مَّن يقول: أن واضع القيم سلطة إلهية، وأما الذين يقولون بأن الإنسان هو واضع القيم فهم الأغلبية من الفلاسفة، ويتجهون عدة اتجاهات، ومنها (44):

1. ما يرونهُ من إنَّ الذي يحدد القيم الإنسان، وهو مقياس كلَّ شيء، وهو الذي يحدد الخير والشر، والصواب والخطأ، والقبيح والجميل، والإنسان هو الذي جعل لأي قيمة معنی بقبوله لها والتزامه بها، ومن ذلك يتبين أن خالق القيمة هو مصدر التقويم وهذا المصدر هو الإنسان الفاعل.

2. أما الفريق الذي يرى أن واضع القيمة سلطة إلهية وهم الأغلب من رجال الدين، فيذكرون أن المصدر الوحيد للقيم والتقويم هو (الله)، فهو الذي يقرر ما هو حلال وما هو حرام، وما هو خير وما هو شر، وليس في الأفعال ولا في الأشياء في ذاتها صفة تقويمية، وإنما الذي يعطيها هذه الصفة هو الشرع الإلهي، فالتحسين والتقبيح هما من (الله) وليس من العقليين، ومن المذاهب الإسلامية من قال بهذا الرأي من أهل السنة (الأشاعرة) بنحو عامٍ، في حين أن من علماء المسلمين الذين يستبدلون بالألوهية القيم المطلقة، وهم العقليون من المتكلمين المسلمين، وهم المعتزلة (45).

3. وأما الذين يقولون إن واضع القيم ومبدها هو المجتمع، وعلى رأسهم (دور کایم)، فهو يرى أن الأمور الأخلاقية لها قيمة لا تقاس بسائر القيم الإنسانية، وآية ذلك أننا نضحي بأنفسنا من أجلها فلا نظير لها، والعواطف الجماعية هي التي يتوافر فيها هذا الشرط لأنها الصدى في

ص: 253

نفوسنا لصوت الجماعة العظيم، فإنها تخاطب ضمائرنا بلهجة مختلف تمامًا عن العواطف الفردية، وذكر ابن حزم إن أصول الفضائل كلها أربعة عنها تتركب كل فضيلة وهي: (العدل والفهم والنجدة والجود) (46).

ثالثاً: تصنيف القيم:

إن ترتيب القيم داخل السلم القيميّ يتباين من فلسفة لأخرى، ومن وقت الآخر، لأنها في حقيقة الأمر تُظهر الواقع الاجتماعي السائد، وعليه فإن فئات القيم الإنسانية تتنوع في البناء الواحد، ويُعزى سبب ذلك إلى تباين الاهتمامات الروحية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك إلى اختلاف تفضيلات الأفراد أنفسهم، وتتباين أحكامهم التقديرية والواقعية لمظاهر النشاط الاجتماعي (47).

ويرى كثير من العلماء والباحثين الذين تعرضوا لدراسة القيم أنه من العسير تصنيفها تصنيفاً شاملاً يتم الاتفاق عليه من قبل الجميع، إلا أن ذلك لم يمنع من المحاولات لتصنيف القيم في أبعاد مختلفة كلُّ حسب المنظور الذي ينظر به والفلسفة التي يؤمن بها، والآيدولوجية التي يدعو إليها.. لذا ظهرت تصنيفات متعددة للقيم منها (48):

1) على أساس بعد المحتوى

أ- تصنيف سبرانجر:

هنالك محاولات مختلفة لتقسيم القيم من حيث محتواها، إلا أنَّ أبرزها كان التصنيف الذي قدمه (سبرانجر) في كتابه (أنماط الرجال) الذي قسم فيه القيم على ستة أنماط هي:

ص: 254

1. النمط النظري (Theoretical Type): ويعبّر عنها باهتمام الفرد ومیله إلى اكتشاف الحقيقة، فيتخذ اتجاهاً معرفياً من العالم المحيط به، ويسعی وراء القوانين التي تحكم هذه الأشياء بقصد معرفتها، ويتميز الأشخاص الذين تسودهم هذه القيمة بنظرة موضوعية نقدية معرفية تنظيمية.

2. النمط الاقتصادي (Economic Type): ويقصد بها اهتمام الفرد ومیوله إلى ما هو نافع، وهو في سبيل هذا الهدف يتخذ من العلم المحيط به وسيلة للحصول على الثروة وزيادتها في ضوء الإنتاج والتسويق واستهلاك البضائع واستثمار الأموال، لذلك نجد أن الأشخاص الذين تلتصق فيهم هذه القيم يمتازون بنظرة عملية تُقوَّم الأشياء والأشخاص تبعاً لمنفعتها، لذا فهم يكونون غالباً من رجال العمال والمال.

3. النمط الجمالي (Aesthetic Type): ويعبر عنها من اهتمام الفرد و میله إلى كل ما هو جميل من ناحية الشكل، لذا فهو ينظر إلى العالم المحيط به على أساس التكوين والتنسيق والتوافق الشكلي، وهذا لا يعني أن الذين يمتازون بهذه القيم فنانون بالضرورة، بل أن بعضهم لا يستطيع الإبداع الفني وإنما يقتصر على تذوق الإنتاجان الفنية فحسب.

4. النمط الاجتماعي (Social Type): ويقصد بها اهتمام الفرد بالآخرين ويسعى إلى مساعدتهم وإبداء المعونة متى ما تطلب الأمر ذلك، لأنَّهُ يجد في ذلك متعةً لإشباع رغباته، وهو ينظر إلى غيره من الناس على أنهم غايات وليسوا وسائل لغايات أخرى، لذا فالذين يحملون هذه القيم يتصفون بالعطف والحنان والإيثار والتضحية.

5. النمط السياسي (Political type): ويقصد بها اهتمام الفرد و میله

ص: 255

للحصول على القوة، لذا فالأشخاص الذين يحملون هذه القيم يتصفون بحبَّ السيطرة والتحكم بالأشياء والأشخاص عن طريق قيادتهم لنواحي الحياة المختلفة وتوجيههم والتحكم في مصائرهم، حتى وإن لم يكونوا من رجال الحرب أو السياسة.

6. النمط الديني (Religious Type): يهتم حامل هذه القيم في معرفة ما وراء هذا العالم الظاهري، واصل الإنسان ومصيره والطبيعة الإنسانية، ويرى أن هنالك قوة تسيطر على العالم الذي يعيش فيه، وهو يحاول أن يربط نفسه بهذه القوة بصورة ما، إلا أن هذا لا يعني أن الذين يمتازون بهذه القيم هم من الناس الزاهدين.

2) على أساس بُعد المقصد:

وتنقسم القيم من حيث المقصد على قسمين هما:

1. قيم وسائلية: وهي تلك القيم التي ينظر إليها الأفراد والجماعات على أنها وسائل لغايات أبعد.

2. قيم غائية أو هدفية: ويقصد بها الأهداف والفضائل التي يضعها الأفراد والجماعات لنفسهم، ويسعون إلى تحقيقها من طريق وسائل معينة، مثل الصحة التي تعدُّ غاية في حدَّ ذاتها، وكذلك حبّ البقاء، وقد تستعمل بعض القيم الوسائلية لتحقيق قيم غائية كالعملية الجراحية، فإنها القيمة الوسائلية للمريض من أجل حفظ حياته أو إطالة بقائه.

3) القيم على أساس بعد الشدَّه:

تختلف القيم من حيث شدّتها، وتقدير شدة القيم بدرجة الإلزام التي

ص: 256

تفرضها، وبنوع الجزاء الذي تقرَّه وتوقعه على من يخالفها، لذا القيم تتناسب طردياً مع درجة الالتزام.

4) القيم على أساس العمومية:

يمكن تقسيم القيم من حيث شیوعها وانتشارها على قسمين هما:

1. قيم عامة: وهي القيم التي تنتشر في المجتمع كلَّه بغض النظر عن ريفه وحضره وطبقاته وفئاته المختلفة، لذا فإنَّ هذه القيم تكثر في المجتمعات التي دأبت على إذابة الفوارق بين الطبقات.

2. قيم خاصة: وهي التي تتعلق بمناطق محدودة أو بطبقة أو جماعة خاصة أو بمواقف أو مناسبات اجتماعية معينة مثل: إخراج الزكاة في أواخر شهر رمضان.

5) القيم على أساس بعد الوضوح:

تنقسم القيم من حيث وضوحها على قسمين هما (49):

1. القيم الظاهرة (الصريحة): وهي القيم التي يُصرَّح ويعبر عنها بالكلام، وقد تكون هذه القيم غير حقيقية لأن العبرة في القيم ليست بالكلام المنطوق.. بل بالعمل والسلوك الفعلي، إذ لا يكفي أن يقول شخص بلسانه أنَّهُ وطني مثلاً من غير أن يبادر إلى حمل السلاح والنزول إلى ساحة المعركة لإثبات ذلك دفاعاً عن وطنه، ولو أنَّ مجاهداً قذف بنفسه إلى المعركة مضحياً بحياته في سبيل الذود عن وطنه من غير أن يُعلن بأنهُ وطني الحكم عليه بغير شك بأنَّ القيمة الوطنية مفضلة عنده على كلَّ شيءٍ آخر.

ص: 257

2. القيم الضمنية: وهي تلك القيم التي تستخلص ويُستدل على وجودها من ملاحظة الاختبارات والاتجاهات التي تتكرر في سلوك الأفراد بصفة منمطة لا بصفة عشوائية، ويرى (لابيير) إن القيم الضمنية هي في الغالب القيم الحقيقية لأنها هي القيم على أساس مُنّدَمَجَة في سلوكهِ.. أما الصريحة تكون زائفة ولا تعبر عن الحقيقة.

6) القيم على أساس بُعد الدوام:

وتصنف القيم من حيث دوامها على قسمين هما (50):

1. القيم العابرة: وهي القيم الوقتية العارضة القصيرة الدوام، السريعة الزوال مثل: القيم المرتبطة بالموضة، وهي قيم تتعلق بالحاضر ولا بالماضي، وأكثر من يحمل هذه القيم هم المراهقون والناس السطحيون.

2. القيم الدائمة: وهي القيم التي تتصف بالديمومة والبقاء لمدةٍ طويلة، والديمومة هنا نسبية، ومن هذه القيم، القيم المتعلقة بالعرف والتقاليد، وهذه القيم على خلاف القيم العابرة من حيث ارتباطها بالماضي واتصافها بالقداسة والإلزام لأنها تمسُّ الدين والأخلاق کما تمس الحاجات الضرورية للناس.

7) القيم على أساس الشيوع والانتشار:

1. قيم عامة: وهي التي تنتشر في المجتمع عامةً، في الريف والحضر وبين جميع الطبقات والفئات المختلفة مثل: (الاعتقاد بأهمية الدين والزواج والعفة... الخ).

2. قيم خاصة: (وهي التي تتعلق بمواقف أو سلبيات خاصة أو لطبقة

ص: 258

أو جماعة خاصة أو دور اجتماعي خاص، مثل القيم المتعلقة بالزواج والأعياد... الخ).

8) القيم على أساس البناء الاجتماعي:

1. قيم إلزامية: وهي التي تحدد أنماط التفاعل الايجابي، وقواعد السلوك المقررة، تلك القيم التي تتعلق بالأوضاع الاجتماعية وهي التي تحدد الأدوار والمراتب الاجتماعية.

2. قيم تقليدية: وهي التي تهتم بالمحافظة على الممارسات الاجتماعية المعتادة.

3. القيم المثالية: وهي التي تحدد الصورة المثلى لأهداف المجتمع وتطلعاته للمستقبل.

4. القيم الروحية: وهي التي تتصل بأشياء غير مادية أو بمواضيع اجتماعية مثل القيم المتصلة بالشرف والمحبة والطاعة والصبر والوفاء والصداقة.

ص: 259

المبحث الثالث القيم الأخلاقية والإنسانية عند أمير المؤمنين (عليه السلام)

أولا: نفحات من سيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

والحديث عن الإمام علي (عليه السلام) له صلة بالنفس الإنسانية في كل مناحيها، وفي سيرته ملتقى بالعواطف الجياشة، والأحاسيس المتطلعة إلى الرحمة والإكبار، لأنه الشهيد أبو الشهداء، وملتقى بالخيال.. حيث دار حول شجاعته منزع الحقيقة، ومنزع التخيل، وملتقى بالفكر، فهو صاحب آراء لم تسبق في التصوف والشريعة الأخلاق، ويعتبر صاحب مذهب حكيم بين حكماء العصور، وأوتي من الذكاء ما هو أشبه بذكاء الباحثين المنقبين منه بذكاء الساسة المتغلبين، وملتقى مع الذوق الأدبي والفني، تراه في نهج البلاغي والأدبي، وملتقى مع خلاف الطبائع والأذهان، أو الخصومة الناشئة أبداً على رأي أو حق أو وطن، فتنازع الناس حوله، وتناقضت آراؤهم فيه، حتى عبر عن ذلك بقوله: (ليحبني أقوام حتی یدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوام حتی یدخلوا النار في بغضي).. وملتقى مع الشكوى والتمرد، أو الرغبة في التجديد والإصلاح، فصار اسمه علماً يلتف به كل مغصوب، وصيحة ينادي بها كل طالب إنصاف، وصارت الدعوة (العلوية) كأنها الدعوة المرادفة لكلمة (إصلاح)، فالتقت النفوس مع علي في وجه من وجوهه، وعلى حالة من حالاته، وتلك مزية تفرد بها الإمام (51).

نحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدی إيمانه بالله تعالى، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: (يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا)، ولا نستطيع أن

ص: 260

نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) و علم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الاكتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالى، ونجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالى عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شيء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، لقد خصه الله تعالى بفضائل و کرامات فاقت الأوَّلين والآخرين - ما عدا خاتم النبيِّين محمد (صلى الله عليه وآله) - فهو الإمام الجامع لصفات الجمال والكمال، والوارث للخصال التي تميَّز بها الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).

وما يدري هل آسف على الإمام الذي ضاع قدره في ذلك العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف على المسلمين الذين حرموا من ذلك المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلى العلم؟ فقد مضى خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جلیس بیته مسلوب الإمكانيات، مكبوتة عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟.

إن الفضائل النفسية التي امتاز بها الإمام (عليه السلام) وإنما وصفنا الفضائل بالنفسية، لأن هناك فضائل لا ترتبط بالنفس كالنسب الشريف، والجمال والقوة فإنها أمور لا اختيارية، والفضائل النفسية تظهر إلى الوجود بالطوع والاختيار (کالجود والعفو والزهد والعبادة وما شاكل ذلك)، فإنها منبعثة من نفس طاهرة شريفة فاضلة، وقال الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** فكل إناء بالذي فيه ينضح

ص: 261

قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح نهج البلاغة: وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل؟ ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟ فقد علمت أنه استولى بني أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعایب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من راوية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتی حضروا (منعوا) أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة، وما أقول في رجل تعزي (تنسب) إليه كل فضيلة؟ وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، وكل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذی (52).

عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلى المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكناً وشبك بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتی ینهی کل کتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضى بقضائك، والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من كل مدّعٍ علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالى لأخبرتكم بما یکون إلى يوم القيامة (53).

ص: 262

إن سمو الأخلاق والتسامح والعدل والشجاعة والصدق لدى أمير المؤمنين (عليه السلام) دفعت بالكثير من الكتاب غير المسلمين للكتابة عنه بصورة وجدانية، أمثال (جورج جرداق) ذو الإطلاع الواسع في ثقافات العالم في كتابه (الأمام علي صوت العدالة الإنسانية)، فقد قال: وجدت في شخصية علي بن أبي طالب علما شاملا، ونبوغاً ساحراً، وبلاغة آسرة، وخلقا نقيا، ومثالا رائعا في قيادة الأمة، انه كان قويا في إيمانه ووداعته وعدله وزهده وتقواه، هذه هي الصفات الأخلاقية التي يتطلبها الحاكم العادل الكفوء في قيادة مجتمعه لذي يطمح إلى الرقي والازدهار، وبولس سلامه في (عيد الغدير)، وعبد المسيح الأنطاكي في (ملحمة الأمام علي)، وسلیمان کتاني في (أخلاق و فضائل أهل البيت)، ورکس العزيزي في الأمام علي أسد الإسلام وقديسه).. لقد أقام هؤلاء المفكرين البارزين جسور التواصل الفكري بعد أن اكتشفوا في هذا الأدب القيم الأخلاقية والمثل الروحية العليا التي فرضت نفسها عن طريق الحديث من القلب إلى القلب لا عن طريق السيف والنار (54).

إن أسلوب التشدد في فرض معايير اجتماعية أو سياسية متصفة بالعنف والإجبار أسلوب بغيض لا يؤدي إلى نتائج مرضية في حين يكون الأسلوب المعتدل الذي يتوافق مع الثوابت السلوكية الحسنة هو الذي يستقطب النفوس ويغرس فيها القيم الخلقية السامية فعندما يقول الإمام علي (لا تخلقوا أبنائكم بأخلاقكم فأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، يقصد بهذا التصريح التحولات الاجتماعية التي تظهر في المجتمع وليست الآداب العامة والأخلاق الاجتماعية، فهي الركن الرصين السلوك الفرد وعليه أن يلتزم به حيثما وأينما وجد.

هذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) أمير المؤمنين، وإمام المتقين،

ص: 263

وسيد القيم الأخلاقية والإنسانية، وأب اليتامى والمساكين، ومعين المظلومين والمحكومين.. شخصية لا غنى عنها، فالجميع بحاجة إليه ولحكمته، وما العجب فهو ولد في بيت الله (الكعبة المشرفة)، وتربى بين يدي خير البشر الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، بل هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزوج ابنته فاطمة الزهراء البتول، ووالد سبطي النبي الكريم الحسن والحسين، وصاحب التاريخ المشرف في الفداء والبطولة والإباء والعطاء والأعمار والعدالة الإنسانية، حتى استشهد بين يدي الله أثناء الصلاة في المحراب، وأن آل الرسول (عليهم السلام) لا يقاس بهم أحد من هذه الأمة، ولا يسوّي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، فهم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيي الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص الولاية، وفيهم الوصية والوراث.

يجدر بالأمّة التي تنتسب لمثل هذا القائد والقدوة الذي يعتبر تجسيداً لتعاليم الإسلام وثمرة جهود الرسول (صلى الله عليه وآله) أن تقدي بسيرته وتستنير بإرشاداته في خضّم الفتن والتحديات التي تواجه کیانها وتراثها وأبناءها.

ثانياً: بعض القيم الأخلاقية لأمير المؤمنين

عندما بدأ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بناء الجماعة الصالحة وضعوا مجموعة من القواعد والأسس القوية والمحكمة لإرساء هذا البناء عليها، وقد تم استنباط هذه القواعد والأسس من الرسالة الإسلامية الخاتمة بحيث تمثل الفهم الصحيح للرسالة من ناحية، وتحقق الأهداف والخصائص من ناحية أخرى.

ولذلك نجد أن هذه القواعد والأسس اتصفت بالشمولية والأصالة والإحكام والانسجام، فكانت مزيجاً من الأبعاد والجوانب تتوافر فيه جميع مستلزمات البناء المرصوص المحكم الذي يؤهّله للقيام بهذا الدور التاريخي

ص: 264

وهو حفظ الإسلام والأمة الإسلامية والدفاع عنهما من ناحية، وتحقيق المثل الصالح للجماعة الإنسانية في مسيرة البشرية من ناحية أخرى، وتمثل هذه القواعد والأسس الجانب العقائدي والأخلاقي والثقافي والمعنوي والروح المعنوية العالية والخطوط السياسية العامة (55)، وسنشير فيما يلي إلى بعض القيم الأخلاقية لأمير القيم والأخلاق علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهي (56):

1. النية:

هي القصد والإرادة المحركة للإنسان نحو الفعل، وليس الغرض من البحث عنه في المقام مجرد إثبات صدور الفعل عنها، فإنه لا إشكال في ذلك في الأفعال الاختيارية، بل يرجع البحث هنا إلى ملاحظتها من جهة عللها ومعالیلها اعني مناشئ صدورها من اقتضاء العقل والإيمان والغرائز وآثارها وكيفية تأثيرها في أعمال العباد وأنفسهم في الدنيا ويوم القيامة، وإلى أنواعها من خالصها ومشوبها، و مراتب خلوصها وشوبها، والى ترتب الثواب والعقاب عليها وعدمه وغير ذلك.

2. الورع:

فقد يطلق على التقوى، وقد يطلق على خصوص ترك المحرمات، وقد يطلق على ترك الشبهات أيضاً، ورد في النصوص: أن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة، أي: (كان النبي المبعوث متلبساً بالصدق في كلامه، أو أن وجوب الصدق في الحديث كان من أحكام شریعته).

3. الصبر:

الأولى تعريفه بأنه: ملكة قوة وصلابة في النفس تفيد عدم تأثرها عند المكاره، وعدم تسليمها للأهواء، ويسهل عليها القيام بما يقتضيه العقل ويطلبه الشرع، فيسهل للصابر حبس النفس عند المصائب عن اضطراب القلب وشكاية اللسان

ص: 265

وحركات الأعضاء على خلاف ما ينبغي، وعند المحرمات والشهوات عن الوقوع في العصيان، وعند الفرائض حملها على الطاعة والانقياد، ويدخل تحتها عدة من الصفات وتكون من مصاديقها: كالشجاعة في الحروب ويضادها الجبن، وقوة الكتمان ويضادها الإذاعة، والتقوى عن المحارم ويضادها الفسق، والجود عن النفس والمال ويضادها البخل.

وقال مولانا الصادق عليه السلام: إنا صبّر وشيعتنا أصبر منا، لأنا نصبر على ما نعلم، وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون أي: (نحن نعلم بالمصائب قبل حدوثها، ونعلم الحكمة في حدوثها والثواب المترتب عليها، ونعلم عواقبها ووقت زوالها، وكل ذلك له دخل في سهولة التحمل).

4. العدل:

هذه الكلمة التي تتلهف إليها النفوس، وعليها أساس الملك، وبها نظام الاجتماع واعتداله، وإنني أعتقد أن أصعب قانون يمكن تطبيقه وتنفيذه في المجتمع هو قانون العدالة!! لاصطدام هذا القانون بنزعات الأقوياء الذين لو كانت العدالة موجودة لما كانوا أقوياء، وهؤلاء في طليعة المكافحين لهذه الفضيلة، والتاريخ والحس والوجدان شواهد على هذا، ولا أراني بحاجة إلى دليل.

ومن لوازم تطبيق العدالة وتنفيذها قوة الإيمان بالله تعالى والتقوى أولاً، وحزم وعزم فوق كل عاطفة واتجاه ومصانعة ثانياً، وعدم الخوف من المشاكل المتوقعة المحتمل وقوعها ثالثاً.

5. في التربية

إن تحمل الإنسان لمسؤولية أبنائه وعائلته، يجب أن يكون دافعاً له نحو الالتزام بمبادئ الدين وأحكامه، وبمكارم الأخلاق والصفات، فذلك هو الذي يؤهله

ص: 266

للقيام بوظيفته التربوية، ودوره التوجيهي، إن بعض الآباء يضعفون أمام دواعي الأهواء والشهوات، ويسمحون لأنفسهم بارتكاب بعض المحرمات والمحظورات، لكن بعيداً عن أنظار عوائلهم وأبنائهم، في الوقت الذي يوجهون فيه أبناءهم ليكونوا صالحين ملتزمين، فهل يتوقعون لكلامهم المجرد أن يترك أثرا في نفوس أبنائهم؟ إن التوجيه الصادق، الذي يتطابق مع سلوك الاستقامة والصلاح، هو التوجيه المؤثر.

6. الحسنات بعد السيئات:

إن إتيان الإنسان بحسنة بعد كل سيئة لأجل تكفيرها وتطهير النفس عن الرجز الحاصل منها كاشف عن حالة يقظة للنفس وصلاحها، وهو يمنعها عن حدوث حالة الغفلة والقسوة فيها، والمواظبة على هذا النحو من النظافة والنزاهة تورث ملكة المراقبة وتزكية النفس، وهي من أفضل الملكات، وأنه إذا هم المؤمن بحسنة كتبت له حسنة، فإذا عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه، فإذا عملها أجل تسع ساعات، فإن ندم واستغفر لم تكتب، وإلا كتبت عليه سيئة واحدة.

7. عفة البطن والفرج:

تخصيص العضوين بلزوم العفة من بين سائر الأعضاء التي يجب حفظها عن المعاصي التي تصدر منها: (كاللسان عن الكلام المحرم، والعين عن النظر الحرام، والسمع عن استماع اللغو واللهو، والبدن عن اللبس المحرم لابتلاء الإنسان بمعاصيهما أكثر من غيرها) لاسيما في أوائل شبابه وأزمنة ثوران شهوته.

8. السخاء والجود:

السخاء، لغة واضح، وشرعاً: بذل المال أو النفس فيما يجب أو ينبغي، عن ملكة

ص: 267

حاصلة بالممارسة عليه، أو هو نفس تلك الملكة، ونظيره الجود فيشمل اللفظان جميع موارد الإنفاقات الواجبة: كالزكوات والأخماس، والإنفاقات المندوبة، وهي كثيرة في الشرع، وهذه الصفة من أفضل الصفات والملكات الإنسانية قد حكم بحسنها العقل ومدحها الشرع، وحث على الأعمال الموجبة لحصولها في النفس، ويقابلها البخل والشح کما سيأتي بيانهما، قيل: وأن الشاب السخي المعترف للذنوب أحب إلى الله تعالى من الشيخ العابد البخيل.

9. حسن الخلق:

الخُلق بالضم وبضمتين: الطبع والسجية، وهو صورة نفس الإنسان وباطنه، في مقابل الخَلق بالفتح الذي هو صورة جسمه وظاهره، وهي تتصف بالحسن والقبح کاتصاف الجسم بهما، إلا أن ذاك الاتصاف یكون تحت اختيار الإنسان وإرادته.

أن إصلاح صورة النفس في الدنيا وتحصيل الفضائل لها وإزالة الرذائل عنها بيد الإنسان، قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...» (آل عمران: 159)، وقال الرسول الأكرم: (وأن العجب من يشتري العبيد بماله كيف لا يشتري الأحرار بحسن خلقه)، وقال: (وأن أحسن الحسن الخلق الحسن).

10. الحلم وكظم الغيظ والعفو والصفح:

الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغضب.

والكظم: الحبس والسد، فكظم الغيظ يرادف الحلم.

والعفو: ترك عقوبة الذنب.

ص: 268

والصفح: ترك التثريب واللوم عليه.

فالمراد من العبر والعناوين المذكورة أن يحلم الإنسان عند غضبه للغير ولا يرتب الآثار التي يقتضيها الغضب من العقوبة بالقول أو الفعل، والممارسة على ذلك والعمل بما يحكم به الشرع والعقل سبب لحصول ملكة في النفس تمنعها من سرعة الانفعال عن الواردات المكروهة، وجزعها عن الأمور الهائلة، وطيشها في المؤاخذة، وصدور الحركات غير المنظمة منها، وإظهار المزية على الغير، والتهاون في حفظ ما يجب عليه شرعاً وعقلاً، وهذه الملكة عن أفضل الأخلاق وأشرف الملكات، والحليم هو صاحب هذه الملكة، وكذا الكاظم، قيل: وأن من كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذاب يوم القيامة.

11. الكذب ونقله وسماعه:

الكذب لغة هو: اللآ مطابقة، ويتصف به الاعتقاد والفعل کما يتصف به الكلام فالظن أو الاعتقاد المخالف للواقع (کذب)، كما أن العمل المخالف للقول والوعد. مثلاً. كذب، والكذب في القول هو: (الكلام المخالف للواقع، خالف الاعتقاد أيضاً أم لا)، أو هو: (الكلام المخالف للاعتقاد، خالف الواقع أم طابق).

ثم إنه لا ريب في أن الكذب من أعظم المعاصي وأشنعها، وهو ما يحكم العقل والنقل بقبحه، وله مراتب شتى في القبح والشناعة: (كالكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى الأئمة عليهم السلام، وعلى المؤمنين وهكذا).

وأن الله قد جعل للشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب، وأن الكذب مذموم إلا في الحرب، ودفع شر الظلمة، وإصلاح ذات البين.

ص: 269

12. الرّياء:

الرّياء لغةً: مصدر باب المفاعلة من رأي، فهو والمراءاة بمعنى: إراءة الشيء للغير على خلاف واقعه: کاراءة أنّ صلاته وصيامه لله، وليس كذلك، ويقع غالباً في الأفعال الحسنة لطلب المنزلة عند الناس، فالمرائي اسم فاعل، هو العامل كذلك، والمرائي له اسم مفعول من يطلب جلب قلبه، والمرائی به هو: العمل والرياء قصد إظهار ذلك، والمرائی به تارة يكون من حالات البدن: كإظهار الحزن والضعف والتحوّل و نحوها، وأخرى من قبيل الزّي: کالهيئة وكيفية الشّعر واللباس، وثالثة من قبيل القول والكتابة ونحوهما، ورابعةً من قبيل العمل، وخامسة من قبيل الرفقة والأصحاب والزائرين والمزورين وغيرهم فجميع ذلك ممّا يمكن للإنسان الرياء فيها.

وقد ورد في نصوص أهل البيت عليهم السلام: أنه للمرائي ثلاث علامات: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويجب أن يحمد في جميع أموره.. وأنه: سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا، يكون دينهم ریاء لا يخالطهم خوف، يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.

13. في الدنيا وحبها وذمها (57):

هنا أمور: الأول: الدنيا في اللغة: اسم تفضيل مؤنث أدنى، تستعمل تارة بمعنى: الأقرب زماناً أو مكاناً، ويقابله الأبعد، وأخرى بمعنى: الأرذل ولأخس، ويقابله الخير، وثالثة بمعنى الأقل ويقابله: الأكثر، والكلمة تطلق بمعانيها على هذه الدنيا في مقابل الآخرة، فإنها الأقرب وجوداً والأرذل جوهراً قيمةً، والأقل کماً وكيفاً.. والدنيا المصطلح عليها عند الشرع وأهله لها أطلاقات ثلاثة:

ص: 270

أحدها: الدنيا المستعملة مطلقة في مقابل الآخرة، وهي: عبارة عن كل ما يرتبط بالإنسان وله مساس به قبل موته في هذا العالم مما هو في داخل وجوده كتصوراته وتصديقاته وأقواله وأفعاله، ومما هو خارج عنه متأصلاً كان، كمآكله وملابسه ومسكانه، أو غير متأصل، كمناصبه وولاياته ونحوها، وتقابله الآخر على نحو الإطلاق، وهي: العالم المحيط به بعد موته.

وثانيها: الدنيا المذمومة، وهي أخص من الأولى، فإنها عبارة عنها، أو عن بعض مصاديقها مع انطباق بعض العناوين عليها وعروض بعض الحالات والإضافات لها كما ستعرف.

وثالثها: الدنيا الممدوحة، وسيأتي ذكرها في ضمن الروايات، والكلام هنا في القسم الثاني، وهو: الدنیا التي نطق الكتاب الكريم بذمها وتحقيرها، وحثت النصوص المتواترة على تركها والإعراض عنها، وهذا القسم يشمل جميع ما يتعلق بالإنسان من تنعّماته وانتفاعاته، وما يسعى في تحصيله من علومه وفنونه ومناصبه، وما يحصله ويعده لنفسه من أمواله وأولاده وكل ما يملكه ويدخره لينتفع به، كل ذلك إذا حصلت من الوجه المحرم، أو كانت مقدمة للحرام، أو لوحظت بنحو الأصالة في الحياة، وكانت مبلغ علم الإنسان ومنتهى همته، فتطلق على الحياة المقرونة بجميع ذلك والمشتملة عليها حياة الدنيا، وعلى نفس تلك الأمور عرض الحياة وزينتها ومتاعها وحطامها وما أشبهها من التعابير القرآنية.

وأن الله قال: (جعلت الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي، وأن عبادي زهدوا في الدنيا بقدر علمهم، وسائر الناس رغبوا فيها بقدر جهلهم، وما من أحد عظمها فقرت عينه فيها ولا يحقرها أحد إلا انتفع بها).

وأن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له،

ص: 271

وشهواتها يطلب من لا فهم له، وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له (58)، أنه: لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل يزداد كل يوم إحساناً ورجل يتدراك سيّئته بتوبةٍ.

14. في حب الرئاسة

الرئاسة من مصادیق الدنيا، وحبها من حب الدنيا، وقد عرفت تفصيل الأمرين، إلا أن لها أهمية وخطراً وشأناً ومحلاً يقتضي تخصيصها بالذكر كتاباً، وبتوجيه النفس إلى حالاتها وآثارها باطناً، وبالمراقبة عن موجباتها احتياطاً.

وليعلم أن الرئاسة والجاه منها ممدوحة ومنها مذمومة، والأولى هي التي جعلها الله وأنشأها لبعض عباده: كأنبيائه وأوصيائه ومن يتولى الأمور والرئاسة من قبلهم على اختلاف شؤونهم ودرجاتهم، وهذا القسم الذي في مقدمه منصب الإمامة مقام محمود، وجاه ممدوح، خص الله به أولياءه وحفظهم بنحو العصمة التكوينية والتوفيقات الغيبية الإلهية والأوامر والقوانيين التشريعية عن خطراته وزلاته.

والدفاع عنها والقتال مع من يزاحمهم فيها أو يريد غصبها، إذ هي كما أنها حق للمعصوم المتصدي لها والمتلبس بها فهي حق الله تعالى عهده إليهم، وأمانته التي أودعها عندهم، وحق للناس فإنها مجعولة لأجلهم ولهدايتهم وإصلاح حالهم وفوزهم، ونجاتهم في دنياهم وسعادتهم ونجاحهم في أخراهم، فالمتصدي الغاصب لها قد ظلم ربه وإمامه وعباد الله تعالى، قال النبي يوسف عليه السلام: «اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ»، وكان المقام الذي سأل فرعاً من فروع حقه وشعبة من أصوله تمكن من أخذه فطلبه.

ويجب على غير المعصوم أيضاً فيما ولاه من المناصب الشرعية وترتیب آثارها

ص: 272

والعمل بوظائفها ما دامت باقية مع رعاية عدم الوقوع في العصيان لأجلها، وقد بين حدودها في الفقه، وذلك كمنصب الإفتاء والولاية، والحكومة على الناس، والحكم والقضاء بينهم والمناصب الجندية والإدارية، وغيرها مما كانت مجعولة من ناحية الإمام الوالي على الناس، أو من نصبه الإمام والياً لإدارة أمور المجتمع، فمن قصد بقبولها طاعة الإمام والشفقة على عباد الله وإحقاق حقوقهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ودمائهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الحدود ومرابطة الثغور، فهو من أفضل المجاهدات والعبادات.

15. في الغفلة واللهو:

الغفلة عن الشيء معروف، والمراد هنا: غفلة القلب عن الله تعالى وعن أحكامه وأوامره ونواهيه، وبعبارة أخرى: عما ينبغي أن يكون متوجهاً إليه ويكون حاضراً عنده ولها مراتب مختلفة: يلازم بعضها الكفر والطغيان، وبعضها الفسق والعصيان، وبعضها النقص والحرمان، فالغفلة عن أصول الإيمان بمعنی عدم التوجه إلى لزومها وإلى قبولها كفر، سواء كان الغافل قاصراً أو مقصراً، وإن لم يعاقب على الأول، والغفلة عن أداء الواجب وترك الحرام مع التقصير فسق، والغفلة عن الإقبال والتوجه إلى آيات الله تعالى الآفاقية والأنفسية، وعن الاهتداء بذلك إلى وجوده تعالى وصفات جلاله وجماله وعن التقرب بذلك لحظة بعد لحظة، وآناً بعد آن إلى قربه ورحمته، وعن كونه حاضراً عنده بجميع شؤون وجوده وخواطر قلبه، ولحظات عينه، ولفظات لسانه، وحركات أركانه، نقص وبعد وحرمان عن مقام السعداء والأولياء، وقد قال تعالى في كتابه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ إلی قوله: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..» (الانبياء: 1 - 3).

ص: 273

16. في الكبر:

الكبر: رذيلة من رذائل الإنسان، وخلق سيئ من سجايا باطنه وهو: أن يرى نفسه كبيراً عظيماً بالقياس إلى غيره، وعلى هذا فالكبر صفة ذات إضافة تستدعي مستكبراً به ومستكبراً عليه فهو يفترق عن العجب المتعلق بالفعل بتغاير المتعلق وعن العجب المتعلق بالنفس، بعدم القياس فيه على الغير.

وهذه الصفة من أقبح خصال النفس وأشنعها، ولعل أصل وجودها كالحسد وحب الرئاسة والمال من السجايا المودعة في فطرة الإنسان وزيادتها وتكاملها وتحريكها صاحبها نحو العمل بمقتضاها، تكون باختياره وتحت قوته العاقلة، كما أن معارضتها والسعي في إزالتها أيضاً كذلك، وهي من الصفات التي تورث اغتراراً في صاحبها وفرحاً وركوناً إلى نفسه، ومحل هذه الصفة ومركزها القلب كما يقول الله تعالى: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ..» (غافر: 56)، لكنه إذا ظهرت على الأعضاء والأركان سميت تكبراً واستكباراً، لاقتضاء زيادة المباني ذلك، لكن أطلقت الكلمتان في الكتاب الكريم على نفس الصفة أيضاً.. ثم إن الكبر من حيث المتكبر عليه ينقسم إلى أقسام ثلاثة مع اختلاف مراتبها في القبح:

الأول: التكر على الله تعالى: إما بإنكار وجوده جل وعلا، أو وحدانيته، أو شيئاً من صفات جلاله وجماله، ومنه أيضاً عدم قبول إبليس أمره، وهذا أفحش أنواع الكبر، ولا صفة في النفس أخبث وأقذر منه، وقد أتفق فيما يظهر من التأريخ صدوره من عدة من ادعى الإلوهية وغيرهم.

الثاني: التكبر على أنبياء الله ورسله وأوصيائه بإنكار رسالتهم ورد ما جاؤوا به من الكتاب والشريعة.

الثالث: التكبر على عباد الله بتعظيم نفسه وتحقيرهم والامتناع عن الانقياد لمن

ص: 274

هو فوقه منهم بحكم العقل أو الشرع، وعن العشرة بالمعروف مع من هو مثله فيترفع عن مجالستهم ومؤاكلتهم، ويتقدم عليهم في موارد التقدم ويتوقع منهم الخضوع له، ويمتنع عن استفادة العلم وقبول الحق منهم، ويأنف إذا وعظوه، ويعنف إذا وعظهم، ويغضب إذا ردوا عليه، وينظر إليهم نظر البهائم استجهالاً واستحقاراً وهكذا.

17. في الحسد:

الحسد: تمني زوال نعمة الغير، وله صور: فإن الحاسد: إما أن يتمنى زوالها عن الغير فقط، أو يتمنی مع ذلك انتقالها إليه، وعلى التقديرين: إما أن يصدر منه حركة من قول أو فعل على طبق تمنيه، أو لا يصدر، وعلى أي فحقيقة الحسد عبارة عن تلك الصفة النفسية، ولها مراتب في الشدة والضعف وصدور الحركات الخارجية من آثارها ومقتضياتها.

والحسد من أخبث الصفات وأقبح الطبائع، وهو من القبائح العقلية والشرعية، فإنه في الحقيقة سخط لقضاء الله واعتراض لنظام أمره وكراهة لإحسانه، وتفضيل بعض عباده على بعض، ويفترق عن الغبطة الممدوحة، بأن الحاسد يُحبّ زوال نعمة الغير والغابط يجب بقاءها، لكنه يتمنى مثلها أو ما فوقها لنفسه.

وللحسد أسباب كثيرة: عداوة المحسود مخافة أن يتعزز ويتفاخر عليه، وتكبره على المحسود وتعجبه من نيل المحسود بتلك النعمة، وحب الرئاسة على المحسود، فيخاف عدم إمكانها حينئذ وغير ذلك، ومن آثاره تألم الحاسد باطناً، ووقوعه في ذلك العذاب دائماً، ولذا قال علي عليه السلام: (لله در الحسد حيث بدأ بصاحبه فقتله).

ص: 275

18. الغضب (59):

الغضب: ثوران النفس واشتعالها لإرادة الانتقام، ويستخرجه الكبر والحسد والحقد الدفينات في باطن النفس، فالغضب من حالات النفس وصفاتها ومن آثاره صدور الأفعال والحركات غير العادية من صاحبه.

والغضب منه تعالى: هو الانتقام دون غيره فهو في الإنسان في صفات الذات، وفي الله تعالى من صفات الفعل، ولذا يتصف تعالی بوجوده وعدمه، وتتوجه هذه القوة عند ثورانها تارة إلى دفع المؤذي قبل وقوعه، وأخرى إلى الانتقام لأجل التّشفّي بعد وقوعها والانتقام قوت هذه القوة، وفيه شهوتها ولذّتها ولا تسكن إلا به، ولهذه القوة درجات ثلاث:

حالة التفريط المذمومة: كضعفها في النفس بحيث لا يغضب فيما هو محمود فيه عقلا و شرعاً: موارد دفع الضرر عن نفسه، والجهاد مع أعداء الدين، وموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.

وحالة الإفراط المذمومة أيضاً: كإظهارها بالشتم والضرب والإتلاف والقتل ونحوها فيما نهى العقل والشرع عنه.

وحالة الاعتدال: کاستعمالها فيما تقتضيه قوة العقل وحكم الشرع، وهذه حد اعتدالها واستقامتها.. وقد ورد في نصوص هذا الباب: أن الغضب مفتاح كل شر، وأن الرجل البدوي سأل رسول الله ثلاث مرات أن يعلّمه جوامع الكلم، فقال (صلى الله عليه وآله) في كل مرة: آمرك أن لا تغضب.

وأنه أي شيء اشد من الغضب؟ إن الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله، ويقذف المحصنة، وأن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم،

ص: 276

وأن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه (60).

وأما الغضب الحاصل بحق: كغضب أولياء الله على أعدائه وعلى العصاة المرتكبين للمعاصي من عباده لكفرهم وعنادهم ولفسقهم وعصيانهم، فهو أمر آخر، وهو ممدوح مطلوب، وإعماله في الخارج بالقيام على أمر الجهاد وبإقامة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل أن تقع المعاصي وتصدر الكبائر من أهلها، وبإجراء حدود الله تعالى وتعزيزاته بعد وقوعها وصدورها، فهو واجب في الشريعة، والغضب الحاصل لهم من أفضل السجايا، والعمل الصادر منهم على طبقه من أفضل العبادات، وليس للمتصدي لتلك الأمور، المجري لها بأمر الله العفو والإغماض إلا في موارد رخص فيه الشرع ذلك، وتفصيله في باب الحدود والتعزيزات من الفقه.

19. البخل:

البخل: إمساك المال وحفظه في مورد لا ينبغي إمساكه، ويقابله الجود، والبخيل من يصدر منه ذلك، والمراد به في المقام هو: الحالة الباطنية والصفة العارضة على النفس، الباعثة على الإمساك والمانعة عن الإنفاق، والشح: أيضاً هو البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، فيحفظ الموجود ويطلب غير الموجود.

وأن الشحيح أشد من البخيل، إن البخيل يبخل با في يديه، والشحيح بما في أيدي الناس، فلا يرى في أيديهم إلا تمنى أن يكون له بالحل والحرام ولا يشبع، ولا يقنع بما رزقه الله، وأنه: إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، ودعاهم حتى سفكوا دماءهم، ودعاهم حتى انتهكوا واستحلوا محارمهم (61).

ص: 277

20. زهده:

يقول الإمام (عليه السلام): (على أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم في الأكل واللباس، ولا يتميزون عليهم بشيء لا يقدرون عليه ليراهم الفقير فيرضى عن الله تعالى بما هو فيه ويراهم الغني فيزداد شكراً وتواضعاً) (62).

21. قسوة القلب:

القسوة: غلظ القلب، وصلابته وعدم تأثّره بالمواعظ والعبر، في مقابل رقة القلب، ورحمته وتأثره بالعظات واتعاظه بالعبر، وهي من حالات القلب وصفاته المذمومة السيئة، وهي قد تكون ذاتيةً مودعةً في القلب بالفطرة، وقد تكون كسبيّةً حاصلة من الممارسة على المعاصي والمآثم، وعلى التقديرين: فهي قابلة للزوال بالكلية، أو للتخفيف والتضعيف.

قال تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ..» (الزمرد:22)، فذكر الله قسوة القلب هنا في مقابل انشراح الصدر للإسلام وانفتاحه وسعته، فصار لذلك على نور من العلم والعمل، والقسوة في قباله انسداد القلب وضيقه وعدم تأثير العظات فيه، وقد أوعد الله تعالى جزاءها بالويل، وهي بمعنى: القبح والشّر والهلاك، فالمراد: إنشاء دعاء من الله على قاسي القلب، أو إخبار باستحقاقه.

ورد في النصوص: أن القلب له لمتان: لمة من الشيطان ولمة من الملك، فلمّة الملك: الرقة والفهم، ولمة الشيطان: السهو والقسوة، (واللمة بالفتح: الإلقاء والخطور، فخطرات الخير فيه من الملك، و خطرات الشر من الشيطان، ويتولد من الأول فهم المعارف الإلهية ولين القلب لفعلها، ومن الثاني غفلته عن الحق وقسوته، فقوله: لمة الملك الرقة: أي نتيجتها الرقة أو علامتها ذلك.

ص: 278

هوامش البحث:

1. اللاري، مجتبی/ دراسة في المشاكل النفسية والأخلاقية، ط 1 / دار الصفوة - بيروت / 1992، ص: 13.

2. الناصري، عباس / الأخلاق الإسلامية / بلا دار نشر - النجف الاشرف / بلا. ت، ص: 7.

3. ألأسدي و محمد، أ. د. سعيد جاسم، ود. فاضل عبد العباس / قراءة فلسفية في أخلاقيات مهنة الإدارة واتخاذ القرارات الإستراتيجية / مؤسسة البصرة للطباعة والنشر - العراق - بصرة / 2016، ص: 8.

4. المجلسي، محمد باقر المجلسي / بحار الأنوار، ط 2/ مؤسسة الوفاء - بيروت / 1403، ص: 382.

5. الطبرسی، میرزا حسين النوري الطبرسي / مستدرك الوسائل / مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط 1،/ بلا دار نشر - قم المقدسة / 1408، 89 ح: 38.

6. مغنية، محمد جواد / فلسفة الأخلاق في الإسلام، ط 1/ دار اليتيم، ودار الجواد / 1992، ص: 15.

7. الإصفهاني، بلا. ت / أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني / مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط 2 / دار القلم - دمشق، ودار الشامية - بيروت / 1418 - 1977، ص: 158.

8. المصري، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم ابن منظور الإفريقي / لسان العرب، المجلد: 10 / دار بيروت للطباعة والنشر - بيروت / 1968، ص: 68.

9. أبن مسکویه، أحمد بن محمد / تهذيب الأخلاق وتطهير العراق، تحقيق: قسطنطين زريق / الجامعة الأمريكية - بيروت / 1966، ص: 51.

10. شبر، السيد عبد الله / الأخلاق، ط 1 / مؤسسة ذو القربی / 1427 = 2006.

11. الغزالي، أبو حامد محمد / کتاب الأربعين في أصول الدين / القاهرة / بلات، ص: 53.

12. الحيدري، السيد كمال / بحوث في جهاد النفس، ط: 20 / مؤسسة الإمام الجواد (عليه السلام) للفكر والثقافة - قم المقدسة / 2012، ص: 63.

13. شريعتي، د. علي / الأخلاق للشباب والطلاب والناشئة، ط: 2 / دار الأمير للثقافة والعلوم -

ص: 279

بيروت / 2007، ص: 12.

14. متوفر على الموقع : www.alzahrah.net 16.

15. الأسدي، أ. د. سعيد جاسم / الإلتزام الخُلقي لدى عينة من الطالبات العراقيات - بحث ميداني / مجلة ص والقرآن ذي الذكر - مجلة علمية بحثية تصدر عن قسم الدراسات والبحوث في مؤسسة وارث الثقافية / الغدير للطباعة - بصرة/ 2008، ص: 61 .

16. التونجي، د. محمد / أخلاقيات المهنة والسلوك الإجتماعي، ط 1/ دار وائل للنشر والتوزيع - عمان / 2011، ص: 95.

17. العلواني، طه جابر / الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات وعلاج / القاهرة - إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي / 1992، ص: 167.

18. فام، يعقوب فام / أطفالنا وكيف نؤسسهم، ط 1 / مؤسسة دار الهلال - القاهرة / 1930، ص: 7 - 13.

19. الشهرستاني، أبو الفتح / الملل والنحل، تحقيق: محمد الكيلاني / مطبعة البابي - القاهرة / 1317، ص: 12.

20. اللاري، مجتبى / الأخلاق الإسلامية / مصدر سابق، ص: 24.

21. الطبرسي، أبو علي بن الحسن (القرن السادس الهجري) / مجمع البيان في تفسير القرآن / دار مكتبة الحياة - بيروت / بلات، ص: 187

22. الغزالي، أبو حامد محمد / إحياء علوم الدين / مكتبة محمد علي صبيح - القاهرة / 1375، - ص: 46

23. الحلواني، الشيخ الحسين بن محمد بن الحسن بن نصر / نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الطبعة الأولى المحققة / مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) - قم المقدسة / 1408، ص: 52.

24. الصدوق، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار / بلا. ت، ص: 593.

25. الطبرسي، ميرزا حسين النوري الطبرسي/ مستدرك الوسائل / مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط 1 - قم المقدسة / 1408، ص: 193.

ص: 280

26. متوفر على الموقع: www.almaaref.org

27. الصدر، السيد مهدي الصدر / أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، تقديم السيد محمد هادي الموسوي الخراساني / نشر: وانك - قم المقدسة / 2011، ص: 13- 14.

28. الحلي، جمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن فهد / المهذب البارع في شرح المختصر النافع، تحقيق: الحجة الشيخ مجتبى العراقي، ج 1 / مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة / 1407، ص: 6).

29. الحسني، السيد محمد نجيب / مجلة نور الإسلام، دور الأخلاق في بناء الفرد والمجتمع، العدد: 1 2008 - 2009.

30. محمد، فاضل عبد العباس / رسالة ماجستير (غير منشورة) بعنوان: أخلاقيات مهنة الإدارة وأثرها في اتخاذ القرارات للعمليات الإنتاجية الإستراتيجية في العراق / جامعة سانت كليمنتس، تخصص: أدارة صناعية، العراق - البصرة / 2013، ص: 7 - 14.

31. الغامدي، 2010 م / سعيد بن ناصر / سلسلة دعوة الحق: أخلاقيات العمل (ضرورة تنموية ومصلحة شرعية) / دعوة الحق كتاب شهري محكم يصدر عن الإدارة العامة للإعلام والثقافة برابطة العالم الإسلامي، العدد: 25، مكة المكرمة / 2010، ص: 21.

32. الغامدي، د. خالد بن مسفر / مصدر سابق، ص: 23.

33. التونجي، د. محمد / أخلاقيات المهنة والسلوك الإجتماعي، ط 1/ دار وائل للنشر والتوزيع - عمان / 2011، ص: 98.

34. الكبيسي وآخرون، أ. د. عبد الواحد حميد، وأ. د. صبري بردان الحياني، ود. إسماعيل علي حسين، وآخرون / أخلاقيات وآداب مهنة التدريس الجامعي / مركز ديبونو لتعليم التفكير - عمان / 2012، ص: 24 - 27.

35. (التونجي، د. خالد بن مسفر، 2011/ مصدر سابق، ص: 98 - 99).

36. رحمة، أنطوان / التربية الخلقية / جامعة دمشق، بلا دار نشر / 1984.

37. حسن، إيناس عبد / تطوير أهداف التعليم الجامعي المصري في ضوء بعض المتغيرات العالمية والمحلية والاتجاهات المستقبلية وتحديات معوقات تحقيقها (دراسة ميدانية على جامعة الزقاقيق)

ص: 281

المؤتمر القومي السنوي الثاني لمركز تطوير التعليم الجامعي (الأداء الجامعي الكفاءة والفاعلية والمستقبل) / جامعة عين شمس - مركز تطوير التعليم الجامعي / 1995.

38. شفاء العليل، محمد بن أبي بكر أبن القيم الجوزية / شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تحقيق: محمد بدر الدين الحلبي / دار الفكر - بيروت / 1398، ص: 129.

39. ابن قيم، محمد بن أبي بكر / مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق: محمد حامد الفقي/ دار الكتب العلمية - بيروت / 1393، ص:2/ 215.

40. زاد الميعاد، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية / زاد المعاد في هدى خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، ط 14 / مؤسسة الرسالة - بيروت / 1407، ص: 3/ 608.

41. ناصر، د. نعيم عقلة / الإدارة العامة العربية الإسلامية - موسوعة الإدارة العامة العربية الإسلامية - / المنظمة العربية الإدارية - عمان / 2004، ص: 36

42. زاهر، ضياء / القيم والمستقبل: دعوة للتأمل / مستقبل التربية العربية، مجلد: 1، العدد: 1/ 1995، ص: 18.

43. بدوي، عبد الرحمن / الأخلاق عند كانت / وكالة المطبوعات - الكويت / 1979، ص: 439.

44. ألأسدي، أ. د. سعيد جاسم، 2013/ مصدر سابق، ص: 80.

45. بدوي، عبد الرحمن ، 1979/ مصدر سابق، ص: 98.

46. الأندلسي، ابن حزام / المحلي، تحقيق: أحمد محمد شاكر / بلا دار نشر - القاهرة / 1980، ص: 379.

47. فرج، محمد سعيد / البناء الاجتماعي والشخصي / دار المعرفة - الإسكندرية / 1989، ص: 349.

48. محمد، فاضل عبد العباس،2016/ مصدر سابق، ص: 25 - 28.

49. ذياب، فوزية / القيم والعادات الإجتماعية / دار الكتاب العربي للطباعة والنشر - القاهرة / 1980، ص: 87 - 89.

50. مرعي، توفيق، وأحمد بلقيس / الميسر في علم النفس الاجتماعي / دار الفرقان للنشر والتوزيع - عمان / 1984، ص: 233.

ص: 282

51. العقاد، عباس محمود / مجموعة العبقريات الاسلامية كاملة / المكتبة العصرية للطباعة والنشر - بيروت/ بلا. ت، ص: 3.

52. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي / دار الجيل - بيروت ط 1/ 1393، ص: 655.

53. المفيد النيسابوري، أبي سعيد محمد بن احمد الحسين الخزاعي / الأربعين عن الأربعين في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام / العتبة الحسينية المقدسة، فقسم الشؤون الفكرية والثقافية - كربلاء/ 2016، ص: 57 - 68.

54. العطار، رضا / متوفر على الموقع: ridhaalattar@yahoo.com

55. الحكيم، محمد باقر / دور اهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج 1/ المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت (عليه السلام) قم المقدسة / بلات، ص: 56.

56. القزويني، السيد محمد كاظم علي من المهد إلى اللحد / مطبعة الآداب - النجف الشرف/ 1967، ص: 54 - 273.

57. القزويني، السيد محمد کاظم، 1967/ مصدر سابق، ص: 207 - 211.

58. بحار الأنوار، العلامة المجلسي / دار الكتب الإسلامية - طهران/ بلا .ت، ج: 73، ص: 122.

59. القزويني، السيد محمد کاظم، 1967/ مصدر سابق، ص: 243 - 254.

60. الكافي، ثقة الإسلام الكليني / دار الكتب الاسلامية - طهران ط 3، ج 2، ص: 304.

61. الخصال الشيخ الصدوق / جماعة المدرسين - قم ، ط 4/ بلا .ت، ص: 176.

62. محمديان، محمد / حياة أمير المؤمنين عن لسانه، ط 1/ مؤسسة النشر الاسلامي - قم المشرفة 1417، ص: 65.

ص: 283

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1) والاحاديث النبوية الشريفة.

2) القواميس العربية:

1- المصري، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي / لسان العرب، المجلد: 10 / دار بيروت للطباعة والنشر - بيروت / 1968.

3) كتب الاحاديث الدينية.

1- أبن مسكويه، أحمد بن محمد / تهذيب الأخلاق وتطهير العراق، تحقيق: قسطنطين زريق / الجامعة الأمريكية - بيروت / 1966.

2- ابن سينا، الحسين بن عبد الله / تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات (الرسالة التاسعة في الأخلاق)، ط 1 / دار الجوانب / 1298 هجرية.

3- ابن قيم، محمد بن أبي بكر مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقیق: محمد حامد الفقي / دار الكتب العلمية - بيروت / 1393 هجرية.

4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي / دار الكتب الإسلامية - طهران/ بلا .ت.

5- زاد الميعاد، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية / زاد المعاد في هدى خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، ط 14 / مؤسسة الرسالة - بيروت / 1407 هجرية.

6- الحكيم، محمد باقر / دور اهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج 1/ المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت (ع) - قم المقدسة/ بلا. ت.

7- الحلواني، الشيخ الحسين بن محمد بن الحسن بن نصر / نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الطبعة الأولى المحققة / مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) - قم المقدسة / 1408 هجرية.

8- الأندلسي، 1980 / ابن حزام / المحلي، تحقيق: أحمد محمد شاكر / بلا دار نشر - القاهرة / 1980.

9- الغزالي، أبو حامد محمد / إحياء علوم الدين / مكتبة محمد علي صبيح - القاهرة / 1375 هجرية.

ص: 284

10- الغزالي، بلا. ت / کتای الأربعین في أصول الدين / القاهرة / بلا. ت.

11- شفاء العليل، محمد بن أبي بكر أبن القيم الجوزية / شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تحقيق: محمد بدر الدين الحلبي / دار الفكر - بيروت / 1398 هجرية.

12- المجلسي، محمد باقر المجلسي/ بحار الأنوار، ط 2/ مؤسسة الوفاء - بيروت / 1403 هجرية.

13- الحلي، جمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن فهد / المهذب البارع في شرح المختصر النافع، تحقيق: الحجة الشيخ مجتبى العراقي، ج 1 / مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة / 1407، ص: 6.

14- الشهرستاني، أبو الفتح / الملل والنحل، تحقيق: محمد الكيلاني / مطبعة البابي - القاهرة / 1317 هجرية.

15- الطبرسي، بلا. ت / أبو علي بن الحسن (القرن السادس الهجري) / مجمع البيان في تفسير القرآن / دار مكتبة الحياة - بيروت/ د. ت.

16- الطبرسي، ميرزا حسين النوري الطبرسي / مستدرك الوسائل / مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط 1 - قم المقدسة / 1408.

17- الصدوق، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار / بلا. ت.

18- الكليني، محمد بن يعقوب الكليني / الأصول من الكافي (ت 328 ه)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، ط 1، ج 2 / دار صعب - بيروت / 1401 هجرية.

19- الإصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني / مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط 2 / دار القلم - دمشق، ودار الشامية - بيروت / 1418 = 1977.

20- الأندلسي، ابن حزام / المحلي، تحقيق: أحمد محمد شاكر / بلا دار نشر - القاهرة / 1980.

21- المفيد النيسابوري، أبي سعيد محمد بن احمد الحسين الخزاعي / الأربعين عن الأربعين في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام / العتبة الحسينية المقدسة، فقسم

ص: 285

الشؤون الفكرية والثقافية - كربلاء/ 2016، ص: 57 - 68.

4) الرسائل والاطاريح والمجلات والدوريات:

1- حسن، إيناس عبد / تطوير أهداف التعليم الجامعي المصري في ضوء بعض المتغيرات العالمية والمحلية والاتجاهات المستقبلية وتحديات معوقات تحقيقها (دراسة ميدانية على جامعة الزقاقيق) المؤتمر القومي السنوي الثاني لمركز تطوير التعليم الجامعي ( الأداء الجامعي الكفاءة والفاعلية والمستقبل) / جامعة عين شمس - مركز تطوير التعليم الجامعي / 1995.

2- الحسني، السيد محمد نجيب / مجلة نور الإسلام، دور الأخلاق في بناء الفرد والمجتمع، العدد: 1 / 2008 - 2009.

3- زاهر، 1995 م / ضياء / القيم والمستقبل: دعوة للتأمل / مستقبل التربية العربية، مجلد: 1، العدد: 1 / 1995.

4- محمد، فاضل عبد العباس / رسالة ماجستير (غير منشورة) بعنوان: أخلاقيات مهنة الإدارة وأثرها في إتخاذ القرارات للعمليات الإنتاجية الإستراتيجية في العراق / جامعة سانت كليمنتس، تخصص: أدارة صناعية، العراق - البصرة / 2013.

5- الأسدي، أ. د. سعيد جاسم / الإلتزام الخلقي لدى عينة من الطالبات العراقيات - بحث ميداني / مجلة ص والقرآن ذي الذكر - مجلة علمية بحثية تصدر عن قسم الدراسات والبحوث في مؤسسة وارث الثقافية / الغدير للطباعة - بصرة / 2008.

6- الحساني، علي حسين / المؤتمر الفكري الرابع بعنوان: (محمد الصدر شموخُ عطاء وشهادةُ كبرياء)، مداخلة بعنوان: (مهدوية النشأة لدى السيد محمد الصدر) / منشورات مؤسسة وارث الأنبياء الثقافية، العراق - بصرة / 2010.

7- العلواني، 1992 / طه جابر / الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات وعلاج / القاهرة - إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي / 1992.

5)الكتب العربية:

1- رحمة، أنطوان / التربية الخلقية / جامعة دمشق / 1984.

2- بدوي، عبد الرحمن / الأخلاق عند كانت / وكالة المطبوعات - الكويت / 1979.

3- بكر، عبد الجواد السيد / فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف، ط 1 / دار الفكر

ص: 286

العربي - مصر/ 1983.

4- ذياب، فوزية / القيم والعادات الإجتماعية / دار الكتاب العربي للطباعة والنشر - القاهرة / 1980.

5- شبر، السيد عبد الله / الأخلاق، ط 1 / مؤسسة ذو القربي / 1427 = 2006.

6- شريعتي، د. علي / الأخلاق للشباب والطلاب والناشئة، ط: 2 / دار الأمير للثقافة والعلوم - بيروت / 1428 هجرية - 2007.

7- فام، یعقوب فام / أطفالنا وكيف نؤسسهم، ط 1/ مؤسسة دار الهلال - القاهرة / 1930.

8- فرج، محمد سعيد / البناء الإجتماعي والشخصي / دار المعرفة - الأسكندرية / 1989.

9- مرعي، توفيق، وأحمد بلقيس / الميسر في علم النفس الإجتماعي / دار الفرقان للنشر والتوزيع - عمان / 1984.

10- مغنية، محمد جواد / فلسفة الأخلاق في الإسلام، ط 1/ دار اليتيم، ودار الجواد / 1992.

11- ناصر، د. نعيم عقلة / الإدارة العامة العربية الإسلامية - موسوعة الإدارة العامة العربية الإسلامية / المنظمة العربية الإدارية - عمان / 2004.

12- الحيدري، السيد كمال / مقدمة في علم الأخلاق / دار فراقد للطباعة والنشر - قم المقدسة / 1425 هجرية - 2004.

13- الحيدري، السيد كمال / بحوث في جهاد النفس، ط: 20 / مؤسسة الإمام الجواد (عليه السلام) للفكر والثقافة – قم المقدسة / 2012.

14- التونجي، د. محمد / أخلاقيات المهنة والسلوك الإجتماعي، ط 1/ دار وائل للنشر والتوزيع - عمان / 2011.

15- الصدر، السيد مهدي الصدر / أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، تقديم السيد محمد هادي الموسوي الخراساني / نشر: وانك - قم المقدسة / 2011.

16- العقاد، عباس محمود مجموعة العبقريات الاسلامية كاملة / المكتبة العصرية للطباعة والنشر - بيروت / بلا. ت.

17- الكبيسي وآخرون، أ. د عبد الواحد حميد، وأ.د. صبري بردان الحياني، ود. إسماعيل علي حسين، وآخرون / أخلاقيات و آداب مهنة التدريس الجامعي / مركز ديبونو لتعليم التفكير - عمان / 2012.

ص: 287

18- النراقي، محمد مهدي / جامع السعادات، تحقيق وتعليق: السيد محمد كلانتر، تقديم الشيخ رضا المظفر/ منشورات مطبعة النعمان - النجف الأشرف / بلا ت.

19- الناصري، عباس / الأخلاق الإسلامية / بلا دار نشر - النجف الاشرف/ بلا. ت، ص: 7.

20- القزويني، السيد محمد كاظم علي من المهد إلى اللحد / مطبعة الآداب - النجف الشرف / 1967، ص: 2.

22- ألأسدي، أ. د. سعيد جاسم / معايير أخلاقية لتنمية التعليم الجامعي والعالي / مكتبة نور الحسن بغداد / 2013.

23- ألأسدي ومحمد، أ. د. سعيد جاسم، ود. فاضل عبد العباس / قراءة فلسفية في أخلاقيات مهنة الإدارة واتخاذ القرارات الإستراتيجية / مؤسسة البصرة للطباعة والنشر - العراق - بصرة / 2016.

24- الاسدي، ا. د. سعيد جاسم / السلوك الإنساني / مؤسسة البصرة للطباعة والنشر - البصرة / 2017، ص 62.

25- اللاري، مجحتبى / دراسة في المشاكل النفسية والأخلاقية، ط 1 / دار الصفوة - بيروت / 1992، ص: 13.

21- محمدیان، محمد / حياة أمير المؤمنين عن لسانه، ط 1/ مؤسسة النشر الاسلامي - قم المشرفة/ 1417، ص: 65.

26- الصفار، فاضل / إدارة المؤسسات من التأهيل إلى القيادة / دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع - بيروت / 2002.

6) المواقع الالكترونية:

1- العطار، رضا / متوفر على الموقع: ridhaalattar@yahoo.com

2-الاعرجي، زهير / النظام العائلي ودور الأسرة في البناء الاجتماعي الإسلامي / قم - إيران / 1413، ص: 1 - 17/ متوفر على الموقع: net.rafed.www

3- متوفر على الموقع: www.alzahrah.net

ص: 288

الأثر القرآني في فكر الإمام علي (علیه السلام) دراسة للمبادئ التربوية في نهج البلاغة أ. م. د. محمد كاظم حسين الفتلاوي كلية التربية / جامعة الكوفة

اشارة

ص: 289

ص: 290

مقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

أما بعد.. لسمو المعاني التي يطرحها الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة لا يجعل مجالاً للشك ان منهل نهج البلاغة نابع من سمو مبادئ التنزيل الحكيم، تکاد تستطيع أن تحصل على ما يقابل ويؤيد أي مقطع تربوي منه في نصوص القرآن الكريم، ومن ثم كان ذلك مشجعاً للباحث على ان يلج بين البحرين لبيان ذلك الأثر القرآني التربوي في فكر الإمام علي علیه السلام من خلال مقاطع من نهج البلاغة.

إن الإمام علیه السلام في ميزانه الخُلقي الذي يقدمه في منهجه، كإمام معصوم وكوصي لخاتم الأنبياء المصطفى محمد، إنما هو منهج رباني للإنسان الخليفة الذي جعله الله تعالى على سطح هذا الكوكب.

إن هذا الميزان الذي يرتكز على الرحمة، ويمتد لطرفين في تحصيل الفضائل هما الأول: الحرص على رضا الله تعالى وتقواه، والثاني: هو توعية الإنسان بإطلاع المولى على سريرته؛ كي تقترن السريرة بالسيرة على علة واحدة ويجتمعان في اتجاه واحد.

فكان من أسباب اختيار موضوع البحث أنّ التربية تُعد قوة مؤثرة في حركة التغيير الاجتماعي نحو الأفضل إذا أُحسن توجيهها، وإذا كانت الفجوة كبيرة بين حاضرها والواقع الذي عاشه أسلافنا الكرام فإن ذلك يدفعنا إلى تأكيد أهمية التأصيل بإرجاع القضايا التربوية إلى جذورها في تراثنا الإسلامي، لذا من الضروري أن ننطلق من الواقع ومتغيراته المختلفة، ورصد مشکلاته المتنوعة لتجاوز التخلف، والإمام علي بن ابي طالب علیه السلام يمثل ذلك النص المعصوم الناطق

ص: 291

بالدلالات البنائية المترجمة لآي النص القرآني الكريم، فهو علیه السلام في أقواله وأفعاله أنموذجاً رائداً في المجال التربوي، وان كل النظريات التربوية سواء منها المستوردة أو التي انتجها العقل المسلم بعيداً عن منهل القرآن الكريم وسُنة المعصوم لا تلبّي حاجات الفرد والمجتمع وقد بان فشلها ولم تثمر في الواقع العملي، ولعل ذلك نلتمسه في قوله علیه السلام: (غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي) (1).

ومنهج البحث فكان المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى: (وصف الأشياء أو الظواهر أو الأحداث وبيان العلاقات التي تربط بينها وتفسيرها ووسائلها وتحليلها واخذ العبرة منها وتوقع تأثيراتها المستقبلية) (2).

اما خطة البحث فكانت من مطلبين الأول منهما كان بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة، والمطلب الثاني بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة، مع خاتمة وقائمة بالمصادر.

ونظراً لسعة مفهوم التربية الإسلامية وفروعها، فقد قيد الباحث عنوان بحثه بالمبادئ التربوية في نهج البلاغة (3)، وان قد حدد بعض الباحثين المبادئ التربوية في نهج البلاغة بمجموعة مبادئ (4)، ولكن الباحث لا يرى بالإمكان بحال من الاحوال اختزال هذه المبادئ بعدد معين، وذلك لتداخل معانيها من جانب ومن جانب آخر تکاملها في الغاية، وإنما كان هذا البحث هو في معالم المبادئ التربوية في نهج البلاغة، حتى لا يُغلق باب البحث على الباحثين في نهج البلاغة في هذا الموضوع لما في كتاب نهج البلاغة من منهل لا ينضب.

أما مشكلة البحث: هناك اختلافٌ بين المهتمين بالقضايا التربوية حول مفهوم التربية حيث تتعدد الآراء ووجهات النظر في هذا الشأن؛ نظراً لتعدد الأطراف

ص: 292

المُشاركة في العملية التربوية، واختلاف الزوايا التي يُنظر من خلالها لهذه العملية؛ فضلاً عن اختلاف الاتجاهات، والآراء، والثقافات، والفلسفات، واختلاف ظروف الزمان، والمكان، والجوانب التي يتم معالجتها، ونحو ذلك من العوامل الأخرى.

ومع أن هذا الاختلاف في تحديد مفهوم مبادئ التربية يُعد أمراً مقبولاً - نسبيّاً - عند أصحاب الفلسفات والنظريات والأفكار التربوية البشرية؛ إلا أنه ينبغي ألاَّ يكون كذلك في ميدان التربية الإسلامية، إذا نظرنا إلى الدراسات التربوية المعاصرة وجدنا مفهوم التربية الإسلامية لم يكن موضع الاتفاق بين الدارسين بعد، ويمكن إجمال أغلب المفاهيم في النقاط الآتية (5):

1. انه منهج مقررات المواد الإسلامية في المدارس.

2. انه تاریخ التعليم، أو تاريخ المؤسسات التعليمية، أو تاريخ أعلام الفكر التربوي والتعليمي في العالم الإسلامي انه تعليم العلوم الإسلامية.

3. انه نظام تربوي مستقل؛ ومنبثق من التوجيهات والتعاليم الإسلامية الأصيلة، ويختلف عن النظم التربوية الأخرى شرقيةً كانت أو غربية.

ومن المؤكد أن معظم هذه المفاهيم قد حصرت «مبادئ التربية الإسلامية» في نطاقٍ ضيقٍ لا يتفق مع ما ينبغي أن يكون عليه هذا المفهوم من شموليةٍ واتساع لكل ما يهم الإنسان في حياته وبعد مماته؛ فهو مفهومٌ ينظر إلى الإنسان نظرةً شموليةً لكل جوانب شخصيته وأبعادها المختلفة، وهو مفهومٌ يُعني بجميع مراحل النمو عند الإنسان، وهو مفهومٌ يوازن بين مطالب الفرد و حاجات المجتمع، ويهتم بجميع الأفراد والفئات، ويوائم بين الماضي والحاضر، فضلاً عن أنه يُشير إلى نظامٍ تربوي مُستقلٍ و متکاملٍ، يمتاز بإصوله الثابتة، ومناهجه الأصيلة، وأهدافه

ص: 293

الواضحة، وغاياته السامية، ومؤسساته المختلفة، وأساليبه المتنوعة... التي تُميزه عن غيره، وتوسع دائرته ليُصبح منهجاً كاملاً وشاملاً لجميع مجالات الحياة.

وبكلمة أن مفهوم المبادئ التربية الإسلامية يتضح في كونها أحد فروع علم التربية الذي يتميز في مصادره الشرعية (المتمثلة في القرآن الكريم، وسُّنة المعصوم، وتُراث العلماء العاملين)؛ وغاياته (الدينية الدنيوية)، ويقوم على نظامٍ تربوي مُستقل و مُتكامل، ويعتمد اعتماداً كبيراً على فقه الواقع، ولابد له من متخصصین يجمعون بين علوم الشريعة وعلوم التربية؛ حتى تتم معالجة القضايا التربوية المختلفة من خلاله معالجةً إسلاميةً صحيحةً ومناسبةً لظروف الزمان والمكان.

وأما منهج البحث فقد اعتمد المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى: (وصف الأشياء أو الظواهر أو الأحداث وبيان العلاقات التي تربط بينها وتفسيرها ووسائلها وتحليلها واخذ العبرة منها وتوقع تأثيراتها المستقبلية) (6).

وبما ان المبادئ التربوية بخصوص الفرد: تعني عملية إحداث تغيير في جسم المتعلم وقدراته وتفكيره وعاداته وميوله واتجاهاته وقيمه أي في شخصيته بجملتها حتى يصبح بعدها الإنسان في حال يختلف كثيراً عما كان عليه من قبل (7).

فضلاً عن أنها عملية اجتماعية؛ بمعنى أنها تعد صورة لحياة المجتمع الذي تعيش في إطاره، تعكس فكره الاجتماعي وتشير الى مدى نموه وتطوره وتحدد درجة تطلعه وطموحه وألوان النشاط المتعددة الأوجه التي يمارسها أفراده (8).

فهي وسيلة المجتمع لتغيير واقعه وترسيخ قواعد الأخلاق والمثل العليا بين مكوناته وافراده، وغايتها النهوض بالمجتمع عن طريق تهذيب الفرد وتنميه قواه ومواهبه من خلال خبرات ومعارف لها قيمتها الاجتماعية السامية.

ص: 294

ولهذا كانت خطة البحث في ضوء علاقة المبادئ التربوية بالفرد والمجتمع، من مطلبين الأول بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة، والثاني بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة، مع خاتمة وقائمة بالمصادر، وعلى النحو الآتي:

المطلب الأول: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة

الإمام علي علیه السلام الشديد في محاسبة نفسه، حريص على ترويضها: (وَ إِنَّمَا هِیَ نَفْسِی أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَی لِتَأْتِیَ آمِنَهً یَوْمَ اَلْخَوْفِ اَلْأَکْبَرِ))، أو كما يقول علیه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري: (لَأَرُوضَنَّ نَفْسِی رِیَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَی الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَیْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً وَلَأَدَعَنَّ مُقْلَتِی کَعَیْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِینُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا أَتَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْیِهَا فَتَبْرُكَ؟ وَتَشْبَعُ الرَّبِیضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ؟ وَیَأْکُلُ عَلِیٌّ مِنْ زَادِهِ فَیَهْجَعَ؟ قَرَّتْ إِذاً عَیْنُهُ إِذَا اقْتَدَی بَعْدَ السِّنِینَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِیمَةِ الْهَامِلَةِ وَالسَّائِمَةِ الْمَرْعِیَّةِ) (10).

فالأخلاق رياضة النفس لتزكو على الربيضة عند الإمام علیه السلام، مغموسة بتقوى الله ومراعاة حقوق المحرومين والمظلومين. فهي غاية الرحمة وكمالها.

لذا بلغ الإمام علیه السلام في ذلك الغاية القصوى، حتی نسب من غزارة حُسنِ خُلُقِه إلى الدعابة، وكان مع هذه الغاية في حُسنِ الخُلُق، ولِين الجانب، يخص ذلك بذوي الدين واللين. وأما من لم يكن كذلك، فكان يوليه غلظة وفظاظة؛ للتأديب، حتى روي عنه أنه قال في هذا المعنی شعراً (11):

أَلين لِمَن لأنَ لي جَنبه *** وأنزو على كلِ صَعبٍ شديدِ

كذا الماس يعمل فيه الرصاص *** على أنه عامل في الحديدِ

ص: 295

فإن بدا الإمام علیه السلام حاداً وشديدةاً في تربية نفسه وحسابها وأتباعه، فأنه إنما ينطلق من تلبُّسه الرحمة وسعيه إلى تحقيقها؛ اتقاءً من غضب الرحمن، فالتقويم الموضوعي للذات له اثره الفعّال في متابعة دخائل النفس وخوالج القلب والافادة من التوازن بين الطموح والواقع في توجيه الشخصية وارشادها لتسمو في جميع مقوماتها الفكرية والعاطفية والسلوكية بعد استحضار المفاهيم والقيم الصالحة وتعميقها في القلب ومن ثم تقريرها في واقع الحياة وقد أكدت التوجيهات والإرشادات القيام بتقییم موضوعي للذات معرفة النفس لأنه الحصن الواقعي من الأخطاء والممارسات غير السليمة، وأن معرفة النفس هي المصداق الامثل في التقييم الموضوعي للذات حيث يقول الإمام علي عليه السلام: (اعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه) (12)، وفي موضع آخر قال علیه السلام: (افضل الحكمة معرفة الإنسان نفسه ووقوفه عند قدره) (13).

لذا سوف يكون هذا المطلب عن الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في فكر الإمام علي عليه السلام، وعلى النحو الآتي:

أولاً: مبدأ التربية وفق الفطرة: لقد جاءت الفطرة الإنسانية على غير خلق الله تعالى جميعاً ولم يكن وجودها ب (کن فیکون)، وانما جاءت حاملة تشريف اختصها به المولى عزوجل وتكريماً لم يمنحه لباقي خلقه، وذلك في قوله تعالى للملائكة حين خلق آدم علیه السلام): «فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (14).

فجاءت الفطرة الإنسانية على أجمل صورة وأكرم تشریف، إذ نفخ من روحه سبحانه وهذا مظهر جلي من مظاهر التكريم، وعنايته بخلق الإنسان وتسويته وأخذ العهد عليه في عالم الذر هي أمور كامنة في الفطرة.

من الآية المتقدمة وغيرها يترسخ لدينا ان الله سبحانه فاطر الوجود ومن ثم

ص: 296

هو أعلم بما يُصلح حال الإنسان النفسي ويبلغ به التكامل الروحي وسعادته، وهذا الأثر القرآني التربوي نجده عند الإمام علي علیه السلام، إذ قال: (الَّهُمَّ دَاحِيَ المَدحُوَّاتِ ودَاعِمَ المَسمُوکَاتِ - وجَابِلَ القُلُوبِ عَلَى فِطرَتِهَا شَقِيِّهَا وسَعِیدِهَا) (15)، فالرجوع الى تعاليم السماء والالتزام بها يضمن لنا تربية ننال بها السعادة في الدارين، وبخلافه فالشقاء هو المصير الابدي.

قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (16). وقد تباينت آراء المفسرين في فهم الآية واخذوا فيها مناحي متعددة، إلا أن ما ينسجم مع فرضية البحث هو (أن المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد (والكفاءات)، و (عهد الفطرة) والتكوين والخلق، فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السر الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة احساس داخلي (...) کما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها) (17).

فالفطرة التي انشأنا الله سبحانه علیها سليمة مؤمنة صالحة، وهي بهذا تربية الله لنا، وان الصلاح المقترن بها هو صلاح اصيل وان الانحراف هو الطارئ عليها، جراء غواش الدنيا والشيطان الذي يحول عن تذکر سالف نعم الله في تعريفه ایانا، وهذا المعنى نجد تجلياته في كلام الإمام علي علیه السلام إذ قال: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم میثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته) (18)، وكل ذاك اتماماً للحجة عليهم (لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه، إلا أن يكون ذاكراً له، فيجب أن نذكر نحن الميثاق) (19).

ص: 297

ويؤكد هذا سيد قطب بقوله: (أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى فيحتاجون إلى التذكير والتحذير، إن التوحید میثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى) (20).

والله سبحانه عالم بالأشياء (قَبلَ ابتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا (21) وَ أَحنَائِهَا (22))(23)، ومع هذا جعل سبحانه من هذا الاشهاد هو إتمام الحجة، وأن لا يقولوا بالاحتجاج بآبائهم، وأنهم اقتدوا بهم، وانهم كانوا أطفالاً لا يعقلون، وانهم معذبون بجريرة آبائهم المنحرفين عن الفطرة، فكان الإشهاد دافعاً لكل تلك الاحتجاجات والتعويلات، يقول الشيخ الطبرسي في تفسير الآية: (إني إنما قرَّرتكم بهذا لتواظبوا على طاعتي، وتشكروا نعمتي، ولا تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل، فنشأنا على شركهم احتجاجاً بالتقليد، وتعویلاً علیه أي فقد قطعت حجتكم هذه بما قررتکم به من معرفتي، وأشهدتكم على أنفسكم بإقراركم بمعرفتكم إياي) (24).

2- مبدأ التربية بالإيمان بالله تعالى: الإيمان بالله سبحانه مبدأ تربوي ان صلح في نفس الإنسان صلحُت به كل جوارحه، فهو إيمان بالغيب الحاضر في وجدان الإنسان والمنعكس في سلوكياته اليومية، فمعرفة الله تعالى تحتاج إلى إيمان بالبصيرة، يقول الإمام علي علیه السلام: (الحمد لله المعروف من غير رؤية) (25).

وهذا مصداق قوله سبحانه: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (26)، وقوله تعالى: «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (27)، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (28)، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (29)، وقوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» (30)، فاستشعار الرقابة الغيبية في نفس الإنسان تجعله في حذر دائم سواء بحضوره في المجتمع أو في خلواته مع نفسه، لأن الرقيب هو الله

ص: 298

سبحانه المحيط بكل شئ والقادر المطلق على كل شئ، وهو عنده الغيب شهادة وهذا الأثر القرآني التربوي يتضح في فكر الإمام علي علیه السلام وهو يصف قدرة الله سبحانه المطلقة، إذ يقول: (كل شئ خاشع له، وكل شئ قائم به، غِنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، من تكلم سمع نطقه، ومن سکت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه،..، وكل غيب عندك شهادة، انت الأبد لا أمد لك) (31).

فكأنّه علیه السلام قال: (وكلّ غيب عندك شهادة هذان الاعتباران يستلزمان کمال علمه وإحاطته بجميع المعلومات، ولمّا كانت نسبة علمه تعالى إلى المعلومات على سواء لا جرم استوى بالنسبة إليه السرّ والعلانية، وأيضا فإنّ السرّ والغيب إنّما يطلقان بالقياس إلى مخفىّ عنه وغائب عنه وهي القلوب المحجوبة بحجب الطبيعة وأستار الهيئات البدنيّة والأرواح المستولي عليها نقصان الإمكان الحاكم عليها بجهل أحوال ما هو أكمل منها، وكلّ ذلك ممّا تنزّه قدس الصانع عنه) (32).

ومن ثم ان كل الأعمال التي نمارسها في الحياة الدنيا سوف تكون حاضرة أمامنا في الحياة الأخرى، وان الله تعالى سيجزي العبد بها، وهو الواضح في قوله تعالى: «وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (33)، فمَن آمن بغيب الله سبحانه ستكون أعماله على وفق ما اراد الله منه من تعاليم السماء ويمنع النفس من أن تنجر وراء هواها راكبة موج الخطايا والظلم، فالآية تندب (الناس الى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أن لأعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر، إن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم يرونها، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم) (34).

ص: 299

وبهذه المراقبة التي يستشعرها الإنسان تكون التربية الناجحة ومن ثم تسمو نفسه في تربيةٍ سليمة من آفات النفاق ویکون سره كعلانيته مع الله سبحانه الذي لم يخلقنا اعتباطاً ولا لهواً، فيكون الإنسان محاسباً لنفسه على الدوام خشية لذاك اليوم الذي تكون فيه الاسرار علانية، وهذا المعنى التربوي نلحظه عند قول الإمام علي علیه السلام: (عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا) (35)، وذلك ان الله سبحانه لم يخلقنا إلا لنكون به معتصمين وإليه لاجئين، فكان قريب مدبر للأمور، قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (36)، وقال تعالى: «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» (37).

وهذا القرب الإلهي الذي نصت عليه آیات الذكر الحكيم تشعرنا باللطف الإلهي والتودد من الله سبحانه لعباده، إذ القرب هنا (مستعار للرأفة والإكرام) (38)، الرأفة التي تملى كل جوانب الحياة، والإكرام الذي لا يقف عند حد وقدر معين، رأفة وإكراماً من الله سبحانه لعباده وانه معهم في كل مكان وزمان، قریب بإحسانه ولطفه قریب بدفع البلاء قريب في استجابة الدعاء، قریب حيث لا تشتبه عليه الأصوات والالوان، قريب من القلوب التي تخالجها إنسانيتها اتجاه الإنسان الآخر، وانه سبحانه لهذا خلقنا وبهذا امتحننا وفي هذا تكون تربيتنا وتزكية لنفوسنا، ولم يتركنا مهملاً ولكن كلشئ عنده بقدر معلوم.

وهذا المعنى التربوي نلحظه في فكر الإمام علي علیه السلام، إذ يقول: (واعلموا عباد الله أنه لم يخلقكم عبثاً، ولم يرسلكم هملاً، علم مبلغ نعمه علیکم، وأحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه واستنجحوه، واطلبوا إليه واستمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، ولا أغلق عنکم دونه باب، وإنه بكل مكان، وفي كل حين وأوان،

ص: 300

ومع كل إنس وجان، لا يثلمه العطاء، ولا ينقصه الحباء ولا يستنفده سائل، ولا يستقصيه نائل، ولا يلويه شخص عن شخص، ولا يلهيه صوت عن صوت، ولا تحجزه هبة عن سلب، ولا يشغله، غضب عن رحمة، ولا تولهه رحمة عن عقاب، ولا يجنه البطون عن الظهور، ولا يقطعه الظهور عن البطون، قرب فنأى، وعلا فدنا، وظهر فبطن، وبطن فعلن..) (39).

3- مبدأ التقوى: فإذا ايقن الإنسان ان أعماله وكل سلوكياته غير مخفية عن عالم الغيب سبحانه، یكون عندها الإيمان، الإيمان الذي يركن له الإنسان في تطوير ذاته، لأنه ارتبط بالمطلق، وأولى مظاهر هذا الإيمان هي التقوى.

ومفهوم التقوی ومعناها أن يجعل المرء بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تحول دون مغبته، وتقوى الله تكون الطاعة واجتناب المعصية، ولا أدل على حب الله تقواه من ذكرها وتكرارها في غير آية من سور القرآن الكريم، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ» (40)، وقال تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (41)، وقال أيضاً: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» (94)، فالقرآن الكريم لا يجعل من التقوى أداة لتجنب ما نهى الله عنه، أو وسيلة لعمل الواجبات في الدنيا، بل ان التربية القرآنية تجعل من الإنسان المتقي محبوب لمن أحبّه وتعلّقت ارادته بإرادة حبيبه، وان الذي لا يتقي فيما اراده منه الحبيب هو إنسان مخالف لمبدأ الحب والطاعة، وان الترجمة الحقيقة لهذا الحب هو لزوم تقوى الله سبحانه فيما أراد وفيها نهی ومن ثم الحراك الاجتماعي وعدم الانزواء والعزلة، وان العمل بالتقوى يجنبنا مزالق هوى النفس والفساد الذي تظهر آثاره في الدارين، فالإنسان المتقي له من السمات ما تقربه من الله سبحانه، وهو بهذا لا يستوي مع مَن لم يجعل للتقوى نصيباً في حراكه اليومي، وإن (طريقة

ص: 301

القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، وإستخلاص المواقف، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا الأُسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية) (43).

فالتقوى بهذا المفهوم القرآني هي طاعة نابعة من قلب الإنسان مترجمة على جوارحه وفي سلوكياته اليومية مع نفسه ومع المجتمع، وهذا الأثر التربوي القرآني لحظه في نهج البلاغة إذ ان التقوى في نهج البلاغة ليست الخوف وتجنب الناس والانزواء عن المجتمع بل هي في فكر الإمام علي علیه السلام - حسب تعبير مرتضى مطهري - (قوَّة روحيِّة تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول والمنطقي من الذنوب) (44)، فنلحظ الإمام علي علیه السلام يقول: (فمن أشعر التقوى قلبه برز مهلهه (45) وفاز عمله، فاهتبلوا هبلها، واعملوا للجنة عملها) (46) وفي مكان آخر من النهج يقول علیه السلام: (ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة) (47)، فنفهم من هذا القول ان التربية بمبدأ التقوى وترويض النفس هو سفينة نجاة في الدار الدنيا، وان عاقبتها دار النعيم المقيم.

وان الله سبحانه رفع أهل التقوى في الدارين، وجعل الحُسنى للمتقين، فقال سبحانه: «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (48)، وقال تعالى: «هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ» (49)، وهذا مدح عظيم من الله سبحانه وبشارة للمتقين في الحياة الدنيا، فمبدأ التربية بالتقوى له دور كبير (في تحديد العاقبة الحسنة والمرجع الأفضل، إذ تحدّد عظمة النهاية من خلال استقامة البداية) (50)، ومن ثم كان علينا لزاماً ان نُكرم من أكرم نفسه بالتقوى ورباها على منهج قويم، وهذه تربية لنا في التعاطي مع المتقين، يقول الإمام علي علیه السلام: (ولا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا) (51)، فالميزان الوحيد في تقييم الناس وبيان فضلهم هو ميزان التقوى،

ص: 302

والتسابق والفخر منوط بلوائها الذي يجب ان يقف الجميع تحته، وهذا أثر آخر من آثار التربية القرآنية في فكر الإمام علي علیه السلام نلحظه في نهج البلاغة، ومصداقه في قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (52)، فهذا اللواء هو (الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابیل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت، وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء، وكلها جاهلية عارية من الإسلام!) (53)، ومن ثم لا راية للوطنية، ولا راية للقومية، ولا راية للبيت، ولا راية للجنس، فكلها رايات باطلة ومن صنع البشر والأهواء الضالة لا يعرفها الإسلام.

وكما وعد الله تعالى المتقين الزلفي والبشرى يوم القيامة، كذلك اوعدهم في الدنيا بالأمان من شرفتنها، قال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا» (54) فهذا الوعد الإلهي للمتقين بان يهديهم سبل الرشاد، وهذا الترغيب الرباني لعباده المتقين نلحظه في فكر الإمام علي علیه السلام إذ قال: (واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرج من الفتن ونوراً من الظلم، ويخلده فيما اشتهت نفسه، وينزله منزل الكرامة عنده) (55)، ومعنی کلامه علیه السلام إن (من يتق الله يأمن في الدنيا من شر الفتن، وله في الآخرة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين في صحبة الأنبياء والصالحين والملائكة المقربين) (56)، فالصلاح في الدارين رهين بمبدأ التربية بالتقوى، التقوى التي يكون الإنسان فيها بحراك دائم ورياضة مستمرة، تربية متجددة مع المواقف.

4- مبدأ التربية بالزُّهد: اتَفق العلماء والحكماء على علوِّ مكانة الزهد، وشرَف مقامه؛ بَيدَ أنهم اختلفوا في حقیقيه الشرعيَّة اختلافاً كثيراً، وتنوَّعت عباراتهم، وقد يصل هذا الاختلافُ إلى التغاير، ولا يعنينا في هذا المقام استعراض آراء أهل الاخلاق في مفهوم الزهد، ولكن الذي ننشده بيان هذا المبدأ التربوي في القرآن

ص: 303

الكريم وأثره في فكر الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة، وكيف يسمو بنفس الإنسان، يقول الإمام علي علیه السلام: (الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ» (57)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه) (58).

ودليل عدم الرغبة في الدنيا عدم الحزن على ما فات منها وعدم الفرح بما يأتي منها، فيساوي عند الزاهد وجدان الدنيا وفقدانها، وهذا تعريض على من تظاهر بالزهد بترك العمل ولبس الخشن، يقول الشيخ محمد جواد مغنیه: (لزهد هو الرضا بالميسور، ومعنى الكلمتين في الآية الكريمة واضح، تقول الأولى: لا تحزنوا المفقود، وتقول الثانية: لا تفرحوا بموجود، لأن الفائت لا يتلافي بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة على حد تعبیر حکیم قديم. وقال آخر: لا أقول لشيء کان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان) (59).

والزهد انعکاس نفسي نابع من معرفة الإنسان حقيقة الدنيا، ومن ثم لا يكون الزهد شعاراً خاصاً باللباس والزي، بل هو تربية نفسية أكبر في تجلياتها من مظهر خارجي يرتديه مُدعي الزهد، هو تربية سلوكية، يقول الإمام علي علیه السلام: (أفضل الزهد إخفاء الزهد) (60)، إذ أنّ الزهد ليس مظهراً رخيصاً يتلبّس به الإنسان وابتعاداً عن المعطيات الطيّبة من أنعم الله عليه به، وإنّما هو مبدأ تربوي وانفصال نفسي عن عوامل الفتنة، وأسباب التعلّق بمغريات الدنيا والركون إليها على حساب الآخرة.

هذا ما يُفهم مِن نصوص القرآن الكريم إذا جُمع بعضها إلى بعض، كقول الحقِّ سبحانه: «فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ

ص: 304

النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (61)، فآيات القرآن الكريم تربي الإنسان على التعلق برضا الله، وتكون أعماله على نهج تعاليم الدين القويم، فهذا الزهد الحقيقي عن المعاصي، وان الدار الآخرة هي دار القرار، ومَن النقيض الآخر من الناس (یرید الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه کما یرید) (62).

ولتتمة الموضوع هنا أن آية: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» مطلقة، ولها مصادیق ومن مصادیق هذه الآية نذكر ما ذكره جملة من المفسرين من قول الإمام علي علیه السلام، إذ قال: (الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرأة السوء) (63)، ويمكن توجيه هذا الحديث بما يقتضيه المقام، هو ان الدنيا مزرعة الآخرة کما نصت العديد من الروايات، وان المرأة الصالحة في الدنيا عون للزوج على اجتناب المعاصي والزهد عن حرامها وتذكيره بالآخرة والنعيم المقيم فيها.

فلمبدأ الزهد أثر تربوي في فكر الإمام علي علیه السلام لا تخفي آثاره على المسلمين، وقد اشار الدكتور كامل مصطفى الشيبي (64) إلى ذلك حين ربط بين التشيع لعلي علیه السلام ورغبة الفئة المستضعفة بالحفاظ على مبادئ الإسلام بما يمثله الإمام علیه السلام من زهد وعفة وقوة وإیان ولهذا نلحظ الصحابي عمار بن ياسر يحتفي بالإمام علیه السلام لأنه كان زاهداً، ويجعل الزهد زينة الأبرار کما کان المال زينة الملأ المكي الذي حاربه الإسلام، فيروي عماراً حديثاً عن النبي = انه قال في الإمام علي علیه السلام: (یا علي، إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها، هي زينة الأبرار عند الله تعالى، الزهد في الدنيا، جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئاً، ولا ترزأ الدنيا

ص: 305

منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً) (65).

کما نلحظ هذا المبدأ التربوي عند صحابي آخر من تلامذة الإمام علیه السلام وهو الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري، إذ اعترض أبو ذر الغفاري في الشام على ثراء معاوية مبرزاً اتجاهه في الزهد، فقال عندما رأى قصر الخضراء بدمشق: (يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الاسراف، فسكت معاوية) (66).

ومن هنا تأتي أهمية هذا المبدأ التربوي وهو يتسع في شعاع أثره من النفس إلى محيطها ومجتمعها، من دون ان يكون غايته ترويض النفس والميول الى السكون والانشغال بخلجات النفس وفي قوقعتها، فنراه يبرز في معارضة الظالمين ويُترجم الى عمل حركي في حياة الفرد والمجتمع.

وكذلك هي سائر المبادئ التربوية المتقدمة فالمنهج القرآني ونصوص المعصوم تتعاضد في ترسيخها في النفس وتتجذر فيها لتُنمي لنا شخصية مسلمة ثابتة في مبادئها حازمة في الشدائد مستبسلة في ذات الله تعالى، ولولا ذاك الإيمان واليقين فيها لما كان لهذه المبادئ التربوية ان نجد اثرها في حياة الفرد الخاصة ناهيك عن أثرها المرجو في الحياة الاجتماعية، کما سوف نلحظ أثر المبادئ في بُعدها الاجتماعي في حنايا المطلب الثاني.

المطلب الثاني: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة

من أهم المجالات التي عُني ببنائها القرآن الكريم ونصوص المعصوم المجال

ص: 306

الاجتماعي، وهو مجال له أهميته البالغة في عملية التربية، ولذا أعطاه الإسلام حقه من العناية، وحظه من الاهتمام، والإسلام دين اجتماعي وليس ديناً فردياً، وهو يقوي روح التعايش الجماعي في حس الأفراد بشتى الصور والأساليب.

وقد لحظنا في المطلب الأول أهمية التربية الفردية للإنسان في ضوء فكر الإمام علي علیه السلام وأثرها القرآني، وان أول ما ينمي عند الإنسان ويهذب هو نفسه، ومن ثم الانتقال الى التربية في بُعدها الآخر وهو المجتمع، فلا بد من أن ترتبط التربية الفردية بالتربية الاجتماعية، فهي نتيجة لها، لما لها من الشأن في تقوية العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأمة كالمحبة والإخاء والإيثار، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، ودعا الى توحيد الكلمة وجمع الصف، کما دعا إلى التراحم والتسامح جاعلاً من الإنسان عنصراً فاعلاً لا منفعلاً، وذلك بإثارة تفكيره، والعناية بروحه، وتحقيق حاجاته العلميّة والنفسية التي تجعله عنصراً اجتماعياً ناجحاً، مؤتلفاً غير مستوحش أو مبغوضاً، فيكون حركياً سواء بشخصه أو بذكراه في المجتمع، وهذا ما عناه الإمام علي علیه السلام في فكره حين قال: (خالطوا الناس مخالطة ان متم معها بكوا عليكم، وان عشتم حنوا اليكم)، وهذا ما سوف نحاول بيانه في هذا المطلب، وفق المبادئ التربوية الآتية:

أولاً: التربية بمبدأ الاستخلاف (الحكومة):

وهذا المبدأ التربوي يقوم على أساس عظیم مفاده أن الإنسان لم يُخلق عبثاً، وان عليه رسالة كبيرة في وجوده على الأرض يجب أن يبلغها، منها عمارة الأرض وتطبيق تعاليم السماء، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (67)، ونستطيع اجمال وظائف الإنسان الخليفة ومهماته بما يأتي (68):

1. عمارة الأرض: وتعني عمارة الأرض استصلاحها واعدادها للحرث،

ص: 307

ولا تعني بناءها بالقصور الشاهقة والعمارات الباسقة، وان كانت هذه ضمناً، لكن عمارة الأرض تشمل أيضاً اصلاح نفوس أهلها وهدايتهم الى مسالك الخير والهداية.

2. العدالة: من الوظائف الأساسية للإنسان، امضاء منهج العدل، فقد خاطب الله تعالى الإنسان بان يحكم بالعدل منصفاً بني جنسه من نفسه، امراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وغيرها من أعمال البر والخير..

3. العبادة (المعرفة): ان عبادة الله تعالى أو معرفته هي الوظيفة الأساسية للإنسان، والمعرفة هي السبيل الوحيد للوصول إلى الحقائق المجهولة، والاسرار الخفية التي تسير هذا الكون..

نعم ظهرت آثار الإنسان الخليفة في هذه (الخلافة على الأرض ونحن نشاهد عجائب صنعه في المعدن والنبات، وفي البرّ والبحر والهواء، فهو يتفنّن ويبتدع، ويكتشف ويخترع ويجدّ ويعمل، حتى غيّر شكل الأرض فجعل الحزن سهلا، والماحل خصباً، والخراب عمراناً، والبراري بحاراً أو خلجاناً، وولد بالتلقيح أزواجاً من النبات لم تكن..) (69)، وهذه المعاني التربوية القرآنية التي أرادها الله سبحانه من الإنسان نلحظها في فكر الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة، إذ يقول علیه السلام - بعد كلام عن آدم علیه السلام -: (فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة به على عباده..) (70)، وهنا الإمام علیه السلام يوضح المهام ذاتها التي كلّف الله سبحانه بها خليفته، من عمارة الأرض بكل ما تحمل كلمة عمارة من معنى وفي كل المجالات المادية منها أو المعنوية، وان هذا الاستخلاف تُبنی روابطه بين الإنسان وأخيه، ومن ثم تكون علاقة الإنسان بالمجتمع، وبهذا يكون الإعداد والتربية المسبقة والآنية للإنسان في سلوكياته وتفكيره لما فيه صلاح الأرض ومن ابرز مصاديق الصلاح

ص: 308

للأرض هو صلاح الإنسان مع مجتمعه فكل نفع وأعمار للأرض هو نفع وأعمار للفرد الآخر وهذا اسمى معاني الأعمار.

وهذا المعنى التربوي المجتمعي في الاستخلاف وإقامة الحكومة العادلة التي تسوس الناس بالحق بعيداً عن الهوى، يتضح أكثر في خطاب الله تعالى لنبيه داود علیه السلام، إذ قال تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى» (71)، ومن هنا يكون مبدأ الاستخلاف التربوي بما تقدم من معطيات غاية الوجود الإنساني الذي (يمكن إيجازه في كلمات قصيرة وعميقة، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أن الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ، فعليها أن تثبت أُسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان، وبعبارة أُخرى: إن الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة) (72).

فنلحظ ان التربية القرآنية لم تهمل الإنسان في عالم الدنيا من غير مهام رسالية من أعمار للأرض بكل معانيه، وهذا الأثر ليس ببعيد في فكر الإمام علي علیه السلام إذ نجد الإمام يحث في تربية الناس على اغتنام فرصة وجودهم في الحياة الدنيا لإقامة الحق والعدل والاستخلاف الحقيقي، فيقول علیه السلام: (ايها الذام للدنيا.. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غني لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببینها) (73)، ونلحظ أن الإمام علي علیه السلام يذكر ثمان موارد تجعل من الإنسان مستعمراً لهذه الدنيا، عاملاً فاعلاً منسجماً غير منزوٍ فيما أراده الله منه في استخلافه إياها، ذاكراً له علیه السلام منهج قويم في التعايش الناجع، وهذه الصفات هي (74):

ص: 309

1. أنّها دار صدق لمن صدقها: أي فيما أخبر به بلسان حالها من فنائها وزوالها، وتصديقه لها اعترافه بذلك منها والعمل به.

2. ودار عافية لمن فهم عنها ما أخبرت عنها من عظاتها حتّى احترز من آفاتها وعوفي من عذاب الله بها.

3. ودار غني لمن اتّخذ فيها التقوى زادا لسفره إلى الله، وظاهر أنّ التقوى وثمرتها في الآخرة أعظم غنى للمتّقين.

4. ودار موعظة لمن اعتبر بها فعلم وصفها وغايتها.

5. كونها مسجد أحبّاء الله من رسله وأوليائه.

6. كونها مصلَّی ملائكة الله الأرضيّة الَّذين سجدوا لآدم عليه السّلام.

7. كونها مهبط وحي الله.

8. كونها متجر أولياء الله الَّذين اكتسبوا بعبادتهم فيها رحمته وربحوا جنّته.

ثمّ استفهم علیه السلام بعد هذه المادح عمن يذمّها منكراً عليه ومبيّناً لأحوال أخرى لها ينافي ذمّها أي فمن ذا يذمّها ولها الصفات المذكور وهي على هذه الأحوال.

وفي اتمام الأثر القرآني المتقدم من استخلاف نبي الله داود علیه السلام وبيان أهمية الحكومة أيضاً ودورها في اعمار الأرض والحفاظ على الأمن واقامة العدل، يقول الإمام علي علیه السلام: (السلطان وزعة الله في أرضه) (75)، فالسلطان العادل وضعه الله (في أرضه ليمنع به ما یرید منعه) (76) من الباطل والجور وكل ما فيه فساد للعباد والبلاد، لأن الوظيفة التربوية أساس من أُسس بناء المجتمع المسلم وهي مسؤولية الدولة المسلمة ووظيفة من وظائفها بعدِّها مكلفة من هذا المجتمع بالقيام على مصالحه والحفاظ على مقوماته.

ص: 310

ثانياً: مبدأ الحرية والاختيار:

لعل من أولى أساسيات الحرية عند الإمام علي علیه السلام هو اعطاؤه الحرية الشخصية للإنسان، أي ان يكون الإنسان حر التصرف في اموره الشخصية من دون قید منع ایذاء الجماعة، كما ان منح الحرية الشخصية المنضبطة للإنسان لا بد ان تبدأ من اشاعة هذا المفهوم داخل المجتمع وفي أولى نواة وهي الاسرة كأسلوب لتربية الأبناء، وهذه اشارة مهمة ولاسيما في تلك الحقبة من التاريخ، إذ يقول الإمام علیه السلام: (لا تفسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم) (77). ويعلق جورج جرادق على هذا المبدأ العلوي قائلاً: (ان الإمام ينادي بمبدأ (الولادة الحرة)، فان الابناء ان تخلصوا من القسر والإكراه والاستعباد من جانب السلطة والقوانين، فانهم لا يتخلصون عادة من اخلاق ابائهم وعاداتهم وميولهم وسائر ما يفرض عليهم بحكم نزوع الآباء الى ان ينشأ اولادهم على مانشأوا عليه ... وان الحرية لا تتقيد حتی بشروط يضعها الآباء قسراً أو فرضاً لأن الحرية في أقصى معانيها وأهدافها دافع الى التطور وباعث على التقدم) (78).

وهذا الجانب التربوي الذي يقرره الإمام علي علیه السلام من روائع حكمه التي فاقت عصره، بل وحتى عصرنا وبكل نظرياته ومدارسه الحديثة، فإرشاده التربوي هذا عن الهام رباني نابع من لدن إنسان هضم تعاليم السماء المنسجمة مع كل واقع وزمان ما بقیت الليالي والأيام، فهو علیه السلام المستنير بنور الهدى المحمدي والرشاد القرآني وهو علیه السلام بهذا أحق بالاتباع، قال تعالى: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (79).

فالإمام علي علیه السلام حين يوصي الآباء بعدم فرض تقاليدهم وموروثاتهم على ابنائهم إذان لكل جيل خصائصه ومميزاته المنسجمة مع زمانه فهو علیه السلام يفسح

ص: 311

المجال لحرية الأبناء للأختيار من المنظومة الإسلامية المتكاملة، وفي الوقت ذاته نلحظ ضمناً ان الإمام علیه السلام يرشد الأبناء بعدم التقليد والاتباع الأعمى حتى لا تكون سُنة متبعة في التربية، ويحثهم على التحرر من ربقة تلك التقاليد التي لا تمت للعقيدة الإسلامية بصلة، وهذا المعنى عند الإمام علیه السلام واضح تأثره بكثير من النصوص القرآنية التي دعت الى نبذ هكذا تربية، بل وزجرت التقليد الاعمى للأبناء، وهذا ما نلحظه في قوله تعالى: «قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (80)، فاتباع التربية التي شرعها (العبيد، وتركوا ما شرعه رب العبيد، ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد، واختاروا عبودية العقل والضمير، للآباء والأجداد،..، فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم، ولا يركن أحد الى شرع نفسه أو شرع أبيه، وبين يديه شرع الله وسنة رسوله،..، وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول!) (81).

وفي جانب آخر من جوانب مبدأ الحرية ما نلحظه في القرآن الكريم، وفي قوله تعالى: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» (82)، فمن مهام النبي صلی الله علیه و آله وسلم الرسالية هو تحرير الناس من نير العبودية، وبث روح التحرر في نفوسهم ونبذ الخنوع والذل والهوان، كل ذلك في تربية اجتماعية تنماز بها هذه الأمة عن غيرها من سالف الأمم إذا ما تمسکت بتعاليم السماء واتبعت ارشادات قادتها الملهمين، إذ (أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع الساحة الفطرية، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة، وإذلال الرؤساء، وشدة الأقوياء على الضعفاء، وما كان يحدث

ص: 312

بينهم من التقاتل والغارات، والتكايُل في الدماء، وأكلهم أموالهم بالباطل، فأرسل الله محمداً صلی الله علیه و آله وسلم بدین من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائِد) (83).

ومن مبدأ التحرر التربوي وما أسسه القرآن الكريم من مهام الإنسان القيادي اتجاه أمته ومجتمعه، نلحظ هذا الأثر واضحاً جلياً في فكر الإمام علي علیه السلام وهو يمارس دوره القيادي اتجاه مجتمعه، وكيف يجعل من المجتمع أبّي للضيم وغير خانع، وهذا ما أراده القرآن الكريم في تحرير المجتمعات وتربيتها على الحرية المنضبطة، فيقول الإمام علیه السلام: (لقد أحسنت جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم، وأعتقتكم من ربق الذل، وحلق الضيم) (84)، فدفع علیه السلام عنهم ذلّ الأسر وظلم الأعداء، والمقصود حمايته علیه السلام لهم وتحريرهم من ذل عدوهم وضيق البؤس جراء ذلك الهوان الذي اصابهم من عدوهم، فأعزهم بان بصرهم بقيمة وجودهم وغاية التربية التي تنشدها السماء لهم بان يكونوا اعزة کرام، والإمام علیه السلام بهذا يكون أثراً متأثراً بشخصية رسول الله = القيادية في مهامها الرسالية كما مرّ بنا في مهام رسول الله، إذ يصنع مجتمع متربي على التحرر من كل انواع العبودية إذا ما التزم الأخير بمبدأ التربية بالحرية والاختيار ولم يكن مجتمع أمعه!

ومن ثم يتسامى المجتمع بهذا المبدأ التربوي، رافضاً كل اشكال العبودية، رافضاً إياها من ذاته التي تربت على أن الحرية جزء لا يتجزأ من كيانها، يقول الإمام علي علیه السلام: (ولا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرا) (85)، وهنا يحمّل الإمام علیه السلام (الإنسان مسؤولية نيل الحرية والمحافظة عليها، وكذلك نشر الوعي في ضمن الأمة، فحرية الإنسان لا توجد بقانون أو دستور ينظمان الحرية نظرياً وانما هي هبة إلهية لا يمتلك سلطان في الأرض أن نتزعها من الإنسان إلا خاطئاً يجب مواجهته ومقاومته) (86).

ص: 313

ثالثًا: مبدأ الرَفق التربوي:

معلوم ان الإمام علي علیه السلام كان شديداً في تربية نفسه، صارماً في تهذيبها، وهو القائل: (أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه) (87)، وقوله: (أفضل الأعمال أحمزها) أي اشتها واصعبها على النفس، وهو علیه السلام بهذا أراد (من الأعمال الصالحة، وأفضلها أنفعها وأكثرها استلزاما للثواب، وإنّما كان كذلك لأنّ فائدة الأعمال الصالحة تطويع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة ورياضتها بحيث تصير مؤتمرة للعقل وإكراه النفس على الأمر يكون لشدته فكلمَّا كان أشدّ كان أقوى في رياضتها وأنفع في تطويعها وكسرها وبحسب ذلك يكون أكثر منفعة فكان أفضل) (88).

إلا انه علیه السلام في مجال التعامل الاجتماعي تكون سلوكياته علیه السلام منطلقة من مبدأ تربوي آخر هو مبدأ الرفق، ومراعاة قدرات البشر ونفوسهم.

فنلحظه علیه السلام في وصيته لأبنه الإمام الحسن علیه السلام رفيقاً حنوناً في عباراته ووعظه، مشفقاً فياضاً بالرحمة، فيقول علیه السلام: (بني وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي فكتبت إليك...) (89)، کلمات نابعة من إنسانية جياشة بالودّ والعطف والرقة، والإمام علیه السلام لم يكتم هذا الحب الأبوي الفطري، وهكذا (كل والدیری و جود ولده امتداداً وتكراراً لوجوده، و قرة عين له ما كان ليحظى بها لو لم يوجد، هذه هي عاطفة الأبوين نحو الولد) (90)، لكن الإمام علیه السلام اظهره إلى ولده بهذه الكلمات ولم يبخل بها علیه کما لم يدخرها دونما نفع، وليس کما هو حال كثير من الآباء الذين ربما يخجلون من ابداء حبهم الفطري لبنيهم، فلا يعبرون بأي كلمات عن ذلك، فيكون الجفاف العاطفي في هكذا أسرة.

وبطبيعة الحال الإمام علي علیه السلام لم يكتف بالعبارات الحانية والرقيقة لولده حتى

ص: 314

جسدها بكلمات الوعظ والارشاد والنصح الحقيقي والحب الواقعي في اروع ما يكون من رفق، فنلحظه يقول علیه السلام: (فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد کفیت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة) (91).

فالإمام علیه السلام يشفق على ولده من خطوب الدنيا وآفات الانحراف العقدي ولو على سبيل المستقبل، ومن باب الرفق لا يعاجل ولده بالعلوم حتى لا تنفر نفسه منها، ولا يتذمر من اسلوب الوعظ فيخالج نفسه الملل، وحين ذاك لا تنفع الموعظة ولا تثمر النصيحة، بل وان الإمام علي علیه السلام نبّه ولده من عاقبة عدم الالتزام بالوصية لما فيه من نتائج وخيمة وخسائر دنيوية وآخروية على شخصه، وواضح ان كلام المعصوم للمعصوم هو رسالة موجهة الى عامة الناس، وهي من الاساليب التربوي التي جاءت تحت عنوان: (إياك اعني واسمعي ياجاره).

فهذه الوصيّة عامّة تامّة أخرجها الإمام علي علیه السلام إلى ابنه الحسن علیه السلام وجمع فيها أنواع المواعظ والنصائح الكافية الشافية وصنوف الحكمة العملیّة الوافية، وكفى بها دستوراً إرشادياً لكلّ مسلم بل لكلّ إنسان، فكأنّه علیه السلام جرّد من نفسه الزكيّة والداً للكلّ أو نموذجاً لجميع الوالدين، وجرّد من ابنه الحسن علیه السلام ولداً لكلّ الأولاد أو نموذجاً لجميع الأبناء في أىّ بلاد، ثمّ سرد النّصائح ونظَّم المواعظ لتكون وصيّته هذا إنجيلاً لأمّة الإسلام.

يقول الشيخ ميثم البحراني في شرحه للمقطع المذكور من الوصية: (أي كنت رأيت أن اقتصر بك على ذلك ولا أتجاوز بك إلى غيره من العلوم العقليّة، ثمّ خفت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل ما التبس عليهم: أي التباساً مثل الالتباس عليهم فكان إحكام ذلك: أي ما اختلف الناس

ص: 315

فيه على ما كرهت من شبهك له أحبّ إلىّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة في الدين، وذلك الأمر هو ما اختلف الناس فيه من المسائل العقليّة الإلهيّة الَّتي يكثر التباس الحقّ فيها بالباطل، ويكتنفها الشبهات المغلَّطة الَّتي هي مظنّة الخطر والانحراف بها عن سبيل الحقّ إلى سبيل الهلاك، وإحكام ذلك الأمر ببیان وجه البرهان فيه وكيفيّة الخلاص من شبهة الباطل ومزاجه) (92).

وهكذا هو الأثر القرآني في فكر علي علیه السلام، انه منهج القرآن الحكيم في التربية مع الآخر المستحق للوعظ والارشاد، بان تنتقل التجربة من جيل إلى آخر، لتتحرك في وصایا بناءة للخير والاتزان والمسؤولية والصبر على مشاكل الحياة، أن يصوغ شخصية متوازنة من الداخل، وفي علاقته بالناس وبالحياة من حوله، وهكذا يكون الأب المسؤول في توجيه ولده نحو الاستقامة في الفكر والعمل، يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (93)، ففي وصايا لقمان لأبنه تتجلى (الصورة الإنسانية الحميمة الرائعة، التي تمثل النموذج الأمثل للمسؤولية التي يتحملها الجيل القديم بالنسبة الى الجيل الجديد، في علاقة الآباء بالأبناء، فقد سبقوهم الى التجربة، في ما توحي به من المعرفة، والى التأمّل، في ما يوحي به من العلم، ولذلك فقد كان من الطبيعيّ للجوّ العاطفي الحميم أن يعمدوا الى اختصار المرحلة التي يحتاج الأبناء الى أن يقطعوها في وقت طويل، والى تقديم التجربة، وتحريك المعرفة في حياتهم، ليبدأوا بدايةً طيبةً من الموقع الثابت الصلب، القائم على بدايات الآخرين، لئلا يحتاجوا الى أن يرجعوا الى نقطة البداية) (94) في علاقاتهم الاجتماعية فيختزنون بمبدأ الرفق التربوي تجارب الآباء، ويختزلون أيام طوال ومحن لم يعيشوها بآلام واحزان نفوسهم، بل قدمت بطبق غيرهم، كل ذلك من أجل حياة اجتماعية هانئة مصونة بالحكمة والموعظة والتجربة.

ص: 316

وفي موضع آخر من التعامل مع الآخرين من غير أهل بيته علیهم السلام، نرى الرفق متجسداً أيضاً في فكر الإمام علي علیه السلام، وان الرفق مما تجني ثماره عاجلاً أو آجلاً وانه ينبه على ان الرفق أولى من العنف، إذ يقول موصياً أحد اصحابه: (وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة) (95)، ومعنی کلامه علیه السلام أي (اعتدل في معاملتك مع الناس، لا شدة ولا لين، بل بين بين، على أن الرفق أسلم من العنف لدينك ودنياك، قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: (الرفق يمن ما وضع على شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) (96)، ولا تستعمل العنف إلا للقضاء على العنف، وحيث لا يغني عنه شيء) (97).

ومعاني الرفق في القرآن الكريم وافرة، ووقع أثرها مما لا يخفى على فكر علي علیه السلام التلميذ القرآن وهو أولى الناس بالعمل بما جاء من تعاليم واساليب ومبادئ تربوية، ونختصر منها ما يفي بيانه في هذا المقام، يقول تعالى: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (98)، والعلّة في هذا الاسلوب في الأمر القرآني لنبييّن کريميّن بأن يُخاطبا فرعون بمبدأ الرفق واللين هو کما تقدم لأجل تثمير النصيحة وعدم نفوره من الوعظ، فمعنى الآية هنا: (أنّكما إذا واجهتماه بکلام لطيف، رقیق، ملائم، وتبيّنان في الوقت ذاته المطالب بصراحة وحزم، فيحصل أحد الإحتمالين: أن يقبل من صميم قلبه أدلتكما المنطقيّة ويؤمن، والإحتمال الآخر هو أن يخاف على الأقل من العقاب الإلهي في الدنيا أو الآخرة، ومن زوال ملکه وقدرته، فيذعن ويسلم ولا يخالفكما)) (99).

وفي موضع آخر من القرآن الكريم نلحظ هذا المبدأ التربوي - الرفق - حاضراً في وصيّة الله سبحانه لنبيه الكريم صلی الله علیه و آله وسلم في كيفية التعاطي مع الآخر المسيء، فيقول الله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ» (1..)، وفي ذلك ارشاداً تربوياً

ص: 317

في التعامل مع المجتمع بمقابلة الاساءة بالرفق واللين، وفي مبدأ الرفق (الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان الى من يسئ إليه، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة) (101).

ومن المعلوم ان التعامل الاجتماعي ليس مختصراً على القول اللفظي فقط، بل هذا من ضمنه وإلا فهو أوسع ويشمل كل ما فيه رفق کالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، معونة اليتامى والمساكين، إصلاح البيوت وذات البين، والنصيحة للكبير والصغير وغيرها من الجوانب العملية، وهذا ما نلحظه في تفسير قوله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» (102)، يقول محمد رشید رضا: (وليس معناه مجرد التلطّف بالقول والمجاملة في الخطاب؛ فالحسن هو النافع في الدين أو الدنيا، وهو لا يخرج عمّا ذكرنا فلما كان هذا النوع من الحقوق مستقلاً بذاته جاء بأسلوب آخر، ولا شك أن في القيام بهذه الفرائض إصلاح الأمّة كلّها) (103).

وهذه المعاني القرآنية الحاثة على مبدأ اللطف والرفق هي من أساسيات الهدي القرآني والارشاد للناس في التعامل اليومي، لما تنشده النصوص القرآنية من تعایش سلمي، ولا سيما لو كان مبدأ الرفق واللطف صادر من جهة حاكمة في الناس، إذ تكون اكثر قوة في ترسيخ هذا المبدأ فلا يكون مجرد شعارات لا مضمون لها ولا واقع عملي حقيقي في واقع الحياة، فنجد تجسد هذا المعنى في وصية الإمام علي علیه السلام الی وآليه على مصر الصحابي مالك الاشتر، فيقول له: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه) (104).

ص: 318

فهذه الكلمات النورانية المشعة بالحكمة والارشاد والتربية هي انعكاسات فعلية للأثر التربوي القرآني، في فكر الإمام علي علیه السلام، وهي في الوقت ذاته دعوة مفتوحة على مر الاجيال وتعاقب الازمان للحكام والولاة وكل من نصب نفسه للناس قائداً سواء كان تحت ولايته أهل بيته أو مؤسسة عامة، عليه ان يجعل هذا المبدأ أسٌ في تعاطيه مع مجريات الاحداث والوقائع.

رابعاً: مبدأ الاعتدال والوسطية:

الوسطية هي التوازن، والتوازن هو العدل، قال تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (105)، وسطاً في كل شئ، متوازنين في كل ما نقوم به من نشاط، فالوسطية التوفيق بين أشياء كثيرة، كالتوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب الجموع، والتوفيق بين العمل للعاجلة والآجلة وهكذا، يقول محمد رشیدرضا: (إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفریط وتقصير، وكلّ من الإفراط والتفريط ميل عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما) (106).

وهذا الأثر القرآني في الوسطية نجده حاضراً في فكر الإمام علي علیه السلام، إذ يقول في نهج البلاغة: (اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادّة، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة، ومنها منفذ السنة وإليها مصير العاقبة) (107)، فالوسطية هي الطريق الموصلة لسالكها إلى المطلوب وهي إرادة السماء، وذلك لأنّ طريق السّالكين إلى الله ينتهجون سبيل العلم والعمل، فالعلم طريق القوّة النّظرية، والعمل طريق القوّة العمليّة، وكلّ منهما محفوف برذيلتين هما طرفا التّفريط والافراط، والوسط منهما هو العدل والطريق الوسطى هي الجادّة الواضحة لمن اهتدى سبيل الرشاد، إذن (المنهج السوي الذي يجب شرعاً وعقلاً أن يسير عليه الأفراد والجماعة

ص: 319

هو القائم بين الإسراف والتقصير، فكل من هذين شر وفساد، وما بينهما خير وصلاح.. وقد رأينا الناس يحبون الرجل المعتدل في سلوكه وأعماله، ويثقون به ويصفونه بأوصاف الكمال والتقدير العاقل والمتزن، بل ويستشيرونه في المهمات من أمورهم، ولا وزن عندهم للمقصر أو المسرف، وان كان دماغه مخزناً للعلوم والآراء والأرقام) (108).

ولا يذهب الباحث بعيداً لو أراد ان يجد أثراً آخراً من آثار مقاصد الاعتدال القرآنية التربوية في فكر الإمام علي علیه السلام وفي قوله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا» (109)، فهذه الآية الكريمة تعبير عن مجال تربوي فعلي، ولكنه يضم في طياته جانباً تربوياً حركياً في المجتمع معبراً عن كوامن النفس الإنسانية المستقرة، تعبير عن مشية معتدلة، فهم (يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل، فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر، والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة، فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة، وليس معنی: (يمشون على الأرض هوناً) أنهم يمشون متماوتين منکسي الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان؛ کما یفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح!) (110).

فهذه المشية المتزنة، ذات البُعد الفعلي والحركي في المجتمع، هي من دلالات الوسطية والاعتدال، لا بطئ مفرط ولا سرعة فيها تفريط، وكذلك هي علاقتنا في حياتنا الاجتماعية، يجب ان تكون بين السرعة الغلو والبطء التفريط، فأي علاقة اجتماعية يجب ان تكون وسطية معتدلة، وهذا المعنى القرآني واضح الأثر في

ص: 320

توصيات أمير المؤمنين علیه السلام، فيقول : (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) (111)، وذلك أن مفسدة إفراط المحبّة فلاستلزامه (اطَّلاع المحبّ لمحبوبه على أسراره وتوقيفه على أحواله فربّما ينقلب بعد ذلك عدوّا له فيكون أقدر على هلاكه من غيره من الأعداء، وكذلك مفسدة إفراط البغض وهو عدم الإبقاء على المبغوض وذلك يستلزم دوام المعاداة، فالاعتدال في ذلك أولى لأنّه ربّما عاد العدوّ إلى الصداقة فكان المبغض قد أبقى للصداقة موضعاً، وتقدير كبرى الأوّل: وكلّ حبیب جاز أن يكون عدوّا في وقت ما فينبغي أن لا يفرط في محبّته، وتقدير كبرى الثاني: وكلّ عدوّ جاز أن يكون صديقاً يوماً ما فينبغي أن لا يفرط في بغضه) (112).

واكمالاً للفائدة الاجتماعية في علاقتنا مع الآخرين، يوصينا الإمام علیه السلام على ضرورة مراعاة حق الصديق والحبيب وان لا تكون اهون علاقة يضيع فيها الالتزام والاحترام، فيقول الإمام علي علیه السلام: (ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتکالاً على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه) (113).

فالعلاقات الاجتماعية كثيراً ما تحدث القطيعة فيها، ولأسباب عديدة، ولكنها تستأنف مرة أخرى بحبل أقوى وأوثق إذا كان مع الهجر عقل (ومن ظن بك خیراً فصدق ظنه) من وثق بنُبلك فكن عند ثقته، فإنها قوة لك وثروة، والعكس صحيح أي من ظن بك شراً فكذّب ظنه بعمل الخير، (ولا تضيعن حق أخيك..)، فإن أراد مقاطعة أخيه أن يبقي له من نفسه بقيّة من صداقته ولا يفارقه مفارقة كلَّيّة (إذا هویت فلا تكن غالياً، وإذا تركت فلا تكن قالياً)، فللصداقة حرمتها، وللصديق حقوقه، ومبدأ الوسطية والاعتدال في العلاقة حُباً أو بُغضاً هو عون في حياة اجتماعية مستقرة وأساس يقيّني الخيبة والحسرة، ولا يجعل من الخسارة أبدية

ص: 321

ان كان مبدئاً تربوياً نتكأ عليه في كل علاقاتنا الاجتماعية.

ومن وسائل التنمية البشرية في المجتمع الإسلامي يثير الإمام علي علیه السلام جملة من التشخيصات التي تجعل للحياة بين الأفراد منسجمة في وئام، وينبه الى ان يستثمر الناس وجودهم بالدنيا بالنفع والبرّ وعمل الخير، يقول علیه السلام: (أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام،..) (114)، فالدنيا في فكر الإمام علیه السلام (وسيلة، والهدف هو العمل لبناء مجتمع صالح، كما أراده الله ورسوله) (115).

کما وحذرت التعاليم والإرشادات الإسلامية من التفاعل الاجتماعي السلبي، ونهت عن جميع العوامل والمقدمات المؤدية إليه التي لا حصر لها، قال الإمام علي علیه السلام (لا تغضبوا ولا تغضبوا افشوا السلام واطيبوا الكلام) (116)، وما هو معلوم ما للغضب من نتائج وخيمة في العلاقات الاجتماعية، وما يترتب عليه من آثار سلبية لا تحمد عقباها، يقول الإمام علي علیه السلام في النصح بالابتعاد عن رذيلة الغضب: (واكظم الغيظ وتجاوز عند المقدرة، واحلم عند الغضب) (117)، وكذلك وجب الاجتناب عن سائر الأخلاق المذمومة التي نهت عنها تعاليم السماء واكدت على النهي عنها سنة المعصوم علیه السلام، من أجل بناء مجتمع محصن في داخله آمن في ظاهره، ومن حياة وتعايش آمن ومستقر.

إذن تتضمن المبادئ التربوية الإسلامية الى لم شعت الأفراد وربط قلوبهم وعواطفهم برباط متين ثابت لا يتغير ما دام الأفراد يتعهدونه بالالتزام وما ينتج عنه من سلوك عملي ومن وعي لظروف الحياة وتقديرها على وفق التصورات الإسلامية، فكل يعرف حقه فلا يتجاوز ويعرف واجبه فيؤديه على الوجه الاكمل (118).

ويتضح مما تقدم ان التفاعل الاجتماعي والتأثير المتبادل بين الأفراد أو

ص: 322

بين الجماعات هو عن طريق احتكاك الآراء وتبادل المشاعر والأذواق وتفاعل الممارسات، وفي الطباع والأمزجة، وفي الاستعدادات والاهتمامات، وفي الأخلاق والمشاعر ويتضح أيضاً ادراك المسؤولية الاجتماعية وتحديد السلوك في ضوء الموازين والمعايير الاجتماعية التي تحد لكل فرد دوره، ومن اشكال التفاعل الاجتماعي الايجابي والوانه: التعاون والتوافق لكي تتجذر العلاقات والوشائج فلا تنفصم لأول خاطر ولا تنفك لأول نزوة.

وأخيراً .. سيظل «نهج البلاغة» نبراساً مشعاً يهندي بنوره السائرون، وينهل منه المنتهلون، ولن يستطيع الضباب مهما تكاثف حجمه واتسع امتداده ان يحجب الشمس عن العيون.

ص: 323

خاتمة ونتائج:

1. ان اهداف النصوص القرآنية هو تربية الإنسان، وان هذا الهدف واضح جلي في فكر الإمام علي علیه السلام من خلال نهج البلاغة.

2. من اهداف التربية الإصلاح والتهذيب، حيث تُبذل جهودٌ كبيرة ومستمرة لرعاية الإنسان، وإصلاح أحواله، وعدم إهماله، بدءاً من الأسرة، مروراً بالمدرسة، ودور العلم، ووعظ العلماء، وقراءة الكتب، وسماع البرامج الهادفة... وهذا وغيره يساعد في إصلاحه، وإثراء نفسه بالعلم المفيد، والنهج السديد، إذ يرتبط طلب العلم بمناهج التربية، مما يعطي الإنسان مع مرور الوقت خبرات ومهارات وتوجيهات، تساعده على تحقيق أهدافه في الحياة، فللتربية دورها الرائد، وأثرها العميق في توجيه ميول الإنسان، وربطه بالأخلاق الحميدة، والعلاقات الإنسانية الراقية، وكبح جماح الشهوات، ورفع القوي نحو الخير والصواب.

3. ان المبدئ التربوية دين ملتزم به، بل هي أصل من أصول المنهاج الإلهي، وليست مجرد فضائل فردية، أو آداب اجتماعية، أو أذواق حضارية.. الخ.

4. ان الفكر الإنساني مهما تعمق وأحاط وشمل يظل غير قادر على التبصر الكامل بحقيقة الإنسان الذي هو موضوع التربية، بينما خالق هذا الإنسان هو الاعلم به، وهو الادري بهذه الحقيقة، وفقا لهذه القاعدة التي تؤكد لنا ان صانع الشي هو الأعلم بما يجب أن يكون عليه. وتأسياً عليها يتحتم علينا الأن أن نربي ونعلم وأن ننشئ أجيالنا وفقاً لهذا التصور الذي نجده في مصدري الإسلام الاساسيين وهما القرآن الكريم وسنة المعصوم.

ص: 324

5. التربية في فكر الإمام علي علیه السلام تربية مستندة على نصوص قرآنية، فهي بالتالي متأثرة بها، ونابعة منها، فهي تربية مثالية في عقيدتها وواقعية في معاملاتها لأنها تتعامل مع إنسان يعيش على ظهر الأرض، لامع إنسان خيالي، أي انها تبدأ بالإنسان من حيث هو إنسان، ثم تعمل على ايصاله الى كماله الإنساني، فالمبادئ التربوية لا تعمل في فراغ بل انها تتفاعل مع ما غرسه الله سبحانه وتعالى في طبيعة الإنسان، والتربية الإسلامية عملية لان الكون الذي يتفاعل معه الفرد حقيقة موضوعية لا فكرة مجردة.

6. تحقيق المبادئ التربوية أساس من أسس بناء المجتمع المسلم وهي مسؤولية الدولة المسلمة ووظيفة من وظائفها باعتبارها مكلفة من هذا المجتمع بالقيام على مصالحه والحفاظ على مقوماته.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، 2/ 34.

2. عبد الوهاب أبو سليمان، البحث العلمي، ص 25

3. وقد كانت لمشاورة الدكتور نعمه الاسدي سهم وافر في تحديد عنوان البحث، والتشجيع للمشاركة، فله مني الشكر والثناء.

4. ظ: أميرة برغل، المبادئ والأساليب التربوية في نهج البلاغة دراسة مقارنة -، ص 193.

5. ظ: د. مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية الاساسية، ص 23.

6. عبد الوهاب أبو سليمان، البحث العلمي، ص 25.

7. ظ: سعيد اسماعيل علي، اصول التربية العامة، ص 15.

8. ظ: لطفي بركات احمد، التربية ومشكلات المجتمع، ص 1.

9. نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، 3/ 312.

10. المصدر نفسه.

11. محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ع في الكتاب والسنة والتاريخ، 9/ 140.

ص: 325

12. محمد الريشهري، ميزان الحكمة، 3/ 1881.

13. المصدر نفسه، 3/ 1876.

14. سورة ص، 172.

15. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 120.

16. سورة الاعراف، 172.

17. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 5/ 196، وللتوسعة في هذه الآراء ظ: الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، 5/ 27، الرازي، مفاتيح الغيب، 15/ 39، الطبرسي، مجمع البيان، 281/4، محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 8/ 265، واما الشريف المرتضى فقد نفاه، ظ: أمالي المرتضى، 1/ 28.

18. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 23.

19. الطبرسي، مجمع البيان، 4/ 281.

20. في ظلال القرآن، 3/ 1391.

21. قرائنها: جمع قرون وهي النفس.

22. أحنائها: جمع حنو وهو الجانب.

23. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1 / 40.

24. مجمع البيان، 281/4.

25. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 158.

26. سورة الانعام، الآية 103.

27. سورة البقرة، الآية 29.

28. سورة البقرة، الآية 115.

29. سورة آل عمران، الآية 120.

30. سورة الانعام، الآية 73.

31. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 210/1.

32. ميثم البحراني (ت 679 ه)، شرح نهج البلاغة، 519/3.

33. سورة التوبة، الآية 105.

34. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 9/ 334.

35. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 159.

ص: 326

36. سورة البقرة، الآية 186.

37. سورة هود، الآية 61.

38. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 288/11.

39. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 169.

40. سورة الحشر، الآية 18.

41. سورة القلم، الآية 34.

42. سورة البقرة، الآية 197.

43. ناصر مکارم الشيرازي، الامثل في تفسير كتاب الله المنزل، 401/18.

44. في رحاب نهج البلاغة، ص 152 - 155.

45. برز الرجل على أقرانه أي فاقهم. والمهل: التقدم في الخير، أي فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره، اهتبل الصيد: طلبه، وكلمة الحكمة: اغتنمها، والضمير في هبلها للتقوى لا للدنيا، أي اغنموا خير التقوى.

46. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 15.

47. المصدر نفسه، 1/ 48.

48. سورة الأعراف، الآية 128، سورة هود، الآية 49، سورة القصص، الآية 83

49. سورة ص، الآية 49.

50. محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، 19/ 278.

51. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 135.

52. سورة الحجرات، الآية 13.

53. سید قطب، في ظلال القرآن، 6/ 3348.

54. سورة الطلاق، الآية 2.

55. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 112.

56. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، 3/ 30.

57. سورة الحديد، الآية 23.

58. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 102/4.

59. في ظلال نهج البلاغة، 4/ 282.

60. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 7/4.

ص: 327

61. سورة البقرة، الآية 200 - 202.

62. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 2/ 68.

63. الزمخشري (ت 538 ه)، الكشاف، 1/ 276، البيضاوي (ت 791 ه)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 1/ 182، محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 2/ 71.

64. ظ: الصلة بين التصوف والتشيع، ص 44.

65. المتقي الهندي، كنز العمال، 626/11، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، 166/9.

66. البلاذري، انساب العرب، 6/ 167، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3/ 55.

67. سورة البقرة، الآية 30.

68. ظ: د. عبد الرضا حسن جياد، بحوث في العقيدة والتصوف، ص 157.

69. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، 1/ 230.

70. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 177.

71. سورة ص، الآية 26.

72. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 361/14.

73. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 32/4. آذنت: بمد الهمزة أي أعلمت أهلها ببينها أي ببعدها وزوالها عنهم، ونعاه إذا أخبر بفقده، والدنيا أخبرت بفنائها وفناء أهلها بما ظهر من أحوالها.

74. ظ: ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 433.

75. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 4 / 78.

76. ظ: ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 479. الوزعة: الوازع وهو الرادع المانع.

77. نهج البلاغة، شرح بن ابي الحديد، 20/ 267.

78. علي صوت العدالة الإنسانية، 1/ 344.

79. سورة يونس، الآية 35.

80. سورة المائدة، الآية 104.

81. سيد قطب، في ظلال القرآن، 2/ 991.

82. سورة الاعراف، الآية 157.

83. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 8/ 319.

84. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 55.

85. المصدر نفسه، 3/ 51.

ص: 328

86. د. غسان السعد، حقوق الإنسان عند الإمام علي ع، ص 119.

87. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 4 / 54.

88. ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 460.

89. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 41.

90. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، 3/ 302.

91. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 38.

92. شرح نهج البلاغة، 5/ 263.

93. سورة لقمان، الآية 13.

94. محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، 18/ 189.

95. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 41.

96. الكليني، الكافي، 2/ 119.

97. محمد جواد مغنیه، شرح نهج البلاغة، 4/ 17.

98. سورة طه، الآية 44.

99. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 6/10.

100. سورة المؤمنون، الآية 96.

101. سعيد حوى، الأساس في التفسير، 7/ 3663.

102. سورة البقرة، الآية 83.

103. تفسير المنار، 1/ 321.

104. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 84.

105. سورة البقرة، الآية 143.

106. تفسير المنار، 2/ 6.

107. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 50.

108. محمد جواد مغنيه، في ظلال نهج البلاغة، 1/ 94.

109. سورة الفرقان، الآية 63.

110. سيد قطب، في ظلال القرآن، 5 / 2577.

111. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 4/ 64.

112. ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 465.

ص: 329

113. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 54.

114. نهج البلاغة، شرح ابن ابی الحدید، 1/ 130.

115. محمد جواد مغنية، شرح نهج البلاغة، 3/ 68.

116. الكليني، الكافي، 2/ 645.

117. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 129.

118. ظ: عبد الرحمن النحلاوي، أصول التربية الإسلامية واساليبها، ص 122.

ص: 330

المصادر والمراجع

خير ما نبدأ به: القرآن الكريم

1. امل مهدي كاظم التميمي، الفكر التربوي العربي لدى ابن خلدون وعبد الله ابن الازرق، رسالة ماجستير، كلية التربية (ابن رشد)، جامعة بغداد، 2003 م.

2. أميرة برغل، المبادئ والأساليب التربوية في نهج البلاغة - دراسة مقارنة -، دار اله-ادي، بيروت، 2005 م.

3. البلاذري، انساب العرب، دار الفكر، بيروت، (د ت).

4. البيضاوي (ت 791 ه)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1990 م.

5. جورج جرداق، علي صوت العدالة الإنسانية، دار ذوي القربى، قم، ط 2، 1424 ه.

6. الرازي (ت 604 ه)، مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 2009 م.

7. الزمخشري (ت 538 ه)، الكشاف، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2001 م.

8. سعيد حوى، الأساس في التفسير، دار السلام، بيروت، 1989 م، ط 2.

9. سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط 34، 2004 م.

10. الشريف المرتضى (ت 436 ه)، أمالي المرتضى، تحقيق: محمد ابو الفضل إبراهيم، دار ذوي القربى، قم، 1435 ه.

11. الطبرسي (ت 548 ه)، مجمع البيان، دار الاميرة، بيروت، 2009 م.

ص: 331

12. الطوسي (ت 460 ه)، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق: أحمد حبيب العاملي، دار الأميرة، بيروت، 2010 م.

13. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ، بيروت، (د ت).

14. عبد الرحمن النحلاوي، اصول التربية الإسلامية واساليبها، دار الفكر المعاصر، دمش-ق، 1999 م.

15. عبد الرضا حسن جياد (الدكتور)، بحوث في العقيدة والتصوف، شركة المارد العالمية، النجف الأشرف، 2008 م.

16. عبد الوهاب أبو سليمان، البحث العلمي، دار المعارف، 1987 م.

17. غسان السعد (الدكتور)، حقوق الإنسان عند الإمام علي ع، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 2010 م، ط 2.

18. كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، طبع القاهرة، 1969 م.

19. الكليني (ت 329 ه)، الكافي، دار الكتب الإسلامية، ايران، ط 5، 1363 ه ش.

20. لطفي بركات احمد، التربية ومشكلات المجتمع، مطابع سجل العرب، القاهرة، 1978 م.

21. محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ع في الكتاب والسنة والتاريخ، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر، ط 2، مط: دار الحديث، 1425 ه.

ص: 332

22. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، دار التيار، بيروت، 2013 م.

23. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، دار الكتاب العربي، بغداد، 2009 م.

24. محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، دار الملاك، بيروت، ط 3، 2007 م.

25. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، دار احياء التراث العربي، بيروت، 2010 م.

26. محمد عبده، شرح نهج البلاغة، دار الذخائر، قم، 1412 ه.

27. مرتضى المطهري، في رحاب نهج البلاغة، ترجمة: هادي اليوسفي، دار التبليغ الإسلامي، بيروت، 1978 م.

28. مقداد يالجن (الدكتور)، جوانب التربية الإسلامية الاساسية، 1406 ه، (د ط).

29. محمود البستاني (الدكتور)، دراسات في علم النفس الاسلامي، دار البلاغ، بيروت، 1988 م.

30. ميثم البحراني (ت 679 ه)، شرح نهج البلاغة، منشورات الفجر، بيروت، (د ت).

31. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2005 م.

ص: 333

ص: 334

المرأة في نهج البلاغة الروايات الموافقة للقرآن الكريم دراسة تقابلية م. د. أنوار عزيز جليل جامعة البصرة كلية التربية للعلوم الإنسانية

اشارة

ص: 335

ص: 336

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير السادات أجمعين، أبي الزهراء محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وردت في نهج البلاغة روايات ذكرت المرأة على لسان الإمام علي (ع)، وعند قراءتها للوهلة الأولى نجدها تسيء للمرأة، هذا إذا أخذناها بمعناها الظاهر، ولكن بعد مقابلتها بالقرآن الكريم، اقتداءً بقول الإمام علي (عليه السلام) الذي ذكره في نهجه: «وَاعلَمُوا أَنَّ هذَا القُرآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ، وَالهَادِي الَّذِي لا يُضِلُّ، وُالمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكذِبُ» (1). كان له الأثر الأكبر في إزالة الغموض وتوضيح المقصود.

ويذلك وجدنا أن هذه الروايات لم تقلل من قيمة المرأة بقدر ما رفعت من مكانتها، لأنها قد صانت المرأة وحفظت حقوقها وحقوق غيرها من خلال النظر إلى طبيعتها النفسية والفسلجية، كما في قضية الشهادة.

ونتيجة استغلال أعداء الإسلام هذه الروايات للنيل من الإسلام أولاً، على اعتبار أن الإمام علي (عليه السلام) يؤخذ على الإسلام، وللإيقاع بالمرأة ثانياً، كي تفقد ثقتها في دينها، بدعوى أن الإسلام ينتقص من المرأة، لذا كانت هذه الوقفة مع نهج البلاغة.

ولما كان البحث قد استقرئ ما يدل على المرأة في النهج كله، واتخذ الاستدلال الآيوي (القرآن الكريم حكماً فيصلاً في توضيح الرواية وبيانها، ومعيناً دائماً في

ص: 337

تأكيدها ودعمها، نتيجة لمقابلتها به جاء هذا البحث الخاص بالروايات الموافقة للقرآن الكريم.

الروايات الموافقة للقرآن الكريم

جاءت الروايات الموافقة للذكر الحكيم في سبعة مواضع وكما يأتي:

1- من خطبة له وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا، وفيها يذكر فضل الجهاد، ويستنهض الناس، ويذكر علمه بالحرب، ويلقي عليهم التبعة لعدم طاعته ((... يَا أَشبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ! حُلُومُ الأطفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَال)) (2). نلاحظ هنا أنه ((شبّههم بالرجال شكلاً وهيئة، ثُمّ نفى عنهم الرجولة باعتبار أنهم فقدوا الغيرة والحمية، ووصف أحلامهم بأحلام الأطفال، يريدون الأمور بدون تعب، كما وصفهم بصفات النساء العاجزات، ربات الحجال: النساء، والحجال: جمع حجلة، بيت يزين بالستور والثياب والأسرة)) (3). والتشبيه من أساليب البيان البلاغية (4).

والكلام ليس من الذم في شيء، وإنما هو حقيقة في كليهما، أي في الأطفال النساء. ودليله قوله تعالى: «أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ» (5). وإنما نعتها المولى سبحانه بهاتين الصفتين: التربية في الزينة، وفي المخاصمة غير مبيّنة لحجتها، لأن المرأة أقوى عاطفة من الرجل، ومن أوضح مظاهر قوة عاطفتها تعلقها الشديد بالحلية والزينة (6). فمن كانت هكذا صفاتها كيف ستقود حروب وتحل نزاعات. وهذا يعني أن المقصود بربّات الحجال في خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) هو: من ينشأ في الحلية الذي ورد في الآية الكريمة.

وقولنا بعاطفتها الشديدة هذه ليست ذماً لها، بل على العكس من ذلك، فالله

ص: 338

عظُمت آلاؤه جعل لكل من الرجل والمرأة مؤهلات تستمر بها الحياة، فأعطى الرجل الحنكة والعقل لقيادة الأمور العصيبة، ووهب المرأة العاطفة والحنان لتحتضن بها أطفالها وأسرتها. إلا أنه في الوقت نفسه تبقى هذه الأمور نسبية عند كليهما، أي عند الرجل والمرأة.

2- جاء في خطبة له (عليه السلام) يعنونها الشريف الرضي بقوله: ومن كلام له (عليه السلام) بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء: ((مَعَاشِرَ النَّاسِ، إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الإيِمَانِ، نَوَاقِصُ الحُظُوظِ، نَوَاقِصُ العُقُولِ: فَأَمَّا نُقصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيضِهِنَّ، وَأَمَّا نُقصُانُ عُقُولِهنَّ فَشَهَادَةُ امرَأَتَينِ مِنهُنّ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الوَاحِدِ، وَأَمَّا نُقصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الأنصَافِ مِن مَوارِيثِ الرِّجَالِ؛ فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ، وَكُونُوا مِن خِیَارِهِنَّ عَلَى حَذَر، وَلَا تُطِيعُوهُنَّ فِي المَعرُوفِ حَتَّى لَا يَطمَعنَ فِي المُنكَرِ)) (7).

ويرى البحث أن الشريف الرضي قد جانب الصواب في عنوانه هذا، وذلك لأنه سيتبين لنا أن الخطبة قد استندت على القرآن الكريم واعتمدت عليه، فهل من الطبيعي القول بأن القرآن الكريم ذم المرأة أو انتقص منها أم أنه دافع عنها وأنصفها. ثُمّ أن الإمام (عليه السلام) قد بيّن حقيقة كل نقص.

فقوله (عليه السلام) في توضيح معنى نواقص الإيمان فقد أيدته الآية المباركة: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» (8)، والصلاة والصيام لا يتحققان إلا بالطهارة، والحيض مناف للطهارة.

أما قوله: نواقص الحظوظ وتفسيره إياها بأن مواريثهن أنصاف مواريث الرجال، فقد دلّ عليه قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (9)، وليس في هذا التشريع حطاً من قيمة المرأة، ولا تهاوناً في كرامتها كما

ص: 339

يقول أعداء الإسلام الذين نادوا بالمساواة، ونظروا إلى هذا التشريع من منطلق جزئي وليس من منطلق كلي. فنظرية الاقتصاد الإسلامي لم تُكبد المرأة أي أعباء مالية مثلما تُكبد الرجل، فالمرأة قبل زواجها قد تكفل الأب برعايتها والإنفاق عليها. أما بعد زواجها فإن الزوج هو المسؤول عن الإنفاق عليها سكناً، وطعاماً وزينة (10). أي أن دخل الرجل يصرفه كله على المرأة، وبغير هذا التمايز في الميراث لا تتحقق العدالة. وعلى ذلك فإن موقف الإسلام من المرأة ليس موقف تفضيل وإنما موقف تفصيل وتقسيم الواجبات والحقوق. هذا في حين أن قانون الإسلام يضع الجنة تحت أقدامها ((الجنة تحت أقدام الأمهات))، فهل يوجد تفضيل أكثر من ذلك. ثم كيف نفسر تساوي الرجل مع المرأة في بعض حالات الشهادة؟ وزيادتها عليه في حالات أخرى إلى حدّ ثلاثة أضعاف؟ (11).

والحقيقة أن مسألة المساواة في كل شيء غير واردة وغير ممكنة في نواميس الطبيعة، كما في مسألة الزواج، فالرجل نعطيه حق الزواج بأربع في حالات معينة، ولكن هل يمكن أن نعطي هذا الحق للمرأة؟ طبعاً لا، بل هي لا ترضاه، لأن النسل حينئذ يضيع ويختلط، ولن يعرف الولد أباه، وتضيع العواطف، ويضيع الجو الأسري بضياعها (12).

أما نقصان عقولهن: فقد بيّنه بقوله: فشهادة امرأتين منهن كشهادة الرجل الواحد. وهذا ما أوضحته الآية القرآنية الآتية: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» (13)، والاستشهاد الآيوي لم يعلل شهادة المرأتين مقابل شهادة الرجل الواحد لأنها نصف الرجل أو للانتقاص منها كما حاول البعض أن يصورها، وإنما علل ذلك بقوله: «أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى». فقد أثبت الطب

ص: 340

الحديث بأن الغدة الدرقية عند المرأة أضخم مما هي عند الرجل، والمرأة تتأثر بالحمل والولادة وحالات الطمث، فتؤثر على الجانب النفسي عندها، وأحياناً على ذاكرتها، مما يؤدي إلى ضياع حقوق الناس، والذي قد يؤدي إلى سلبيات أكبر كالقتل. فضمّ المرأة إلى المرأة لتذكر إحداهما الأخرى شيء طبيعي، كما هي الحال في ((ضم الرجل إلى الرجل في الشهادة في البيّنة التي لابدّ فيها من رجلين عادلين. وهذا لا يفيد النقصان في الرجل الواحد في مقام الشهادة من حيث طبيعة العقلية أو الإنسانية)) (14).

كما أن المشرع الإسلامي تعامل مع الشهادة من خلال خصوصیات تتعلق بموضوع الشهادة نفسه لا بالمرأة، وذلك في موضع الديون ومطلق الأموال (15)، کما هو مصرح به في الآية الكريمة أعلاه. وإلا ففي المواضع التي تتعلق بحالات النساء کالبكارة، والولادة، والرضاع، وعيوب النساء الباطنية، وكل ما لا يجوز للرجال النظر إليه يُعتمد على شهادتها وحدها منفردة دون الرجال (16). وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: لماذا لا يقول المغرضون أن هذا انتقاصاً وانتهاكاً لحق الرجل؟!.

أما قوله: (فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ) فهذا الأمر لا يحتاج إلى تعليق، فالشر بعينه مذموم، وفاعله مثله سواء أكان رجلاً أو امرأة.

أما كلامه الأخير: (وَکُونُوا مِن خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَر، وَلَا تُطِيعُوهُنَّ فِي المَعرُوفِ حَتَّى لَا يَطمَعنَ فِي المُنكَرِ) فإنه مطابق لقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ((عظوهنّ بالمعروف قبل أن يأمرنكم بالمنكر، وتعوذوا بالله من شرارهنّ، و کونوا من خيارهن على حذر)) (17)، والاختلاف واضح بين الحديثين، فربما كان قول الإمام (عليه السلام) هو حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه، لكنّه غُير أو بُدلّ أو حُرف أثناء نقل الرواة ونسخ الكُتاب. وهذا النص لا يخص النساء

ص: 341

بقدر ما يخص الرجال، فهو تهذیب لنفوسهم وترويض لطباعهم في تعاملهم مع المرأة، وهذ ما اتفقت عليه الشروح جميعاً، إذ ليس المراد من قوله (عليه السلام) النهي عن فعل المعروف لمجرد أمرهنَ به، لأن في ترکه مخالفةً للسنة الصالحة، ولاسيّما إن كان المعروف من الواجبات. وإنما هو نهي عن طاعتهن، أي لا تفعلوه لأجل أمرهن لكم به، بل افعلوه لأنه معروف (18).

3- ومن وصيّته لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: ((لاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّی یَبْدَءُوکُمْ فَإِنَّکُمْ بِحَمْدِ اَللَّهِ عَلَی حُجَّةٍ وَ تَرْکُکُمْ إِیَّاهُمْ حَتَّی یَبْدَأُوکُمْ حُجَّةٌ أُخْرَی لَکُمْ عَلَیْهِمْ فَإِذَا کَانَتِ اَلْهَزِیمَةُ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لاَ تُصِیبُوا مُعْوِراً وَ لاَ تُجْهِزُوا عَلَی جَرِیحٍ وَ لاَ تَهِیجُوا اَلنِّسَاءَ بِأَذًی وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَکُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَکُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِیفَاتُ اَلْقُوَی وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلْعُقُولِ إِنْ کُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْکَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِکَاتٌ وَ إِنْ کَانَ اَلرَّجُلُ لَیَتَنَاوَلُ اَلْمَرْأَةَ فِی اَلْجَاهِلِیَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ اَلْهِرَاوَةِ فَیُعَیَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ)) (19). والفهر: الحجر، والهراوة: العصا (20). ونعتقد أن الكلام السابق ينطبق عليها، فهو يبيّن ماهيّة ضعيفات القوى والأنفس والعقول. ((وهو يشير أيضاً من طرف آخر إلى ضعف المرأة واستعمالها السلاح الذي يدل على ذلك، أي الشتم والسب، وهو ما يتوائم مع طبيعتها التكوينية))(المجلة: 136)

وفي هذا النص بیان واضح لكيفية معاملة المرأة في الجاهلية، وبيان لمظلوميتها والواقع الفاسد الذي كانت تعيشه، استخدام لغة الشدة والضرب والأساليب العنيفة ضدها (21).

ولنا أن نضيف تعليقاً بسيطاً يناسب المقام ذكره، وذلك في الأمر بالكف عن التعرض للنساء حتى وإن کن مشركات، ف ((هذه هي تعاليم الإسلام، ولذا أسندها الإمام إلى نبي الرحمة بقوله: (إِن کُنَّا لَنُؤمَرُ - أي كان رسول الله يأمرنا -

ص: 342

بالكف عنهن وإنهن لمشركات))) (22). وهذا ما أكده الشيخ محمد عبده بقوله: ((هذا حكم الشريعة الإسلامية، لا ما يتوهمه جاهلوها، من إباحتها التعرض الأعراض الأعداء، نعوذبالله)) (23).

4- ومن خطبة له يذكر فيها نبي الله عیسی بن مریم (عليهما السلام): ((وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِی عِیسَی بْنِ مَرْیَمَ فَلَقَدْ کَانَ یَتَوَسَّدُ اَلْحَجَرَ وَ یَلْبَسُ اَلْخَشِنَ وَ یَأْکُلُ اَلْجَشِبَ وَ کَانَ إِدَامُهُ اَلْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّیْلِ اَلْقَمَرَ وَ ظِلاَلُهُ فِی اَلشِّتَاءِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاکِهَتُهُ وَ رَیْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَ لَمْ تَکُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لاَ وَلَدٌ یَحْزُنُهُ وَ لاَ مَالٌ یَلْفِتُهُ وَ لاَ طَمَعٌ یُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ وَ خَادِمُهُ یَدَاهُ))(24). فهو (عليه السلام) في قوله هذا لا يذم المرأة، وإنما يذكر مفاتن الدنيا وملذاتها، فهو غير خارج عن القرآن الكريم بشيء، إذ يكفي أن نعرضه على قوله تعالى في محكم كتابه: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (25)، وهذه الآية المباركة تغنينا عن الشرح والتحليل.

5- ومن خطبة له في توحيد الله تعالى: «لَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ یُولَدْ فَیَصِیرَ مَحْدُوداً، جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ، وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ» (26). المراد بالمولود المتولد عن غيره سواء أكان بطريق التناسل المعروف، أو كان بطريق النشوء کآدم (عليه السلام) الذي تولد من الأرض بقدرة الله تعالى، والنبات الذي تولد عن العناصر في الأرض أيضاً بقدرة الله تعالى. ومن ولد له كان متولداً بإحدى الطريقتين (27).

وبما أن المولى سبحانه منزه عن الولد فإنه كذلك منزه عن الصاحبة، لذا سنأخذ قوله (عليه السلام): (وَطَهُرَ عَن مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ) خارجاً عن سياقه

ص: 343

والمناسبة التي قيل فيها. فقوله (عليه السلام) ليس انتقاصاً أو إهانة للمرأة، وإنما هو كناية عن الجماع، وهذا يعني أن الجماع يحتاج إلى تطهير، وهو مطابق للقرآن الكريم، قال تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (28). فقوله جلّ وعلا: ((أو لامستم النساء)... كناية عن الجماع أدباً صوناً للسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به)) (29).

6- وفي حكمه ومواعظه قال (عليه السلام): ((غَیْرَةُ اَلْمَرْأَهِ کُفْرٌ وَ غَیْرَةُ اَلرَّجُلِ إِیمَانٌ)) (30). لهذا القول وجهان؛ الأول: أن المراد بالكفر هنا المعنى الحقيقي للكفر، لأن المرأة إذا غارت حرمت على زوجها ما أحله الله له من تعدد الزوجات، فقد تأخذها الغيرة إلى إنكار تشريع ذلك فيؤدي إلى الكفر (31)، ((وأيضاً فإن المرأة قد تؤدي بها الغيرة إلى ما یکون کفراً على الحقيقة كالسِّحر، فقد ورد في الحديث المرفوع أنه كفر)) (32).

وأما غيرة الرجل على المرأة فإنها حالة طبيعية، لأنها عنده من الإيمان، لأنها نهي عن المنكر، أي التهتك والفجور، شريطة أن لا تتعدى الغيرة حدها المعقول، وهذا ما نستوحيه من كلمة الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن (عليه السلام): ((اِيّاكَ والتّغايُرَ فى غَيرِ مَوضِعِ غَيْرَةٍ، فَإنَّذلِكَ يَدْعُو الصَّحيحَةَ اِلَى السَّقَمِ، وَالْبَريئَةَ اِلَى الرِّيبِ)) (33)، أي أن الغيرة في غير موضعها تدفع الإنسانة البريئة إلى الريب والشك، وإلى عدم الثقة بنفسها، وقد يؤدي ذلك بها إلى عقدة نفسية (34).

والوجه الثاني: أن هذا الحديث لا يعني أن غيرة المرأة كغيرة طبيعية كفرٌ، لأن

ص: 344

السبب الذي يؤدي إلى غيرة الزوجة هو حب الزوج والخوف من فقده، والخشية من أن تأخذه منها امرأة أخرى، ولاسيّما أن الرجل يُجوّز له الشرع أن يتزوج بأربع نساء، فالغيرة هنا تعتبر حالة طبيعية إذا كانت تنطلق من محبة هذه المرأة لزوجها، وخشيتها من أن تفقده، وتعتبر حالة طبيعية إذا كانت بعيدة عن التطرف في الاتجاه الحاد، بحيث تتحرك غيرتها إلى تحريم ما أحله الله. فالإسلام لا يحاسبها في الحلات النفسية التي قد لا ترتاح لها المرأة كغيرتها عليه إذا تزوج بأخرى، ولكنه يحاسبها على تصرفاتها السلبية التي قد تؤدي إلى أن تمنع زوجها من حقه. ومن هنا جاء هذا الحديث المأثور عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (غيرة المرأة كفر)، فليس معنى ذلك أنها كفر بمعنى الكفر، ولكنها تؤدي إلى بعض أجواء الكفر، وهو تحریم ما أحله الله (35).

7- ومن غریب کلامة المحتاج إلى تفسير حديثه (عليه السلام) عندما شيّع جيشاً يعزِيهِ فقال: (اِعْذِبُوا عَنِ اَلنِّسَاءِ مَا اِسْتَطَعْتُمْ)) (36). ويقول السيد الشريف الرضي في معناه: ((اصدِفوا عن ذكر النساء وشُغُلِ القلب بهنّ، وامتنُعوا من المقاربة لهنّ، لأنّ ذلك يَفُتُّ في عضُد الحميّة، ويقدح في معاقد العزيمة، ویکسِر عن العَدوِ، وَيلفِتُ عن الإبعاد في الغزو)) (37).

وهذا القول يخص حالة استثنائية، فهو ليس ذماً للمرأة لأنها تضعف الجيش، وإنما ليجرد الجيش من كل ما يعلقه بالحياة الدنيا من زوجة وأولاد. فمسؤوليته اتجاههم وحبه إياهم سيكون سبباً في إضعاف عزيمته، وهو ما أيدته الآية القرآنية الآتية: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (38).

ص: 345

وما يؤكد تحليلنا قول الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله): ((احذر الدنيا وشهواتها، وزينتها، وأكل الحرام، والذهب والفضة، والمراكب والنساء، فإنه سبحانه يقول: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ»(39).

ص: 346

خاتمة البحث

بمعونة المولى القدير، وبشفاعة السيد النذير، وبعلي الأخ النصير، بلغنا الختام فيّما وقع في نهج البلاغة من ذكر للمرأة، ولابدّ لنا فيه من تقصير.

ولعل خاتمة البحث توضحت من مقدمته، فقد اعتمدنا متن الرواية لا سندها أساساً في قبولها بعد موافقتها للقرآن الكريم. وبعد الاستقراء والدراسة يتضح لنا أن هذه الروايات التي قالها الإمام علي (عليه السلام) في نهجه عند قراءتنا الأولى لها، وهي القراءة السطحية، أو الأخذ بالمعنى الظاهر نجدها قد انتقصت من المرأة، ولكن بالقراءة الثانية العميقة، وبالتحليل التقابلي، أي بعد مقابلتها بالقرآن الكريم، نجد أنها صانت المرأة وحفظت حقوقها وحقوق غيرها من خلال النظر إلى طبيعة المرأة النفسية والفسلجية، وبذلك أعفت المرأة من أن تصبح في موقف لا يناسبها أو لا تحمد عقباه، کما في قضية الشهادة.

وبحمد الله نكون قد بيّنا الصحيح من الكلام، وحفظنا راية الإسلام، ورفعنا مولانا علياً الإمام، وقدنا المرأة إلى الأمام، وقطعنا أصابع التشويه والاتهام، والصلاة والسلام على محمد المصطفى وأهل بيته خير الأنام.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 286، الخطبة: 176.

2. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 88، الخطبة: 27.

3. شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 78، وينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2/ 65، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 66، وفي ظلال نهج البلاغة: 191/1 - 192.

4. ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة: 164.

5. الزخرف: 18.

ص: 347

6. ينظر: تفسير الطباطبائي: 213/17.

7. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 135 - 136، الخطبة: 79.

8. البقرة: 222.

9. النساء: 11.

10. ينظر: المرأة في رحاب الإسلام: 73.

11. ينظر: فقه المرأة المسلمة: 202 - 209.

12. ينظر: تأملات إسلامية حول المرأة: 189.

13. البقرة: 282.

14. تأملات إسلامية حول المرأة: 27.

15. ينظر: فقه المرأة المسلمة: 199، و فلسفة تشريعات المرأة: 197.

16. ينظر: المصدر نفسه: 199.

17. بحار الأنوار: 227/103، الحدیث: 23، کتاب العقود والإيقاعات، باب فضل حب النساء.

18. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 170/6، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 118، وشرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 144.

19. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 400، الكتب والرسائل: 14.

20. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 15/ 79، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 402، وشرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 585.

21. النظرة الواقعية إلى المرأة وعمق الطرح في فكر الإمام علي (عليه السلام)، (دراسة في نهج البلاغة)، مجلة آداب البصرة: 131.

22. في ظلال نهج البلاغة: 3/ 418.

23. شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 401.

24. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 258، الخطبة: 160.

25. آل عمران: 14.

26. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 308 - 309، الخطبة: 186.

ص: 348

27. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 13/ 62، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 301، وفي ظلال نهج البلاغة: 3/ 70.

28. المائدة: 6.

29. تفسير الطباطبائي: 101/5.

30. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 508، الحكمة: 117.

31. شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 527، وفي ظلال نهج البلاغة: 4/ 295، وشرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 763.

32. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 18/ 250، وينظر: شرح حكم أمير المؤمنين (ع): 94.

33. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 931، الكتب والرسائل: 31.

34. ينظر: في ظلال نهج البلاغة: 4/ 295، وتأملات إسلامية حول المرأة: 122-123.

35. ينظر: تأملات إسلامية حول المرأة: 123 - 124.

36. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 532، غریب کلامه: 7.

37. المصدر نفسه.

38. آل عمران: 14.

39. دلائل الخيرات في كلام سید السادات: 99.

ص: 349

المصادر والمراجع

• القرآن الكريم.

1. الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع). الخطيب القزويني (قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن، ت: 739 ه). تحقيق: إبراهيم شمس الدين - دار الکتب العلمية - بيروت - لبنان - ط/1 - 1434 ه - 2003 م.

2. تأملات إسلامية حول المرأة - السيد محمد حسين فضل الله - دار الملاك - د. م - ط/1 - 1426 ه.

3. تفسير الطباطبائي - (السید محمد حسین) - تفسيره: الميزان في تفسير القرآن - مؤسسة السيدة معصومة. قم - إيران - ط/ 1 - 1426 ه.

4. دلائل الخيرات (في كلام سيد السادات، خطب الرسول، وصاياه، مواعظه، كتبه، قصار كلماته) - فاتن محمد خلیل اللبون - دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - ط 1 - 1425 ه - 2004 م.

5. شرح حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) - الشيخ عباس القمي - العتبة العلوية المقدسة - النجف الأشرف - العراق - د. ط . د. ت.

6. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (عز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله مدائني، ت: 656 ه) . تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - دار الكتاب العربي - بغداد - العراق - ط/ 1 - 1426 ه - 2005 م.

ص: 350

7. شرح نهج البلاغة، السيد عباس علي الموسوي - دار الهادي - بيروت - لبنان - ط/ 2 - 1424 ه - 2004 م.

8. شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده - خرج مصادره: فاتن محمد خليل اللبون - مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان - ط/ 1 - 1428 ه - 2007 م.

9. فقه المرأة المسلمة - السيد أحمد الجيزاني - إشراف الشيخ محمد اليعقوبي - مؤسسة عاشوراء - د. م . ط / 1 - 1427 ه - 2006 م.

10. فلسفة تشريعات المرأة - الشيخ محمد اليعقوبي - مؤسسة بقية الله - النجف الأشرف - العراق - د. ط - د. ت.

11. في ظلال نهج البلاغة (محاولة لفهم جديد) - الشيخ محمد جواد مغنية - دار العلم للملايين - بيروت - لبنان - ط/ 1 - 1972 م.

12. المرأة في رحاب الإسلام - باقر شريف القرشي - دار الهدى - النجف الأشرف العراق - ط/ ذ. 1426 ه - 2005 م.

13. نهج البلاغة (المختار من كلام أمير المؤمنين، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى، ت: 406 ه) - تحقيق: السيد هاشم الميلاني - العتبة العلوية المقدسة - النجف الأشرف - العراق - د. ط - 1431 ه.

ص: 351

ص: 352

بناء الإنسان في درء الهوى - دراسة تحليلية - محمد حاكم حبيب الكريطي ماجستير لغة عربية

ص: 353

ص: 354

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين الى قيام يوم الدين.

وبعد، فلولا وجود الإنسان لم تكن الدولة، فبناء الإنسان يعني بناء الأوطان، ومن أراد أن يبني وطناً، لا بد أن يبدأ بصناعة الذات المؤمنة بالانتماء الى الأرض ذلك الإيمان لا بد أن يكون إيماناً حقيقياً يشبه العقيدة المتجذرة في الذات، فبناء الذات الإنساني القويم، لابد أن يرتكز في صناعته على قواعد تربوية دينية، فالعقيدة الدينية هو النواة الأولى في إيجاد، ووجود شخص انغرست في ذاته تعاليم إسلامية حقة، سوف يثمر خدمة يانعة لمجتمعه، ومن خلال الأطر التي يعمل ضمن سياقها.

وجاء هذا البحث على ثلاثة مباحث الأول هو مبحث (تضعيف الأمل في الدنيا)، وفيه حث الإمام - عليه السلام - المسلمين على الابتعاد عن مغريات الدنيا والركون اليها، فلا يرتجيها أحدٌ الا قطعت رجاءه وأضاعت أمله. وهذا الوجه الذي رغّب الإمام المسلمين عنه، وفي الوقت نفسه رغبّهم بالدنيا لتكون مزرعة للآخرة. وبهذا أراد (عليه السلام) أن يهيء نفوسهم الى الآخرة سواء في الانتماء الى الدنيا، أو الانقطاع عنها ففي الحالتين الهدف والغاية هي الآخرة. وجاء المبحث الثاني وهو (مغالبة الهوى)، كان - عليه السلام - في هذا المبحث يحذّر من إتباع الهوى، حتى وإن كان ذلك الهوى لا يُعصى فيه الله تعالى، لكن يمكن أن يكون ذلك مفتاحا للمعصية وتأسيس لها، وحثّ - عليه السلام - في ذلك لنصرة

ص: 355

النفس على هواها ولابد من مجادلة الهوى والإعراض عنه وفي هذا إعراض عن الدنيا وغلبة الهوى هو كسب للآخرة. أما المبحث الثالث هو (معصية النفس)، والذي أكد فيه (عليه السلام) الى عدم الانقياد الى رغبات النفس، فمعصيتها هو رضا الله، وأراد للنفس أن تبني ذاتها في خروجها من كينونتها اللوامة الى حقيقتها المطمئنة، وبذلك تتحقق الذات المبنية عقديا المتماسكة إنسانيا، التي تتوق الى أجزاء الكمال.

وبهذا فإن تلك المباحث الثلاثة التي اختصت في الدنيا، والهوى والنفس، فهي متداخلة الى درجة كبيرة، فالدنيا هي المكان الذي يمكن للنفس أن ترتكب المعاصي والأخطاء فيها، والنفس ذاتها لولا الهوى ورفعه إياها لم تتجه الى الخطأ، بل يمكن لها أن تستجيب للعقل، وتذهب صوب الحقيقة، وهذا ما أراد البحث أن يظهره من خلال ما جاء في كلمات الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة.

ص: 356

المبحث الأول تضعيف الأمل في الدنيا

لقد نهى الإمام علي (عليه السلام) الناسَ من التمسك بالدنيا وحذر منها، ومن قصر مدتها، وانقطاع أملها، فحذّر منها بقدر تحذير القرآن الذي لم يتح الفرصة للناس في الاقبال على الدنيا وخاصم رغباتهم، وحذر من تلك الرغبات، فالإمام (عليه السلام) هنا نطق بالآيات والأحكام القرآنية التي حذرت من الغفلة في الدنيا، ومن أقواله (عليه السلام) محذراً أصحابه من الدنيا: ((فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرظ)) (1). نلاحظ أن الإمام - عليه السلام - يتخير الألفاظ ذات الأثر البالغ والتي يمكن لها أن تستميل الناس الى ما يريده لهم، حيث شبه لهم الدنيا بحثالة القرظ، والذي فُسر على انه رديء الحنطة يسمى حثالة (2)، وهذا الرديء الذي ليس له ثمن، أمر الإمام - عليه السلام - الناس بأن يجعلوا الدنيا شيء لا ثمن له، فمن باع الدنيا لا بد أن اشترى الآخرة. وتبدو هنا إشارة الإمام - عليه السلام - واضحة لكسب الآخرة بترك الدنيا أي في الاغراض عن زخرفها وغرورها.

وفي كلام آخر للإمام (عليه السلام) في التزهيد من الدنيا والترغيب في الآخرة، قال: ((واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم)) (3).

أراد الإمام (عليه السلام) أن ينزع الدنيا من قلب المسلمين وحثهم على خروج قلوبهم قبل الأجساد، ولم يقل اخرجوا عقولكم بل ذكر القلوب، لأن الرغبات والغفلة تكون مع القلب، حيث صرّح بذلك القرآن الكريم «... وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» (4).

ص: 357

ومثلما تكون الغفلة وعدم الإيمان بالقلب، فيمكن للقلب أن يكون وعاءً للإيمان، وهو بذلك يصبح سلاحاً ذو حدين، إما أن يكون هو الهادي، وإما أن يكو هو المضل، فالكفر والإيمان كلاهما في القلب حيث ذكر الله تبارك وتعالى في قصة أم موسى (عليه السلام) وكيف ثبت الإيمان في قلبها فقال جل وعلا: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (5).

هذه المرة نلاحظ دور القلب قد أصبح سبباً للإيمان، فالذي يوصي به الإمام (عليه السلام) كفاية في خروج القلب من الدنيا، هو للدخول في عمل الآخرة والتزود من دار الدنيا، فيمكن للدنيا أن تكون سببا للنجاة في الآخرة، أو أن تكون سبب الهلاك، مثلما القلب يمكن له أن يطمأن بالإيمان أو يشرح بالكفر.

مثلما كان الإمام (عليه السلام) يوصي أصحابه ويحذرهم من الدنیا، كان يفعل مثل ذلك مع خصومه، فقد كتب الى معاوية بن أبي سفيان كتاب جاء من ضمنه ((فاتق الله يا معاوية في نفسك وجاذب الشيطان قيادتك، فإن الدنيا منقطعةٌ عنك، والآخرة قريبةٌ منك)) (6).

إنّ سبب ارتباط الإنسان في الدنيا ووثوقه بها هو الشيطان، وإلّا فكل الأدلة العقلية بالنسبة للمؤمنين ان الآخرة هي دار القرار ذلك ما نص عليه القرآن الكريم، وبما أن العقل مؤمن بذلك فمن البديهي أن يكون قد أعد العدّة إليها، إلّا ان الملاحظ هو غير ذلك والانهماك على الدنيا مع شدة الوعيد، كل هذا هو سببه الشيطان، فنلاحظ الإمام - عليه السلام - ينهى معاوية من مجاذبة الشيطان، والمجاذبة هي المغالبة وجذبته أي غلبته (7)، فالإمام (عليه السلام) على الرغم من خصومة معاوية معه إلا انه كان ناصحاً له، يمكن أن تكون تلك

ص: 358

النصيحة لإصلاح معاوية لأن إصلاحه هو إصلاح لأمور المسلمين التي أفسدت بسبب تهافتهم على الدنيا.

والإمام (عليه السلام) بقدر ما كان ناصحاً محذراً الناس من الدنيا، كان مذكراً نفسه منها، فقال(عليه السلام) من بعد كلام وجهه الى عامله على البصرة عثمان بن حنيف حيث إنه قال: ((إليك عني يا دنيا فحَبلُك على غاربك)) (8).

جاء كلام الإمام (عليه السلام) هنا على ما جاء به النظم القرآني إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو ليس بحاجةٍ إلى أن يحذر نفسه، بل كان يقصد عثمان وأصحابه، فاستعمل كلاماً مجازياً بأسلوب استعاري، حتى يمكن اللفظ في نفوس الآخرين، ويجعل من حال الدنيا كحال جسد حي يتحرك أمام الآخرين، فالاستعارة هي وحدها من تجعل الدنيا بتلك الصورة، فقيل في الاستعارة هي اللفظية تجعل الأشياء غير المتنفسة كأفعال ذوات النفس (9)، وهذه الحركة الرمزية يمكن لها أن ترسخ أجيالاً، كما هو الحال مع نهج البلاغة الذي يتداول بيننا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.

فوصف الإمام (عليه السلام) الدنيا وكأنها ناقة قد ألقى حبلها على غاربها (10)، وفي ذلك كناية عن حرية الدنيا واطلاق العنان لها، وهنا حال من التشبيه العظيم وكأن الإمام (عليه السلام) هو الثابت الذي لا يغتر من الدنيا، والدنيا هي المتحركة لذلك ترك لها الحبل على الغارب لتجول مع من تريد.

كل هذا النسيج الكلامي الذي طرزه (عليه السلام) من استعارة وكناية وتشبيه حسي هو درسٌ للحذر من الدنيا.

ومن كتاب له (عليه السلام) وصى به شريح بن هاني (11) لما جعله على مقدمته الى الشام فقال: ((اتق الله في كل صباح ومساء، وخَف على نفسك الدنيا

ص: 359

الغَرُور، ولا تأمنها على حال)) (12).

حذّر الإمام شُريحاً بوصفهِ الدنيا له ب (الغَرُور) بفتح الغين وضم الراء، أي الغَرُور صفة ملازمة للدنيا فلا يأمن حالها، فلا يستمر حالها على ما هو عليه فهي تنتقل بأهلها من حال الى حال من شدةٍ الى رخاء، أو من رخاء الى شدّة، فلا يأمن من يومها، فهي تداول الأيام بين الناس، ومداولة الأيام في عاجلها حساب في أجلها.

وقال ابن السكيت الغَرور هو الشيطان، ألم تلاحظ قوله تعالى محذراً منه: «...وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ...» (13) فالدنيا نفسها لولا الأسباب الشيطانية لم تكن غروراً بل لفعل الشيطان وتزينه إياها لهم أصبحت كذلك.

ومن كتاب كتبه (عليه السلام) الى الأسود بن قطبة صاحب جند حُلوان (14) قال فيه: ((واعلم أنّ الدنيا دار بلية لم يُفرغ صاحبها قط فيها ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة)) (15).

في كل مرة يحذّر الإمام (عليه السلام) من الدنيا يأتي بصورة جديدةٍ مختلفةٍ عن سابقتها في حال الدنيا، وكل ذلك الهجين الصوري هو لرسوخ صورة ذهنية واحدة عن الدنيا مفادها الابتعاد عن الركون إليها.

فهنا يصفها بأنها دار بلية مقتبساً (عليه السلام) معنى قوله تعالى: ((...وَنَبْلُوکُم بِالشَّرِّ وَالْخَیْرِ فِتْنَةً وَإِلَیْنَا تُرْجَعُونَ)) (16).

ويصف الإمام (عليه السلام) فراغ الدنيا حسرة في الآخرة، ذلك لأن الإنسان يندم لإضاعته الوقت في غير عبادة الله لما يراه من أحوال يوم القيامة التي لا يأمن منها إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم، ولو أن تزود من الدنيا في حال فراغه كما أشار

ص: 360

الإمام (عليه السلام)، إذ قال: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» (17).

ومن كلام له (عليه السلام) الى سلمان الفارسي (رضوان الله عليه)، جاء فيه: ((أما بعدُ فإنما مَثلُ الدنيا مثل الحيّة، لينٌ مسُّها، قاتلٌ سُمّها، فارض عمّا يعجبك فيها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك هُمومَهَا، يا أيقنت منها، فإن صاحبها كُلّا اطمأنّ فيها الى سرور أشخصتهُ عنه الى محذور، او إلى ايناسٍ أزالتهُ عنه إلى ايحاشٍ)) (18).

حذر الإمام سلمان الفارسي الذي كان من خيرة أصحابه، وهو بهذا يريد أن ينذر الناسَ واتخذ من سلمان (رضوان الله عليه) عنواناً لتحذيره. وقد بدأ (عليه السلام) كلامه عن الدنيا بمتتاليات استعارية أراد أن يستجلب عقول الناس ومشاعرهم، ذلك ليلفت به أذهانهم، فاستعار ما في الحيّة ن صفات في ظاهرها تغر الغافل الذي لا يعرف سوى ظاهرها، هذا إذا ما قيس بالحياة الدنيا من حيث الاستعارة، وقد وصف الله تبارك وتعالى الدنيا إذ قال: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ» (19).

فظاهر الدنيا مثل ظاهر الحية الذي وصفه الإمام - عليه السلام -، أما الغفلة فهي عن بواطن الدنيا وخفاياها التي يحذرنا منها - عليه السلام -، وقال قاتلٌ سمها، هو استعارة أخرى بمعنى إن الركون الى الحية، التي هي بمثابة الدنيا، هو في نهاية الغاية هلاك.

ويحذّر (عليه السلام) ناهيا من الإعجاب فيه لقلة زمنه إذا ما قيس بطول السفر في الآخرة وما يصحبك هناك من عملٍ قد كسبته في الدنيا، ويوصي (عليه السلام) بوضع همومها وكأن تلك الهموم كانت أحمالاً وضعت على أكتاف طالبيها،

ص: 361

وكأن هموم الدنيا هي في ذاتها أوزار إذا عرضناها على قوله تعالى: «وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (20) ففي كل كلمة من كلمات الإمام (عليه السلام) لا بد أن تعرض على القرآن الكريم لأن كلامه (عليه السلام) إما أن يكون من لفظ القرآن أو من معناه. حيث أتم قوله (عليه السلام): فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور اشخصته الى محذور. وهذا ترجمة لقوله تعالى: «...إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» (21) لأن ذلك السرور الذي أشار إليه (عليه السلام)، أو الفرح الذي نهی عنه القرآن هو ليس السرور بحدوده أو الفرح ضمن إطاره، لأن هناك من يغتر بالدنيا ولا يلتفت إلى آخرته، ولا يحذرها فيأخذ نصيبه من الدنيا ليس متناسية الآخرة بل قد نسيها تماماً كما قال تعالى «قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» (22).

ولولا الخضوع إلى ملذات الدنيا لما نسي الآخرة، وذلك كلا اندفع الإنسان مع عواطفه كلّما قل استعماله للعقل وهذه المسألة جدلية عكسية كلما ذهبت باتجاه واحدة ابتعدت عن الأخرى، فالآخرة هي اتباع العقل، والسرور هو من اتباع العاطفة فالزمن والتراكم في اتباع العاطفة يترك سروراً في نفوس الآخرين ذلك السرور سوف يكون حاجباً عن الآخرة وبالتالي يُزال الإنسان من ایجاش الى ایناس كما أشار الإمام (عليه السلام) الى ذلك (23).

ومن وصية له - عليه السلام - للحسن بن علي (عليه السلام): ((من الوالد الفان، المقر للزمان، المُدبر العُمُر، المستسلم للدهر، الذّام للدنيا، الساكن مساكن الموتی والظاعن عنها غداً)) (24).

قبل أن يذكر الدنيا في خطبته (عليه السلام) أشار إشارة واضحة إلى زوالها واليقظة منها، حيث قال من الوالد الفان، فإنه لا خلود ولا بقاء فكلنا الى رحيل،

ص: 362

المقر للزمان أي متنبّهُ للزمان الذي في كل لحظة يقترب بنا إلى الأجل المحتوم الذي لابُدّ من ملاقاته، المُدبر العمر وهنا إشارة أخرى إلى الحذر من الدنيا وهو (عليه السلام) يصف نفسه بالمُدبر العمر من الادبار ومعناه من جاء آخر القوم، وتدبر الأمر أي نظر في عواقبه وأواخره (25).

وهذه إشارة منه (عليه السلام) الى أن العمر قد أدبر أي ذهب باتجاه الآخرة، ولم يقل مقبل العمر أي هو في طول أملٍ في الحياة، (المستسلم للدهر، الذام للدنيا)، نلاحظه (عليه السلام) في كتابه هذا قد مهد للتنفير من الدنيا قبل ذكرها، والكتاب كما أشرنا في العنوان قد وجهه للإمام الحسن (عليه السلام) لكن القصد منه ليس تحذيراً للحسن (عليه السلام) من الدنيا بل لجميع من قرأ وسمع الكتاب الى يومنا هذا.

فكما أشرنا في صفحات البحث السابقة، إن أسلوب الإمام قد استدل من القرآن الكريم فجاء قوله على صيغة (إياك أعني واسمعي يا جارة).

في ختام هذا المبحث نقول: إن الإمام علي (عليه السلام) أراد أن ينبّه ويحذر الناس من الارتباط بالدنيا، والمقصود ذلك الارتباط الذي يأخذهم عن أمور دينهم وآخرتهم وتشغلهم الدنيا بمفاتنها، لا القصد من وراء كلامه (عليه السلام) هو ترك الدنيا بمجملها، لا بل كان يحث على العمل وطلب الرزق وغيرها من الأمور الدنيوية التي لا تأخذ الإنسان المسلم عن دينه بل توفر له العيش الكريم من جانب وتبني حياته الدينية على وفق ما أرادت الشريعة السمحاء من جهة أخرى.

ص: 363

المبحث الثاني مغالبة الهوى

مثلما حذّر الإمام (عليه السلام) من الدنيا حذّر من اتباع الهوى، ويمكن أن يعد اتباع الهوى هو جزء أساس من التمسك بالدنيا، فهي الوعاء الذي يمارس فيه أشكال الهوى، وعلى وفق المنهج القرآني الذي اتبعه الإمام علي - عليه السلام - حيث عمل بما ذكره القرآن الكريم من قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (26).

فقد جاء فيه نهيه عن اتباع الهوى، وطول الأمل قوله (عليه السلام): ((أيُها الناسُ إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصُدُّ عن الحق...)) (27).

ولشدة خطر اتباع الهوى من قبل المرء، نلاحظ الإمام (عليه السلام) يصف ذلك وهو أشد الخوف عليهم، والإمام (عليه السلام) لا يعرف للخوف معنى، إلّا إن للأثر العظيم الذي يُتركه اتباع الهوى على صاحبه جعله (عليه السلام) يستعمل بعض الألفاظ التي لم نعهده قد ضمنها في كلامهِ عن حروبهِ ومنازلته في سوح الحرب، لكن الأمر هنا يختلف عندما تكون المسألة مع الله تبارك وتعالى فهو يرى ويعلم غير ما يرى الناس فعلمه يقيني وذلك يحقق الكشف بالنسبة لأهل البيت (عليه السلام)، إذ أخبرنا القرآن الكريم بذلك بقوله: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ» (28).

ويكمل الإمام (عليه السلام) قوله ليخبر بنتيجة اتباع الهوى فيقول: (فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق)، فاتباع الهوى لايكون مع ما أراده الله تبارك وتعالى

ص: 364

، ويركن الإنسان في ذلك إلى نفسه ولا إلى عقله، ولا تحمد مغبة هذا فهو من عمل الشيطان، وذكروا في اتباع الهوى: (( إن من اتباع الهوى أن يحضر الخصمان بين يديك فتود أن يكون الحق للذي في قلبك محبة خاصة، وبهذا سلب سليمان بن داود ملکه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الذي أصاب سلیمان بن داود عليها السلام أنا ناساً من أهل جرادة أمرأته، وكانت من أكرم نسائه عليه، تحاكموا إليه مع غيرهم، فأحب أن يكون الحق لأهل جرادة فيقضي لهم، فعوقب بسبب ذلك حيث لم يكن هواه واحد)) (29).

وقيل في اتباع الهوى: ((ضلال العقول في اتباع الهوى ولا حيلة في ضلال العقول)) (30).

فقد تأثرت الحياة العقلية العربية في النهي عن اتباع الهوى سواء أكان ذلك الأثر قد استمد من القرآن الكريم، أو من الإمام علي (عليه السلام)، لأن هذه الخطبة التي نحن في صددها الآن قد وردت في كثيرٍ من المصادر العربية في معرض الاستشهاد عن ذم الهوى.

ومن كتاب بعثه (عليه السلام) إلى عاملهِ على البصرة عثمان بن حُنیف (31) وقد بلغه إنه دعي إلى وليمة من أهلها فمضى إليهم. فبعد كلام يطول له (عليه السلام) قال: ((ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخيّر الأطعمة)) (33). بعد اعتراض الإمام (عليه السلام) على صاحبه عثمان بن حنیف، وأعطاءه درساً في تهذيب النفس ومنع جماحها، التفت الإمام (عليه السلام) الى نفسه الكريمة قائلاً: ((ولكن هيهات أن يغلبني هواي)) وهو (عليه السلام) بهذا يشير الى الجدلية التي تكون بين الهوى والذات، أما من كان على حال بسيط من الإيمان يمكن هواه أن يغلبه، واتباع الهوى بواسطة النفس والنفس قد أشار

ص: 365

إليها القرآن الكريم وقال: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (33).

لكن الإمام (عليه السلام) ينفي غلبة هواه عليه، وفي هذا درسٌ للمسلمين في منازلة الهوى، وكيفية تحقيق الذات بتجردها منه أي من الهوى، وبناء النفس باتجاه الاطمئنان وخروجها من النفس الأمارة، فالإمام أراد أن يحث الناس باستدرار عقولهم وعواطفهم له فهو الأسوة لهم في أمور دينهم ودنياهم.

ومن عهد له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رضوان الله عليه) لما ولّاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه) وهو من أطول العهود التي كتبها (عليه السلام). وبعد كلام له (عليه السلام) كان يوصي به الأشتر وكله جاء في بناء الإنسان والدولة، ويمكن أن يعد هذا العهد انموذجاً يحتذى، ويتقدی به في إدارة شؤون المسلمين وغيرهم.

ومن جملة ذلك الكلام قوله (عليه السلام): ((فاملك هواك، وَشُحَّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشُّح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت و کرهت)) (34).

وصّى الإمام - عليه السلام - الأشتر الإحاطة من هواه، قد اختار لذلك لفظ يستوعب المعنى الذي أراد إيصاله للأشتر ومن خلاله للناس فقال له (إملك) ولم يختر لفظاً آخر، فجاء في دلالة لفظة (مَلَك) هو قوام الشيء ونظامه (35).

وبهذا أراد (عليه السلام) أن ينهي الأشتر ومن غلبة هواه له، حيث يريد منه أن يكون أقوى من هواه، فهو من يتحكم في هواه هو الذي يمكن أن يملك رغبات نفسه، ولأن الملك كما أشارت اللغة هو قوام الشيء أو نظامه، أراد (عليه السلام) أن تكون نفس الأشتر مستقيمة أي لا تميل الى هذا أو إلى ذاك فهي على

ص: 366

الطريق الذي رسمه الله تبارك وتعالى لها من تدابير أمور الحياة.

وبهذا يريد (عليه السلام) أن يكون الأشتر خارجاً من سلطان هواه، حتى لا يقع في ذلك ضرر على ذاته أولاً، ولا على المسلمين ثانياً، فإنصاف الهوى هو إنصاف مع الأمة، فغلبة هوى الرئيس، ليس كغلبة هوى المرؤوس، لأن الأول يتحكم بأمور الجماعة، والضرر الذي يصدر منه ضرراً يعم الآخرين، أما الثاني فضررهُ مع نفسه، ولا يؤثر ذلك الإنسان بقدر ما تركه الحاكم من أثر.

ومن كتاب له (عليه السلام) الى أبي موسى الأشعري جواباً في أمر الحاكمين. فقال (عليه السلام): ((فإن الناس قد تغير كثيرٌ منهم عن كثيرٍ من حظهم، فمالُوا مع الدنيا، ونطقوا بالهوى)) (36).

ذكر الإمام - عليه السلام - ابتعاد الناس عن الحق ونطقهم بالهوى، وفي ذلك إشارة الى أنهم لم ينطقوا عن عقلٍ وحكمة، بل نطقوا بما تهوى الأنفس، و ذلك ذمٌّ وتقريع لهم، لأنهم وافقوا نفوسهم وسلّمت بهم الى الهوى، ولم يأخذوا بما يريده العقل لتکون الغلبة له، فالهوى مذموم بنص من الله تبارك وتعالى، بل بعدة نصوص من القرآن الكريم، حيث قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (37).

وقد تحدث جلٌّ من الصحابة والتابعين في ما استورثوه من ذم الهوى، حتى أصبح ذلك سنة دينية قد شرعها القرآن، وألفها المجتمع فأصبحت ظاهرة لا يمكن أن تستساغ عند ذوي الألباب، لتناقضها مع الفطرة الإلهية السليمة. ونقل عن ابن عباس أنه قال: ((الهوى إله معبود، وقرأ افرأيت من اتخذ إلهه هواه)) (38).

ومن كلام له (عليه السلام) وصی به شريح بن هانئ، جاء من ضمنه قوله (عليه السلام): ((قَد سَمت بك الأهواء الى كثير من القرر)) (39).

ص: 367

لا بد من معرفة معنى كلمة (سَمَت) التي وردت في كلام الإمام (عليه السلام) فقد جاء معناها في بعض معجمات اللغة: ((سما الشيء يَسمُو سُمُوّاً، أي: ارتفع بَصَرُك إليه)) (40).

ويبدو أن السما هو الشيء الذي ارتفع باتجاه السماء، ومعنى هذه الكلمة ذو دلالة إيجابية في استعماله المتداول، إلا إن الإمام (عليه السلام)، هذه المرّة قد وظّف هذه اللفظة في غير سياقها ليعطي دلالة أخرى، يمكن أن يكون لها الأثر في ذهن المتلقي، سواء أكان المخاطب أو الآخر البعيد مكانيا أو زمانيا من متلقي نص الإمام (عليه السلام). وهذا السمو الذي يمكن أن يعد هو نزول ليس إلا، جاء سبب الأهواء وما كانت تمليه تلك الأهواء على شريح بن هانئ، حيث كانت زمام الأمور بجانب الأهواء لا بصوب شريح الذي قد خضع لأهوائه. وقد وصل ذلك السمو الى الضرر والذي قد أشارت إليه اللغة: ((الضَّررُ: ((النقصان يدخل في الشيء يقال دخل عليه ضرر في ماله)) (41).

وبهذا بدت إشارة الإمام (عليه السلام) واضحة، حيث إن الضرر الذي لحق بشريح في اتباعه الهوى هو نقصان في إيمانه، فارتفاع مناسيب الهوى هو شحة في منسوب الإيمان، لذلك انتقى الإمام (عليه السلام) تلك الألفاظ التي يطول رسوخها ويشتدُّ أثرها على السامع.

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان، جاء من جملة ذلك الكلام قوله (عليه السلام): ((ولعمري يا معاوية، لأن نظرتُ بعقلك دون هُواك لتجدني أبرأ من دَم عثمان)) (42).

قد قسم الإمام (عليه السلام) بعمره الشريف، ذلك لأنَّه على أتم ثقةٍ من ان معاوية بن أبي سفيان قد اتبع هواه ولم يستدل على الحق بعقلهِ لذلك أضّل

ص: 368

الطريق. وهنا كان الإمام (عليه السلام) ناصحاً لمعاوية أن يتخلى عن هواه لأن في ذلك ضلال وتيه وَحيد عن الحق، والسّبيل الوحيد الى النجاة هو العقل، لأنّ ذلك میزان على النفس فهو الآمر لها المتحكم بشأنها العاصي خلجاتها، وإذا أخلد إلى هواه ذلك ما يجعل رغباته هي من تفرض عليه الطريق الذي لا بدّ أن يختاره، وحتماً سوف يكون ذلك الطريق ضلال، لأنه نتيجة بديهية للهوى. فمعاوية الذي تخلّى عن عقله أمام هواه أسفر ذلك بغيه على الإمام (عليه السلام) واتهامهِ بدم عثمان، تلك الجريرة العظيمة التي افتراها، رغبة لثمن أهواءه لم تنتهِ بين معاوية والإمام (عليه السلام) في زمنیهما بل نسجت خيوطها لتطيح بآلاف المسلمين لعدة قرون متتالية، ذلك ما كان إلا في إطاعة معاوية لأهوائه.

ومن كتاب آخر له (عليه السلام) كتبه الى معاوية بن أبي سفيان أيضاً، جاء من جملته: ((أما بعد، فقد أتتني منكَ موعظةٌ موصلة، ورسالةٌ مجترةٌ نمقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك، وكتابٌ امرئٍ ليس له بصر يهديه، ولا قائد یرشُدُه، قد دعاه الهوى فأجابتهُ، وقادةُ الضَلالُ فاتبعه)) (43).

وهنا يصف الإمام (عليه السلام) ضعف معاوية في عقيدته، وعدم الجدة، إلّا مع هواه، فوصف (عليه السلام) الهوى وكأنه قد نادي معاوية وما إن كان على معاوية إلا أن يجيب ذلك الهوى، فإجابته للهوى هي بداية سلوك طريق الغي فالهوى هو نقطة انطلاق باتجاه الضلال، وكانت نتيجة ذلك السبب أي سبب ركوب الهوى هو الهَجَر.

وقد أشارت کتب اللغة الى معنى الهجر فقيل: ((هجر يهجر هجراً إذا هذي)) (44). فركوب الهوى هو الزيغ عن الحق، وذلك ما يفضي للهذيان أي القول في غير صواب ولا معنى، أو مجانبة الحق كل هذا كان نتيجة محتومة لاتباع الهوى.

ص: 369

المبحث الثالث معصية النفس

إن النفس هي قوة خفية في ذات الإنسان ليس بالجسدية، لا تُدرك، بل ندرك اندفاعاتها واتجاهاتها، ويمكن أن تكون كل حركات الجسد، ورغبات الإنسان هي من دوافع نفسية، سواء أدخل ذلك في الشعور أو في اللاشعور، ولأن الغرابة تلف هذه القوة العظيمة فقد اهتم الفلاسفة بهذا الشأن، وتعددت واختلفت الآراء، وكان ذلك الاختلاف غالباً فمن تلك الآراء: ((قوى النفس: قوة الفنطازيا، والقوة المصورة، والقوة المخيلة والقوة الوهمية، والقوة الحافظة والذاكر)) (45). فتعددت قوى النفس ولكنها متخاصمة مع إرادة الإنسان في عادتها، وكأنها شيءٌ آخر يساجل ويجادل المرء في ذاته، إلا إن القرآن الكريم عندما جاء بين خطورة النفس وأشار في عدد من الآیات المباركات الى الابتعاد عما تريده النفس، قال تعالى في ذلك: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...» (46)، وقوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (47).

وبهذا إشارة كافية للحذر من النفس ومغباتها، والابتعاد عما تطلبه، وكأنها قوة أودعت في كيان الإنسان على توتر مع العقل والمنطق البديهي.

وهنا فقد حذّر الإمام علي (عليه السلام) من طاعة النفس في رَغَباتها، وضرب الأمثال من القرآن الكريم، فمن كلام كان يوصي به أصحابه: ((وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نَصباً بالصلاة بعد التبشير لهُ بالجنةِ، لقول الله سبحانهُ: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»، فكان يأمر أهله ويصبر عليها و نفسه)) (48).

ص: 370

وهنا يشير (عليه السلام) إلى أن الرسول كان في صلاته یُصبر نفسه. وبهذا يمكن أن يريد تبیان شیئ، وهو إن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بعظمته كان يصبر نفسه على طاعة الله تعالى، والصلاة هي ترويضاً للنفس، وتنزيهاً لها إلا إن الإمام (عليه السلام) جعل النبي (صلى الله عليه وآله) مثالاً للناس في هذا الأمر، وفي ذلك يريد أن يجعل النبي أسوة حسنة يُقتدى بها حتى في ترويض النفس، يريد أن يبين خطرها إذا ما روضت بالعمل الصالح، وفي مقدمتها الصلاة، وهذه دعوة قد دعا بها القرآن الكريم من خلال النص القرآني الذي مرّ ذكره، وبهذا أراد الإمام (عليه السلام) أن ينذر الناسَ من هذا الخطر والذي هو متلبسٌ في ذواتهم.

ومن كلام له (عليه السلام)، وفيه كان يشير الى السالك طريق الله تبارك وتعالى: ((قد أحيا عقلهُ، وأمات نَفسهُ، حتی دَقَّ جليلُهُ ولطف غليظه)) (49). وهذه الصفات التي نقلها الإمام (عليه السلام) عن السالك طريق الله، وكأنها أفعال قام بها في تغيير الأدوار فبدلاً من أن تكون الحياة للنفس، قد أماتها والموت للعقل إذا اشتدت رغبات النفس، فهو قد أحياه، وفي هذا إشارة أخرى في كلامهِ (عليه السلام) هي يمكن أن الفطرة الإنسانية هي مجبولة على الانقياد الى النفس، وفي ذلك يكون دور العقل قد انحسر وتراجع، فبدأت النفس بسطوتها، لكن هناك من سعى إلى الله، قد عمد الى إماتة نفسه ومحاربة أهواءها.

ومن كتاب له (عليه السلام) بعثه الى معاوية بن أبي سفيان، ومن جملة كلامه (عليه السلام): ((وإن نفسك قد أو حلتك شراً وأقحمتك غيّاً، وأوردتكَ المهالك، وأوعَرَت عليك المسالِكَ)) (50). يجدر الإمام (عليه السلام) معاوية من نفسه، فقد قادته نفسه، فأذعن وأطاع، وكانت من نتائج تلك الطاعة أو حلت

ص: 371

به شرّاً، والوحل هو الطين الرقيق (51)، وهنا يشير الإمام (عليه السلام) إن تلك النفس التي تحدث عنها قد أركست صاحبها في الطين، فهو لا يمكن له الرجوع إلى الطريق السوي إلّا بصعوبة وما للوحل من صفة ترفضها النفس ذاتها، أراد بذلك أن يستشعر معاوية ذلك الخطر الذي يحيط بهِ من نفسه، فلم يرَ - عليه السلام - أن الوعظ الديني ينفع مع الذين ساقتهم نفوسهم ليرضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، فجاء (عليه السلام) بمتتالية استعارية إذ استعار بعض الصور اللفظية التي يمكن أن تؤثر بالسامع من خلال إبصاره لما أغفل عنه، وبعدها - عليه السلام - قال له: (وأقحمتك غيّاً)، والاقحام في المعنى اللغوي هو ايقاع النفس في الشدة (52). وهذا يعني إنه قد أوقعته نفسه في شدة وهذا إتمام المعنى الوحل، والوقوع به شدةٌ في عينها، وهناك قد تراكمت المعاني اللغوية التي تشير الى هدف واحد هو تكثيف المعنى، لعل الآخر المخاطب يشعر بعظیم ذلك الذنب، فيكون هذا الكلام حائلاً أمامه من أن يتعدى إلى أكثر مما وصل اليه، وهنا لا بد من معرفة معنى (الغي) الذي جاء تبعاً للفظة (أقحمتك)، فقيل عن الغي هو: ((سوء التصرف في الشيء واجراؤه على ما يسوء عاقبته)) (53).

ومن هذا المعنى اللغوي نستدل أن الإمام (عليه السلام) كان يعني أن معاوية لم يحسن التصرف في أحوال الناس وهو منقادٌ الى نفسه ونفسه تقوده مع الناس إلى طريق الهلاك، وأوردته المهالك كما وصفه (عليه السلام) في نهج البلاغة (54). فنلاحظ تلك النفس الأمارة إنها لم تهلك صاحبها فحسب، بل إن ضلال صاحبها يعني ضلال أصحابه، وبهذا فإن هدم الإنسان هو هدم للمجتمع فهو لبنة من لبناتةِ الأساسية.

لذلك نلاحظه (عليه السلام) مرة يركز على بناء الانسان الواحد ضمن

ص: 372

الجماعة، ومرة يريد بناء المجتمع سوية.

ومن كتاب له (عليه السلام) الى عثمان بن حنیف عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي الى وليمة (55). وبعد كلام يشتد فيه عتاب الإمام (عليه السلام) لابن حنيف ضمن إطار الوعظ والتحذير وقد تعرض لأرض فدك بالذكر، فقال: ((وما أصنَعُ بفدك وغير فد والنفس مظانُّها في غدٍ جَدَث، تنقطع في ظلمته آثارها)) (56).

وهنا (عليه السلام) يشير هذه المرة الى نفسه الزكية، فهي ليست كغيرها من النفوس فهي النفس المطمئنة، وكيف لا تكون كذلك وقد ولدت ونشأت وتربت في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإمام (عليه السلام) هنا قد أشار في قوله (والنفس مظانها في غذٍ جَدَث)، ولم يقل العقل، لأنّ قضية الموت قد اختص بها العقل، لأنها تحتاج الى تفكر وتدبر ذهني، مثلما الإيمان يرسخ في القلب، فلا بد أن يكون ذلك الرسوخ قد تندّى من خلال العقل، فالنفس أينما يرد ذكرها في القرآن الكريم فهي تشير إلى الرغبات، وعادة تتضاد مع العقل وتتخاصم من خلال قوى النفس العقلية والعاطفية، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد ذكر النفس وهو يشير إلى نفسه الطاهرة كما أسلفنا، وكأنها هي التي تتدبر في غدٍ وقد أيقنت بالموت الذي لا بد من ملاقاته، وقد قابل ذکر أرض فدك بالحدث وهو القبر کما أشرنا، ليبين أن لا قيمة لسعة الأرض أمام ضيق القبر، وفي كل هذا إشارة وعلامات للمتدبرين في أخذ الحذر، فمن هذا نستدل أن الإمام (عليه السلام) جعل من ذكر نفسه مختلفة عن نفوس الآخرين، ففي الوقت الذي نفوسهم تطلب الدنيا فنفسه تعرض عن الدنيا وترجو الآخرة، فالإمام (عليه السلام) قد بين أن بين عقلهِ ونفسه علاقة توازي، لا علاقة توتر کما في

ص: 373

بناء الإنسان الآخر، فقد اتحدت نفسه مع عقله، ولم يكن ذلك إلّا بسبب ترويض النفس وصد رغباتها، وهذا أعطى (عليه السلام) درساً في كيفية غَلَبة النفس إن أراد الإنسان أن يكون هو متولي عليها.

وقد أتمّ قوله (عليه السلام) في حديث المتواتر عن النفس ونصرة الذات عليها فقال: ((وإنما هي نفسي أروضها)) (57) هنا لا بدّ من معرفة معنى كلمة أروضها التي وردت في كلام الإمام (عليه السلام) للأثر الكبير الذي تتركه في السياق، فجاء في كتب اللغة: ((رُوضتُ الدّابة أرُوضُها رياضة أي علّمتُها السَّير)) (58). فنلاحظ استعمال الإمام (عليه السلام) للفظة أروضها أو التي هي الصبر على المعاصي والابتعاد عن ما يشين من خلال معصية النفس، ومسايرتها صوب النجاة، وجاء كلامه - عليه السلام - عن ترويض النفس، لعل سائل يسأل إن القرآن الكريم، قد وصف النفس هي التي تدفع إلى السوء، من خلال ما جاء في قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (59)، فترويض النفس الذي وصفه - عليه السلام -، هو ما يتوافق مع قوله تبارك وتعالى «إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي»، فترويض النفس هو رحمة من الله تعالى للخلاص نفحات الشيطان.

وقبل أن يختم كلامه (عليه السلام) في الخطبة ذاتها، يقول: ((ولكن هيهات أن يغلبني هواي)) (60)، فختم الإمام (عليه السلام) كلامه ب (هيهات) ومعناها اللغوي كما أشارت معجمات اللغة هي كلمة تبعید (61)، وهنا يريد أن يفارق ذهن السامع بكلمة ذات دلالة شديدة بالبعد والافتراق بينه وبين نفسه، ولابد أن يكون هو الغالب لها، والإمام (عليه السلام) قد تكررت عنده لفظة هيهات في مقارعة النفس، عندما قال: ((لأروضنَّ نفسي رياضةً تَهن معها إلى القرص)) (62)،

ص: 374

هذا حتى يزيد من زخم المعنى عن المتلقي من خلال تكرار اللفظ، وجاء ضمن كتابه الذي بعث به إلى عثمان بن حُنیف قوله: ((طُوبی لنفس أدّت الى ربها فرضها، و عُرکت بجنبها)) (63)، هنا لا بدّ من معرفة معنى طوبي التي ضمنها الإمام (عليه السلام) في كلامهِ لأنِها تثري الكلام بعمق معنوي، فطوبي في الأصل الديني هي من الألفاظ القرآنية التي تأثر بها (عليه السلام) حتى أصبحت سمة للغتهِ عامة، فقد جاء قوله تعالى: «...طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» (64).

ولم يتفق علماء اللغة على معنى واحد لهذه اللفظة، فقد تعددت معانيها، لكنها جميعاً تشير الى الدلالة الحسنة، وهي لا تخلو من رائحة الثواب، فقيل طوبى لهم معناه خيرٌ لهم وقالوا طوبی اسم الجنة بالحبشية، وآخر قال هو اسم الجنة باللغة الهندية (65). وكل هذه الآراء هي تشير الى المعنى الحسن كما أسلفنا، فإذا كانت الجنة هي طوبی، فالإمام طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ يقول الجنة لمن استطاع أن يقود نفسه لتؤدي فرائض ربها وتأدية الفريضة يقابلها ترك المعصية، وإذا كان معنی طوبی هو الخير كما أشار آخرون من أهل اللغة، فالخير لمن كانت نفسه بيده، وهذا کلام منه (عليه السلام) هو دافع معنوي للاستقامة على طريق الحق والاعراض عن بُنيات الضلال. ثم بعد ذلك أتم قوله - عليه السلام - عطفاً على ما بدأ في حديثه عن النفس، وقال: ((وعركت بجنبها بؤسها)) (66)، وكلمة عركت التي استعملها الإمام (عليه السلام) جاء معناها في معجمات اللغة من الأصل عرك: ((عرکت الشيء أعرکه عرکا: دلكته)) (67). لقد استعار الإمام (عليه السلام) هذا الفعل من الدلك، وجعل منه لفظاً ذا معنىً للنفس، وكأنها تدلك البؤس الذي أصابها من معصيةٍ أو هلال وتضعه الى جانبها للخلاص منه، وهناك معنى نفسي کبیر بذره الإمام (عليه السلام) في نفس المتلقي، وهو إن عملية الدلك هي أشبه

ص: 375

بعملية تنظيف الجسد، وكأن ذلك البؤس الذي تلّبس بالنفس هو شبيه بالأوساخ التي غطت الجسد، وعملية الدلك هي أشبه بعملية الصراع مع النفس وتجريدها من الخطأ والعمل بالتقوى فهو من يدلك تلك الذنوب لقوله تعالى: «...إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...» (68). فاقتراف الحسنة يعني درء للسيئة في وقت الحصول على الحسنة ومغفرة السيئة التي قد ارتكبها قبل هذا.

ص: 376

الخاتمة

لا يوجد بحث يخلو من الصعوبة أثناء كتابتهِ، فكل البحوث العلمية لابدّ أن تمرّ بمراحل معقدة تنتاب الباحث، سواء إن كانت تلك الصعوبات في أيام جمع المادة أم في المراحل التي تليها أثناء عملية الكتابة. وهذا البحث لا يختلف عن غيره فيما واجهه من صعوبات، كان سببها الأول هو لتشابه فصوله، وكما أشرنا الى ذلك التداخل بينها في مقدمة البحث، وهذا كان عائقاً في طريق البحث، وكيفية توزيع الأفكار على تلك المباحث المتداخلة إلى حد كبير في مضامينها.

أما النتائج التي توصل إليها البحث فقد جاءت على نقاط عدة، كان منها:

* حذّر الإمام علي (عليه السلام) من الدنيا ومن الهوى والنفس، باعتبار أن الدنيا هي الساحة، أو المكان الذي يعصى الله فيه، من خلال دفع النفس واذعان الهوى.

* أراد (عليه السلام) أن يجرد الإنسان من كل ما يشين المرء، وحثّ على بناء الإنسان من خلال الاتجاه به الى الكمال الانساني، والذي يمكن للمرء أن يدرکه إذا أراد أن يخاصم نفسه ويقتل جماحها.

* في كل مرة (عليه السلام) يحذر أو ينهى الناس من معصية الله، كان يجعل نفسه (عليه السلام) مثالاً لهم في تركهِ الهوى والاعراض عنه، والعزوف عن الدنيا حتى لا تكون الحجة في ذلك ويجادلون عن نفوسهم الأمارة، لأن النفس تأتي يوم القيامة وهي تجادل عن نفسها، كما جاء في قوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (69).

* حرص الإمام (عليه السلام) أن يصل كلامه إلى الغائب البعيد أكثر من

ص: 377

الحاضر، وذلك حتى تتعاقب عليه الأجيال، فهو يحمل الأثر الكبير ذاته، وهذا ما حصل بالفعل فكلامه ما زال طرياً وكأنه قد قاله (عليه السلام) ونحن نعاصره.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة: 90.

2. ينظر : لسان العرب: 11/ 142.

3. نهج البلاغة: 348.

4. سورة الكهف: 28.

5. سورة القصص: 10.

6. نهج البلاغة: 429 - 430.

7. ينظر: العين: 6/ 95.

8. نهج البلاغة: 442.

9. ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة:

10. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/ 350، الغارب هو مقدم السنام.

11. شریح بن هانئ بن يزيد بن الحارث بن کعب، وقيل شریح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان الخباب: ينظر: أسد الغابة: 2/ 628.

12. نهج البلاغة: 468.

13. الصحاح: 2/ 768، والآية 5 من سورة فاطر.

14. قيل إنه شهد القادسية وله فيها أشعار كثيرة، وهو رسول سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب. ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة: 340/1.

15. نهج البلاغة: 470.

16. سورة الأنبياء: 35.

17. سورة البقرة: 179.

18. نهج البلاغة: 478 - 479.

19. سورة الروم: 7.

20. سورة الانشراح: 1 - 2.

21. سورة القصص: 76.

ص: 378

22. سورة طه: 126.

23. نهج البلاغة: 479.

24. م، ن: 417.

25. ينظر: أساس البلاغة: 1/ 278.

26. سورة النازعات: 40 - 41.

27. نهج البلاغة: 101.

28. سورة التكاثر: 5 - 7.

29. المستطرف في طل فن مستظرف: 106.

30. صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم: 56.

31. عثمان بن حنیف بن واهب أبو عبد الله الأنصاري. من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو أخو سهل بن حنيف. ينظر: اختيار معرفة الرجال: 13/ 6.

32. نهج البلاغة: 441.

33. سورة يوسف: 53.

34. نهج البلاغة: 451.

35. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 4/ 358.

36. نهج البلاغة: 484 - 489.

37. سورة النازعات: 40 - 41.

38. التذكرة الحمدونية: 1/ 366، ، والآية 43 من سورة الفرقان.

39. نهج البلاغة: 468.

40. العين: 7/ 318، ينظر : الغريب المصنف: 313.

41. لسان العرب: 4/ 483.

42. نهج البلاغة: 393.

43. نهج البلاغة: 394.

44. الفائق في غريب الحديث: 4/ 93.

45. تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 545.

46. سورة يوسف: 53.

47. سورة النازعات: 40 - 41.

ص: 379

48. نهج البلاغة: 345، والآية 132 من سورة طه.

49. نهج البلاغة: 364.

50. م ، ن: 417.

51. ينظر: تاج اللغة وصحاح العربية: 5/ 1840.

52. ينظر: الكليات: 160.

53. التوقيف على مهات التعاريف: 255.

54. ينظر: نهج البلاغة: 417.

55. لقد تكرر ذكر الوليمة التي دعي اليها عثمان بن حنيف، لتكرار الالفاظ التي جاءت متطابقة مع مادة البحث، فمرة ذكرنا الدنيا ومرة الهوى واخرى النفس.

56. نهج البلاغة: 441. و (جدث): الأجداث: القبور، واحدها جدث. ينظر: العين: 6/ 73.

57. نهج البلاغة: 441.

58. العين: 7/ 55، ينظر: تهذيب اللغة: 12/ 43.

59. سورة يوسف: 53.

60. نهج البلاغة: 441.

61. تاج اللغة وصحاح العربية: 6/ 2258.

62. نهج البلاغة: 443.

63. م ، ن: 444.

64. سورة الرع : 29.

65. ينظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 499.

66. نهج البلاغة: 444.

67. تاج اللغة وصحاح العربية: 4/ 1599.

68. سورة هود: 114.

69. سورة النحل: 111.

ص: 380

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1- أخبار معرفة الرجال، تراجم ورجال الشيعة، نسخة الكترونية.

2- أساس البلاغة، الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد جار الله (ت 538 ه)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

3- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري (ت 630 ه)، تحقيق: علي محمد معوض - عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الکتب العلمية.

4- الأصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد (ت 852 ه)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الكتب العلمية، بیروت.

5- الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، جلال الدين أبو عبد الله محمد بن سعد الدين بن عمر، الناشر: دار إحیاء العلوم، بيروت، ط 4، 1998 م.

6- تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إحسان عباس، دار الثقافة، ط 4، 1983 م.

7- التذكرة الحمدونية، بهاء الدين بن حمدون أبو المعالي (ت 562 ه)، الناشر: دار صادر، بيروت، ط 1، 1417 ه.

8- تهذيب اللغة، الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 2001 م.

9- التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زین العابدين الحدادي المنادي القاهوي (ت 1031 ه)، الناشر: عالم الكتب، عبد الخالق ثروت، القاهرة، ط 1، 1410 ه - 1990 م.

10- جسد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، القاضي حسين بن محمد المهدي، الناشر: وزارة الثقافة والإعلام، اليمنية سنة 2009 م.

ص: 381

11- الزاهر في معاني كلمات الناس، أبو بكر الأنباري محمد بن القاسم بن محمد بن بشار (ت 328 ه)، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت.

12- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، اسماعيل بن حماد، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1407 ه - 1987 م.

13- العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي

14- الغريب المصنف، أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله الهروي البغدادي (ت 224 ه)، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

15- الفائق في غريب الحديث والأثر، الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد جار الله (ت 538 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي - محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار المعرفة، لبنان.

16- الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي الحنفي (ت 1094 ه)، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت.

17- لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري (ت 711 ه)، الناشر: دار صادر - بيروت، ط 3، 1414 ه.

18- المستطرف في كل فن مستظرف، الأبشيهي شهاب الدين محمد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1986 م.

19- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري (ت 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي،، الناشر: المكتبة العلمية، بيروت، 1399 ه - 1979 م.

ص: 382

المحتويات

المحور التربوي والأخلاقي

أثر القيم الأخلاقية في بناء النفس البشرية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع في ضوء سيرة الإمام علي (علیه السلام) الباحث احمد محمد جواد الحكيم

مقدمة...11

أولاً: المراد من القيم والأخلاق والسلوك الإنساني...13

ثانيا: وسائل عملية لبناء النفس البشرية...18

1. قوة المثال الشخصي...18

2. تحليل وتصنيف مواطن الضعف الأخلاقي...19

(أ) وصف للخصائص السلبية للنفس البشرية...20

(ب) تصنيف النفس البشرية...20

ص: 383

3. الإستقامة في المعاملات...23

4. محاسبة دقيقة من النفس ومن الآخرين...24

5. موازين دقيقة في تعامل الإنسان مع الآخرين...26

6. اتباع قادة الحق...28

7. العمل الجماعي والابتعاد عن الانعزالية...29

ثالثا، انعكاسات القيم الأخلاقية على المجتمع...30

1. اعتماد نهج سياسي قائم على الفضيلة...30

2. التشديد على مبدأ الحوار أولاً...32

3. متابعة دقيقة للولاة والأنصار...32

4. التعاطف والتراحم مع الفئات الضعيفة...34

5. نقد للمواقف الحيادية...35

رابعاً: مفارقات في الأخلاق والسلوك...36

1. تناقضات في السلوك والأخلاق...37

2. ازدواجية السلوك...37

3.تغيّر المقاييس والأحكام...38

خاتمة...39

ص: 384

الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام) أ. م. د. فلاح حسن عباس كلية الآداب - جامعة ذي قار

المقدمة...47

المبحث الأول: التحرر الفكري والإنساني...49

المبحث الثاني: الآخر والتعايش السلمي...52

المبحث الثالث: التواضع وسعة الصدر...56

المبحث الرابع: العدل...58

المبحث الخامس: القضايا الاقتصادية والاجتماعية...63

الخاتمة...69

المصادر والمراجع...73

الخطاب الوعظي وهدفهُ الإصلاحي في سيرة الإمام عليه (عليهِ السلام) (جوانب من خطبة الوسيلة أنموذجا)

إعداد الباحثان

أ. م .د أنسام غضبان عبود الباهلي كلية الآداب / جامعة البصرة

م. قاسم عبد سعدون الحسيني كلية التربية / جامعة ميسان

المقدمة...77

ص: 385

المبحث الأول: مفهوم الخطاب الوعظي وأدواتهِ...78

الإطار اللغوي والاصطلاحي...78

أثر الخطاب وأهميته في بناء الأمة:...80

إمكانيات الخطيب وأدواتهه:...81

المبحث الثاني: النهج الوعظي في سيرة الإمام علي (عليه السلام)...85

المبحث الثالث: خطبة الوسيلة...92

1- خطبة الوسيلة. سندها وأهم مصادرها...92

2- خطبة الوسيلة عنوانها وتاريخها...93

3- محورية قضية الأمامية في خطبة الوسيلة...93

4- جوانب من الخطاب الوعظي في خطبة الوسيلة...95

الخاتمة...103

المصادر والمراجع...112

قائمة المصادر...112

مقدمة...117

قائمة المراجع...117

النسق القيمي التكاملي أثره الاصلاحي في مستوى تشكيل الذات السلوكية للمجتمع بحث في ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر (رضی الله عنه(

أ. م. د. مكي فرحان كريم جامعة القادسية / كلية التربية

أ. م. د. ضياء عزيز الموسوي جامعة كربلاء / كلية العوم الإسلامية

مقدمة...123

ص: 386

المبحث الأول: دراسة المداخل النظرية لمحددات البحث...124

المبحث الثاني: عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (علیه السلام) أمثلة تطبيقية...128

الخاتمة...136

(أهم النتائج والاستنتاجات)...136

المصادر والمراجع...139

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الإنسان في ضوء سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) وانعكاسها في خدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا أ. د. صباح حسن عبد الزبيدي جامعه بابل / كلية التربية للعلوم الإنسانية

الفصل الاول: مدخل عام...145

مشكلة البحث...145

أهمية البحث:...147

أهداف البحث:...149

حدود البحث:...149

تحديد المصطلحات:...150

أولا:- الدور: ويعرف بعدة تعاریف منها:...150

ص: 387

ثانيا:- القيم الأخلاقية الفاضلة:...150

ثالثا:- امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)...152

رابعا:- البناء - (Structure) وتعرف نظريا...153

خامسا: بناء الشخصية:...154

سادسا:- المجتمع:...154

سابعا:- المجتمع الاسلامي الموحد...155

ثامنا:- المنهج الدراسي:...156

الفصل الثاني: التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد...157

طبيعة القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:...157

اهميه القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:...157

خصائص القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:...158

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة ودورها في بناء ( الانسان والمجتمع ):...159

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في البناء العقائدي أو الفكري للإنسان من خلال:...165

بناء الانسان بشكل متكامل في نظر الاسلام:...167

المحور الثاني: سيرة امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (علیه السلام)...173

وصايا امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان

ص: 388

والمجتمع الاسلامي الموحد:...177

الفصل الثالث: توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في المناهج الدراسية الجامعية الإسلامية...186

أولا: الاستنتاجات:...190

ثانيا: التوصيات والمقترحات:...191

المصادر والمراجع...192

قيمة التواضع في كلام الإمام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة بوصفها مرتكزاً أساسيًا لبناء الهوية الإنسانية د. وسام حسين جاسم العبيدي كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة / بابل

المقدمة...197

المحور الأول: التواضع في المشغل الاصطلاحي للمفهوم...199

المحور الثاني: قيمة التواضع في الخطاب العلوي الشريف...206

الخاتمة...223

المصادر والمراجع...225

ص: 389

الأثر القرآني في فكر الإمام علي (علیه السلام) دراسة للمبادئ التربوية في نهج البلاغة أ. م. د. محمد کاظم حسين الفتلاوي كلية التربية / جامعة الكوفة

مقدمة...289

المطلب الأول: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة...293

المطلب الثاني: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة...305

أولاً: التربية بمبدأ الاستخلاف (الحكومة)...305

ثانياً: مبدأ الحرية والاختيار:...309

ثالثاً: مبدأ الرّفق التربوي:...312

رابعاً: مبدأ الاعتدال والوسطية:...317

خاتمة ونتائج:...321

قائمة المصادر:...328

المرأة في نهج البلاغة الروايات الموافقة للقرآن الكريم دراسة تقابلية م. د. أنوار عزیز جلیل جامعة البصرة كلية التربية للعلوم الإنسانية

المقدمة...333

الروايات الموافقة للقرآن الكريم...334

ص: 390

خاتمة البحث...342

المصادر والمراجع...345

بناء الإنسان في درء الهوى - دراسة تحليلية - محمد حاكم حبيب الكريطي ماجستير لغة عربية

المبحث الأول: تضعيف الأمل في الدنيا...351

المبحث الثاني: مغالبة الهوى...358

المبحث الثالث: معصية النفس...364

الخاتمة...371

المصادر والمراجع...375

ص: 391

ص: 392

المجلد 4

هوية الکتاب

منهج الامام علي علیه السلام في بناء الانسان وانسانیة الدولة اعمال المؤتمر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3665

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3665

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احادیث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الأخلاق الاسلامية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق - تاریخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية

المؤتمر العلمي الثاني

منهج الامام علي علیه السلام في بناء الانسان وانسانیة الدولة اعمال المؤتمر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

الجزء الرّابع

للمدة

14 - 13 / ربيع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 3 / 12 / 2017 م

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1440 ه - 2019 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Info@lnahj.org

تنويه:

إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

تخلي العتبة الحسينية المقدسة مسؤوليتها عن أي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

«وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»

صدق الله العلي العظيم

مریم: 55

ص: 5

ص: 6

المحور اللغوي والأدبي

ص: 7

ص: 8

أثر الحذف في تماسك النص في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه

اشارة

أ. م. د. كاظم عبد الله عبد النبي

كلية الإمام الكاظم علیه السلام

ص: 9

ص: 10

مقدمة

يتناول البحثُ الحذفَ بوصفه أسلوباً نصيا بلاغيا مهمّاً من أساليب الكلام الذي يسهم بشكل واضح في تماسك النص وتعلّق أجزائه بعضها مع بعض، وقد استثمره الإمام علي - عليه السلام - استثماراً عجيباً في رسالة العهد الذي كتبها إلى عامله مالك الأشتر، فوجدنا قدرته الفنية العالية في توظيفه لصالح النص، وقد استعمل فيه أنواعاً مختلفة: كحذف العبارة، أو الجملة، أو الكلمة، أو الحرف.. وكل ذلك يعود على مرجع يرتبط معه في النص من دون خلل أو ضعف في التركيب، على أن الحذف عنده يكون متأخراً عن المرجع؛ وذلك لتثبيت المعنى وترسيخه في ذهن عامله، ثم يأتي الحذف - بعد ذلك - لجزء من الكلام؛ لجعل المتلقي يقوم بمهمة ربط النص، وقد كثرُ عنده حذف العبارة بصورة كبيرة، وفيه تظهرُ قدرته العالية في نظم بنية الكلام؛ لأنّ حذف جزء كبير من النص يتطلب مهارة ودقة؛ لئلا يحدث خللاً في بناء النص وبهذا أبعد كلامه عن السأم أو التطويل أو التكرار غير المسوغ.

التمهيد:

تتعدد الطرق والأساليب التي يتخذها المرسل في عملية إيصال المعنى؛ وذلك من خلال استعماله عدة وسائل لغوية وحالية، وهي عند «فيرث J.R. Firth» أنّ المعنى ((كل مركّب من مجموعة من الوظائف اللغوية، وأهم عناصر هذا الكل هو الوظيفة الصوتية، ثم المورفولوجية والنحوية والقاموسية والوظيفة الدلالية لسياق الحال، ولكل وظيفة من هذه الوظائف منهجها))(1)، والنص يحمل فضاءً واسعاً من المعاني التي يلونها الباث بإيحاءاته النفسية ومن ذاته المبدعة، والحذف أحد هذه الفضاءات التي يستثمرها المنشئ في بناء هيكله النصي ورسم ملامح

ص: 11

دلالية مترابطة.

والحذف قطع جزء من الشيء وهو عند الخليل (170 ه) ((قطف الشيء من الطرف))(2) أو هو إسقاط شيء، فحذف رأسه بالسيف قطعه.. ويقال حذف شَعْرِه، ومن ذنب الدابة إذا قصّر منه(3).

أما في مفهومه الأسلوبي: إسقاط بعض من مكونات النص حرفاً كان أو كلمة أو جملة أو فضلة أو عبارة مع وجود دليل على ذلك الحذف الذي ((يتمثل في قرينة أو قرائن مصاحبة حالية أو عقلية أو لفظية. فالقرينة الدالة تعد أهم شروط الحذف، يليها في الأهمية ألا يؤدي الحذف إلى لبس في المعنى))(4) فيشكل عدم وجود الدليل خللاً في فهم النص؛ لأنّه يجعل المعنى عائماً يحتمل عدة تأويلات ربّما تكون بعيدة عن قصد المخاطب، وهذا ما أكده علماء اللغة العرب(5).

والتفتَ النحاة والبلاغيون العرب إلى هذا النوع من الإيجاز، إذ إنّ الحذف أسلوب أصيل في لغة العرب حددوا له ضوابط وقوانين بحسب أساليب العرب وثقافتهم واستعمالهم اللغوي، وميلهم الكبير إلى الإيجاز بالنص وكانوا في دراساتهم يقدرون المحذوف في تحليلهم للنصوص، فقد ورد عن سيبويه قوله: ((وسألت الخليل عن قوله جلَّ ذكره: «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا» [الزمر 73] أين جوابها؟ وعن قوله جل وعلا: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ..» [البقرة 165]، «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» [الأنعام 27 ] فقال: إنّ العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبَر لأيِّ شيءٍ وضع هذا الكلام))(6) وهذا النص يأخذ بالنظر مقام المتلقي وسياقه الثقافي وموروثه الجمعي. ومن إشارات سيبويه (180 ه) للحذف الذي يمكن الاستغناء عنه لعلم المخاطب ما جاء في قول الشاعر:

ص: 12

نَحْنُ بِما عِنْدنا وأنتَ بِما ٭٭٭ عِنْدَكَ راضٍ والرأي مختلف

فحذف الشاعر (راضون) من قوله: «نحن بما عندنا»؛ لدلالة ما بعده عليه في عجز البيت «عندك راضٍ» وهذا وعي مبكر من الشاعر لفاعلية الحذف؛ لأنّه جعلَ صدر البيت متعلقاً بعجزه، ووعي مبكر لنحاة العرب ممن عملوا بمبدأ تقدير المحذوف، وهذا ما آمن به التحويليون في دراساتهم للبنية العميقة، الذي يمثل الحذف فيها أحد عناصر التحويل من البنية العميقة إلى البنية السطحية(7) الظاهرة لمتلقي النص الذي يقوم بدوره في استكشاف المحذوف وتركيب دلالة النص المحذوفة.

وللحذف أنواع كثيرة، لا يعتني تماسك النص بها إلاّ ما يسهم في ربط النص ويشترك في استمراره ومن أنواع التماسك بالحذف في رسالة الإمام علي - عليه السلام-:

أولًا: التماسك في حذف العبارة

وهذا النوع من الحذف يحتاج إلى قدرة عالية يمتلكها المتكلم؛ لأنّ هناك بتر كبير في النص يتجاوز الكلمة والكلمتين ويحتاج إلى حذق من صاحب النص حتى لا يصيب النص خلل أو ابتعاد عن سمة الإبانة، وهو استثمار للدلالة على القصد وتمكين النص من الاستمرارية فيحذف عبارة، يقول - عليه السلام -: ((يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ(8)، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلىَ أَيْدِيِهمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَإِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ

عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ(9) أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ

بِهِمْ))(10) ، فالحذف في هذا النص جاء مصحوباً بالعطف بحرف الواو وهي سمة غالبة في أسلوب الإمام علي - عليه السلام - وهذا يجعل النص أكثر ترابطاً من

ص: 13

الناحية التواصلية بحيثُ بقيت سلسلة العلاقات متصلة ومركّزة تدور حول فكرة العناية بشؤون الرعية، على أنّ الدوران حول الفكرة لا يصنع نصاً إبداعيا من دون الترتيب المنطقي لأجزاء الجمل في مساحة النص، وانتقاء الأسلوب المناسب في رصف الألفاظ، وهذا ما تتمتع به الذائقة العلوية؛ لأنَّ ((حسن الرّصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام، ولا يعمّى المعنى؛ وتضمّ كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها))(11)، ويبدو أنّ الإمام - عليه السلام - وسّع من مساحة الحذف حتى يرسّخ هذه السعة في صدر عامله (مالك الاشتر) ويحثّه على الصبر في أثناء تعامله مع الناس وردم تلك الفجوات التي كانت بين الحاكم والناس في ولاية من سبقوه، ويأمره أن يحنو عليهم ويأخذ على أيديهم ويعدَّهم إعداداً سليما كأنّه يقول له: ((فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى، وكما تحب أن يصفح الله عنك ينبغي أن تصفح أنت عنهم))(12)، فجاء الحذفُ على النحو الآتي:

يُؤْتَى عَلَى أَيْديهِمْ فِي الَعَمْدِ وَ.....الخطأِ

فأَعْطهِمْ منْ عَفْوِكَ وَ..... صَفْحِكَ

مِثْلَ الَّذي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ منْ عَفْوِهِ وَ..... صَفْحِهِ

ويقول - عليه السلام: ((وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ(13)، فَإِنَّهْ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ(14)، وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْو، وَلَا

ص: 14

تَبْجَحَنّ (15) بِعُقُوبَة، وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَة وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً، وَلَا تَقُولَنَّ: إِنِّي

مُؤَمَّرٌ..))(16) ويستمر حذف العبارة المقرون بالعطف في هذا التعبير؛ لتقوية أواصر التماسك وشدّ الألفاظ برباط المعاني؛ لأنَّ الكلام الملقى يمر بمرحلتين ((مرحلة الصياغة، ومرحلة الكشف عن الصياغة والباسها المعنى المطلوب))(17) ، ويبدأ النص ب (لا) الناهية الدالة على الكف المتعلق بالطاعة للناهي على جهة الاستعلاء، فالمتكلم الخليفة (رئيس الدولة) والمخاطب: عامل الخليفة (الموظف) وثمة نواهِ كثيرة في النص جاء من خلالها الحذف وهي: (لا تنصبنَّ نفسك.. وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْو، وَلاَ تَبْجَحَنّ..، وَلاَ تُسْرِعَنَّ.. ، وَلاَ تَقُولَنَّ..) وفي سياق ذلك النهي قام ع بحذف العبارة (وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ...رَحْمَتِهِ) أي:

من ولا غنى بك عن عفوه = و لا غنى بك عن رَحْمَتِهِ

الحذف آلية الربط

وهذا الحذف مقصود حافظ على قوة النص وأبعده عن ترهل الكلام، فضلاً عن التماسك الحاصل بين التعبيرين؛ لأنَّ الحذف يعود على مرجعه في التعبير الأول حتى يجمع المعاني التي يريدها ومنها: (العفو والرحمة)، وأكّد العفو بوصفه ((مرغوبا فيه مدفوعا إليه من الشارع فلا يندمنّ مسلم عن عفو قد صدر منه وكيف يندم على فعل أراده الله ورغب فيه..))(18) والدعوة مستمرة في عهد الإمام - عليه السلام - إلى خشية الله - سبحانه - والعدل بين الرعية.

ومن حذف العبارة الذي يسهمُ في تماسك النص قوله: ((..وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً (19)، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ..))(20)، في النص إحالة على سلطة

ص: 15

الحاكم المطلقة، وهي سلطة أعلى من الحاكم الأرضي وأوسع وهي سلطة الله - سبحانه وتعالى - وعليه أن يتذكّرها، ويأتي الحذف ليقوي هذا المعنى في ذهن عامله (مالك الأشتر) وكذلك في ذهن المتلقي المفترض، وهي حركة نصية تحفز الحاكم ليعود إلى الله -تعالى -؛ لكي لا يغتر الإنسان بما أنعم عليه من جاه زائل وسلطة مؤقتة تتنقل بين الناس؛ فجاء الحذف بأسلوب الشرط بعد أنْ فسّر ذلك بفعل شرط سابق في التركيب النصي (وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ..):

وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِیهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً

أوْ مَخِلَةً

وجواب الشرط (فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ..) يفسر ما يريده الإمام - عليه السلام - من عامله أنْ يفعله، وهو منهجه الذي يؤكدُ خوف الله - سبحانه وتعالى - وحضور قدرته على البشر جميعا ولا سيّما المتسلِّطين منهم، ويغلب هذا اللون من الخطاب في سياسة دولة الإمام - عليه السلام - وقد ضمّه في أساليبٍ لغوية عمّقت هذا المعنى ورسخته، فالخطاب الإداري ((مدونة لغوية تستمد روحها وفلسفتها ومبادئها من سياسة الدولة))(21) وهذا المفهوم من أهم ما أراده الإمام أن يسود إبّان حكمه، فإذا أدرك الأنسان أنَّ هناك من يحاسبه ويعلم بأفعاله سار في الاتجاه الصحيح.

ويعود مرة أخرى ليحذف عبارة ثانية من النص في قوله: (فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِر) ويأتي حذف العبارة المشفوع

ص: 16

بالعطف (و... وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِر) والتقدير: وانْظُرْ إِلَی عِظَمِ قُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِر.. والخطاب الإداري يكون عادةً بلفظ واضح مفهوم، غير أنّ الإمام - عليه السلام - يلوّن هذا النص بتأثيرات أسلوبية جعلت كلامه أكثر حيوية وقدرة على القبول والتفاعل، وهذا الحذف النصي أبعد هذا العهد عن الترهل والضجر والتطويل في مضمون الكلام.

ومن حذف العبارة الذي يسهم في ربط النص قوله - عليه السلام: ((أنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً (22) مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ)) (23) لاشكَّ في أنّ تعابير الإمام تحفلُ بالأساليب والمعاني التي تمثل اتجاهاته الفكرية والدينية والإنسانية التي يرغب أن تؤدي دورها في نشر الفضائل التي يؤمن بها، ويطلب من عامله أنْ يتصف بها، ويأتي الحذف بوصفه وسيلة من وسائل التأثير في النص لاسيّما إذا كان في النص أكثر من حذف للعبارة وقد حذف (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ) مرتين من التعبير فجاء كالاتي:

أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ

= و... مِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ

= و... مِنْ لَكَ فِيهِ هَویً

وجاء لترسيخ مفاهيم ثلاثة تتكون منها منابع الظلم والتي تصدر: (1 - من الوالي نفسه. 2 - من خاصة أهله. 3 - من له فيه هوى من اتباعه)، وكذلك للتركيز على معاني المحذوف؛ لأنّ الفراغ الذي يقطن في النص يولِّد فسحة من تأمّل المعاني، وبهذا يريد من عامله أنْ لا يميل عن الحقِّ ويفضّل نفسه أو أهله أو من له قربي من نفسه على سائر الناس، وحذف العبارة مرتين ينبئ بأهمية

ص: 17

المحذوف الذي جاء مع المذكور ثلاث مرات.

ومن حذف العبارة قول الإمام - عليه السلام -: ((وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِیرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِینَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِنَ بِالْمِرْصَادِ))(24) في النص تأكيد على زرع بذرة الخير من خلال نفي الظلم ونبذ الظالمين، الذي تمثّل بفعل النفي (ليس):

وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ

وَ.....تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَی ظُلْم

فجاء الحذف ليحذر من مغبَّة الظلم وتفاقمه ويربط الأفكار بوحدة دلالية متصلة؛ لأنَّ ((كل ربط يستلزم وحدة إلى حدٍّ ما، وحدة في المعنى بين الأجزاء التي يربط بينها.. ففي مقابل التناسق الشكلي الذي يفرضه النحو، يأتي تناسق معنوي يفرضه المنطق))(25) ليتم بناء المقصود.

وفي مقابل نبذ الظلم يأتي بأشياء أخرى يحببها إلى عامله، فيقول: ((وَلْيَكُن أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ،

فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ (26) وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ)) (27).

وَلْيَكُنْ أحَبَّ الاْمُور إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ

وَ...أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ

وَ...أَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ

فثمة أمران محببان هما: (العدل + رضا الرعية) وبذلك يكون المعنى موزعاً بين الخطاب الرسمي والتوجيه التربوي المتمثل بالعدل المجتمعي.

ص: 18

ويبقى في السياق ذاته ليستوفي أبعاد المعنى ويعمّق حضوره، فيقوم بتكثيف الحذف لئلّا تأخذ الألفاظ أكثر من وضعها المقرر فيقل تأثيرها في النص، فالإمام - دائماً - ميّالٌ إلى الإيجاز الواعي المصاغ بروح فنية عالية لا يشوبها قصر أو خلل في فهم المراد، يقول: ((ووَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالِإلْحَافِ(28)، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ

مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ(29) الْمُسْلِمِيَن، وَالْعُدَّةُ للأعداءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ(30) لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ))(31) والألفاظ تحمل معانٍ مكثفة ضمن جدلية العامة والخاصة من الرعية وكيف يمكن التعامل مع هذين الصنفين من الناس؛ لذا احتاج إلى تفعيل عنصر الحذف الذي جنّبَ الكلام كثيراً من التطويل، فجاء الحذف مكثفاً على النحو الآتي:

وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ - أَثْقَلَ عَلَ الْوَالِ مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ

وَ... - أَقَلَّ مَعُونَةً لَه(32) فِي الْبَلَاءِ

وَ... - أَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ

وَ... - أَسْأَلَ بِالِإلْحَافِ

وَ... - أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ

وَ... - أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ

وَ... - أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ

فهناك شبكة من علاقات الاتصال بين المعاني التي ألقاها الإمام في هذا النص معتمداً على أسلوب الحذف الرابط ع-لى امتداد النص على المستويين (العمودي و

ص: 19

الأفقي) وهي علاقة بين المذكور والمحذوف، فالحذف يربط ((الصلة بين ما يسمى بالبني السطحية، والبني العميقة والانتقال من إحداها إلى الأخرى))(33) فهذه العبارات بإيجازها تمثل دستور الإمام علي - عليه السلام- فضلا عن كونها أصبحت حكماً يتداولها الناس على مرّ العصور.

ومن حذف العبارة يقول: ((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الأمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ)) (34) جسّدَ النص فعل المشورة والابتعاد عمنْ لا تصلح مشورته في الحكم عن طريق أسلوب النهي (لا تدخلنَّ) وهم ثلاثة: البخيل والحريص والجبان، فاستدعى الحذف بوصفه تركيب تلتف حوله المعاني للخروج من سلطة الذات إلى آفاق واسعة من المعرفة والانفتاح على التعاون المثمر في أخذ القرار، ويتم ذلك عبر تحديد النوع (اللذين يُعتَمد عليهم في أخذ الرأي) فصاغ الكلام في جملٍ مترابطة سهَّلت عملية الاتصال للحثِّ في السعي نحو الكمال وهذا يحتّم وجود تركيب لغوي عالٍ يضمُّ تلك الأفكار؛ لأنَّ ((التعبير عن الفكرة الذي يتم بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة هو نوع من الاتصال، وهذا التعبير يعتمد أساساً على وجود نشاط لغوي مرسل من المتكلم ونشاط مماثل من المتلقي، وغالباً ما يكون هذا الاتصال موضوعاً خالصاً أو فكرياً محضاً))(35) والتعبير يؤكد فعل المشورة في تداخل نصي محكم نسج خيوطه حذف العبارات المصحوب بالنهي:

لاَ تُدخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِیلاً

وَلاَ... جَبَاناً

وَلاَ... حَرِیصاً

ص: 20

فالحذف حرّكَ معاني ما بعدَ النص إلى ما قبلها ليتمركز المعنى على أسلوب النهي المرجع الأول (لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً) وفي ذلك أغراض:

نهي الفعل - الأشخاص المنهي عنهم - السبب

لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ - البخیل - يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ

لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ - الجبان - يُضعِّفُكَ عَنِ الأمُورِ

لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ - الحریص - يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ

ومن حذف العبارة قوله: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض)) (36) فقد حذف عبارة من النص ما أراد تکرارها تعود إلى مرجع قبلها طلباً للإيجاز:

- وَاعلَم أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصلُحُ بَعضُهَا إلاَّ بِبَعض

وَ... لاَ غِنَى بِبَعضِهَا عَن بَغض

وَاعلَم أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ غِنَى بِبَعضِهَا عَن بَغض

وعندما يريدُ تكثيف المعاني والإشارة إلى أمر ما وتثبيته في الذهن يكثر من الحذف خشية التطويل وضعف التأثير يقول عليه السلام -: ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ

حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى

الأَقْوِيَاءِ))(37) فقد ثبت عبارة (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ) وأحال عليها بالحذف جمل كثيرة:

ص: 21

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله

وَ... لِرَسُولِهِ

وَ... لإِمَامِكَ

ويقلل من الحذف في النص:

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ

وَ... أَنْقَاهُمْ جَيْباً

وَ... أَفْضَلَهُمْ حِلْماً

ومن حذف العبارة: ((وَمن طَلبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً))(38) فجاء الحذف على وفق الآتي:

ومَن طَلَب الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ

وَ... أَهْلَكَ الْعِبَادَ

وَ... لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً

ومن حذف العبارة قوله: ((ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ

تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ وَتوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ)) (39).

ص: 22

ثانياً: التماسك في حذف الجملة

يقول - عليه السلام -: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ))(40)، وهناك حذف جملتين في هذا النص تعود على مرجع في جملة سابقة:

(وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ) و... المحبة لهم = وأشعر قلبك المحبة لهم

و... اللُّطفُ بهم = وأشعر قلبك اللطف بهم

وهذا الحذف أسهم بشكل فاعل في زيادة حيوية النص، فإن التكرار - غالباً - يبعثُ السأم إذا كان في غير محله، وقد أوكلَ ملئ مكان المحذوف للمتلقي الذي يقوم بحركة ذهنية تنشط مهمة التفاعل والإصغاء الذي يبحث عنها المنشئ، والحذف هنا يعطي فرصة للمشاركة في إنتاج الدلالة وإكمال الصورة بوقعها الداخلي، ويتضح من خلال السياق قصدية الحذف في (أشعر قلبك) إذ ينبه المتلقي بوقع ذلك المعنى والإحساس به، فيراه مرة شكلاً مكتوباً في النص ويدركه أخرى بقلبه محذوفاً في سياق يحمل كلّ معاني التعايش والرقي الإنساني من (رحمة ومحبة ولطف).

ومن حذف الجملة يقول - عليه السلام -: ((وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ

وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ))(41)، وحذف الجملة (الْصَقْ بِأَهْلِ) من الجملة الثانية: (وَ... الصِّدْقِ) أسهم في قوة الربط؛ وذلك ليجعل عامله قريباً من أهل الورع، وأهل الصدق بل ملتزقاً بهم، والحذف ساعد في جذب الجملتين

ص: 23

وشدَّ من ارتباطهما المعنوي. ومن حذف الجملة عند الإمام (عليه السلام) حذف فعل الأمر (املك المتضمن الفاعل المستتر) في قوله: ((امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ..))(42) فثمّة جمل محذوفة تعود على جملة مرجع قبلها وهذا الحذف جعل الكلام متصلاً منسجماً له أصل مرتبط به يوضح بعمق غرض الحذف الذي يريده الأمام - عليه السلام - وهو الالتزام بهذه الصفاة التي أمرها به وهي وصايا إنسانية بحتة.

امْلِكْ - حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَ.... سَوْرَةَ حَدِّكَ، وَ.... سَطْوَةَ يَدِكَ، وَ.... غَرْبَ لِسَ

الجملة المرجع

ثالثاً: التماسك في حذف الكلمة:

يقول الإمام علي - عليه السلام - في أرقی کلام إنساني هزّ النفس البشرية في تقسيم الناس تقسیماً يفضي إلى احترام الآخر وإن كانَ على غير دين: ((وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِیرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ))(43)، فإذن ثمَّة صنفان من الناس حذف الإمام اسمي هذين الصنفين:

(.... إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ) والتقدير: الأول إمّا أخٌ...

(.... إمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ) والتقدير: الثاني إمّا نظيرٌ...

وحذف ذلك لوعي المخاطب بالمحذوف، وكذلك فأنّ ((الصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن))(44)، فاصبح الكلام يرفلُ بالإيجازین (القصر والحذف)، ولو تأملنا هذا النص جيداً لوجدنا

ص: 24

مسوغ تقديم الصنف الأول: الأَخُ فِي الدِّينِ على الصنف الثاني: النَظِیرٌ فِي الْخَلْقِ؛ لأنَّ الصنف الأول يحمل مزیتین: (1 - الأخ في الدين 2 - النظير في الخلق)، أمّا الصنف الثاني: فله مزية واحدة (نظير الخلق) ويشترك الاثنان كلاهما في النوع البشري.

أصناف الناس - الصفات - العامل المشترك

1 - أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ - مسلم + بشر (نوع الجنس) - النوع واحد بشر

2 - نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ - النوع (بشر)

وبهذا يشرق النص بمعانٍ تنبئ عن تلك الروح الإنسانية التي لا تفرِّق بين ابناء النوع البشري الواحد وتدعو إلى التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة، وهي معانٍ راسخة في نهج الإمام - عليه السلام - يفيضها على تابعيه وعماله ومن حوله.

ويأتي حذف الكلمة عند الإمام - عليه السلام - في قوله: ((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ (45) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَال))(46) للدلالة على معنى التحذير الذي جاء عن طريق ضمير النصب المنفصل (إياكَ) مع الواو العاطفة، وهو تنويع في الكلام غلب عليه الطابع التهذيبي الذي عرف به الإمام -عليه السلام - وهو سلوك خلقي وديني يريد أن يسبغه على رعيته، وكأنّه يريد أن يطبع سجاياه في نفس عامله (مالك الأشتر) وينقلها بصدق لينفعل معها الناس، إذ ((لايعدّ صادقاً أيُّ نصٍّ أدبيّ لا يعبّر عن المشاعر التي ینفعل لها المجموع برغم أنَّ التعبير فيها أساساً ذاتيٌّ محض))(47)، فجاء التعبير بجملتين

الجملة 1: إِیَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ

الجملة 2: .... وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ

ص: 25

فحذف الضمير في الجملة الثانية ساعد في ربط المعنى وأبان عن ماهية التحذير، ولم يترك ذلك سدى وإنّما علله بقوله: (فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِینُ كُلَّ

مُخْتَال)، ويأتي حذف كلمة التحذير (إياك) في قوله: ((إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة)(48).

= إِیَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَ... سَفْکَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا

ويحذف الكلمة نفسها في قوله: ((وَإِيَّاكَ وَالاِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الِاطْرَاءِ))(49).

= وِإِیَّاكَ والاِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَ... الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا

ويحذف الكلمة نفسها في قوله: ((وَإيَّاكَ وَالاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ))(50)

= وَإِيَّاكَ والاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَ... التَّغَابِيَ

فهناك تحذير يسير في تضاعيف الكلام ومنتشر في عموم الرسالة الهدف منه أخذ الحيطة والانتباه من الوقوع في مزالق الحكم، وهذا حرصٌ من الخليفة الحاكم (الإمام علي عليه السلام) في إقامة العدل مع الرعية.

ويأتي حذف اسم الإشارة ( أولئك) ليدخل في مجموعة لا تنفصل عن دلالات سابقة، يقول الإمام - عليه السلام -: ((إنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِأَشْرَارِ قَبْلَكَ

ص: 26

وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ

مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ

إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ)(51)، ففي النص لفتٌ لذهن عامله في تأمل النص من دون تشويش أو ضبابية، وخذف اسم الإشارة (أولئك) يحمل مخزوناً لغوياً يعود على صفات الصالحين الذي ينصح الإمام (عليه السلام) بالاستعانة بهم، فصار اسم الإشارة (أولئك) المتحرك الذي يربط الجمل ومكوناً خصباً في الربط النصي بيَّن فائد

أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَ... أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، و... أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَ... أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً

المرجع المذکور المحذوف المحذوف المحذوف

ومن حذف الكلمة التي تحدث التماسك، يقول الإمام: ((وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ الْحَكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ)(52) وجاء الحذف - هنا - ليؤدي دوراً في رسم صورة للحياة الراقية التي يريدها الإمام، فالإكثار من مجالسة العلماء والحكماء توجيه غاية في الوعي والحرص على تثقيف عامله لينهل من المنابع الصافية (الدراية والحكمة) التي - عادةً - ما تقبع عند هذين الصنفين (العلماء والحكماء) فحذف فعل الإكثار (أكثر) من الجملة الثانية:

أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ

وَ... مُنَافَثَةَ الْحُکَمَاءِ

ص: 27

وهذا من حذف الكلمة المثمر الذي أسهم في توصيل فكرة مفادها: الاستعانة بذوي الخبرة من الناس.

رابعاً: التماسك في حذف (إنّ) واسمها

وهو حذف الحرف الناسخ (إنَّ) ونصف الجملة الاسمية (المبتدأ) ومن هذا الحذف النصي الذي يحيل على مرجع في عهد الإمام - عليه السلام - قوله: ((وَلاَ

تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْو، وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَة، وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَة، وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً، وَلاَ تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ، آمُرُ فَأُطَاعُ؛ فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ،

وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ)(53) فقد حذف من النص إنّ التوكيدية الناصبة واسمها من جملتين متصلتين بالأولى شكلياً ومعنوياً:

إِنَّ ذلكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ

وَ... مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ

وَ... تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ

فالحذف يؤسس لبناء رابط ينطلق تأثيره من المبدع الذي يترك بصماته في النص ليتحمل إعادة صياغته خيال المتلقي الذي يكمل الصورة، وغزارة الحذف في نص الأمام - عليه السلام - يوحي بقصديةٍ فاعلةٍ في تهيأت بناء يضمن انسجام النص وانتظام مكوناته، ذلك أنّه ((یترك على أطراف المعاني ظلالاً خفيفة يشتغل بها الذهن ويعملُ فيها الخيال حتى تبرزَ وتتلون وتتبع ثمَّ تتشعب إلى معانٍ أخر يتحملها اللفظ بالتفسير والتأويل)) (54) وهذا الحذف يجعل عامله (مالك الأشتر) يتأمل هذه الكلمات فلا يقوم بفعل إلا بعد التوكّل على الله، وهو بذلك يقوّي

ص: 28

الدين ويتقرب إلى الله - تعالى - وينآى بنفسه عن ضعف مقاومة الدنيا والاغترار بالسلطة.

ويكرر الإمام - عليه السلام - حذف (إنّ واسمها) بعد أن ذكرها سابقاً في العبارة ((وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ

مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِ ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، ويَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ))(55) إنّ واسمها وخبرها تفيد توكيد المعنى وذكرها في هذا النص بوصفها مرجعا (فَإِنَّ

ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِ) ثمَّ حذفها هي واسمها وابقاء خبرها (وَ.... يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ) و (و.... يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ) يقوي المعنى؛ لأنّ توكيدها الأول حاضرٌ في اللفظ مدرك بالحواس وتوكيدها الثاني (بالحذف) وهو مدرك بالذهن، وهذا النمط من التعاون (بين الذكر والحذف) في إدراك المفهوم يربط العلاقات وينظّم حلقات الاتصال ويقوّي المعنى المراد تأكيده.

فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِ

و... يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ

و... یَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ

ويعود ليقوّي سلسلة النص ويطرق على المعنى الذي يريد تأكيده فيقوم بربط الجملتين برباط الحذف فيحذف (إنّ) التوكيدية واسمها من الجملة الثانية في قوله: ((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ (56) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ

جَبَّار، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَال)) (57) ففي الكلام تحرك لغوي ب (اللفظ) على مستوى النص مقصود، يثير فعل نفسي داخلي يحرّك ذهن المتلقي في صياغة الدلالة الكاملة بالعودة بالحذف على مرجع سابق في الجملة الخبرية الطلبية ((فكما أنّ قصد

ص: 29

المتكلم هو الذي أنتج النص اللغوي؛ فإنّ النص اللغوي هو السبيل الوحيد للكشف عن قصد المتكلم))(58)، فثمة جملتان: الأولى تامة والثانية أكملها المتلقي وملأ الفراغ المحذوف:

فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ کُلَّ جَبَّار، وَ...... یُهِينُ کُلَّ مُخْتَال

وهذا الحذف التوكيدي يقوّي دعوى الإمام - عليه السلام - بضرورة الورع والبعد عن ما يغضب الله - تعالى - وهي الصفات التي لا يريدها في الحاكم الأرضي ومنها (جبار، مختال) وبذلك وضع الألفاظ في مكانها المناسب لتعطي ثمارها في التأثير والقوة؛ لأنَّ ((الوضع المؤثر وضع الشيء الوضع اللائق به، وذلك يكون بالتوافق بين الألفاظ والمعاني والأغراض من جهة ما يكون بعضها في موضعه من الكلام متعلقا ومقترنا بما يجانسه ويناسبه ويلائمه من ذلك)) (59) وهذا التجانس والتلاؤم سار في نص الإمام - عليه السلام -.

ويستمر بحذف (إنّ واسمها) وبسياق متصل بما قبله، فيقول: ((إنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ

لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ))(60)، يفتح الإمام - عليه السلام - نوافذَ كثيرة على نجاح شؤون الحكم ومنها الإيماء إلى اللذينَ لا يستعان بهم وهم الوزراء اللذين عملوا مع الأشرار ويظهر هذا التوكيد مهمًا في وعي الإمام من خلال تأكيده للمعنی بحرف التوكيد (إنّ) وهذا تعبير يبين خطورة هؤلاء وعمق ضررهم على الحاكم، وحذف إنّ واسمها وإحالتها بالحذف إلى المذكور سابقاً يلوّن النص بصبغة الحكمة

ص: 30

ويفسح مجالاً واسعاً أمام عاملهِ لاختيار الأصلح من الوزراء والمستشارين والإفادة من الأثر الماضي الذي جسّده بصيغ الماضي (كان، قبلك، شركهم) لإصلاح الزمن الحاضر:

= إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً

= و... مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً

ويمضي النص بالتناسق المترع بالدلالة التوكيدية المنسكبة في تعليل المشورة، بغية لصق المعنى في ذهن عامله: (فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ)، ويأتي هذا التهاطل التوكيدي مع أسلوب الحذف: [فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَ...... إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ] لتنشيط ذاكرة عامله وتحذيره من الاتكاء على من لا فائدة منه والبحث عن بدائل نافعة يُستعان بها غير هؤلاء. وفي هذا النوع من التماسك قوة وفاعلية كبيرة بسبب حذف (إنّ) التوكيدية ووصل المحذوف بحرف العطف (الواو) التي تفيد التشريك. ومما ورد من حذف (إنَّ) واسمها وهو كثير في عهد الإمام، قوله:

((وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ))(61)

((وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيِءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لأهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ، وتَدْرِيباً لأهْلِ الإسَاءَةِ عَلَى الإسَاءَةِ)) (62)

((وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى

ص: 31

وُلاَةِ أُمُورِهِمْ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ)) (63).

((فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْى ذَوُو الْبَلاَءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ، إِنْ شَاءَ

اللهُ)) (64)

((فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَی نَصِيحَتِكَ لله وَلِمَنْ وَلِيتَ أَمْرَهُ)) (65)

((فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ)) (66).. وغيرها الكثير.

وقد يخالف هذا الحذف وبأسلوبٍ جميل تتضح فيه سمة البليغ فيحذف (إنَّ وخبرها المقدم) كما في قوله: ((وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولله فِيهِ رِضىً،

فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ)) (67) وهذا التنويع في الأساليب يمنح النص الحركة ويبث فيه الحياة:

فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَ.... رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، و....أَمْناً لِبِلاَدِكَ

خامساً: التماسك بحذف كان واسمها

وقد يحذف كانَ واسمها ويبقي خبرها، فيقول: ((ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ))(68) ساعد الحذف مع فعل الكون الدال على المستقبل في بيان الصورة التي يُريد ايصالها إلى عامله، وقرنَ الفعل ب (لام الأمر) للدلالة على الأمر الصادر منه لخاصته، وهو يتلاءم والذوق الخلقي لمنهج الحكم في تقريب صاحب قول الحق ولو كانَ مراً على الحاكم، وجاء الحذف ليفعِّل

ص: 32

ذلك المنهج:

لْیَکُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُم بِمُرّ الْحَقِّ لَكَ

و... أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأَوْلِيَائِهِ

وعلى هذا فالصورة النحوية تسهم في تفاعل الخطاب؛ لأنّها ((كالصورة الصوتية أو المعجمية تبرز - في لغة الشعر - تدافعا في عناصر التركيب البنائي التي يجمعها النثر))(69)، وهذا التماسك في عناصر التركيب ولّد نصاً عامراً بالبيان والتأثير في مفاصل الرسالة.

سادساً: التماسك في حذف الحرف

وقد يحذف حرفًا ليقوم بمهمة ربط جملتين في النص كما في قوله عليه السلام -: ((وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ

حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ.)) (70)، فقد حذف (حتى) الناصبة المقرونة بحرف العطف (الواو) في جملتين فعليتين متصلتين في المعنى، فربط الحذف الجملتين: (حَتَّى يَنْزعَ) + (وَ.... يَتُوبَ) والنص يتحدث عن نبذ الظلم وإقامة العدل؛ لأنَّ الظالم يقيم حرباً مع الله - تعالى - ولابُدَّ له من أمرين أمّا ينزع (يقلع عن ظلمه) أو يتوب، وعلى هذا فإنّ ما يصدر في هذه الوثيقة ليست تعليمات وقتية وإنّما بناء لفكر قائم على العدالة وإنصاف الرعية وهو عطاء إسلامي أصيل.

ومن حذف الحرف عنده ((وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِیرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ))(71) فقد ذكر - في الجملة الأولى - الحرف الناسخ (إنّ) عنصر التوكيد وحذفه في الجملة

ص: 33

الثانية؛ ليجعل عامله يؤكد الكلام بنفسه من خلال ردّ المحذوف فحصل توکیدان (=مذكور + مضمر) فردّ المحذوف في الذهن أصبح بمثابة تقوية للمعاني الملقاة على عاتق المتلقي (مالك الأشتر) فحقق بالحذف هدف التأثير الإبداعي.

خاتمة البحث: من بعض مقومات البلاغة الإيجاز في الكلام بغية الاقتصاد والتأثير والنأي عن ترهل النص، ولم يقتصر الحذف الذي جاء به الإمام علي - عليه السلام - على ذلك؛ وإنما أسهم في تماسك النص إذ جاءت معظم المحذوفات وهي تعود على مراجع سابقة توضحها، وقد غلب حذف العبارة في هذه الرسالة على غيره من المحذوفات، وهذا النمط يقوّي الترابط الحاصل في النص ويكثّف المعنى المراد، ويتضح - من خلال البحث - الدقة في التعاطي مع المحذوفات ومهارة استعمالها بوصفها من المكونات النصية التي يتجانس بها الكلام ولا سيّما في الخطاب الإداري.

هوامش البحث:

1. علم اللغة مقدمة للقارئ العربي: 312.

2. كتاب العين: (حذف) 3 / 201.

3. ظ: مختار الصحاح: 69. المصباح المنير: 1 / 126.

4. علم لغة النص، عزة شبل: 116.

5. ينظر في ذلك: أثر التماسك النصي في تكوين الصورة البيانية: 254 - 255.

6. کتاب سیبویه: 3 / 103.

7. کتاب كتاب سيبويه: 1 / 76. ظ: ديوان قيس بن الخطيم، تحقيق: ناصر الدين الأسد: 239. ظ: الدلالة السياقية عند اللغويين: 105.

8. ظ: النحو العربي والدرس الحديث: 149 - 150. علاقة الظواهر النحوية بالمعنى في القرآن الكريم: 107.

9. يفرط: يسبق. والزلل: الخطأ.

10. استكفاك: طلب منك كفاية أمرهم والقيام بتدبير مصالحهم.

ص: 34

11. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84.

12. کتاب الصناعتين: 47.

13. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 19 / 4.

14. حرب الله: مخالفة شريعته بالظلم والجور

15. لا يدي لك بنقمته: أي ليس لك يد أن تدفع نقمته، أي لا طاقة لك بها.

16. بجح به: كفرح لفظاً ومعنى.

17. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84.

18. العلاقة بين اللغة والفكر: 56.

19. مالك الأشتر وعهد الإمام له: 78.

20. الأُبهة - بضم الهمزة وتشديد الباء المفتوحة -:العظمة والكبرياء. والمخيلة - بفتح فكسر -: الخيلاء والعجب.

21. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84 - 85.

22. لغة الخطاب الإداري دراسة لسانية تداولية: 22.

23. من لك فيه هوى: أي لك إليه ميل خاص.

24. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85.

25. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85.

26. بناء لغة الشعر، جون كوين: 167.

27. يجحِف برضى الخاصة: يذهب برضاهم.

28. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 86.

29. الالحاف: الالحاح والشدة في السؤال.

30. جِماع الشيء - بالكسر: جمعه، أي جماعة الإسلام.

31. الصِغْو بالكسر والفتح: الميل.

32. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 86.

33. أصول تحليل الخطاب، محمد الشاوش: 2 / 1032.

34. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 87.

35. البلاغة والأسلوبية، محمد عبد المطلب: 218.

36. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 89.

37. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 91. جيب القميص: طوقه، ويقال: تقي الجيب، أي: طاهر

ص: 35

الصدر والقلب. الحِلم: العقل. ينبو عليه: يتجافى عنهم ويبعد.

38. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 96.

39. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 95.

40. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84

41. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 88. رُضْهُم: أي عوّدهم على ألا يطروك، أي يزيدوا في مدحك. لا يُبجّحُوك: أي يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته. الزَهْو، بالفتح: العُجْب. تدني: أي تقرب. والعزة هنا: الكِبْر.

42. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 109 - 110. يقال: فلان حمّي الانف: إذا كان أبياً يأنف الضيم، والسَوْرة: بفتح السين وسكون الواو: الحِدة، والحَدّة - بالفتح: البأس، والغَرْب بفتح فسكون: الحدّ تشبيهاً له بحد السيف ونحوه.

43. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 84.

44. کتاب دلائل الاعجاز: 146.

45. المساماة: المباراة في السمو، أي العلو.

46. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 84

47. النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، د. أحمد كمال زكي: 258.

48. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 107.

49. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 108.

50. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 109.

51. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 87. وبِطانة الرجل بالكسر: خاصته، وهو من بِطانة الثوب خلاف ظهارته. الأئمة: جمع آثم، وهو فاعل الإثم أي الذنب. الظّلَمَة: جمع ظالم. الاصار: جمع إصر بالكسر، وهو الذنب والاثم. الاوزار: جمع وِزْر، وهو الذنب والإثم أيضاً. الإلف - بالكسر:

الألفة والمحبة.

52. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 89. والمنافثة: المجالسة.

53. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل. والمندوحة: المتسع أي المخلص. والإدغال: إدخال الفساد. منهكة: مضعفة، نهكه: اضعفه. والغِير: حادثات الدهر بتبدل الدول والاغترار بالسلطة.

54. دفاع عن البلاغة:99.

55. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85. الابّهة - بضم الهمزة وتشديد الباء مفتوحة: العظمة

ص: 36

والكبرياء. المَخِيلة بفتح فكسر: الخيلاء والعجب. يُطامن الشيء: يخفض منه. الطِماح - ككتاب: النشوز والجماح الغَرْب - بفتح فسكون: الحدة. يفيء: يرجع. عَزَب: غاب.

56. المساماة: المباراة في السمو، أي العلو.

57. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 84

58. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: 201.

59. منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 153.

60. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 87. وبِطانة الرجل - بالكسر: خاصته، وهو من بِطانة الثوب خلاف ظهارته. الأثمة: جمع آثم، وهو فاعل الإثم أي الذنب. الظّلَمَة: جمع ظالم.

61. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 88. رُضْهُم: أي عوّدهم على ألا يطروك، أي يزيدوا في مدحك. لا يُبجّحُوك: أي يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته. الزَهْو، بالفتح: العُجْب. تدني:

أي تقرب. والعزة هنا: الكِبْر.

62. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 88.

63. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 92.

64. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 93. ذوو البلاء: أهل الاعمال العظيمة. يحرض الناكل: يحث المتأخر القاعد.

65. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 99.

66. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 100.

67. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 105 - 106. الدعة: الراحة.

68. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 88.

69. بناء لغة الشعر، جون کوین: 191.

70. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85. وينزع - كيضرب - أي: يقلع عن ظلمه.

71. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 92.

ص: 37

المصادر والمراجع

أولاً: القرآن الكريم

ثانيا: الكتب

1. أثر التماسك النصي في تكوين الصورة البيانية، شعر خالد الكاتب أنموذجاً، د. كاظم عنوز، 4D للطباعة والتصميم، النجف - العراق، ط 1، 1437 - 2016.

2. أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية تأسيس (نحو النص)، محمد الشاوش، جامعة منوبة - تونس، ط 1، 1421 - 2001.

3. البلاغة والأسلوبية، د. محمد عبد المطلب، الهيأة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، 1984.

4. بناء لغة الشعر، جون كوين، ترجمة وتقديم وتعليق: د. أحمد درویش، كتابات نقدية سلسلة تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة.

5. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، د. سعيد حسن بحيري الآداب - القاهرة، ط 1، 1426 - 2005.

6. دفاع عن البلاغة، احمد حسن الزيات، مطبعة الرسالة، 1945.

7. الدلالة السياقية عند اللغويين د. عواطف كنوش المصطفى، دار السياب للطباعة - لندن، ط 1، 2007.

8. ديوان قيس بن الخطيم، تحقيق: د. ناصر الدين الأسد، دار صادر - بيروت.

9. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط 1، 1378 - 1959.

10. علاقة الظواهر النحوية بالمعنى في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خضير، مكتبة الأنجلو المصرية، مصر - 2001.

11. العلاقة بين اللغة والفكر، دراسة للعلاقة اللزومية بين الفكر واللغة، د. أحمد عبد الرحمن حماد، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية - 1985.

12. علم اللغة - مقدمة للقارئ العربي، د. محمود السعران، دار النهضة العربية - بيروت (د - ت).

ص: 38

13. علم لغة النص - النظرية والتطبيق، د. عزة شبل محمد، مكتبة الآداب - القاهرة، ط 1، 1428 - 2007.

14. كتاب دلائل الإعجاز، للجرجاني (أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن: ت - 471 ه)، تحقيق: محمود محمد شاكر: مكتبة الخانجي - القاهرة (د - ت).

15. كتاب سيبويه، لسيبويه (أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر: ت - 180 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الخانجي - مصر، ط 3، 1408 - 1988.

16. كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، للعسكري (أبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل: ت - 395 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية ؇ بيروت، 1427 - 2006.

17. کتاب العين، للفراهيدي (الخليل بن أحمد: ت - 175 ه)، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال - بيروت (د - ت).

18. لغة الخطاب الإداري دراسة لسانية تداولية، فريدة لعبيدي، دار الوسام العربي، الجزائر، ط 1، 1432 - 2010.

19. مالك الأشتر وعهد الإمام له، عباس علي الموسوي، دار الأضواء، بيروت، 1407 - 1987.

20. مختار الصحاح، للرازي (محمد بن أبي بكر بن عبد القادر: ت - 666 ه)، دار الرسالة - الكويت، 1403 - 1983.

21. المصباح المنير المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي (أبي العباس أحمد بن محمد بن علي، ت: نحو 770 ه-)، تحقيق: مصطفى السقا، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة 1950.

22. منهاج البلغاء وسراج الأدباء، للقرطاجني (حازم بن محمد حسن: ت - 684 ه)، تحقيق، محمد الحبيب بن خوجة، المطبعة الرسمية - تونس، 1966.

23. النحو العربي والدرس الحديث بحث في المنهج، د. عبده الراجحي دار النهضة العربية - بيروت، 1406 - 1986.

24. النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، د. أحمد زكي أبو شادي، مكتبة لبنان ناشرون - الشركة المصرية العالمية للنشر - لوجمان، ط 1، 1977.

ص: 39

25. نهج البلاغة (مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، شرح: محمد عبدة، دار المعرفة - بيروت (د - ت).

ص: 40

أثر نهج البلاغة في إثراء المعجم الشعري للمتنبي (ت 354 ه) أ.م.د. أنوار سعيد جواد

اشارة

م.د. بشری حنون محسن

جامعة كربلاء كلية العلوم الاسلامية

ص: 41

ص: 42

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه اجمعين محمد واله الطيبين الطاهرين وبعد:

حظي المتنبي وشعره بالعديد من المؤلفات والدراسات والبحوث منذ ظهوره شاعرا سطع نجمه في سماء الشعر العربي في العصر العباسي؛ وعلى وجه التحديد في القرن الرابع الهجري وإلى يومنا هذا؛ فما زال شعره محط أنظار الباحثين والدارسين لما يمتلك نصه الشعري من رؤی ابداعية؛ وخصائص فنية؛ وسمات جمالية مازالت معينا لا ينضب للدارسين والباحثين عنها.

ولعل مرجع ذلك إلى ان نص المتنبي الشعري نص عميق الغور؛ وبعيد المرمی؛ ويحمل الكثير من التجليات والأسرار التي تدفع بالقارئ أو المتلقي إلى سبر هذا الغور والوقوف عند ابعاده ومراميه.

وقارئ حياة المتنبي وشعره يدرك مدى العلاقة التي تربط الشاعر ونصه الشعري بتراثه الانساني وما يحمله من قيم ومبادئ ومُثل؛ وكذلك اطلاعه الواسع على المعارف السائدة في عصره وقبل عصره. كل ذلك أسهم في خلق نص ثري من العلاقات والتراكمات المعرفية لهذا المبدع؛ فكانت بمثابة الروافد التي تمد بحر عطائه الشعري.

ومن هنا كان المبدع؛ ومن ثم نصه الابداعي أو الشعري بناء متعدد القيم والأصوات، يتوارى خلف كل نص أصوات متعددة اخرى غير صوت الشاعر، ومن هذه الأصوات صوت الإمام علي (عليه السلام) الذي يعد رافدا ابداعيا

ص: 43

من روافد شعر المتنبي والتي اسهمت في اثراء موهبته الشعرية؛ واثراء معجمه الشعري سواء على مستوى اللفظ او المعنى، وهذا ما يتضح من العلاقات القائمة بين نصوص شعر المتنبي ونصوص من نهج البلاغة الذي يعد مصدرا خصبا وثريا بالألفاظ الجزلة والمعاني العميقة والرؤية الابداعية في سبر اغوار الحياة بكل اشكالها ومعانيها، وهنا يكمن ابداع المتنبي في توظيفه لهذه النصوص ومحاولته طبعها بطابعه الخاص وذلك من خلال اضفاء شحنات دلالية خاصة يعبر من خلالها الشاعر عن رؤاه الشعرية؛ فضلا عما يكشف من خلالها عن غنی هذه التجربة الثقافية التي يمتلكها إلى جانب انفتاحه الرحب على مختلف الثقافات ومحاولته الافادة منها في اثراء نصه الشعري؛ إلى جانب ما يكشفه هذا التعامل مع نصوص من نهج البلاغة من براعة في التناول والأخذ والتأثر. وهذا ما سيحاول البحث تناوله من خلال الوقوف عند استيحاء المتنبي لنصوص للإمام علي (عليه السلام) وردت فيما بعد في نهج البلاغة وتوظيفها في شعره؛ سواء ما يتعلق بألفاظه أم بمعانيه راسمة بذلك صوره الشعرية المتميزة.

ص: 44

أثر نهج البلاغة في اثراء المعجم الشعري للمتنبي

لعل من الامور التي باتت من المسلمات أو البديهيات في دراسة المتنبي وشعره؛ انه رجل يتمتع بثقافة عالية وسعة اطلاع كبيرة؛ يشهد له بذلك الكثير من النقاد والدارسين لشعره قديما وحديثا، ولا أدَّل على ذلك من كتب السرقات التي ظهرت منذ ظهوره شاعرا متميزا سطع نجمه في سماء الشعراء المبدعين في عصره وإلى يومنا هذا. فمازالت الدراسات والبحوث تنهل من فيض عطائه الشعري من خلال سبر غور نصوصه الابداعية والوقوف عند عبقريته الشعرية ومدی ابداعه؛ فضلا عن اصالته الشعرية ((بشرط أن لا نفهم الأصالة ؇ بالضرورة ؇ على انها تجديدات شكلية أو مضمونية فقط، بل مفاهیم جديدة، أو تكوينات جديدة أيضا، تعتمد فيها تعتمد من الناحية المضمونية والتشكيلية على نماذج سالفة))(1).

ومن هذه النماذج السالفة نصوص الامام علي (عليه السلام) التي حملها التاريخ بين دفتيه حتى عصر الشريف الرضي (ت 406 ه) ليجمعها في (نهج البلاغة) وهذا ما يؤكده المسعودي (ت 346 ه) عند ذكره للإمام علي (عليه السلام): ((لم يلبس عليه السلام في ايامه ثوبا جديدا، ولا اقتنى ضيعة ولا ربعة..... والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولا وعملا.))(2).

وهذا النص انما يؤكد حقيقة مفادها ان كلامه (عليه السلام) كان معروفا ومتداولا بين الناس قبل الشريف الرضي؛ هذا من جانب ومن جانب آخر ان ما

ص: 45

وصلنا من كلامه (عليه السلام) أقل بكثير مما ورد ذكره وجُمِعَ في (نهج البلاغة).

غير ان ما يعنينا من بحثنا هذا هو كيف أفاد المتنبي من كلام الإمام (عليه السلام)؟ وكيف وظف ذلك في بحر عطائه الشعري؟

ومعلوم ان كلامه (عليه السلام) فتح بابا مشرعة وواسعة أمام العلماء والأدباء والشعراء بما حملته نصوصه وخطبه وأقواله من جوانب معرفية وآفاق رحبة في مجال العلم والمعرفة إلى جانب الصياغة الفنية البارعة والمتميزة؛ فكان أن أخذ الشعراء منها ونهلوا من نبعها العذب الصافي؛ ومنهم المتنبي، حيث شكلت نصوصه ومعانيه وأقواله رافدا من روافد ابداعه الشعري.

في مجال إفادة المتنبي من ألفاظ الإمام علي (عليه السلام):

ليس بخافٍ على قارئ حياة المتنبي شغفه بالمطالعة وحبه للقراءة واطلاعه على آثار مَنْ سبقه منذ طفولته حتی سطوع نجمه شاعرا له بصماته المميزة في عالم الشعر والابداع فيه؛ فقد ((تعلم الكتابة والقراءة فلزم أهل العلم والأدب، وأكثر من ملازمة الوراقين فكان علمه من دفاترهم))(3). ويتضح هذا العلم بشكل أو بآخر في نتاجه الشعري؛ وفي قدرته على توظيف هذا الثراء المعرفي فيه؛ ولعل نصوص الامام علي (عليه السلام) واحدة من تلك العلوم والمعارف التي ترسبت في ذهن المتنبي واختزنتها ذاكرته الشعرية، فاذا ما أراد أن ينظم ((دفعت حافظة المرء على لسانه بعض ما ترسب منها مما وعاه لغيره، واختزنه لسواه))(4)، وهذا ما نستطيع أن نلحظه في قول المتنبي:

((وَلَذِيْذُ الْحَيَاةِ أَنْفَسُ فِي النَّفْسِ وَأَشْهَى من أَنْ يُمَلَّ وَأَحْلَی))(5)

حيث يذكر شارح دیوانه في معنى هذا البيت: ((الحياة لا تمل؛ وهي أعز

ص: 46

وأحلى من أن يملها صاحبها))(6) والمتتبع لكلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة يلحظ كيف أفاد الشاعر من الفاظ الإمام (عليه السلام) ووظفها في المعنى نفسه الذي جاءت به ووردت فيه؛ حيث يقول (عليه السلام): ((وَاٌعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلَّهُ إلاَّ اٌلْحَيَاةَ))(7)

فقد أخذ المتنبي لفظة الملل والحياة ووظفها في الإطار ذاته الذي وردت في نص الامام (عليه السلام) السابق؛ حيث تشربه المتنبي واعاد صياغته من خلال استخدام اسلوب التقديم والتأخير في بعض الألفاظ مما يكشف عن قدرته في تطويع النصوص وإعادة تشكيلها بما يتلاءم وموهبته الشعرية ولعمق الاثر الذي تركته کلمات الامام في نفس الشاعر.

وفي موقف آخر عندما يتحدث عن طول الأمل في مقابل قصر الأجل؛ وان الذي يذهب من عمر المرء لا يعود؛ يقول:

((وَمَا مَاضِي الشَّبَابِ بِمُسْتَّردّ ٭٭٭ وَ لا يَوْمٌ يَمُرُّ بِمُسْتَعَادِ))(8)

فاننا نلحظ أثر قول الامام علي (عليه السلام) والفاظه وذلك في احدى خطبه التي فيها مواعظ للناس؛ حيث جاء فيها: ((لاَجَاءٍ يُرَدُّ، وَلاَ مَاضٍ يَرْتَدُّ))(9).

فقد أفاد المتنبي من لفظتي (الردّ، والماضي) واعاد توظيفهما بما يخدم تجربته الشعرية وابداعه الفني، بمعنى آخر انه أعاد صياغة النص القديم وفق معطيات الحدث التاريخي والنسق الابداعي ليتحول إلى نص جديد. ذلك ان المتنبي إنما ((يحاول أن يجد طريقه في خضم الزخم التقليدي الاحيائي ويجعل توظيفه للموروث القديم..... من أجل الخروج برؤية جديدة تواكب روح عصره وتعكس قضایا جوهرية لدى الانسانية المعاصرة له))(10). وهذا ما سبق أن ادرکه

ص: 47

العكبري شارح دیوانه عندما وقف عند قوله في مدح سيف الدولة الحمداني:

((كُلٌّ يُريْدُ رِجَالَهُ لِحَيَاتِهِ ٭٭٭ يَا مَنْ يُرِيْدُ حَيَاتَهُ لِرِجَالِهِ))(11)

اذ يقول شارحا: ((يريد ان الملوك سواك يطلبون عسکرهم وجنودهم، ليدافعوا عنهم ويجمعونهم على اعدائهم ليسلموا، وأنت تريد رجالك أن يبقوا ويسلموا، وتدافع عنهم، وهذا غاية الكرم والشجاعة. وقد بني البيت على حكاية تذکر عن سيف الدولة مع الاخشید...... يقول له: قد جمعت هذا الجيش، وجئت إلى بلادي، ابرز إليَّ ولا تقتل الناس بيني وبينك، فأينا غلب أخذ البلاد وملك أهلها...... وقد رُويَ مثل هذا عن عليّ عليه السلام: أنه بعث إلى معاوية، وهما بصفين: قد فني الناس بيني وبينك، فابرز إليَّ، فأينا قتل صاحبه ملك الناس.....))(12). يتضح مما تقدم كيف أفاد المتنبي من تشابه الحدث التاريخي الموروث وقدرته على توظيفه في نسق شعري يبرز من خلاله قدرته واصالته في ((أن يطوع هذا التراث في خدمة فنه دون أن يفني فيه، فالاتكاء على التراث لا ينفي عظمة الشاعر ولا يعني أن يتحول الشاعر إلى نسخة مكررة عن الآخرين، إذ لابد من فنه وشخصيته على ما هو بصدد الأخذ منه))(13).

وفي موضع آخر نلحظ كيف أفاد المتنبي من ألفاظ ونصوص الامام علي (عليه السلام) ووظفها في خدمة غرضه الشعري وفنه مستفيدا من وحدة الموضوع والغاية التي من أجلها بُنيَّ النص، فاذا كان الامام علي (عليه السلام) قد قال بعد تلاوته قوله تعالى: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ۝ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»(14) في كلام له في حال الدنيا والآخرة وما ستؤول إليه الأشياء من الفناء؛ حيث يقول واصفا حال الدنيا: ((.... تَطَأُونَ فِي هَامِهِم، وَتَسْتَثْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ فِيْمَا لَفِظُوْا....)) (15). نجد ان المتنبي يقوم باستيعاب هذا التراث من خلال جمعه بين ((تجاربه

ص: 48

وتجارب القدماء، ويستغل قدراته في معالجة كل ما هو موروث؛ واخراجه بشكل جديد يناسب عصره ))(16) والحدث الذي ينظم فيه؛ ففي معرض رئائه لوالدة سيف الدولة الحمداني يفيد المتنبي من هذا الرافد المتدفق المعطاء في رسم صورته الشعرية؛ حيث يقول:

((يُدَفِّنُ بَعْضَنَا بَعْضَاً وَيَمْشِي ٭٭٭ أَوَاخِرُنَا عَلَی هَاْمِ الأَوَالِي))(17)

فإذا كان الامام علي (عليه السلام) قد قال (تطأون في هامهم) فان المتنبي قال (تمشي أواخرنا على هام الأوالي) ويتضح كيف افاد المتنبي من الفاظ الإمام علي (عليه السلام) ووظفها في نصه وذلك من خلال التضمين. لقد كان المتنبي على وعي وادراك تام بظاهرة التأثر والافادة من تراث الآخرين ولاسيما وهو يدرك تمام الادراك ان الألفاظ مشتركة بين بني البشر هذا ما سبق ان أشار إليه في معرض اتهامه بالسرقة؛ حيث قال: ((أما ما نعيته عليَّ من السَّرق فما يدريك أني اعتمدته وكلام العرب آخذ بعضه برقاب بعض، وآخذ بعضه من بعض، والمعاني تعتلج في الصدور وتخطر للمتقدم تارة وللمتأخر اخرى؛ والألفاظ مشتركة مباحة))(18). وهذا ما نستطيع أن نتلمسه أيضا من قوله:

((وَكُلُّ أُنَاسٍ يَتْبَعُونَ إمامَهُم ٭٭٭ وَأَنْتَ لأهْلِ المَكْرُمَاتِ إِمَامُ))(19)

الذي استقاه من قول الإمام (عليه السلام): (أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُوْمٍ إمَامَاً، يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِعِلْمِهِ))(20) ففيه تظهر براعة المتنبي وقدرته على ((تمثيل كل ما لقيه ووقع عليه ما دام مسايرا لوجهته؛ مصورا لفكرته))(21) ويظهر هذا التمثل في استعمال لفظة (الامام)؛ وإذا كان الإمام علي (عليه السلام) قد قال: (لكل مأموم) فان المتنبي قال: (كل أُناس) وما ذلك إلاّ لقدرته على انتقاء الالفاظ التي تتلاءم وغرضه الشعري، وهو مَنْ تعلم بتبحره في اللغة وتبصره بدقائقها ومفرداتها حتى

ص: 49

وصف بانه ((ضليع في اللغة بصير بالفلسفة خبير بالآداب))(22). فلم يقتصر نهل المتنبي من معين الإمام علي (عليه السلام) في جانب الحكمة والمعاني الانسانية والخلقية وحسب وإنما أشرك فيها الألفاظ؛ وان حاول ان يصوغها بشكل يتلاءم ومنهجه الشعري. الا ان الرافد الذي استقى منه يكاد يكون واضحا وجليا لدى القارئ والمتلقي. على ان هذا لا يعد عيبا ولا ثلبا في شعر المتنبي ولا قدحا في شاعريته بقدر ما يشير إلى اختلاط هذه المعارف في نفسيته وامتزاجها ((بکیانه؛ فغدت کما لو كانت عصارة فكره وخلاصة تجربته)) (33). وهذا ما يكشف لنا عن عبقريته واصالته وتفرده بين شعراء عصره وابناء زمانه. ذلك انه رجل عُرِفَ عنه حبه للقراءة وشغفه بالبحث عن الحكمة يسعى لها حيثما وجدها؛ فهي ضالته الأثيرة التي ما انفكت اشعاره تصدح بها؛ غير ان ما يميزها انها لم تأتِ بشكل مباشر وتقريري ملحوظ وإنما اصالة هذا الشاعر تكمن في أنه وظفها في خدمة الغرض الذي يتناوله فجاءت متلائمة ومتناسقة مع النسق الشعري الذي تميز به. ومن هنا نجد كيف انه أفاد من ألفاظ الإمام علي (عليه السلام) ونصوصه الخصبة بكل الالفاظ والمعاني الانسانية والتي كانت موضع اهتمامه - وإن لم يصرح بذلك - فكان أن وظفها خير توظيف في شعره لما وجد فيها من تشابه وتقارب بين حياته وحياة الامام سلام الله عليه وما شهده عصره من نزاعات وصراعات أدت به للحديث عن كوامن النفس البشرية وخباياها؛ فكانت الافكار التي طرحها أقرب إلى الواقعية منها إلى أي عنوانات اخرى جاءت مكسوة بألفاظ معبرة تشع منها الحياة في كل جانب من جوانبها وكل دال من مدلولاتها. وهذا ما تميزت به الفاظ الامام علي (عليه السلام) ونصوصه وخطبه.

ص: 50

إفادة المتنبي وتأثره بمعاني الإمام علي (عليه السلام):

مما لا يخفى عن قارئ ترجمة المتنبي وحياته ان مولده كان ((بالكوفة؛ في محلة تعرف بكندة..... واختلف إلى كتَّاب فيه أولاد أشراف الكوفة؛ فكان يتعلّم دروس العلوية لغة وشعرا وإعرابا فنشأ في خير حاضرة))(24) وهذا النص انما سيسلط الضوء على التراث المعرفي والثقافي لهذا الشاعر منذ أيام طفولته وصباه، وانه اغترف من معين الكوفة الثقافي ومن (دروس العلوية) المعرفي، فكان أن تمثلها في ذهنه وتشربها في مخزونه الفكري فكان أن تسربت بشكل أو بآخر في نتاجه الشعري وعمله الابداعي، فمنها ما جاء بشكل مباشر وعن وعي من الشاعر بالمنهل الذي استقى منه والمعين الذي اغترف منه؛ وهذا ما سبق أن وقفنا عنده في تأثر المتنبي بألفاظ الإمام الواردة في نصوصه المجموعة في كتاب (نهج البلاغة) التي لا يشك باحث أو مطلع على حياة المتنبي وولعه بالعلم والمعرفة من الاطلاع عليها والتأثر بها ولاسيما ونحن نقرأ النص المتقد الذي يلوح بشكل واضح فيها اطلاع المتنبي على أقوال الامام علي (عليه السلام) وتشربه ایاها منذ طفولته وصباه؛ وانه نشأ عليها.

وقد يكون هذا التأثر يأخذ منحىً جديدا عندما يريد أن ينظم الشاعر في غرض معين أو موقف محدد نرى ان هذا المعين الذي سبق أن نهل منه حاضرا في ذاكرته الشعرية فيستحضره بشكل غير مباشر أو عن طريق اللاوعي - ان جاز لنا التعبير فنراه يعبر عن تلك المعاني بأسلوبه وطريقته المميزة من غيره؛ تشفعه في ذلك قدرته على الحفظ وهذا ما تؤكده المصادر؛ حيث يشير الدكتور محمد عبد الرحمن إلى ذلك في قوله: (( وقد منح المتنبي حافظة قوية أثارت فضول الناس واعجابهم فقد ذكر الرواة عنه أنهم لم يروا أحفظ منه. وأنه حفظ كتابا نحو

ص: 51

ثلاثين ورقة من نظرته الاولى إليه))(25) وهذا انما يكشف لنا عن اصالة الأعمال الفنية والشعرية التي قدمها المتنبي في زمانه وبعد زمانه وإلى يومنا هذا. وهو في كل ذلك إنما يستعين بنماذج سالفيه ومنها نصوص الامام علي (عليه السلام) وأقواله التي فتحت له ولغيره من الادباء والشعراء والكّتاب أفاقا علمية وأدبية واسعة أفاد منها الجميع وتأثروا بها فكانت لهم بمثابة النبع العذب الصافي الذي استقوا من معانيه وارتشفوا من الفاظه فظهرت في نتاجاتهم الابداعية موارده العذبة؛ ومنهم المتنبي على ان هذا لا يعني تقليده لنصوص الامام علي (عليه السلام) ومعانيه بقدر ما يعني تأثره بها وهذا التأثير نعني به: ((شيء يوجد في عمل مؤلف ما؛ ما كان ليوجد فيه لو لم يقرأ المؤلف عمل مؤلف سابق))(26) كما يقول أولدريج. وهذا ما تكشفه نصوص المتنبي الشعرية التي حملت بين طياتها الكثير من المعاني التي تشف عن تأثره بنصوص الامام علي (عليه السلام) ومعانيه ونهله من ينبوعه العذب الصافي؛ فكانت بحق رافدا ابداعيا يضاف إلى روافد ابداعه الأخرى الناجمة عن كثرة اطلاعه وتأثره بالعلوم والمعارف المختلفة التي سادت عصره وقبل عصره؛ ذلك ان من الامور المسلم بها ان ((طبيعة العلم تأبى الاّ التسرب والانتشار))(27) ونستطيع أن نتلمس ذلك من خلال الوقوف عند المعاني الشعرية لنصوصه الابداعية؛ منها قوله:

((الرَّأيُّ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشّجْعَانِ ٭٭٭ هَوَ أَوَّل وَهْيَ المَحَلُ الثَّاْنِي))(28)

حيث ندرك عبقرية المتنبي وبراعته في توظيف نص الامام علي (عليه السلام) الذي يقول فيه : ((رَأْيُ الشَّيْخِ أحَبُّ إِليَّ مِنْ جَلَدِ اٌلْغُلاَمِ))(29)، کما نلحظ قدرته على تطويع النص وجعله يحمل سمات الشاعر الخاصة التي تعبر عن رؤاه الشعرية وذلك من خلال جمالية الصياغة وروعة الاسلوب مما اسهم في شهرة

ص: 52

البيت وذيوعه.

ومن تجليات التداخلات النصية بين نصوص المتنبي ونصوص الامام علي (عليه السلام) أيضا قوله:

((إذا أَنْتَ أكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَهُ ٭٭٭ وَإِنْ أَنْتَ أكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا))(30)

حیث یکشف هذا النص خصائص ومميزات النفس التي يتمتع بها كل من الكريم واللئيم في حالة الاحسان والإكرام إليها؛ ذلك ان الكريم ((يصير كالمملوك لك إذا اكرمته؛ واللئيم إذا اكرمته يزيد عتوا وجراءة عليك)(31) وهذا المعنى سبق أن ذكره الإمام علي (عليه السلام) عندما قال: ((اٌحْذَرُوْا صَوْلَةَ اٌلْكَرِيْمِ إذَا جَاعَ،

واٌلْلَّئِيْمِ إِذَا شَبِعَ))(32).

وهذا التداخل في النصوص إنما يكشف لنا عن غنی تجربة المتنبي الابداعية وعن براعته في التعامل مع النصوص، ومحاولة تذويبها في نسقه الشعري المميز والتي يكشف من خلالها عن عبقريته وابداعه في فهم اسرار النفس البشرية.

ولا يبعد عن ذلك أيضا بيته المشهور:

((بِذَا قَضَتِ الأَيَّامُ مَا بينَ أهْلِها ٭٭٭ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ)) (33)

وهو من الابيات الشائعة والمتداولة في عصره وإلى يومنا هذا لما يحمله من حكمة ومعنی انساني متحقق على مر الايام ومدى الزمان فمن ((عادة الأيام سرور قوم بإساءة آخرين))(34) والبيت من قصيدة قالها في مدح سيف الدولة ورثاء ابن عمه تغلب؛ وإذا ما رجعنا إلى التراث الانساني نقرأ ونبحث في اثنائه عن مضمون هذه الحكمة ونتتبع مجريات الظروف التاريخية للنص الابداعي للمتنبي نلمس التشابه الكبير بينه وبين نص الإمام (عليه السلام) الذي قاله بعدما قٌتِلَ

ص: 53

محمد بن أبي بكر: (إِنَ حُزْنَنَا عَلَيْهِ عَلَىْ قَدَر سرورِهْم بِهِ؛ إلاَّ أَنَّهُم نَقَصُوْا بَغيْضا وَنَقْصنَا حَبيْبَا))(35) والذي جاء مخاطبا فيه أهل الشام. لقد وظف المتنبي نص الامام علي (عليه السلام) وافاد من معناه في صياغة نموذجه الشعري؛ فكان نصه يسير بمحاذاة نص الامام جمالا وابداعا؛ ذلك ان ما يميز حكم المتنبي هو اعتمادها الموروث الانساني والاصل التاريخي إلى جانب انها ((تدور على حقائق ثابتة مشتركة بين الناس كلهم))(36)، وهذا ما سبق أن أشار إليه محمود محمد شاکر عندما قال عن حكمه: ((لم يكن قلبه ينسى شيئا أو يفلته؛ وكأني به - وهو يقول البيت السائر والمثل الشرود - كانت تتراءى تحت عينيه، ويدوي في مسمعه، كل ما مر به مما أثر فيه، فيقول البيت وفي كل لفظة منه سبب ممدود إلى ذكرى يذكرها أو فكرة يتخيلها)) (37).

استثمر المتنبي ظرف الحدث التاريخي والابداعي في التعبير عن شعوره وافكاره وتقديم ذلك على وفق نسق شعري يظهر من خلاله قدرته في تعامله مع النصوص، وذلك من خلال هدم النص ومن ثم إعادة تشكيله وبنائه بما يخدم موهبته الشعرية وقدراته الابداعية؛ وهذا ما يمكن تلمسه في قوله (مصائب قوم) التي تقابلها في نص الامام (حزننا عليه) و(فوائد) تقابل (وسرورهم به) إلى جانب استخدامه اسلوب الايجاز في التعبير؛ ولا يخفى ما للفظة (مصائب) من وقع نفسي يشير إلى الإحساس بالفقد والحرمان ولاسيما اذا كان المفقود عزیزا وما يخلفه في نفوس محبيه من ألم المصاب ولوعته، في مقابل ما يحصده الأعداء من فائدة وما يستشعروه من سرور لتخلصهم منه وابتعاده عنهم. وكأن المتنبي يتمثل معنى الامام علي (عليه السلام) في نصه ويستحضره في مخيلته وهو ينظم شعره وهذا يتضح من خلال ما حمَّل النص من شحنات دلالية كبيرة كانت كفيلة

ص: 54

بجعل القارئ أو المتلقي يبعد في الغوص في أعماق النص وسبر أغواره للوقوف عند حقيقة النص المتأثر من النص المؤثر.

ولا نعدو بعيدا ونحن نقرأ قول الامام علي (عليه السلام): ((المَعْرُوفُ كَنْزٌ فاٌنْظرْ عِنْدَ مَنْ تُودِعَهُ))(38) الذي يشير فيه إلى ضرورة الحكمة في معالجة الأمور والقضايا، وان الخير والمعروف لابد أن يوضعان في محلهما ليتبين فضلهما؛ فكان ان شبههما بالكنز الذي يعرفه اصحابه ويقدروا قيمته؛ فكذلك المعروف لايعرفه الا اصحابه ولا يعرف فضله إلا اهله؛ أما إذا وِضِع في غير محله وعند غير اهله فقد أضرَّ به؛ وهذا إنما يشير إلى ضرورة وضع الأمور في نصابها الصحيح؛ فلا يجوز استخدام المعروف إلاَّ مع اهله ومستحقيه والعكس أيضا. وهذا معنى قرآني سبق أن أشارت إليه الآية الكريمة ((هَلْ جَزَاءُ اٌلإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ))(39). فما كان من المتنبي إلاَّ أن تشرب المعنى وأعاد توظيفه في نصه بما يخدم الغرض الذي يلائمه فكان أن وسع من ألفاظه؛ وكأنه يشرح المعنى وفق منظوره المعرفي، وهذا ما نقرأه في نصه الذي مدح به سيف الدولة الحمداني:

((وَمَا قَتل الأَحْرار كالعَفْوِ عَنْهُمُ ٭٭٭ وَ مَنْ لَكَ بِالحُرِّ الذِي يَحْفَظُ اليَدَا

إِذَا أَنْتَ أكْرَمْتَ اٌلْكَرِيْمَ مَلَكْتَهُ ٭٭٭ وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اٌللَّئِيْمَ تَمَرَّدَا

وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِع السَّيْفِ بِالعُلا ٭٭٭ مُضِرٍّ كَوَضْعِ السَّيْفِفِي مَوْضِعِ النَّدَى))(40)

يتضح من الأبيات السابقة كيف أفاد المتنبي من التراث وكيف استوعبه فما كان منه إلا أن ((جمع بين تجاربه وتجارب القدماء))(41) وتوظيفها بما يلائم قدراته الشعرية وموهبته الفنية في اعادة تشكيل معاني النصوص القديمة واخراجها في شكل جديد.

ص: 55

وفي نص آخر للإمام علي (عليه السلام) يقول فيه: ((قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ، وَشَجاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ، وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ

غَيْرَتِه))(42) ففيه يشير إلى ان كل انسان إنما ينال حظه على حسب طاقته وهمته، وعمله يكون على وفق قدراته. وقد أفاد المتنبي من معنى هذا النص ووظفه في أكثر من موضع من شعره ذلك انه ((لم يكن بالشاعر الذي يقف أمام تراث اسلافه وقفة العابد الطائع؛ يكرر معانيهم ويردد أفكارهم في جمود وثبات، ولكنه سار في طريق التجديد والابتكار إلى الأمد الذي اعيا غيره واحفظ سواه وخلَّد ذكراه)) (43) ذلك انه عرف كيف يفيد من المعاني والأفكار التي طرحها من سبقوه وأعاد بناءها بشكل يكاد يكون جدیدا؛ حتی انها باتت تحسب له؛ فاذا ما قرأنا نص الامام السابق يتبادر إلى الذهن قول المتنبي:

((عَلَى قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تأتِي العَزَائِمُ ٭٭٭ وَتَأتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ

وَتَعْظُمُ فِي عَیْنِ الصَّغِیْ۫رِ صِغَارُها ٭٭٭ وَتَصْغُرُ فِي عَیْنِ العَظيْمِ العَظَائِمُ))(44)

فكان نصه مطابقا لنص الامام علي (عليه السلام) في الاشارة إلى معنى النص ومضمونه؛ وهو ((على قدر همة الطالب يكون سعيه))(45). هذا ولم تقف إفادة المتنبي من معني نص الإمام (عليه السلام) السابق في هذا الموضع فحسب؛ وإنما نجده يستلهمه في موضع آخر عارضا إياه في صورة جديدة مختزلة نص الامام من خلال توظيف الاساليب البلاغية في رسم صورته الجديدة؛ فكان ان استخدم التشبيه في رسم المعنى وعرضه بشكل مغاير عمَّا عرضه في النص السابق؛ وهذا ما نقرأه في قوله:

((وَكُلُّ طَرِيْقٍ أَتَاهُ الفَتَى ٭٭٭ عَلَی قَدْرِ الرِّجْلِ فِيْهِ الخُطَا))(46)

لقد كشف لنا المتنبي في ذلك عن واحدة من نقاط قوته وعظمة شعره؛ وهو

ص: 56

أنه نهل من مورد عذب؛ فكان أن تدفق على لسانه حاملا معه هذه العذوبة وهذا النقاء؛ وهذا ما يميز حكم المتنبي. ولنا - إذا جاز التعبير - وقفة أخرى مع نص آخر من نصوص المتنبي تشربت معانيه نصوص الامام علي (عليه السلام) ومعانيه؛ وهو قوله:

((يَسْتَصْغِرَ الخَطَرَ الكَبِيْرَ لِوفْدِهِ ٭٭٭ وَيَظُنُّ دَجْلَةَ لَيْسَ تَكْفِي شَارِبا)) (47)

حيث نلحظ مرجعية هذا النص تعود إلى قول الإمام (عليه السلام) في وصف المتقين حين لا يرضون من اعمالهم بالقليل حتى انهم يستصغرونها وينسبونها إلى القلة والتقصير في مقابل عظمة الخالق وکرم عطاياه؛ حيث يصفهم بقوله: ((لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَلُهِمِ اٌلْقَلِيْلَ، وَلَاَ يَسْتَكْثِرونَ اٌلْكَثِیْرَ))(48). فقد نقل المتنبي وصف الامام علي (عليه السلام) للمتقين إلى وصف ممدوحه وكرمه؛ وذلك بان أعاد بناء النص من خلال تحوير بعض المفردات واضافة ابعاد جديدة للمضمون؛ في محاولة منه لإخفاء النص ومعالمه عن أعين القارئ والمتلقي.

وهذا الكلام يصدق أيضا على قوله:

((وَكَيْفَ يَتُمُّ بَأسُكَ فِي أُنَاسٍ ٭٭٭ تُصِيْبُهُم فَيُؤلِمُكَ المُصَابُ))(49)

الذي يماثل نص الامام علي (عليه السلام) ((لمّا مرَّ على طلحة وعبد الرحمن بن عتاب وهما قتيلان يوم معركة الجمل: (أمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ

قُرَيْشٍ قَتْلَى تَحْتَ بُطُوْنِ اٌلْكَوَاكِبِ) ))(50).

نلحظ في هذا النص كيف أفاد المتنبي من معناه مستخدما اسلوب التعجب إلى جانب استخدام بعض الألفاظ في مقابل ألفاظ الامام علي (عليه السلام)؛ کما في (يؤلمك المصاب) في مقابل (أكره أن تكون...).

ص: 57

ولم تقف حدود أصالة المتنبي وابداعه في توظيف الاساليب البلاغية واللغوية في اخفاء معاني الامام علي (عليه السلام) ونصوصه؛ وانما نلحظ أيضا محاولته شرح هذه المعاني من خلال تمطيطها - إذا جاز لنا التعبير - وذلك باکسائها ألفاظا جديدة؛ وبذلك تخرج بحلة جديدة تتلاءم وطبيعة العصر والموضوع الذي يتناوله الشاعر؛ كما في قوله:

((وَكُلُّ اٌمْرِئٍ يُوْلِي الجَمِيْلَ مُحَبَبٌ ٭٭٭ وَكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ اٌلْعِزَّ طَيِّبُ))(51)

والذي استقى معناه من قول الإمام (عليه السلام): ((خَیْرُ اٌلْبِلادِ مَا حَمَلَكَ))(52) والقارئ لهذين النصين الشعريين يدرك ان صورة المعنى تكاد تكون واحدة -ان لم تكن - وان اختلفت في شكل العرض وطريقة الاظهار؛ وبذلك ندرك المرجعية التراثية والفكرية التي اعتمدها المتنبي في التعبير عن معانيه ورسم صوره تلك الصور التي استمد عناصرها من بيئته التي عاشها سواء الفكرية والثقافية وحتى الحضارية والاجتماعية. فكانت نصوص الامام علي (عليه السلام) بمثابة التراث العام المشترك الذي بمقدور الشعراء والادباء والكتّاب الافادة منه والاستسقاء من نبعه. وهنا تكمن عبقرية المبدع واصالته في قدرته على النهل والأرتشاف من هذا النبع وتوظيفه بشكل يتلاءم مع منجزه الفكري والابداعي. وهذا ما لمسناه عند المتنبي؛ حيث يقول:

((تَمَلَّكَها الآتِي تَمَلّكَ سَالِبٍ ٭٭٭ وَفَارَقَها المَاضِي فِرَاقَ سَلِيْب))(53)

نلحظ ان العكبري شارح دیوانه يشير إلى المصدر الذي استقى منه معناه؛ حيث يقول في شرحه لهذا البيت: ((يريد أن الوارث الذي يملك الأرض كأنه سالب سلب الموروث ماله والموروث كأنه سلیب سُلِبَ مَاله. وهو مأخوذ من قولهم في الموعظة: (إن ما في أيديكم من أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما

ص: 58

ترکها الأولون). وهذا من نهج البلاغة)) (54)؛ وهناك نص آخر للإمام (عليه السلام) يحمل المعنى ذاته؛ وهو قوله: ((على أثر الماضي ما يمضي الباقي))(55) ومما لا يخفى ان شاعرنا قد اطلع على هذين النصين فكان أن نسج على منوالهما نصا ثالثا يحمل المعنى ذاته، ولكن بأسلوبه الشعري المميز.

ولنا وقفة اخرى مع الشاعر وهو ينهل من معين الامام ويغذي معجمه الشعري، فاذا كان الامام (عليه السلام) قد قال: ((اٌلْقَلْبُ مُصْحَفُ اٌلْبَصَرِ))(56) أي ان ((ما يتناوله البصر يحفظ في القلب كأنه يكتب فيه))(57) نجد ان المتنبي يعكس المعنى بأن يجعل العيون تشير إلى ما تخفي الصدور والقلوب؛ وذلك في قوله:

يُخْفِي العَدَاوَةَ وَهْيَ غَيْرُ خَفِيّةٍ ٭٭٭ نَظَرُ العَدُوِّ بِمَا أسَرَّ يَبوحُ))(58)

وكأنه بذلك ينطلق من رؤية مفادها ان ((النص الجيد هو النص المحرّك والباعث على التأمل والنظر))(59). وهذا ما عمله المتنبي عندما قام بعملية تشرب وامتصاص لنص الامام (عليه السلام) السابق ثم اعادة انتاجه بشكل معاكس بما يخدم الغرض الشعري والحدث التاريخي الذي ينظم من أجله؛ فإذا كانت الصورة الاولى تشير إلى ان العين أو حاسة البصر هي المصدر الرئيس لاكتساب المعرفة والاحساس بالأشياء من ناحية الجمال والقبح؛ والعاطفة الايجابية أو السلبية؛ فان النص الثاني جاء ليرسم لنا صورة عكسية للأولى عندما جعل من النظر أو العين مرآة تعكس ما تخفي القلوب من العواطف والمشاعر والاحاسيس، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه ((التأثر العكسي))(60) أي ان الشاعر يقوم بعملية امتصاص للنص الابداعي ثم إعادة تشكيله في إطار بنية جديدة مغايرة لصورته الأولى أو معكوسة عنها؛ بمعنى أن يكون النص الثاني مضاد للنص الأول. وهذا ما لمسناه

ص: 59

في نص المتنبي الذي لم يكن وحيدا ولا مفردا؛ وإنما هناك نص آخر تناقض فيه الشاعر مع معنی نص الامام (عليه السلام)؛ فاذا كان الامام قد قال في معرض نصحه وارشاده: ((إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيْمَاً فَتَحلَّمْ، فَإِنُّه قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، إلاّ أَوْشَكَ أَنْ يَكُوْنَ مِنْهُم))(61) نلحظ أن المتنبي - الذي لا ننكر اطلاعه وتأثره بهذا النص - يرفض هذه الفكرة أو هذا المعنى ويخالفه بقوله:

((وَإِذا الحِلْمُ لَمْ يَكُنْ فِيْ طِبَاعٍ ٭٭ لَمْ يُحلِّمْ تَقَدُّمُ المِيْلادِ)(62)

وكأنه يرد على معنى نص الإمام (عليه السلام) الذي يشير فيه إلى ان الحلم إذا لم يكن طبيعة أو غريزة يمكن أن يكون تطبعا واكتسابا من خلال المعاشرة والتشبه بمن يمتلك هذه الصفة. على حين أنکر المتنبي هذا المعنى وناقضه بان ذکر ان الحلم لا يكون الاّ عن الطبع والغريزة وانه لا تنفعه المعاشرة ولا تقدم العمر، فقد يكون الانسان صغير السن ويوصف بالحلم في حين أن هناك من تقدم به العمر أو (الميلاد) ويفتقر إلى هذه الصفة. ونحن إذا ادركنا أن ((الابداع انطلاقا من العدم محال))(63) ادركنا اصالة فن المتنبي الشعرية وموهبته الابداعية التي كان أحد روافدها نصوص الامام علي (عليه السلام) الخصبة والثرية بالمعاني إلى جانب الالفاظ، وهذا ما نجده في نص ثالث حيث نقرأ:

((واُسْتَكْبِرُ الأَخْبَارَ قَبْلَ لِقائِهِ ٭٭٭

فَلَّما اٌلْتَقَيْنَا صَغَّرَ الخَبرَ الخُبْرُ))(64)

ندرك التقارب المعنوي بينه وبين قول الإمام (عليه السلام): ((وَكلُّ شَيْءٍ مِنَ اٌلْدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ،

فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ اُلْعِيَانِ اٌلْسُّمَاَعُ، وَمِنَ الغَيْبِ اٌلْخَبَرُ))(65) ذلك ان كلا النصين المؤثر والمتأثر حملا من التقارب المعنوي ما لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر؛ بمعنی لا يمكن انكار المؤثر وجعله بعيدا عن دائرة الأثر الذي يكاد يكون واضحا في

ص: 60

نص المتنبي.

وإذا ما قرأنا قول المتنبي:

((ذكِيُّ تَظَنَيِّهِ طَلِيْعَةُ عَيْنِهِ ٭٭٭ يَرَى قَلْبُهُ فِي يَوْمِهِ مَا تَرَى غَدَا))(66)

فإننا نلحظ افادته من قول الامام علي (عليه السلام) وتأثره به؛ حيث يقول: ((اٌتَّقُوْا ظُنُونَ اٌلْمُؤْمِنِیْنَ، فَإِنَّ الله تَعَالَی جَعَلَ اٌلْحَقَّ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ)(67) فالذي يتمعن في قراءة النصين السابقين يجد ان الامام قد أشار إلى بعض صفات المؤمنين وهو إعمال الظن، وقدرتهم على استباق الاحداث والتنبؤ بها قبل وقوعها لما أكرمهم الباري عز وجل من اجراء الحق على السنتهم. من هذا المنطلق ندرك كيف ان المتنبي قد أفاد من هذا المعنى ووظفه في مدح ممدوحه من خلال حصر هذه الصفة فيه وقصرها عليه. في حين ان نص الامام (عليه السلام) کان شاملا عاما جميع المؤمنين؛ وهذا ما توضحه اضافة (ال) إلى (مؤمنين) لتشمل عموم الجنس على حين جاء نص المتنبي قاصرا صدق الحدس أو صحة الظن على ممدوحه الذي وصفه بالذكاء فقال: ((هو لصحة ذكائه ولصحة ظنه إذا ظنَّ شيئا رآه بعينه لامحالة))(68) وهذا إنما يكشف لنا عن أصالة المتنبي وقدرته على تضمين نصوصه معاني سابقيه والتأثر بها ومحاولة اخراجها بشكل جديد مخفيا المنبع الذي استقى منه معناه ووظفه في عمله؛ أو نصه الشعري؛ وهذا ما نتلمسه في معنى النص الذي جاءت فيه لفظة (تظنيه) لتفتح الافق إلى الرافد الابداعي لنصه ولتتوافق مع لفظة الإمام (عليه السلام) (ظنون). وهذا يكشف لنا ان النص ((الجديد هو إعادة لنصوص سابقة لا تعرف إلا بالخبرة والتدقيق، فالعودة إلى الماضي واستحضاره من أكثر الامور فعالية في عملية الابداع))(69) وهذا ما يمكن ان ندركه ونحن نقرأ قول المتنبي:

ص: 61

((وَجَائِزَةٌ دَعْوَى المَحَبَةِ وَاٌلْهَوَى ٭٭٭ وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْفَى كَلامُ المُنَافِقِ))(70)

حيث لا يمكن انكار المرجعية الفكرية فيه واثرها من نص الامام علي (عليه السلام) الذي يقول: ((مَا أَضْمَرَ أَحَدٌّ شَيْئَاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ

وجْهِهِ))(71). فقد تطابق قول المتنبي مع نص الإمام (عليه السلام) الذي يشير فيه إلى ان الانسان مهما حاول أن يخفي مشاعره أو عواطفه أو أحاسيسه وحتى علمه - إن جاز لنا - فان لسانه يفضحه بما يجري عليه من فلتات تشير إلى ما يحاول کتمانه؛ وبما يرتسم في وجهه من ملامح تشير إلى ما يحاول اخفاءه. وبهذا المعنى أيضا نطق المتنبي الا انه قصره على المنافق الذي يحاول ان يظهر للآخرين خلاف ما يبطن الا انه سرعان ما يفضحه کلامه. وإذا كان كلام الامام (عليه السلام) عاما يشمل الايجابي والسلبي من الامور المخفية فان نص المتنبي وقف عند الجانب السلبي من المشاعر والعواطف؛ ويبدو ان طبيعة الغرض الذي نظم من اجله والموضوع الذي كان يقصده كان السبب في هذا الاقتصار وهذا التأثر. وعلى هذا يبدو ان الشاعر لم يكن غافلا عن مصدره الذي استقى منه المعنى ووظفه بما يلائم موضوعه؛ فهو إعادة انتاج لنص قديم وفق رؤية جديدة تناسب الحدث التاريخي الذي قيل من اجله النص؛ فالمسألة إذن هي مسألة عموم وخصوص. فنص الإمام (عليه السلام) السابق يتحدث بشكل عام ويرسم صورة مشتركة للجميع، في حين خصت صورة المتنبي جانبا عاطفيا فقط هو (النفاق). وبذلك يكون قد أثبت جزئية من جزئيات النص المرجعي. وفي نص آخر نقرأ قوله:

((ذِكْرُ الَفَتى عُمْرُهُ الثَّانِي وَحَاجَتُهُ ٭٭٭ مَا قَاتَهُ وَفُضُوْلُ العَيْشِ إِشْغَالُ))(72)

حيث ينقل في هذا النص معنی خلقي وانساني ربما عرفه الناس وادرکوه غير ان ما يميزه هو الصياغة اللفظية التي اعتمدها الشاعر في الوقوف عند هذا

ص: 62

المعنى؛ فهو يشير فيه إلى ان للمرء حياة مادية تنتهي بانتهاء اجله؛ واخرى روحية مخلدة تمثل عمره الثاني؛ وهذه الاخيرة إنما تبقى من خلال اعماله الطيبة ((وجميل مساعيه، وما يخلده من كرمه ومعاليه))(73). وقد تنبه شارح دیوانه إلى ان هذا النص (مأخوذ من كلام حكيم) (74)؛ ولو رجعنا إلى نصوص الامام علي (عليه السلام) وأقواله الحكمية في وصفه للعلم والعلماء ونقرأ قوله: ((بِه - أي العلم - يَكْسِبُ اٌلإنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيْلَ اٌلأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ..... هَلَكَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاٌلْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُم مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُم فِي

اٌلْقُلُوْبِ مَوْجُودَةٌ)) (75)، نلحظ ان المتنبي وهو يبني نصوصه الابداعية لا يخرج عن اطار تكوينه المعرفي ومرجعياته الثقافية ((فنصوصه الأدبية عبارة عن تراكمات ثقافية تنمو في محيط التلاحم المعرفي المتشابك، مما يجعل النص الأدبي بناءً متعدد القيم والأصوات، تتوارى خلف كل نص ذوات اخرى غير ذات المبدع من دون حدود أو فواصل. ومن ثم فالنص الجديد هو إعادة لنصوص سابقة لا تعرف إلاّ بالخبرة والتدقيق))(76) وهذا ما ادرکه شارح دیوانه من قبل.

ومن أبيات الحكم والامثال التي صاغها المتنبي نقرأ قوله:

((إِذا قِيْلَ رِفْقَاً قَاْلَ لِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ ٭٭٭ وَحِلْمُ الفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ))(77)

وفيها يتحدث عن ضرورة مراعاة وضع الاشياء في موضعها الصحيح والا ستعود على الانسان بالضرر؛ ذلك ان (للحلم) مواضع يجمل فيها ويحمد فاعلها؛ في حين ان في مواضع اخري یکون (جهلا) عندما يوضع في غير محله وعند غير مستحقه. ففي الحرب مثلا لا يجوز استعمال الرفق فيها وانما لابد من القوة والبطش والفتك بالأعداء؛ في خلاف حالة السلم. وعلى الانسان العاقل ان يعرف الأوقات المناسبة لاستخدام الحلم کما یعرف اوقات استعمال الشدة؛ لان استعمال

ص: 63

الحلم في موضع الشدة أو العكس يُعد جهلا أو ضعفا أو خرقا؛ كما ذكر ذلك الامام علي (عليه السلام): ((إذا كَانَ الرِّفْقُ خَرْقَاً كَانَ الخرْقُ رِفْقاً)) (78) أي ((إذا كان المقام يلزمه العنف یکون ابداله بالرفق عنفا، ويكون العنف من الرفق، وذلك كمقام التأديب واجراء الحدود)) (79). وقارئ نص المتنبي يلحظ انه حاول أن يحافظ على معنی نص الأمام إلا انه رسمه بصورة جديدة من خلال اعطائه أبعادا جمالية أكثر وضوحا من خلال تمكنه من الأساليب اللغوية جاءت ((مصاغة في مظهر القدوة أو العبرة التي لا تلقى على الناس القاء وعظ يرغّب ويرهّب ويعد ويزجر؛ وإنما يبرزها الشاعر لهم على انها من مكتسبات تجربته في الحياة ومن نتائج تجارب أخرى مماثلة لتجربته)) (80) وبذلك عرض المعنى في صورة جديدة حاول من خلالها اخفاء الرافد الذي استقى منه معناه. وهنا يكمن ابداع المتنبي في قدرته على خلق الأعمال الفنية المتميزة من خلال تشربه لكل ما هو موروث وإعادة اخراجه بشكل جديد مناسب للمرحلة التاريخية التي يعيشها.

هذا ولم يقف عطاء الامام علي (عليه السلام) الفكري والثقافي عند هذا الحد وإنما نجده متدفقا معطاءً في نصوص اخرى؛ فاذا كان الامام قد قال: ((لَاْ يَقِلُّ

عَمَلٌ مَعَ التَقْوَى، وَكَيْفَ يَقِلُ مَا يُتَّقَبَلُ))(81) نجد ان المتنبي قد وظف النص في المدح؛ فاذا كان الامام قد تحدث عن العمل مع التقوى وانه اكثر نفعا وبقاء وان كان قليلا، نلحظ ان المتنبي قد نقل المعنى إلى موضع آخر، فقد أبدل العمل بالجود والعطاء؛ وان كان العمل يدخل أيضا في باب العطاء إلا انه يكون بشكل غير مباشر؛ وكأنه بذلك ينفي جزئية من جزئيات النص المرجعي الموروث ويحاول أن يعوضها بجزئية أخرى تتلاءم والسياق الذي يتحدث فيه؛ فيقول في معرض مدحه لسيف الدولة:

ص: 64

((وَجُوْدَكَ بِالمُقامِ وَلَوْ قَلِيلا ٭٭٭ فَمَ فِيْمَا تَجودُ بِهِ قَلِيْلُ»(82)

والمتمعن في النصين يدرك العامل المشترك بينهما؛ وهو إن ما يتقبل من الأعمال الجيدة لا توصف بالقلة مهما كانت؛ فالتقوى مع الأعمال والإخلاص فيها تجعلها مقبولة وان قلَّت، غير ان المتنبي قصر هذه الصورة على ممدوحه؛ فمهما كان عطاؤه وجوده فانه مقبول حتى وان كان قليلا يكفي انه منه. لقد افاد المتنبي في معنی نصه من موضوعة المواد التي بنى الامام عليها نصه؛ فكانت بمثابة النبع الذي استقى منه شاعرنا مادته الأولية واعاد بناءها وفق رؤية شاعرية وموهبة متميزة وبذلك عرف كيف يوظف المعنى في شعره ویکسیه حلة جديدة وهذا ما يميز حكم المتنبي وشعره ولاسيما إذا ادركنا ان عملية الابداع ماهي الا العودة (إلى الماضي واستحضاره))(83) بشكل مؤثر وفعال بما تمتلكه من ((القدرة على الاسهام في خلق القيم الناجعة أو الفاضلة للسلوك الاجتماعي لا من باب حمل الناس عليها قسريا يعتمد الزجر أو الإثابة، وإنما من باب اظهارها في مظهر المثال والقدوة التي إذا فازت بالهوى والقبول واعتنقها الناس واصبحت قواعد اختاروها اختيارا وأجمعوا عليها أجماعا وتعاقدوا على تبجيلها اعتقادا لا وجه للإلزام فيه))(84) وإنما يكون بشكل مؤثر وفعال في نفس القارئ أو المتلقي مما يشكل عنصر جذب وتشويق إليه. وبذلك يستطيع الشاعر المبدع أن يخترق حدود التراث ويستوعبها ومن ثم يقوم بعملية صهر وامتزاج بين هذا الموروث وبين تجاربه الحياتية وموهبته الشعرية مستغلا في ذلك قدراته الابداعية ومهاراته الشعرية وملكته اللغوية في اخراج هذا الموروث بشكل جديد وعصري. ومن هنا فقد استطاع المتنبي أن يظهر ((براعة في توظيف التراث.... حيث طبعها بطابعه الخاص وحمَّلها شحنات دلالية خاصة تعبر عن رؤاه الشعرية، وصاغها في أجمل صياغة، مما اسهم

ص: 65

في ذيوع هذه الأبيات وانتشارها)) (85) إلى جانب ذلك فقد كانت النصوص التي استقى من معينها نصوصا ثرية معطاءة خصبة تحمل بين طياتها العديد من المعاني الرؤى الانسانية التي لا تقيد بمكان ولا تحد بزمان؛ فهي نصوص خالدة على مر الدهور والأعوام لما تحمله من شحنات عاطفية ودلالات عقلية ورؤی منطقية إلى جانب تمتعها بألفاظ جزلة تحمل مقومات الفصاحة العربية؛ فكانت بذلك منبعا للعلم والأدب استقى منها الشعراء ونهلوا من مختلف مشاربها؛ فكانت خير منهل واعذب مورد الا وهي نصوص الامام علي (عليه السلام) التي كانت معروفة وشائعة ومتداولة في اوساط العلماء والشعراء والأدباء والكّتاب حتى جاء الشريف الرضي وجمعها في كتاب تحت عنوان (نهج البلاغة).

الخاتمة:

لقد كشفت لنا نصوص المتنبي عن موهبة مبدعة في خلق الأعمال والنصوص الفنية والأدبية المتميزة التي تعبر عن أصالة مبدعها، وذلك من خلال توظيفها للتراث الانساني المتمثل بنصوص الامام علي (عليه السلام) التي كانت بمثابة الرافد الابداعي لنصوصه الادبية لما تحمله من خصب في الألفاظ وعمق في المعاني ومتانة في الصياغة؛ كل ذلك مما جعلها تبعا صافيا يستقي منه الشعراء ومنهم المتنبي الذي تأثر بها وأفاد منها في خلق تجربته الشعرية وبما يتلاءم وموهبته الابداعية، واثراء لمعجمه الشعري.

کما یحسن بنا هنا ان نفرق بين النبع الذي هو أصل التيار المؤثر، والأثر الذي هو الغاية التي ينتهي عندها التيار عند المصب؛ أي ان ندرك ان النبع هو الذي يزود الروافد أو هو الجزء الاساسي للإبداع وهذا ما وجدناه في أقوال الامام علي (عليه السلام) ونصوصه.

ص: 66

فقد اتخذ هذا الاثر اشكالا متعددة منها ما كان من جانب اللفظ ومنها ما كان من جانب المعنى، وفي جانب المعنی نلحظ تنوعا في هذا المؤثر مما اخرج اثرا یکاد يكون مختلفا عن المؤثر فمرة كان الاتباع؛ واخرى السير بمحاذاة المؤثر وثالثة بنقضه واخرى بقلبه وعكسه؛ في حين نلحظ في مرة اخرى الوقوف عند جزئية من جزئيات المعنى، وبذلك تعددت الافادة من النبع المؤثر الا انها جميعا شكلت رافدا ابداعيا في شعر المتنبي مدته بكثير من الألفاظ والمعاني والصور الابداعية.

وبذلك كان اثر نهج البلاغة لا يقل عن اثر الروافد الابداعية الأخرى في شعر المتنبي؛ هذا من جانب، وكان لنهج البلاغة نصيب وافر في اثراء المعجم الشعري للمتنبي سواء على مستوى اللفظ أو المعنى.

ومن جانب آخر تكشف لنا هذه الروافد ان نصوص الامام علي (عليه السلام) كانت معروفة ومتداولة قبل القرن الخامس الهجري حيث الشريف الرضي وجهوده في جمع هذه النصوص وتدوينها.

هوامش البحث:

(1) التأثير والتقليد / أولیریش فایستنتاین. فصول مجلة النقد الأدبي: الأدب المقارن / الجزء الأول المجلد الثالث، العدد الثالث: ابريل / مايو / يونيه 1983 م. ص: 19.

(2) مروج الذهب ومعادن الجوهر / الإمام أبي الحسن بن علي المسعودي المتوفي 346 ه - 975 م؛ اعتنی به وراجعه کمال حسن مرعي. بيروت: المكتبة العصرية. الطبعة الأولى: 1425 ه - 2005 م. ج 2: 326.

(3) الأصالة في شعر أبي الطيب المتنبي أصولها الدماغية وجذورها الاجتماعية في ضوء فسلجة بافلوف / الدكتور نوري جعفر، بغداد: مطبعة الزهراء 1976 م. ص: 150.

(4) المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث / د. محمد عبد الرحمن شعیب. مصر: دار المعارف 1964 م. ص: 194.

(5) ديوان أبي الطيب المتنبي؛ بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان، ضبطه وصححه ووضع فهارسه: مصطفى السقا وابراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي. بیروت: دار

ص: 67

الفكر: 1432 ه - 2010 م. ج 3 / 129.

(6) م. ن

(7) نهج البلاغة للإمام علي: شرح الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده؛ اشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل. بيروت: دار الاندلس الطبعة الثانية: 1382 ه - 1963 م. ص: 245.

(8) دیوانه: ج 1 / 356.

(9) نهج البلاغة: ج 2 / 221.

(10) التناص والموشحات الأدبية / غنية بوقرة؛ سمية بابا. المدية 2009 م. ص: 23.

(11) دیوانه: ج 3 / 64.

(12) دیوانه شرح البيت: ج 3 / 64.

(13) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي / نداء محمد عز الدين محمود الحرباوي. جامعة الخليل: 1436 ه - 2009 م. (رسالة ماجستير). ص: 25 - 26.

(14) التكاثر: 1 - 2.

(15) نهج البلاغة: ج 3 / 416. هام: جمع هامة: أعلى الرأس. تستثبتون: أي تحاولون اثبات ما تثبتون من الأعمدة والأوتاد والجدران في أجسادهم لذهابها ترابا وامتزاجها بالأرض التي تقيمون فيها. ورويت ((تستنبتون)). ترتعون: تأكلون وتتلذذون بما لفظوه أي طرحوه وتركوه.

(16) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي: 26.

(17) دیوانه: ج 3 / 18.

(18) الرسالة الموضحة في ذکر سرقات أبي الطيب وساقط شعره / من كلام أبي علي محمد بن الحسن الحاتمي الكاتب؛ تحقيق الدكتور محمد یوسف نجم. بیروت: دار صادر 1385 ه - 1965 م. ص: 143.

(19) دیوانه: ج 3 / 396.

(20) نهج البلاغة: ج 4 / 505.

(21) المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث / 197.

(22) م. ن: 297.

(23) م. ن: 194.

(24) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب / تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي 1030 - 1093 م؛ تحقیق وشرح عبد السلام محمد هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي. ج 2 / 137.

(25) المتنبي بين ناقديه: 12.

ص: 68

(26) التأثير والتقليد: 19.

(27) المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث: 235.

(28) دیوانه: ج 4 / 174.

(29) نهج البلاغة: ج 4 / 579

(30) دیوانه: ج 1 / 288.

(31) شرح البيت م. ن.

(32) نهج البلاغة: ج 4 / 575.

(33) دیوانه: ج 1 / 276.

(34) م. ن: هامش شرح البيت.

(35) نهج البلاغة: ج 4 / 631.

(36) المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب (تلقي القدماء لِشعره) / الدكتور حسين الواد بيروت: دار الغرب الاسلامي. الطبعة الثانية: 2004 م. ص: 324.

(37) المثال والتحول آراء ودراسات في شعر المتنبي وحياته / د. جلال الخياط. بغداد: دار الحرية للطباعة 1396 ه -1976 م. ص: 51 نقلا من مجلة المقتطف / المجلد 88؛ القاهرة 1936. ص: 76.

(38) شرح نهج البلاغة / تأليف ابن أبي الحديد المعتزلي؛ تحقيق محمد ابراهيم. بغداد: دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى 2007 م. ج 20 / 286.

(39) الرحمن: 60.

(40) دیوانه: ج 1 / 288.

(41) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي: 25.

(42) نهج البلاغة: ج 4 / 574.

(43) المتنبي بين ناقديه: 125.

(44) دیوانه: ج 3 / 378 - 379.

(45) م. ن هامش: ج 1 / 42.

(46) م. ن: ج 1 / 42.

(47) م. ن: ج 1 / 125.

(48) نهج البلاغة: ج 3 / 738.

(49) دیوانه: ج 1 / 79.

ص: 69

(50) نهج البلاغة: ج 3 / 414.

(51) دیوانه: ج 1 / 183.

(52) نهج البلاغة: ج 4 / 655.

(53) دیوانه: ج 1 / 50.

(54) م. ن: لم أعثر على هذا النص في نهج البلاغة. وهذا يؤكد ان نصوص الامام علي (عليه السلام) كانت معروفة ومشهورة قبل عصر الشريف الرضي. وان نهج البلاغة لم يضم كل أقوال الامام وخطبه وكتبه ورسائله. وهذا ما اعترف به الشريف الرضي في مقدمة كتابه واكد عليه بقوله: ((ولا أدعي - مع ذلك - أني احيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام حتى لا يشذ عني منه شاذ، ولا یَنِدَّ نادّ. بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي....)) نهج البلاغة: ج 1 / 22.

(55) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 7 / 83.

(56) نهج البلاغة: ج 4 / 649.

(57) م. ن (هامش)

(58) دیوانه: ج 1 / 253.

(59) استقبال النص عند العرب / د. محمد رضا مبارك. بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة العربية الأولى 1996 م. ص: 183.

(60) الأدب المقارن / محمد غنيمي هلال. ص: 21.

(61) نهج البلاغة: ج 4 / 406.

(62) دیوانه: ج 3 / 33.

(63) التأثير والتقليد: 23.

(64) دیوانه: ج 2 / 155.

(65) نهج البلاغة: ج 2 / 221.

(66) دیوانه: ج 1 / 282.

(67) نهج البلاغة: ج 4 / 628.

(68) دیوانه: ج 1 / 283 ( هامش)

(69) التناص في شعر المتنبي أ ابراهیم عقلة جوخان؛ (اطروحة دكتوراه) جامعة اليرموك: 1427 ه - 2006 م. ص: 10.

(70) دیوانه: ج 2 / 321.

ص: 70

(71) نهج البلاغة: ج 4 / 569.

(72) دیوانه: ج 3 / 288.

(73) م. ن (هامش)

(74) م. ن

(75) نهج البلاغة: ج 4 / 594.

(76) التناص في شعر المتنبي: 10.

(77) دیوانه: ج 3 / 187.

(78) نهج البلاغة: ج 3 / 486.

(79) م. ن. (هامش).

(80) المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب: 333.

(81) نهج البلاغة: ج 4 / 581.

(82) دیوانه: ج 3 / 3.

(83) التناص في شعر المتنبي: 10.

(84) المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب: 333.

(85) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي: 285.

ص: 71

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1. الأدب المقارن / محمد غنيمي هلال.

2. استقبال النص عند العرب / د. محمد رضا مبارك. بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة العربية الأولى 1996 م.

3. الأصالة في شعر أبي الطيب المتنبي اصولها الدماغية وجذورها الاجتماعية في ضوء فسلجة بافلوف / الدكتور نوري جعفر، بغداد: مطبعة الزهراء 1976 م.

4. التناص في شعر المتنبي / ابراهيم عقلة جوخان؛ جامعة اليرموك: 1427 ه - 2006 م. (اطروحة دكتوراه)

5. التناص والموشحات الادبية / غنية بوقرة؛ سمية بابا. المدية 2009 م

6. حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي / نداء محمد عز الدين محمود الحرباوي. جامعة الخليل: 1436 ه - 2009 م. ( رسالة ماجستير).

7. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب / تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي 1030 - 1093 م؛ تحقيق وشرح عبد السلام محمدهارون؛ القاهرة: مکتبة الخانجي.

8. ديوان أبي الطيب المتنبي؛ بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان، ضبطه وصححه ووضع فهارسه: مصطفى السقا وابراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي. بیروت: دار الفكر: 1432 ه - 2010 م.

9. الرسالة الموضحة في ذکر سرقات أبي الطيب وساقط شعره / من كلام أبي علي

ص: 72

محمد بن الحسن الحاتمي الكاتب؛ تحقيق الدكتور محمد یوسف نجم. بیروت: دار صادر 1385 ه - 1965 م.

10. شرح نهج البلاغة / تأليف ابن أبي الحديد المعتزلي؛ تحقيق محمد ابراهيم. بغداد: دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى 2007 م.

11. فصول مجلة النقد الأدبي: الأدب المقارن / الجزء الأول، المجلد الثالث، العدد الثالث: ابريل / مايو / يونيه 1983 م. التأثير والتقليد / أولیریش فاستنتاین.

12. المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث / د. محمد عبد الرحمن شعيب. مصر: دار المعارف 1964 م.

13. المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب (تلقي القدماء لِشعره) / الدكتور حسين الواد بيروت: دار الغرب الاسلامي. الطبعة الثانية: 2004 م.

14. المثال والتحول آراء ودراسات في شعر المتنبي وحياته / د. جلال الخياط. بغداد: دار الحرية للطباعة 1396 ه - 1976 م. نقلا من مجلة المقتطف / المجلد 88؛ القاهرة 1936.

15. مروج الذهب ومعادن الجوهر / الإمام أبي الحسن بن علي المسعودي المتوفي 346 ه - 975 م؛ اعتنی به وراجعه کمال حسن مرعي. بيروت: المكتبة العصرية. الطبعة الأولى: 1425 ه - 2005 م.

16. نهج البلاغة للإمام علي: شرح الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده؛ اشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل. بيروت: دار الاندلس الطبعة الثانية: 1382 ه - 1963 م.

ص: 73

ص: 74

أساليب التوكيد في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعيِّ (رحمه الله) في ضوء التماسك النحوي

اشارة

أ. م. د. وفاء عبّاس فيّاض جامعة كربلاء - كليّة العلوم الإسلاميّة

ص: 75

ص: 76

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد إليك أفر، ومنك أخاف وبك أستغيث وإياك أرجو، ولك أدعو وإليك ألجأ، وبك أثق، وإياك أستعين وبك أو من وعليك أتوكل وعلى جودك وكرمك أتكل. اللهم صل على محمد أمينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفيك من عبادك، إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة، وعلى آله الطيين الأخيار.

أما بعد: فإن من دواعي سروري وفخري أن أخوض بين مدة وأخرى في موضوع يتعلق بتراث أهل البيت (عليهم السلام)، والوقوف عند هذا المنهل العذب أرتوي منه وما ارتويت بعدُ؛ لأن ((کتاب نهج البلاغة هو بعد کتاب الله، وكلام نبيه (صلى الله عليه وآله) مصباح نستضي ءُ به في الظلمات، وسلّم نعرّجُ به إلى طباق السماوات))(1) ومن هنا اخترت بتوفيق من الله تعالى أن أدرس موضوع يتعلق بعهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعي (رحمه الله تعالى)(2) للمرة الثانية وهو ((أساليب التوكيد في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعيِّ (رحمه الله) في ضوء التماسك النحوي))؛ وذلك لأهمية هذا العهد من جهة، ولما يمتاز به هذا العهد كونه أطول العهود من مضامین سیاسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وغيرها من متطلبات الحياة.

والتوكيد أو التأكيد تقوية المعنى وتثبيته في النفس لدى المتكلم والمتلقي، وهو ظاهرة من الظواهر اللغوية (النحوية) والبلاغية المهمة في العربية، ووقع في القرآن الكريم بمختلف أساليبه بصورة ملفتة للنظر بحسب منظور فني کامل متكامل في كل القرآن. ولذلك جاء التوكيد في القرآن الكريم كله كأنه لوحة فنية واحدة فيها

ص: 77

من عجائب الفن - وليس فيها إلا العجيب - ما يجعل أمهر الفنانين يقف مبهورا دهشا مقراً بعجز الخلق أجمعين عن استخلاص عجائبه فضلا عن الإتيان بمثله.

ومما لا شك فيه أن التوكيد وهو تقوية المعنى وتثبيته لدى المتكلم والمتلقي هو ضرب من ضروب التماسك النحوي داخل النص الذي يحقق استقرارية المعني وتثبيته وتقويته في النفس. وعليه سيتم توزيع المادة المدروسة على وفق مباحث ثلاثة يكون الأول في التوكيد اللفظي والمعنوي في العهد، ويكون الثاني في التوكيد بالأدوات ويكون الثالث في التوكيد بنون التوكيد بعد عرض مقدمة وتمهيد يتناول التوكيد في اللغة والاصطلاح والعلاقة بينهما من جهة الدلالة، وينتهي البحث بخاتمة نعرض فيها أهم النتائج ثم قائمة بأسماء المصادر والمراجع.

التمهيد:

1 - التوكيد في اللغة والاصطلاح:

التوكيد في اللغة:

أكدت المصادر المعجمية أن التوكيد في اللغة بمعنى التوثيق والتشديد، قال ابن منظور (ت 711 ه): ((وَكَّدَ العَقْدَ والعَهْدَ أَوثَقَه والهمز فيه لغة يقال أَوْ كَدْتُه

وأَكَّدْتُه وآكَدْتُه إِيكاداً وبالواو أَفصح أَي شَدَدْتُه وتَوَكَّدَ الأْمر وتأَكَّدَ بمعنًى))(3) وجاء في مادة (أكد): ((أَكَّد العهدَ والعقدَ لغة في وكَّده وقيل هو بدل والتأْكيد لغة

في التوكيد وقد أَكَّدْت اليء ووكَدْته...))(4) والذي يظهر من النصوص الواردة في هذا السياق أن التوكيد والتأكيد بمعنى واحد؛ يقال: توكيد وتأكيد؛ فالأول مصدر وَکَّد والثاني مصدر أكَّد، وذكرت بالواو في القرآن، قال تعالى: «وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا» (النحل 91).

ص: 78

واستعمل الإمام علي (عليه السلام) لفظة التأكيد بالألف في عهده لمالك الأشتر بقوله: ((وَلا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ))(5) وهي تحمل الدلالة المعجمية إذ إنها ((كناية عن أمره بإحكام ما يعقد من الأمور))(6)

ويتضح من كلام المعجمات ومن الاستعمال العربي لكلمة (التوكيد)، أو (التأكيد) أنها تأتي للدلالة على معنى الإحكام والتحقق والتوثق والعناية بالمقصود، فكلمة التوكيد: ((لا تخرج عن تقوية وتثبيت الحكم وتقريره في نفس المتلقي))(7) وغايته أنه ((دخل في الكلام لإِخراج الشَّكَ))(8).

والعرب تؤكد كل شيء تراه في حاجة إلى التوكيد، فهي تؤكد الحكم كله أو تؤكد جزءاّ منه، وقد تؤكد لفظة بعينها، أو تؤكد مضمون الحكم، أو مضمون اللفظة أو غير ذلك.(9)

التوكيد في الاصطلاح:

لم نعثر على تعريف للتوكيد عند سيبويه (ت 180 ه) سوی ما جاء من استعمال المصطلح بالواو في أكثر من موضع وهو يعرض لبعض أساليبه(10) ولم يفرّق العلماء بين مصطلحي التوكيد والتأكيد إذ عرّفه ابن جنّي (ت 392 ه) بقوله: ((إعلم أنَّ التوكيد لفظٌ يتبع الاسم المؤكد في إعرابه؛ لرفع اللبس، وإزالة الاتساع) (11) وأشار ابن عصفور (ت 669 ه) بقوله: ((التوكيد لفظٌ يراد به تمكين المعنى في النفس، أو إزالة الشك عن الحديث، أو المُحدَّث عنه))(12) وعرّفه ابن طباطبا العلوي (ت 749): (( التأكيد تمكين الشيء في النفس وتقوية أمره. وفائدته إزالة الشكوك واماطة الشبهات عما أنت بصدده))(13) وهذا يعني أن وظائف التوكيد مختلفة فالذي يراد به تمكين المعنى في النفس، التأكيد اللفظي، والذي يُراد به إزالة الشك عن الحديث، التأكيد بالمصدر، والذي يراد به إزالة الشك عن المحدَّث

ص: 79

عنه، التأكيد المعنوي (14).

وفرّق الجرجاني (ت 816 ه) بين التوكيد اللفظي والتوكيد المعنوي بأن جعل الأخير: ((تابع يقرر أمر المتبوع في النسبة أو الشمول، وقيل: عبارة عن إعادة المعنى الحاصل قبله.))(15)، أما ((التأكيد اللفظي هو أن يكرر اللفظ الأول.))(16). وقال السيوطي (ت 911 ه): ((إنه تابع يقصد به کون المتبوع على ظاهره)) (17) أي: حال المتبوع وشأنه عند السامع.(18)

اما المحدثون فقد كرروا ما قاله النحويون المتقدمون؛ فهذا الدكتور مهدي المخزومي، يقول: ((التوكيد تثبيت الشيء في النفس، وتقوية أمره))(19)، وقال الدكتور فاضل السامرائي (( التوكيد يفيد تقوية المؤكد، وتمكينه في ذهن السامع وقلبه))(20).

وعلى العموم فإننا نرى أن هنالك تساوقا بين المعنى اللغوي والمعنی الاصطلاحي لكلمة التوكيد، التي لا تخرج عن تقوية الحكم وتثبيته وتقريره في نفس المتلقي وفائدته ((تحقيق وإزالة التجوّز في الكلام))(21).

2 - آليات التماسك النحوي:

ارتبط نحو النّصّ منذ نشأته ارتباطاً وثيقاً بتحليل الخطاب، والنظر إلى النّصّ على أنّه بنية كلّيبة على أنّه جمل فرعيّة، وقد تطوّر النحو بظهوره من نحو يحتل الجملة إلى نحو يحلّل النّصّ، فيتعامل معه بوصفه جملاً وسياقات، وظروفاً وفضاءات تتعالق فيها المعاني وتترابط بما قبلها وما بعدها، فهو الأكثر اتصالاً بمجال تحليل النّص (22). ويعد التماسك النصي رافدا من روافد دراسة النص، ويقصد به تلك الوسائل التي تتحقّق بها خاصيّة الاستقراريّة في ظاهر النّصّ (23)،

ص: 80

وكما قال دي بو جراند: ((هو يترتب على إجراءات تبدو بها العناصر السطحيّة على صورة وقائع يؤدّي السابق منها إلى اللاحق بحيث يتحقّق بها الترابط.)) (24)

لقد وُجد (25) أن الجملة الأولى في نصوص النهج تسيطر على المتتاليات الجملية في الوحدة الكبرى التابعة لتلك الجملة، بل إنّ الوحدة النصية إنّما هي امتداد للجملة الأولى، ذلك أنّ ما يلي الجملة الأولى من جمل إنما هو من متعلقاتها، ومتی انتهت تلك المتعلقات فإن الوحدة النصيّة تنتهي كذلك، لتبدأ وحدة نصيّة جديدة وهكذا.

ويذهب هاليدي ورقية حسن (26) إلى أن كل متتالية من الجمل تمثل نصا شريطة أن تكون بين هذه الجمل علاقات، أو على الأصح بين بعض عناصر هذه الجمل علاقات، وتتم هذه العلاقات بين عنصر وآخر وارد في جملة سابقة أو جملة لاحقة، أو بين عنصر وبين متتالية برمتها سابقة أو لاحقة.

ولذلك يحتاج النص - حتى تتحقق نصيّته - إلى مجموعة من الآليات اللغوية ليتكامل ذلك النص وتسهم في بنائه ووحدته الشاملة، وهذا ما أوضحه بقوله: ((ولكي تكونُ لأيِّ نصٍّ نصيّةٌ ينبغي أَنْ يعتمدَ على مجموعةٍ من الوسائلِ اللغويةِ التي تَخْلقُ النصَّ، بحيثُ تُسهمُ هذهِ الوسائل في وحدتهِ الشاملة))(27).

وهنالك نوعان من أنواع التماسك هما التماسك المعجمي الخاص بالألفاظ والتماسك النحوي الخاص بالتراكيب أو الجمل، والتماسك النحوي هو عبارة عن الترابط وتعالق الجمل بعضها مع البعض الآخر، ويعرض لكثير من الوسائل والإجراءات النحوية المتمثلة بالحذف والتكرار والربط وغيرها، أما الذي سندرسه في هذه المباحث هو التوكيد وأساليبه المتعددة التي ظهرت لدينا في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي (رضي الله

ص: 81

عنه)، ومن المعروف فإن هذا العهد يمثل نصا من النصوص المعتبرة والتي قيلت في زمن الاستشهاد وضمن الحقبة الزمنية المتقدمة لعصر الاحتجاج النحوي ولكن هذا الأمر قد غيب لأسباب سياسية معروفة.

والعهد نص ابداعي كتبه الإمام علي (عليه السلام) وهو رجل لا يختلف اثنان في فصاحته وبلاغته، والعهد نص من نصوص کتاب (نهج البلاغة) ذلك الكتاب العالي في بلاغته والسامي في فصاحته، فالمتكلم بليغ وفصيح ونصه بليغ وفصيح إذ تضمن مبادئ سياسية واجتماعية وأمنية واقتصادية لرسم السياسة العامة للدولة الإسلامية ((وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن)) (28) کما وصفه الشريف الرضي (29). ((وهذا ما جعل هذه الوثيقة من أهمّ المصادر التي تُستسقى منها المبادئ التي تُنير طريق الولاة في إدارة ما تَولَّوه، في كلِّ زمان، وفي كلّ مكان) (30).

ويعد أسلوب التوكيد من الأدوات التي تؤدي إلى التماسك النحوي داخل النص، وهذا ما ستسعى إليه الدراسة التطبيقية، إذ سنعتمد في تحليلنا على إحصاء أنواع التوكيد وأدواته في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه الأشتر النخعي رضوان الله تعالى عليه، وسنلمح كيف تؤدي آلياته إلى اتساق النص وانسجامه، ويوضح لنا ما تؤديه من ترابط وتماسك النص. وسيكون وفق المباحث الثلاثة القادمة إن شاء الله تعالى.

ص: 82

المبحث الأول: التوكيد اللفظي والمعنوي في العهد

التوكيد اللفظي في العهد:

أكد النحويون أن التوكيد اللفظي يكون بإعادة اللفظ الأول أو تقويته بمرادفه معنی (31)، وقد يؤتى بموازنة مع اتفاقهما في الحرف الأخير ويسمى أتباعا (32).

فمن إعادة اللفظ الأول قوله تعالى: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ» (المؤمنون 36)، وقوله تعالى: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» (الفجر 22). ومن تقويته بمرادفه معنى قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا» (الأنبياء 31)؛ لأن الفجاج عي السبل، وقوله تعالى: «وَغَرَابِيبُ سُودٌ» (فاطر 27)؛ لأن معنی (غرابيب) سود، ومفردها غربيب، أي أسود فكأنه قال سُود سود.

وهذا التوكيد أوسع استعمالا من التوكيد المعنوي؛ لأنه يكون في الأسماء النكرات والمعارف، ویکون في الأفعال، والحروف، والجمل بخلاف التوكيد المعنوي، فإنه يكون في الأسماء المعارف فقط.

ويتطلب التوكيد اللفظي إعادة عنصر معجمي - وهذا ما يقود إلى الحديث عن التكرار عند النحويين والتكرير عند البلاغيين -، أو هو ورود مرادف له أو شبه مرادف أو عنصراً مطلقاً أو اسما عاما. (33) والتوكيد اللفظي هو وسيلة من وسائل التماسك النصي وأداة من أدوات التوكيد. ومما نلمحه في العهد من إعادة بعض العناصر المعجمية التي تؤدي إلى التوكيد ورود تکرار لفظ الجلالة الواقع مفعولا على التحذير والتحذير هو ((تنبيه المخاطب على أمر مكروه ليجتنبه)) (34)، وهو ((أسلوب يعتمد على القرائن والدلالات التي تكتنف الخطاب ويكتفى فيه

ص: 83

بذكر ما یرد الى التحذير منه فلا يذكر معه فعل) (35)، وهو أقوى من الفعل الذي بمعناه في أداء المعنى، وأقدر على إبرازه کاملا مع المبالغة فيه، فيؤدي المعنى مع إيجاز اللفظ واختصاره، لذلك كان استعماله هو الأنسب حين يقتضي المقام إيجاز اللفظ واختصاره، مع وفاء المعنى، والمبالغة فيه (36).

ومما جاء في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر قوله: ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ، وَالْمَسَاكِين وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَة قَانِعاً وَمُعْترّاً،))(37) فتوكيد الإمام (عليه السلام) لفظ الجلالة بإعادته وتكراره جاء من باب دلالة توكيد التحذير الذي وقع مفعولا به، فأمره أن يتعهد هذه الطبقة من الناس، لضعف حالهم، وفصّل القول فيهم؛ لمزيد العناية بهم، محذّرا إياه من الباري سبحانه في التغافل عنهم، ((وجاء تكرار التحذير له تأكيدا لتحذيره من الله تعالى في التغافل عنهم، فلا بد للوالي من أن يجتهد في تأدية حقوقهم والاعذار لله سبحانه وتعالى في تأدية فرائضه وحقوقه بشأنهم إذ إنهم أول من غيرهم بتوفير حاجاتهم وإشباعها لهم.))(38)

ومن الجدير بالذكر فإن الإمام (عليه السلام) يصب عنايته في أكثر المواضع للتحذير (39) على تكرار لفظ الجلالة مستجلباً أذهان المخاطبين بذكر اسمه تعالی محذراً و مخوفاً من سطوته وغضبه في ما يريده ويفرضه من تكاليف على المخاطبين في المحذَّر منه، وهذا ينسجم مع طبيعة عمله خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومُعلماً وواعظا، وقائد أمة ومحارباً، فكل هذه الصفات تفرض عليه التحذير في المواضع التي ينبغي فيها التحذير، ولأهمية الموضوعات المتحدَّثِ عنها وعظم شأن المعصية عنده تعالى وفي نظر الإمام (عليه السلام) أكدها بالتكرار. (40)

ومن ألفاظ التوكيد الأخرى التي خرجت للتحذير هي ضمير النصب

ص: 84

المنفصل للمخاطب (إياكَ) وقد ذكرها سيبويه (ت 180 ه) في ((هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير وذلك قولك إذا كنت تحذر: إياك. كأنك قلت: إياك بح، وإياك باعد، وإياك اتق، وما أشبه ذا.))(41)، ووضح أيضاً العلة في حذف فعلها بقوله: ((وحذفوا الفعل من إياك لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، فصار بدلاً من الفعل، وحذفوا كحذفهم: حينئذٍ الآن، فكأنه قال: احذر الأسد، ولكن لا بد من الواو لأنه اسم مضموم إلى آخر.))(42).

وإذا نُظر إلى الضمائر - ولا سيّما ما نحن بصدد الحديث عنه - من زاويه اتساق النص وتماسكه أمكن التمييز فيها بين أدوار الكلام التي تندرج تحتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم، والمخاطب، وهي إحالة لتخرج النص بشكل (صورة) نمطي، ولا تصبح إحالة داخل النص، أي اتساقية، إلا في الكلام المستشهد به، أو في خطابات مكتوبة مدونة من ضمنها الخطاب السردي. وذلك لأن سياق المقام في الخطاب السردي يتضمن سياقا للإحالة، وهو تحيل ينبغي أن تكون انطلاقا من النص نفسه بحيث أن الإحالة داخله يجب أن تكون نصية ومع ذلك لا يخلو النص من إحالة سياقية إلى خارج النص تستعمل فيها الضمائر المشيرة إلى الكاتب أو إلى القارئ (43) وقد تكرر الضمير (إياكَ) في العهد (7) سبع مرات جاءت بجمل مختلفة سأوضحها على الجدول الآتي:

الكلمة - الجملة

إِيَّاكَ - إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ،

إِيَّاكَ - إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا،

وَإِيَّاكَ - وَإِيَّاكَ وَالإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا،

وَإِيَّاكَ - وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَی رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ،

ص: 85

وإيَّاكَ - وإيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا،

وَإيَّاكَ - وَإيَّاكَ وَالاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ،

وَإيَّاكَ - أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ لِمَا فيهِ رِضَاهُ مِنَ الإِقَامَةِ عَلَی الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَإِلَی خَلْقِهِ،

نلاحظ عبر الجدول أن الإمام علي (عليه السلام) استعمل هذا العنصر بصورة متكررة في العهد في مواطن التحذير من ارتكاب بعض الأمور التي تؤدي بصاحبها إلى نتائج وخيمة عليه، فعلى سبيل المثال يحذر الإمام (عليه السلام) مالكا بقوله: ((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَالٍ.))(44) أي المباراة والمفاخرة في السمو وهو العلو (45) فإن نتيجة هذا العمل هو الذل والإهانة من الله لمن يسلك هذا السلوك المشين لأن الكبرياء والعظمة له وحده، وورد في الأثر: ((الفخر ردائي والكبرياء إزاري، من نازعني في شيء منهما عذبته بناري))(46).

ومن المحذّرات التي أكد عليها الإمام علي (عليه السلام) في عهده قوله: ((إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، وَلا أَعْظَمَ

لِتَبِعَةٍ، وَلا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَیْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مبتدئٌ بِالْحُكْمِ بَیْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ

سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ، لِأنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ، وَإِنِ ابْتُلِيتَ بخطأ وَأَفْرَطَ

عَلَيْكَ سَوْطُكَ [أَوْ سَيْفُكَ] أَوْ يَدُكَ بِعُقُوبَةٍ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَی أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول حَقَّهُمْ.))(47) وقد أعطى الإمام (عليه السلام) هذا النص من عهده مساحة واسعة لعظم ما حذر

ص: 86

منه وهي مسألة سفك الدماء إذ نهی ((أمير المؤمنين [عليه السلام] مبنية على الشريعة الإسلامية والنهي عن القتل والعدوان الذي لا يسيغه الدين وقد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء قال: إنه ليس شيء أدعى إلى حلول النقم وزوال النعم وانتقال الدول من سفك الدم الحرام وإنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك فليس الأمر كما ظننت بل تضعفه بل تعدمه بالكلية. ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود وقال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة المقتول والمراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود. ثم قال: إن قتلت خطأ أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية))(48).

وجاء التحذير ب(إياكّ) في سياق آخر من العهد وهو قوله (عليه السلام): ((وإيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا، أَوِ الَّلجَاجَةَ فِيهَا إِذا تَنَكَّرَتْ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ))(49)

ومن العناصر (الألفاظ) المكررة الأخرى التي لمحناها في العهد هي (أَمَرَ، تَفَقَّدْ) وجاءتا في جمل متعددة وسياقات مختلفة، وسأجعلهما في جدولين منفصلين حتي نكون على بيّنة من الجمل التي وردت فيها في العهد، ومن ثم يسهل علينا تحليلهما، وهما على النحو الآتي:

الكلمة - الجملة

أَمَرَ - هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْترَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ،

ص: 87

أَمَرَهُ، مَا أَمَرَ - أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ،

وَأَمَرَهُ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ،

من الجدول يتبين لنا أن (الجملة الأولى) في النصّ هي التي ((تحكم سائر الجمل اللاحقة لها - إن وجدت - بحكم ورودها في البداية في نقطة الانطلاق، وهي المَعْلَمُ الأول المُؤسس لكل المعالم في النص))(50)

وإنما امتازت الجملة الأولى بذلك؛ لأنها تمثل المحور المركزي في الوحدة النصية، ومعلوم أنّ ((معیار تحديد المركزية هو كمية المعلومات التي يفرزها الخطاب في تسلسله بالنسبة لمحور ما. على هذا الأساس يصبح التفاوت بين محاور الخطاب الواحد من حيث المركزية تفاوتا في كم المعلومات التي تشكل هذه المحاور موضوعات لها، ويصبح بذلك المحور الرئيسي في خطابٍ ما المحور الذي يستقطب الكم الأكبر من المعلومات في ذلك الخطاب))(51).

ويلاحظ عبر هذه السياقات النصية أن لفظة (أَمَرَ) جاءت في العهد (4) أربع مرات بصيغة الماضي وردت مرتان منهما بلفظ (أَمَرَهُ) بالإسناد إلى الضمير، وهذا يجعل النص في تماسك واضح في ألفاظه ففي أول العهد أشار الإمام (عليه السلام) إلى الأمر الذي أمر به واليه على مصر مالك بن الحارث ونص عليه، وعليه فإن اسم الاشارة (هذا) تعد الركيزة الأولى، والمعلم المؤسس بل هي المحور المركزي الذي انطلقت منه جميع الأوامر والنواهي التي صدّرها الإمام (عليه السلام) بقوله: ((هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَمیرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْترَ فِي

عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِینَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْايةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَاَرَةَ بِلاَدِهَا))(52) للوقوف على جملة أمور هي بمثابة أوامر ينبغي تنفيذها،

ص: 88

والوالي المسؤول الأول والمباشر في ذلك إذ إن هدف الحكم الإسلامي يتلخص في البرنامج المالي للدولة (جباية خراجها) والدفاع والأمن (جهاد عدوها) والإصلاح الاجتماعي (استصلاح أهلها) والتنمية الاقتصادية (عمارة بلادها). ثم يردف کلامه بقوله: ((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ:

مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا

وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ - جَلَّ اسْمُهُ - قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.)) (53) فنرى أن الإمام (عليه السلام) انطلق عبر تکراره هذه اللفظة وهي (أمره) بإسنادها إلى ضمير المخاطب العائد على مالك الأشتر إلى مجموعة من الدلالات المختلفة وتكثيفها في المعاني لتقويتها وتمكينها في ذهن المخاطب وقلبه مما أسهم اتساقا واضحا بين جملها المتعددة وسياقاتها المختلفة، ولم يقف عند هذا الحد بل تجاوز إلى إطار آخر من الأمر وهو قوله: ((وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ

بِالسُّوءِ، إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ.))(54)، ولعل السبب في تكرار هذه اللفظة هو التأكيد على الهدف الذي من أجله أنشئ العهد وهو جمع من الأوامر والنواهي في اتباع إدارة الدولة وهي تصلح لكل زمان ومكان، وعليه ((فقد يكرر اللفظ لتقوية الحكم وذلك لتمكينه في ذهن السامع وقلبة. وقد يكون الغرض منه التهويل والتعظيم والتهدید)) (55)

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن أحكام التوكيد اللفظي تختلف باختلاف المؤكد ف ((إذا كان المؤكد فعلا ماضيا أو مضارعا، فإن توکيده اللفظي يكون بتكراره وحده دون تکرار فاعله، أما فعل الأمر فلا يمكن توكيده وحده بغير فاعله))(56) وهو ما جاء في النصيين الأوليين إذ ذكر الفاعل في النص الأول

ص: 89

دون الثاني، قال الإمام (عليه السلام): ((هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَليٌ أَمیرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْترَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ،))(57).

ومما ورد من الألفاظ المكررة في العهد، وتستحق الوقوف عندها لفظة (تَفَقَّدْ) أيضا جاءت بصيغة الأمر أيضاً وهي مبيّنة في الجدول الآتي:

الكلمة - الجملة

تَفَقَّدْ، يَتَفَقَّدُهُ - ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،

تَفَقَّدَ - وَلا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَی جَسِيمِهَا،

تَفَقَّدْ - ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ

عَلَيْهِمْ،

وتَفَقَّدْ - وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ،

وتَفَقَّدْ - وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ.

وتَفَقَّدْ - وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ،

إن استعمال الإمام علي (عليه السلام) لهذه اللفظة (تفَقَّدْ) (5) خمس مرات بصيغة الأمر وبصيغة المضارع مرة واحدة (يَتَفَقَّدُهُ)، ومرة واحدة بصيغة (تَفَقُّدَ) يؤكد أهمية هذا الأمر الذي يحاول الإمام تکراره وتأكيده خشية نسيانه لما فيه ثقل كبير ومسؤولية كبرى ولهذا ((يلجأ المتكلم إلى تكرار اللفظ لطول الكلام وأنه يخشى نسيان المتلقي أوائل الكلام.)) (58) فعلى سبيل المثال قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،)) (59) إذ أمره (عليه السلام) ((أن یکون آثر رءوس جنوده عنده وأحظاهم عنده وأقربهم إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لأمراء الجند

ص: 90

لولا ذلك لما انتظم الکلام))(60).

وقوله ((مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا)) إذ يتطلب من الإمام العدل أن یکون ((كالأم الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته کرها ووضعته کرها وربّته طفلا، تسهر بسهره وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه اخرى، وتفرح بعافيته وتغتمّ بشكاته.)) (61) ومما يلتفت إليه أنه جاء بصيغة المضارع (يتفقده) کونها دالة على الحدوث والتجدد. ثم يكرر اللفظة في سياقات أخرى منها قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ،))(62) وقوله أيضاً: ((وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ))(63)

ونلحظ أن هنالك تلازم واضح بين دلالة هذين اللفظين (أَمَرَ) و(تفَقَّدْ) في العهد إذ إن التفقد نتيجة حتمية يأمر بها الإمام واليه؛ فالتفقد في كل الأمور صغيرها وكبيرها قليلها وجسيمها لأن الغفلة عن الصغيرة منها يؤدي إلى عظيم ما يحمد عقباه، ولذلك يأمر الإمام التفقد في أمور الرعية وأعمالهم وأمور خراجهم، فورود هذه اللفظة بصيغة الأمر (تفقد) منح النص قوة وتماسكا للوصول إلى الغاية التي وضع الإمام (عليه السلام) من أجلها خطواته في بناء الدولة إذ تبدأ من اختيار الراعي ليسير بالرعية إلى بر الأمان.

التوكيد المعنوي في العهد:

التوكيد المعنوي عند النحويين يعرّف بأنه التابع الرافع احتمال غیر أرادة الظاهر (64). أو هو التابع الرافع احتمال تقدير أضافة إلى المتبوع، أو أرادة الخصوص بما ظاهره العموم(65).

ومن ألفاظ هذا التوكيد الألفاظ الدالة على العموم وأشهرها (كل) وهو اسم يفيد الاستغراق والإحاطة بالأفراد والأجزاء، مثاله قوله تعالى: «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا

ص: 91

كَسَبَ رَهِينٌ» (الطور 21) فهذا استغراق وأحاطة بجميع الأفراد. وإذا قلنا (كل ظالم مبغوض) فإنه يفيد استغراق أفراد الظالمين.(66) والفائدة من التوكيد ب (كل) وما في معناها: رفع ما كان يحتمله اللفظ من إرادة البعضيّة به (67)، أي أنها ترفع احتمال إرادة الخصوص بلفظ العموم(68).

ویری ابن هشام (ت 761 ه) أنها ((اسم موضوع لاستغراق أفراد المُنكّر، نحو «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ» والمعرّف المجموع نحو «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» (مريم 95) وأجزاء المفرد المعرف نحو (كُلُّ زيد حسن) فإذا قلت (أكلتُ كلَّ رغيفٍ لزيدٍ) كانت لعموم الأفراد، فإن أضفتَ الرغيف الى زيد صارت لعموم أجزاء فردٍ واحد.)) (69)

وقد وردت لفظة (كل) مؤكدة توكيدا معنويا في عدة مواضع من عهد الإمام (عليه السلام) حتى بلغت (19) تسع عشرة مرة سنذكرها بحسب ما وردت في العهد وفق الجدول الآتي ليسهل علينا تحليلها.

لفظة (كل) - الجملة التي وردت في العهد

کُلَّ - فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ،

کُلَّ - وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ.

کُلَّ - أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ،

کُلَّ - وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ،

کُلَّ - وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لا يَضِحُ،

لِکُلٍّ - وَفِي اللهِ لِكُلّ سَعَةٌ،

لِکُلٍّ - وَلِكُلٍّ عَلَی الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ.

ص: 92

لِكُلِّ - ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلى

كُلِّ - وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ،

كُلِّ - وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ

كُلِّ - وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،

كُلِّ - وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی الله تَعَالَ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ.

كُلُّهُ - وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ،

لِكُلِّ - وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ،

لِكُلِّ - فإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ،

كُلِّ - وَلَكِنَّ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكِ بَعْدَ صُلْحِهِ،

كُلِّ - فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ،

كُلِّ - وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ.

كُلِّ - وَاحْترِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ،

کُلِّ - وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَی إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ،

يتبين لنا عبر هذا الجدول أن الإمام استعمل لفظة (كل) الدالة على العموم واستغراق جميع الأفراد والأجزاء واختلفت صورتها فجاءت مرفوعة منونة (2) مرتان، وجاءت منصوبة (5) خمس مرات، وجاءت مجرورة (11) إحدى عشرة مرة، وجاءت مرة واحدة مضافة إلى الضمير.

وإذا دققنا النظر في النصوص التي وردت فيها (كل) سنجدها كلها متقدمة على ما أضيفت إليه وهذا يعني أنها دالة على العموم ابتداءً، فقوله (عليه السلام): ((

ص: 93

فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَالٍ)) (70). وقوله: ((أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، واقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لا يَضِحُ،))(71). وقوله: ((وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ،))(72) دالة على العموم في جميعها.

وهنالك فرق واضح بين مجيء (کل) متقدمة، وبين مجيئها مؤكدة وذلك لأنّها ((إذا تقدمت أفادت العموم ابتداءً، ولم تدع احتمالاً لغير الإحاطة، وإذا تأخرت وكانت مؤكدة أحتمل الكلام العموم وغيره، ثم جئت بما يرفع احتمال عدم العموم))(73). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ((أنها مع التقدم يمكن التعبير بها للدلالة على الإحاطة والشمول بصورة أوسع مما تقع مؤكدة، فإنها إذا وقعت مؤكدة أفادت العموم في المعارف فقط، أما إذا تقدمت، فإنها تفيد العموم في النكرات والمعارف، مفرداً أو غيره مما لا يصح أن يقع مؤكداً، وذلك نحو قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» ( المدثر 38)، ولا يقال (نفس كلها بما کسبت رهينة). وقال: «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا» (الأحقاف 25) ولا يقال (تدمر شيئاً كله)، وقال: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا» (النحل 111).))(74) وهذا ما أكده بعضهم بقوله: ((إنّ كلا إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت وكانت توكيدا اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسا شائعا كان أو معهودا معروفا)) (75)

(( وفي حال كون (کل) تقع مؤكدة تضاف لفظا إلى ضمير المؤكد، فإذا كان المؤكد جنسا عاما، كان التوكيد يشمل كل أفراد الجنس، نحو (الخلق كلهم عيال الله) و (الناس كلهم میتون)، (76) ومن ذلك قول الإمام علي (عليه السلام) في عهده: ((وَذلِكَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ

ص: 94

فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ.))(77) فقد اشار إلى ثقل التكليف فيما أمره به بقوله (وذلك على الولاة ثقيل)، ثم أردف ذلك بقوله: (والحق كله ثقيل) فخصّ توكيد كلمة (الحق) بلفظة (كُله)، وذلك ليشمل التوكيد معاني الحق كلها، ولم قيل: (والحق ثقيل كله)؛ تشجيعا له علی فعله، ثم نسب تخفيفه إلى الباري سبحانه، في قوله: (وقد يخففه الله...) ترغيبا له فيه.(78)

وقد تقطع (كل) عن الإضافة لفظا فتأتي منونة، وفي هذه الحالة يجوز مراعاة اللفظ والمعنى فيهما، فيأتي إفراد الخبر مع (كل) وهي غير مضافة إلى شيء بعدها كما بيّنها السهيلي (ته) (79)، قال تعالى: «كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ» ( البقرة 285)، وقوله تعالى: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ» (ق 14)، وقال تعالى: «كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ» ( البقرة 116)، وقال تعالى: «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ( يس 40)، فأفرد مراعاة للفظ (كل)، وجمع مراعاة لمعناها. فعلى سبيل المثال في الآية الأولى ورد ذكر الرسول والمؤمنون فلو قال: (كلٌّ آمنوا) وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف، فكان لفظ الإفراد أدل على المراد، كأنه يقول: كل واحد منهم آمن بالله وملائكته.

وفي الآية الثانية فلأنه ذكر قُروناً وأُمماً، وختم ذكرهم بذكر قوم تَبع، فلو قال: (كلٌّ كذبوا) و(كل) إذا أُفردت إنما تعتمد على أقرب المذكورين إليها - فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تُبع خاصةً؛ أنهم كذبوا الرسل، فلما قال (كلٌّ كذب) عُلم أنه يريد كل قرن منهم كذب، لأن إفراد الخبر عن (كل) حيث وقع إنما يدلُّ على هذا المعنى، وعليه فإن في كل من هذه الآيات قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره انطلاقا من كون النص وحدة متماسكة (80).

واستعمل الإمام (عليه السلام) (كل) في العهد منقطعة عن الإضافة بقوله (عليه السلام): ((وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،))(81)، فأفرد فيها مراعاة للفظ (كل)؛

ص: 95

ولأن في معرفة السياق والمعنى الذي وضعت فيه يتبين لنا لماذا أفرد الخبر وجمع المعنى، فقد ورد في القول الأول ذكر مجموعة من الطبقات منها ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ، وَالْمَسَاكِين وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَة قَانِعاً وَمُعْترّاً، وَاحْفَظْ لِلّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ وإنّ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،)(82)

وأما قوله (عليه السلام): ((وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللهِ تَعَالَی فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيه.))(83) فلأن ((الإعذار إلى الله الاجتهاد والمبالغة في تأدية حقه والقيام بفرائضه))(84). فأفرد مراعاة للفظ (کل)، وجمع مراعاة لمعناها؛ لأنها جاءت في سياق الحديث عن حقوق أصحاب الدخول المحدودة من الطبقات السفلى والمساكين والمحتاجين وأصحاب الاحتياجات الخاصة والأمراض المزمنة وهم كثر.

ومما تقدم يتضح أن الغاية التي قصدها الإمام عليٍّ (عليه السلام) من توكيد كلامه بلفظة (کُلّ) على اختلاف صورها، هو إفادة العموم والشمول فيه، وهو مما يستلزم الإحاطة والعموم منه.

ص: 96

المبحث الثاني: التوكيد بالأدوات

ظهرت لدينا عند قراءتنا العهد أنه يضم مجموعة من الأدوات النحوية التي تحمل في مضمونها التوكيد، ومن أبرز ما لمحناه سنسرده على النحو الآتي:

التوكيد ب(إنَّ) وملحقاتها:

التوكيد بالقصر ب (إنّما):

التوكيد ب(قد):

التوكيد ب(ثُمّ):

التوكيد ب(إنَّ) وملحقاتها:

احتل التوكيد في العهد ب (إنَّ) وملحقاتها المختلفة (85) مساحة واسعة تكاد تكون أبرز أداة وأكثفها استعمالا من أي أداة أخرى لما تمتلكه هذه الأداة من خصوصية تعبيرية واضحة في الأداء الكلامي وتعطي ترابطا ملموسا واقعيا في النص؛ لأن الأثر المعنوي ل (إنَّ) کما ذکره العكبري (ت 616 ه) هو ((إنما دخلت (إنَّ) على الكلام للتوكيد عوضا عن تكرير الجملة))(86)

وعهد الإمام علي (عليه السلام) كما أسلفنا يعد نصا ابداعيا يمتلك وحدة موضوعية متكاملة ووجود هذه الأداة بين فقرات جمله ضروري جدا لعدم تكرار الجملة من جهة، ولتكثيف جمل أخرى بدلالات أخرى وهذا ما نتلمسه في جمل العهد، وعليه تنوعت واختلفت صور التأكيد بهذه الأداة فمرة نجد الإمام يستعملها مقرونة بالفاء مرة وبالواو مرة أخرى ومرة تكون بكسر الهمزة ومرة

ص: 97

بفتحها.

وبما أن تأكيد الكلام بهذه الأداة واسع جدا سوف أذكر نماذج قليلة لذلك على اختلاف صورها منها قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ

إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،)) (87)

وقوله: ((وَلا تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ.))(88)

وقوله: ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ

إِلَيْهِمْ،)) (89)

وقوله: ((فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ.))(90)

وقوله: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَلا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ:))(91)

وقوله: ((مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ ما لا مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصافٍ فِي مُعَامَلَةٍ.))(92) وأخیرا قوله: ((وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَلَكَ

بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،)) (93)

فالمتأمل في الجمل الواردة في أعلاه وفي غيرها مما لم نذكره نرى أنه قد اتخذت من (إن) وظائف لتوكيد النسبة، ونفي الشك عنها، (94) أو لتوكيد مضمون الجملة،(95) أو يؤتى بها لربط الكلام بعضه ببعض، فلا يحسن سقوطها.(96) وقيل عنها أنها: ((قريبة الشبه بنون التوكيد الثقيلة التي تؤكد الفعل، غير أنّها مسبوقة بالهمزة. ومن أوجه الشبه بينهما أن كلتيهما للتوكيد، وأن نون التوكيد يفتح معها

ص: 98

الفعل، وهذه ينصب معها الاسم، وأنّها تخفف کما تخفف تلك))(97)، أو قد تأتي للتعليل وهي كثيرة كقول الإمام علي (عليه السلام): ((وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيَما أَحَبَّتْ وَكَرِهَتْ.))(98) وقوله (عليه السلام): ((وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِیرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِنَ بِالْمِرْصَادِ.))(99). ولا تكاد تخرج جمل العهد عن تلك الوظائف وهي بذلك تحقق ترابطا وانسجاما بين أجزاء الجمل للوصول به إلى تماسك واضح في النصّ.

التوكيد بالقصر ب (إنّما):

(إنّما) مركبة من (إنَّ) - بكسر الهمزة وتشديد النون - حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر مع (ما) الكافة (100). و(ما) هذه تسمى (المهيئة)؛ لأنها تهيء (إنَّ) للدخول على الأفعال بعد أن كانت مختصة بالأسماء (101) نحو قوله تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» (فاطر 28) ((وقد نتج من هذه الملازمة تغيير في الوظيفة التي كانت (إنَّ)، تؤديها منفردة؛ لأن الكلمتين إذا ركبتا، وكان لكلٍ منهما معنى على حده أصبح لها بعد التركيب معنی جدید، وحكم جديد، وقد نفیت دلالتها من كونه توکیدا عاديا إلى كونه قاصرا أو حاصرا، وبعبارة أوضح من كونه توکیداً مخّفاً إلى كونه توکیداً مشدّا))(102)

وهنالك طرائق يتم فيها قصر الكلام، وتعد (إنما) إحدى تلك الطرق. ودلالة (إنما) هي القصر، ويراد به کما قال القزويني (ت 739 ه): ((القصر ليس إلا تأكيد على تأكيد))(103) وقد وردت في العهد (إنّما) في (7) سبعة مواضع، سأرتبها بحسب ورودها في الجدول الآتي:

ص: 99

الأداة - الجملة

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ.

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ،

فَإنَّمَا - فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ،

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا،

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ

ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأُمُورِ،

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ،...

إن الناظر في الجمل التي جاءت في الجدول تبين لنا حقيقةً مفادها أن دخول هذه الأداة (إنّما) عليها منح الجمل وظيفة تأكيدية مشددة وذلك بجعلها قاصرة وحاصرة للمعنى الذي يريد استعماله الإمام (عليه السلام) مما أكسب النص قوة وترابطا وتماسكا بين أجزائه الكثيرة، من ذلك قوله: ((وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِینَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ.)) (104) فأراد الإمام علي (عليه السلام) حصر هذه اللفظة (الصالحين) (بکا یُجري الله) لأن ((ما يتّفق من ثناء الناس لبعض أمراء الباطل والعلماء المرائين المتصنّعين فإنّما هو على لسان العوام ومن في قلبه مرض، وأمّا العارفون المستقيمون فحاشا وکلاّ))(105) ولذلك أكمل الإمام (عليه السلام) قوله: ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِیرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ،))(106) قال تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» (الكهف 46).

ص: 100

التوكيد ب(قد):

من المعلوم أن (قد) إذا دخلت على الفعل الماضي تعين أنه للمضي، ولا يصح صرفه إلى الاستقبال، بخلاف (لم) فإنه يصح صرف ما بعدها إلى الاستقبال. (107) وقد حرف تحقيق وهو معنى التأكيد (108)، مختصة بالفعل المتصرف الخبري المُثبت المجرد مِنْ جازم وناصب وحرف تنفيس، وهي معه كالجزء، فلا تنفصل منه بشيء اللّهُمَّ إلاّ بالقسم (109).

لقد تعددت الآراء في (قد) وما تدخل عليه من الفعل الماضي (110) فهناك من يرى أنه لا بُدَّ أن يكون فيه معنى التوقع، ومنه قول المؤذن (قَدْ قَامَتِ الصَّلاة)؛ وإنَّما قيل ذلك لقوم ينتظرون الخبر ويتوقعون الفعل وهو قيام الصّلاة، والرأي الثاني: أنَّها لا تكون للتوقع مع الماضي؛ لأنَّ التوقع انتظار الوقوع في المستقبل، والماضي قد وقع فكيف يتوقع وقوع ما وقع. والرأي الثالث: أنَّها لا تفيد التوقع أصلا.

والص-واب أنها تفيد التوقع والتوكيد إذا كان الفعل الماضي فيه دلالة الاستقبال، كما في قوله تعالى على لسان هود (عليه السلام): «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ» (الأعراف 71)، أيْ: انتظروا الوقوع فإنَّه سيقع عليكم عذاب لا محالة. إذ دخلت (قد) على الفعل الماضي لتوكيد وقوع الفعل في المستقبل كونهم تجاوزوا على نبيهم وطلبوا منه العذاب فأكَّد الرسولُ وقوعَهُ جوابًا لطلبهم (111).

وورد في العهد دخول (قد) على الفعل الماضي (13) ثلاث عشرة مرة، ومرة واحدة على الفعل المضارع كما هو مثبت في الجدول الآتي:

ص: 101

الكلمة - الجملة

قَدْ - قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.

قدْ، قدْ - ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،

وَقَدِ - وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ.

قَدْ - وَكُلّاً قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ،

فَقَدْ - فَقَدْ قَالَ اللهُ سبحانه لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»،...

قَدْ - فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً، فَإِنَّ هذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِراً فِي أَيْدِي الأَشْرَارِ،

قَدِ - وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،

وَقَدْ - وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ،

وَقَدْ - وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) حِینَ وَجَّهَنِي إِلى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً».

وَقَدْ - وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ،

وَقَدْ - وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ،

قَدْ - وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ،

وَقَدْ - وَقَدْ كَانَ فِيَما عَهدَ إليَّ رَسُولُهُ فِي وَصَايَاهُ: «تَحضيضاً عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»،

ص: 102

إن ما ورد من نصوص في العهد من دخول (قد) على الفعل الماضي يفيد التأكيد والتوقع في الكلام، فعلى سبيل المثال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه عن الصلاة: ((وَإِذَا قُمْتَ فِي صلاَتِكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفّرِاً وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ. وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) حِینَ وَجَّهَنِي إِلى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: ((صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ

بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)).)) (112) وإقامة الصلاة أمر حاصل ومتوقع، ولكنه أراد أن يؤكد كيف تتم هذه الصلاة ولذا أكد كلامه ب(قد) في الماضي لتعطي بعدا وتماسكا يربط بين أجزاء الجملة، ولذا ختم كلامه مؤكدا استعماله (قد) أيضاً بقوله: ((وَقَدْ كَانَ فِيَما عَهدَ إليَّ رَسُولُهُ فِي وَصَايَاهُ: (تَضيضاً عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَا مَلَكَتْ

أَيْمَانُكُمْ)، فَبِذَلِكَ أَخْتِمُ لَكَ مَا عَهِدْتُ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَظِيمِ. ))(113)

التوكيد ب (ثمّ)

مما لا شك فيه: ((أن النص عبارة عن جمل أو متتاليات متعاقبة خطيا، ولكي تدرك كوحدة متماسكة تحتاج إلى عناصر رابطة متنوعة تصل بين أجزاء النص))(114) ولما كانت وسائل الربط في إطار الوصل متنوعة تفرع هذا المظهر إلى الإضافي ومنها (ثم) فإذا كانت وظيفة هذه الأنواع من الوصل متماثلة (ونقصد بالوظيفة هنا الربط بين المتواليات المشكلة للنص) فإن معانيها داخل النص مختلفة، فقد يعني الوصل تارة معلومات مضافة إلى معلومات سابقة أو معلومات مغايرة للسابقة أو معلومات (نتيجة) مترتبة عن السابقة (السبب)، إلى غير ذلك من المعاني. ولأن وظيفة الوصل هي تقوية الأسباب بين الجمل وجعل المتواليات مترابطة متماسكة فإنه لا محالة يعتبر علاقة اتساق أساسية في النص))(115)

ص: 103

الأداة - الجملة

ثُمَّ - ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،

ثُمَّ - ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ،

ثُمَّ - ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلَّا يُطْرُوكَ وَلا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ،

ثُمَّ - ثُمَّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ لا قِوَامَ لِهذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ،

ثُمَّ - ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ.

ثُمَّ - ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالأَحْسَابِ؛ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ،

ثُمَّ - ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ، وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ.

ثُمَّ - ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،

ثُمَّ - ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ أمرئ مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلا تَضُمَّنَّ بَلاَءَ أمرئ إِلَی غَيْرِهِ،

ثُمَّ - ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الأُمُورُ،

ثُمَّ - ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ،

ثُمَّ - ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً،

ثُمَّ - ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأَرْزَاقَ، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ.

ص: 104

ثُمَّ - ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ لا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ،

ثُمَّ - ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً

ثُمَّ - ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِم بِالإِعْذَارِ إِلَی اللهِ تَعَالَی يَوْمَ تَلْقَاهُ،

ثُمَّ - ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعيَّ، وَنَحِّ عَنْكَ الضِّيقَ وَالأَنَفَ،

ثُمَّ - ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا:

ثُمَّ - ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ [فِي مُعَامَلَة]،

استعمل الإمام (عليه السلام) أداة العطف (ثم) في العهد قرابة (24) أربع وعشرون مرة كما هي مثبتة في الجدول، وهو عدد كبير إذا ما قورن مع غيره من أدوات الربط الأخرى، لتكون رابطا بين الوحدات النصية، وعبر ملاحظة هذه الأداة يتبين لنا مدى انسجام الجمل بعضها ببعض عن طريق استعمالها، و (ثم) تمثل علامة للربط بين الجمل لتحقيق ترابط وتماسك في النص؛ فإذا ما نظرنا إلى الجملة الأولى التي وردت فيه؛ ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،))(116) فإننا سنجد أن الإمام (عليه السلام) استعمل الأداة (ثم) وهي تفيد التراخي بعد أمر مالك بجملة من الأوامر التي افتتح كتابه بها وكنا قد تطرقنا إليها (117) مما أسهمت (ثم) في إعطاء تتابعا وترتيبا واضحا لكسبه تماسكا وترابطا.

ص: 105

المبحث الثالث: التوكيد بنوني التوكيد

قال سيبويه (ت 180 ه) في باب النون الثقيلة والخفيفة: ((اعلم أنَّ كل شيء دخلته الخفيفة فقد تدخله الثقيلة. كما أن كلَّ شيء تدخله الثقيلة تدخله الخفيفة.

وزعم الخليل أنَّهما توكيد كما التي تكون فضلاً. فإذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكّد، وإذا جئت بالثقيلة فأنت أشدُّ توكيدا.)) (118)

ووردت نون التوكيد في نصوص كثيرة من العهد وأراد الإمام عبر استعمالها تأكيد كثير من الحقائق التي يجب أن يتحلى بها المسؤول عن الرعية، ومن جملة ما وقفنا عليه في العهد من استعمالات الإمام (عليه السلام) لنون التوكيد الثقيلة قوله:

((وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ، فَإِنَّهْ لاَ يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ، وَلا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ، وَلا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً، وَلا تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ،))(119)

((فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ،))(120)

((وَلا تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِيقِ سَاع،))(121)

((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلا جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الأُمُورِ، وَلا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ،))(122)

((فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ،))(123) ((وَلا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ؛))(124)

ص: 106

((وَلا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا.))(125)

((وَلا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَی بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ.))(126)

((وَلا تَضُمَّنَّ بَلاَءَ أمرئ إِلَی غَیْرِهِ، وَلا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ أمرئ إِلَی أَنْ تُعَظِّمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِیراً، وَلا ضَعَةُ أمرئ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ

مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ عَظيِماً.))(127)

((وَلا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ،))(128)

((وَإِذَا قُمْتَ فِي صلاَتِكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفّرِاً وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ.))(129)

((وَأَمَّا بَعْدَ هذا، فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ،))(130)

((وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلّهِ فِيهِ رِضاً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ،))(131)

((فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لا يجترئ عَلَى اللهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ.))(132)

((وَلا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ القَوْل بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَیْرِ الْحَقِّ،))(133) وأخيرا قوله: ((فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ،))(134)

ص: 107

الخاتمة:

1. بعد هذه الجولة في بحر من بحار العطاء وكتاب لا ينضب بالعلوم والمعرفة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر اتضحت لنا مجموعة من النتائج كان أبرزها علی النحو الآتي: التأكيد والتوكيد بمعنى واحد لا يخرج عن دلالته في تقوية الكلام وتثبيته في نفس المتلقي.

2. يعد العهد نصا ابداعيا لا يختلف أثنان في أن كاتبه في قمة الفصاحة والبلاغة.

3. رصد البحث مجموعة من أساليب التوكيد النحوية التي أدت إلى خلق ترابط وانسجام مما أدى إلى تماسك نحوي داخل النص (العهد العلوي).

4. استعمل الإمام علي (عليه السلام) ألفاظا كثيرة مكررة من باب التوكيد اللفظي متوزعة على مساحة العهد أدت إلى خلق تماسك وانسجام فيه.

5. استعمل الإمام علي (عليه السلام) في عهده مجموعة من الأدوات التي خرجت للتأكيد، واختلفت وظائف كل واحدة منها بحسب دلالتها النحوية.

6. بيّن البحث أن استعمال الإمام للأداة (إنّ) وملحقاتها كانت لها وظائف مختلفة منها لتوكيد النسبة، ونفي الشك عنها، أو لتوكيد مضمون الجملة، أو يؤتى بها لربط الكلام بعضه ببعض، فلا يحسن سقوطها، أو للتعليل وغيرها.

7. أحتل التوكيد بنون التوكيد الثقيلة مساحة واسعة من العهد حتى إنك لا تكاد تقع عينك على ورقة منه إلا وتجد فيها هذا الأسلوب واضحا بيّنا؛ وذلك لعظم ما أكدّ عليه الإمام (عليه السلام) في جملة كبيرة من نواهيه التي عرضها، مما أفاض على النص تماسكا بين أجزائه المختلفة.

ص: 108

هوامش البحث:

1. شرح نهج البلاغة الإمام كمال الدين البحراني/ المقدمة 1 / 14.

2. كتبت بحثا بعنوان ((الألفاظ الغريبة في نهج البلاغة عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر أنموذجا)).

3. لسان العرب: 3 / 466. وينظر: محيط المحيط 2 / 2281. الصحاح في اللغة والعلوم 2 / 711. ومختار الصحاح 759.

4. لسان العرب 3 / 74.

5. نهج البلاغة 443.

6. مصباح السالكين 4 / 182. وينظر: التوابع في نهج البلاغة 149. (رسالة ماجستير).

7. أساليب التأكيد في نهج البلاغة - دراسة دلالية - 1. (رسالة ماجستير). وينظر: التوابع في نهج البلاغة 149.

8. لسان العرب 3 / 466.

9. ينظر معاني النحو 4 / 131.

10. ينظر عل سبيل المثال: الكتاب 1 / 198و199و222و296.

11. اللمع في العربية 169.

12. المقرب 1 / 228.

13. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة 2 / 176.

14. المقرب 1 / 238 - 239. وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 2.

15. التعريفات ويرى الشريف الجرجاني: ((أنَّ تسميته ب(التأسيس) خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خيرٌ من حمله على الإعادة)) التعريفات 34.

16. التعريفات 34.

17. همع الهوامع 2 / 122.

18. الفوائد الضيائية 2 / 56. وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 2.

19. في النحو العربي نقد وتوجيه 234.

20. معاني النحو 4 / 509.

21. أسرار العربية 283.

22. نحو النّصّ والتحليل اللغوي 10، وينظر: ظاهرة الحذف ودورها في التماسك النصي دراسة

ص: 109

تطبيقية في سورة البقرة 81.

23. نحو أجرومية للنّصّ الشعري 154.

24. النّصّ والخطاب والإجراء 103.

25. ينظر: التماسك النصي في نهج البلاغة 50. (أطروحة الدكتوراه).

26. لسانيّات النص 13.

27. لسانيات النص: 13.

28. نهج البلاغة 426.

29. ينظر: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 17 / 30، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 8 / 474.

30. عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر: علي الأنصاري.

31. شرح الألفية لابن الناظم 210، همع الهوامع 2 / 125، شرح الإشموني 3 / 80. وينظر: معاني النحو 151.

.32. شرح الرضي على الكافية 1 / 365.

33. ينظر: لسانيّات النص 24.

34. النحو الوافي 4 / 136.

35. المعنى والإعراب عند النحويين ونظرية العامل 320.

36. النحو الوافي 4 / 142 - 143. وينظر: التوابع في نهج البلاغة 155.

37. نهج البلاغة 438.

38. التوابع في نهج البلاغة 156.

39. قد ورد لفظ الجلالة مكررا في ستة عشر موضعا، فتكون هي الأكثر ورودا في النهج في باب التوكيد. ينظر: التوابع في نهج البلاغة 158.

40. التوابع في نهج البلاغة 158.

41. كتاب سيبويه 1 / 56.

42. كتاب سيبويه 1 / 56.

43. ينظر: لسانيات النصّ 18.

44. نهج البلاغة 428.

45. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 17 / 34. وينظر: كتابنا: الألفاظ الغريبة في نهج البلاغة 93 - 94 (تحت الطبع).

ص: 110

46. بحار الأنوار 89 / 249.

47. نهج البلاغة 443.

48. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 17 / 111.

49. نهج البلاغة 444.

50. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة 81.

51. بنية الخطاب 112.

52. نهج البلاغة 426 - 427.

53. نهج البلاغة 427.

54. نهج البلاغة 427.

55. أسلوب التوكيد ودوره في التماسك النحوي 4. (رسالة ماجستير).

56. النحو الوافي 3 / 395. وينظر: أسلوب التوكيد ودوره في التاسك النحوي 5.

57. نهج البلاغة 426 - 427.

58. أسلوب التوكيد ودوره في التماسك النحوي 4.

59. نهج البلاغة 433.

60. شرح نهج البلاغة 17/ 54.

61. بهج الصباغة 8 / 535.

62. نهج البلاغة 435.

63. نهج البلاغة 436.

64. شرح الأشموني 3 / 73.

65. شرح ابن الناظم 206.

66. ينظر: معاني النحو 4 / 138.

67. ينظر: شرح جمل الزجاجي: ابن عصفور 1 / 266.

68. ينظر: شرح قطر الندى 326. التوابع في نهج البلاغة 176.

69. مغني اللبيب 1 / 193.

70. نهج البلاغة 428.

71. نهج البلاغة 429.

72. نهج البلاغة 445.

ص: 111

73. معاني النحو 4 / 142.

74. معاني النحو 4 / 143.

75. بدائع الفوائد 1 / 218.

76. ينظر: معاني النحو 142.

77. نهج البلاغة 439.

78. ينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 120.

79. نتائج الفكر 280.

80. ينظر: التماسك النصي في نهج البلاغة 21.

81. نهج البلاغة 438 - 439.

82. نهج البلاغة 438 - 439.

83. نهج البلاغة 439.

84. شرح نهج البلاغة 17 / 87.

85. وردت في العهد قرابة (40) أربعين مرة (فإنَّ) بالفاء، ووردت (وإنَّ) بالواو (5) خمس مرات، و(وأنَّ) مرة واحدة، و(إنَّ) مكسورة الهمزة، و(أن) (3) ثلاث مرات، و(إني) مرة واحدة، و(أنيِّ)، مرة واحدة، و(إنَّا) مرة واحدة.

86. اللباب في علل البناء والإعراب

87. نهج البلاغة 427.

88. نهج البلاغة 428.

89. نهج البلاغة 431.

90. نهج البلاغة 431.

91. نهج البلاغة 431.

92. نهج البلاغة 441.

93. نهج البلاغة 445.

94. شرح قطر الندى 204، وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 31.

95. مغني اللبيب 1 / 37 - 39.

96. معاني النحو 1 / 312.

97. معاني النحو 1 / 312.

ص: 112

98. نهج البلاغة 427.

99. نهج البلاغة 429.

100. مغني اللبيب 1 / 37، الجنى الداني 38.

101. ينظر: مغني اللبيب 1 / 308.

102. في النحو العربي نقد وتوجيه 238 - 239. وهناك من يرى أن (إنما) غير مركبة من (ما+إنَّ) بل هي ((اسم مبهم بمنزلة ضمير الشأن في التضخيم والإبهام، وإن الجملة بعده مفسرة له، ومخبر بها عنه)) منهم ابن درستويه وبعض الكوفيين وتابعهم من المحدثين الدكتور عبد الستار الجواري بقوله: ((والحق إنّ (ما) هذه شبيهة في معناها بما يعرف عند أهل العربية بضمير (الشأن)، أو ضمير (القصة) الذي يقف مستترا أحيانا، ويبرز أحيان أخرى، كما في قوله تعالى: «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى» (طه 74)، وقوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (الإخلاص 1)، هذا الأسلوب يراد به تهيئة من يتلقى الكلام فيهذي بال ومعنى ذي خطر فيكون ضمير الشأن،... هو الممهد والمهيء لإلقاء الحكم بحيث يتلقاه من يتلق الكلام بما يستحق من انتباه ومن عناية واهتمام)) نحو المعاني 134. وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 152.

103. الإيضاح 1 / 122.

104. نهج البلاغة 427.

105. بهج الصباغة 8 / 480.

106. نهج البلاغة 427.

107. ينظر: معاني النحو 4 / 11.

108. البرهان 2 / 417.

109. مغني اللبيب 1 / 227.

110. ينظر: سورة الأعراف دراسة لغوية 200.

111. ينظر: سورة الأعراف دراسة لغوية 200.

112. نهج البلاغة 440.

113. لم أجد هذا النص في نهج البلاغة في النسخة التي وثقت النصوص منها وهي للدكتور صبحي الصالح، ولكن هذا النص موجود في كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة.

114. لسانيات النص 23.

ص: 113

115. لسانیّات النص 24.

116. نهج البلاغة 427.

117. تنظر الصفحات السابقة 11 - 13 من هذا البحث.

118. الكتاب 1 / 296.

119. نهج البلاغة 428.

120. نهج البلاغة 429.

121. نهج البلاغة 430.

122. نهج البلاغة 430.

123. نهج البلاغة 430.

124. نهج البلاغة 430.

125. نهج البلاغة 431.

126. نهج البلاغة 433.

127. نهج البلاغة 434.

128. نهج البلاغة 436.

129. نهج البلاغة 440.

130. نهج البلاغة 441.

131. نهج البلاغة 442.

132. نهج البلاغة 442.

133. نهج البلاغة 443.

134. نهج البلاغة 443.

ص: 114

المصادر والمراجع

الكتب المطبوعة:

1. أسرار العربية: لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري (ت 577 ه)، تحقيق: محمد بهجة البيطار، مطبعة الترقي، بدمشق 1377 ه - 1957 م.

2. الإيضاح لمختصر تلخيص المفتاح جلال الدين أبو عبد الله محمد بن سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن القزويني (ت 739 ه)، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، مصر، (د.ت).

3. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان، 1404 ه.

4. بدائع الفوائد: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا - عادل عبد الحميد العدوي - أشرف أحمد الج، الطبعة الأولى، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة 1416 - 1996.

5. البرهان في علوم القرآن: تأليف: الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1391 ه - 1972 م.

6. بنية الخطاب: أحمد المتوكل.

7. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: الشيخ محمد التقي الشوشتري، الطبعة الأولى، دار أمير كبير / طهران، 1376 ه.

8. التعريفات: علي بن محمد الشريف الجرجاني (ت 816 ه)، دار الشؤون الثقافية العامة، طبع في مطابع دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد.

ص: 115

9. الجنى الداني في حروف المعاني: تأليف: الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه)، تحقيق: فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل، تحقيق: طه محسن، الطبعة الثانية، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، العراق، 1976 م.

10. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: سعيد حسن بحيري، مكتبة زهراء الشرق / القاهرة، د.ت

11. شرح الأشموني على ألفية ابن مالك: الأشموني (ت 929 ه)، دار إحياء الكتب العربية - مصر.

12. شرح ألفية ابن مالك: لابن الناظم (ت 686 ه)، المطبعة العلوية في النجف سنة 1342 ه.

13. شرح الرضي على الكافية: عثمان بن عمر ابن الحاجب (ت 646 ه)،(د، ت).

14. شرح قطر الندي وبل الصدى: ابن هشام الأنصاري (ت 761 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة التاسعة، 1377 ه - 1957 م.

15. شرح نهج البلاغة: للإمام كمال الدين بن ميثم البحراني (ت679 ه)، الطبعة الأولى، منشورات مؤسسة التاريخ العربي، مطبعة دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1992 م.

16. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن محمد المعتزلي (ت 656 ه)، بیروت، د.ت.

17. الصحاح في اللغة والعلوم: العلامة الجوهري والمصطلحات العلمية والفنية للجامعات العربية تقديم: العلامة الشيخ عبد الله العلايلي إعداد وتصنيف ندیم مرعشلي، دار الحضارة العربية - بيروت. و

ص: 116

18. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة: يحيى بن حمزة العلوي، مطبعة المقتطف / مصر 1332 ه - 1914 م.

19. ظاهرة الحذف ودورها في التماسك النّصّي «دراسة تطبيقية على سورة البقرة»: أ. د. إسلام محمد عبد السلام أستاذ النحو والصرف، المعهد العالي للدراسات النوعية / قسم اللغات والترجمة.

20. عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر: علي الأنصاري.

21. الفوائد الضيائية شرح کافية ابن الحاجب)، نور الدين عبد الرحمن الجامي (ت 798 ه): تحقيق: أسامة طه الرفاعي، مطبعة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بغداد، 1403 ه - 1983 م.

22. في النحو العربي نقد وتوجيه: د. مهدي المخزومي، منشورات المكتبة العصرية - بيروت، 1964 م.

23. الكتاب: سیبویه (ت 180 ه)، مصور على طبعة بولاق - نشر مكتبة المثنی - بغداد.

24. اللباب في علل البناء والإعراب: أبي البقاء العكبري (ت 616 ه)، تحقيق: غازي فکر مختار طليمات، الطبعة الأولى، دار الفكر / دمشق 1995.

25. لسان العرب: محمد بن مکرم بن منظور الأفريقي المصري (ت 711 ه)، الطبعة الأولى، دار صادر - بيروت.

26. لسانیات النصّ مدخل إلى انسجام الخطاب: محمد خطابي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، 1991 م.

27. اللمع في العربية: أبي الفتح ابن جني (ت 392 ه)، تحقيق: حسين محمد محمد

ص: 117

شرف، 1979.

28. محيط المحيط: بطرس البستاني، بيروت، 1867 م.

29. مختار الصحاح الشيخ الإمام محمد أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت 666 ه)، طبعة حديثة منقحة 1369 ه - 1950 م.

30. مصباح السالكين «شرح نهج البلاغة: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 769 ه)، عنى بتصحيحه عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بها من منشورات النصر (د.ت).

31. معاني النحو: الدكتور فاضل صالح السامرائي، الطبعة الأولى، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / عمان، 1420 ه - 2000 م.

32. المعنى والإعراب عند النحويين ونظرية العامل:

33. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لابن هشام الأنصاري (ت 761 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.

34. المقرّب: لابن عصفور (ت 669 ه)، تحقيق: أحمد عبد الستار الجواري وعبد الله الجبوري، مطبعة العاني - بغداد.

35. نتائج الفكر في النحو: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت 581 ه)، حققه وعلق عليه الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت / لبنان، 1412 ه - 1992 م.

36. نحو أجرومية للنّصّ الشعري «دراسة في قصيدة جاهلية»: د. سعد مصلوح، مجلة فصول، العدد 2، 1، يوليو 1991 م، أغسطس 1991 م.

ص: 118

37. نحو المعاني: د. أحمد عبد الستار الجواري، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد 1407 ه - 1987 م.

38. نحو النّصّ والتحليل اللغوي: د. أحمد عفيفي، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1999 م.

39. النحو الوافي: عباس حسن، الطبعة الثانية، دار المعارف - مصر.

40. النّصّ والخطاب والإجراء: روبرت دي بوجراند، ترجمة د. تمّام حسّان، الطبعة الأولى، عالم الكتب، 1418 ه - 1998 م.

41. نهج البلاغة: تعليق الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الثانية، مطبعة برستش، مؤسسة انتشارات أنوار الهدى، 1424ه.ق.

42. همع الهوامع شرح جمع الجوامع: لجلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة - مصر، 1327 ه.

الرسائل الجامعية:

1. أساليب التأكيد في نهج البلاغة - دراسة دلالية -: أصيل محمد، بإشراف الأستاذ الدكتور جواد كاظم عناد / رسالة ماجستير - جامعة القادسية.

2. أسلوب التوكيد ودوره في التماسك النصي سورة المؤمنون أنموذجا: سهام أولاد سالم، بإشراف الأستاذ عبد القادر بقادر، / رسالة ماستر في تخصص لسانيات النص، جامعة قاصدي مرباح ورقلة / الجزائر 2014 - 2015.

3. التماسك النصي (دراسة تطبيقية في نهج البلاغة): عيسى جواد فضل محمد الوداعي، بإشراف الأستاذ الدكتور نهاد الموسى / أطروحة دكتوراه كلية

ص: 119

الدراسات العليا / الجامعة الاردنية، 2005 م.

4. التوابع في نهج البلاغة دراسة نحوية دلالية: وداد حامد عطشان السلامي، بإشراف الأستاذ الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري / رسالة ماجستير - كلية الآداب / جامعة الكوفة، 1428 ه - 2007 م.

5. سورة الأعراف دراسة لغوية: محمد نوري جواد السوداني، بإشراف الأستاذ المساعد الدكتور محمد صنكور جبارة / رسالة ماجستير - كلية التربية / الجامعة المستنصرية، 1427 ه - 2006 م.

ص: 120

استراتيجية الخطاب الحجاجي في كتاب الإمام علي (عليه السلام) لمعاوية

اشارة

أ. م. د. لمى عبد القادر خنياب كلية الآداب / جامعة القادسية

ص: 121

ص: 122

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

ينطلق البحث من فرضية يتبناها الباحث ومفادها أنَّ لكل خطاب حجاجي استراتيجية تحكمه وتهيمن على مفاصله فتحدد مسارات الخطاب، وتتجلى عبر آليات الحجاج المنطقية، واللغوية فتجد أنَّ أدوات الحجاج في مجملها وظفت بعناية لخدمة هذه الاستراتيجية بوصفها مهيمنة على الخطاب بعامة.

وجرى تطبيق هذه الفرضية على كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمعاوية بن أبي سفيان، وينقسم كتابه (عليه السلام) على ثلاث وحدات موضوعية فكانت بمثابة عتبات للنص عند تحليله، اصطنع لها البحث عنوانات:

العتبة الأولى / (قطع صلة الخصم بالحجة)

العتبة الثانية / (مقام المتكلم وفضله)، (فضل آل محمد)

العتبة الثالثة / (قلب الحجج)

النص بعتباته الثلاثة المفترضة تهيمن عليه استراتيجية التهميش والتقليل من شأن المخاطب (معاوية بن أبي سفيان) وحطه عن مقام الند والنظير للمتكلم (أمير المؤمنين) (عليه السلام).

وقد عمد البحث لتوظيف آليات الحجاج للتحقق من فرضية البحث.

ص: 123

توطئة:

يتأسس الحجاج على فكرة الإقناع واستمالة أذهان السامعين فموضوع الحجاج «هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من طروحات أو أن تزيد من درجة ذلك التسليم»(1).

و ((الحجاج عملية اتصالية تعتمد الحجة المنطقية بالأساس وسيلة لإقناع الآخرين والتأثير فيهم))(2). إنَّ طبيعة المتلقي هي التي تحدد شكل الخطاب إن كان خطاباً حجاجياً أم إقناعياً فمتى ما سلَّم المتلقي بالمقدمات ((التي قدَّمها المتكلم فهو مقتنع من طرفه، ومتى ما ردَّها أو رفضها فهو محاجج، ويتمثل ردّ ورفض المتلقي في استخدمه [كذا] لحجج قد تعيق حجج المتكلم من بلوغ هدفه))(3).

ويتأسس النص الحجاجي على ستة مكونات: النتيجة (الدعوى)، والمقدمات، والتبرير، والدعامة، ومؤشر الحال، والتحفظات (4).

وبناء على متقدم يطرح البحث أسئلته:

• إذا كانت الغاية من الحجاج هي الإقناع فهل كان الإمام (عليه السلام) قاصداً إقناع معاوية حين ردَّ عليه؟

• هل تحققت القناعة عند معاوية بعد قراءته لكتاب أمير المؤمنين (عليه السلام)؟

والجواب عن السؤال الثاني: (لا) بدلیل استمرار معاوية في قتال أمير المؤمنين بل وقتال ابنه الحسن (عليه السلام) من بعده.

• إذن ما الذي دفع أمير المؤمنين إلى المحاججة؟

للإجابة على هذه الأسئلة أقول: لابدَّ من الإدراك أنَّ للنص طبقات من

ص: 124

المتلقين، ولكتاب أمير المؤمنين جملة متلقين: المتلقي الأول هو معاوية بن أبي سفيان وهو المخاطب المباشر لهذا الكتاب، إذ كان الباعث على كتابة أمير المؤمنين لهذا الكتاب هو الرد على كتاب سابق أرسله معاوية لأمير المؤمنين.

والمتلقي الثاني هم الناس بعامة سواء أكانوا من أنصار معاوية أم من أنصار أمير المؤمنين إذ كانت الكتب تقرأ في الأمصار على هيأة خطب(5)، وبناء عليه فإنَّ لكل طبقة منهم مرتبة من مراتب الحجاج تمارس عليه من قبل المتكلم، فمن كان منهم يسمع فيقنع فحجاجه إقناعي أما من يسمع ويحاجج وينكر فينتقل الحجاج معه إلى مرتبة الإفحام.

وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن الإمام (عليه السلام) لم يستهدف معاوية بالإقناع لأنَّه (عليه السلام) ذكر غير مرة بأنَّه لا يوجه خطابه لمعاوية، ومن قبيل ذلك قوله (عليه السلام): «ألا ترى - غير مخبر لكَ - ولكن بنعمة الله أحدث»(6). وقال أيضاً: «وهذه حُجتي إلى غيرك قصدها»(7).

إنَّ تعاليه (عليه السلام) عن محاججة معاوية يستهدف إسقاط معاوية من مرتبة الكفء والنظير في الحجاج؛ لذا يعلن الإمام أنَّه يوجه خطابه لغيره وليس له فهو ليس أهل للمناظرة والحجاج.

وعليه يكون الهدف من الحجاج إقناع الناس بزيف حجج معاوية وردِّها عليه، وهو إلى جانب الإقناع للمتلقين يحقق الكشف عن الحقيقة وإبطال زيف معاوية وإفحامه وإسكاته، وبهذا يكون الحجاج في كتاب أمير المؤمنين استهدف إقناع المتلقين الثواني (معسكر أمير المؤمنين ومعسكر معاوية) وإفحام المتلقي الأول (معاوية).

ص: 125

إستراتيجية الخطاب الحجاجي:

أزعم بأنَّ لكل خطاب حجاجي إستراتيجية تحكمه تتجلى عبر آليات الحجاج المنطقية، واللغوية فتجد أنَّ أدوات الحجاج في مجملها وظفت بعناية لخدمة هذه الإستراتيجية بوصفها مهيمنة على الخطاب بعامة.

وقد وضع أمير المؤمنين تهميش معاوية والاستخفاف بمقامه إستراتيجية لخطابه الحجاجي في هذا الكتاب، وقد تأتى له (عليه السلام) ذلك عبر جملة أمور:

أولاً / إشعار معاوية بأنَّ الخطاب غير موجه له، وهو غير مستهدف بهذه الحجج، في إشارة واضحة للاستخفاف بشخصه وزحزحته عن مرتبة النظير المحاجج. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في التوطئة.

ثانياً / إزاحة معاوية من مركزيته في كتابه الذي وجهه إلى أمير المؤمنين إلى الهامش في كتاب أمير المؤمنين عبر قطع علاقته وبت صلته - أعني معاوية - بالتهم التي كالها لأمير المؤمنين في كتابه، وسيأتي تفصيل هذا.

ثالثاً / قلب الحجج: استعمل الإمام (عليه السلام) حجج معاوية ذاتها في الرد عليه، فتحولت حجج معاوية الداعمة لموقفه حجج داعمة لموقف أمير المؤمنين، مما جعل معاوية موضع سخرية بالحط من فطنته، مما يعزز فكرة الضآله والهزال له في مقابل مقامه (عليه السلام).

العتبة الأولى: (قطع صلة الخصم بحجته):

يشتمل هذا الجزء من الخطاب على حجتين مختومتين بحكم، وهما:

ص: 126

الحجة الأولى:

افتتح معاوية كتابه بذکر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفضله فقال: ((أما بعد فإنَّ الله تعالى جدُّه اصطفى محمداً (عليه السلام) لرسالته، واختصّه بوحيه وتأدية شريعته، فأنقذ من العماية، وهدی به من الغَواية، ثم قَبَضه إليه رشيداً حميداً، قد بلَّغ الشَّرع، ومَحَقَ الشِّرك، وأخمدَ نار الإفْك، فأحسن الله جزاءَه، وضاعفَ عليه نعَمَه وآلاءه))(8).

فرد عليه (عليه السلام) بقوله: ((أما بعد فقد أتاني كِتابُكَ تذكُرُ فيه اصطفاءَ الله محمداً صلى الله عليه وآله لدينِهِ، وتأييدَهُ(9) إيَّاه بمن أيَّدَهُ من أصحابِهِ؛ فلقد خبَّأ(10) لنَا الدَّهرُ منكَ عَجَباً؛ إذ طفقتَ تُخبِرُنا ببلاءِ الله عندنا، ونعمه علينا في نبينا، فكنتَ في ذلك كناقل التمر إلى هَجَرَ، أو داعي مُسَدِّدِهِ إلى النضال))(11).

يبعث ردُّ الإمام (عليه السلام) لا شعورياً على الابتسام، إذ وضع معاوية موضع السخرية باستعماله حجة لا حجة له فيها بتركيزه (عليه السلام) على المفارقة في كلام معاوية، فاستعمل (عليه السلام) القياس المضمر في الرد عليه ويمكن تمثله على النحو الآتي:

• المقدمة الصغرى: (نحن آل محمد)

• المقدمة الكبرى: (نعمة الله على محمد واصطفائه إياه)

• النتيجة: إذن محمد (صلى الله عليه وآله) وآله أصحاب هذا الفضل.

النتيجة الضمنية: (سذاجة طرح معاوية بتعريف آل محمد بنعم الله على محمد وآله (صلى الله عليه وآله)).

ص: 127

التمثيل:

المثل هو: ((قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما للآخر ويصوره))(12) ولم يغب عن ذهن خطباء العربية ما للمثل من أثر إقناعي في نفس المتلقي إذ يقوم المثل مقام الدليل فيؤثر في نفس متلقيه مثل تأثير الدليل والحجة(13). ولم يفت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يوظف التمثيل كوسيلة للإقناع والافحام في آن واحد، إذ دعم (عليه السلام) حجته بحجة غير مصنوعة(14) وهي المثل العربي المتداول: (فكنتَ في ذلك كناقل التمر إلى هَجَرَ)، دعماً للنتيجة المبتغاة، بل دعمها بحجة أخرى مبتكرة (مصنوعة)(15) من قبله ارتكز فيها على التشبيه الذي حذفت منه أداة التشبيه للعلم بها فقال (عليه السلام): (داعي مُسَدِّدِهِ إلى النضال) والتقدير (كداعي) بدلالة العطف ب (أو).

وكان معاوية قد ساق كلامه هذا في فضل الرسول (صلى الله عليه وآله) ليكون قاعدة مشتركة متفق عليها مع متلقي الخطاب جميعاً ومنهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، في محاولة منه لاستدراج متلقي خطابه إلى الإذعان والتسليم، وقد وسمت هذه الاستراتيجية في الأدبيات الحجاجية الغربية ب(لعبة الولاء الكاذب)، إذ يقصد المجادل أن يقود خصمه إلى قبول الدليل المطروح فيأخذ فكرة الدليل من الخصم نفسه لتكون أعظم تأثيراً فيه(16)، قال ابن وهب: ((وحق الجدل أن تنبئ مقدماته بما يوافق الخصم عليه، وإن لم يكن نهاية الظهور للعقل، وليس هذا سبيل البحث؛ لأنَّ حق الباحث أن يبني مقدماته بما هو أظهر الأشياء في نفسه))(17) لكن ما يبعث على الدهشة أنَّه حتى المسلمات من الأمور لم تسلم لمعاوية في كتابه هذا، وإن لم تكن هي غايته وما يتلوها من الكلام هو جوهر حجته - الله درك يا سيدي يا أبا الحسن - فقد قطع عليه السبيل الموصل إلى الحجة.

ص: 128

الحجة الثانية:

قال معاوية: ((إنَّ الله سبحانه اختصَّ محمداً (عليه السلام) بأصحابٍ أيّدوه و آزروه ونصروه وكانوا كما قال الله سبحانه -: أشداء على الكفار رحماء بينهم - (18)، فكان أفضلهم مرتبة، وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة، الخليفة الأول الذي جمع الكلمة، ولمَّ الدعوة ، وقاتل أهلَ الرِّدّة، ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح، ومصَّر الأمصار، وأذلَّ رقاب المشركين، ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملَّة وطبّق الآفاق بالكلمة الحنيفية))(19).

يستمر أمير المؤمنين (عليه السلام) باستراتيجيته القائمة على تسفيه مزاعم معاوية، فيرد على كلامه المتقدم بقوله (عليه السلام): ((وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمراً إنْ تمَّ اعتزلكَ كُلُّهُ، وإنْ نَقَص لم يلحقكَ ثَلْمُهُ. وما أنتَ والفاضلَ والمفضولَ والسائسَ والمسوسَ! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها مَن عليهِ الحكم لها!))(20).

تراه (عليه السلام) لم يناقش مدى صحة كلام معاوية وصواب حجته - وهذا ما كان معاوية ينوي استدراج الإمام إليه - إذ ظنَّ معاوية أنَّ الإمام (عليه السلام) سيفاضل بينه (عليه السلام) وبين الصحابة ويُظهر سبقه عليهم، ولمَّا كان لهذه المفاضلة مَن هو مؤيد أو معارض، فإن معاوية يحاول ضم المعارضين لهذه المفاضلة إلى صفه وإن كانوا هم أنفسهم غير راضين عن معاوية وأفعاله وسيرته، فيتخذ معاوية من تقديم الإمام نفسه على الشيخين حجة ضده (عليه السلام)، لكنَّه سرعان ما أدرك فخاخ معاوية وفوَّت عليه ذلك، فصوَّب حجته لمعاوية نفسه فجرَّده من برهانه وأخرجه خارج دائرة حجنه (فذكرت أمراً إنْ تمَّ اعتزلكَ

ص: 129

كُلُّهُ، وإنْ نَقَص لم يلحقكَ ثَلْمُهُ) بلحاظ التشكيل الأسلوبي للحجة المرتكزة على التوازي التركيبي بين (إنْ تمَّ اعتزلكَ كُلُّهُ، وإنْ نَقَص لم يلحقكَ ثَلْمُهُ) وما ينطوي عليه من مفارقة ضمنها التقابل الدلالي بين (تم - نقص، وكله - ثلمه) الذي أفضى إلى تناغم إيقاعي يؤثر في استمالة متلقيه للجمالية التي أكسبها هذا الايقاع للنص.

ثم أردف (عليه السلام) مستفهماً باستفهام حجاجي(21)، خارج مخرج التعجب المشوب بالسخرية: (وما أنتَ والفاضلَ والمفضولَ والسائسَ والمسوسَ!) وأعقبه باستفهام آخر يحمل الغرض نفسه: (وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين... !).

ثم عزز حجته بشاهد من كلام العرب؛ وذلك لأن الشواهد المأثورة بمثابة برهان جاهز قد ألفه الناس وتسلموا على صوابه: (لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها).

أفضت هذه الحجة إلى تجريد معاوية من استدلالاته جمعاء بل غدا صغير الشأن ضئيل المقام؛ وليُحكم (عليه السلام) طوق التحجيم حوَّل خطابه من التعجب المشوب بسخرية إلى التوبيخ والتقريع، إذ قال (عليه السلام):

((ألا تربع أيَّها الإنسان على ظَلَعِكَ (22)، وتعرف قصور ذرْعِكَ، وتتأخر حيث أخَّرَك القَدرُ؟ فما عليك غلبةُ المغلوب ولا ظفرُ الظافرِ! وإنَّكَ لذهَّاب في التيه، روَّاغٌ في القصد))(23).

في هذا المقطع من كلام أمير المؤمنين تحددت المواقع (وتتأخر حيث أخَّرَك القَدرُ) وكشفت هوية معاوية بجلاء (وإنَّكَ لذهَّاب في التيه، روَّاغٌ في القصد) وكأنَّ هذه العبارة لب القول، إذ تخير لها (عليه السلام) عناصر لغوية تخدم دلالتها فانتخب لوصف معاوية صيغة المبالغة (فعَّال) في (ذهَّاب، وروَّاغ) لیسبغ

ص: 130

دلالة التكثير والمبالغة على الوصف، فضلاً عن تأکید العبارة بمؤكدين: (إنَّ، واللام)، فتختتم هذه الحجة بهذا الحكم.

العتبة الثاني / وعنوانها (فضل آل محمد):

بعد أن أصدر الإمام حكمه بمعاوية التفت إلى بيان فضل آل محمد على سائر المسلمين بقوله: ((ألا ترى - غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أُحدث - أنَّ قوماً استُشْهدوا في سبيل الله تعالى مِن المهاجرين والأنْصارِ، ولكلٍّ فضلٌ، حتى إذا استُشهد شهیدُنا قيل: سيّد الشهداء، وخصَّه رسول الله - صلى الله عليه وآله - بسبعين تكبيرةً عند صلاتِهِ عليه! أولا ترى أنَّ قوماً قُطعتْ أيدِيهِم في سبيل الله - ولكلٍّ فضلٌ - حتى إذا فُعل بواحدنا ما فُعِل بواحدهم، قيل: الطيار في الجنة وذو الجناحين... لم يمنعنا قدیم عزِّنا، ولا عادي طولِنا على قومكَ أن خالطناکم بأنفسِنا؛ فنکحنا وأنكحنا فِعلَ الأكفاء، ولستم هناك! وأنَّی يكون ذلك ومِنَّا النبي ومنكم المكذب، ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف، ومنا سيدا شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار، ومنَّا خير نساء العالمين ومنكم حمّالة الحطب، في كثيرٍ مما لنا وعلیکم! فإسلامنا قد سُمع، وجاهليتُنا لا تُدفع، وكتاب الله يجمع لنا ما شذَّ عنَّا، وهو قوله سبحانه: «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» (24) وقوله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (25) فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة))(26).

يفتتح (عليه السلام) هذا المقطع بقوله: (ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أُحدث) مؤكداً هامشية معاوية، إذ يأنف (عليه السلام) من توجيه الخطاب له، وكأنَّ الخطاب تحول إلى إقناع المتلقي الثاني وهم الناس جميعاً سواء كانوا من أنصار أمير المؤمنين أم من أنصار معاوية نفسه، يأخذ (عليه السلام) بالكشف عن

ص: 131

فضائل آل محمد بعد أن أحكم تهميش معاوية، ولمّا كان (عليه السلام) رأس بني عبد المطلب في زمانه مما يضمن له (عليه السلام) المركزية في الخطاب فهو بؤرة الفضل، في مقابل موقعية معاوية الهامشية.

وتكسب المفارقة في الموازنة التي عقدها أمير المؤمنين بين آل محمد وبني أمية النص جمالاً وعمقاً لتكون أُساً للاقناع بتوظيف المتوازيات التركيبية:

• مِنَّا النبي، ومنكم المكذب

• منا أسد الله، ومنكم أسد الأحلاف

• منا سيدا شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار

• منَّا خير نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب.

ولا يفوته (عليه السلام) تعزيز كلامه بشواهد قرآنية بوصفها أدلة قاطعة لتدعيم صحة ما ذهب إليه، فيكون بذلك ألقى الحجة على خصمه وألزمه الصمت إزاء ما ذكر. ثم ختم (عليه السلام) حججه بأسلوب التوازي التركيبي (فنحن مرة أولى بالقرابة / وتارة أولى بالطاعة) القائم على بنية المماثلة بين (مرة / تارة، القرابة / الطاعة) فضلاً عن تكرار (أولى)، مما يكسب النص نغمة مستحبة يستسيغها المتلقي.

العتبة الثالثة / (قلب الحجج):

يستمر أمير المؤمنين بسياسة بت الصلة بين معاوية وما يرصده من مآخذ على أمير المؤمنين فيتعالى (عليه السلام) على مناقشة فحوى الحجة ومن قبيل ذلك ردّه (عليه السلام) على قول معاوية:

((لقد حسدتَ أبا بكر والتَويتَ عليه، ورُمتَ إفسادَ أمره، وقعدت في

ص: 132

بيتك، واستغويتَ عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته، ثم كرهتَ خلافة عمر وحَسَدته واستطلت مدته، وسررتَ بقتله، وأظهرت الشماتة بمصابه، حتى حاولت قتلَ ولدِه لأنه قتل قاتل أبيه، ثم لم تكن أشدَّ منك حسداً على ابن عمك عثمان، نشرت مقابحه، وطويت محاسنه...))(27).

ويجمل الإمام (عليه السلام) الرد على تهمة الحسد هذه بقوله:

((وزعمت أني لكلّ الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت: فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.

٭ وتلك شكاة ظاهر عنك عارها(28) ٭))(29).

إنَّ قطع صله معاوية بالتهمة التي ألصقها بأمير المؤمنين حجة تمعن في تسفيه موقفه أمام أصحابه ومريديه. وقد استعمل الإمام لسبك حجته بناء أسلوبياً قائماً على المفارقة الناتجة من التوازي في قوله: (فليس الجناية عليك / فيكون العذر إليك) باستثمار المتقابلات: (الجناية - العذر، وإليك - عليك) وما فيهما من أثر في جمالية الإيقاع المؤثر، ولا يعزب عن بالنا أثر المفارقة في تعزيز إستراتيجية الاستخفاف والسخرية من موقعية معاوية في الخطاب.

ثم يتحول الإمام (عليه السلام) في هذا الجزء من الكتاب إلى ردِّ التهم التي كالها عليه معاوية، لكنَّه (عليه السلام) لا ينكرها أو يبررها بل يعتمد إستراتيجية قلب الحجة على صاحبها، إذ يتحول برهان الخصم إلى حجة عليه، وهذا الأسلوب في الحجاج لا يفارق الإستراتيجية العامة التي اتبعها الإمام في التحاجج مع معاوية وأعني سياسة التهميش وتسفيه الرؤى والأقوال، كرده على قول معاوية:

((وما من هؤلاء إلا مَنْ بغيت عليه، وتلكأت في بَيعته، حتى حُملت إليه قهراً، تساق بخزائم الأقسار كما يُساق الفحل المخشوش))(30).

ص: 133

بقوله (عليه السلام):

((وقلت: إني كنت أقاد کما يقاد الجمل المخشوش (31) حتى أبايع، ولعمر الله، لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها))(32).

فتراه (عليه السلام) يقلب حجة معاوية لصالحه (عليه السلام) فتكون له وليست عليه، فضلاً عن الاستخفاف بفکر معاوية بقوله (عليه السلام): (ولعمر الله، لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت) فأثبت (عليه السلام) أنَّ معاوية لا يحسن التفكير والقول فعادت سهامه إلى نحره، يتناغم هذا مع البناء الفني لهذه الحجة بتوظيف التقابل الدلالي المفضي إلى مفارقة مدهشة في قالب متوازٍ إيقاعياً وترکیبیاً:

(أردت أن تذمّ فمدحت / وأن تفضح فافتضحت)، ومثله جاء بناء قوله: (لم یکن شاكاً في دينه / ولا مرتاباً بيقينه) غير أنَّه تأسس على بنية المماثلة؛ وقد تكرر غير مرة أنَّ بنية التوازي التركيبي الإيقاعي حين يكون مقتضاها متعلق بمعاوية تجدها مؤسسة على التقابل الدلالي المفضي إلى المفارقة، على حين يتمحور التوازي على بنية الماثلة حين يكون فحوى الكلام متعلق بأمير المؤمنين أو آل بيت النبي (صلى الله عيه وآله وسلم)، وهذا يدعم مذهبنا في تطويع المفارقة لخدمة خطاب الاستخفاف والتهميش الذي انتهجه أمير المؤمنين تجاه معاوية في هذا الكتاب.

ولا يغادر (عليه السلام) هذه الحجة حتى يؤكد تعالیه (عليه السلام) على خطاب معاوية: (وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها) استجابة للإستراتيجية المهيمنة على الخطاب.

ص: 134

والحجة الوحيدة التي صرّح (عليه السلام) بأنّها موجهة لمعاوية: (ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان: ولك أن تجاب عن هذه لرحمه منك).

أعتمد فيها (عليه السلام) سياسة قلب الحجة بقوله:

((فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقالته؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه؟ أم مَن استنصره فتراخي عنه وبثّ المنون إليه، حتی أتی قدره عليه؟

كلّا والله ل «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» (33)، وما كنت أعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فرُبَّ ملوم لا ذنب له.

٭ وقد يستفيد الظنّة المتنصّحُ (34) ٭

«وما أردت إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ٭ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (35)) (36).

وهنا وظَّف (عليه السلام) في كلامه المفارقة التركيبية منتخباً لها الاستفهام الحجاجي الخارج مخرج التعجب قالباً ترکيبياً، التي يمكن ترسيمها على النحو الآتي:

فأينا كان أعدي له...؟

أمن بذل له نصرته فأستقعده واستكفّه

أم من استنصره فتراخی عنه وبثّ المنون إليه.

ص: 135

داعماً حجته بالدليل القرآني الذي ينطبق على حال معاوية مع عثمان، فيقلب (عليه السلام) السحر على الساحر، ثم يكشف (عليه السلام) عن حقيقة موقفه مع عثمان مسلطاً الضوء على الثنائية الضدية:

• (الملوم لا يساوي المذنب) في قوله: (فربّ ملوم لا ذنب له)

• (الناصح لا يساوي المتهم) في قول الشاعر: (وقد يستفيد الظنّة المتنصّح).

ويختتم معاوية كتابه بتهديد يوجهه للإمام وأصحابه:

((وليس لك ولأصحابك عندي إلا السيف. والذي لا إله إلا هو لأطلُبنّ قتلة عثمان أين كانوا... ))(37).

وقد ردَّ (عليه السلام) على هذا التهديد باستخفافه المعهود بكلام معاوية:

((وذكرت أنه ليس لي عندك ولأصحابي إلا السيف: فلقد أضحكت بعد استعبار: متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوّفين!))(38).

مرتكزاً فيه على أمرين: الأول هو التصريح بالسخرية من تهديد معاوية: (فلقد أضحكت بعد استعبار)، والثاني انتخاب الاستفهام الخارج لمعنى التعجب: (متى ألفيت بنو عبد المطلب...) وتحديداً الاستفهام ب(متى) الدالة على الزمان التي تتواشج مع قوله لاحقاً: (وسيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك) في إحالة واضحة على أيام بني عبد المطلب على بني أمية ولاسيما ببدر، ولا يفوتنا الثنائية التركيبية: (عن الأعداء ناكلين / وبالسيوف مخوّفين) فتجد بنية التوازي ترتكز على التماثل الدلالي بين (ناكلين(39) / مخوفين)، وقد تقدم القول: إنَّ التوازي ينعقد في الغالب على المماثلة حين يتعلق الأمر به (عليه السلام) أو بآل البيت، فتكون العبارة الثانية بمثابة التوكيد للعبارة الأولى.

ص: 136

قطاف البحث:

للبحث قطاف أضعها بين يدي القارئ منها:

• ينتمي كتاب أمير المؤمنين عليه السلام بوصفه خطاباً إلى حقل الخطابات السياسية، والخطاب السياسي أیَّما کان فضاؤه فلا بدَّ له من متلقٍ مؤيد وآخر معارض، لكن الجديد في هذا الخطاب هو وجود متلقٍ أول (معاوية) ومتلقٍ ثانٍ (أنصار أمير المؤمنين وأنصار معاوية والناس جميعاً)، ولما كان المتلقي الأول معاند لم يقتنع من قبل ولن يقنع فقد كان أمام خطاب أمير المؤمنين مهمتين: الأولى ردّ حجج المتلقي الأول وافحامه، وتحقيق الإقناع للمتلقي الثاني.

• ينطلق البحث من فرضية مفادها أنَّ لكل خطاب حجاجي استراتيجية تحكم النص وتوجه آلياته الحجاجية: لغوية كانت أم منطقية، وهكذا كان هذا الخطاب، إذ كانت استراتيجية الاستخفاف والتهميش هي الاستراتيجية المهيمنة على مفاصله فاستجابت لها عناصر النص بوضوح.

• يغلب على الحجاج في هذا الخطاب الابتداء بالمقدمات ثم الدعوى (النتيجة) سواء كانت النتيجة ضمنية أم صريحة ثم يدعم حجته بالأدلة، وهذا هو الشكل الذي يتسم بالمنطقية وهو أس الحركة الحجاجية المتنامية في الخطاب ، وهو الشكل الذي يغلب على الخطابة العربية عموماً.

• یهیمن على خطابه عليه السلام تبني دعوى مركزية واحدة تمثلت بافتضاح أكاذيب خصمه، وإن كانت هناك دعاوی ثانوية إلا أنها في جوهرها جزء من الدعوى الأم.

• أزعم أنَّ الإمام في خطابه هذا ركز على رصد النكت في كلام خصمه فبنی

ص: 137

مقدماته عليها، ولا يُعني كثيراً بكلامه كله، ومن قبيل ذلك:

1 - ذکر معاوية فضل الله على الرسول الكريم (صلى الله علیه وآله وسلم).

2 - المفاضلة بين الصحابة السابقين في الإسلام.

3 - مظلومية الصحابي عثمان بن عفان.

• بعد انتخاب الحجج التي اطلقها الخصم عمد أمير المؤمنين إلى ردِّها على وفق استراتيجيته (الاستخفاف) لکنَّه نوَّع بطريقة توظيفها فكانت على النحو الآتي:

1 - قطع صلة الخصم بحجته: وقد وظفها (عليه السلام) في ردِّ الحجتين (1، 2) من النقطة السابقة.

2 - قلب الحجة: عمد (عليه السلام) إلى توظيف حجج خصمه عليه کحجج داعمة لموقفه من خلال قلب هذه الحجة على منتجها (معاوية) کما جرى مع الحجة (3) في النقطة السابقة.

• يحرص عليه السلام على تدعيم حججه بآيات من القرآن الكريم أو الشعر العربي والحكم والأمثال المأثورة، لما لها من أثر في إقناع وإفحام متلقيه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

هوامش البحث:

1. أهم نظريات الحجاج: 300

2. النص والخطاب والاتصال: 149

3. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته: 275، عباس حشاني (مجلة المخبر، ع 9، لسنة 2013)

4. ينظر النص والخطاب والاتصال: 148

5. ينظر شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 15 / 113

ص: 138

6. نهج البلاغة: 468

7. نفسه: 470

8. شرح نهج البلاغة: 15 / 116

9. ورد بشرح محمد عبده (تأييدَهِ) والصواب ما أُثبت في المتن.

10. ورد عند ابن أبي الحديد (خَبَأ) بتخفيف الباء والصواب ما أثبت من شرح محمد عبده.

11. نهج البلاغة: 467

12. مفردات في غريب القرآن: 700

13. ينظر الجدل في القرآن، (الرازي): 232 - 233

14. الحجة غير المصنوعة: والمقصود بها تلك الحجة التي لم نبتكرها نن بل هي موجودة قبلاً كالشهود والصكوك والحوادث، ومنها ما شاع في الخطبة العربية من تضمين الخطب آيات قرآنية أو حكم وأمثال مأثورة عن السلف، فضلاً عن الشعر العربي، وتكتسب هذه الحجج قوتها التأثيرية من مصدرها ومصادقة الناس عليها. (ينظر بلاغة الخطاب الإقناعي: 24، 90).

15. الحجة المصنوعة: ويراد بها كل ما يمكن إيجاده من لدن المتكلم من أدلة ينسجها بفطنته وذكائه واجتهاده. (ينظر في بلاغة الخطاب الإقناعي، محمد العمري: 24)

16. ينظر النص والخطاب والاتصال: 154

17. البرهان في وجوه البيان: 179

18. الفتح: 29

19. شرح نهج البلاغة: 15 / 116

20. نهج البلاغة: 467 - 468

21. الاستفهام الحقيقي هو أن يوافق لفظه معناه، وهو طلب الفهم وانتظار الإجابة من المخاطب، على حين في الاستفهام الحجاجي يسأل المتكلم عمَّا يعرفه ويفهمه وقد أطلق عليه البلاغيون العرب مصطلح (الاستفهام المجازي) ويريدون به خروج الاستفهام عن معناه الحقيقي (طلب الفهم) إلى معان مجازية كالتعجب والإنكار وغيرها. (لمزيد من التفصيلات ينظر في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 38، وآفاق جديدة في البحث النحوي المعاصر: 79).

22. وردت عند ابن أبي الحديد (ظَلْعك) بسكون اللام، ينظر شرح نهج البلاغة: 15 / 113

23. نهج البلاغة: 468

24. الأنفال: 75

ص: 139

20. آل عمران: 68

26. نهج البلاغة: 468 - 469

27. شرح نهج البلاغة: 15 / 117

28. البيت لأبي ذؤيب الهذلي وتمامه:

وعَيَّرها الواشونَ أنّي أُحبُّها ٭ وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عَارُهَا

ديوان أبي ذويب: 64

29. نهج البلاغة: 470

30. شرح نهج البلاغة: 10 / 117

31. والخِشاش هو ادخال خشبة في عظم أنف البعير لينقاد وخششت البعير فهو مخشوش. ينظر لسان العرب: (خشش): 6 / 296

32. نهج البلاغة: 470

33. الأحزاب: 18

34. البيت في جمهرة الأمثال منسوب لعمارة بن عقیل: 2 / 161، وفي التذكرة الحمدونية منسوب للأقرع الآبي: 7 / 101، وتمامه:

وكم سُقتُ في آثاركُم من نصيحةٍ ٭ وقد يستفيدُ الظِّنَّةَ المتنصحُ

35. هود: 88

36. نهج البلاغة: 471

37. شرح نهج البلاغة: 15 / 117

38. نهج البلاغة: 471

39. الناكل: الجبان الضعيف، ينظر لسان العرب: (نکل) 11 / 678.

ص: 140

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، د. محمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجامعية، 2002 م.

2. أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، فريق البحث في البلاغة والحجاج، اشراف حمادي صمود، من مطبوعات كلية الآداب بمنوبة / جامعة الآداب والفنون والعلوم الانسانية، تونس (1).

3. البرهان في وجوه البيان، تأليف أبي الحسن اسحق بن ابراهيم بن سلیمان بن وهب الكاتب، تحقیق وتقديم الدكتور محمد حفني شرف، مكتبة الشباب، مطبعة الرسالة، مصر.

4. التذكرة الحمدونية، تأليف محمد بن الحسن بن محمد بن علي الشهير بابن حمدون، تحقيق إحسان عباس، وبکر عباس، دار صادر للطباعة والنشر، بیروت، لبنان ، ط 1 / 1996 م.

5. جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (400 ه) حققه وعلَّق عليه محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد المجيد قطامش، دار الجيل، ودار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2/ 1988 م.

6. ديوان أبي ذؤيب الهذلي، تحقیق وتخريج الدكتور أحمد خليل الشال، مرکز الدراسات والبحوث الإسلامية، بور سعيد، مصر، ط 1، 2014 م.

7. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقیق: محمد إبراهيم، دار الكتاب العربي، بغداد، ط 1، 2007 م.

8. في بلاغة الخطاب الإقناعي، مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية

ص: 141

، الخطابة في القرن الأول انموذجاً، تأليف الدكتور محمد العمري، افريقيا الشرق، بیروت، لبنان، ط 2 / 2002 م.

9. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات، الدكتور عبد الله صولة، مسکیلیاني للنشر والتوزيع، تونس، ط 1 / 2011 م.

10. لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين بن منظور (711 ه)، دار صادر، لبنان.

11. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته، الاستاذ عباس حشاني، مجلة المخبر، أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، جامعة بسكرة، الجزائر، العدد (9) السنة 2013 م.

12. المفردات غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الاصفهاني (502 ه) مكتبة نزار مصطفى الباز، د. ت.

13. النص والخطاب والاتصال، الاستاذ الدكتور محمد العبد، الاكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، 2014 م.

14. نهج البلاغة الجامع لخطب ورسائل وحكم أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام شرح محمد عبده، أشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل، منشورات مكتبة التحرير، د. ت.

15. نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام، تحقيق الشيخ فارس حسون.

ص: 142

اعتماد كلام الامام علي (عليه السلام)

في المناهج التعليمية

وأثره في بناء الشخصية الإسلامية

الدكتور نجم الفحّام

مستشار المحكمة الدولية لتسوية المنازعات

قاض في المحكمة

ص: 143

ص: 144

المقدمة:

إنّ الحديث عن عليّ عليه السلام وكلامه إنما هو حديث عن أهمّيّة معرفة دين الله عزّ وجلّ، ومن ثمّ معرفة الإسلام الحقيقي الذي يريده الله تعالى من هذه الأمّة. وقبل الحديث؛ لنا أنْ نتساءل: لماذا الإمام عليّ؟.

نحاول أنْ نتّخذ من الآية المباركة «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» أنموذجا لعرض هاتين الحقيقتين اللتين نحن بصددهما.

فالقرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة وهو کتاب کریم لا يمسّه إلا المطّهرون، والقرآن هو الذي يحتم علينا أنْ نعتمد كلام عليّ ع ليس في المناهج التعليمية وبناء الشخصية الإسلامية في هذا المحور (اللغوي والأدبي) من هذا المؤتمر المبارك حسب، وإنّما في كلّ محور عقديّ أو فقهيّ أو قانونيّ أو سياسيّ أو إداريّ أو اقتصاديّ أو اجتماعيّ أو نفسيّ أو تربويّ أو أخلاقيّ، أيّ محور يُراد له أنْ يسهم في بناء الإنسان وتجلّي الإنسانيّة فيه، وتحفيزه على ممارسة دوره في عمارة الدنيا وما فيها وجني ثمار عمارتها في الآخرة وعدم الوقوع في الزيغ هذا أولا.

ويحتمه علينا ثانيا: الذي لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلّا وحي يوحی رسول الإنسانية الصّادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلّم الذي جعله وصيّه وواعي علمه وخليفته على أمّته وعلى تفسير كتاب الله عزّ وجلّ والداعي إليه والعامل بما يرضاه. کما سيتّضح لنا ذلك في أثناء البحث.

ص: 145

وثالثا: يحتمه علينا الواقع العملي والسّلوكي لأئمّة آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ لم يسجّل لنا هذا الواقع يوماً أنّهم سُألوا عن شيءٍ ولم يُجيبوا، ولم يُسجّل عليهم خطأ في إجابةٍ قالوها؛ لأنّهم الرّاسخون في العلم، وعليٌّ أوّلهم وأفضلهم وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم کما سيتضح لنا ذلك من خلال خطبه وكلماته. فنحن اليوم کمن كان قبلنا في مسيس الحاجة إلى كلام عليّ وحتّى من لم يزل في أصلاب الرّجال، وليس هذا بكثير علي عليّ عليه السلام وهو وارث علم النّبيين صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كان عيسى (عليه السلام) كلمة الله التي ألقاها إلى مريم عليها السلام فعليّ عليه السلام أصدق مصداقٍ لكلمات الله عزّ وجلّ، ولو كان البحر مداداً لكلمات ربّ العزّة لنفد البحر وما نفدت كلماته، فسلام عليك أبا الحسن يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّا.

ص: 146

المبحث الأوّل: ما يحتمه القرآن العظيم في الإمام عليّ (عليه السلام)

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (1).

يكاد يجمع العلماء والمفسّرون على أنّ الآية المباركة تتحدّث عن بيان المحكم والمتشابه وكيّفية إيضاح وتفسير المتشابه وذلك بإرجاع المتشابه إلى المحكم وأنّ هذا المحكم هو الأصل الذي يعتمد عليه(2).

والباحث لا يريد أنْ يتحدّث هنا عن الأقوال والآراء التي أوردها العلماء والمفسّرون حول المحكم والمتشابه - فقد تناولنا ذلك في كتابنا المرسوم التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم(3) - بقدر ما نُريد أنْ تنتهي إلى أنّ ما توصّل إليه العلماء من اختلاف شديدٍ حول إمكانيّة الاطلاع على المتشابه؛ لاختلافهم في إدراك المراد من قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» إذ لم يختلفوا في المتشابه حسب وإنّما اختلفوا في المحكم كذلك إذ وصل الأمر ببعضهم إلى القول بالشّيء ونقيضه، ويستفاد هنا أنّ هذه الآية لم تبيّن المحكم والمتشابه وإنّما أشارت في بعض ما أشارت إليه كون الكتاب المنزل على نبيّنا المرسل صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه

ص: 147

آیات محکمات وأُخرُ متشابهات، ولكنّها بیّنت من هم الذين يستطيعون أنْ يعرفوا المحكم والمتشابه، وذلك من خلال تأويل كل من المحكم والمتشابه، لا تأويل المتشابه حسب وردّه إلى المحكم، فقد أثبت الواقع بالدليل القاطع أنّ ما سلکه العلماء في ردّ المتشابه إلى المحكم ثبت أنّ هذه الطريقة أو هذا الأسلوب في تناول كثير من آيات الكتاب العزيز لم يثمر إلاّ خلافاً واختلافاً وغموضاً في فهم النّصّ القرآني أكثر من المتشابهات نفسها.

وهذا يؤكّد كون العلماء يختلفون في مدى الفهم ودقّته عند تناولهم للمحكم نفسه، ويؤكّد عدم معرفة العلماء لكل المتشابه. مثلما هي الحال عند من يرى أنّ المحكمات فواتح السّور المستخرج منها السور، وقيل المتشابه فواتح السّور، بعكس الأوّل(4).

وإذا اختلف العلماء في المحكم فإلى ماذا يُرجع بالمتشابه، وهنا يأتي دور الراسخين في العلم، إذ لابُدّ من معرفة مراد الله عزّ وجلّ على نحو القطع واليقين، ولابُدّ أنْ يكون هؤلاء الراسخون في العلم الذين ذكرتهم هذه الآية عارفين بالمحكم والمتشابه، خصوصاً بعد ما ذُكر من الأقوال والآراء الكثيرة التي وصلت في معرفة المحكم والمتشابه حدَّ التناقض.

وهنا يحقُّ لنا أنْ نسأل: لماذا الإمام علي عليه السلام؟. أو نقول لماذا الامام عليّ عليه السلام، ولا نقول لماذا عليٌّ من غير اقترانه بكلمة الإمام التي لم تأخذ حقّها وهيبتها وكرامتها إلاّ عند عليّ صلواتُ ربّي وسلامه عليه. وهذا هو بيت القصيد. فقد عرفنا آنفاً من خلال البحث أنّ العلماء إنّما رجعوا إلى المحكم لأنّه يُعدُّ أصلاً عندهم، والأصل يُرجع إليه، ولهذا المعنى عينه سُمّي الامام أمير المؤمنين بالإمام، ولم تكن هذه التسمية قد لازمته اعتباطاً، وقد تسالم عليها

ص: 148

المسلمون على اختلاف مشاربهم وتعدّد نحلهم ولم يحضَ بها غيره. وإذا كان لفظ الإمام من بعض دلالاته في اللغة: ((... خشبة البناء التي يسوّى عليها البناء... والإمام: الذي يقتدى به، وجمعه أيمّة وأصله آممة على فاعلة...))(5)، ((... الإمام الذي يُقتدى به وجمعه أيمّة، وأصله أأمة، على... والإمام : بمعنى القدّام. وفلان يؤمّ القوم: يقدمهم...))(6).

وهذه المعاني والدلالات التي ذكرتها معاجم اللغة وقواميسها تؤكّد ما قاله الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب الكتاب المعجمي الأوّل عند العرب في عليّ أمير المؤمنين في الدّلالة على إمامته صلوات الله عليه وسلامه من احتياج الناس إليه كلّ الناس واستغناؤه عنهم.

وبعد هذا كلّه، بل وفوق هذا كلّه نعود إلى أجواء الآية محلّ البحث لنقف على جوهر الدلالة وكيفيّة أدائها بالمعنى الأرقى الدقيق من خلال فصاحة الوحي التي هي لا شكّ ولا ريب أعلى الفصاحات في فنّ القول لدى العرب.

يقول الجاحظ: ((ينبغي للمتكلّم أنْ يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك مقاماً حتّى یُقسّم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسّم المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات))(7).

وهذا النّصّ من الجاحظ الذي يتحدّث فيه عن مناسبة الكلام لمقتضى الحال يدعونا إلى أنْ نعرف ما هي تلك الحال التي ينبغي أنْ نقرأ من خلالها الوحي الأمين الذي نزل من الله تعالى أحسن المتكلّمين بعيداً عن تلك الآراء التي تشعّبت وشرّقت وغرّبت بالنّصّ السماوي الأرقی، والتي أرادت أنْ تعرف كل ما في جنباته من محکمٍ ومتشابهٍ، وزيغٍ ورسوخٍ، وتفسیرٍ وتأويلٍ، كلُّ ذلك من خلال علم

ص: 149

النحو، واعتماد بعض الروايات التي لا تنهض دليلاً على ما يذهبون إليه (8).

إنّ الحال التي نزل في أثنائها قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»، إلى نيّفٍ وثمانين آية هي حال وفد نصاری نجران التي مثّلت منعطفاً خطيراّ في تاريخ الأمّة؛ ولا بُدّ للأمّة في منعطفاتها الخطيرة والفتن التي تمسُّ وجودها من رجالٍ تفقأُ عين الفتنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من هو من سنخه. ومما لا ريب فيه أنّ فتنة التشكيك بالعقيدة من أشدّ الفتن التي حاول أعداء الإسلام بثّها بين المسلمين، لا سيّما إذا كان ذلك في بداية بناء كيان الأمّة أي أمّةٍ كانت.

فقد جادل وخاصم النصاری - من وفد نجران - رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عیسی ابن مريم على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصّلاة والسلام، إذ قالوا للنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: بلى. قالوا: فحسبنا! فأنزل سبحانه وتعالى: (فأمّا الذين في قلوبهم زيغ... الآية)...(9).

وقد كان يوحنّا الدمشقي يُلقّن بعض المسيحييّن ويعلّمهم كيفيّة الجدل والنقاش مع المسلمين، حول بعض المعاني التي تناولها القرآن الكريم عن المسيح عليه السّلام من حيث تسميته المسيح في القرآن. يقول: ((إذا سألك المسلم: ما تقول في المسيح؟ فقال: إنّه كلمة الله. ثُمّ ليسأل النّصراني المسلم: بِمَ سُمّيَ المسيح في القرآن؟ وليرفض أنْ يتكلّم بشيء حتى يُجيب المسلم. فإنّه سيضطر إلى أنْ يقول: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ

ص: 150

مِّنْهُ» (10)، فليسأله عن كلمة الله وروحه أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فإنْ قال مخلوقة، فليردّ عليه بأنّه كان ولم تكن كلمة ولا روح، فإنْ قلت ذلك فسيفحم المسلم؛ لأنّ من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين. وكذلك هي الحال بالنسبة ل (ثيودور أبو قُرّة) الذي حاول توضيح حرّيّة الإرادة ومشكلة الطبيعتين في المسيح عليه السلام، وكذلك (نكبتاس) إذ أمره القيصر ( باسيلوس) بتأليف كتاب في الرّد على المسلمين، إذ تناول فيه عقيدة التّثليث وإثبات صحّتها(11). فالقضيّة قضيّة صراع بين العقيدتين، عقيدة التوحيد الذي هو أهمّ أصلٍ من أصول الدين الإسلامي، وسائر الأديان الإبراهيميّة، وعقيدة التثليث وما سواها.

فالآية ليست بصدد تقسيم القرآن الكريم إلى محكم ومتشابه من حيث اللفظ أو المعنى كما يذهب إلى ذلك بعض العلماء والمفسّرين؛ فإنّ من المتشابه على سبيل المثال لا الحصر ما يحمل على وجوه اللغة، وعدم معرفة هذا لا يوجب أو لا يكون مدعاةً للوقوع في الزّيغ الذي تُريده الآية المباركة. ((وقد فسّر الرسوخ في العلم بما لا تدلّ عليه اللغة وإنّما هي أشياء نشأت عن الرّسوخ في العلم، كقول نافع: الراسخ المتواضع إلى الله، وكقول مالك: الراسخ في العلم، المتّبع))(12).

فالرّسوخ والزّيغ لا يُراد منهما المعنى المتبادر إلى الذّهن؛ وكذا الراسخون في العلم، والذين في قلوبهم زيغ، يقول الله تعالى: (إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً)(13)، ((قيل: المراد وفد نجران؛ لأنّه روي أنّ أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه: إنّي أعلم أأنّه رسول الله، ولكنّي إذا أظهرت ذلك أخذ ملك الرّوم منّي ما أعطوني من المال. وقيل: الإشارة إلى معاصري رسول الله قال ابن عباس: قريضة، والنضير، وكانوا يفتخرون بأموالهم وأولادهم...))(14).

فهؤلاء هم الذين يتزعّمون هذا التيّار لأنّهم أهل مالٍ وأولادٍ وقابليّاتٍ في

ص: 151

المجتمع . وهذا يؤيّدُ ما نذهب إليه من أنّ الميل الذي عبّر عنه النّصّ القرآني بالزّيغ، إنّما هو ميل الذين على علمٍ ودراية بحال الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم وما أُنزل عليهم من ربّهم، ولكنّهم انحرفوا؛ لأنّ الاعتراف والإيمان بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيسلبهم مصالحهم وتسلّطهم على خلق الله تعالى؛ فعمدوا إلى التلبيس على الناس، وتأول آيات الله عزَّ وجلّ بما يوقع الناس في الفتنة والضلال.

والذي يبدو للباحث أنّ الزّيغ وإنْ كان معناه الميل، ولكنْ هو ليس كل ميل ومن أيّ أحد، وإنّما هو الميل عن حقّ معلوم، من أُناسٍ بلغوا من العلم ما بلغوا، فحادوا عن جادة الصّواب، فهم ليسوا من سواد العامّة، وإنّما هم من أهل العلم وأهل الحلّ والعقد. وبالتالي فالميل من العامّة وممّن لا علم له لا يمكن أنْ يكون زيغاً عن الحقّ؛ لأنّهم لم يدركوا هذا الحقّ وليس لديهم القابليّة على معرفته، لكنّ الزيغ هو الميل عن علمٍ ويقين، عن علمٍ ودراية، ونفوذٍ في المجتمع؛ وذلك للتلبيس على ضعفاء الخلق؛ ليبقى هؤلاء هم أصحاب النفوذ هم أصحاب الشّرف والتسلّط على رقاب الخلق.

يؤيّد هذا المعنى جو الآية والسبب الذي نزلت لأجله مثلما هي حال وفد نصاری نجران الذين جاؤوا لمحاججة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يعلمون أنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ ما جاء به هو الحقّ. وهكذا محاججة لا يجرأ عليها ضعفاء الخلق. فالذين جاؤوا في وفد نصاری نجران إنّما هم علّيّة القوم وأشرافهم وعلماؤهم ومجتهد وهم.

يؤكّدوا ذلك ما قاله محمد بن اسحاق والرّبيع بن أنس: ((نزلت أوائل السّورة إلى نيّفٍ وثمانين آية في وفد نجران، وكانوا ستّين راكباً قدموا على رسول

ص: 152

الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفرٍ يؤولُ إليهم أمرهم، وهم: العاقب أمير القوم، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسّيّد ثمالهم، وصاحب رحلهم، واسمه: الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبْرهم وإمامهم، وصاحب مَدْرَسِهم، وكان قد شَرُفَ فيهم، ودرس كتبهم، وكانت ملوك الرّوم قد شرَّفوه وموّلوه، وبنو له الكنائس، لعلمه واجتهاده))(15).

فهؤلاء لم يكونوا قد طلبوا ما طلبوا عن شكّ أو جهل يحتجّون به على باطلهم وإفسادهم دين النّاس وإضلالهم، وإنّما طلبوا وأرادوا ما رادوا، وكفروا عن علمٍ ودراية. وقد قال أصدق القائلين: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» (16)، «وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ»(17)، «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» (18).

وهذا يؤكّد - مسألة زيغ من أوّل القرآن التأويل غير المراد أو التأويل المذموم - ما نذهب إليه من علم واستطاعة ونفوذ من يحاول التأويل للتلبيس على النّاس.

فهذه الآيات الكريمات تُبيّن أنّ الاختلاف والتفرّق في الدين واختلاط الحقّ بالباطل: ((لم يكن عن جهلٍ منهم بحقيقة الأمر وكون الدّين واحداً بل كانوا عالمين بذلك، وإنّما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفرٌ منهم بآيات الله المبيّنة لهم حقّ الأمر وحقيقته... من بعد ما جاءهم العلم بما هو حقّ، ظلماً أو حَسَدَاً تداولوه بينهم... لم يكن عن شبهة أو جهل وإنّما أوجدها علماؤهم بغياً وكان البغي دائراً بينهم))(19).

فالانحراف والاختلاف إنّما سببه العلماء - لا النّاس الاعتياديين - وما يقومون به من تأويل وإخفاء حقائق النّصّ القرآني، مثلما هي الحال في ما جرى من وفد

ص: 153

نصارى نجران إذ ثبت أنّ الزّيغ وإنْ كان له معنىً من معاني الانحراف؛ إلاّ أنّه انحرافٌ من طبقة خاصّة تتميّز بالعلم والمعرفة، والادراك التّام، وليس من أُناسٍ أمّيّين أو أُناسٍ يجهلون ما وردَ في الكتاب أو ما أنزل من الوحي من الله عزّ وجلّ يقول عزّ من قائل: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» (20)

((... فكتمان العالم علمه هذا، كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم، وهو السبب الوحيد الذي عدّه الله سبحانه سبباً لاختلاف الناس في الدِّين وتفرّقهم في سبل الهداية والضلال، وإلاّ فالدّين فطريٌّ تقبله الفطرة وتخضع له القوّة المميّزة بعد ما بُيِّن لها، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (21)، فالدّين فطري على الخلقة لا تدفعه الفطرة أبداً لو ظهر لها ظهوراً ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، ولا محالة ينتهي هذا الثّاني إلى ذلك الأوّل.. ولذلك جمع في الآية بين كون الدّين فطريّاً على الخلقة وبين عدم العلم به فقال: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»، وقال: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»، وقال تعالى: «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» (22)، فأفاد أنّ الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنّما هو ناشىء عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدّينية والانحراف عن جادّة الصّواب معلول بغي العلماء بالإخفاء والتأويل والتّحريف، وظلمهم...))(23)

فهذا جوّ الآية وهذا ما كان يخطّط له من إيقاع الفتنة في الأمّة الفتيّة على أيدي أناس يمتلكون كلّ ما يساعدهم على ذلك داخليّاً وخارجيّاً، أُناس جعلتهم

ص: 154

العداوة والحقد وصورّ لهم بغيهم أنّهم قادرون حتى على خداع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد ألْمَحَ أصدقٌ الصّادقين إلى ذلك بقوله عزَّ من قائلٍ: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (24).

فأيُّ محکمٍ أو متشابهٍ! تتحدّثُ عنه الآية الكريمة المباركة، وأيُّ عطفٍ أو استئناف، إنّها تتحدّثُ عن الذين في قلوبهم زيغٌ، الذين ستنالُ ما تنالُ على أيديهم أمّة محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، تتحدّثُ عن الراسخين في العلم الذين لا يستطيع أحدٌ غيرهم الوقوفَ بوجه هؤلاء الزائغين في هكذا منعطفٍ خطيرٍ من تاريخ الأمّة في ذلك اليوم، وغيره من قابل الأيّام، كمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو مَنْ هم مِنْ سنخه. وقد أعطى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المصداق الواقعي والحقيقي لذلك إذ جاء بأهلِ بيتهِ عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين صلواتُ الله تعالى عليهم أجمعين لمباهلة وفد نصاری نجران بهم؛ ليقول للأمّة هؤلاء هم الرّاسخون في العلم القوّامون على الأمّة وعلى تفسير كتاب الله، وقد أثبت التاريخ والواقع العملي ذلك إذ وقف أهل هذا البيت لكل الانحرافات التي واجهت الأمّة ولم يستطع أحدٌ من المسلمين التّصدّي لها، أو تصدّى لها ولم يُفلح وكادت الأمّة أنْ تقع في ضلالٍ لا هداية بعده. فكان أهله بيته مصداقاً مصَدِّقاً لقوله وهو الصّادق الأمين: ((إنّي مخلّفٌ فیکم الثّقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي))(25)، ((... إنّي قد ترکتُ فیکم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إنْ تمسّكتم بهما: کتاب الله، وعترتي أهل بيتي؛ فإنّ اللّطيف الخبير قد عهد إلىّ أنّهما لن یفترقا حتّى يردی عليّ الحوض کھاتين - وجمع بين مسبحتيه - ولا أقول: کهاتين - وجمع بين المسبحة والوسطى - فتسبق إحداهما الأخرى، فتمسّكوا بهما لا تَزِلُّوا ولا تضلّوا

ص: 155

، ولا تقدموهم فتضلّوا))(26). وعلٌّي أوّلهم وأفضلهم وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم کما سيتضح لنا ذلك من خلال خطبه وكلماته. فنحن اليوم کمن كان قبلنا في مسيس الحاجة إلى كلام عليّ، وكذلك من لم يزل في أصلاب الرّجال، وليس هذا بكثير علي عليّ عليه السلام وهو وارث علم النّبيين صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كان عیسی ع كلمة الله التي ألقاها إلى مريم ع فعليّ ع أصدق مصداقٍ لكلمات الله عزّ وجلّ، ولو كان البحر مداداً لكلمات ربّ العزّة لنفد البحر وما نفدت کلماته.

ص: 156

المبحث الثّاني: ما يحتمه الصّادق الأمين ص في الإمام عليٍّ ع

لا شكَّ في أنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما جاء بأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصّلاة والسّلام؛ لباهل بهم وفد نصاری نجران، لم يأتِ بهم لأنّهم أهل بيته وأرحامه حسب وإلاّ فهناك الكثير من ذوي قرباه، وإنّما جاء بهم؛ لأنّهم الراسخون في العلم الذين سيعود إليهم إرثُ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم القطب الذي ستدور حوله عجلة التفسير والتأويل لكتاب الله عزّ وجلّ؛ لأنّهم عِدْلُ الكتاب وهم القادرون على استنطاق آياته وكشف معانيه. وهم الذين لا يتظننّون تأويله بل يتيقّنون حقائقه. (27)

وأوّل أهل البيت هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه الذي أخذ علمه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مباشرة، وهو أوّل المحدّثين من أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم حتّى قال فيهم ابن خلدون المعروف بتعصّبه: ((وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ فيهم محدّثين، فهم أولى النّاس بهذه الرّتب الشّريفة، والكرامات الموهوبة))(28).

وليس هذا بكثير على عليٍّ عليه السّلام ن فقد ذكر الحاكم النّيسابوري في كتابه المستدرك على الصّحيحين: روى عبد الله بن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: ((أنّا مدينة العلم وعليٌّ بابها فمن أراد المدينة فلْيأتِ من الباب))(29).

وهذا الحديث المبارك لو عرضناه على كتاب الله القرآن العظيم لمَا كان فيه من المبالغةِ شيءٌ في بيان شأنِ عليٍّ عليه السّلام وأهمّيّة كلامه ودوره في بناء كيان الأمّة

ص: 157

وإظهار شخصيّتها؛ إذ أعطاه الله عزَّ وجلَّ بياناً فوق هذا البيان؛ إذ جعله نفس النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلَّم بما يؤكّد ما أراده النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من إتيانه بأهل بيته عليهم السّلام، يقول عزَّ منْ قائل: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» (30). وهذا النّصّ هو آية من الآيات التّي تبنّت شرح الموقف وما أفرزه من دلالات ذلك الحوار أو المباهلة التي دارت بين النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك الوفد من نصاری نجران. «الم. اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ. زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ

ص: 158

وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ

ص: 159

مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ. وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ

ص: 160

وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(31).

والبحث إنّما ذكر هذا النصَّ بقضّهِ وقضيضه ليؤكّد ما ذكره آنفاً من أنّ الآية المباركة لم تكن تتحدّث عن تقسيم الكتاب العظيم القرآن الكريم إلى محكم ومتشابه، وإنْ كان بالإمكان أنْ يفهم ذلك المعنى كحكمةٍ من حِكَم النّصّ ولكنّه ليس بعلّة؛ بدليل أنّ الآية تقول «منه آيات محكمات وأخر متشابهات» ولم تقل:

ص: 161

هو الذي أنزل عليك الكتاب آيات محكمات ومتشابهات.

فهذه الآيات التي نزلت من أوائل السورة إلى نيِّفٍ وثمانين آية في وفد نجران اليمن إنّما نزلت لتبيّن من هم الرّاسخون في العلم الذين يعلمون تأويل المحكم والمتشابه على حدٍّ سواء؛ لأنّ الوفد الذي جاء إنّما جاء للمحاججة والمجادلة بالباطل وقد أضمر في نفسه الزيغ والكذب على الله ورسوله والمؤمنين؛ ليلبسوا على المسلمين دينهم ويزعزعوا عقيدتهم عن علمٍ ودرايةٍ.

وقد أوضح ما تبقّى من النصّ القرآني أنّ هؤلاء الذين كانوا على علمٍ ودراية بالحقّ وما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما أثبته لهم بالدّليل القاطع، وهم أعرف النّاس بذلك لم يذعنوا للحقّ ولم يستجيبوا؛ بل راحوا كما هي حالهم في القابليّة والاستعداد على قلب الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله كذباً وافتراء على الله عزَّ وجلّ. فمن هكذا حالهم من علم وجاهٍ ومالٍ وسطوة اجتماعيّة وسلطان وسرائر خبيثة لم ولن يستطيع أنْ يقف بوجههم إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من هم من سنخه من الرّاسخين في العلم وأوّلهم أمكير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، وسنرى في المبحث القابل كيف أنّ هذا الخطّ المنحرف وهؤلاء الذين في قلوبهم زيغ كيف حاولوا مرّةً أخرى أنْ يصلوا إلى ما أعجزهم الله تعالى ونبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الوصول إليه، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام لهم بالمرصاد.

يقول الله تعالى في إيضاح ذلك وفضح سرائرهم وما انطوت عليه من خبثٍ وتولِ عن الحقّ في تمام الآيات النازلة في تلك المباهلة: «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ

ص: 162

بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ

ص: 163

النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (32).

فالقرآن العظيم عندما يقول على لسان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ

وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِین« إنّما يريد أنْ يبيّنَ أنّ هؤلاء هم الكاذبون فيما يدّعونه من دعوى؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الصّادق الأمين، وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم هم الصادقون، وقد أوضح القرآن الكريم أنّ هؤلاء قوم مفسدون قد اتّخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله تعالى وقد ألبسوا الحقّ بالباطل وكتموه عن عمدٍ وعن قصدٍ ودراية مُدَّعين الإيمان بالله وعسى على نبيّنا وآله وعليه السلام، وهم لا عهد لهم ولا أمانة، وخانوا ما أتُمنوا عليه واشتروا به ثمناً قليلا.

وقد كشف النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خبث سريرتهم وانحرافهم رغم ما هم عليه من علم بحقائق الأشياء، وأنّهم جاؤوا يطلبون ما يطلبون عن قصدٍ ومعرفةٍ تامّة لا عن جهل أو استفهامٍ عمّا لا يعلمونه إذ قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ((ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولدٌ إلاّ ويشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيٌّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّمٌ على كلّ شيء ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيء؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلاّ ما عُلِّم؟ قالوا: لا. قال: فإنّ ربّنا صورّ عيسى في الرّحم كيف

ص: 164

يشاء، وربّنا لا يأكل ولا يشرب، ولا يُحدث. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أُمّه كما تحمل المرأة، ثُمّ وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثُمّ غُذِّيَ كما يغذى الصّبيّ، ثُمّ كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا. فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضعٍ وثمانين آية))(33).

وقد أكد البحث أنّ صدر السّورة المباركة والآية الكريمة موضع البحث لم تأتِ لبيان أنّ القرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه أو أنْ نحصرها بالمحكم والمتشابه كما يريد أنْ يذهب إلى ذلك بعض العلماء والمفسّرين فيسمّيها بآية المتشابه وإذا كان لا بُدَّ من تسميتها إذا كان في ذلك من ثمرةٍ فلنسمّها بآية الرّاسخين في العلم(34) الذين ذكرهم القرآن الكريم وأشار إليهم الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.

فهذه الآية المباركة من الآيات التي بيّنت أنّه عليه السّلام سيؤديّ ما أدّاه النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمَّته. فالنبي كان حريصاً على بيان عليٍّ عليه السلام للأمّة؛ لأنّهُ هو الذي سيبيّن الكتاب لها، فهذا القرب من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل عليّاً أعلم النّاس بما بين اللوحين من كتاب الله العزيز كما يقول عامر بن شراحيل الشعبي (35). وروي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: ((عليٌّ أعلم النّاس بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (36).

وهذه الأعلميّة والأفضليّة والأسبقيّة إلى تفسير القرآن وتأويله سيبيّنها لنا أمير المؤمنين عليه السلام في المبحث الآتي عمليّاً ونظريّاً من خلال استنطاقه للنّصّ القرآني وتجلية معانيه وإيضاح مفاهيمه وكشف أسراره، وشدّ الأمّة إلى كتابها العزيز القرآن العظيم في مواجهة التيارات المنحرفة التي أرادت عن قصد إبعاد الأمّة عن كتابها الذي هم تبيانٌ لكل شيء تحتاجه، وإيهامها بعدم قدرتها

ص: 165

واستحالة التفريع وانتزاع الجزئيّات.

فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) عندما يوصي بجعل القرآن معياراً ومقياساً وهدىً من الضلال وتبياناً من العمى وعصمةً من الهلكة ورشداً من الغواية ن وأنّه ما عَدَلَ عنه أحدٌ إلاّ إلى النّار؛ إنّما يُريد أنْ يُبعد الأمّة عن كلِّ ((التّوهمات والخيالات الحاصلة في النفس من المعارف فليس لأحدٍ أنْ يتّبعها، بل لابُدّ من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه وإيكال علم ذلك إلى الله تبارك وتعالى وإلاّ فيدخل ذلك في اتباع الشّيطان وإغوائه والتَّعمّق المنهيُّ عنه))(37).

ولن تجد الأمّة نجاتها من هذه التوهمات إلاّ بالرجوع إلى عِدْلِ القرآن الذين مَنْ عَدَلَ عنهم سيكون من سنخ من عدل عن القرآن؛ وهذا يحتم على الأمّة إذا ما أرادت فهم قرآنها اللّجوء إلى القرآن النّاطق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله تعالى عليه أوّل الرّاسخين في العلم بعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ولا يعني هذا القول أنّ الأمّة لا تستطيع أنْ تعيَ شيئاً من كتابها على نحو الإطلاق، لكنّها في الفتن والمحن وتتابع الشّبهات؛ لا بُدّ لها من قرآنها النّاطق، وهذا ما أثبته الواقع والأحداث الخطيرة التي مرّت بها الأمّة إذ لم يكن لها إلاّ عدل القرآن بعيداً عن أولئك الذين نصّبوا أنفسهم أعلاماً مُدَّعين رسوخهم في العلم وقادةً للأمّة؛ فوقعوا في ظلمات الجهل عندما تقحّموا الشُّبُهات، وخاضوا في متشابهات الكتاب فضلُّوا وأضلُّوا.

وهذا أمرٌ واضحٌ جليٌّ أثبته الشرع والعقل والعلمص، فليس للأمّة بعد ذلك من مندوحةٍ غير اعتماد كلام مَنْ هم سنخ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوّلهم الإمام عليّ سلام الله عليه.

يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عليٍّ عليه السلام: ((هذا

ص: 166

عليٌّ إخي ووصيّ، وواعي علمي، وخليفتي على أُمّتي، وعلى تفسير كتاب الله عزَّ وجلّ والدّاعي إليه، والعامل بما يرضاه... معاشر الناس تدبّروا القرآن، وافهموا آياته، وانظروا إلى محكماته، ولا تتّبعوا متشابهاته، فوالله لن يبين لكم زواجره، ولا يوضّح لكم تفسيره إلاّ الذي أخذٌ بيده ومصعدهُ))(38) ، وقال (صلّى الله عليه وآله): ((ابن عمّي، وأخي، وصاحبي، ومبرىء ذمّتي، والمؤدِّي عني ديني وعداتي، والمبلّغ عني رسالتي، ومعلّم الناس من بعدي، ومبيّنهم من تأويل القرآن ما لم يعلموا)(39).

لا شكّ في أنّ عليّاً عليه السلام كان أعلم أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد اتّفق المسلمون على اختلاف مشاربهم وتعدّد نحلهم ن اتّفقوا على أنّه صلوات الله علي كان في أسمى وأعلى مراتب الذّكاء وقوّة الفكر وصدق الحدس إذ أفاد كثيراً من الفترة التي قضّاها في كنف النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يشمُّ عرف النّبوّة في أحضانه، وينهل من نمير علومه، يسمع مل يسمعه النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرى ما يراه منذ نعومة أظفاره. وهي فترة امتدت لعشرة أعوامٍ من طفولته، وهكذا فترة لها تأثيرها وخطورتها في حياة الإنسان ن فكان ملازماً له صلّى الله عليه وآله وسلّم، متتلْمذاً على يدي معلّمٍ هو أكمل ما خلق الله تعالى إذ: ((ما برأ الله نسمةً خيراً من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم))(40). وقد علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألف بابٍ من العلم كما يقول هو عليه السلام: ((علّمني رسول الله ألف باب من العلم فانفتح لي من كلِّ باب ألف باب))(41).

فكان بذلك أسَدَّ الناس رأياً بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأشرفهم خلقاً وأعرفهم بالأمور وأدراهم، ولولاه لهلك كثيرٌ منهم، وكان أشدّ الصّحابة والمسلمين حرصاً على إقامة حدود الله عزَّ وجلّ فلم يجامل ولم يُداهن

ص: 167

ولم يطمع به قريب ولا ذو رحمٍ، ولم ييأس من عدله مُبغضّ أو عدوٌّ له، وكان أتقنهم وأتلاهم لكتاب الله عزّ وجلّ وأقرأهم له، وكان القرّاء يسندون قراءتهم إليه، بل كانوا تلاميذ تلامذته أمثال أبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النُّجود إذ كانوا يسندون قراءتهم إلى أبي عبد الرّحمن السّلمي وهو تلميذ عليٍّ عليه السلام. فقد تشرّف العلماء بالانتساب إليه بأسرهم مَنْ كان منهم أشعريّاً أو معتزليّاً، وليس غريباً أنْ ينتسب إليه حتّى من كان من أعدائه من أمثال الخوارج الذين ينتسبون إلى أكابرهم وهم تلامذة عليٍّ عليه السلام وقد أخذوا عنه العلم. أمّا أهل التفسير ومدارسهم - مدرسة مكّة، مدرسة المدينة، مدرسة العراق - فكلّها تنتهي إلى علىٍّ صلوات الله وسلامه عليه(42).

فعليٌّ عليه السلام والقرآن العظيم صنوان لا يفترقان؛ لأنّه كما قال هو صلوات ربّي وسلامه عليه: ((أنا القرآن النّاطق))(43).

ص: 168

المبحث الثّالث: ما يحتمه الواقع العملي والسّلوكي في الإمام علي عليه السّلام

إنّ اعتماد كلام الإمام عليّ عليه السلام يحتمه علينا الواقع العملي والسّلوكي لأئمّة آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ لم يسجّل لنا هذا الواقع يوماً أنّهم سُألوا عن شيءٍ ولم يُجيبوا، ولم يُسجّل عليهم خطأ في إجابةٍ قالوها؛ لأنّهم الرّاسخون في العلم، وعليٌّ أوّلهم وأفضلهم وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم کما سيتضح لنا ذلك من خلال خطبه وكلماته. فنحن اليوم كمن كان قبلنا في مسیس الحاجة الى كلام على وحتّى من لم يزل في أصلاب الرّجال، وليس هذا بكثير على عليّ عليه السلام؛ فهو وارث علم النّبيين صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كان عيسى عليه السلام كلمة الله التي ألقاها إلى مريم عليها السلام فعليّ عليه السلام أصدق مصداقٍ لكلمات الله عزّ وجلّ، ولو كان البحر مداداً لكلمات ربّ العزّة لنفد البحر وما نفدت كلماته.

عوداً على بدء وانطلاقاً من الآية المباركة محلّ البحث: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».

نقول لقد ذكرنا في المبحث السّابق أنّ عليّاً عليه السلام أفاد كثيراً من الفترة التي قضّاها في كنف النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يشمُّ عرف النّبوّة في أحضانه،

ص: 169

وينهل من نمير علومه منذ نعومة أظفاره إلى أن التحق النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بربّه راضياً مرضيّا؛ فما الفارق بين عليٍّ عليه السلام وبين الصّحابة في هذا؟ أَلَم يكن الصّحابة يتلقّون الحقائق الدّينيّة والمعارف الأخر من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فكانوا يجالسونه ويسمعون هذه المعارف والحقائق منه صلّى اله عليه وآله وسلّم، وقد كانوا يُسجّلونها ويدوّنونها ويبيّنونها للنّاس؟ وبالتّالي فهم من الراسخين في العلم ويمكن اعتماد كلامهم في المناهج التعليميّة وبناء الشّخصيّة الإسلاميّة.

وانطلاقاً من عنوان المبحث «ما يحتمه الواقع العملي والسّلوكي» نقول: أ - لقد أنار النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم درب الأمّة ببيان وإيضاح الرّاسخين في العلم الذين لهم الاستطاعة والمقدرة على معرفة تأويل الكتاب - الكتاب كلّه - ولم يدّعِ أحدٌ من الصّحابة أو غيرهم معرفته ذلك؛ نعم تلقّى الصّحابي ما تلقّى من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من البيان وتفسير القرآن، وأنّ جميع الحقائق الدينيّة موجودة في القرآن العظيم، ولكن هل فسّر النّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الكتاب العزيز جميعه أو غالبه لأصحابه كما يذهب إلى ذلك ابن تيمية إذ يدّعي: ((أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بيَّنَ لأصحابه تفسير جميع القرآن، أو غالبه))(44).

كلّا لم يقم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك، وهذا الكلام لا يستقيم لابن تيمية؛ وذلك لسببين أو لأمرين هما:

أوّلاً: إنّ التفسير ليس على وجه واحد بل هو كما يقول ابن عبّاس: ((على أربعة أوجه، وجهٌ تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله))(45). وهذا الصّنف أو الوجه

ص: 170

الأخير لا يمكن أنْ يعلمه غير الله تعالى؛ لأنّ الله عزّ وجلّ استأثر بعلمه، فمن تعرّض له أو ادّعى معرفته فهو مُفْتَرٍ على الله تعالى.

ثانياً: لو كان النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم قد فسّر كلّ القرآن؛ لوجب على الصّحابة والتّابعين ومن جاء بعدهم من المؤمنين: إتباع قول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتفسيره؛ لقوله تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (46)، وقوله: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ» (47). ولكن كلّ ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم هو بيانه لمجمل القرآن، وتوضيحه لمشكله، وتخصيصه لعامِّیهِ، وتقييده لمطلقه. فقد ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ((تفسير الظلم بالشّرك في قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» (48)، وتفسيره الحساب اليسير بالعرض، وتفسيره القوّة في: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» (49) بالرّمي، ... وكتفسيره العبادة بالدعاء في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (50)، ...))(51). ومن توضيح المشكل: تفسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» (52)، بأنّه بياض النهار وسواد الليل (53). ومن تفسيره المطلق: تقييده اليد باليمنى في قوله تعالى: «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» (54).

ويؤيد هذا المعنى أو هذا القول ما ورد عن الصحابة والتابعين من تفسير لبعض الآيات مما يدلّ على أنَّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يفسّر كلّ القرآن إذ لو كان الأمر كذلك لوقف هؤلاء الصحابة وغيرهم عند تفسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم ولما اختلفوا في تفسيره.

ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر اختلافهم في تفسير قوله تعالى: «مَنْ

ص: 171

يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ» (55). قال بعضهم عني بالسوء كلّ معصية، وقال آخرون إنَّ معنى ذلك من يعطي سوءاً من أهل الكفر يجز به وبعضهم يرى أنّ معنى السوء في هذا الموضع الشرك.

فالقول الأول ينتهي سنده إلى كلّ من زیاد بن الربيع وأُبي بن كعب وعائشة ومجاهد، والثاني ينتهي إسناده إلى الحسن وابن زيد والضحاك والأخير ينتهي إسناده إلى ابن عباس وسعيد بن جبير(56).

فلو كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد بيّن كلّ القرآن وفسّره لما وجدت هذه الأقوال الكثيرة في هاتين الآيتين على سبيل المثال لا الحصر.

بل لسنا نبالغ في شيء إذا قلنا إنَّ القرآن الكريم لم يُفسَّر جميعه حتى في عصر الصحابة بعد رحيل الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الرفيق الأعلى عزَّ اسمه.

ولعلّ هذه الآراء أو الأقوال تشير ضمناً إلى أنَّ صحابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا متفاوتين في القدرة على فهم آیات الكتاب العزيز وتفسيرها خلافاً لما يذهب إليه ابن خلدون من أنَّ صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا على حدٍ سواء في فهمهم للقرآن العزيز (57).

وبإنعام النّظر فيما ورد عن الصّحابة من تفسيرٍ للقرآن الكريم تتبلور حقيقة ما وصلنا إليه من معنىً للراسخين في العلم إذ أنّ تفسير الصّحابة لا يتجاوز کونه: ((بمنزلة المرفوع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم کما قاله الحاكم في تفسيره))(58).

وهذا المعنى - أي كون تفسير الصّحابة بمنزلة المرفوع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم - عند الحاكم: ((فيما فيه سبب النّزول))(59).

ص: 172

ينتهي بنا إلى أنّ الصحابي وإنْ كان قد تلقّى الحقائق الدينية من النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سماعاً إلاّ أنّه لا يمكن أنْ يكون قد سمع كلّ الحقائق وبالتّالي فالصّحابي لا يمكن نفيُ وقوع الخطأ منه، ولم يثبت عند أحدٍ من الأمّة عصمة أحدٍ من الصّحابة، بل العكس هو الصّحيح إذ وقع الخطأ منهم في تفسير كثير من الآيات القرآنيّة، وبعضهم لم يفهم معناها، کما اختلفوا كثيراً فيما يعلمونه من النّصّ القرآني. وفي المحصِّلة نقول: لا يمكن أنْ نصل إلى الحقائق كلّها من طريق غير المعصوم؛ لأنّ حقائق الكتاب - الكتاب كلّه - لا يعرفها إلاّ من خوطب بالكتاب وهو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومَنْ هم مِنْ سنخه وهم الرّاسخون في العلم الذين بيّنهم النّبيُّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوّلهم الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الذي قال فيه: ((أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة من بعدي)(60)، ((أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ من بعدي))(61).

ب - بعد هذه المحصِّلة لم يبقَ أمام الأمّة إلاّ الضّلال أو أنْ تتمسّك بمن لا يختلف في علمه وهم الراسخون في العلم الذين هم عدل القرآن؛ لتنجو مما حذّرها منه رسولها الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ((إنّي تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا، کتاب الله وعترتي أهل بيتي))(62).

ومثله ما روي عن زيد بن أرقم: ((قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اني تارك فيكم ما انْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر وهو کتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علىَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما))(63).

فالرّاسخون في العلم لم يكن علمهم السماع أو الدراسة بمعناها المتبادر إلى

ص: 173

الذّهن، وإنّما كان علمهم علم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكلام عليٍّ كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلمه علم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غاية ما في الأمر أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأخذ علمه من الوحي مباشرةً والإمام كان يأخذ علمه من النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن ليس بالطرق والأسباب الاعتياديّة التّي يكتسب بها النّاس علومهم التي يتسنّى لكلّ أحدٍ أنْ يحصل عليها وإنّما هو العلم الذي عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: ((علّمني رسول الله ألف باب من العلم كلّ باب منها يفتح ألف باب))(64)

وقد كان لكلام عليٍّ عليه السلام أثره في حفظ شخصيّة الأمّة وكيانها؛ لأنّه علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد روى الحافظ أبو نعيم احمد بن عبد الله صاحب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ((يا علي إنَّ الله أمرني أن أُدنيك وأعلمك لتعي، وأُنزلت هذه الآية وتعيها أذنٌ واعية فأنت أذنٌ واعية لعلمي))(65)

ولذلك يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام): ((... ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطِق ولكن أُخبركم عنه، ألا إنَّ فيه عِلَمَ ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائِكم، ونَظمَ ما بينكم)) (66).

وهذا يؤكّد ما ذهب إليه البحث من أنّ السماع أو الدراسة بمعناها المتبادر إلى الذّهن لا يمكن أنْ تكون الوسيلة الناجعة لإدراك كل تنزيل القرآن وتأويله بجميع مراتبه؛ لأنّ هذا العلم مخصوصٌ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالعترة الطّاهرة عليهم السلام وأوّلهم أمير المؤمنين عليه السلام وقد أطلعه ربّه عزّ وجلّ على ما يشاء من العلم الذي يقضيه ويمضيه مما غاب عن غيرهم.

ص: 174

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبةٍ له: (( ... وما كلّ ذي قلبٍ بلبيب، ولا كلّ ذي سمعٍ بسميع. فيا عجباً وماليَ لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها! لا يقتصّون أثر نبيّ، ولا يقتدون بعمل وصيّ، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفّون عن عيب، يعملون في الشُّبُهات، ويسيرون في الشّهوات، المعروف فيه ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، ففزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرىءٍ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما یری بعُریً ثقاتٍ، وأسباب محکمات))(67).

بيّن الإمام عليه السلام داء الأمم السّالفة وجباریها، وما جرى عليها من بلاءٍ وإحَنٍ ثُمّ انتهى إلى أنْ ليس كل صاحب عقلٍ أو سمع أو بصرٍ بمأمنٍ من الشّبهات والأهواء؛ فتزلّ بذلك قدمه؛ لأنّه: ((ليس من علم الله، ولا من أمره أنْ يأخذ أحدٌ من خلق الله في دينه بهوىً ولا رأي ولا مقاییس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء، وجعل للقرآن وتعلّم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أنْ يأخذوا في دينهم بهوىً ولا رأي ولا مقاییس، وهم أهل الذكر الذين أمر الله الأمّة بسؤالهم))(68). وأهل الذكر هؤلاء هم الرّاسخون في العلم قطعاً. فإنْ قيل: ((من الرّاسخون في العلم؟ فقل: مَنْ لا يختلف في علمه، فإنْ قالوا: من ذلك؟ فقل: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحب ذلك إلى أنْ قال: وإنْ كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يستخلف أحداً فقد ضيّع مَنْ في أصلاب الرّجال ممن يكون بعده، قال: وما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى، لو وجدوا له مفسّراً، قال: وما فسّره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: بلى، قد فسّره لرجلٍ واحد، وفسّر للأمّة شأن ذلك الرّجل، وهو علي بن أبي طالب عليه السّلام...))(69).

ص: 175

إنّ وجود كلّ هذه الفرق المختلفة وقراءاتها الخاطئة للإسلام خير دليلٍ على ضرورة وجود مصدرٍ معرفيٍّ بعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يمتلك البيان التّفصيلي والتّكميلي للشريعة ليكون القيّم الأمين على صيانة النّصّ السّماويّ الأرقى القرآن العظيم ونصوص السُّنّة النّبويّة المطهّرة. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: (( ... أين الذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أنْ رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا الله وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا یُستعطى الهدى، ويُستجلى العمی، غنّ الأئمّة من قريش غرس في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم))(70)

وبعد هذا كلّه ليس لأحدٍ من الصحابة أو غيرهم من الناس أنْ يقول: ((سلوني قبل أنْ تفقدوني والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آيةٍ، في ليلٍ نزلت أو في نهارٍ نزلت، مكّيّها ومدنيّها، سفریّها وحضریّها، ناسخها ومنسوخها، محکمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، لأخبرتكم به))(71). ليس لأحدٍ أنْ يقول ذلك إلاّ أمير المؤمنين عليه السّلام. بل لم يجرأ أحد على قول ذلك؛ لأنّه الهادي الذي يهتدي به المهتدون بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله (72).

فكلام عليٍّ عليه السّلام، کلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم کلام الوحي، غاية ما في الأمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتلقّى علمه من الحي مباشرةً، وعلم عليٍّ عليه السّلام من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولذلك كان جديراً وأهلاً لقوله: سلوني قبل أنْ تفقدوني. يقول عليه السلام: (( ... أيُّها الناس فإنّي فقأتُ عين الفتنة، ولم يكن ليجترىء عليها أحدٌ غيري بعد أنْ ماج غيهبها، واشتدّ كلبها. فاسألوني قبل أنْ تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبين السّاعة

ص: 176

، ولا فئة تهدي مائة وتُضلُّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومُناخ ركابها، ومحطِّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ومن يموت منهم موتاً...))(73).

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: ((... وإنّما قال: «ولم يكن ليجترىء عليها أحدٌ غيري»؛ لأنّ النّاس كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتّبعون مولّيهم أم لا؟ وهل يجهزون على جريحهم أم لا؟ وهل يُقسّمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال مَنْ يؤذِّن كأذاننا، ويصلِّي كصلاتنا، واستعظموا حرب عائشة وحرب طلحة والزّبير، لمكانتهم في الإسلام، وتوقَّف جماعتهم عن الدّخول في تلك الحرب، كالأخنف ابن قيس وغيره، فلولا أنّ عليّاً اجترأ على سلِّ السّيف فيها ما أقدم أحدٌ عليها... ثُمَّ يقول: «سألوني قبل أنْ تفقدوني «روی صاحب كتاب (الاستيعاب) وهو أبو عمر بن محمّد بن عبد البُر عن جماعةٍ من الرُّواة والمحدِّثين، قالوا: لم يقل أحدٌ من الصّحابة رضي الله عنهم: (سلوني) إلاّ عليُّ ابن أبي طالب. وروى شيخنا أبو جعفر الاسكافي في كتاب (نقض العثمانيّة) عن علي بن الجعد عن ابن شُبْرَمَة، قال: ليس لأحدٍ من الناس أنْ يقول على المنبر: (سلوني) إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام..))(74).

ولم يكن ابن أبي الحديد موفّقاً فيما يذهب إليه من شرحٍ لقوله عليه السّلام: «ولم يكن ليجترىء عليها أحدٌ غيري»؛ لأنّ النّاس كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة». إذ الصّحيح: أنّ عليّاً عليه السلام كان مسدّداً من السّماء، وهو وارث علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان يعلم الكتاب كلّه بعلم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو المؤهّل لتأويل القرآن العظيم؛ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر أنّهُ سيقاتلهم على التأويل كما قاتلهم النبي صلّى الله

ص: 177

عليه وآله وسلّم ومعه عليٌّ عليه السلام على التّنزيل، ولا قِبَلَ لأحدٍ بمعرفة كلِ ما في القرآن العظيم. وخير شاهدٍ على ما يذهب إليه الباحث قوله عليه السلام لابن عباس وهو حبر الأمّة أنْ لا يحاجج الخوارج بالقرآن وأنْ يحاججهم بالسّنن، رغم أنّ ابن عباس كان يقول عن نفسه: أنّهُ يعلم تأويل القرآن، وأنّهُ من الرّاسخين بالعلم. فعليٌّ إمام البررة (75) وإمام المتّقين وقائد الغرِّ المحجَّلين(76) وخاتم الوصيين(77) وراية الهدى(78) والصّدّيق الأكبر وفاروق الأمّة الذي

يفرّق بين الحقّ والباطل(79) والمبين لأمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ما اختلفوا فيه من بعده (80) والمؤدّي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (81) والسّابق إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (82) وعلٌّي عليه السلام أفضل الصّدّيقين (83) وهو أوّل الناس إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسويّة، وأعدلهم وأرأفهم في الرّعيّة، وأبصرهم وأعلمهم في القضيّة، وأعظمهم عند الله مزيّة(84).

إنّ الناس إنّما كانوا لا يستطيعون ذلك؛ لأنّهم لا يملكون ما عند عليٍّ عليه السلام من أمثال هذه الأحاديث والسّنن التي قالها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرها في مصادر المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتعدّد نحلهم من إخواننا أهل السُّنّة التي لولا الإطالة لأتينا عليها فضلاً عمّا في مصادر الشيعة، فلعليّ عليه السلام من القيادة بعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. لا كما يذهب إليه ابن أبي الحديد من رأي في ذلك.

ونذكر في هذا المقام ما يؤيّد هذا المعنى مما ذكره ابن أبي الحديد نفسه عنه عليه السلام في إخباره بالأمور الغيبيّة التي جاءت كما قال فيها وأخبر عنها عليه السلام، مما لا يستطيع غيره القيام به، لا كما يقول ابن أبي الحديد: «من أنّ النّاس

ص: 178

كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة». يقول ابن أبي الحديد: ((... ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوة المذكورة، كإخباره عن الضّربة يُضرب بها في رأسه فتخضب لحيته، وإخباره عن قتل الحسين ابنه، وما قاله في كربلاء حيث مرَّ بها، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده، وإخباره عن الحجّاج، وعن يوسف بن عمر، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنّهروان، وما قدّمه إلى أصحابه منْ إخباره بقتل مَنْ يقتل منهم، وصلب من یُصلب، وإخباره بقتل النّاكثين والقاسطين والمارقين، وإخباره بعدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها، وإخباره عن عبدالله بن الزّبير، وقوله فيه: «خبٌّ ضبٌّ، يروم أمراً ولا يُدركهُ، ينصب حبالة الدّين لاصطياد الدُّنيا، وهو بعد مصلوب قریش «وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق، وهلاكها تارةً أُخرى بالزّنج وهو الذي صحّفه قومٌ، فقالوا: بالرّيح، وكإخباره عن ظهور الرّايات السّود من خراسان، وتنصيصه على أُناس من أهلها يعرفون ببني رزيق - بتقديم المهملة - وهم آل مصعب منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم من دعاة الدولة العباسيّة، وكإخباره عن الأئمّة الذين ظهروا من ولده بطبرستان، ، کالناصر والدّاعي وغيرهما، في قوله عليه السلام: «وإنّ لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره الله، إذا شاء، دعاؤه حقّ يقوم بإذن الله، فيدعو إلى دين الله»، وكإخباره عن مقتل النفس الزكيّة في المدينة، وقوله: «إنّه يقتل عند أحجار الزّيت» ...))(85).

ومثله إخباره: ((لعبد الله بن العباس عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإنّ علي بن عبد الله لمّا ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى عليٍّ عليه السلام، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه، وقال له: خذ إليك أبا الأملاك... وكم

ص: 179

له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى...))(86).

وليس هذا بكثير على عليٍّ عليه السلام في اعتماد كلامه في الناهج التّعليميّة وأثره في بناء الشّخصيّة الإسلاميّة؛ لأنّه حوى علم آدم عليه السلام، وتقوى نوحٍ وعزمه، وحلم إبراهيم، وفطنة موسى وهيبته، وعبادة عيسى وزهده(87).

فالآية محلّ البحث: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (88)، جاءت لتبيّن للأمّة علم هؤلاء الرّاسخين في العلم وأوّلهم أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّهم وحدهم هم القادرون على صيانة الأمّة ودينها، وحفظ شخصيّتها الإسلاميّة وبنائها، عند تعرّضها لما يمكن أنْ يزلزل عقيدتها كما هي الحال مع وفد نصارى نجران، وقد أثبت الواقع ذلك في أكثر من تحدٍّ مرّت به هذه الأمّة. وقد كان لعليٍّ عليه السلام - مع هؤلاء الذين حاولوا إضلال أهل الإسلام، وإيقاع الشّبهات في قلوبهم - ما كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) معهم.

ولبيان ما يذهب إليه البحث؛ نقف عند قول ابن أبي الحديد فيمن عاصروا أمير المؤمنين عليه السلام: ((... وقد قيل: إنّ جماعة من هؤلاء كانوا من نسل النّصارى واليهود، وقد كانوا سمعوا من آبائهم وسلفهم القول بالحلول في أنبيائهم ورؤسائهم، فاعتقدوا فيه عليه السلام مثل ذلك. ويجوز أنْ يكون أصل هذه المقالة من قومٍ ملحدين أرادوا الإلحاد في دين الإسلام، فذهبوا إلى ذلك، ولو كانوا في أيّام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقالوا فيه مثل هذه المقالة، إضلالاً لأهل الإسلام، وقصداً لإيقاع الشُّبهة في قلوبهم ...))(89).

ص: 180

فلا شكَّ في أنّ هؤلاء هم الامتداد الطّبيعي لذلك الخطّ الذي تجسّداً واضحاً جليّاً في وفد نصاری نجران، والشُّبُهات هي الشُّبهات التي حاولوا فيها إشراك غير الله عزَّ وجلَّ في الألوهيّة، كما هي الحال في ادّعاء ذلك في عيسى على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصّلاة والسلام. فتبارك الله تعالى علّام الغيوب الذي أخبر نبيّه الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصدق رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم بما قاله في عليٍّ عليه السلام من أنّهُ سيقاتل على التأويل؛ لأنّ الشُّبُهات التي ردّها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين ادّعاها نصاری نجران، لم يكن ليردّها إلّا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من هو كرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سنخه وهو عليٌّ عليه السلام.

والبحث لا يتّفق مع ابن أبي الحديد في وصفه لمن عاصر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الحجاز أو أهل مكّة، إذ يصفهم مرّة بأنّهم أشدّ آراء، وأعظم أحلاماً، وأوفر عقولاً (90)، ثُمّ يصفهم مرّة أُخرى بأنّ الغالب عليهم إنّما هو الجفاء والعجرَفيّة وخشونة الطّبع، وحتّى من سكن المدن منهم كأهل مكّة والمدينة والطّائف فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة (91).

ولكن هذا الأمر يؤكّد ما يذهب إليه البحث من أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام، وهو ابن تلك البيئة التي نشأ فيها جلّ الصّحابة، ولم يكن للبيئة فيه من أثر؛ لأنّه كان ألصق الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان يسمع ما يسمعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرى ما يراه، وأنّه الأذن الواعية لعلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به القرآن العظيم، وهو وارث علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

مما يؤكّد كون بعض ما في القرآن لا يدركه غير علىٍّ من الصّحابة أو غيرهم

ص: 181

کونه الوارث الحقيقي لهذا العلم؛ ليضطر كلّ من يدّعي وراثة علم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى سؤاله، وأنّ قوله: سلوني. لا يستطيع أنْ يقوله غير عليًّ عليه السلام.

إنّ ما في كتاب الله تعالى من زادٍ وعطاء فيه حياة الأمة ونجاتها من مضلَّات الفتن، يحْتِمُ عليها أنْ تطلب الحقيقة من خلال كتابها ودستورها القرآن الكريم من دون أنْ تدَّخِر جهداً في سبيل ذلك في كلِّ مرحلة من مراحل حياتها؛ لأنَّ النص القرآني خطاب - وإنْ نزل على وفق فنِّ القول لدى العرب لم يقتصر على العرب وإنَّما هو خطاب عالميٌّ للإنسانية جمعاء، مستمرٌّ بعطائه معجزٌ بآياته إلى أنْ يرثَ الله تعالى الأرض ومن عليها فهو وإنْ كان محدوداً ثابتاً بألفاظه ومبانيه إلاَّ أنَّه مطلقٌ في مضامینه ومعانيه غير محدودٍ بزمانٍ أو مکان؛ لأنَّه من المطلق جبار السموات والأرض، فآياته الكريمات ليست مقصورة على جماعة أو أمة من الأمم، وإنَّما جاءت هذه الآيات ليستفيد منها الجميع مهما بلغوا من التحضُّر ومهما وصلوا من التقنيَّات والمكتشفات العلميَّة، إذ سيبقى هذا النص السماوي العظيم خطاباً للناس كل الناس وليس لطائفةٍ خاصَّة من العلماء أو الفقهاء، وعلى الأمة أنْ تتولَّاه لتنال عزَّ ها به وسلامتها وهداها ونجاتها من ضلالها.

وفي هذا السّياق لا يحيط بكلام الله عزّ وجلّ إلّا الراسخون في العلم ومنهم عليٌّ عليه السلام الذي احتاج الكلُّ إلى علمه وما احتاج إلى أحدٍ. فاعتماد کلام عليٍّ عليه السّلام في المناهج التّعليميّة، وبناء الشّخصيّة الإسلاميّة ليس بواجبٍ حسب، وإنّما هو ضرورة.

وختاماً یرجو الباحث أنْ يكون قد وفّق لإلقاء بارقةٍ من الضوء على التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، ولا يدَّعي الكمال والاستيعاب الشامل

ص: 182

لهذا البحث لأنَّ الكمال للكامل المطلق وحده جبار السموات والأرض، وكل ما يرجو أنْ يكون قد قدَّم بهذا البحث خدمةً متواضعةً للكتاب العزيز - القرآن الكريم - ليكون ظِلاًّ يوم يلقاهُ تعالى، يوم لا ظلَّ ألاَّ ظلُّه.

فإنْ وفق لما هدف إليه فبفضلٍ منَ الله تعالى وحده وله الحمدُ والمنَّة وإنْ كانت الأُخرى فمن ذا الذي ما أساء قط؟!. ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

وما توفيقي إلاَّ بالله العلي العظيم عليه توكَّلت وإليه أُنيب وهو حسبي ونعم الوكيل

هوامش البحث:

1. آل عمران: 7.

2. جامع البيان عن تأویل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، المتوفَّى: 310 ه، قدَّم له: الشيخ خليل الميس، ضبط وتوثيق وتخریج: صدقي جميل العطَّار، دار الفکر، بیروت، 1425 - 1426، 2005 م، 7 / 207؛ تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد ابن ادریس الرازي (ت: 327 ه)، تح: أسعد محمد الطيب، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1424 ه - 2003 م، ج 6، ص 1995؛ 5) بحر العلوم، لأبي الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (ت: 375 ه)، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الدكتور زكريا عبد الحميد النوتي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، 1413 ه - 1993 م، ج 2، ص 115؛ النكت والعيون، للماوردي، أبو الحسن محمد بن حبيب الماوردي البصري، (ت: 450 ه)، راجعه وعلّق عليه: عبد المقصود بن عبد الرحيم، مؤسّسة الكتب الثّقافيّة، ط 2، 1428 ه - 2007 م، بيروت - لبنان، ج 2، ص 455 الكشاف عن حقائق التأويل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، تحقيق: خليل مأمون شيحا، ط 2، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1426 ه - 2005 م، ج 1، ص 476؛ مفاتيح الغيب، الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن ابن علي التميمي البكري الرازي الشافعي، ط 3، دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، 2009 م، ج 7، ص 142؛ الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن احمد، الأنصاري، القرطبي، تحقیق:

ص: 183

الشيخ محمد بيومي ، أ / عبد الله المنشاوي، ط 2 ، مكتبة الإيمان، مصر، 2006 م، ج 5، ص 338؛ البحر المحيط، ابو حيان الاندلسي (ت: 745 ه)، مطبعة السعادة، القاهرة، 1328 ه، ج 6، ص 119؛ أنوار التّنزيل وأسرار التأويل، أبو سعيد عبدالله بن عمر البيضاوي (ت: 685 ه)، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق ومحمد أحمد الأطرش، دار الرّشيد، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 ه، 2000 م. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، الإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ط 1، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1403 ه - 1983 م، ج 4، ص 399؛ روح البيان، اسماعيل حقّي، البروسوي، (ت: 1137 ه) ، دار الفكر، 1429 ه - 2008 م)، بيروت - لبنان، ج 4، ص 114؛ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، ط، 1 دار إحياء التراث العربي، بيروت ، 1420 ه - 1999 م، ج 11، ص 270؛ التحرير والتنوير، المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن عاشور، مؤسّسة التاريخ، بيروت - لبنان، ط 1، ج 11، ص 199؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق: لجنة من العلماء، قدَّم له: الإمام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي، ط 2، مؤسَّسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1425 ه - 2005 م ،ج 5، ص 241؛ تفيسر القرآن الحكيم، الشّهير بتفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، ط 2، ج 12، ص 4.

3. التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، الدكتور نجم الفحام، دار المدينة الفاضلة، ط 1، ص 49 وما بعدها.

4. ينظر: كتابنا المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة، لا يزال مخطوطاً في مكتبة المؤلّف.

5. تاج اللغة وصحاح العربية، اسماعيل بن حمّاد، الجوهري، (ت: 393 - 398 ه)، تح: احمد عبد الغفور عطارد، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، ط 4، 1407 ه، ج 5، ص 186.

6. لسان العرب، ابو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري، (ت: 711 ه)، دار صادر، بيروت، (د.ت). ج 12، ص 25.

7. الجاحظ، أبو عثمان، عمرو بن بحر، (ت: 255 ه)، البيان والتبيين، تح: حسن السّندوبي،

المطبعة الرحمانيّة، القاهرة، 1932 م، ج 1، ص 139.

8. ينظر: المؤلف، منهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، ص 119 وما بعدها.

9. جامع البيان: 6 / 186 - 187؛ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن (ت: 460 ه)، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، مطبعة النعمان، النجف، 1358

ص: 184

ه - 1965 م، ج 2، ص 399.

10. النساء: 171.

11. ينظر: الدكتور جواد علي، تاريخ العرب في الإسلام، مطبعة المجمع العلمي العراقي، ط 1، بغداد، ص 26 - 27.

12. أبو حيّن الأندلسي، (ت: 745 ه)، البحر المحيط، مطبعة السّعادة، القاهرة، 1328 ه، ج 3، ص 30.

13. آل عمران: 116.

14. البحر المحيط: 3 / 34.

15. الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق لجنة من العلماء، قدّم له: الإمام الأكبر: السيّد محسن الأمين العاملي، مؤسّسة الأعلمي، ط 2، بيروت - لبنان، 1425 ه - 2005 م، ج 2، ص 234.

16. آل عمران: 19.

17. الشّوری: 14.

18. الجاثية: 17.

19. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1427 ه - 2006 م، ج 3 ص 106؛ ج 18 ص 26، 137.

20. البقرة: 159.

21. الرّوم: 30.

22. البقرة: 213.

23. الميزان. 1 / 323 - 324.

24. المنافقون: 4.

25. أحمد بن حنبل، مسند أحمد، طبع ونشر: دار الفكر العربي، ج 3، ص 14، 17، 26، 59، ج 4، ص 366، 371، ج 5، ص 182، 189.

29. الكليني، محمد بن يعقوب، النّاشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، ط 5، 1363 ش، ج 2، ص 415.

27. ينظر: الطوسي، الأمالي، مطبعة النعمان، النجف، 1384 ه - 1964 م، ج 1، ص 121.

28. ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، مطبعة: مصطفى محمد، ، مصر، (د.ت)، ج 1، ص 495، الفصل: 53.

ص: 185

29. الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصّحيحين، مكتبة ومطبعة النصر الحديثة، الرّياض، ج 3، ص 126.

30. آل عمران: 61.

31. آل عمران: 1 - 61.

32. آل عمران: 62 - 82.

33. الطبرسی، مجمع البيان: 2 / 235.

34. وقد بيّنا هذا المعنى بشيء من التفصيل في كتابنا الموسوم (المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة)، مخطوط في مكتبة المؤلِّف.

35. ينظر: الحاكم الحسكاني، شواهد التّنزيل: 1 / 36.

36. ينظر: المصدر نفسه: 1 / 30.

37. السبزواري، السيّد عبد الأعلى، مواهب الرّحمن في تفسير القرآن، مطبعة الآداب، النّجف الأشرف، 1406 ه، 1986 م، ج 5، ص 59.

38. الاحتجاج: 1 / 76.

39. المصدر نفسه: 1 / 250.

40. الكافي: 1 / 440 ح 2.

41. الفخر الرّازي، الأربعين في أصول الدين: 475؛ القندوزي، ينابيع المودّة: 72؛ المتّقي الهندي، کنز العمال: 6 / 392.

42. ينظر: المؤلف، المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة.

43. القندوزي، ينابيع المودة: 1 / 214.

44. مقدّمة في أصول التفسير، إبن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، مؤسّسة الرسالة، ط 2، 1392 ه - 1972 م، ص 5؛ ينظر: الاتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 189.

45. جامع البيان: 1 / 30؛ ينظر: البرهان: 2 / 164.

46. الحشر: 7.

47. النساء: 80.

48. الأنعام: 82.

49. الأنفال: 60.

50. المؤمن: 60.

ص: 186

51. البرهان: 2 / 156 - 157.

52. البقرة: 187.

53. ينظر: البرهان: 1 / 15.

54 . المائدة: 38.

55 . النساء: 123.

56. ينظر: جامع البيان: 5 / 187 - 188.

57. المقدّمة: 489.

58. البرهان: 2 / 157.

59. الاتقان: 2 / 179.

60. صحيح مسلم، ج 2 ص 360، ك: الفضائل، باب: من فضائل علي بن أبي طالب؛ النّسائي، خصائص مير المؤمنين، ص 48، 81، ط الحيدريّة، ص 45، 46، 48، 61، ط بيروت، تحقيق:

المحمودي؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 1، ص 206، ح 271، 272، ج 1 ص 339 ح 410، 411 ط 1، ص 369 ح 410، 411، ط بيروت؛ الزرندي الحنفي، نظم درر السّمطين، ص 107؛ الكنجي الشّافعي ص 84 - 86، ط الحيدريّة، ص 28، ط الغري؛ الخوارزمي، الحنفي، ص 59؛ التّرمذي، صحيح التّرمذي، ج 5، ص 301 ح 3808؛ أسد الغابة، ج 4 ص 25 - 26؛ ابن حجر، الاصابة، ج 2 ص 509؛ ابن الأثير، جامع الأصول، ج 9 ص 469؛ الرّياض النّضرة، ج 2 ص 247؛ فرائد السّمطين، ج 1 ص 371 ح 302، ص 378 ح 307؛ شواهد التّنزيل: 2 / 21؛ ابن المغازلي، الشّافعي، ط 1، طهران، ص 34 ح 52؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصر، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 18 ص 24؛ ابن حجر، الصّواعق المحرقة: ط المحمّديّة، ص 177.

61. الصّدوق، عيون أخبار الرّضا، ج 2 ص 10.

62. جامع الأصول من أحاديث الرسول، أبو السعادات، مبارك بن محمد بن الأثير الجزري (ت: 606 ه)، اشراف وتصحيح: عبدالمجيد سليم، ومحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م، ج 1 ص 187.

63. جامع الأصول من أحاديث الرسول، أبو السعادات، مبارك بن محمد بن الأثير الجزري: 1 / 187.

64. النعمان، ابو حنيفة، شرح الأخبار، تحقيق: محمد الحسيني الجلالي، مؤسّسة النّشر الإسلامي، قم، ط 2، 1414 ه، ج 2، ص 308.

65. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم احمد بن عبدالله الأصفهاني (ت: 430 ه)،

ص: 187

ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت:، 1409 ه. 1988 م، ج 1 ص 67.

66. شرح نهج البلاغة، الخطبة: 159.

67. شرح نهج البلاغة: / خ 87.

68. الوسائل: 27 / 37.

69. المصدر نفسه: 27 / 177.

70. شرح نهج البلاغة: 9 / 86.

71. ابن سعد، الطّبقات الكبرى: 2 / 338؛ الصّدوق، التّوحید: 305؛ المفيد، الاختصاص: 236؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 1 / 35.

72. ينظر: ابن عساکر، تاریخ دمشق: 2 / 17؛ ابن الصّبّاغ المالكي، الفصول المهمّة: 107؛ نظم درر السّمطين: 90؛ ينابيع المودّة: 99؛ نور الأبصار: 71؛ شواهد التّنزيل: 1 / 296؛ كفاية الطالب: 233؛ إحقاق الحقّ: 4 / 301؛ منتخب کنز العمّال بهامش مسند أحمد بن حنبل: 5 / 34؛ فرائد السّمطين: 1 / 148.

73. شرح نهج البلاغة: 7 / 30. خ 92.

74. شرح نهج البلاغة: 7 / 30 - 31.

75. ينظر: المستدرك على الصّحيحين: 3 / 129؛ كنز العمّال: 6 / 153؛ إبن المغازلي، مناقب علي بن أبي طالب: 80 - 84، ح 120، 125؛ المناقب للخوارزمي الحنفي: 111؛ تاریخ دمشق: 2 / 476؛ كفاية الطالب: 221؛ ينابيع المودة: 72، 185، 234، 250، 284،؛ الفصول المهمّة: 108؛ فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي: 57 طبعة الحيدريّة، ص 25 طبعة المطبعة الاسلاميّة بالأزهر؛ إسعاف الرّاغبين بهامش نور الأبصار: 158 الطبعة السّعيديّة، ص 143 الطبعة العثمانيّة، الصواعق المحرقة: 123، الطبعة الحيدريّة، ص 75 الطبعة الميمنيّة بمص؛ مطالب السّؤول لابن طلحة الشّافعي: 31 طبعة طهران، ج 1، ص 86 طبعة النجف؛ میزان الاعتدال: 1 / 110؛ الجامع الصّغير للسيوطي الشّافعي ج 2، ص 140، طبعة مصطفی محمد، ج 2، ص 56، الطبعة الميمنيّة بمصر؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد، ج 5، ص 29 - 30؛ إحقاق الحق: 4 / 234، طبعة طهران؛ فرائد السّمطين: 1 / 157، 192.

76. المستدرك على الصّحيحين: 3 / 138؛ کنز العمال: 6 / 157؛ المعجم الصّغير للطبراني: 2 / 88؛ مناقب علي بن أبي لابن المغازلي الشّافعي: 165، 104؛ المناقب للخوارزمي الحنفي: 235؛ نظم درر السّمطين للزرندي الحنفي: 114؛ الفصول المهمّة لأبن الصّباغ المالكي: 107؛ مجمع الزّوائد:

ص: 188

9 / 121؛ أُسد الغابة: 1 / 69، ج 3 ص 116؛ تاریخ دمشق: 2 / 257؛ فضائل الخمسة: 2 / 100؛ ينابيع المودّة: 81؛ إحقاق الحق: 4 / 11؛ فرائد السّمطين: 1 / 143، الرّیاض النّضرة: 2 / 234، ط 2؛ ذخائر العقبی: 70؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 34.

77. حلية الأولياء: 1 / 63؛ المناقب للخوارزمي: 42؛ تاریخ دمشق: 2 / 487؛ مطالب السّؤول: 1 / 60؛ الميزان للذهبي: 1 / 64؛ كفاية الطالب: 212؛ ينابيع المودة: 313؛ فضائل الخمسة: 2/ 253؛ فرائد السمطين: 1 / 145.

78. حلية الأولياء: 1 / 67؛ شرح نهج البلاغة: 9 / 167؛ المناقب للخوارزمي: 219، 225؛ نظم درر السّمطين: 114؛ تاریخ دمشق: 2 / 189؛ مناقب علي بن أبي طالب: 46؛ كفاية الطالب: 73؛ مطالب السّؤول: 1 / 46؛ إحقاق الحق: 4 / 168؛ فرائد السّمطين: 1 / 144، 151.

79. تاریخ دمشق: 1 / 76؛ مجمع الزوائد: 9 / 102؛ كفاية الطالب: 187؛ الإصابة:4 / 171؛ الاستيعاب هامش الاصابة: 4 / 170؛ اسد الغابة: 5 / 287؛ میزان الاعتدال: 2 / 417؛ إحقاق الحقّ: 4 / 29؛ فرائد السمطين: 1 / 39، 140؛ السيرة الحلبيّة لبرهان الدّين الحلبي الشّافعي: 1 / 380؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 33؛ الرياض النّضرة لمحب الدين الطّبري الشّافعي: 2 / 204؛ لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الشّفعي: 2 / 414؛ البيان والتّعريف لابن حمزة الحنفي: 2 / 110؛ رسالة النّقض على العثمانيّة للإسكافي: 290؛ أرجح المطالب للشيخ عبيد الله الحنفي: 447؛ انتهاء الأفهام: 74

80. المستدرك على الصّحيحين: 3: 122؛ منز العمال: 6 / 156؛ تاریخ دمشق: 2 / 488؛ مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي: 1 / 46؛ المناقب للخوارزمي: 236؛ كنوز الحقائق للمناوي: 203؛ ينابيع المودّة: 183؛ منتخب کنز العمال بهامش مس أحمد: 5 / 33.

81. ينظر: سنن ابن ماجة: ج 1، ص 44، طبعة دار الكتب؛ صحيح التّرمذي: 5 / 300؛ خصائص أمير المؤمنين للنّسائي: 20؛ تاریخ دمشق: 2 / 378؛ المناقب للخوارزمي: 79؛ مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي: 221 وما بعدها؛ ينابيع المودّة: 55، 180، 371، طبعة اسلامبول، ص 60، 61، 212، 219، 446، الطبعة الحيدريّة؛ الصّواعق المحرقة: 1200 طبعة المحمدية، ص 73، الطبعة الميمنيّة بمصر؛ إسعاف الرّاغبين بهامش نور الأبصار: 140؛ تذکرة الخواص لسبط بن الجوزي الحنفي: 36؛ نور الأبصار: 72 ، الطبعة العثمانيّة ، ص 71، الطبعة السّعيديّة؛ مصابيح السُّنّة للبغوي: 2 / 275؛ جامع الأصول: 9 / 471؛ الجامع الصّغير للسيوطي: 2 / 56، الرّيا النّضرة: 2 / 229 / مطالب السّؤول: 18؛ المشكاة للعمري: 3 / 243؛ منتخب کنز

ص: 189

العمال بهامش مسند حمد: 5 / 30؛ فرائد السّمطين: 1 / 58 - 59.

82. ينظر: شواهد التنزيل: 2 / 213؛ المناقب للخوارزمي: 20؛ الصواعق المحرقة: 74؛ مجمع الزوائد: 9 / 102؛ ذخائر العقبي: 58؛ ينابيع المودّة: 284؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 30؛ فضائل الخمسة من الصّحاح السّتّة: 1 / 184؛ إحقاق الحق: 5: 588.

83. ينظر: الصّواعق المحرق: 74؛ شواهد التّنزيل: 2 / 223؛ تاریخ دمشق: 1 / 79، ج 2 ص 282؛ ذخائر العقبی: 56؛ كفاية الطالب: 124، ط: الحيدريّة، ص 47، ط: الغري؛ المناقب للخوارزمي: 215؛ مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشّافعي: 245. الرّياض النّضرة: 2 / 202؛ ينابيع المودّة: 185، 202، 233، 284، 315، ط : اسلامبول، ص 142، 219، 236، 238، 340، ط: الحيدريّة؛ شرح نهج البلاغة: 9 / 172؛ الجامع الصّغير للسيوطي: 2 / 42؛ منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 30؛

84. ينظر: حلية الأولياء: 1 / 65 - 66؛ تاريخ دمشق: 1 / 117؛ الرّياض النضرة: 2 / 262؛ مطالب السّؤول: 1 / 95 ط: النجف؛ شرح نهج البلاغة: 9: 173؛ المناقب للخوارزمي الحنفي: 61، الميزان للذهبي: 1 / 313؛ كفاية الطالب: 270، ط: الحيدريّة، ص 139، ط: الغري؛ منتخب كنز العمال بهامش مسند حمد: 5 / 34؛ فرائد السّمطين: 1 / 223.

85. شرح نهج البلاغة: 7 / 32.

86. المصدر نفسه: 7 / 33.

87. ينظر: شرح نهج البلاغة: 2 / 449، ج 9 ص 168، ط: مصر؛ فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ، لأحمد بن محمد بن الصديق الحسني المغربي، نزيل القاهرة، ص 34؛ اليواقيت والجواهر، للعارف الشّعراني: 172؛ ينابيع المودّة: 214، 312؛ تاریخ دمشق: 2 / 280؛ شواهد التنزيل: 1 / 78 - 79؛ المناقب للخوارزمي: 220 ؛ الفصول المهمّة لابن الصّباغ المالكي: 107؛ مفاتيح الغيب، للفخر الرّازي: 2 / 288، 700؛ مناقب علي بن أبي طالب، لابن المغازلي الشّافعي 2: 212؛ ذخائر العقبي: 93 - 94؛ الرّياض النّضرة: 2 / 290 ؛ فرائد السّمطين: 1 / 170.

88. آل عمران: 7.

89. شرح نهج البلاغة: 7 / 34.

90. ينظر: المصدر نفسه: 7 / 33.

91. ينظر: المصدر نفسه: 7 / 34.

ص: 190

المصادر والمراجع

خير ما نبدأ به القرآن الكريم.

1. - الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، 1967 م.

2. - الاحتجاج، أبو علي الفضل بن الحسن، الطبرسی (548 ه / 1153)، تعليق: محمد باقر الخرسان، دار النّعمان للطّباعة والنّشر، النجف الأشرف - العراق، 1386 ه / 1966 م

3. - إحقاق الحق وإزهاق الباطل، القاضی نور الله الحسيني المرعشي التّستري، (ت: 1019 ه)، انّاشر: مكتبة المرعشي النجفي، الطبعة الأولى.

4. - الاختصاص، محمد بن محمد بن النّعمان، الشيخ المفيد (ت: 413 ه)، المطبعة الحيدريّة، النّجف الأشرف، 1390 ه، 1971 م.

5. - الأربعين في أصول الدّين، فخر الدّين محمد بن عمر، المعروف بالفخر الرّازي (ت: 606 ه)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانيّة، حیدر آباد الدّكن، الطبعة الأولى، 1303 ه.

6. - أرجح المطالب فضائل ومناقب امير المؤمنين علي بن أبي طالب الشيخ عبيد الله الحنفي، دار الدّاعي، الطبعة الأولى، 1422 ه.

7. - أسد الغابة في معرفة الصّحابة، أبو الحسن علي بن أبي المكارم بمحمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير (ت: 630 ه)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

8. - إسعاف الرّاغبين بهامش نور الأبصار: 158 الطبعة السّعيدية، ص 143 الطبعة العثمانيّة.

9. - الاستيعاب في أسماء الأصحاب، للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن بد الله بن محمد بن عبد البر (ت: 463 ه)، تحقيق: عادل مُرشد، دار الاعلام، الطبعة الأولى، 1423 ه - 2002 م.

10. - الإصابة في تمييز الصحابة، شهاب الدين، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي، المعروف بابن حجر، ط 1، دار العلوم الحديثة، مصر، 1328 ه.

11. - الأمالي، أبو جعفر محمد بن الحسن الطّوسي (ت: 460ه)، مطبعة النّعمان، النّجف

ص: 191

الأشرف، 1384 ه، 1964 م.

12. - جلاء الأفهام في فضل الصّلاة والسلام على خير الأنام لإبن قيّم الجوزيّة (ت: 751 ه)، تحقیق: زائد بن أحمد النّشيري، دار عالم الفوائد.

13. - أنوار التّنزيل وأسرار التّأويل، أبو سعيد عبدالله بن عمر البيضاوي (ت: 685 ه)، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق ومحمد أحمد الأطرش، دار الرّشيد، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 ه، 2000 م.

14. - بحر العلوم، لأبي الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (ت: 375 ه)، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الدكتور زکریا عبد الحميد النوتي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، 1413 ه - 1993 م.

15. - البحر المحيط، ابو حيان الأندلسي (ت: 745 ه)، مطبعة السعادة، القاهرة، 1328 ه.

16. - البرهان في علوم القرآن، الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث، القاهرة.

17. - البيان والتبيين، تح: عبد السلام محمد هارون، الطبعة الثانية، مكتبة الخانجي بمصر - مكتبة المتنبي ببغداد، 1380 ه - 1990 م.

18. - البيان والتّعريف في أسباب ورود الحديث، ابراهيم بن محمد کمال الدّين الحسيني الدمشقي، المعروف باسم ابن حمزة الحسيني، مطبعة البهاء، الطّبعة الأولى، حلب، 1911 م.

19. - تاج اللغة وصحاح العربية، اسماعیل بن حمّاد، الجوهري، (ت: 393 - 398 ه)، تح: احمد عبد الغفور عطارد، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، ط 4، 1407 ه.

20. - ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، مطبعة: مصطفى محمد، ، مصر، (د.ت).

21. - تاريخ العرب في الإسلام، الدكتور جواد علي، مطبعة المجمع العلمي العراقي، الطبعة الأولى، بغداد.

22. - تاريخ العرب في الإسلام، الدكتور جواد علي، مطبعة المجمع العلمي العراقي، الطبعة الأولى، بغداد.

ص: 192

23. - تاريخ مدينة دمشق، الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشّافعي، المعروف بابن عساکر (ت: 571 ه)، تحقيق: محب الدّين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر.

24. - التبيان، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقیق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، مطبعة النعمان، النجف، 1358 ه. 1965 م.

25. - التحرير والتنوير، المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن عاشور، مؤسّسة التاريخ، بيروت - لبنان، ط 1.

26. تذکرة الخواص، لسبط بن الجوزي الحنفي (ت: 654 ه)، تحقيق: الدكتور عامر النّجّار، الناشر: مكتبة الثّقافة الدّينيّة، الطّبعة الأولى ، 1429 ه - 2008 م.

27. - تفسير القرآن الحكيم المعروف بالمنار، محمد رشید رضا، ط 2، دار الفكر.

28. - تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد ابن ادریس الرازي (ت: 327 ه)، تح: أسعد محمد الطيب، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1424 ه - 2003 م.

29. - التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، الدكتور نجم الفحام، دار المدينة الفاضلة، ط 1.

30. - التوحيد، الصدوق (ت: 381 ه)، دار المعرفة، بيروت، 1387 ه.

31. - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن احمد، الأنصاري، القرطبي، تحقيق: الشيخ محمد بيومي ، أ / عبد الله المنشاوي، ط 2، مكتبة الإيمان، مصر، 2006 م.

32. - جامع الأصول من أحاديث الرسول، أبو السعادات، مبارك بن محمد بن الأثير الجزري (ت: 606 ه)، اشراف وتصحيح: عبد المجيد سليم، ومحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م.

33. - جامع البيان عن تأویل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، (ت: 310 ه)، قدَّم له: الشيخ خليل الميس، ضبط وتوثيق وتخریج: صدقي جميل العطَّار، دار الفكر، بیروت، 1425 ه - 1426 ه، 2005 م.

34. - الجامع الصّغير في أحاديث البشير النّذير، جلال الدّين عبد الرّحمن بن أبي بكر (ت:

ص: 193

911 ه)، دار الفکر، بیروت، لبنان، 1401 ه / 1981 م.

35. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم احمد بن عبد الله الأصفهاني، (ت: 430 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409 ه - 1988 م.

36. - خصائص أمير المؤمنين، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب، النّسائي (ت: 303 ه)، تحقيق: محمد هادي الأميني، مكتبة نينوى الحديثة، طهران، ایران.

37. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، الإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ط 1، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1403 ه - 1983 م.

38. - ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربی، محبّ الدّين أحمد بن عبد الله (ت: 694 ه)، مكتبة القدسی، دار الكتب المصريّة، 1356 ه.

39. - روح البیان، اسماعيل حقّي، البروسوي، (ت: 1137 ه)، دار الفكر، 1429 ه - 2008 م)، بيروت - لبنان.

40. - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 ه - 1999 م.

41. - الرّياض النضرة في مناقب العشرة، ابو العباس، حمد بن عبد الله، محبّ الدّين الطّبري (ت: 694 ه)، دار الكتب العلميّة، الطبعة الثّانية، 2010 م.

42. - سنن ابن ماجة، الحافظ أبو عبد الله محمد بن یزید القزويني، ابن ماجة، (ت: 207 ۔ 275 ه)، حقَّق نصوصه، ورقَّم كتبه، وأبوابه، وأحاديثه وعلَّق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة.

43. - السيرة الحلبيِّة المسمّى إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، بهامشه السيرة النّبويّة والآثار المحمّديّة، أحمد زيني دحلان، المطبعة الأزهريّة، دار المعرفة، الطّبعة الثّالثة، 1351 ه - 1932 م.

44. - شرح الأخبار، تحقيق: محمد الحسيني الجلالي، مؤسّسة النّشر الإسلامي، قم، ط 2، 1414 ه.

45. - شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ابو حامد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني

ص: 194

(ت: 656 ه)، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1385 ه - 1965م.

46. - شواهد التّنزيل لقواعد التّفضيل، الحاكم الحسكاني، عبيد الله بن أحمد الحذاء الحنفي الّيسابوري (من أعلام القرن الخامس الهجري)، تحقيق وتعليق: محمد باقر المحمودي، مؤسّسة الطّبع والنّشر التابعة لوزارة الثّقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، مجمع إحياء الثّقافة الإسلاميّة، الطبعة الأولى، طهران، إيران، 1411 ه، 1990 م.

47. - صحيح التّرمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى (ت: 279 ه)، بشرح: أبي بكر بن العربي، القاهرة، 1353 ه.

48. - صحیح مسلم، مسلم بن حجّاج النّيسابوري (ت: 261 ه)، دار الكتب، بيروت، 1977 م.

49. - الصّواعق المحرقة في الرّد على أهل البدع والزندقة، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن حجر الهيتمي، تحقیق: مصطفى بن العدوي، الشّحات أحمد الطّحان، عادل شوشة، مكتبة فيّاض، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1429 ه / 2008 م.

50. - طبقات ابن سعد، الطبقات الکبری، تحقیق: ادورد سخاو لیدن، الطّبقات الکبری، دار صادر ، دار بیروت، بیروت، 1380 ه، 1960 م.

51. - عيون أخبار الرّضا، محمد بن علي بن بابویه، الصّدوق (ت: 381 ه)، المطبعة الحيدريّة، النّجف الأشرف، 1390 ه، 1970 م.

52. - فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي، أحمد بن محمد بن الصديق الحسني المغربي، نزيل القاهرة (ت: 1380 ه)، تحقيق: الدكتور عماد سرور، طبعة الحيدريّة، طبعة المطبعة الاسلاميّة بالأزهر، الطبعة الأولى، 354 ه.

53. - فرائد السّمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين، ابراهيم بن محمد بن المؤيد بن عبد الله بن علي الجويني الخرساني (ت: 722 ه)، تحقيق: محمد باقر المحمودي، مؤسّسة المحمودي للطباعة والنّشر، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1398 ه / 1978 م، 1400 ه / 1980 م.

ص: 195

54. - الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، علي بن محمد بن أحمد، المعروف بابن الصّبّاغ المالكي المكّي (ت: 855 ه)، تحقيق: سامي الغريري، دار الحديث، الطبعة الأولى، قم، إيران، 1422 ه.

55. - فضائل الخمسة من الصّحاح السّتّة، مرتضى الحسيني الفيروزآبادي (ت: 1410 ه)، النّاشر: منشورات فيروز آبادي، قم، إيران.

56. - الكشاف عن حقائق التأويل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، تحقیق: خليل مأمون شيحا، ط 2، دار المعرفة، بیروت، لبنان، 1426 ه - 2005 م.

57. - كفاية الطالب في مناقب علي بن ابي طالب عليه السلام، محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشّافعي ( المقتول سنة 658 ه)، تحقيق: محمد هادي الأمين، النّاشر: دار إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، الطبعة الثّالثة، 1404 ه.

58. - الكافي (الأصول)، ابو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق، الكليني (ت: 329 ه)، دار الكتب الاسلاميّة، طهران، 1383 ه.

59. - كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق، محمد بن عبد الؤوف بن تاج الدّين بن علي بن زین العابدین، المعروف بالمناوي الشّافعي، تحقیق: صلاح محمد عويضة، دار الكتب العلميّة، الطبعة الأولى، 1996 م.

60. - لسان العرب، ابو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم ابن منظور الأفريقي المصري، (ت: 711 ه)، دار صادر، بيروت، (د.ت).

61. - لسان الميزان، ابو الفضل احمد بن علي بن محمد بن احمد بن حجر العسقلاني (ت: 852 ه)، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1390 ه / 1971 م.

62. - مجمع البيان في تفسير القرآن، أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقیق: لجنة من العلماء، قدَّم له: الإمام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي، ط 2، مؤسَّسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1425 ه - 2005 م.

63. - مجمع الزّوائد، ابو الحسن نور الدين علي بن ابي بكر بن سليمان الهيثمي (ت: 807 ه

ص: 196

)، تحقیق: حسام الدين المقدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 ه، 1994 م.

64. - المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة، الدكتور نجم الفحّام، لا يزال مخطوطاً في مكتبة المؤلّف.

65. - المستدرك على الصّحيحين، ابو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد، الحاكم النيسابوري (ت: 405 ه)، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، در المعرفة، بيروت، لبنان، (د. ت) وطبعة: مكتبة ومطبعة النصر الحديثة، الرّياض.

66. - مسند أحمد، أحمد بن حنبل، وبهامشه منتخب کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، طبع ونشر: دار الفكر العربي.

67. - مشكاة المصابیح، محمد بن عبدالله، الخطيب التّبريزي، تحقیق: محمد ناصر الدّين الألباني، الناشر: المكتب الاسلامي، الطبعة الثانية، 1399 ه، 1979 م.

68. - مصابيح السّنّة، ابو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشّافعي (ت: 516 ه)، تحقيق:

ضحى الخطيب، دار الكتب العلميّة، 1998 م.

69. - مطالب السّؤول في مناقب آل الرّسول، کمال الدّين محمد بن طلحة نصيبي الشّافعي (ت: 652 ه)، تحقيق: ماجد بن العطيّة، مؤسسة البلاغ، الطبعة الأولى، بيروت، 1419 ه.

70 - المعجم الصّغير، ابو القاسم سلیمان بن احمد الطّبراني (ت: 360 ه)، دار الكتب العلميّة، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، (د.ت).

71. مفاتيح الغيب، الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن ابن علي التميمي البكري الرازي الشافعي، ط 3، دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، 2009 م.

72. - مقتل الحسين، ابو المؤيد الموفّق بن احمد الخوارزمي (ت: 568 ه)، تحقیق ۔ محمد السّماوي، دار نور الهدى.

73. - مقدمة في أصول التفسير، ابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، ط 2، مؤسَّسة الرسالة، 1393 ه - 1972 م.

74. - المناقب، الموفق بن احمد بن محمد المكّي الخوارزمي (ت: 568 ه)، تحقيق: الشّيخ مالك المحمودي، مؤسّسة النّشر الاسلامي، قم.

ص: 197

75. - مناقب امير المؤمنين علي بن ابي طالب، ابو الحسن علي بن محمد الواسطي، المعروف بابن المغازلي (ت: 483 ه)، دار مكتبة الحياة، الطّبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1400 ه، 1980 م.

76. - منتخب کنز العمال، علاء الدّين علي بن حسام الدّين، الشّهير بالمتّقي الهندي (ت: 957 ه)، طُبع بهامش مسند الامام احمد، دار الفکر بیروت.

77. - مواهب الرحمن، عبد الأعلى السبزواري، ط 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1424 ه - 2003 م.

78. - میزان الاعتدال في نقد الرّجال، شمس الدين محمد بن احمد بن عثمان بن قایماز الذهبي، (ت: 748 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.

79. - الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 1427 ه - 2006 م.

80 - نظم درر السّمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسّبطين، جمال الدّين محمد بن يوسف بن الحسن بن محمد الزرندي الحنفي المدني، تحقيق: السيد علي عاشور، دار إحياء التّراث العربي، الطبعة الأولى، 2004 م.

81. - النكت والعيون، للماوردي، أبو الحسن محمد بن حبيب الماوردي البصري، (ت: 450 ه)، راجعه وعلّق عليه: عبد المقصود بن عبد الرحيم، مؤسّسة الكتب الثّقافيّة، ط 2، 1428 ه - 2007 م، بيروت - لبنان.

82 - نور الابصار في مناقب آل بيت النّبي المختار، مؤمن بن حسن مؤمن الشّبلنجي، تحقیق: الدكتور محمد سید سلطان والاستاذ عبد المنعم علي سليمان، دار جوامع الكلم، القاهرة.

83. - ينابيع المودّة لذوي القربی، سلیمان بن ابراهيم الحنفي القندوزي (ت: 1294 ه / 1877 م)، تحقیق: سيّد علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة، إيران، 1416 ه - 1996 م.

84. - الیواقیت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشّعراني، دار إحياء التّراث العربي.

ص: 198

الاستعارة أداة للمسكوت عنه في نهج البلاغة فن صناعة الخطاب

اشارة

أ. د. نجاح فاهم العبيدي

م.م. فراس تركي عبد العزيز

جامعة كربلاء - كلية التربية للعلوم الإنسانية

ص: 199

ص: 200

المقدمة

توجّت الاستعارة الدراسات الدّلالية؛ لأنها الصورة التي تتصدر بنية الكلام الانساني بشكل كبير؛ كونها ألمع الصور البيانية نظراٌ لقيمتها التعبيرية المكثفة وباعتبارها موضوع تفكير فلسفي ولغوي وجمالي ونفسي.

استطاع المسكوت عنه الولوج من خلالها في بنية الخطاب، جاعلاً إياها أداة من أدواته الفاعلة والمؤثر، لما تمتلك من ميزات، تجعل القارئ أو المستمع يحسُّ بالمعنى أكمل إحساس، وهذا العمق الدلالي يختلط مع مظاهر أخرى منها ((أنها أسحر سحراً وأملأ بكل ما يملأ صدراً، ويمتع عقلاً، ويؤنس نفساً ويؤقر أنساً، وأهدى إلى أن يهدي إليك عذارى، قد تخير لها الجمال، وعني به الكمال))(1).

واذا كان المسكوت عنه محورَ ارتکازٍ تقوم عليه علاقة النص بالقارىء من خلال حث المتلقي على استشكاف الدلالة المخبؤة داخل النص(2). فانه والوصف هذا يعد بؤرةً وبوتقةً تنصهر فيها كل حيثيات النص؛ لكنه والوصف هذا - المسكوت عنه - قابل ايضاً لأن يكون هو الآخر محور ارتکاز؛ للكشف عنه في عملية بحث عن صيَغِهِ التي جاء بها، فهي الأخرى نشاط دلالي تسهم في تقليص شقة البحث عن الهدف المقصود من خلال ما تعارف عليه من عملها، والاستعارة هي احدى صيغ المسكوت عنه.

سنحاول في هذا البحث بیان أداة المسكوت عنه الاستعارة في نهج البلاغة، من خلال التنظير لها، ومن ثم التطبيق على خطاب نهج البلاغة لاستكشاف المسكوت عنه وبیان دلالته.

وقبل الحديث عن أهمية الاستعارة وميزاتها، لابدّ لنا من أن نتفيّأ قليلاً بظلال تعريفها اللغوي والاصطلاحيّ.

ص: 201

أولاً: الاستعارة لغةً

الاستعارة في اللغة من العارية أي نقل الشيء من شخص إلى آخر، حتى تصبح تلك العارية من خصائص المعار إليه، والعارية منسوبة إلى العارة، وهو اسم من الإعارة. تقول أعرته الشيءَ أعيره إعارة. ويقال استعرت منه عارية فأعارنيها.(3)

جاء في مختار الصحاح مادة (ع و ر): واستعار ثوباً فأعاره إياه. واعتوروا الشيء تداولوه فيما بينهم، وكذا تعوّروه تعوّراً وتعاوراً(4).

واشتقاقها من عارَ الفرسُ اذا ذهب؛ لأن العاريةَ تذهب من جهة المعير الى المستعيرِ لها من الأعيان، وهكذا حالُها اذا كانت مستعملة في الأمور المجازية.

ثانياً: الاستعارة اصطلاحاً

تناول القدامى مفهوم الاستعارة وكان لهم الفضل في تأصيلها وتأسيسها. ولعل نظرة أرسطو للاستعارة شكّلت في مراحل تاريخية متعاقبة قاعدة لعديد من الدراسات القديمة والحديثة، على حد سواء، فقد عرفها على أنها: ((إعطاء الشيء اسماً يعود على شيء آخر بالانتقال من النوع إلى الجنس ومن الجنس إلى النوع ومن النوع إلى النوع والنقل بالتناسب)).(5) ولا يخفى على أي دارس بأن الجاحظ من أوائل من صرف وجهه إليها إذ عرفها ب (تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه)(6) وعرفها المبرّد بأنها: ((نقل اللفظ من معنى إلى معنى)).(7)

ونشير هنا إلى أن ابن قتيبة زاد على تعريفهما ذكر العلاقة بين المعنيين بالإشارة إلى علاقتي السببية أو المشابهة. وقد حذا الرّماني حذو سابقيه فعرفها بقوله: الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة. (8) كما أنه رأى في الاستعارة بنية متكاملة، فإظهار الدلالة وإبانتها وحسن

ص: 202

إفهام المعاني هي الهمّ الأساسي بين هموم الرماني.(9)

وعرفت الاستعارة بالدراسات الحديثة بأنها ((الاستعارة الملكة التي نحيا بها)). (10) فالمتكلم غالباً لا يستطيع أن يصوغ جملًا موثرةً دون اللجوء إلى الاستعارة. فقد تكون الاستعارة الجمرة التي تضيء وتؤلم أحياناً لتوقظ فينا ما كان غافياً.

ومن خلال تحديد مفهوم النص بوصفه إنتاجية للخطاب. طرحت جوليا کریستیفا مسألة الاستعارة، إذ رأته ((لا يكتفي بتصوير الواقع أو الدلالة عليه وإنما يشارك في تحريکه وتحويله)).(11)

وما نميلُ إليه تعريف أبي الحسن محمد بن أحمد بن طباطبا المشهور بالعلويّ (250 ه.) فيما ذهب إليه في تعريفه المختار من أن الاستعارة ((تصيرك الشيء الشيء وليس به، وجعلك للشيء وليس له بحيث لا يلحظ فيه معنى التشبيه صورة ولاحكماً)). (12)

ثالثاً: أهمية الاستعارة

تشكل الاستعارة أساساً في المقاربات الدلالية والجمالية، التي تعنى بالإبداع، وهدفها صياغة قوانين عامة تمثل ما يطرد من أساليب وصور تتضامن لتمنح النص جمالية وخصوصية، كما لو أنها صورة مستجدة لها استقلاليتها وحريتها عند المبدع فتعطينا باليسير من اللفظ الكثير من المعاني وهي ((التي تعطي قبل كل شيء الجلاء والمتعة جواً غريباً)).(13) وفي طياتها تتضمن المسكوت عنه، الذي يجعل الخطاب حيوياً.

أما فائدة الاستعارة عند عبد القاهر الجرجاني فتتلخص في إبراز ((الفكرة واضحة جلية، وإظهار الصورة في مظهر حسن تعشقهُ النفوس، وتميل إليه

ص: 203

القلوب، وتهتزُّ له العواطف، وتتغذى به الأسماع))(14) وقد عدّها أهم أركان الإعجاز القرآني.

وفي ظل هذا المفهوم يغدو النص مجالاً لمارسات دالة، وهو ((ما يجعل الاستعارة عنصراً رمزياً، يشتغل داخل النص، وينبثقُ ضمن مجموعة من الأطر والمفاهيم الاجتماعية واللسانية)) (15).

واكتفى جونسون بالتعرض لكثير من جوانب النظرية الغربية للأخلاق وأبرز دور الاستعارة في تشكيل المفاهيم الأخلاقية: ((حيث تسقط قوانين الطبيعة على قوانين الأخلاق)).(16)

ويمكن القول إنّ إضاءة الاستعارة وإشعاع دلالتها، لا ينكشفان إلا لمن يعرف ويحسّ بأنها ليست من هذا المحيط الذي حلّت به وعند إدراك هذه الحالة الدلالية يتحقق عنصر المفاجأة والمباغتة، مما یکسرُ الألفة والتتابع العادي لسلسلة الدلالات في السياق. (17)

وهذا الأمر يحتاج إلى ذائقة لغوية وفهم واسع لقيمة الاستعارة في الخطاب. وامكانية جعلها أداة للمسكوت عنه.

ويعتمد التحليل الذي يقترحه سبربر وولسن للاستعارة على فكرة مفادها، أن المخَاطَبَ المؤَوِّلَ لقول استعاري سيحصل على عدد من الاستلزامات الصادقة. (18) ولابد من الإشارة إلى أن هناك فرقاً شاسعاً فاصلًا بين مقاربة (سيرل) لوقائع اللغة ومقاربة (سبربر وولسن) فسيرل يدافع عن فكرة مبدأ قابلية الإبانة الذي يقرّ بإمكان تمثيل أية فكرة بقول حرفي. وعلى عكس ذلك تدافع نظرية المناسبة عن توجه يقرّ بوجود بعض الأفكار لا يمكن التعبير عنها إلا بأقوال غير حرفية. وهنا يكمنُ كل الفرق بين النظرية التواضعية مثل نظرية (سيرل) والنظرية

ص: 204

(الاستدلالية) مثل نظرية سبربر وولسن. (19)

لقد اجمع المشتغلون على الاستعارة من القدماء على أنها تشبیه حذف احد طرفيه، ويحضر الطرف الآخر. يغيب كلياً في الاستعارة التي أطلقوا عليها اسم التصريحية، التي عرفوها بأنها استعارة يصرح فيها بالمستعار منه، بينما يحذف المستعار له، كما تبين البنيات المشهورة لديهم.

أ. رأيتُ أسداً

ب. رنت لنا ظبية

ج. كلمتُ بحراً

فالمستعار منه حاضر في هذه البنيات، وهو على التوالي، الأسد والظبية والبحر. أما المستعار له فمتوارٍ محجوب، نهتدي إليه بواسطة بعض القرائن المقامية. وعلى التوالي الرجل الشجاع والمرأة الجميلة والعالم.

ويغيب المستعار منه في الاستعارة التي أطلقوا عليها اسم المكنية، ويبقى على أحد لوازمه التي تعيّنه. اما المستعار له فيصرح به كلياً، كما في الآية القرآنية ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)) (20) التي صرح فيها بالمستعار له الذي هو الابن، بينما حذف المستعار منه الذي هو الطائر المستكين، وأبقى على أحد لوازمه الذي هو الجناح المخفوض.(21)

مما تقدم يمكن القول إنّ الاستعارة هي عبارة عن عملية ذهنية، تقوم على التقريب بين موضوعين أو وضعين، وذلك بالنظر إلى أحدهما من خلال الآخر. ومن خلالها يمكن النظر إلى المسكوت عنه والوصول إليه من خلال النظر بالمصرح به والبنية الظاهرة للخطاب، لمعرفة مقاصد المتكلم من كلامه.

ص: 205

بعد العرض النظري للإستعارة، نحاول الإجابة عن التساؤل: كيف طبق الإمام علي (عليه السلام) المسكوت عنه بوساطة الاستعارة؟ وكيف قدّمها للمتلقي؟

ونجيب عن هذا التساؤل بالنماذج التطبيقية من نهج البلاغة.

النموذج الاول

تحدّث الامام علي (عليه السلام) عمّن أطاعوا الشيطان وسلكوا مسالکه قائلاً:

«في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابکها»(22)

المستعار له في هذا النص هو (الفتنة)، والمستعار منه (الجمل والثور)، ونوع الاستعارة (مكنية) لأنه لم يصرح بالمستعار منه في هذا الخطاب، وأنما ذكر لازم من لوازمه، حين أسند الفعلين: (داست) و(وطئت) إلى الفتن، وعدّى الأوّل منهما إلى الأخفاف بوساطة حرف الجر، والثاني إلى الأظلاف، غیّب الهويّة الموضوعيّة المجرّدة لتلك الفتن، وأكسبها هويتين فنيتين هما: هويّة الجمل التي تبدّت من خلال الأخفاف، وهويّة الثور التي ظهرت من خلال الأظلاف.

وهاتان الهويّتان البهيميّتان تقدّمان الفتنة من خلال المسكوت عنه قوّة هائلة متمكنةً من السحق، غير مدركة مَن تسحق، ولا ما ينجم عن هذا السحق. وهذا أمر شديد البشاعة بالنسبة إلى عربيٍّ تلك المرحلة الحضارية. وحين يتصوّر الخائضون غمار الفتنة أنهم بعض وقودها لابد من أن يأخذ الرجل قلوبهم فيرعووا.

والاستعارة هي أكثر فائدة من التشبيه؛ لقدرتها على الإيحاء وإثارة أكبر قدر ممكن من التداعيات في ذهن المتلقي (23).

يعني ذلك أن أداة المسكوت عنه (الاستعارة العلويّة) لم تقم بالوظيفة

ص: 206

التعويضية وحدها، وظيفة الكشف عن خصوصيّة رؤية الإمام (عليه السلام) إلى الفتنة، ولكنّها قامت بوظيفة ثانية، هي الوظيفة الإقناعيّة.

ولم ترتكز العملية الإقناعية، عبر أداة المسكوت عنه، على المنطق السببي، ولكن على إخراج المتلقي من واقعة الموضوعي والدخول به إلى عالم فني تتبدّی الفتنة فيه جملاً وثوراً. ويصبح المتلقي معه جزءاً من آليات اشتغال هذا العالم المخيف الذي يدخل الخوف من الفتنة قلبه فيبتعد عنها.

كان دفع الفتنة همّاً محورياً عند الامام عليّ (عليه السلام)، خصوصاً في زمن خلافته، فالفتنة التي شهدت ولادتها باكراً في الحياة الإسلامية وكانت على شكل جنين باتت المعضلة التي رافقت عليّاً (عيه السلام) منذ اليوم الأوّل لتوليه الخلافة وحتى استشهاده (عليه السلام). والدنيا كانت الفاعل الأساسيّ الذي أمدّ الفتنة بكل ما تحتاج إليه من وقود، كيف لا، وقد قُيّض لها رجال أجادوا استثمار الضعف البشري حيالها، واستخدموها مطيّة لمآربهم. ما دعا الامام علي (عليه السلام) استعمال المسكوت عنه في خطابه هذا من خلال أداة (الاستعارة) لبيان هول الفتنة وأثارها السلبية العظيمة.

النموذج الثاني

قال الامام علي عليه السلام: «أَلاَ وَإِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ اَلْإِنَاءِ اِصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلاَ وَإِنَّ اَلْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلْآخِرَةِ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلدُّنْيَا فإنّ كلّ ولد سيلحق بأبيه (بأمّه) يوم القيمة»(24).

اطلاق الصبابة استعارة لبقيّتها القليلة، والقلّة هي الجامع بين المستعار منه

ص: 207

(الصُبَابَةٌ) والمستعار له (الدنيا)، والصبابة بقية الماء في الإناء واصطبها صابها مثل قولنا أبقاها مبقيها أو ترکها تارکها(25). فلو ارتشف الظمآن البقية الباقية من الماء لم يرتو، وكذلك عمر الانسان وان طال وانتهب فيه جميع الملذات فما هو بشيء إلا اذا كان وسيلة للنجاة في يوم تشخص فيه الأبصار، وتكشف فيه الأسرار.

قال الرضي (رحمه الله): أقول: الحذاء، السريعة (26). للدلالة على سرعة زوال الدّنيا وفنائها كي يتنبّه الغافل عن نوم الغفلة ويعرف عدم قابليتها لأن يطال الأمل فيها.

لقد كان الواقع الاجتماعي في زمن الامام يبعد بين الانسان وبين هذه الواقعية وينأى به عنها. وهذا النحو من العمل للدنيا يسبب التفسخ الاجتماعي، فهو لا يقتصر بآثاره الضارة على الفرد وحده، وإنما يمتد بهذه الآثار إلى المجتمع.

تعامل الامام (عليه السلام) مع الدنيا بمثل ما تعامل به مع الفتنة. وإذا ما قُدِّمت الفتنة بشاعة تدفع للتخلّص منها، فإنّ جهداً أشدّ قد بُذل لتخليص الناس من شرور الدنيا. وهو (عليه السلام) عندما يتحدّث عن الدنيا، فإنّه غالباً ما يبدأ حديثه بحرف الاستفتاح (ألا)؛ لما فيه من طاقة تنبيهيّة لافتة تهيّئ المتلقي لنقله من عالم إلى عالم.

ولا يكتمل خروج المتلقي من عالمه الواقعي، مع هذه الاستقلالية اللافتة، إلاّ مع الهويّة الجديدة التي صارت إليها الدنيا بفعل الاستعارة، إذ باتت الدنيا، في أصلها، مع هذه الهويّة ماءً في إناء. والإناء مهما كان كبيراً يظلّ في نظر المتلقي محدود السعة، فكيف إذا لم يكن قد بقي فيه إلا صبابة، بقيّة عافها صاحبها؛ لأنها لا تبلّ ظمأ.

إن هويّة كهذه لا تمكن المتلقي من امتلاك هذه الدنيا وفاق خصوصيّة

ص: 208

رؤيته إليها فحسب، ولكنها تدخل في قناعاته هزال قيمة الدنيا الغائبة ولاسيما أنّ انحسارها مترافق مع إقبال ما يضادّها، نعني به الآخرة. «ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت»(27) إقبالًا يجعلها تشكل مع الدنيا ثنائية تتعالى فيه الآخرة بشكل حاسم، وذلك وسط دعوة للانتماء إليها، إذ يوجد «لكلّ منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا»، وأهميّة الانتماء في الاستعارة العلويّة عائدة إلى أنه انتماء اختياري غير مفروض. وإذا كان الانتماء إلى هذه الاسرة أو تلك انتماء قدرياً لا قبل للإنسان بتغييره، فإننا مع علي (عليه السلام) أمام انتماء إسلامي يحدّد المرء موقعه فيه.

لقد أدخلت أداة المسكوت عنه (الاستعارة) المتلقي عالماً رؤيوياً تسود الأسريّةَ فيه قيمٌ جديدة يذهب معها خيال كلّ متلقّ بالقدر و بالاتجاه الذي تتيحه له رؤيته الخاصة. إنه شريك بقوّة الاستعارة في إنتاج ذلك العالم، وفي الانتماء إليه. لذلك هي مُنتج ثقافي واجتماعي في تمتين النص لتحويله الى خطاب.

وفي موضع ثانٍ من النهج يقول الامام (عليه السلام) (ازهدوا في هذه الدنيا التي لم يتمتع بها أحد كان قبلكم ولا تبقى لاحد من بعدكم، سبيلكم فيها سبيل الماضين، قد تصرمت وآذنت بانقضاء، وتنكر معروفها فهي تخبر أهلها بالفناء، وسكانها بالموت، وقد أمر منها ما كان حلوا، وکدر منها ماكان صفوا، فلم تبق منها الاسملة كسملة الادواة، وجرعة كجرعة الاناء لو تمززها العطشان) (28)

يرسل الإمام (عليه السلام) في هذا الخطاب سلسلة من الاستعارات التي تهيّء المتلقي إلى الانقطاع الكليّ عن عالمه السببي من مثل: «إنّ الدنيا قد تصرّمت، وأذنت بانقضاء، وتنكر معروفها، وأدبرت حذّاء». تأتي بعدها هويّة السملة التي أُسبغت على الدنيا، في توازٍ مع هويّة الصبابة، لتصل بالمتلقي إلى ذلك الانقطاع

ص: 209

الكليّ، إذ «لم يبق فيها إلا سملة كسملة الأدارة، أو جرعة كجرعة المَقلة، لو تمزّزها الصديان لم ينقع». وإذا كانت السَّمَلة، الماء القليل يبقى في أَسفل الإِناء (29)، وهي هويّة فنية للدنيا تبرز مدى ضآلتها، فإن علياً (عليه السلام) قد عضدها بأداتين تسهمان في إظهار شحّ تلك الضآلة.

الأولى هي الأداوة، بما هي إناء ماء التطهّر، تمثل السملة فيه، ما علق في قعره من رطوبة، علامةً على ما لا يمكن الإفادة منه. والثانية فيه هي المَقلة، تلك الحصاة التي تقاس بها الجرعة المحدّدة للفرد حين تقلّ المياه.

وإذا كانت الجرعة في ظروف شح الماء هي الدنيا، فإنّ قوله (عليه السلام): «لو تمزّزها الصديان لم ينقع» علامة شديدة الإيحاء بخروج الدنيا من دائرة المفيد. والعربيّ الذي تشكّلت ذاكرته التاريخية على قاعدة الماء تبدو الدنيا أمام ناظريه هوانا فوق هوان، کريهة الوجه يذهب كلّ متلقّ في تصوّر بشاعتها مذهباً تمكّنه منه خصوصيّة رؤيته إلى العالم. وإذا كانت الاستعارة العلويّة الخاصّة بالدنيا استعارة وظيفيّة تهوّن أمر الدنيا، فإن هذا التهوين تهوین وظیفيّ أيضاً، يحاول تسفيه الفتنة من خلال تسفيه الأساس الذي قامت عليه وهو الدنيا بكل ما فيها من دنو واضمحلال وزوال.

النموذج الثالث

أشار عليه السلام بكلامه إلى المنافقين الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللهّ، وغلب على حواسهم، وتصرّف في مشاعرهم فقال: (اِتَّخَذُوا اَلشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاَكاً وَاِتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي

حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ اَلزَّلَلَ وَزَيَّنَ لَهُمُ اَلْخَطَلَ)(30).

ص: 210

الجملة الأولى فيها كناية، حيث تحدد طبيعة العلاقة بين (أهل النفاق والفتن) و(الشيطان)، تلك العلاقة التي كان الشيطان قوام امورهم ونظام حالهم فجعلوه وليا لهم وسلطانا عليهم متصرّفا فيهم بالأمر والنّهي کما قال سبحانه: «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (31) وقال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ» (32). وهذه الكناية تمهد للاستعارة في الجملة التي بعدها - وهو ما نسميه تضافر أدوات المسكوت عنه - وكأن هناك تدرج لنقل المتلقي الى عالم أخر، من عالمه الى عالم رؤيويّ يصنعه الامام (عليه السلام)، مستهدفا الابلاغ والتأثير بالمتلقي في آن واحد.

وأمّا الجملة الثانية، فقد استعمل فيها الاستعارة، في كلمة (أَشْرَاكاً) جمعا لشَرَك، تخلع فيه الاستعارة عن الشيطان، من جهة أولى، هويته الحقيقية مسبغة عليه هويّة الصياد وما تقتضيه مهنة الصيد من مراوغة واحتيال، وتجرّد أهل النفاق والفتن، من جهة ثانية، من هويتهم الآدميّة، منحدرة بهم نحو التشييء عبر هويّة الأشراك.

فإنّه لمّا كان فائدة الشّرك اصطياد مایراد صيده وكان هؤلاء القوم بحسب ملك الشّيطان لآرائهم وتصرّفه فيهم على حسب حكمه أسباباً لدعوة الخلق إلى مخالفة الحقّ، ومنابذة إمام زمانهم وخليفة اللهّ في أرضه، اشبهوا الأشراك لاصطيادهم الخلق بألسنتهم وأموالهم وجذبهم إلى الباطل بالأسباب الباطلة التي ألقاها إليهم الشّيطان ونطق بها على ألسنتهم فاستعار لهم لفظ الاشراك.

وحين تلين عريكة أهل الفتنة للشيطان (الصیّاد)، تدخل الاستعارة طوراً جديداً، فيحدث تحوّل في هويّتي كلّ من الشيطان وأهل الفتنة. يصير الشيطان أنثي الطير المشؤومة المتئمة، ويصير صدر أهل النفاق والفتن خربة تأوي إليها

ص: 211

البوم والغربان. وهذه صورة من أبشع صور حضور الشيطان. هذا الحضور الذي يمثّل المكوّن المحوري بين مكوّنات بنية النفاق الفتن. وحين يصير الشيطان جزءاً من تلك البنية تتبدى خطورتها أمام ناظري المتلقي فتكون الحجة عليهم دامغة.

والشيطان قوام الباطل ومخالفة الحق، فقد اتخذهم الشيطان لنفسه شرکاء في إضلال الخلق وإغوائهم، وحبائل صيد الغافلين الجاهلين. (فیاض وفرّخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم)(33). ذکر عليه السلام مقدار تصرف الشيطان في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، فصّور الشيطان بالطائر فان الطيور إذا باضت في مكان أقامت في ذلك المكان، ومكثت اياما حتى يخرج إفراخها، فاذا خرجت أفراخها لم تزل تجول في تلك النواحي مع أفراخها، فكذلك الشيطان باض في صدورهم أي لازم قلوبهم بالقاء الوساوس، فبقيت تلك الوساوس في قلوبهم حتى قويت، ثم أمرهم بتربية تلك الأفراخ، فكما أنّ الأم تضع طفلها في حجرها وتربّیه كذلك المنافقون كانوا لا يفارقون الشيطان ولا يفارقهم.

(فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم )(34) القلب هو الملك المتصرف في البدن، وله الرئاسة التامة على جميع الأعضاء والجوارح والمشاعر الظاهرة والباطنة، ولما صارت تلك القلوب من مستعمرات الشيطان صارت الأعضاء والجوارح تحت تصرفه وعند إرادته، ولهذا كانوا ينظرون إلى ما يريد الشيطان، ويتكلمون بما يحب الشيطان ولما صار الأمر هكذا (ركب بهم الزلل، وزين لهم الخطل) أرشدهم إلى الخطأ وزين لهم المعاصي والذنوب والعقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة.

ص: 212

النموذج الرابع

قال عليه السلام: ((اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللِّهَ أَنَّ اَلْمُؤْمِنَ لاَ يُمْسِيِ وَلاَ يُصْبِحُ إِلاَّ وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ فَلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَمُسْتَزِيداً لَهَا فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَاَلْمَاضِینَ أَمَامَكُمْ قَوَّضُوا مِنَ اَلدُّنْيَا تَقْوِيضَ اَلرَّاحِلِ وَطَوَوْهَا طَيَّ اَلْمَنَازِلِ))(35)

يشير (عليه السلام) الى أن نفس المؤمن ظنون عنده، والظنون البئر التي لا يدري أ فيها ماء أم لا فالمؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا وهو على حذر من نفسه معتقدا فيها التقصير والتضجيع في الطاعة غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها. وزاريا عليها عائبا زريت عليه عبت. ثم أمرهم بالتأسي بمن كان قبلهم وهم الذين قوضوا من الدنيا خيامهم أي نقضوها وطووا أيام العمر کما یطوي المسافر منازل طريقه(36).

وكلامه عليه السلام «کونوا كالسابقين قبلكم، والماضين أمامكم». فيه إشارة واضحة إلى جيل صالح تقضّى زمانه. ورجال هذا الجيل «قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل، وطوَوْها طيّ المنازل» والاستعارة في هذا الخطاب بليغة، فاستحضار الخيام منزلاً استحضارٌ لفكرة الرحيل بقوّة. فبيوت الطين والحجارة بيوت استقرار يصحّ أن تطلق عليها اللغة العربية كلمة (مساکن)، أما الخيام فبيوت قلق مستمرّ ورحيل حاضر باستمرار، يصحّ أن تطلق عليها اللغة كلمة (منازل) الكلمة عينها التي استخدمها الامام علي (عليه السلام) في استعارته. ويوحي هذا إيحاء شديداً بقلق رجال الآخرة في دنياهم. والتقويض منها داراً، وطيّها طيّ المنازل إشارة إلى تفاهتها في نظرهم، وضألتها في أنفسهم، وإلى استعدادهم للقيام بكلّ ما يؤمّن لهم آخرة مُطَمْئنة. ويعني كلّ ذلك أنهم أصحاب قيم إنسانيّة سامية محصّنون من الانزلاق في مهاوي الدنيا وفتنتها.

ص: 213

ومن خلال الاستعارة العلويّة تتضح صورتهم بأنهم المؤمنون الزاهدون في الدّنيا والرّاغبون في الآخرة، أنهم قطعوا علائق الدّنيا وارتحلوا إلى الآخرة كما أنّ الرّاحل إذا أراد الارتحال يقوّض متاعه، وينقض خيمته، ويهدم بناءه، طووا أيام الدّنيا ومدّة عمرهم كما يطوى المسافر منازل طريقه.

تكمن الاستعارة في التعبير عن شعور یرید المرسِل أن يفرض فيه المشاركة على المتلقي لضمان استجابته الكاملة(37). وفي هذا الخطاب مسكوت عنه نفذ من خلال الاستعارة، وهو عتابه (للمخاطَبين) ما لكم تلهثون وراء الدنيا، متخذيها مساكن دائمة، وحقيقتها زائلة (كالمنازل) التي تطوى بعد مدة وجيزة، وتارکین الآخرة وهي المسكن الدائم للإنسان الذي فيه سعادته، كما أن في هذا الخطاب مسكوت عنه آخر يمكن الوصول اليه بعد التمعن فيه، وهو ان مَنْ حول الامام (عليه السلام)، هم من أولاد الدنيا (بمصطلح الامام) الذين انغروا بها، وان أولاد الآخرة قليلون، مما تقدم يتضح أن وظيفة الحجاج بإلقاء الحجة على الآخرين ظاهرة، وتبرئة النفس أمام التاريخ واضحة. لذا فأن المسكوت عنه في هذا الخطاب هو أبلغ من التصريح.

النموذج الخامس

قال (علية السلام): ((أفضل (أَمنن) (38) على من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره))(39)

ثنائية (الأمير - الأسير) مفاهیم حربیه استعيرت الى المجال الاخلاقي. فالأمير يشير الى حاكم البلاد، ويشير أيضاً الى مفهوم عسکري هو قائد الجند، والأسير هو الخاسر في الحرب وألقي عليه القبض، ومن خلال السياق اللغوي فأن كلمة (الأمير) تدل على الامير العسكري، لان مقابلها هو الأسير.

ص: 214

واستعمال الاستعارة العلوية لثنائية (الأمير / الاسیر) تشير الى مجتمع طبقي بين قمة الهرم، وهو (الأمير) وأدناه هو (الأسير).

ان مدلول الامير هو العطاء: لأنه الاعلى في الطبقات الاجتماعية، ومدلول الاسير هو الحاجة لأنه مقيد بالأغلال. والاستعارة العلوية لثنائية (الأمير / الاسير) من المجال العسكري الى المجال المدني يكشف عن مسكوت عنه يشير لصفة المجتمع المدني الذي عاصره الامام (علية السلام)، فهو مجتمع صراعي يعيش الحرب حتى في أوقات السلم، كما انها محاولة للتخفيف من قسوة وغلظة المصطلحات الزائدة. فبدلاً ان یکون الأسير مقيداً في السجون سيكون مقيداً بشكل رمزي بالحاجة إلى غيره وبدلاً من قسوة الأمير على رعاياه، سيكون أميراً سلوكياً بكثرة عطائه وسخائه.

ولعل المراد من هذا الخطاب موضوع اخلاقي، من خلال الاستغناء عما يشين بشخصية الانسان، أو يعرضه لهدر الكرامة (بيع ماء الوجه) کالاقتراض من لئيم أو انتظار المساعدة لغرض المساومة.

ص: 215

الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وبرحمته تنزل البركات والصلاة على نبيه وآله وصحبه، ومن سار على طريقهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ...

إننا نعتقدُ بأن الكلام هو جزءُ من ذات الانسان، استنادا لقول الامام علي (عليه السلام): (تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ اَلْمَرْءَ مَحْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ)(40). لذا نعتقد أن نهج البلاغة هو جزء من ذات أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وأن تقدیس واحترام نهج البلاغة هو تقدیس واحترام لذات الإمام (عليه السلام).

لقد عشنا في البحث، نرفلُ من عبق كلمات أَمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، محاولين في ذلك تفحص خطاباته من خلال الاستعارة كأداة للمسكوت عنه، لنقفَ على أبرز میزاتها، ومن تفحصنا خرجنا بثمراتٍ طیّباتٍ، يمكنُ إجمال أبرزها في نقاطٍ عدة هي:

1. إن للمسكوت عنه وظائف مهمة يؤديها منها وظيفة التحريض، أو الوظيفة الأمنية، أو مهاجمة فكرة سائدة، أو تغيير صورة المخاطب في الاذهان، أو المبالغة والإيجاز، او غيرها من الامور.

2. للمسكوت عنه فوائد جمة، منها وظيفة إغناء النصوص، وتصيرها الى نصوص ديناميكية لها القدرة على التواصل في جميع الاوقات وتحت تصورات شتى، ومن وجهة نظر البحث، ان بقاء نصوص نهج البلاغة نضرة الى اليوم كونها تمتلك خاصية التقلب في الفهم من خلال تعدد مستويات القراءة ولقدرتها على الصمود وهي تقرأ في مستوى افقی وعمودي في الوقت نفسه.

ص: 216

3. يمكن وصف المسكوت عنه بأنه ممارسة نصية دلالية جمالية، دلالية لأسباب دينية وسياسية وعسكرية وأمنية وأخلاقية وحضارية، بهدف تشکیل خطاب يتناسب ومقتضيات المرحلة وما بعده ويلغي عبر فعالية التجاوز والترك نقاط الخلاف، فيكون الاضمار في بعده الموضوعي، وجمالية لأنها تهب النص رشاقته ونشاطه في التخطي السريع الى المتلقين واشراكهم عند ذاك في عملية التلقي.

4. يتيح المسكوت عنه انفتاح النص للاتساع في المعنى مما يجعل نصوص نهج البلاغة متجددة، تتسع لكل الأزمنة والامكنة؛ لأن هناك أكثر من صورة ودلالة حاضرة ساعة التلقي، وهو ما يسهم في دفع المتلقي الى معاودة القراءة في النص لأكثر من مرة. علاوة على البلاغة والفصاحة والتأثير في المتلقي.

5. استطاع المسكوت عنه من خلال الاستعارة الكشف عن العالم المأزوم الذي عاصره الإمام علي عليه السلام، حيث يكثر فيه النفاق والفتن وحب الدنيا. الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محذراً: ((حبّ الدنيا رأس كل خطيئة))(41).

6. إن الانهيار الذي أصاب الأمة آنذاك من خلال أهل النفاق والفتن وأولاد الدنيا (كما يعبر عنهم الإمام عليه السلام) استلزم من الخطبة العلويّة الدفاع عن قيم الإسلام، ويعني ذلك أن يصير (المسكوت عنه) بوصفه أداة للإبلاغ والتأثير (رسالياً)، أي المسكوت عنه الرسالي الذي يأخذ على عاتقه حفظ القيم الإسلامية الحقة، ومحاربة القيم الفاسدة الباطلة.

7. للمسكوت عنه وظيفة حجاجية في نهج البلاغة، حيث استعمله الإمام عليه السلام لإلقاء الحجة على الأمة. قصد اثبات أنه فعل ما بوسعه، ولا حجة لأحد عليه. فثقافة الأمة في تلك المرحلة، لا تسمح لمثله أن يقود المرحلة بعد ما حلّ بها ما حلّ. واستعماله للمسكوت عنه في خطبه كوسيلة دفاعية

ص: 217

حجاجية، قد تجاوزت زمانها لتعبّر بعمق عن مرحلة الفتن وحب الدنيا عبر التاريخ البشري الممتد إلى زماننا، وإن الأمة التي تلهث وراء الدنيا وتخذلُ قائدها هي أمة خاسرة، لذا ينبغي الإفادة من تلك التجربة المريرة لإطاعة القائد كي يتحقق النصر على كل المستويات.

يوصي البحث بالإفادة من خطاب نهج البلاغة لصناعة خطاب ديني وسياسي ووطني، يكثر فيه المسكوت عنه للمّ شتات العراقيين، وبناء وحدة قوية، لمواجهة مشروع تقسيم العراق وتشظيه، وبالتالي استضعافه، ليكون خانعاً، ومواجهة الحرب الطائفية والمذهبية والعرقية؛ وذلك من خلال المسكوت عنه لصناعة خطاب وحدوي رؤيوي.

هوامش البحث:

1. أسرار البلاغة، الجرجاني، تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر العربي، بيروت، ط 1، 1999، ص 30.

2. ينظر: جماليات التلقي: 184

3. لسان العرب، ابن منظور، دار بيروت للطباعة والنشر، 1968، مج 4، ص 619.

4. مختار الصحاح، الرازي، تح وشرح محمود عقيل، دار الجيل، بیروت، 2002، ص 274.

5. الابداع الاستعاري في الشعر، هدى الصخاوي، دار بترا، دمشق، ط 1، 1997، ص 20.

6. البيان والتبيين، الجاحظ، تح: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، ط 2، ج 1، ص 129.

7. الاستعارة نشأتها وتطورها، محمود السيد، دار الهداية، ط 2، 1994، ص 7.

8. النكت في إعجاز القرآن، الرماني، تحقيق محمود خلف الله ومحمود زعلول، دار المعارف، القاهرة، 1967، ص 18.

9. الاعجاز القرآني وآلية التفكير النقدي عند العرب، علي مهدي زيتون، دار الفارابي، بیروت، ط 1، 2011، ص 171.

10. فلسفة البلاغة، ريتشاردز، تر: سعيد الغانمي وناصر حلاوي، إفريقيا الشرق، المغرب، 2002، ص 91.

11. علم النص، جولیا کریستیفا، ترجمة فريد الزاهي، دار تويقال للنشر، المغرب، 1997، ص 9.

ص: 218

12. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1994، ج 1، ص 202.

13. النقد الأدبي، ويليام ويمزات، تر حسام الخطيب ومحي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون، دمشق، 1972، ص 206.

14. عبد القاهر الجرجاني، اسرار البلاغة، ص.

15. جولیا کریستیفا، علم النص، ص 28.

16. أحمد الصّاوي، فن الاستعارة، ص 37.

17. جماليات الأسلوب المصورة الفنية في الأدب العربي، فايز الداية، دار الفكر، ط 2، 1996، ص 12.

18. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن روبول وجال موشلار، تر: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 10، 2002، ص 192.

19. المصدر نفسه، ص 194.

20. سورة الإسراء: آية 24

21. بنيات المشابهة في اللغة العربية (مقاربة معرفية)، عبدالإله سلیم، دار تويقال، المغرب، ط 10، 2001، ص 80 - 81.

22. - نهج البلاغة، ص 47.

23. ينظر: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، جابر عصفور، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط 2، 1992، ص 248.

24. نهج البلاغة، ص 84.

25. ينظر: لسان العرب، ابن منظور، ج 1، ص 515.

26. شرح ابن ابی الحدید، ج 16، ص 11.

27. نهج البلاغة، ص 84.

28. نهج البلاغة، ص 89.

29. لسان العرب، ابن منظور، ج 11، ص 345.

30. نهج البلاغة: ص 53.

31. سورة الأعراف: آية 30.

32. سورة الأعراف: آية 27.

ص: 219

33. نهج البلاغة: ص 53.

34. نهج البلاغة: ص 53.

35. نهج البلاغة، ص 251.

36. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ج 16، 3.

37. ينظر: علم الإسلوب والنظرية البنائية، صلاح فضل، دار الكتاب المصري، القاهرة، ط 1، 2007 م، ص 280.

38. نهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، محمّد تقي الشيخ التّستري، ج 8، ص 16.

39. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ج 6، ص 144.

40. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 8، ص 29.

41. التحصين، ابن فهد الحلي، ج 1، ص 22.

ص: 220

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. أسرار البلاغة، الجرجاني، تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر العربي، بیروت، ط 1، 1999.

2. الاستعارة نشأتها وتطورها، محمود السيد، دار الهداية، ط 2، 1994.

3. الابداع الاستعاري في الشعر، هدى الصخاوي، دار بترا، دمشق، ط 1، 1997.

4. الاعجاز القرآني وآلية التفكير النقدي عند العرب، علي مهدي زیتون، دار الفارابي، بیروت، ط 1، 2011.

5. بنیات المشابهة في اللغة العربية (مقاربة معرفية)، عبدالإله سلیم، دار تويقال، المغرب، ط 10، 2001.

6. البيان والتبين، الجاحظ، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط 2، د.ت.

7. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن روبول وجال موشلار، تر: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 10، 2002.

8. جماليات الأسلوب المصورة الفنية في الأدب العربي، فايز الداية، دار الفكر، ط 2، 1996.

9. جماليات التلقي، یادکار لطيف الشهر زوري، دار الزمان للطباعة والنشر، دمشق - سوريا ، ط 1، 2010 م.

10. شرح نهج البلاغة، ابن ابي حديد، تحقیق، محمد ابو الفضل ابراهيم، ط 1، دار احياء الكتب العربية، بيروت - لبنان، 1955.

11. الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، جابر عصفور، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط 2، 1992.

ص: 221

12. الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1994.

13. علم النص، جولیا کریستیفا، ترجمة فريد الزاهي، دار تويقال للنشر، المغرب، 1997.

14. فلسفة البلاغة، ريتشاردز، تر: سعيد الغانمي وناصر حلاوي، إفريقيا الشرق، المغرب، 2002.

15. لسان العرب، ابن منظور، دار بيروت للطباعة والنشر، 1968.

16. مختار الصحاح، الرازي، تح وشرح محمود عقيل، دار الجيل، بیروت، 2002.

17. النقد الأدبي، ويليام ويمزات، تر حسام الخطيب ومحي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون، دمشق، 1972.

18. النكت في إعجاز القرآن، الرماني، تحقيق محمود خلف الله ومحمود زعلول، دار المعارف، القاهرة، 1967.

19. نهج البلاغة، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، شرح صبحي الصالح، قم، إيران، دار الهجرة، 1412 هجرية.

20. نهج البلاغة، المعجم المفهرس لألفاظه، دار التعارف للمطبوعات، 1990.

ص: 222

الإنجاز بالقول في عهد الإمام علي (عليه السلام) - الأمر والنهي - دراسة تطبيقية على وفق نظرية أفعال الكلام العامة

اشارة

أ.م.د أحمد جعفر داوود

كلية التربية - جامعة واسط

م.د حسين صالح ظاهر

مديرية تربية كربلاء

ص: 223

ص: 224

المدخل

اتسم البحث اللغويّ المعاصر بالعدد الكثير من الطرائق النظريّة، ولكنه لم يخرج عن إطار ثلاث اتجاهات أساسيّة هي: ((البنيويّة بوصفها نظرية للنظام اللغويّ، وعلم اللغة التوليديّ بوصفه نظرية الكفاءة اللغويّة، ونظرية الفعل الكلاميّ بوصفها نظرية الاستعمال اللغويّ))(1) ونظرية الفعل الكلاميّ التي ظهرت عن طريق أبحاث (جون أوستن وجون سیرل) تعدّ من أحدث نظریات البحث اللغوي إذ حاولت تغطية جوانب اللغة كلّها عبر الإفادة من الأبحاث السابقة لها وقد أدخلت هذه النظرية نفسها في ما أصطلح عليه ب(التداولية اللسانيّة) والتي اتسمت بالاتجاه الشمولي في أبحاثها مما جعلها تعالج مواضيع اللغة من كلّ جوانبها، ومنها البحث في المجالات الآتية:

((1 - علم التركيب: النحو الذي يقتصر على دراسة العلاقة بين الكلمات

2 - علم الدلالة: يدور على الدلالة التي تتحدد بعلاقة تعيين المعنى الحقيقيّ القائم بين العلامات وما تدل عليه

3 - التداولية: التي تعنى بالعلاقات بين العلامات ومستعمليها))(2)

وظفت نظرية أفعال الكلام كلّ ما يتعلق بالمسألة التداولية وغيره لتقوم بوصف وظائف اللغة، ((فالتداوليّة تختصّ بتقصي كيفية تفاعل البني والمكونات اللغويّة مع عوامل لغرض تفسير اللفظ ومساعدة السامع على ردم الهوة التي تحصل أحيانا بين المعنى الحرفي والمعنى الذي قصده المتكلم)) (3) وهذه العوامل من مثل الجانب الاجتماعي، وجانب القدرة والإنجاز، والجانب النفسيّ، والجانب الثقافي، وسياق الحال، والعلاقات بين المفردات في التركيب وخارجه أي: العلاقات

ص: 225

الداخلية والعلاقات الخارجية لتصل إلى الهدف من استعمال المتكلم لهذا التركيب أو ذاك؛ لأنّ التداولية اللسانية ((قامت على تحليل مقامات الخطاب ومقاصده، إذ عنيت بدراسة معاني المنطوقات في علاقتها بالمتكلم، ودراسة الاستلزام الحواري، ودراسة كيفية كون الاتصال أوسع من القول))(4).

وترى نظرية أفعال الكلام أنّنا حينما ننطق بجملة ما أو نسق ما فإنّنا نفعل ذلك لسد حاجة اتصالية محددة تماما، فنحن نريد أن نقدم تحذيرا أو طلبا، أو أي معنی آخر يتطلبه مقام التواصل، وهذه المنطوقات تمثل المعاني المرادة داخل التفاعل الاتصاليّ، وعلى أساس الموقف وسياق الحال المصاحب وحاجاتنا، أي: القضيّة نقوم بإنجاز الأفعال المناسبة، ويكون هذا الفعل خاضع لشروط معينة من أهمها مراعاة نظام اللغة، وقصد التأثير، ومبدأ المناسبة أو مبدأ التعاون؛ ليكون المنجز الكلامي حقيقيا ومؤثرا في المتلقي ((فالفعل الكلامي: يتعلق بمنطوقات لا يمكن أن تُحدد أساسا إلاّ بالنظر إلى مواقف استعمالها))(5)، وهذا الاستعمال لايوصف بالنجاح إلاّ بمراعاة نظام اللغة وأحكامها ((فالاهتمام بالصياغة التركيبيّة يرجع أصلا إلى المعنى))(6)؛ فالتركيب أو المنطوق يمثل الأساس الذي ينطلق منه الباحث ليتعامل ((مع اللغة بوصفها نسقا به تترتب الكلمات لتقول ممكنها الدلالي، وفق تركيبها الخاص))(7) وكلّ ترکیب يؤدي غرضه التواصلي ويظهر معناه يعدّ إنجازا لغويا؛ لأنّ ((الفعل الإنجازي: المقصود به أنّ المتكلم حين ينطق بقول ما، فهو ينجز معنی قصديا.... وهو ما سماه أوستن بقوة الفعل وقد اشترط أوستن لتحقيق هذا المعنى الإنجازي ضرورة توافر السياق))(8).

وقد حددت النظرية خمسة أنواع لما يصح أن تطلق عليه ب(الفعل الإنجازي أو الإنجاز بالقول) وهذه الأنواع هي:

ص: 226

((1 - الإخباريات: نقل خبر ما، التقرير، والزعم، والتنبؤ

2 - التوجيهيات: توجيه المخاطب إلى فعل شيء ما

3 - الإلتزاميات: التزام المتكلم بفعل شيء ما

4 - التعبيريات: تعبير عن شيء ما

5 - الإعلانيات: الإعلان عن شيء ما))(9).

وسنبحث قسم التوجيهات وكل ما يتعلق به؛ لأنّ الطلب يقع في مباحث هذا القسم، ثم نحلل الأمر والنهي وإثبات أنها أفعال إنجازية على وجه الحقيقة.

ص: 227

الإطار النظري

الطلب (الأمر والنهي) ترکیب یراد به من المتلقي القيام بفعل إيجابا في الأمر وسلبا في النهي؛ لأنّ ((معنى الأمر في اللغة: نقيض النهي، وفعله أمر يأمر أمرا))(10)، ومعنی نفیض النهي ((أنّ الأمر طلب إيقاع الفعل، والنهي طلب ترك الفعل))(11)، وقال السيوطي: ((أمّا الأمر في الاصطلاح فهو: قول القائل لمن هو دونه افعل.... وصیغته «افعل، ولتفعل»، وهي حقيقة في الإيجاب)) (12)، وذكر ابن الشجري صيغة الأمر فقال: ((التفعل» صيغة يؤدي بها الأمر وهي مكونة من لام الأمر أو لام الطلب؛ لأنّ الفعل يطلب بها))(13) وقال العلوي عن الأمر: ((صيغة تستدعي الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من الغير على جهة الاستعلاء))(14) فالأمر والنهي عند المتكلم والمتلقي يقعان في حيز الفكرة الذهنية نفسها يقول الزجاجي: ((أنّ لفظ الأمر والنهي واحد، كقولك: اضرب ولا تضرب))(15)، ويرى الاستراباذي أنّ النهي ((راجع إلى الأمر؛ لأنّه طلب ترك الفعل كما أنّ الأمر طلب الفعل))(16)، أمّا السكاكي فقال: ((للنهي حرف واحد هو «لا» الجازم في قولك: لا تفعل، والنهي محذو به حذو الأمر في أصل الاستعمال))(17)؛ وبحث المحدثون الأمر والنهي بتجريد تام دون الاهتمام كثيرا بسياق الحال المصاحب، وعلى أساس هذا التجريد صار المفهوم عندهم أنّه ((يطلب من جهة آمرة أعلى من الجهة المأمورة))(18) وافترضوا أنّ هناك عناصر محددة تساهم في إنتاج دلالة الأمر والنهي هي: ((عنصر العلو، وعنصر الاستعلاء، وعنصر الإمكان، وعنصر الزمان، وعنصر المصلحة))(19)، وقد وضع بعض الباحثين قوانين مفترضة لعمل الأمر والنهي في الذهن وهي:

((1 - شرط الوسم مقوليا: هو وسم الإيجاب في الأمر القيام في الفعل، ووسم

ص: 228

السلب في النهي الامتناع

2 - شرط الحالة الذهنية: هي إرادة تحقيق المحتوى القضوي «إنجاز القضية»

3 - شرط الدلالة الذهنية: على المخاطب إنجاز المطلوب فورا أو مستقبلا

4 - شرط علاقة التخاطب: المتكلم يكون في مرتبة حقيقية آمرة، المخاطب يكون في مرتبة متقبلة للأمر

5 - شروط التأثير ذهنيا وسلوكيا: المتلقي مقتنعا ومنفذا

6 - القاعدة التكوينية: ترك المتلقي التحقيق العمل المطلوب)) (20)

فهذه الآراء وغيرها سواء في ذلك القدماء والمحدثون تحاول إظهار مقصد المتكلم بشكل لا لبس فيه، كون اللغة في الأساس هي للتعبير عن أغراض ومقاصد إذ يعدّ البحث المعاصر القصدية ((أداة وظيفية موجهة نحو إفهام المخاطب، واعتماد المتلقي أساسا في تحقيق الإفهام، واستنتاجه عبر ما يحمله النصّ من رموز وإيحاءات ودلالات لتحقيق الاستجابة في الفهم)) (21) وقد وظّف جون أوستن فكرة المقصدية في وصفه للأفعال الإنجازية ومنها التوجيهيات فقال: ((إذا أنجز متکلم فعلا کلاميا من قسم التوجيهيات فإنّ الغرض الإنجازي لمنطوقه يكمن في أنْ يحرك سامعه لينفذ فعلا معينا، وهكذا تكون الحال النفسية المعبرَ عنها في فعل توجيهي هي رغبة المتكلم أنْ يستطيع المتلقي التنفيذ))(22)، وصُنفَ الفعل التوجيهي في نظرية أفعال الكلام ب(الإنجاز المباشر) ووضع (أوستن) شروطا محددة لتحقق هذا الإنجاز منها:

((1 - يجب أنْ يحصل تواضع واتفاق على نهج مطرد متعارف عليه

2 - في كلّ حالة مفترضة يجب أنْ يكون الأشخاص المعنيون، والملابسات

ص: 229

المخصوصة على وفق المناسبة

3 - أنْ يكون للمشاركين القصد والنية في أن يتبعوا هم أنفسهم ذلك السلوك..... وبما ينتج عنه))(23).

وعدّل (جون سيرل) هذه الشروط التي ذكرها أوستن وقسمها إلى أقسام منها:

((1 ۔ الغرض الإنجازي للفعل الكلامي، ويمكن أنْ توصف المقاصد الاتصالية، والعملية بالغرض الإنجازي التي يتوخاها متکلم ما بمنطوقه

2 - الموقف النفسي الذي يعبر عنه المتكلم بالفعل الكلامي.... مثلا: الرغبة، والقصد، والاعتقاد

3 - اتجاه المطابقة بين الكلمات والوقائع.... فإذا نطق المتكلم فعلا توجیهیا، أو التزاميا فإنّ الوقائع يجب أنْ تتغير على نحو ما يشير إليه الفعل اللغويّ في الكلمات بحيث يطابق المحتوى القضويّ))(24).

وليكتسب كلّ كلام صفة الإنجاز اللغويّ، والنجاح عبر التأثير بالمتلقي يجب أنْ يتم على وفق منظومة ثقافية يتشارك فيها طرفا الاتصال فيكون استعمال النسق اللغويّ في التركيب على ما يسمح به نظام اللغة المستعملة وأحكامه النحوية؛ لأنّ ((التواصل هو التعبير عن رسالة تجريدية عبر الإشارة المادية، والرسائل المعنية مقيدة بإشارة معينة على وفق القوانين التي تشترك فيها الفرق المشاركة في الحدث التواصليّ ))(25) وفكرة احترام طرفي الاتصال المنظومة الثقافة العامة المشتركة بينهما، أطلق عليها في التداولية اللسانية مصطلح (مبدأ التعاون) وهذا المبدأ ينتج ((عن واقع أنهم أشخاص يتمتعون بالإدراك، وينبغي تصوره على أنّه تطبيقا

ص: 230

لعقلانية السلوكيات البشرية، وصوابيتها))(26) ومبدأ التعاون في المحادثة الذي وضعه (غرايس) وذكر له بعض الأصول التي يجب مراعاتها في التواصل، ومن هذه الأصول ((مبدأ المناسبة: ليكن كلامك مناسبا لسياق الحال، وتكلم على قدر الحاجة، ولا تقل ما تعتقد كذبه، وتجنب الابهام في التعبير))(27)، أمّا الجانب الاجتماعيّ فله أهمية وارتباط مباشر في عملية التواصل وتوضیح مقاصد المتكلم من التركيب المنطوق الذي يظهر ارتباط ((الدلالة المقامية بالجانب الاجتماعيّ للخطاب، وبالحيثيات الخارجية التي يتم في إطارها إنشاء الكلام))(28) فالجانب الاجتماعيّ يسهم في تحديد القصد إذ ((تعدّ الإحالة فعلا تداوليا بالأساس يربط بين عناصر هي: الخطاب وما يحيل عليه حضورا أو ذكرا، والمتخاطبين، والمخزون الذهني الذي يعتقد المتكلم توافره لدى المخاطَب))(29).

فالأفعال الكلاميّة أو (الإنجاز بالقول) هي تواصل يقوم على شروط وسلوك يجب أن تراعي من المتكلم ليستطيع أنْ يوصل ما يريد من أفكار تؤثر في المتلقي بنحو ما وبذلك تكون ((الإنجازية سلوك التعريف للمستمع على ما ينوي المتكلم إيصاله مضَمّنا في التلفظية، فهي شرط لازم للفعل التأثيري ليحقق الإنجاز، وإذا لم يتعرف المتلقي فيها على هذه القيمة كانت مهددة بالفشل))(30).

وعلى هذا الأساس سيكون بحثنا وتحليلنا لعهد الإمام (8) لعامله (مالك الأشتر) وإظهار الإنجاز اللغويّ المتحقق في منطوقات الإمام (8) التي أصبحت منهاج وطريق لكل مَنْ يريد العمل بالعدل والإنسانية، ونشر الخير في أي مجتمع.

ص: 231

الإطار التطبيقيّ

حددت نظرية أفعال الكلام شروطا في قسم (التوجيهيات) لوصف أي قول بالمنجز اللغوي أو الفعل الكلامي، فذكرت شرط الإخلاص وهو: أنْ يكون المتكلم معتقدا اعتقادا تاما بصدق أقواله واستعداده لتطبيقه دون أدنى تردد.

وشرط المحتوى القضويّ: أي أنْ يحمل قضية ما تهم طرفي الاتصال وهذا الشرط هو من أهم شروط النظرية.

وشرط النسق النحوي للمنطوق: أي أنْ يراعي المتكلم الأحكام الخاصة بنظام اللغة المستعملة بالتواصل وسياق الحال.

وشرط المناسبة (مبدأ التعاون) الذي يراعيه عندما أطلق ملفوظه ليطلب من المتلقي شيء ما مع مراعاة سياق الحال والموقف.

استعمل الإمام علي (8) ترکیب (الأمر والنهي) في عهده لعامله (مالك الأشتر) للتوجيه والتحذير وقد تعددت المنطوقات (التراكيب) لتشمل كلّ ما يسمح به نظام اللغة العربيّة من أمر مباشر عن طريق (صيغة فعل الأمر) أو ( الفعل المضارع المقترن بلام الأمر) أو (اسم الفعل إياك) أو (الفعل المضارع المقترن بلا الناهية) وتعدد هذه الصيغة سببه متطلبات القصد وسياق المعنى المصاحب للحالة وقد سُمِيت هذه التراكيب في الفعل الكلامي ب(الفعل المباشر) وهو: ((الفعل الذي يتلفظ به المتكلم في خطابه، وهو يعني حرفيا ما يقول، وفي هذه الحالة يكون المتكلم قاصدا أنْ ينتج أثرا إنجازيا على المتلقي عبر جعله يدرك تماما المراد منه في الإنجاز))(31) وسنورد كلّ النصوص التي أحصيناها في عهد الإمام (8) مع تحليل لبعض المنطوقات هربا من الإطالة والتكرار؛ لأنّ كلّ

ص: 232

نصّ يحمل صفة الإنجاز اللغويّ.

استعمل الإمام (8) صيغة فعل الأمر المباشر مع الضمير (الهاء) بقوله:

((1 - أمره في عهده إليه حين ولاّه مصر، جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها

2 - أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به كتابه من فرائضه وسننه

3 - أمره أنْ يكسر من نفسه عند الشهوات، وينزعها عند الجمحات؛ فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربيّ))(32).

فإذا نظرنا إلى هذه المنطوقات على وفق شروط: الإخلاص والقصد، والمحتوى القضوي، والنسق النحوي، والمناسبة، وسنذكر شرطي الإخلاص والمحتوى القضويّ أولا لأنّهما يحملان الدلالة نفسها في تركيب الأمر والنهي:

(الإخلاص والقصد): الإمام علي (8) عندما عهد إلى مالك الأشتر بصفته الوالي الجديد إلى مصر، أي: أنّه يمثل الإمام نفسه في تلك البلاد؛ لذلك حينما يطلب منه أنْ يتبع سياسة ما في قيادة الدولة فمن المنطقي تكون هي السياسة عينها التي يتبعها الخليفة نفسه، وذلك ما يجعل شرط الإخلاص ظاهر في قصد الإمام (8) فهو يريد بناء دولة تحمل فكر الإسلام الحقيقي كما أراد الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) وهذه الدولة لابدّ لها من مقومات وأسس إنسانية، واجتماعية، واقتصادية وعسكرية وغيرها من متطلبات العيش الكريم وهي في صميم فكر الإمام (8) الذي يمثل رأس الهرم في السلطة الشرعية، والسياسية في الدولة الإسلاميّة فهو يمتلك الوجاهة الدينية؛ لأنّ الرسول (صلی الله عليه وآله) قد نصّ على خلافته حينما قال في حديث طويل منه: ((هذا مولى

ص: 233

مَن أنا مولاه اللهم والي من والاه، وعاد مَن عاداه)) (33)، ومن مثل قوله (صلى الله عليه وآله): ((مَن سرّه أنْ يحيي حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه)) (34) فالإمام (8) قد أظهر قصده ونيته واعتقاده التام في إلزام عامله بوصاياه التي استعمل صيغة الطلب ليبلغها، وهي عبارة عن منهج واضح وصريح في كيفية إدارة الدولة على وفق رؤية المنظومة الإسلامية في العيش الكريم للإنسان أيا كان معتقده وجنسه هذه المنظومة المتمثلة بالقرآن الكريم، والسنّة النبويّة فالإمام (8) وكتاب الله لا يفترقان؛ لقول الرسول (صلى الله عليه وآله): ((علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتی یردا عليّ الحوض)) (35)، وقضية العيش الكريم للإنسان، وبنائه البناء الصحيح هي القضية الجوهرية التي جاء بها الإسلام وهذا ينقلنا إلى (المحتوى القضويّ):

أو القضية التي يتضمنها منطوق الإمام وهي أساس كل فعل كلامي مباشر أو غير مباشر فلاشكّ في أنّ الإسلام جاء بفكر جديد غير ما هو سائد؛ كونه يدعو ((إلى تنظيم اجتماعي يختلف اختلافا جذريا عن التنظيم الذي كان قائما في الجزيرة العربية، فهو يدعو إلى الصدق والاستقامة، ويضع للتفاضل الاجتماعيّ مقاييس جديدة تقوم على أساس الأخلاق الفاضلة والصالحة))(36) فالإسلام أراد تأسیس قواعد اجتماعية تدعو إلى العدالة الاجتماعية، ومساواة الناس أمام الله لا يفرقهم سوی مقدار الإيمان ودرجة التقوى فيه، وهذه القضية مما ثبت في قول الإمام (8) وعمله من مثل قوله في الثبات على سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله): ((والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى، والله لئنْ مات لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت)) (37)، فالقضية أو (المحتوى القضوي) في كلّ الملفوظات المنجزة من الإمام (8) هي الإنسان وما يتعلق به، فهو قطب الرحى في الفكر

ص: 234

الإسلاميّ فالأمر والنهي الواردان في العهد هما لتنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم أي: دستور ومنهاج حياة يجب إتباعه بكلّ إخلاص للوصول إلى أقصى درجات السعادة والرفاهية الإنسانية ضمن ما يسمح به الشرع؛ لأنّه جعل ((خلق مجتمع عادل متراحم جوهرا في دين الله)) (38)، فالمحتوى لمنطوقات الإمام (8) يحمل قضية إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى وهذا الإنسان يعيش وفق منظومة إسلامية تشرع له ليعيش حياة كريمة سواء في ذالك المسلم وغير المسلم.

أمّا شرط النسق اللغوي، ومبدأ التعاون التداوليّ فسيظهران مع تحليل منطوقات الإمام (8)؛ فقد استعمل (8) صيغة الفعل المقترنة بالهاء في أول ثلاثة منطوقات (تراکیب) وهي صيغة الفعل (أمره)، ولعل استعمال الهاء الذي هو للغائب المذكر ما يبرره؛ لأنّه (8) یرید لكلامه أنْ يصلَ أولا إلى المتلقي المباشر وهو عامله (مالك الأشتر)، ثمّ يتعداه إلى كلّ متلقي يقرأ هذا العهد أو يسمعه وهو ما يظهر تمكنه من نظام اللغة وأحكامه، وفصاحته لیست موضع الدراسة فهو ينتمي إلى ((ما يطلق عليه الغربيون مركز الهيبة اللغويّة))(39)، فلو استعمل الإمام الإمام (8) كاف الخطاب لكان هذا الأمر يحمل تحديدا أو قيدا دلاليا وزمنيا يخص عامله فقط، فيؤل المعنى على هذا التحديد ولا يحمل الإنجاز المستمر في التأثير، فضلا عن الدلالة التداولية التي يحملها الضمير (الهاء) في الإحالة على سابق وفي هذا السياق تحيل على تكليف شرعيّ؛ كون الإمام (8) يمثل السلطة الشرعية التي يعرفها كلّ مسلم آمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله)؛ لقوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (40) فقد اتفق المفسرون والمؤرخون على انّها نزلت في الإمام علي (8)، أورد الحسكانيّ في شواهد التنزيل أنّ آية الولاية ((نزلت في عليّ والحسن

ص: 235

والحسين)) (41) وقال البلاذريّ: ((نزلت في عليّ «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»)) (43) فالاستعمال الإحالي له ما يبرره؛ لأنّ الإمام (8) أراد التأسيس لنظام دولة تحفظ حقوق الإنسانية فبدأ بالمسائل العامة التي تهم الحاكم في البلاد، ثمّ حدد له الغطاء الشرعي الذي يجب أنْ يحتمي به، وبعد ذلك عرج على الصفات الخاصة التي يجب أنْ يتحلى بها لينجح في إدارة الدولة، وهي في الحقيقة أشبه بالعنوانات العامة التي يدخل تحتها المسائل الخاصة التي أوردها فيما بعد فذكر (8) الخطة العامة لكل حاکم برید العدل والرفاه لرعيته فقدّم المسألة الاقتصادية لأهميتها (جباية خراجها) والقوة التي تحمي الناس وأمنهم (جهاد عدوها)، وبناء المجتمع وصلاحه (استصلاح أهلها) والتخطيط الحضاري لهذا البناء (عمارة بلادها)؛ وقد اتبع الإمام (8) نسقا لغويا لا لبس فيه ظهر في الألفاظ المتناسقة في منطوقاته، وهي ذات دلالات موحية بقصد المتكلم عبر علاقاتها الداخلية والخارجية ف(جهاد عدوها) توحي بعدم وجود نية الاعتداء بأي شكل بل الدفاع عن النفس وهو حقّ إنساني مكفول من الشرع، واختياره (8) ل(استصلاح أهلها) له دلالاته؛ لأنّ صيغة استصلح على وزن (استفعل) وهي صيغة من معانيها المستعملة الطلب بمهلة بعد مهلة على سبيل المجاز قال سيبويه في معنی استفعل: ((استخرجته، أي: لم أزل أطلب إليه حتى خرج)) (43) فاستعمال (استصلح) ليتبع اللين والرفق في مهلة لطلب الإصلاح في الناس كونهم الهدف الأول لأي عملية بناء في المجتمع؛ لأنّ هناك فرق بين (أصلح) التي تظهر العلو في الأمر، والاستعلاء من الآمر وهي صفة بعيدة كلّ البعد عن الإمام (8) وبين (استصلح)؛ لأنّه ((لا يكون إلاّ بحيلة وعلاج))(44) فهذه المعاني المتضمنة في الألفاظ يعرفها المتلقي؛ لأنّ (مبدأ التعاون) قد تمّ مراعاته من قبل المتكلم، وهو الإمام (8) لأنّه بصدد التأثير بمنطوق

ص: 236

مباشر على المتلقي، أي: فعلا إنجازيا مباشرا وهو عند (سیرل) يعني ((الفعل الذي تطابق قوته الإنجازية مراد المتكلم، أي يكون القول مطابقا للقصد بصورة تامة، ويتمثل في معاني الكلمات التي تتكون منها الجملة، وقواعد التأليف التي تنتظم بها الكلمات التي تكون الجملة ويستطيع المتلقي أن يصل إلى مراد المتكلم بإدراكه لهذه الشروط))(45)؛ ثمّ يزيد الإمام (8) قدرته التأثيرية على المتلقي المسلم عبر الطلب بأنْ يتقي الله، ويعمل على طاعته بإتباع أحكام القرآن الكريم، وسنة النبيّ (صلى الله عليه وآله) سواء أكان ذلك في أمر شرعيّ أو ماديّ، ولا يميل بهوی ويتبع ما تسول له نفسه (یکسر نفسه عند الشهوات فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي) ومثل هذه المنطوقات تظهر استحضار الإمام للمنظومة الفكرية التي يستمد منها أفكاره وهي القرآن والسنّة، ويظهر ذلك في التناص مع کتاب الله في قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (46) والتناص في منطوقات الإمام (8) هي سمة ظاهرة فهي من أهم المؤثرات التي تدفع المتلقي للتفاعل مع المتكلم والتأثر مما يجعله ينفذ المطلوب لأنّ المتكلم ((أنْ يفصل وإنّما يحيل بتكثيف إلى قصة أو حدث مشهور، أو قولة مأثورة ممّا يجعل التوجيه ممكنا خاضعا لشرط التأويل))(47)، ولعل استعمال ألفاظ القرآن الكريم والسنّة النبويّة هو ممّا يدخل في (مبدأ التعاون) ((وذلك لخاصية جوهرية في هذه النصوص؛ وهي أنّها ممّا ینزع الذهن البشري لحفظه ومداومة تذكره))(48)، وتراكيب الإمام (8) تظهر الكفاية التواصلية غبر ما تؤديه من وظائف تواصلية ناجحة عبر الدلالات التي لا لبس فيها عند المتلقي ((فالوصف اللغويّ الكافي هو الذي يسعى إلى تحقيق الكفاية التداولية فضلا عن الكفايتين النفسية والنمطية))(49).

ص: 237

وبعد أنْ أوصل الإمام قصده بالإنجاز العام انتقل إلى التفصيلات وذلك زيادة في ترسيخ فكرة المنجز اللغوي وتأثيره على المتلقي وظهر ذلك في صيغة فعل الأمر المباشر فقال (8):

((1 - املك هواك.

2 - شُح بنفسك عمّا لا يُحلُ لك.

3 - أشعِرْ قلبك الرحمة.

4 - أعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أنْ يعطيك الله.

5 - انظر إلى عِظم ملك الله فوقك وقدره منك.

6 - الصق بأهل الورع والصدق، ثمّ رُضْهُم على أنْ لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله.

7 - أكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صَلُحَ عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.

8 - الصق بذي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة.

9 - اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تُمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يُحصرُ من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تُشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه.

10 ۔ تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله فإنّ في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاحَ لمن سواهم إلاّ بهم؛ لأنّ الناس كلهم عيال على الخراج وأهله.

ص: 238

11 - استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خیرا وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك.

12 - حُطْ عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَة دون ما أعطيت.

13 - املك حمية أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك)) (50)

واستعمال هذه الصيغة تعدّ من سمات الإنجاز المباشر؛ كونها تعطي فكرة واضحة عمّا يريده المتكلم، فهي تعدّ منجزا لغويا لتجاوز تأثيرها المتلقي الأول (مالك الأشتر) إلى يومنا هذا، فكل من أراد سياسة الناس وقيادتهم يحاول أنْ يتبع هذه المعاني التي أنجزها الإمام (8)، سواء في ذلك أكان من أتباعه المسلمين أولم یکن؛ لأنّها تهم الإنسانية في مضمونها وتجعل الخير عامّا إذا ما التزم بها من يحكم فالأوامر ما هي إلاّ خطة عمل مفصلة لمن يريد أنْ ينجح في مهمته، والبقاء في حدود الدائرة الشرعية المتمثلة في القرآن والسنّة، فبعد أنْ ذكر المسائل العامة بصيغة (أمره)، فصّل كيفية النجاح والوصول إلى الهدف العام عن طريق التأثر بهذه الأوامر وإتباعها التي تصب في مصلحة المتلقي، أي: حصول الفائدة، وتحقق هذا؛ لأنّ المتكلم مارس فعلا مباشرا على المتلقي؛ لأنّ ((الأفعال الإنجازية المباشرة هي: التي تطابق قوتها الإنجازية مراد المتكلم))(51) فالمتكلم يمتلك مفاتيح نظام اللغة المستعملة، واستعماله لألفاظ تحمل إحالات تداولية على نصوص مقدسة ( القرآن والسنّة) فضلا عن مراعات المناسبة، وسياق الحال، وهذا ممّا أسهم في تحقيق الإنجاز، من مثل قوله (8): (وشح بنفسك) فهي تحيل على قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ

ص: 239

نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (52) و (حُطْ عهدك بالوفاء) تحيل على قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» (53) ومن مثل ( املك حمية أنفك) تحيل على قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» (54)، فمثل هذه الإحالات تزيد من فعل التأثير في القول ن فضلا عن استعمال الإمام (8) لم أصطلح عليه ب( واسم القوة) في نظرية أفعال الكلام ((فهناك تمييز داخل الجملة بين ما يتصل بالعمل المتضمن بالقول في حدّ ذاته، وهو ما يسمى «واسم القوة» المتضمنة في القول، وبين ما يتصل بمضمون العمل وهو «واسم المحتوى القضوي»))(55) ، ويظهر هذا الواسم في القول باستعمال صيغة الأمر المباشر، أمّا واسم المحتوى القضوي فيظهر في باقي الجملة، وذلك؛ لأنّ الفاعل في فعل الأمر المباشر مستتر وجوبا فيكون الخطاب موجها لكلّ مَنْ يسمع أو يقرأ؛ لأنّ الزمن في فعل الأمر مفتوح ((فزمنه تأویلي، حيث أنّ تأويله في الحاضر أو الاستقبال، يقوم على قواعد الاستلزام التخاطبيّ))(56)، فالإنجاز اللغويّ من سمات نجاحه أنّ رسالة المتكلم ((تقوم على إعطاء القدر الضروري من المعلومات لكن دون زيادة، إنّ الشريك في التلفظ بالخطاب ينشئ دلالة بتصرفه في الاستدلالات السياقيّة المنطقيّة والاجتماعيّة.... وإنّ احترام مبدأ التعاون يعدّ ضروريا لهذه العملية))(57)، فصيغ الأمر كلّها تؤدي إلى فائدة المتلقي فهي تعدّ منجزا متحققا؛ لأنّ الناس على مختلف الحقب الزمنيّة تحاول السير على هذا المنهاج في الحكم الذي أنجزه الإمام (8) في عهده لعامله (مالك).

وقد استعمل (8) (واسم القوة) الإنجازية في صيغة اسم الفعل (إياك) في منطوقات النهي والتحذير بقوله:

((1 - إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته

ص: 240

2 - إياك والدماء وسفكها بغير حِلّها، فإنَّهُ ليس شيءٌ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة.... من سفك الدماء بغير حقّها

3 - إياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء

4 - إياك والمنّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو تعدّهم فتتبع موعدك بخلفك

5 - إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عمّا تعنی به ممّا قد وضح للعيون))(58)

في هذه المنطوقات تقديم واسم القوة (إياك) الذي يعطي القوة في اللفظ له أسبابه فهو مستعمل في اللغة للدلالة على التحذير قال سيبويه: ((هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير، وذلك قولك إذا كنت تحذر إياك، كأنّك قلت: إياك نَحِن وإياك باعد ..... وحذفوا الفعل من إياك لكثرة استعمالهم إياك في الكلام فصار بدلا من الفعل))(59)، ويحدد المبرد اختصاص إياك بالأمر فقال: ((فلما كانت إياك لاتقع إلاّ اسما لمنصوب کانت بدلا من الفعل، دالة عليه، ولم تقع هذه الهيئة إلاّ في الأمر؛ لأنّ الأمر لا يكون إلاّ بفعل))(60)، وقد استعمل العرب (إياك) في سياق التحذير، ومعنى التحذير هو: ((تنبيه المخاطب على أمر مكروه ليتجنبه))(61)، وقد استعمل الإمام إياك ليدلل على قوة اللفظ التي تحفز المتلقي وتجعله منتظرا القضية التي من أجلها تمّ تحذيره، ومحتوى القضايا في مثل قوله (8): (الدماء وسفكها بغير حلها) و(المنّ على الرعية) و (الإعجاب بالنفس) و ( الاستئثار بحقوق الناس) فمثل هذه الأمور تعجل بسخط الناس وهو ممّا يوجب العقوبة في الآخرة، فتكون النفس حذرة منه مما يوجب عمل الصحيح مع الرعية، فالنهي بصيغة التحذير أقوى دلالة في العقل وأسرع تأثيرا في النفس وهو ما

ص: 241

أراده الإمام (8)، ويظهر ذلك امتلاكه ل((ثنائية القدرة والإنجاز وهي ثنائية تبرز خاصية الإبداع ))(62)، والمعنى المصاحب لسياق الحال عند المتكلم يتطلب في بعض المواقف استدعاء أدوات تكون ذات دلالات قوية تجعل المتلقي يستوعب القصد الذي أراده المتكلم ويكون أشد انتباها للمطلوب منه من مثل التوكيد؛ وهو ما استعمله الإمام (8) في صيغة النهي ب(لا) الناهية مع الفعل المضارع المؤكد بنون التوكيد الثقيلة وهذه النون في نظام اللغة العربية مختصة للتوكيد، في كتاب رصف المباني قال المالقي: ((هي مؤكدة للفعل خفيفة أو مثقلة.... ومدخلها أبدا في فعل الطلب))(63)، ونصّ الاستراباذي على اختصاصها بالتوكيد فقال: ((النون المؤكدة خفيفة كانت أو ثقيلة تختصّ بالفعل المستقبل الذي فيه معنى الطلب وذلك ما كان أمرا أو نهيا))(64)، ولعل السياقات التي استعمل فيه الإمام (8) التوكيد هي التي فرضت عليه ذلك؛ لأنّ المتكلم يلجأ إلى التوكيد ((لتمكين الشيء في النفس وتقوية أمره)) (65)، فقد وردت في مواضع تعدّ من الأهمية بمكان في فكر الإسلام لحماية الإنسان وحقّه في العيش الكريم فكان لابدّ من النهي المؤكد للوصول إلى أقصى درجات قوة اللفظ والتأثير لترك الفعل من مثل قوله (8):

((1 - لا تكوننّ عليهم سبُعا ضاريا تغتنم أكلهم

2 - لا تنصبنّ نفسك لحزب الله

3 - لا تندمنّ على عفوٍ، ولا تبجّحنّ بعقوبة

4 - ولا تعْجلنّ على تصديق ساعٍ

5 - ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر

ص: 242

6 - ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء

7 - الله الله في المساكين لا يشغلنّك عنهم بطرا، فإن لا تُعذر بتضييع التافه لأحكامك

8 - لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة

9 - لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوك الله فيه رضا

10 - لا تغدرنّ بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوك

11 - لا تعولنّ على لحن القول بعد التأكيد والتوثيق

12 - لا تقوینّ سلطانك بسفك دمٍ حرامٍ، فإنّ ذلك ممّا يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله))(66)

استعمال التوكيد بالنون (واسم القوة) الإضافي في المنجز اللغويّ في منطوقات النهي له ما يبرره فالإمام (8) أراد أقصى تأثير في المتلقي المباشر (عامله)، والمتلقي المستقبليّ وهم عامة الناس ليتجنبوا الأمور التي نهی عنها وأكد تهیه بالنون وهي مسائل قد ذكرها بشيء من العموم في عهده فأراد أنْ يخصصها في النهي المؤكد؛ لأنّ مثل هذه المسائل قد أمرنا الشرع المقدس المتمثل بالقرآن والسنة تجنبها والابتعاد عنها، فالإسلام قد أقر المساواة في الحقوق لكلّ المسلمين وغير المسلمين، فقوله (8) (لا تكونن عليهم سبعا) کي يمنعه من استغلال سلطته في أكل أموال الناس دون وجه حقّ، وهي من أهم صفات الحاكم العادل، والحقيقة أنّ منطوقات النهي المؤكد كلها تكوّن جزءا مهما من المنظومة الشرعية التي أكدها الإسلام في الحقوق العامّة ف(العفو والصفح) من أهم الأسس التي بُنيت عليها دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ففضلا عن الآيات التي تحثنا على العفو والتسامح فهناك

ص: 243

مواقف كثير للرسول تظهر تسامحه وعفوه من مثل تعامله (صلى الله عليه وآله) مع أهل مكة يوم الفتح فقد ظهر ((خلق النبي على حقيقته سماحا ونبلا وغفرانا؛ لقد عفی عن الجميع، وغفر لجميع الذين أساءوا إليه وناصبوه العداء وحاولوا قتله))(67)؛ فالنهي يعدّ منجزا لغويا مباشرا لأنّه يعالج قضايا تهمّ الناس مع ميزة علاقة مباشرة بالمنظومة الثقافية الإسلامية عن طريق الإحالة ((فالخطاب يكون متسقا حقا إذا وجدت علاقات قضوية بين الأقوال التي تكونه))(68) وهذه العلاقات هي: الزمانية والغرضية، والإحالية، فالمنظومة الفكرية حاضرة في منطوقات الإمام (8)؛ وعليه فشرط الإخلاص متوفر بالتأكيد، وشرط المحتوى القضويّ ظاهر، فضلا عن شرط النسق اللغويّ وشرط المناسبة.

ص: 244

الخاتمة

وجد البحث أنّ توافر هذه الشروط يحقق فكرة الإنجاز اللغويّ بكل شروطه سواء في ذلك الشروط التي طبقها البحث أو تلك التي ناقشتها النظرية في تحليلها للمنوطقات التي عدّتها من أقسام الإنجاز اللغويّ المباشر، ويثبت هذا أنّ الإمام (8) قد سبق النظرية بأشواط في مراعاته، وتطبيقه كلّ ما يتعلق بمسألة الإنجاز اللغويّ، ويظهر ذلك في امتداد التأثير على المتلقي منذ أنْ قال (8) منطوقاته إلى يومنا هذا، وهذا التأثر لم يقتصر على المسلمين، بل تعداه إلى عموم الإنسانية فعهده لمالك يعدّ وثيقة للإنسانية بكل مشاربها وتعدد أجناسها، وميولها الفكريّة أو العقائديّة وتداول العهد بين أروقة المنظمات الإنسانيّة خير دليل على استمرارية هذا الإنجاز.

وهذا يدفعنا إلى المزيد من الدراسة لما ورد من كلام عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (8) على وفق التوجهات المعاصرة في دراسة اللغة؛ لأنّ كلامه يعدّ صورة عالية من الفصاحة، والبلاغة التي تؤثر في النفس الإنسانية، أي: إنجازا لغويا على وفق مقاييس نظرية أفعال الكلام، فهو صورة راقية للاستعمال اللغويّ، وكلامهم صورة متقدمة في تطبيق النظام اللغويّ الذي نال عناية النظرية البنيوية، وصورته الإبداعية التي أظهرت الكفاية اللغوية في كلامهم تعدّ مجالا مثاليا لتطبيق توجهات النظرية التوليديّة.

هوامش البحث:

1 - مدخل إلى نظرية الفعل الكلامي، جوتس هنده، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2012، 15.

2 - التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ریبول وجاك موشلار، ترجمة سيف الدين دغفوس وآخرون، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2003، 29

ص: 245

3 - التداولية، جورج يول، ترجمة قصي العتابي، الرباط، دار الأمان، 2010، 13

4 - علاقة اللغة بالجنوسة، عبد النور الخراقي، الرياض، اصدار المجلة العربية (141)، 2012، 18

5 - اللغة والفعل الكلامي والاتصال، زیبلیه کریمر، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2011، 82

6 - جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، محمد عبد المطلب، القاهرة، الشركة المصرية، 1995، 154

7 - التفكير الدلالي في الدرس اللساني العربي الحديث، خالد هويدي، بغداد، مكتبة عدنان، 2012، 65

8 - الأفعال الانجازية في العربية المعاصرة، علي محمود الصراف، القاهرة، مكتبة الآداب، 2010، 40

9 - آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2011، 81 ومابعدها

10 - لسان العرب، ابن منظور، بیروت، دار صادر، 4 / 26 (أمر)

11 - أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، قیس الأوسي، بغداد، بيت الحكمة، 1988، 83

12 - الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987، 2 / 176

13 - الأمالي الشجرية، ابن الشجري، بيروت، دار المعرفة، 1 / 98

14 - الطراز المتضمن لأسرار البلاغة، العلوي، مصر، مطبعة المقتطف، 3 / 281

15 - کتاب الخط، الزجاجي، تحقیق تركي العتيبي، بيروت، دارصادر، 2009، 89

16 - البسيط في شرح الكافية، الاستراباذي، تحقیق حازم الحلي، قم، المكتبة الأدبية، 2 / 385

17 - مفتاح العلوم، السكاكي، تحقیق عبد الحميد الهنداوي، بيروت، دار الكتب، 2000، 429

18 - المعاني في ضوء أساليب القرآن، عبد الفتاح لاشين، دمشق، المطبعة الأموية، 1983 166

19 - تحويلات الطلب ومحددات الدلالة، حسام أحمد قاسم، القاهرة، الآفاق العربية، 2007 47 وما بعدها

20 - ينظر دائرة الأعمال اللغوية، شكري المبخوت، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2010، 193

21 - النحو القرآني في ضوء لسانیات النصّ، هناء محمود، بیروت، دار الكتب ، 2012، 171

22 - ينظر مدخل إلى نظرية الفعل الكلامي، 88

23 - نظرية أفعال الكلام، جون أستن، ترجمة عبد القادر قيني، الرباط، أفريقيا الشرق، 2006، 27، 28

24 - ينظر، مدخل إلى نظرية الفعل الكلامی، 86 وما بعدها

ص: 246

25 - أعلام الفكر اللغويّ، تأليف مشترك، ترجمة أحمد الكلابيّ، بيروت، دار الكتاب الجديد 2006، 2 / 103

26 - المضمر، تأليف مشترك، ترجمة ريتا خاطر، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008، 347

27 - مدخل إلى اللسانيات، محمد محمد یونس، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2004، 99

28 - مفهوم الحرفية ومفهوم الفضاء في التراث النحويّ مقاربة لسانية، عثمان صادق شريجة، اربد، عالم الكتب الحديث، 2011، 25

29 ۔ الخطاب وخصائص اللغة العربية، أحمد المتوكل، الجزائر، منشورات الاختلاف، 2010، 78

30 - المقاييس الاسلوبية في الدراسات القرآنية، جمال حضريّ، بيروت، دار مجد، 2010، 235

31 - آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، 98

32 - شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، بيروت، دار الفكر، 1954 ، مج 4 / 166، 167

33 - تأريخ الإسلام، الحافظ الذهبي، تحقيق مصطفى عبد القادر، بیروت، دار الكتب العلمية 2005، مج 2 / 224

34 - خصائص الوحي المبين، الحافظ ابن بطريق، تحقيق مالك المحمودي، قم، دار القرآن الكريم، 1417 ه، 30، 31

35 - ينابيع المودة، القندوزيّ، تحقیق علي جمال الحسيني، قم دار الأسوة، 398

36 - تأريخ العرب القديم والبعثة النبوية، صالح احمد العلي، بيروت، مركز المطبوعات، 2000، 372

37 - قراءة جديدة في حروب الردة، علي الكوراني، قم، نشر باقیات، 2011، 10

38 - الله والإنسان، کارین آر مستونغ، ترجمة محمد الجورا، دمشق، دار الحصاد، 1996 389

39 - الأطلس اللغويّ في التراث العربيّ، خالد نعیم، لندن، دار السياب، 2010، 28

40 - سورة المائدة، الآية: 55

41 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، الحاكم الحسكاني، تحقیق محمد باقر المحمودي، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1 / 149

42 - أنساب الأشراف، البلاذري، تحقیق فیلفرد مادیلونغ، بيروت، مؤسسة الريان، 2009 ق 2 / 162

43 - الكتاب، سيبويه، تحقیق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، 2004، 4 / 70

44 - شرح المفصل في صنعة الإعراب، الخوارزمي، تحقیق عبد الرحمن العثيمين، بیروت، دار الغرب الإسلامي، 3 / 353

45 - الأفعال الإنجازية في العربية المعاصرة، 98

ص: 247

46 - سورة يوسف، الآية: 53

47 - دينامية النصّ، محمد مفتاح، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2010، 90

48 - التعالق النصي، نانسي إبراهيم، القاهرة، دار رؤية، 2014، 256

49 - من البنية الحملية إلى البنية المكونية، أحمد المتوكل، الدار البيضاء، دار الثقافة، 257

50 - شرح نهج البلاغة، مج 4 / من 167 إلى 211

51 - آفاق جديدة في البحث اللغويّ المعاصر، 84

52 - سورة التغابن، الآية: 16

53 - سورة الحج، الآية: 38

54 - سورة الشورى، الآية: 37

55 - التداولية اليوم علم جديد في التواصل، 33

56 - الزمن في اللغة العربية، امحمد الملاخ، الرباط، دار الأمان، 2009، 312

57 - التداولية من أوستن إلى غوفمان، فيليب بلانشيه، ترجمة صابر حباشة، إربد، عالم الكتب الحديث، 2012، 117

58 - شرح نهج البلاغة، مج 4 / 128 و 209 و 211

59 - الكتاب، 1 / 273

60 - المقتضب، المبرد، تحقیق حسن محمد حسن، بیروت، دار الكتب، 1999، 2 / 172

61 - معاني النحو، فاضل السامرائي، الموصل، بيت الحكمة، 2 / 525

62 - الوصفية مفهومها ونظامها في النظريات اللسانية، رفيق بن حمودة، تونس، دار محمد علي، 2008، 347

63 - رصف المباني في شرح حروف المعاني، المالقي، تحقيق أحمد الخراط، دمشق، مجمع اللغة العربية، 334

64 - البسيط في شرح الكافية، 2 / 666

65 - معجم مصطلحات البلاغة، أحمد مطلوب، بغداد، المجمع العلمي العراقي، 1986، 6

66 - شرح نهج البلاغة، مج 4 / من 167 إلى 210

67 - في خطى محمد، نصري سلهب، بیروت، دار الميزان، 2010، 138

68 - القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلار وآن ریبول، ترجمة مشتركة، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2010، 501

ص: 248

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987

2. أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، قیس الأوسي، بغداد، بیت الحکمة، 1988

3. الأطلس اللغويّ في التراث العربيّ، خالد نعیم، لندن، دار السياب، 2010

4. أعلام الفكر اللغويّ، تأليف مشترك، ترجمة أحمد الكلابيّ، بيروت، دار الكتاب الجديد 2006

5. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2011

6. الأفعال الانجازية في العربية المعاصرة، علي محمود الصراف، القاهرة، مكتبة الآداب، 2010

7. الأمالي الشجرية، ابن الشجري، بيروت، دار المعرفة،

8. أنساب الأشراف، البلاذري، تحقيق فيلفرد مادیلونغ، بیروت، مؤسسة الريان، 2009

9. البسيط في شرح الكافية، الاستراباذي، تحقیق حازم الحلي، قم، المكتبة الأدبية

10. تأريخ الإسلام، الحافظ الذهبي، تحقيق مصطفى عبد القادر، بيروت، دار الكتب العلمية 2005

11. تأريخ العرب القديم والبعثة النبوية، صالح احمد العلي، بيروت، مركز المطبوعات، 2000

12. تحويلات الطلب ومحددات الدلالة، حسام أحمد قاسم، القاهرة، الآفاق العربية،

ص: 249

2007

13. التداولية، جورج يول، ترجمة قصي العتابي، الرباط، دار الأمان، 2010

14. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ریبول وجاك موشلار، ترجمة سيف الدين دغفوس وآخرون، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2003

15. التداولية من أوستن إلى غوفمان، فيليب بلانشيه، ترجمة صابر حباشة، إربد، عالم الكتب الحديث، 2012

16. التعالق النصي، نانسي إبراهيم، القاهرة، دار رؤية، 2014

17. التفكير الدلالي في الدرس اللساني العربي الحديث، خالد هويدي، بغداد، مکتبة عدنان، 2012

18. جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، محمد عبد المطلب، القاهرة، الشركة المصرية، 1995

19. خصائص الوحي المبين، الحافظ ابن بطريق، تحقيق مالك المحمودي، قم، دار القرآن الكريم، 1417 ه

20. الخطاب وخصائص اللغة العربية، أحمد المتوكل، الجزائر، منشورات الاختلاف، 2010

21. دائرة الأعمال اللغوية، شكري المبخوت، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2010

22. دينامية النصّ، محمد مفتاح، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2010

23. رصف المباني في شرح حروف المعاني، المالقي، تحقيق أحمد الخراط، دمشق، مجمع اللغة العربية.

24. الزمن في اللغة العربية، امحمد الملاخ، الرباط، دار الأمان، 2009

25. شرح المفصل في صنعة الإعراب، الخوارزمي، تحقیق عبد الرحمن العثيمين، بيروت، دار الغرب الإسلامي.

ص: 250

26. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، بيروت، دار الفكر، 1954

27. شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، الحاكم الحسكاني، تحقیق محمد باقر المحمودي، بیروت، مؤسسة الأعلمي

28. الطراز المتضمن الأسرار البلاغة، العلوي، مصر، مطبعة المقتطف

29. علاقة اللغة بالجنوسة، عبد النور الخراقي، الرياض، اصدار المجلة العربية (141)، 2012

30. في خطى محمد، نصري سلهب، بیروت، دار الميزان، 2010

31. القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلار وآن ریبول، ترجمة مشتركة، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2010

32. قراءة جديدة في حروب الردة، علي الكوراني، قم، نشر باقیات، 2011

33. الكتاب، سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، 2004

34. كتاب الخط، الزجاجي، تحقیق تركي العتيبي، بيروت، دارصادر، 2009

35. لسان العرب، ابن منظور، بیروت، دار صادر

36. اللغة والفعل الكلامي والاتصال، زیبلیه کریمر، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2011

37. الله والإنسان، کارین آرمستونغ، ترجمة محمد الجورا، دمشق، دار الحصاد، 1996

38. مدخل إلى اللسانیات، محمد محمد یونس، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2004

39. مدخل إلى نظرية الفعل الكلامي، جوتس هنده، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2012

40. المضمر، تأليف مشترك، ترجمة ريتا خاطر، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008

41. معاني النحو، فاضل السامرائي، الموصل، بيت الحكمة

42. المعاني في ضوء أساليب القرآن، عبد الفتاح لاشين، دمشق، المطبعة الأموية، 1983

ص: 251

43. معجم مصطلحات البلاغة، أحمد مطلوب، بغداد، المجمع العلمي العراقي، 1986

44. مفتاح العلوم، السكاكي، تحقیق عبد الحميد الهنداوي، بيروت، دار الكتب، 2000

45. مفهوم الحرفية ومفهوم الفضاء في التراث النحويّ مقاربة لسانية، عثمان صادق شريجة، اربد، عالم الكتب الحديث، 2011

46. المقاييس الاسلوبية في الدراسات القرآنية، جمال حضريّ، بیروت، دار مجد، 2010

47. المقتضب، المبرد، تحقیق حسن محمد حسن، بیروت، دار الكتب، 1999

48. من البنية الحملية إلى البنية المكونية، أحمد المتوكل، الدار البيضاء، دار الثقافة

49. النحو القرآني في ضوء لسانیات النصّ، هناء محمود، بيروت، دار الكتب، 2012

50. نظرية أفعال الكلام، جون أستن، ترجمة عبد القادر قيني، الرباط، أفريقيا الشرق، 2006

51. الوصفية مفهومها ونظامها في النظريات اللسانية، رفيق بن حمودة، تونس، دار محمد علي، 2008

52. ينابيع المودة، القندوزيّ، تحقیق علي جمال الحسيني، قم دار الأسوة

ص: 252

التعليل في عهد الإمام علي (عليه السلام)لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

م. د. حميد يوسف إبراهيم

كلية العلوم الإسلامية / جامعة ذي قار

ص: 253

ص: 254

مقدمة

يعد التعليل واحداً من الأساليب اللغوية التي يلجأ إليها المتكلم، عندما يكون قاصداً بیان صحة ما ذهب إليه، وهو بیان علة الشيء أو علة الحكم، ويأتي بمثابة إجابة عن سؤال مفترض، قد يسأله السامع أو لا، تبعاً لمدى إحاطته بالنص، وهو كذلك من جهة المنشئ، فالمتكلم المدرك لحيثيات ما يتكلم عنه يلجأ إلى بيان علل أحكامه وفروضه ومقولاته ونحوها؛ ليساعد على الفهم؛ ولغلق الطريق أمام التأويل غير المقصود عند المتكلم، أو لإقناع المخاطب فيما يتضمنه الخطاب من فروض وأحكام، فيقوم المتكلم بتنزيل السامع منزلة السائل، ومثل هذا الأسلوب تجده عند من له إحاطة بموضوعه، وأكثر ما يتجلى ذلك في النصوص المعصومة، وهي النص القرآني ونصوص أهل البيت علیه السلام، وجاء هذا البحث بعنوان (التعليل في عهد الإمام عليه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه)؛ ليسلط الضوء على التعليلات التي ذكرها الإمام علي علیه السلام في ثنايا عهده لمالك الأشتر رضي الله عنه، وهو يبين فلسفة ما يذكره من أحكام وفروض ومقولات ونحوها، ومما ينشده البحث هنا بيان أثر تلك التعليلات في إيضاح أسس إنسانية الدولة؛ لتكون دولة الإنسان، وتضمن البحث تمهيداً عن بيان معنى التعليل وفائدته، ومبحثين، الأول لبيان الأدوات اللغوية التي استعملها الإمام عليه السلام في تعليلاته، أما الثاني فلبيان التعليل الناتج من مضمون الجملة، ثم خاتمة، فقائمة بالمصادر، وهذه الخطة قابلة للتبديل أو التعديل، ومن الله التوفيق.

ص: 255

تمهيد

معنى التعليل وفائدته:

العلة بكسر العين تأتي بمعنى المرض(1). وتأتي بمعنى الحدث يشغل صاحبه حاجته، كأن تلك العلّة صارت شغلاً ثابتاً منعه من شغله الأوّل(2)، وتأتي بمعنى السّبب، يقال: هذا علّةٌ لهذا، أي سببٌ(3). وكلمة (التعليل) من الفعل المضعَّف (علَّل) على وزن (تفعيل) التي تدل في أحد معانيها على الجعل، والتعليل يعني جعل علة أو إيجادها؛ ليعطي معنى (التبيين).

أما اصطلاحاً فهي ما يتوقف عليه الشيء(4). وعرَّفها الشريف الجّرجاني (816 ه) بأنها: ((ما يتوقف عليه وجود الشّيء ويكون خارجاً مؤثراً فيه))(5). وقيل إنَّ التعليل: ((هو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع أو متوقع، فيقدم قبل ذكره علة وقوعه))(6). فالتعليل هو تبيين الغرض من إيقاع الفعل أو بيان سبب وقوعه. وهو على قسمين: تعليل بالغرض وتعليل بالسبب، ففي الأول يعلل الفعل بذكر المراد من إيقاعه والباعث عليه، وفي الثاني يعلل بذكر المؤثر والمسبب له (7).

يتداخل معنى العلة بمعنى السبب عند كثير من العلماء(8)، فالمصطلحان يلتقيان في شيء ويفترقان في آخر، ومما يفرق به بينهما أنَّ ((السببية عامل مؤثر ومسبب، وأما العلة فهي الغاية المرادة والنتيجة المبتغاة))(9) من الفعل أو الحكم أو القول، وعندئذٍ تكون العلة غائية، ولكنها لا تكون كذلك في كل الأحوال، قال الزمخشري (538 ه): ((وما كل علة بغرض، ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك، وإنَّما هي علل وأسباب))(10). وبناء على ما تقدم يمكن القول إنَّ العلة

ص: 256

مقصودة في أصل إيجاد الشيء، أما السبب فقد لا يكون مقصوداً، وإنَّما هو أثر من آثار وجود الشيء أو نتيجة له أو تداعي من تداعياته.

قال الرضي الاسترابادي (688ه): ((فالمفعول له هو الحامل على الفعل سواء تقدم وجوده على وجود الفعل، كما في قعدت جبنا، أو تأخر عنه، کما في جئتك إصلاحاً لحالك؛ وذلك لأنَّ الغرض المتأخر وجوده یکون علة غائية حاملة على الفعل، وهي إحدى العلل الأربع كما هو مذكور في مظانه، فهي متقدمة من حيث التصور وإن كانت متأخرة من حيث الوجود))(11).

واختلفت وجهات الأصوليين في تعريف العلة تبعاً لاختلاف وجهات نظرهم في التعليل (12)، فقيل: إنها الوصف المؤثر بذاته في الحكم، والموجب له بناء على جلب مصلحة أو دفع مفسدة قصدها الشارع (13). أو هي الوصف المؤثر في الأحكام بجعل الشارع لا بذاته. أو هي الباعث أو الداعي للشارع على تشريع الحكم(14).

فائدة التعليل:

البحث عن علل الأشياء أمر فطري في الإنسان، ومبدأ العلية مبدأ عقلي يجعل الانسان دائماً يواجه سؤال: لماذا؟ (15)، حتى إذا خفي عنه سبب الحدث أو جهله أثار ذلك في نفسه العجب، ولذلك قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب (16).

إن وجود علة للشيء أو الحكم يعطيه من القوة في التأثير، وإيجاد القناعة ما لا يعطيه وهو غير معلل؛ فإنَّ ((إثبات الشيء معللاً آكد من إثباته مجرداً من التعليل))(17). ففي قوله تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» [سورة الحج الآية 1]. أمر بالتقوى، وذكر الأمر وحده قد لا يحمل على التقوى، فجاء ذكر هول الساعة تعليلاً لوجوبها وحملاً على الامتثال للأمر

ص: 257

؛ ولهذا فالتعليل يفيد التقرير والأبلغية(18)، فهو ((نوع من أنواع التأكيد والتثبت والاطمئنان بصحة الخبر أو الحكم، وذكر الشيء معللا مما يقوي تأثيره في النفس وثقتها به)) (19). وبناءً على ذلك يؤتى بالتعليل لبيان الأغراض المقصودة من وراء الفعل أو القول أو الحكم، أو الأسباب المؤدية إلى وجوده؛ لتتم القناعة به، ويصبح مقبولاً ومستساغاً عند السامع، ويأخذ طريقه في الواقع.

وينشد هذا البحث تفحص ذلك الأسلوب في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه، وفيما يأتي بيان ذلك:

ص: 258

المبحث الأول

التعليل بالأدوات

كان التعليل واحدة من دلالات بعض الأحرف والأدوات المستعملة في اللغة، فوردت في اللغة أدوات عديدة دالة على التعليل، وكانت هذه الأحرف أدوات ربط بين الحكم وعلته، وأهم هذه الأدوات التي وردت في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه:

1 - التعليل باللام:

وهي أحد أحرف الجر، ولها معان كثيرة منها التعليل، وهي اللام ((التي يصلح في موضعها «من أجل»))(20). وتختص اللام من بين الحروف المفيدة للتعليل بأنها تستعمل فيه بكلا قسميه؛ ف((العلة المقترنة باللام قد تكون حاصلة قبل الفعل، وقد تكون مراداً تحصيلها))(21). قال ابن يعيش (643 ه): ((اللام قد تدخل على المصادر التي هي أغراض الفاعلين في أفعالهم... فكأنها دخلت... لإفادة أنَّ ذلك الغرض من إيقاع الفعل المتقدم))(22). وقد وردت اللام للإفادة التعليل في مواضع من العهد المبارك، ومنه قوله علیه السلام: ((ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلاّ بالصّنف الثّالث من القضاة والعمّال والكتّاب؛ لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها))(23). حكم علیه السلام بكون الرعية طبقات يكمل بعضها الآخر، فيصلح بصلاحه ويتعثر بتعثره، والمراد بالصنفين الجنود وعمال الخراج، وهمالا يمكن أن يؤديا وظيفتيهما بشكل صحيح إلا بصنف آخر، وهم القضاة والعمال والكتاب، وقد بَيَّنَ علیه السلام علة الحكم الذي ذكره بأن هؤلاء هم من يتولى إدارة هذا الأمر وإحكامه بما

ص: 259

يتناسب مع المصلحة.

ومنه قوله علیه السلام ((وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرّجال له عندك)) (24). أمر علیه السلام بل حكم بإعطاء القاضي ما يستحقه ويسد حاجته؛ ليبعده عن الطمع والاستغلال للمنصب أو أن يستغله أصحاب المطامع أو أن يُحَطَّ من قدره أو يُنتقصَ منه، وهنا يؤسس الإمام علیه السلام لقاعدة في الحكم، فوظَّفَ علیه السلام ما توفره اللغة من أدوات التعليل التي تسهم في بیان مشروعية الأحكام؛ لغرض الإقناع، ولتذعن العقول لذلك قبل النفوس.

وأشار علیه السلام إلى أسباب دمار البلاد وخراجها بقوله علیه السلام: ((وإنّما یؤتی خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنّما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنّهم بالبقاء، وقلّة انتفاعهم بالعبر))(25) . فإشراف أنفس الولاة على الجمع، مضافاً إليها سوء الظن وعدم الاعتبار كانت سبباً في خراب البلاد وضياع حقوق العباد، فتشخيص الإمام علیه السلام للعلة يستبطن تحذيراً لأولياء الأمر أنْ لا يكونوا كذلك. ويبدو أن جملة (وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر) هي علة إشراف أنفس الولاة على الجمع، لكنه علیه السلام ربط الأولى باللام وربط الأخريين بالواو، وبهذا فقد ذكر علیه السلام العلة وعلة العلة، وأن هذه العلل قد تجتمع لتكون علة للمعلول الأول في الجملة.

والواقع أنَّ التعليل واقع بجملة تامة المعنى في الأغلب وما هذه الأحرف التي جعلت للعليل إلا أدوات ربط بين أجزاء النص؛ لتسهم في تماسكه وقوته، فلو نظرنا إلى التعليل في قوله علیه السلام: ((وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنَّ في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم؛ لأنّ النّاس كلهم عيال على الخراج وأهله، ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من

ص: 260

نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلا))(26). لوجدنا أنَّ التعليل حاصل بالجملة التي بعد حرف اللام وهي جمل: (لأنَّ الناس... لأنَّ ذلك...).

2 - التعليل بالباء:

ذكر النحاة للباء معاني عديدة، أحدها التعليل، ف((يكون ما بعدها سبباً وعلة فيها قبلها))(27)، ومنه قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ» [سورة البقرة، من الآية 54]. فالباء هنا داخله على السبب؛ إذ أنَّ ظلمهم أنفسهم مسبب عن مسبب عن اتخاذهم العجل، أي: فقد حكم النبي موسى علیه السلام على قومه بأنَّهم ظالمون بسبب اتخاذهم العجل إلهاً من دون الله تبارك وتعالى(28).

ومنه قوله علیه السلام: ((ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشيء من ماضي تلك السّنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها))(29). جعل علیه السلام نقض السنن الصالحة علة لتحمل الوزر، فأفادت الباء تعليلاً، والمعنى: أنك تتحمل الوزر بسبب نقضك سنن الصالحين من قبلك.

ومنه قوله علیه السلام: ((وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرّعيّة، وأنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم، ولا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور))(30). أفادت الباء في الموضعين التعليل، فسلامة الصدور علة لظهور المودة، والحيطة علة لصحة النية.

ص: 261

3 - التعليل ب(من):

يأتي حرف الجر (مِنْ) لدلالات أهمها ابتداء الغاية (31). وقد يدل على التعليل؛ وذلك عند دخولها على ما يكون سبباً وعلة في وجود متعلقها، ويحسن مكانها لفظة (بسبب)(32)، نحو قوله تعالى: «يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ» [سورة البقرة، من الآية 19]. أي: بسبب الصواعق، فهي ما حملهم على أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم، فأفادت (من) التعليل(33). ومنه قول الإمام علیه السلام: ((وإنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها))(34). أي: إنَّ البلاد تتعرض للخراب بسبب فقر أهلها واحتياجهم إلى أبسط مقومات العيش، وما يتعرضون له من حاجة ونقص في الأموال والثمرات ناتج عن تصرفات غير صحيحة من الحكام.

4 - التعليل بالحرف (على):

يأتي حرف الجر (على) لمعان أشهرها وأكثرها استعمالا الاستعلاء(35). وقد تأتي لإفادة التعليل إذا كانت داخلة على ما هو سبب في وجود متعلقها كقولنا: (شكرت المحسن على إحسانه)، و(جازيته على صنيعه)، فالإحسان سبب لشكر المحسن، والصنيع سبب المجازاة، فذكر شبه الجملة (على إحسانه، على صنعيه) إنما كان ليعلل بهما وقوع الشكر والمجازاة(36). ومنه قوله تعالى: «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ» [سورة البقرة: الآية 185]. أي: لهدايته إياكم (37)، فأمرهم بتكبيره وتعظيمه؛ بسبب هدايته إياهم. ومنه قوله علیه السلام: ((ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظنّ منك))(38). نهى علیه السلام محذراً من أن يتم اختيار الكتاب وعموم موظفي الدولة بالاعتماد على الفراسة وما يبدونه من سمات مطلوبة وصفات حسنة، والتعليل هنا يبين سبب النهي عن مثل هذا النوع من الاختيار.

ص: 262

ومنه قوله علیه السلام: ((ولا تندمنّ على عفو))(39). فقد نهى علیه السلام عن الندم بسبب العفو عن الرعية. وهذا القول يتضمن الحث على العفو والتسامح مع الرعية فيما يقصرون به من دون قصد، ويتضمن أن يكون الندم عن الظلم لا عن العفو.

5 - التعليل ب (حتى):

تسبق الأداة (حتى) الفعل المضارع؛ لتفيد معاني، منها التعليل، أي تأتي (بمعنى كي)، قال ابن يعيش: ((يكون الفعل الأول سبباً للثاني، فتكون (حتى) بمنزلة (كي)، وذلك قولك: أطع الله حتى يدخلك الجنة، وكلمته حتى يأمر لي بشيء، فالصلاة والكلام سببان لدخول الجنة والأمر بالشيء))(40). ومنه قوله تعالى: «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا» [سورة البقرة من الآية 217]. والمعنى: كي يردوكم، وهذا غرض دوامهم على القتال وتعليل له (41). ومنه قول الإمام علیه السلام: ((وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّا واحداً في جهاد العدوّ))(42). يمثل ما قبل الأداة (حتى) سبباً لما بعدها ومقدمة له، والتقدير: (لكي يكون همهم...) ، وبهذا يبين علیه السلام علة الأمر بذلك.

ومنه قوله علیه السلام: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه للهّ الّذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع...))(43). تضمن الطلب في بداية الجملة وما تلاه من عبارات مقدمات ليتحقق ما بعد الأداة من إمكانية التكلم مع الحاكم من دون خوف أو قهر، بما يجعل كلامهم سلساً، فمعلوم أنَّ الخوف والتردد يجعل المتكلم مضطرب الكلام، فيكون تقدير الكلام: (لكي يكلمك مكلمهم...).

ص: 263

المبحث الثاني

التعليل المتحقق بالجمل أو بمضمونها:

لا يقتصر بيان علة الشيء على استعمال الأحرف الدالة على التعليل، وإنما قد يتحقق التعليل بالجملة كلها أو بمضمون الجملة، لكن هذه الجملة لا تخلو من رابط يربط العلة بمعلولها، فقد يكون الفاء وقد يكون غيره من أحرف الربط، وقد يكون الضمير أو اسم الإشارة ونحو ذلك، وهذا النمط من التعليل هو الأكثر استعمالاً في العهد المبارك، وفيما يأتي بيان ذلك:

1 - التعليل بالجملة الاسمية:

ابتدأت بعض الجمل التعليلية في العهد المبارك بأدوات ربط، ومنها اسم الإشارة الذي يمثل نوعاً من أنواع الإحالة، ومنه قوله علیه السلام: ((إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكوننّ لك بطانة، فإنّهم أعوان الأثمة، وإخوان الظّلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك أخفّ عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقلّ لغيرك إلفاً))(44). فجملة (أؤلئك أخف عليك مؤونة...) تعليل لما تقدمها من الترغيب بالفئة التي ارتضى علیه السلام أن تكون منها البطانة والأعوان؛ لما يتصفون به من الصفات، وبما تكون عليه النتائج التي تضمنها كلامه علیه السلام من خفة المؤونة وحسن المعونة والحنان والعطف، وعدم ارتباطهم بغير من ولَّاهم ولا موالفتهم له والحنين إليه. وما تجدر الإشارة إليه أنَّ هذا الترغيب جاء بعد تحذير ونهي عن اتخاذ أعوان الظلمة بطانة، وهذا النهي يتضمن كونهم كثيري

ص: 264

المؤونة والإضرار بالمصالح العامة، وأنهم يشكلون عبئاً مادياً ونفسياً على الحاكم، وأنهم لا يرتجى منهم حسن المعونة والعطف.

وقد يكون التعليل بين ركني الجملة، فقد يكون المبتدأ معلولاً للخبر، ومنه قوله علیه السلام: ((فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك، ثمّ لیكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللهّ لأوليائه))(45). فالخبر (أقولهم)، ومعطوفه (أقلهم) علتان للإيثار المذكور في الجملة وهو في موقع الابتداء. والظاهر أنَّ الخبر في النص لم يكن وحده علة الإيثار، وإنما تضافر معه كونه (الخبر) جاء بصيغة اسم التفضيل (أفعل).

ولا ينحصر هذا النمط من التعليل بالجملة آنفة الذكر، وإنما يمكن تأويل كثير من الجمل بها، ويبدو أن ذلك عائد إلى تلك العلاقة الإسنادية الرابطة بين المسند والمسند إليه، فهذه عملية الربط تمثل الجامع المشترك بين أنماط التعليل الممكنة في كلام العرب، فالمبتدأ يرتبط بخبره بعلاقة إسنادية، والشرط مرتبط بجوابه، والعلة مرتبطة بمعلولها وهكذا، فضلاً عن كون أدوات التعليل في النتيجة هي أدوات ربط، وأنَّ التعليل متحقق بالأداة وما دخلت عليه.

2 - التعليل بالجملة الاسمية المؤكدة:

تأتي الجملة الاسمية المتضمنة تعليلاً لما سبقها مؤكدة ب(إنَّ)؛ ويرى بعض العلماء أنَّ الأداة (إنَّ) تفيد التعليل (46)، فتعلل ما قبلها بما بعدها، ومثلوا لذلك بنحو: قوله تعالى: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» [سورة التوبة، من الآية 103]. فجملة (إنَّ صلاتك ...) تعليل لما قبلها من الأمر بالصلاة، وكأنها إجابة عن سؤال مفاده: (لماذا أصلي عليهم؟)؛ ليأتي الجواب بجملة (إنَّ) وما دخلت عليه. وبناءً على ذلك فالتعليل ((مستفاد من الجملة بتمامها بقرينه

ص: 265

السياق))(47). وأمثلته كثيرة في العهد المبارك، ومنها قوله علیه السلام في بداية العهد: ((أمره بتقوى الله... وأنْ ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه؛ فَإِنَّهُ جَلَّ اِسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهِ مِنَ اَلشَّهَوَاتِ

وَيَزَعَهَا عِنْدَ اَلْجَمَحَاتِ فَإِنَّ اَلنَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ اَللَّهُ)) (48)، يتضمن النص ترغيباً بالطاعة، وتحذيراً من المعصية، وقد مثَّل فيه التعليل سلوكاً تربوياً تعليمياً عند الإمام علیه السلام، ابتدأ التعليل هنا بأداة التوكيد (إنَّ)؛ ليكون التعليل بجملة هذه الأداة، وفي هذين التعليلين استدعى علیه السلام النص القرآني داعماً لأمره، ففي الأولى كان قوله علیه السلام راجع إلى مضمون قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» [سورة محمد، الآية 7]. وفي الثانية استدعى قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي» [سورة يوسف الآية 53]. وهو هنا يذهب بالتعليل إلى كونه حكمة ومقولة تذعن لها العقول، وتستجيب لها النفوس، وهو ما يولد قوة في الاقناع وتقبل الحكم، وهو سلوك تربوي تعليمي يبث المعلومة بالطريقة التي تصل إلى القلب والعقل معاً؛ لأنَّ ما يشير إليه أو ما مطلوب فعله مدعوم بالحجج والبراهين المقنعة، وما ذلك إلا لتأخذ هذه الأوامر طريقها إلى القبول في النفس والقلب، ثم التنفيذ في الواقع.

ومنه قوله علیه السلام: (( فليكن أحبّ الذّخائر إليك ذخيرة العمل الصّالح، فاملك هواك، وشحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك؛ فإنّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت))(49). في النص حكمة وحقيقة تضمنها التعليل جاءت لبيان أهمية الإنصاف ولو على حساب الميول والرغبات؛ إذ يمثل الشح بالنفس علة لما تقدمه من الأوامر التي تضمنها النص.

ومنه قوله علیه السلام: ((فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك

ص: 266

اللهّ من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، واللهّ فوق من ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم... فإنّه لا يدى لك بنقمته))(50). أشار علیه السلام إلى أنَّ ما يترتب على الحكام وما مطلوب منهم أن يعملوه ناتج من كونهم يملكون أمور الناس وهنا بيان المسؤولية؛ ليلحقها بالتحذير من أنك أيها الحاكم يوجد فوقك من مكنك من ذلك، وأنَّ الله فوق كل فوق، وأنك لا تستطيع رد نقمته إن نصبت نفسك لحرب الله بمحاربة عباده أو لم تؤد الواجب أو تضيع حق من توليت أمرهم.

وفضلاً عن المنهج التربوي تؤسس تعليلات الإمام علیه السلام لنسق لغوي هو أنَّ التعليل يأتي بياناً لأمر قد طلب سواء كان أمراً أم نهياً أم تحذيراً أم غيره من أساليب الطلب المعروفة عند العرب.

قال علیه السلام: ((إياك ومماساة الله في عظمته والتشبه في جبروته؛ فإنَّ الله يذل كل جبار ويهين كل مختال))(51). جاءت جملة (فإنَّ ...)؛ لتبين علة ما تقدمها من تحذير ونهي عن الشبه بالصفات الجلالية الله تبارك وتعالى؛ لأنَّ الحاكم قد يصيبه الزهو العجب وداء العظمة التي يؤدي به إلى ظلم العباد والبغي عليهم؛ ليأتي التحذير من الإمام علیه السلام عن تجنب هذا السلوك وأمثاله الذي تكون نتيجته سخط الله الذي يتمثل بالإذلال تارة وبالإهانة تارة أخرى.

وهذا النمط من التعليل هو الأكثر استعمالاً في العهد المبارك، ويبدو أنَّ ذلك عائد إلى أنَّ الإمام علیه السلام كان بصدد بيان العلة بصورة أكثر وضوحاً وتفصيلاً ليتحقق الإقناع بها، وأنَّ ذلك يتحقق بجملة تامة المعنى ابتدائية مؤكدة ب(أن)، وهذا التوكيد يشير إلى تنزيل السامع منزلة المنكر، فيحتاج الكلام إلى توكيد، وأنَّ هذه الجملة تحمل مضموناً ناتجاً من العلاقة بين أجزاء الكلام.

ص: 267

وقد يكون التعليل مركبا فتجده مكوناً من جملة (إنَّ) واسمها الضمير وخبرها المؤلف من قضية شرطية مركبة، ومنه قوله علیه السلام: ((أنصف الناس... فإنَّك إلَّا تفعل تظلم... ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه ومن خاصمه الله ادحض حجته وكان الله حربا... بالمرصاد))(52). فالتعليل المتضمن في جملة الشرط وجوابه جعله الإمام علیه السلام معللاً بجملة شرطية أخرى، فقد تدرج علیه السلام في بيان علة حكمه الأول عندما جعله معلقاً على حكم ثانٍ والثاني معلق على ثالث وهكذا؛ لتتسلسل الحجج والبراهين التي يفرضا التعليل بوصفها مسلمات للإسهام في الإقناع وتنضيج السلوك الذي به تتبين إنسانية الحاكم في تعامله مع الرعية؛ ليشعر الإنسان بإنسانيته. وهذا البيان يمثل تحذيراً، فضلاً عن كونه علة لمثل هذه التصورات التي بيَّنها علیه السلام.

3 - التعليل بالمفعول لأجله:

ذكره سيبويه في ((باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر فانتصب؛ لأنه موقوع له ولأنه تفسير لما قبله لم كان؟))(53). وأوجزه الزمخشري بقوله: إنه ((علة الإقدام على الفعل))(54). وقال الرضي الاسترابادي (688 ه): إنه ((الحامل على الفعل سواء تقدم وجوده على وجود الفعل، كما في قعدت جبنا، أو تأخر عنه، كما في جئتك إصلاحا لحالك))(55). ومنه قوله علیه السلام: ((ثمّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنّهما جماع من شعب الجور والخيانة))(56). أي لا يكون اختيارك ناتجاً عن المحاباة والمجاملة، وإنما عن اختبار، فالاختبار يجب أن يكون علة الاستعمال، وليس المحاباة، ثم علل الأمر والنهي وسبب ذلك.

ص: 268

4 - التعليل في التركيب الشرطي:

یدل الشرط على أنَّ وقوع الأمر مرتبط بوقوع غيره أو ناتج عنه (57)، أي: أنْ يتوقف وجود الثاني على وجود الأول أو يمتنع لامتناعه أو يمتنع لوجوده؛ إذ أنَّ مضمون جملة الشرط إنَّما يستحق مضمون جوابه بوقوعه هو في نفسه أو بامتناعه، فيكون الأول سبباً وعلة في الثاني وجوداً وعدماً(58)، نحو قوله تعالى: «فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ» [سورة البقرة، من الآية 119]. قال ابن جني: ((إنَّ حقيقة الشرط وجوابه أنْ يكون الثاني مسبباً عن الأول، نحو: قولك: (إن زرتني أكرمتك). فالكرامة مسببة عن الزيارة))(59). وجعله بعضهم قسمين: ((أحدهما أن يكون مضمونه مسبباً عن مضمون الشرط، نحو: إنْ جئتني أكرمتك. والثاني: أنْ لا يكون مضمون الجواب مسبباً عن مضمون الشرط، وإنما يكون الإخبار به مسبباً، نحو: إن تكر مني فقد أكرمتك أمس، والمعنى: إنْ اعتددت عليَّ بإكرامك إياي فأنا أيضاً اعتدد عليك بإكرامي إياك))(60). نعم قد لا يكون الشرط سبباً في جوابه كما مفروض فيما تقدم، لكن جواب الشرط يعلل ما قبله من شرط . ومن أمثلة التعليل بالمتحصلة بالتركيب الشرطي في العهد المبارك قوله علیه السلام: ((فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به، وعاقبه في غير إسراف))(61). فجملة جواب الشرط تَبَيُنِّ سبب الاقتراف وجزاءه وجملة الشرط وجوابه علة لما قبلها من كلام، والتنكيل والعقاب نتيجتان للقيام بالاحتكار بعد تقديم النصح بعدم ارتكابه والنهي عنه. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنه علیه السلام بالرغم من حكمه بمعاقبة من يمارس الاحتكار إلا أنه كان مراعياً لمقتضيات العدالة؛ إذ فرض اجتناب الإسراف في إيقاع تلك العقوبة في قوله علیه السلام: (وعاقبه في غير إسراف).

ص: 269

ومن التراكيب الشرطية التي أفادت التعليل في العهد المبارك قوله علیه السلام: ((ومن ظلم عباد اللهّ كان اللهّ خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللهّ أدحض حجّته))(62). فظلم العبادة علة خصومة الله تبارك وتعالى للظالم، والخصومة علة إدحاض الحجة، وما بالك بمن كان حاله كذلك؟ وهنا تتبين فاعلية ذكر العلة وتأثيرها في النفوس، وما يتضمنه النص من تحذير من هذا السلوك.

ومنه قوله علیه السلام: ((وإن ظنّت الرّعيّة بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك))(63). يشكل ظن الرعية بحاكمها علة لبيان العذر أمامهم؛ وفي هذا السلوك إبعاد للحاكم عن سوء ظن رعيته به، وتحفيز له على القيام بواجبه، فهو أمام خيارين، إما أداء واجباته بما يتلاءم ومصالح العباد والبلاد، وإما بيان العذر في ذلك، فربما ساعدته رعيته على تنفيذ واجباته إن كان عذره مقبولاً أو عزلته إن كان عذره غير مقبول.

5 - التعليل بجملة الطلب وجوابه:

قد تتألف الجملة العربية من طلب وجوابه، نحو: قولك: (ادرسْ تنجحْ)، ورأى النحاة مثل هذا الكلام على تقدير جملة شرط وأداة، يدل عليهما الطلب المذكور، وعندهم أن جواب الطلب هو في الحقيقة جواب للشرط المحذوف(64)، فتقدير الجملة السابقة: (ادرسْ، فإن تدرسْ تنجحْ). ويتضمن الطلب وجوابه تعليلاً ما، فجواب الطلب نتيجة للطلب والطلب علة للحكم المتحقق في جوابه، ومنه قوله علیه السلام: ((فاستر العورة ما استطعت، يسترْ اللهّ منك ما تحبّ ستره من رعيّتك))(65). يتبين من النص أنَّ ستر الحاكم على رعيته علة لستر الله تبارك وتعالى ما يخشى أنْ يعرفه الناس من أسرار الحاكم جزاءً له على حسن تحننه على رعيته.

ص: 270

6 - التعليل بالمشتقات:

اختلف عدد المشتقات باختلاف الحدود التي وضعت له، فهي عند النحويين أربعة: (اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل)، وهي عند اللغويين أوسع لأنّهم يرون أنّ بعض الجوامد مشتقة(66)، ولم يخرج الأصوليون عن مضمون ما قاله النحويون (67)، وهي عند الصرفيين ثمانية: اسم الفاعل، وصيغ المبالغة، والصفة المشبهة، واسم المفعول واسما الزمان والمكان، واسم التفضيل، واسم الآلة(68). وتحديد النحاة لها بهذه الأنواع ملاحظ فيه دلالتها على حدث وذات باختلاف العلاقة بين الحدث والذات، فإنْ كان ملحوظاً فيه القيام بالفعل فهو اسم الفاعل وإن كان ملحوظاً فيه وقوع الفعل فهو اسم المفعول، وإن كان ملحوظاً فيه تفضيل هذه الذات على غيرها فهو اسم التفضيل، وهكذا.

وقد تقع هذه المشتقات في سياق يفهم تضمنها بیان علة الحكم، وهذه العلة هي المعنى أو الحدث في الاسم المشتق، فجملة: (عاقب المسيء) فيها اسم الفاعل (المسيء) يدل على القيام بالإساءة وهو ما يعد علة للحكم (المعاقبة) الذي تتضمنه الجملة(69)، ومنه قوله تعالى: «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ» [سورة الأحزاب من الآية 24] . فالآية تتضمن أنَّ فعل النفاق علة للعذاب. وقد أشار إلى تضمن المشتق معنی التعليل أبو حيان (745 ه) بقوله: ((والحال والصفة قد يجيئان، وفيهما معنى التعليل، تقول: أهن زیداً سيئاً، وأكرم زیداً العالم، تريد لإساءته ولعلمه))(70). وقد ورد مثل ذلك في العهد المبارك، ومنه قول الإمام علي علیه السلام: ((ثمّ انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق))(71). فاسما التفضيل (خیر) و (أجمع) تضمنا بیان علتي التولية والتخصيص المشار إليهما في النص، فتوليته الأمر معلولة لكونه

ص: 271

خيرهم، وتخصيصه بالرسائل معلولة بكونه أجمعهم لوجوه الصلاح والأخلاق.

ومنه قوله علیه السلام: ((ولیکن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضى الرّعية))(72). يشير النص إلى أنَّ الأوسطية في الحق، والأعمية في العدل والأجمعية لرضى الرعية علل لكونها أحب الأمور، وأن هذا الأمر يكون أحب كلما اتصف بهذه الصفات.

ومنه قوله علیه السلام: ((وليكن أبعد رعيّتك منك، وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعایب النّاس))(73). تضمن الأمر هنا توجيهاً بكون طلب عيوب الناس والبحث عنها علة للإبعاد والشناءة، وأنك أيها الحاكم عليك إبعاد من یکون همه وغايته البحث عن عيوب الناس.

ومنه قوله الله علیه السلام: ((فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للهّ ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً))(74). تضمن النص نصيحة الحاكم بأن تكون الأفضلية في النصيحة والنقاء والحلم عللاً لتولية الأمور لمن يتصف بهذه الصفات بلحاظ الأفضلية.

7 - التعليل المستفاد في سياق الاستثناء المفرغ:

وهو في الواقع راجع إلى التعليل المتحقق بالعلاقة الاسنادية بين المبتدأ وخبره وبين الفعل وفاعله، لكنه يتميز عنها بما يدل عليه الاستثناء المفرغ من التوكيد والقصر، ومنه قوله علیه السلام: ((أمره بتقوى اللهّ، وإيثار طاعته واتّباع ما أمر به في کتابه، من فرائضه وسننه، الّتي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها)) (75)، يشير النص إلى أنَّ السعادة علة لاتباع الفرائض والسنن وأنَّ الشقاء علة جحود الفرائض والسنن وإنكارها وإضاعتها.

ص: 272

الخاتمة:

وبعد هذه الرحلة في عهد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه، توصل البحث إلى ما يأتي :

1 - إن الإمام علیه السلام قد أسس في عهده المبارك إطاراً عاماً وتفصيلياً عن إدارة شؤون الناس، وقد ضمن ذلك تأسيسه لمنهج تربوي في بيان الأمور؛ ولذا فقد ساق العلل المقنعة التي تساعد على تبني منهجه الرسالي في الحكم وإدارة الدولة. وأنه قد خاطب فطرة الإنسان في ذلك، وكانت تعليلاته متناغمة مع ما تتطلبه نفس الإنسان وعقله بما يساعده على تحويل تلك الفروض إلى واقع عملي تنطلق منه الأمة في تأسيس نفسها وإيجاد کيانها.

2 - إنَّ الإمام علیه السلام قد بَيَّن العلل والقصود التي وراء ذكره مثل هذه الأمور سواء كانت طلبا أو غيره؟ فهذه العلل التي ساقها علیه السلام مقولات تحمل مضامین عالية ومكتنزة الدلالة تسهم في الإقناع لتقبل الطلب أو الحكم، وهي في مجملها تبين النزعة الانسانية التي يريد الإمام علیه السلام غرسها في الحاكم لتتبين إنسانية الدولة وتتحقق دولة الإنسان لا دولة الحاكم.

3 - إنَّ الإمام علیه السلام قد نزل السامع (المتلقي) منزلة السائل في بيانه علل ما أورده؛ ولذا تجد العلل المذكورة تمثل إجابة عن تساؤل مفترض من المتلقي أو هي لدفع إشكال أو شبهة فيما يكون من قصد المتكلم، لكنه بهذا قطع الطريق أمام تلك الاحتمالات الدلالية التي قد تكون مشحونة بالحمولات الثقافية للمتلقي سلباً أو إيجاباً.

4 - إنَّ التعليل متحقق إجمالاً ومتحصل بمضمون الجملة، وما هذه الأدوات

ص: 273

التي يذكرها النحاة للتعليل إلا روابط بين المعلول وعلته، وقد تبين أن التعليل بالجمل هو الأكثر استعمالاً، ويبدو أنَّ ذلك عائد إلى اشتمال الجملة على ما يحسن السكوت عليه أو أنها فكرة تامة المعنى، وهو ما يكون أبلغ في القول وأوقع في النفس.

5 - إن التعليل في العهد المبارك يعد أسلوباً تربوياً وظف فيه الإمام علیه السلام إمكانيات اللغة لبيان الدواعي والأغراض وراء كل حكم أو فرض أو نصيحة عرضها الإمام علیه السلام، وقد تبين أن ذكر الشيء معللا أوقع في النفوس من ذكره مجرداً.

أعتذر إلى الله وإلى سيدي أمير المؤمنين عن كل سوء فهم لا شك أنه من غير قصد.

هوامش البحث:

1. لسان العرب 11 / 471، وينظر: معجم مقاییس اللّغة 4 / 14، القاموس المحيط 4 / 21.

2. لسان العرب 11 / 471، وينظر: معجم مقاییس اللّغة 4 / 13.

3. لسان العرب 11 / 472 مادة (علل).

4. ينظر: الكليات 1 / 250.

5. التعريفات: 88.

6. تحرير التحبير: 309، وينظر الكليات: 2 / 71.

7. ينظر الشرط في القران: 155.

8. لسان العرب: 11 / 471، والصحاح: 5 / 1773، وتاج العروس: 8 / 32، والقاموس المحيط: 4 / 21.

9. السبية والتعليل في التركيب الشرطي - د. مصطفى جطل ونادیا حسکور، بحث، مجلة بحوث جامعة حلب، ع: 17، 1990: 10 - 11.

10. الكشاف: 1 / 82 - 83، والفروق في اللغة: 64.

11. شرح الرضي على الكافية: 2 / 192.

ص: 274

12. ينظر تعليل الاحكام: 112.

13. مباحث العلة: 77. وينظر المستصفی: 1 / 55 - 60، تعليل الاحكام: 119، القياس: 183.

14. ينظر: تعليل الاحکام: 117، القياس: 188 - 189، ومباحث العلة: 73، مباحث التعليل: 80.

15. ينظر الفلسفة نشأة وتطور: 278 - 279.

16. ينظر: حاشية الصبان: 3 / 16.

17. الطراز: 3 / 138 - 139.

18. ينظر: الاتقان: 3 / 250، ومعترك الاقران: 1 / 372.

19. التراكيب اللغوية: 47.

20. البرهان: 4 / 340، وينظر رصف المباني: 223.

21. معاني النحو: 3 / 87.

22. شرح المفصل: 7 / 20.

23. العهد: 27 - 28.

24. العهد: 35.

25. العهد: 39.

26. العهد: 37.

27. - النحو الوافي: 2 / 490.

28. بلاغة القرآن: 1 / 105.

29. العهد 26.

30. العهد: 31.

31. ينظر: ارتشاف الضرب: 2 / 422، مغني اللبيب: 1 / 353، النحو الوافي: 2 / 459 - 460.

32. ينظر: النحو الوافي: 2 / 463.

33. بلاغة القرآن: 1 / 38.

34. العهد 39.

35. ينظر: الجنى الداني: 444، ومغني اللبيب: 1 / 152 - 153، النحو الوافي: 3 / 509.

36. أسلوب التعليل في اللغة العربية: 109.

37. بلاغة القرآن الكريم (الشيخلي): 1 / 397.

38. العهد 41.

ص: 275

39. العهد: 17.

40. شرح المفصل: 7 / 30.

41. بلاغة القرآن: 1 / 466.

42. العهد: 31.

43. العهد: 41.

44. العهد: 23 - 24.

45. العهد 24.

46. ينظر البرهان: 3 / 96، 4 / 229، الاتقان: 2 / 174، وينظر: الحروف العاملة: 43 - 44.

47. تقرير الشربيني: 2 / 308.

48. العهد: 14

49. العهد: 16.

50. العهد: 16.

51. العهد: 18.

52. العهد: 19.

53. الكتاب: 1 / 184، و1 / 185 - 186، وينظر: شرح المفصل: 2 / 53، همع الهوامع: 3 / 133.

54. شرح المفصل: 2 / 52.

55. شرح الرضي على الكافية: 2 / 192.

56. العهد 35

57. ينظر المقتضب: 2 / 46.

58. ينظر: شرح المفصل: 8 / 156، البرهان: 2 / 354.

59. الخصائص: 3 / 175.

60. حاشية الصبان: 4 / 22.

61. العهد: 41.

62. العهد: 19.

63. العهد: 53.

64. ينظر: المقتصد: 1 / 1123 / 1124، شرح المفصل: 7 / 48.

65. العهد: 21.

ص: 276

66. ينظر: المصدر نفسه 171 - 172.

67. ينظر: البحث النحوي عند الأصوليين: 85.

68. ينظر: تصريف الأسماء: 83، وأبنية الصرف في كتاب سيبويه: 171.

69. أسلوب التعليل في اللغة العربية: 190.

70. البحر المحيط: 7 / 178.

71. العهد: 40.

72. العهد: 20.

73. العهد: 21.

74. العهد: 29.

75. العهد: 14.

ص: 277

المصادر والمراجع

القران الكريم.

1. أبنية الصرف في كتاب سيبويه: د. خديجة الحديثي، مكتبة لبنان، ناشرون، بيروت، ط 1، 2003.

2. الاتقان في علوم القرآن: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (911 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، مکتبة ومطبعة المشهد الحسيني، مصر، ط 1، 1387 ه - 1967 م.

3. ارتشاف الضرب من لسان العرب: ابو حيان الاندلسي (745 ه)، تحقيق وتعلیق: د. مصطفی احمد الناس، مطبعة المدني، مصر،، ط 1، 1408 ه - 1987 م.

4. أسلوب التعليل في اللغة العربية: أحمد خضير عباس، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، 1428 ه - 2007 م.

5. البحث النحوي عند الأصوليين: د. مصطفى جمال الدين، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، دار الرشید، بغداد، ط 1، 1980.

6. البحر المحيط: أبو حيان الاندلسي، مكتبة النصر الحديثة، الرياض، د.ت.

7. البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار احیاء الكتب العربية، ط 1، د.ت.

8. بلاغة القرآن الكريم في الإعجاز إعراباً وتفسيراً بإيجاز: بهجت عبد الواحد الشيخلي، مكتبة دنديس، عمان، الأردن، ط 1، 1422 ه - 2001 م.

9. تاج العروس من جواهر القاموس: محب الدين ابو الفيض الحسيني الزبيدي (1205 ه)، المطبعة الخيرية، مصر، ط 1، 1306 ه.

10. تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن: ابن أبي الاصبع المصري (654 ه)، تقدیم وتحقیق: د. حفني محمد شرف، القاهرة، 1383 ه - 1963 م.

ص: 278

11. التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية تطبيقية: د. هادي نهر، مطبعة الارشاد، بغداد، 1987 م.

12. تصريف الأسماء: محمد الطنطاوي، مطبعة وادي الملوك، القاهرة، ط 5، 1955.

13. التعريفات: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (816ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1424 ه ۔ 2003 م.

14. تعليل الاحكام: محمد مصطفى شلبي، دار النهضة العربية، بيروت، 1981 م.

15. تقرير الشربيني بهامش حاشية العطار العطار على جمع الجوامع: الشيخ عبد الرحمن الشربيني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د.ت.

16. الجنى الداني في حروف المعاني: حسن بن قاسم المرادي، تحقیق: د. طه محسن، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، مطابع جامعة الموصل، 1396 ه - 1976 م.

17. حاشية الصبان على شرح الاشموني على الفية ابن مالك (ومعه شرح الشواهد للعيني):

محمد بن علي الصبان (1206 ه)، دار احیاء الكتب العربية، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، مصر، د.ت.

18. الحروف العاملة في القران الكريم بين النحويين والبلاغيين: د. هادي عطية مطر، مكتبة النهضة العربية، بيروت، 1986.

19. الخصائص: أبو الفتح عثمان بن جني (392 ه)، تحقیق: محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، د.ت.

20. رصف المباني في شرح حروف المباني: أحمد بن عبد النور المالقي (702 ه)، تحقيق: أحمد محمد الخراط، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق، 1395 ه - 1975 م.

21. السببية والتعليل في التركيب الشرطي: د. مصطفی جطل ونادیا حسکور، بحث، مجلة بحوث جامعة حلب، ع: 17، 1990.

22. شرح الرضي على الكافية: رضي الدين محمد بن الحسن الاسترابادي (688 ه)، دار الكتب

ص: 279

العلمية، بيروت، لبنان، 1405 ه - 1985 م.

23. شرح المفصل: الشيخ موفق الدين بن يعيش النحوي (643 ه)، عالم الكتب، بيروت، د.ت.

24. الشرط في القرآن على نهج اللسانيات الوصفية: د. عبد السلام المسدي، ود. محمد الهادي الطرابلسي، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، 1985 م.

25. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري (400 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، د.ت.

26. الطراز: يحيى بن حمزة بن علي بن ابراهيم العلوي اليمني (729 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت د.ت.

27. العهد: عهد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه، مؤسسة الرياضي للطباعة العامة.

28. الفروق في اللغة: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري (400 ه)، علق عليه ووضع حواشيه: محمد باسل عيون اسود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 4، 1427 ه - 2006.

29. الفلسفة نشأة وتطور: محمد بدر الدين الصاوي، دار الفكر، بيروت، ط 4، 1393 ه -1973 م.

30. القاموس المحيط : مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (817 ه)، إعداد وتقديم محمد عبد الرحمن المرعشلي ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1424 ه - 2003 م.

31. القياس حقیقته وحجيته: د. مصطفى جمال الدين، النجف، 1972 م.

32. الكتاب: سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (180 ه)، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 1، 1402 ه - 1982 م.

ص: 280

33. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التاويل: الامام جاد المولى محمود بن عمر الزمخشري (538 ه)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، د.ت.

34. الكليات: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (1301 ه)، تحقيق: عدنان درویش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1419 ه - 1998 م.

35. لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (711 ه)، دار صادر، ط 1، بيروت، د.ت.

36. مباحث التعليل عند الاصوليين والامام الغزالي: (أطروحة دكتوراه) حمد عبير الكبيسي، جامعة الازهر 1969 م.

37. مباحث العلة في القياس عند الاصوليين: عبد الحكيم عبد الرحمن اسعد السعدي، بيروت، ط 1 1986 م.

38. المستصفى من علم الاصول: ابو حامد محمد بن محمد الغزالي (ومعه: كتاب فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت للعلامة عبد العلي محمد الانصاري الهندي)، المطبعة الاميرية ببولاق، مصر، ط 1، 1322 ه.

39. معاني النحو: الدكتور فاضل صالح السامرائي، مطبعة التعليم العالي ومطبعة دار الحكمة في الموصل، 1991.

40. معترك الاقران في اعجاز القرآن: جلال الدين السيوطي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، د.ت.

41. معجم مقاييس اللّغة: أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا (395 ه) تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط 2، 1420 ه - 1999 م.

42. مغني اللبيب عن كتب الاعاريب: جمال الدين بن هشام الانصاري، حققه وخرج شواهده: د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، مراجعة سعيد الافغاني، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1969 م.

ص: 281

43. المقتصد في شرح الايضاح: عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: د. كاظم بحر المرجان، بغداد، 1982 م.

44. المقتضب: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد (285 ه) تحقيق الاستاذ محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت، د.ت.

45. النحو الوافي: عباس حسن، انتشارات ناصر خسرو، طهران، ط 8، 1426 ه.

46. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع: جلال الدين السيوطي، تحقيق وشرح: د. عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية، الكويت، 1397 ه - 1977 م.

ص: 282

الحجاج وأثره في بناء العقيدة التوحيد في نهج البلاغة أنموذجا

اشاره

م. د. موفق مجيد ليلو

جامعة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) - ميسان

ص: 283

ص: 284

مقدمة

تسعى هذه القراءة الحجاجية إلى التعريف بالحجاج وارتباطه بالبلاغة والمنطق وكونه وسيلة ناجعة لمقارعة الأباطيل ودفع الشبهات بنور العقل ووضوح الحجة من خلال تتبع السمات الأسلوبية لحجاجية النص الع-ل-وي وتحليلها للوقوف أسرار كلام الأئمة الأطهار (عليه السلام).

ولكن كيف يمكن للحجاج - وهو منهج لساني متداخل مع البلاغة والمنطق والجدل - ان يسهم في بلورة المفاهيم الإنسانية؟

فهل يمكن للحوار اليوم ان يكون طريقا للإقناع في عصر تبددت فيه مفاهيم الحوار والتعايش السلمي مع ما تمر به البشرية من ثورة معلوماتية وتواصلية، إلا ان كل ذلك لم يخفف من حدة العنف والتكفير وإقصاء الآخر. فأصبحت ثقافة العنف ومنطق القوة هما السائدان.

من هنا تنطلق إشكالية البحث وأهميته، إذ نحن أحوج في هذا العصر إلى سيادة منطق الحوار والإقناع في كل خطاباتنا دون ان نقصي الآخر أو نكفره، وأدوات المحاججة والإقناع إنما تتحقق بسلوك هذا المنهج، بل الأحرى ان تسعى المؤسسات التعليمية والتطويرية إلى انتهاج هذه الآليات أو تنشئة الأجيال عليها وزرع ثقافة الإقناع والتعايش والتسامح في مؤسساتها، إي يمكن ان تضاف مادة دراسية ضمن المقررات لهذا الغرض.

وثمة أمر آخر يتعلق بالحجاج، إذ ليس النصوص كلها تعتمده في خطاباتها، ومن هنا نجد ان مواطن المناظرة والجدل والخطابة، وسيدها علي ع تفيض بهذه المعاني، فقد كانت المدة التي قضاها عليه السلام عصر تصارع لإرادات شتى بين

ص: 285

الخوارج من جهة ومعاوية وابن العاص من جهة أخرى وطلحة والزبير من جهة ثالثة كل يصدح بآرائه وعقائده وإعلامه المضلل.

اقتضت منهجية الدراسة ان تكون في مبحثين: أحمدهما اختص بالتعريف بالحجاج لغة واصطلاحا ومفهوم الحجاج في القرآن الكريم واهم تقنياته والابعاد الحجاجية، فيما كان المبحث الثاني عن اثر الحجاج في بناء العقيدة وترسيخها ومظهر ذلك في نصوص النهج من خلال الآليات الاقناعية. ثم ختمت الدراسة بخاتمة تضمنت أهم ما أسفرت عنه.

وسيكون النص موضع الدراسة هو الخطبة الاولى وخطبة (186) في نهج البلاغة بتحقيق د. صبحي الصالح، لأهمية هاتين الخطبتين في موضوع التوحيد وايجازا لما يتسع له المقام.

ص: 286

المبحث الأول: مفهوم الحجاج

الحجاج لغة:

يرتبط لفظ الحجاج بالحجة وهي كما يحددها بعض اللغويون في مادة (حجج) بقولهم: «والحُجَّةُ: وَجْهُ الظَّفَر عند الخُصومة. والفِعل حاجَجْتُه فَحَجَجْتُه. واحتَجَجْتُ عليه بكذا. وجمع الحُجَّة: حُجَجٌ. والحِجاج المصدر. والحَجاجُ: العظمُ المستدير حولَ العَين ويقال: بل هو الأَعْلى الذي تحت الحاجب»(1)، ويشير ابن فارس الى ان هذا الأصل يأتي لأربعة معان هي:

«الأول: القصد، وكل قَصْدٍ حجٌّ، ثم اختُصَّ بهذا الاسمِ القصدُ إلى البيت الحرام للنُّسْك. والحَجِيج: الحاجّ... وممكن أن يكون الحُجَّة مشتقّةً من هذا؛ لأنها تُقْصَد، أو بها يُقْصَد الحقُّ المطلوب. يقال حاججت فلاناً فحجَجْته أي غلبتُه

بالحجّة، وذلك الظّفرُ يكون عند الخصومة، والجمع حُجَج. والمصدر الحِجَاج...

والأصل الآخر: الِحجَّة وهي السّنَة. وقد يمكن أن يُجمع هذا إلى الأصل الأوّل؛ لأن الحجّ في السنة لا يكون إلا مرَّةً واحدة، فكأنَّ العام سُمِّي بما فيه من الحَجّ حِجّة...

والأصل الثالث: الحِجَاجُ، وهو العظْم المستدير حَولَ العَين. يقال للعظيمِ الحِجَاجِ أَحَجُّ، جمع الحِجَاج أحِجَّة...

والأصل الرابع: الحَجْحَجة النُّكوص. يقال: حَمَلوا علينا ثمَّ حَجْحَجُوا. والمُحَجْحِج: العاجز»(2).

ص: 287

ولا شك أن المعنى الاول هو الاقرب الى معنى الحجاج؛ لأنه تضمن معنى الظفر على الخصم والغلبة بالحجة.

الحجاج اصطلاحا

من المعنى اللغوي يمكن ان نرى الربط بين معنى الحجة والحجاج، فالحجة - كما يعرفها الجرجاني - «ما دل به على صحة الدعوى، وقيل: الحجة والدليل واحد»(3)، وأما الدليل فهو «الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وحقيقة الدليل، هو ثبوت الأوسط للأصغر، واندراج الأصغر تحت الأوسط»(4).

أما الجدل فهو: «القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان. دفع المرء خصمه عن إفساده قوله: بحجة، أو شبهة. أو يقصد به تصحيح كلامه، وهو الخصومة في الحقيقة»(5).

وفي كتاب (مصنف في الحجاج - الخطابة الجديدة 1958) ل(بيرلمان وتيتكاه) وهو من الدراسات الحجاجية الرائدة التي سلطت الضوء على المنظومة المفاهيمية للحجاج وأطره ومنطلقاته وتقنياته، وقد حدد المؤلفان مفهوم الحجاج من خلال موضوعه وغايته ف «موضوع نظرية الحجاج هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، او ان تزيد في درجة ذلك التسليم»(6).

فالحجاج بشكل عام: «هو العملية التي من خلالها يسعى المتكلم الى تغيير نظام المعتقدات والتصورات لدى مخاطبه بواسطة الوسائل اللغوية»(7).

فغاية الحجاج تكون بإذعان المتلقي، وهو ما يتحقق عن طريق الاقتناع،

ص: 288

وليس الإقناع، وثمة فرق بينهما، اذ «ان المرء في حالة الاقتناع يكون قد اقنع نفسه، بواسطة أفكاره الخاصة، أما في حالة الإقناع فان الغير هم الذين يقنعونه دائما»(8).

ومن هنا فان الفكرة التي يتحرك الحجاج في مجالها ليست البديهيات وإنما القضايا المشككة، التي يحتاج فيها إلى تدقيق أو تشديد عليها.

والحجاج كما يرد في المعجم الفلسفي: «جملة من الحجج التي يؤتى بها للبرهان على رأي أو إبطاله، أو طريقة تقديم الحجج والاستفادة منها»(9)

وتعرف موسوعة البلاغة الحجاج بأنه: «تقديم براهين بواسطة البشر لتبرير معتقداتهم وقيمهم وللتأثير في أفكار الآخرين وأفعاله»(10)، ويعرفه الدكتور الولي بأنه: «توجيه خطاب إلى متلق ما لأجل تعديل رأيه أو سلوكه أو هما معا، وهو لا يقوم إلا بالكلام المتألف من معجم اللغة الطبيعية»(11)، وهذا يعني ان الحجاج هدفه التأثير والإقناع بالدرجة الأولى عن طريق توظيف اللغة بأساليبها وجمالياتها للإقناع، مع التركيز على إقناع المخاطب وإذعانه لواضح الحجج وقوة البرهان.

إلا ان هذا لا يعني ان الأسلوب لا ينتمي إلى الجهاز المفاهيمي للحجاج، بل له الأهمية الكبرى في البيان والتبيين، ولذا نرى الدكتور صولة يطبق منهج الجمع بين الإقناع والإمتاع أو التأثير والإثارة التي تحققها الخصائص الأسلوبية للنص مستمدا ذلك من نوعي الحجاج البرهاني لبيرلمان وتيتكاه، واللساني لديكرو وانسكمبر.

فانتماء الحجاج إلى البلاغة الجديدة إنما يكون بالجمع بين ما سبق ذكره دون الانسلاخ من الملامح الأسلوبية إلى العقليات فقط والبرهنة، نعم يتداخل الحجاج مع كثير من الاختصاصات المعرفية كالتواصل والجدل والتداولية والبلاغة والمنطق.

ص: 289

مفهوم الحجاج في القرآن الكريم

ترد مادة (حجج) في القرآن الكريم ومشتقاتها في ثلاثة وثلاثين موضعا(12)، والحجة في القرآن الكريم كما يعرفها الراغب: «الدلالة المبينة للمحاجة أي المقصد المستقيم والذي يقتضى صحة أحد النقيضين، قال تعالى: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ» (13)، وقال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا» (14)، فجعل ما يحتج بها الذين ظلموا مستثنى من الحجة وإن لم يكن حجة،... ويجوز أنه سمی ما يحتجون به حجة كقوله: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» (15)، فسمى الداحضة حجة.

وقوله تعالى: «لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ » (16) أي لا احتجاج لظهور البيان، والمحاجة: أن يطلب كل واحد أن يد الآخر عن حجته ومحجته، قال تعالى: «وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ» (17) «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ» (18).

وقال تعالى: «لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ» (19)

وقال تعالى: «هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» (20)

وقال تعالى: «وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ» (21)(22)

ومن هنا يتبين ان الحجاج في القران الكريم دلالة على اقتران هذه اللفظة بوجود طرفين ووتأتي في مواضع المخاصمة والجدال، مع الالتفات الى ان النص القراني استعمل المحاجَّة، ولعل استقراء الآيات الكريمة يشي بمعنى الذم للمحاجة، في حين يستعمل القرآن لفظ الحجة مقترنا ب (بالغة، او داحضة) ففيه وجهان ممدوح واخر مذموم وهو اقرب الى مفهوم الحجاج الحديث (23).

ص: 290

تقنيات الحجاج

تقسم تقنيات الحجاج عن الدارسين الى:

1. الادوات اللغوية الصرفة: مثل الفاظ التعليل، بما فيها الوصل النسبي والتركيب الشرطي وكذلك الافعال اللغوية والحجاج بالتبادل والوصف وتحصيل الحاصل.

2. الآليات البلاغية مثل تقسيم الكل الى اجزائه، والاستعارة والبديع والتمثيل.

3. الآليات شبه المنطقية: ويجسدها السلم الحجاجي بأدواته والياته اللغوية، ويندرج ضمنه كثير منها، مثل الروابط الحجاجية: لكن، حتى، فضلا عن ليس كذا، فحسب، ادوات التوكيد، درجات التوحيد، والاحصاءات، وبعض الاليات التي منها الصيغ الصرفية مثل التعدية بأفعال التفضيل والقياس وصيغ المبالغة (24).

سمات النص الحجاجي

جمع بعض الدارسين أهم سمات النص الحجاجي في اربعة نقاط:

«القصد المعلن اي البحث عن الاثر الذي يحدثه النص في المتلقي اي إقناعه بفكرة معينة، والتناغم: أي قيام النص على منطق دقيق التسلسل، والاستدلال اي السياق العقلي او التطور المنطقي للنص، والبرهنة: واليها ترد الأمثلة والحجج والتقنيات(25).

الأبعاد الحجاجية

إذا كانت البلاغة قد تمحورت حول الإقناع والجدل في بداياتها، فإنها انعطفت بعد ذلك نحو الاهتمام بالألفاظ ومدى فاعليتها في تحقيق جماليات النص، ولكن بيرلمان

ص: 291

وتیتکاه في كتاباتهم أعادوا إليها روح الجدل والإقناع، فأصبحت البلاغة الجديدة - كما يحب ان يسميها بعضهم - هي السائدة والمهيمنة على الدرس البلاغي الحديث.

ويركز البحث الحجاجي القديم والمعاصر على ثلاثة أبعاد رئيسة، وهي الابعاد التي تحقق الاقناع وهي:

«أولا: أخلاق القائل (المحددات السياقية).

ثانيا: تصيير السامع في حالة نفسية ما (التأثير)

ثالثا: القول نفسه من حيث هو يثبت او يبدو انه يثبت» (26).

وهي المحددات والابعاد التي ذكرها ارسطو في بيان الحجة تحت مسميات «الايتوس والباتوس واللوغوس» (27).

ص: 292

المبحث الثاني: حجاجية التوحيد في نهج البلاغة

يمثل التوحيد أصل العلوم والمعارف الكونية، وقد جاءت رسالات الأنبياء للدعوة إليه ونبذ كل ما سوى الحق سبحانه، فلا غرابة ان تخصص له في القرآن الكريم ما يقرب الثلث أو أكثر من آيات العقيدة وتسمى سورة باسم التوحيد وتعدل ثلث القران، وفي نهج البلاغة ما يقاربها، إلا إننا أشرنا فيما سبق إلى أن الحجاج يتركز على المشككات لا البديهيات، وربما يرى أكثرنا أن التوحيد أو قل وجود الخالق أو الصانع لهذا الكون العظيم من بديهيات العقل، فلماذا إذن نستدل أو نوظف الحجاج في ترسيخ أو إقناع الآخر بذلك؟

ويمكن الاجابة على ذلك بالقول بأن هناك الكثير - وخاصة في موجة الإلحاد والعلمنة - ممن يتناسون وجود الحق سبحانه، بل ويسلطون العقل حتی علی الغيب، فلا إيران إلا بما تخلقه التجربة ويعضده البرهان، ولا بدء للخليقة إلا بنظريات وفرضيات يؤيدها العلم وتقدرها الحسابات، وفي هذه الظروف يبقى الحوار الإقناعي والحجاجي هو المهيمن على منطق هؤلاء، فنحن نحتاج إلى أدلة عقليه وبراهين تجعل الحجة تنطق على لسان المتلقي فتتشكل لديه ملكة الاقتناع الذاتي بما يمكن ان يضمن ما نسميه (بالأمن العقائدي أو الفكري)، وهو ما نحتاج إلى ترسيخه لدى الآخر ممن لا يؤمن الا بالمادة فضلا عن تحصين المجتمع لا سيما الشباب ضد موجات الالحاد، وهو ما يمكن ان يقدمه نهج البلاغة من منهج (احترام العقل) وترسيخ القناعات بلغة الحوار، بعيدا عن فرض القوة أو السلطة وجعلها قناة للتواصل.

ص: 293

ونهج البلاغة بسمته الخطابية يمثل معينا لا ينضب، كل وارد عليه ينهل منه بقدره (أي بقدر الوارد لا المورد)، فهو يخاطب الخاص والعام مراعيا خصوصيات الزمان والمكان مع قدرته على مواكبة الزمن، بل والسبق فيه، فتأتي النصوص سابقة لعصرها ( وربما أثارت هذه الإشكالية بعض المشككين ف نسبته ومثلت إحدى شبهاتهم المدعاة)(28). وفي أحلك الظروف وأشدها يجيب الإمام علي ع عن إشكالات توحيدية تحتاج إلى مجالس وتوضيحات كثيرة لكنه يقدمها بلغة مكثفة إقناعية يذعن لها المتلقي.

خصوصية النص العلوي

لماذا نهج البلاغة؟ ولماذا الحجاج؟

فلنتفق أولا على ان عصر علي (عليه السلام) كان مليئا بالإحداث، حيث واجه (عليه السلام) أعتى الانقسامات التي شهدتها الأمة، وهو الوحيد من بين الأربعة الذي جمع بين الإمامة والمبايعة من قبل الجماهير، فكانت حرب صفين والجمل والنهروان، وكان يجادلهم بمنطق العقل والنص، التي تستبطن حضورا قويا للحجة والبرهان.

ولما كان نهج البلاغة في أكثره خطابا بكل ما للكلمة من محمولات حديثة، وخاصة باب الخطب، فهو بهذا يتميز بجملة من المميزات الأسلوبية التي تلقي بظلالها على النصوص، ومن أهم تلك الملامح الأسلوبية لحجاج النهج:

1. استعمال الروابط الحجاجية ووسائل التعليل مثل (لام التعليل، فاء السببية، لأن، ...) وخاصة في مواضع الحجاج العقائدي.

2. استعمال السؤال الإنكاري.

ص: 294

3. استعمال البرهان والحجة.

4. الاستشهاد بالنص القرآني والشعر العربي والأمثال العربية.

5. استخدام التصوير (التشبيه والمجاز والكناية) في خلق القناعات وتبديد الشبهات.

6. التكرار في مناسبات كثيرة والتركيز على المقدمات العقدية.

7. البناء الهرمي للنصوص (أو القضايا) بالتعبير المنطقي في تسلسل فريد يعجز المرء عن محاكاته. وتقديم فقرة على اخرى في تدرج نصي يوظف كل معاییر النصية.

8. فرادة الانتقاء للكلمة.

9. قوة الإيقاع وتساوي الفقرات، بل تماثلها أحيانا، وتوظيف البديع كوسيط إقناعي تطرب له النفس ويذعن له العقل والخيال.

البناء المنطقي للنص

يتميز النص العلوي ببنائه المسبوك الذي يرتب النتائج على المقدمات في سلسلة متتابعة من الهرميات والقياسات العقلية مع مراعاة الدقة في الانتقاء وجرس الكلمة والتوازن الايقاعي الذي تخلقه الجمل المترابطة بالروابط الحجاجية التي تشير الى ربط الاسباب بمسبباتها، كيف لنا ان حلل نصا کسبيكة الذهب تذوب فيه كل عناصر الابداع وتتماهى فيه كل عظمة المرسل، فتتشابك الصور مع دقة الكلمة ورقة العبارة والايقاع وقوة الكلمة ففي بيان خلق الخلائق يشير الى العلة من ذلك وهي علة تستدعي في المتلقي روح النظر والتفكر وتوقظ في نفسه التأمل فيما حوله في جمل مترابطة ومتوازية احيانا، سأكتب الفقرات بشكل

ص: 295

عمودي ليتبين مقدار التجانس والتوازي بين الجمل والذي يسهم بشكل كبير في التأسيس للقناعات والاعتقادات لقرب الايقاع من النفس وهيمنته ولا سيما ان كان المعنى ساميا والسبك قويا فلا يترك للمتلقي محلا للتشكيك بعد ان تتوالى الحجج والادلة بخطاب عقلي تأملي يخلق في نفس متلقيه الاقناع والتأثير.

إذن ثمة حجة سببية تتصل بكل ما سبق تأتي في ختام الفقرة.

فمن وصف اللهّ سبحانه فقد قرنه

ومن قرنه فقد ثنّاه

ومن ثنّاه فقد جزّاه

ومن جزّأه فقد جهله.

ومن جهله فقد أشار إليه

ومن أشار إليه فقد حدّه

ومن حدّه فقد عدّه

ومن قال فيم فقد ضمّنه

ومن قال علام فقد أخلى منه

ومن ذلك ايضا قوله:

«خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَی غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ،

وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَی خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ.

وَأَنْشَأَ الأرض

فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال،

وَأَرْسَاهَا عَلَی غَيْرِ قَرَار،.

ص: 296

وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ،

وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ،

يلحظ التوازن بين الجمل مع تكرار الغيرية بشكل لافت للانتباه والتي تشير الى اللاسببية والابداع في خلة الكون، فاطر السموات والارض.

الخلق مثال

الامساك اشتغال

الارساء (غير) قرار

الاقامة قوائم

الرفع دعائم

المظاهر اللغوية للحجاج في النص العلوي

أ. حجاجية التكرار في النص العلوي

تبدو اهمية التكرير «في الحجاج من حيث التقرير والكشف والتوكيد والاثبات والاقناع وهو ما يسمى الاقناع بالتكرير (Repeating)(29).

ويعد التكرار من الأساليب المهمة في النصوص الحجاجية ذلك انه «يوفر لها طاقة مضافة تحدث أثرا جليلا في المتلقي وتساعد على نحو فعال في إقناعه أو حمله على الإذعان ذلك ان التكرار يساعد أولا على التبليغ والإفهام ويعين المتكلم ثانيا على ترسيخ الرأي او الفكرة في الأذهان»(30).

ففي فاتحة الخطبة الاولى وهو قوله:

«أوّل الدّين معرفته وكمال معرفته التّصديق به. وكمال التّصديق به توحيده. وكمال توحيده الإخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه لشهادة كلّ

ص: 297

صفة أنّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف اللهّ سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثنّاه. ومن ثنّاه فقد جزّاه. ومن جزّأه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار إليه. ومن أشار إليه فقد حدّه. ومن حدّه فقد عدّه. ومن قال فيم فقد ضمّنه. ومن قال علام فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث. موجود لا عن عدم. مع كلّ شيء لا بمقارنة. وغير كلّ شيء لا بمزايلة. فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحّد إذ لا سکن يستأنس به ولا يستوحش لفقده» (31).

تنبني هذه الفقرات بناء هرميا يرتفع شيئا فشيئا من خلال لبنات تشكل القاعدة والأساس في بناء عقيدة صحيحة من خلال وسيلة السبية وبروابط حجاجية توضح العلة من ذلك بأدلة عقلية خالصة تستميل المتلقي بدقة العبارة واختيارها وتخلق أثرا في إيقاعها كما يلي:

أوّل الدّين معرفته

وکمال معرفته التّصديق به

وكمال التّصديق به توحيده

وکمال توحيده الإخلاص له

وکمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه... ل... شهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف

وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة

ويقدم التكرار ربطا لفظيا ومعنويا لسياق يكثر فيه الترديد، وهذا ما يتضح في مقدمة الخطبة الأولى في نهج البلاغة، وهي مخصصة في مطلعها للتوحيد ونفي الشريك وبين صفات الخالق سبحانه، في بناء تسلسلي يتركب اللاحق على السابق،

ص: 298

إذ ليس بالإمكان التقديم او التأخير لجملة واحدة فضلا عن الكلمة، فأول الدين معرفة الله (والضمير يعود على الله سبحانه وتعالى لما ورد من إشارة في أول الخطبة: الحمد لله الذي...)، وكمال المعرفة ترتكز على التّصديق به... وهذا حتى تنتهي إلى بیان العلة «لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة.

ويمكن النظر إلى النص السابق من زاويتين فالبناء الحجاجي الذي يستعين بالجملة الخبرية لتثبيت الفكرة وترسيخها ومن خلال تسلسل هرمي واضح، تتأسس فيه كل فقرة على ما بعدها حتى تنتهي الفقرة بجملة السببية أو العلة.

ويعمل التكرار کرابط إيقاعي بين الجمل القصيرة والتي تتركب من الشرط والجزاء، اذ يترتب كل نتيجة على شرطها، وكل هذه الجمل مرتبطة بأداة واحدة هي (من) التي تفيد العاقل، دون ان تحدده أو تقيده، لذا فهو يمكن ان ينطبق على كل من (وصفه، ثناه، جزأه، جهله...، فهو خطاب على مستوى عام ودائم لا يقيد بزمان أو مكان، بل يبقى قائما ومناسبا لكل زمان، وهذا من أسرار ديمومته، ويلحظ عليه الاختزال والإيجاز، فضلا عن قيامه بالضرورة - كشأن الخطابة - على «الانتقاء والاختيار، انتقاء ما يراه مناسبا للمقام واختيار الحجج الأقدر على الفعل والتأثير»(32)، واسلوب الشرط يتضمن العلة والمعلول او السبب والنتيجة فلا يخلو من عرض للاسباب التي تؤدي إلى تسلسل النتائج من خلال مقولات عقلية واضحة لا تقبل التشكيك ولا الجدل، فمن ذلك مثلا «فمن وصف اللهّ سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّاه فالوصف يقتضي القرن، والقرن يؤدي إلى التثنية، والتثنية تستدعي التجزئة وهكذا... والملاحظ على البنية الحجاجية للنص أنها اتكأت على التكرار وجملة الشرط بالدرجة الأولى.

ص: 299

ويتضح التكرار في النص في بعض الفقرات:

كائن لا عن حدث

موجود لا عن عدم

مع كلّ شيء لا بمقارنة

وغير كلّ شيء لا بمزايلة

فاعل لا بمعنى الحركات والآلة

بصير إذ لا منظور إليه من خلقه

متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.

ولعل التكرار يتضح جليا في نص الخطبة الاولى على مستوى اللفظ فقد تكررت (لا) ثماني مرات في النص السابق، وعلى مستوى التركيب وان اختلفت الجمل الا ان النسق واحد في كثير من الجمل وثمة تقارب واضح في عدد مفردات كل جملة من الخطبة السابقة. وكما معلوم فانه اي التكرار «شكل من اشكال الاتساق المعجمي الذي يتطلب اعادة عنصر معجمي او ورود مرادف له او شبه مرادف او عنصر ا مطلقا او اسما عاما»(33).

ب. حجاجية النفي

يمثل النفي أو (السلب) آلية مهمة لنقض الافكار والاشتغال على اثبات اضدادها، وتتجلى أهميته في كونه «الية للنقض، تفتت أسس الرأي المضاد أو تنزع عنه المصداقية وتثبت بدلة الرأي المتبنى»(34).

ففي خطبة واحدة تكررت لا النافية فقط بأشكالها المختلفة ما يزيد عن السبعين مرة، فضلا عن الادوات الاخرى مثل (ما، لم، ليس، غير...) فهي

ص: 300

الاخرى تكررت لتعبر عن سلب كل ما (عجز وضعف وجارحة عن الذات المقدسة) لتثبت في الطرف الاخر الكمال والاطلاق لذاته سبحانه وتعالى. وكل تلك الجمل المنفية / المثبِتة (بكسر الباء) ترتبط بروابط الوصل ضمن بناء متسلسل، اذ الوصل هو ««تحديد الطريقة التي يترابط بها اللاحق السابق بشكل منظم» (35).

وضمن هذا البناء يأتي النفي ليقوض التصورات والاوهام كما في قوله:

«مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ

وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ،

وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ،

وَلاَ صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ.

يلحظ المتأمل في هذه الجمل الترابط النصي الذي تخلقه الواو بمعية النفي او (لا) الزائدة لتوكيد النفي، فكأنها نتائج مقدمة على اسبابها، مع ملاحظة السلب في القضية الذي يكون اقوى من الصورة لو كان (من كيفه ما وحده)، فمجابهة المتلقي بالسلب أشد وقعا على النفس وأكثر تأثيرا، اذ به تنتفي صفات (التوحيد، اصابة الحقيقة، القصد، الصمدية).

ثم ترتبط الجملة التي بعدها بالفصل للإجابة عن سؤال افتراضي وهو ان من تجري عليه الكيفية والتمثيل والتشبيه والاشارة والتوهم يكون خالقا ام مخلوقا؟ صانعا ام مصنوعا؟ وهو قوله:

كُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ

وَكُلُّ قَائِم فِ سِوَاهُ مَعْلُولٌ

وقد ترك الوصل هنا لبيان العلة اذ تشعر الجملتان أعلاه بعلة ما ذكر فترك

ص: 301

الوصل فيها، وعطف الثانية على الاولى. وهي قضايا عقلية كلية تبدأ بلفظ العموم (کل)، او يمكن القول انها من البديهيات اتي لا تحتاج الى عظيم جهد لإدراكها.

وفي موضع آخر يشير الى علة الخلق بجمل تكثر فيها ادوات النفي (لم، ولا) وهو آكد في تقرير من الاخبار المثبت، ويلحظ الصعود في بيان العلل في السلم الحجاجي في الملفوظات بشكل تصاعدي ويتضح ذلك في قوله (عليه السلام):

لَمْ يَتَكَأدْهُ صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ،

وَلَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَخَلَقَهُ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا:

وَلاَ لِوَحْشَة كَانَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا م 7

ولاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ م 6

وَلاَ لِلاْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ م 5

وَلاَ لِلاْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر م 4

وَلاَ لِلاْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَی نِدٍّ مُكَاثِر م 3

وَلاَ لِخَوْف مِنْ زَوَال وَنُقْصَان م 2

لِتَشْدِيدِ سُلْطَان م 1

ولم يذكر النتيجة هنا بل يشير الى اليها بعد الاشارة الى الفناء والبعث، مع مراعاة تسلسل الحجج السلبية واستيفاء كل الممكنات التي تجري على المخلوق والمصنوع دون الخالق، والنتيجة هي «لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأمسَكَهَا بِأَمْرِهِ،

وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ».، فليس ثمة احتياج او فقر في ساحة المطلق، وكل العلل المذكورة علل افتقار للممكن دون واجب الوجود، وهو ما يثبته حرف الاستدراك (لكن) وهو رابط حجاجي يأتي مسبوقا بالنفي فيسلب ما قبله، مهما قل او كثر،

ص: 302

ليثبت ما بعده.

ومنه قوله:

وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَال،

وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الاْحْوَالِ،

وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالي وَالاَيَّامُ،

وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالظَّلاَمُ،

وَلاَ يُوصَفُ بِشَيء مِنَ الاْجْزَاءِ

وَلاَ بِالجَوَارِحِ وَالاْعْضَاءِ،

وَلاَ بِعَرَض مِنَ الاْعْرَاضِ،

وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَالاْبْعَاضِ.

وَلاَ يُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ،

وَلاَ انقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ،

وقوله:

لاَ يُشْمَلُ بِحَدّ،

وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ،

وقوله:

لاَ تَصْحَبُهُ الاْوْقَاتُ،

وَلاَ تَرْفِدُهُ الاْدَوَاتُ،

في الجمل المنفية المترابطة بالواو وكأنها جملة واحدة مع زيادة التوكيد بالنفي

ص: 303

اشعار بسلب النقص بوجوهه المختلفة من التغير والتبدل والوصف بالجزئية والجسمية والعرضية والغيرية والحدية والمنتهى فضلا عن الانقطاع والغاية وكلها صفات المحدود لا المطلق وهي ادلة على النقص، ودفع النقص وتنزيه الخالق اسبق من وصفه بصفات الكمال، لأن نفي الجسمية والحسية عن ذات الحق سبحانه لا تستبطن اثباتا لصفات الكمال له سبحانه، وهذا الاسلوب أي النفي اكثر وقعا واقناعا للمتلقي.

ومثله قوله:

لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً.

وقوله:

لاَ تَنَالُهُ الاْوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ،

وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ،

وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ،

وَلاَ تَلْمِسُهُ الاْيْدِي فَتَمَسَّهُ.

لَيْسَ فِي الاْشْيَاءِ بِوَالِج، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِج.

تقدم هذه الجمل اسبابا وعللاً للنتائج التي ترتبط بفاء السببية، فالخالق لم يلد ولذلك فهو لا يكون مولودا، ولم يولد لأنه ان كان كذلك فسيكون محدودا لأنه سيكون ممكنا ومعدوما ثم وجد، وهكذا في بقية الاسباب التي تؤدي بدليل العقل واثارة الفكر الى النتائج المذكورة لتنزيه الخالق سبحانه مثلا اذا لم يكن مدركا بالحواس فلاشك انه لا يحس، واذا كان الفطن لا تتوهمه فلا يمكن ان يصوّر.

ص: 304

ج - حجاج التعليل بالأداة

تقوم حجة السببية في هذه الخطبة بشكل واضح يتجلى في الاكثار من الروابط السببية كاللام والفاء السببية والباء الجارة (التي تفيد التعليل)، فمن امثلتها في اللام:

لَمْ يَتَكَأدْهُ صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ،

وَلَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَخَلَقَهُ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا... لِتَشْدِيدِ سُلْطَان،

وَلاَ لِخَوْف مِنْ زَوَال وَنُقْصَان،

وَلاَ لِلاْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَی نِدٍّ مُكَاثِر

وَلاَ لِلاْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر

وَلاَ لِلاْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ،

ولاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ،

وَلاَ لِوَحْشَة كَانَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا.

تنبني هذه الفقرة على تنوع الاسباب لام التعليل مع اختلاف العلة واستيفاء الوجوه في علة الخلق، وفي الفناء ايضا يشير الى العلة من ذلك بروابط الواو ولكن

ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا،

لاَ لِسَأَم دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا،

وَلاَ لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَيْهِ، وَلاَ لِثِقَلِ شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ.

لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَی سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأمسَكَهَا

بِأَمْرِهِ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ.

ص: 305

وفي مرحلة البعث والنشور ايضا دون حاجة اليها.

ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهَا،

وَلاَ اسْتِعَانَة بَشَيْء مِنْهَا عَلَيْهَا،

وَلاَ لِانصِرَاف مِنْ حَال وَحْشَة إلَی حَالِ اسْتِئْنَاس،

وَلاَ مِنْ حَالِ جَهْل وَعَمىً إِلَی [حَالِ] عِلْم وَالْتِمَاس،

وَلاَ مِنْ فَقْر وَحَاجَة إِلَی غِنىً وَكَثْرَة،

وَلَا مِنْ ذُلٍّ وَضَعَة إِلَی عِزٍّ وَقُدْرَة (36).

وتظهر فاعلية التعليل بالباء في الخطبة نفسها في موضع آخر في قوله:

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ

وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الأمور عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ،

وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الأشياء عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ.

فالباء في النص السابق تعليلية تقدمت تقدم السبب على النتيجة والعلة على المعلول، مع التنغيم الذي يخلقه الجناس والاشتقاقات في كل جملة على حدة وكما يتضح:

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ...مَشْعَرَ

وَبِمُضَادَّتِهِ...ضِدَّ

وَبِمُقَارَنَتِهِ...قَرِينَ

ومعلوم ما للأثر الصوتي والايقاع من هيمنة على الخطابة بشكل عام وهذا النص خاصة، فهو يصطنع جوا مؤثرا ويستميل المتلقي وتزيد عوامل الانشداد في نفسه.

ص: 306

والرابط الثالث هو فاء السببية التي تتكرر في النص بشكل واضح مشيرة الى العلة

لاَ يُقَالُ: كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ،

وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ.

ومنه قوله:

خَضَعَتِ الاْشْيَاءُ لَهُ،

وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ،

لاَ تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَی غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ،

وَلاَ كُفؤَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ.

هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا

ومنه قوله

وَلاَ أَنَّ الاْشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ،

أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ، فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ.

وكثرا ما تأتي الاسباب بعد مقدمات كثرة، تعتمد في اغلبها عى النفي والربط بالواو، وهو ما يتضح في قوله:

يُخْبِرُ لاَ بِلِسَان وَلَهوَات، وَيَسْمَعُ لاَ بِخُروُق وَأَدَوَات،

يَقُولُ وَلاَ يَلْفِظُ،

وَيَحْفَظُ وَلاَ يَتَحَفَّظُ،

ص: 307

وَيُرِيدُ وَلاَ يُضْمِرُ.

يُحِبُّ وَيَرْضَی مِنْ غَيْرِ رِقَّة،

وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّة.

يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، لاَ بِصَوْت يَقْرَعُ،

وَلاَ بِنِدَاء يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ،

وكقوله:

لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً

وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً.

د - حجاجية البنية الصرفية

من اشكال التكرار التي وردت في النص تكرار البنية الصرفية كاسم الفاعل واسم المفعول، والافعال المضارعة، فمن تكرار اسم الفاعل قوله:

فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَة،

مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَة،

وقوله

لَيْسَ فِي الاْشْيَاءِ بِوَالِج، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِج.

وقوله

مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا،

مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا،

مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِداتِهَا،

ص: 308

مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا

وعند التأمل في هذه الجمل نرى ان كل صيغ اسم الفاعل جاءت نكرة للتعبير عن العموم والاطلاق في الصفة، ففي الجملتين الاوالى والثانية نلحظ نفي الواسطة زيادة في التوكيد اذ القيد المذكور لنفي صفات الممكن عنه سبحانه.

ولا يخفى ان دلالة اسم الفاعل تختزن في داخلها مفهوم الفعل (فالفاعل الصانع والخالق)، في حين تكرارا اخر ولكن لصفة لمخلوق (اسم المفعول) وهي تستبطن حمولة لغوية لما وقع عليه الفعل. في قوله:

لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً.

وقوله:

وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ.

ومن حجاجية الصيغة الصرفية كثرة تردد الفعل المضارع المنفي ب(لا) او (لم) ايضا:

(تصحبه، ترفده، يشمل، يحسب، يجري، يحول، يزول، يجوز، يلد، يولد، تناله، يتغير، يتبدل، تبيله، يغيره، يوصف، يقال، يلفظ، يتحفظ، يضمر، يكن، يقال، يكون، يستغن، يعجزه، يمتنع، يحتاج، يتكأده، يؤده، يكونها).

هذه اهم الافعال المضارعة المنفية في النص، وهي كما يتضح افعال مضارعة تشير الى نفي هذه الصفات واللوازم حالا واستقبالا بما لا يدع مجالا لإثبات صفة المخلوق له سبحانه عما يصفون، وفي اكثر الاحوال نجد ان افعال السلب (المنفية) تأتي مضارعة لما لها من امتداد زمني طولي غير منقطع الاب القرينة، في حين تأتي

ص: 309

افعال الوصف او الايجاب للذات الالهية او ما يسمى بالصفات الثبوتية بصيغة الفعل الماضي الدال على التحقق في الماضي والوقوع، وهو ملم اسلوبي يضفي بعدا حجاجيا اعمق في نفس المتلقي، وهذا لاعني ان الفعل الماضي لم يأت منفيا (سلبيا) في ال نص قط - بل جاء ولكن في مواضع قليلة وكذلك بالنسبة للفعل المضارع ( الثبوتي).

من ذلك مثلا قوله (عليه السلام): «وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ، يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، كَذلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلاَ وَقْت وَلاَ

مَكَان، وَلاَ حِین وَلاَ زَمَان».

ومن صور ورود الفعل الماضي لأثبات الفعل قوله:

وَحَصَّنَهَا مِنَ الاْوَدَ وَالاْعْوِجَاجِ،

وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَالانْفِرَاجِ،

أَرْسَى أَوْتَادَهَا،

وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا،

وَاسْتَفَاضَ عُيُونَهَا

وَخَدَّ أَوْدِيَتَهَا،

فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ.

ويظهر من النص اعلاه الفعل الماضي وهو يدل على الوقوع فلم يسبق بنفي الا في (ضعف) وقد جاء ماضيا مراعاة للنفي الذي وقع في الفعل المضارع المنفي ب(لم) اذ العطف يقتضي التشريك، المضارع المنفي ب (لم) بحكم الماضي، بل هو ماض، لذا عطف عليه ب(لا) زيادة في توكيد النفي ودلالة على امتداد الفعل في الازل.

ص: 310

ومن ورود الماضي ايضا قوله:

1. جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الاْبْنَاءِ

2. وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ..

3. سَبَقَ الاْوْقَاتَ كَوْنُهُ

4. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ

5. بِهَا تَجَلَّی صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ

6. وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ 312

ص: 311

الخاتمة

بعد تلك القراءة السريعة لخطبتي النهج (الاولى و186) يمكن للباحث ان يشير الى اهم الملامح الحجاجية للنص بعد التأمل والتحليل ومنها:

1. مع ان الدين - كما يرى بعض الدارسين - من الموضوعات البديهية التي لا تخضع للحجاج بل تدخل ضمن دائرة الايمان، فان مباحث العقيدة كما يشير العلماء والفقهاء لابد ان تكون عن قناعة ودليل، بل لابد من استحصالها والوصول فيها الى يقين قطعي في اثبات العقائد، ويمثل الحجاج خير وسيلة اقناعية في هذا المورد، اذ يحقق الإقناع والاطمئنان بدليل العقل وساطع البرهان.

2. تزداد الحاجة اليوم الى بناء القناعات ولا سيما في الوقت الذي ترتفع فيه اصوات الدعوات الضالة ومن يروج لها، فلا حاجة الى التصعيد او التكفير، بل يكفي ان نصنع القناعات في مجتمعنا في شتى الميادين من خلال المنهج الحجاجي والادلة العقلية فيما يتعلق بالعقيدة، فالأمر يحتاج الى ثورة فكرية ومواجهة لكل تيارات الانحراف وهي مسؤولية كل مؤمن رسالي فضلا عن المثقف ورجل الدين.

3. في النص العلوي تهيمن الروابط الحجاجية لا سيما حروف العليل والسببية بشكل لافت للنظر مثل (الفاء واللام والباء...) وهي تشعر بقوة الخطاب المتوجه من الباث الى المتلقي معززة كل نتيجة بجملة اسباب لا بسبب واحد من خلا توظيف الروابط وسبكها للنص.

4. يسهم التكرار في بناء النص بناء حجاجيا كونه عاملا مهما من عوامل خلق الاقناع والتوكيد والتركيز على الافكار المركزية والبؤر الاساسية للنص.

5. روابط العطف هي الأخرى تكثر في النص وتزيد من قوة سبكه وعطف

ص: 312

الحجج بعضها على البعض وربط الاسباب بمسباتها واحيانا يتطلب الامر عشرات الجمل، فلابد من وجود الروابط التي تسبك النص وتخلق بين فقراته التماسك.

6. مثل النفي وهو آلية النقض ودحض الفكرة وابطال الحجة في النص العلوي وقد تنوعت اساليبه بين نفي الجملة والمفردة، ومع اقتران النفي بالتكرار تزداد الطاقة الاقناعية للنص، اذ يشكل النفي نقضا لفكرة وهدمها، ومن ثم بناء منظومة عقيدية اخرى، وتجدر الاشارة الى كثرة تردد النفي في الخطاب التوحيدي، لأن سلب صفات الممكن عن واجب الوجود تقتضي وفرة الادوات التي تنزه الخالق عن صفات المخلوق.

7. البناء التسلسلي او السمي للحجج والتأسيس على بعضها البعض يضفي على النص تماسكا وحجاجية اكثر لاسيما مع توالي المقدمات - مع كثرتها - وارتباطها بالنتائج.

هوامش البحث:

1. كتاب العين: ج 3 / 10.

2. مقاییس اللغة: ج 2 / 23 - 24

3. التعريفات: 67.

4. التعريفات: 86

5. التعريفات: 60

6. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 13، نقلا عن مصنف في الحجاج: 5

7. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 68، نقلا عن مصنف في الحجاج: 146

8. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 15، نقلا عن مصنف في الحجاج: 54

9. المعجم الفلسفي: ج 1 / 446.

10. موسوعة البلاغة:ج 1 / 143.

11. مدخل إلى الحجاج - أفلاطون وأرسطو وشاییم بیرلمان: محمد الولي: 11. مجلة عالم الفكر، مج 40

ص: 313

ع 2، 2011 م.

12. ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم: 194

13. سورة الأنعام: 149

14. سورة البقرة: 150

15. سورة الشوری: 16

16. سورة الشوری: 15.

17. سورة الأنعام: 80

18. سورة آل عمران: 61.

19. سورة ال عمران: 65

20. سورة ال عمران: 66

21. سورة غافر: 47

22. المفردات في غريب القرآن: 108.

23. ينظر: مفهوم الحجاج في القران الكريم - دراسة مصطلحية: د. لمهابة محفوظ میارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد 81، ج 3،

24. استراتيجيات الخطاب: 477

25. ينظر: الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 26 - 27

26. بلاغة الحجاج في الشعر القديم: 17.

27. معجم تحليل الخطاب باتريك شارودو ودومينيك مانغولو: 23.

28. ينظر: مصادر نهج البلاغة.

29. بلاغة الحجاج في الشعر القديم: 61

30. الحجاج في الشعر العربي: 168

31. نهج البلاغة: 17 - 18

32. دراسات في الحجاج: 122.

33. لسانیات النص: 19 - 17

34. بلاغة الاقناع في المناظرة: 223

35. لسانیات النص: 22

36. نهج البلاغة: 342

ص: 314

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. استراتيجيات الخطاب - مقاربة لغوية تداولية: د. عبد الهادي ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بنغازي ليبيا، ط 1، 2004 م

2. بلاغة الاقناع في المناظرة: د. عبد اللطيف عادل، منشورات دار ضفاف، والاختلاف - بيروت، ط 1، 2013 م.

3. بلاغة الحجاج في الشعر القديم: د. محمد سيد علي عبد العال، مكتبة الآداب - القاهرة، ط 1، 2014 م.

4. التعريفات: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (816 ه)، دار أحياء التراث العربي - بيروت ط 1، 2003 م.

5. الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: د. سامية الدريدي، عالم الكتب الحديث، اربد - الاردن، ط 2، 2011 م.

6. دراسات في الحجاج: د. سامية الدريدي، عالم الكتب الحديث، عمان ط 1، 2009 م.

7. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: د. عبد الله صولة، دار الجنوب، تونس ،ط 1، 2011 م.

8. كتاب العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائی، دار ومكتبة الهلال.

9. لسانيات النص - مدخل الى انسجام الخطاب: محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2006 م.

10. مدخل إلى الحجاج - أفلاطون وأرسطو وشاييم بيرلمان: د. محمد الولي، مجلة عالم الفكر، مجلة دورية محكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،

ص: 315

مج 40 ع 2، 2011 م.

11. مدخل إلى الحجاج: أفلاطون وأرسطو وشاییم بیرلمان، د. محمد الولي، 11، مجلة عالم الفكر، مج 40 - ع 2، 2011 م.

12. المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا، منشورات ذوي القربی، مط: سلیمانزادة، إيران، ط 1، 1385 ه.

13. المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1364 ه.

14. معجم تحليل الخطاب باتریك شارودو ودومینیك مانغونو، ترجمة: عبد القادر المهيري حمادي صمود، المركز الوطني للترجمة - تونس 2008 م.

15. المفردات في غريب القران: الراغب الأصفهاني (502 ه)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت.

16. مفهوم الحجاج في القران الكريم - دراسة مصطلحية: د. لمهابة محفوظ میارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد 81، ج 3،

17. مقاییس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زکَرِیّا (395 ه)، تحقيق: عبد السَّلام محمد هَارُون، اتحاد الكتاب العرب، 1423 ه - 2002 م.

18. موسوعة البلاغة: تحریر: توماس أ.سلون، ترجمة: نخبة، إشراف: عماد عبد اللطيف، مصطفي لبيب، المركز القومي للترجمة، مصر، 2016 م.

ص: 316

الضرورة الشعرية بين أحكام النحويين وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

اشارة

«دراسة في نقص الاستقراء النحوي»

م. م. حيدر هادي خلخال الشيباني

كلية التربية للعلوم الإنسانية - جامعة بابل

ص: 317

ص: 318

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على النبيِّ العربيِّ الأمينِ، سَیدِنا محمدٍ (صلی الله علیه وآله) خاتمِ المرسَلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصَحبِهِ الغُرِّ الميامين.

أمّا بعدُ

فغير خافٍ على أُولي الدراية والنُّهي، وعلى أرباب الفكر والمعرفة، أنَّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عامة والمجموع في (نهج البلاغة) خاصة بحرٌ لا يُدرك قرارُه، ولا تُسبرُ أغوارُه، فهو ذروةُ الكلامِ العربي الفصيح بعد كلام الباري عز وجل، وکلام نبيِّه المصطفی (صلی الله علیه وآله)، وقد ضمَّ نفحاتٍ من كلامِ العزيز الجبار، وقبسات من بدائع النبيِّ المختار، وحوى من الأساليب النحوية أرقاها، وتضمن من جواهر المعاني أعلاها، ولا شك في ذلك فهو ((كلام دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوقين)).

وتسعى دراستنا هذه إلى نقد القواعد النحوية التي بُنيت على استقراء ناقص، وتصحيح بعض ما تقرر من أحكام نحوية قصرها النحويون على لغة الشعر وحده، اتضح خلاف ذلك، فهي واردة في النظم والنثر على حد سواء، مستندين بذلك إلى كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، فهو نص عربي فصيح فريد في لغته وتراکیبه، قد جاء على وفق معايير علماء العربية فيما يصح الاستشهاد به، لكنه لم ينلْ استحقاقه في الدرس النحوي.

وفي الختام أَرجو أن أكون قد وفِقتُ في عملي هذا فإنْ أكنْ أصبتُ فذلك من کرمِ الله تعالى وحُسنِ توفيقه، وإنْ كانت الاخرى فمن قصور یدیَّ وخطئها وجل

ص: 319

من لا يُخطئ، والكمال لله وحده، وآخرُ دعوانا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمين وصلواتُه وسلامُهُ على نبيِّنا مُحمّدٍ الأمين (صلی الله علیه وآله) و آلهِ الطيبين الطاهرين (علیهم السلام)، وصحبه المنتجبين (رضي الله عنهم).

التمهيد: الضرورة الشعرية وأهم مذاهب النحويين فيها:

درجَ أعلام الدرس النحوي على الاستشهاد بالشعر بوصفه مصدرًا مهمًا من مصادر التقعيد النحوي، ومن المسلَّم به أنَّ لغة الشعر تتسم برکیزتين أساسيتين هما الوزن والقافية فضلا عن اتسامه بطابع الانفعال بخلاف النثر، ومن هنا كانت للغة الشعر خصوصية في طريقة استعمال المفردة جرْسًا وبنيةً، وفي صوغ التركيب؛ لإيصال الانفعال من جهة، والتأثير في المتلقي من جهة أخرى(1)، ومن هنا قد يضطر الشاعر إلى الخروج عن قواعد النحو من أجل إيصال أفكاره، قال ابن جني: ((الشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار. وكثيرا ما يُحرفُ فيه الکَلِم عن أبنيته وتُحال فيه المُثُل عن أوضاع صِيَغها لأجله))(2)، وسُمي هذا الخروج بالضرورة الشعرية في التراث اللغوي العربي.

الضرورة كما تناولتها معجمات اللغة مشتقة من مادة (ضرر)، وهي اسم لمصدر (الاضطرار) وهو الحاجة إلى الشيء أو الإلجاء إليه، ورجلٌ ذو ضرورة، أي: ذو حاجة، وقد اضطر إلى الشيء أي أُلجِئ إليه(3)، ومنه قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» (سورة البقرة من الآية: 173).

أما في الاصطلاح فإنّ الذي يظهر أنَّها من مصطلحات الفقهاء والمفسرين، إذ تعني عندهم (الحالة المُلجِئة إلى ما لا بدَّ منه، والضرورة أشدُّ درجات الحاجة))(4) وعلى هذا تشمل ((كلَّ ما أدّى إلى الاضطرار، کالمشقة التي لا مدفع لها، وما به حفظ النفس وغيرها، كالحاجة الشديدة إلى الماء أو الأكل. ومنها «الضرورات

ص: 320

تُبيح المحظورات»))(5).

وأما مفهوم الضرورة الشعرية في الاصطلاح اللغوي إجمالًا فتعني ((الخروج على القواعد والأُصول بسبب الوزن والقافية، وقد جوَّز القدماء للشاعر ما لم يجوّزوا للناثر))(6)؛ لأنّ احتفال العرب بالشعر جعلت اللغويين يقولون: ((الشعراء أُمَراء الكلام، يقصرون الممدود، ولا يمدُّون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويؤمنون ويشيرون، ويختلسون ويُعيرون ويستعيرون))(7).

وقد اختلفت كلمة النحويين في معنى الضرورة الشعرية على مذهبين، فمذهب الجمهور يرى أن الضرورة ما تقع في الشعر دون النثر سواء أكان عنه مندوحة (سعة أو فسحة) أم لا(8)، فلم يشترطوا فيها اضطرارَ الشاعر إلى الخروج عن بعض الأقيسة النحوية، بل جوّزوا له في الشعر ما لم يجُز في الكلام(9)، ويمثل هذا الرأيَ ابنُ جني الذي يقول: ((ألَا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها، ليعدوها لوقت الحاجة إليها))(10)، وابنُ عصفور الذي يقول: ((اعلمْ أنَّ الشعر لما كان موزونًا يخرجه الزيادة والنقص منه عن صحة الوزن ويحيله عن طريق الشعر أجازت العرب فيه ما لا يجوز في الكلام اضطروا إلى ذلك أو لم يضطروا)) (11) وأخذ بهذا المذهب الرضي (12) وابن هشام (13)، والبغدادي (14)، والالوسي (15).

ومذهب آخر يرى في الضرورة أنّها تقع فيما ليس للشاعر عنه مندوحة (16)، أي تقع بشرط الاضطرار، وهو المذهب الذي نسبه بعض النحويين إلى سيبويه (17)، وعليه يكون إمامَ ابنِ مالك الذي هو رائد هذا المذهب والمشتهر به كثيرًا، فقد صرَّح معقِبًا على بعض الأبيات الشعرية قائلًا: ((فإذ لم يفعلا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار))(18)، وأشار آخرون إلى أنَّ سيبويه

ص: 321

يرى رأيَ الجمهور في الضرورة (19)، والسر في هذا الاختلاف والاضطراب يرجع إلى تحليل كلِّ فريق لكلام سيبويه.

وأغلب الظنِّ أن ما ذكره سيبويه أقرب إلى فهم الجمهور في هذه المسألة؛ ((لأن كثيرا من الشواهد التي أوردها في أقسام الضرورة المختلفة من تلك الشواهد التي وردت فيها روايات أُخرى، تُخرجها من مجال الضرورة، ومع ذلك لم يذكر سيبويه شيئًا من تلك الروايات في كتابه)) (20)، على أَنَّ ختام الباب الذي عرض فيه (ما يحتمل في الشعر) ولا يجوز في الكلام جاء فيه: ((وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها)) (21)، وعلى وفق هذا فإنَّ الضرورة عنده - وإن كانت تقتصر على الشعر ولا تجوز في سعة الكلام - إلا أنَّ الشاعر لا بد من أنْ يسعی من وراء ارتكابها إلى معنى تجيزه أقيسة العربية المستنبَطة من النثر، وإلا يُعدُّ ما جاء به مخالِفًا للقواعد، إذ يقول في باب الممنوع من الصرف: ((اعلم أنَّه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف، يشبهونه بما قد حُذف واستُعمل محذوفًا)) (22)، كما جرى حمل المسائل بعضها على بعض على نحو التشابه بينها في الأحكام في مواضع أُخر (23). ومن أجل هذا ذهب السيد إبراهيم محمد إلى أن ((المعنى الذي تتوجه عليه الضرورة الشعرية عند سيبويه أنها بلوغ مستوى من التعبير مبلغ مستوى آخر)) (24)، ولهذا قيل: ((علة الضرائر التشبيه لشيء بشيء أو الرد إلى الأصل)) (25)، فالفرق بين ما يقع في الشعر والنثر من خروج عن القواعد واحد ((فكلاهما خروج عن القياس، وإنما الفرق بينهما أنَّ الشعر وقع فيه من ذلك ما لم تَثبت الرواية بوقوعه في الكلام، وهذا هو محل الضرورة)) (26)، وهذا هو وجه الكلام في هذا الباب الذي وسمناه (ما حمله النحويون على الضرورة الشعرية وورد في كلام الامام (علیه السلام)، إذ ليس مهمًا لديَ سواء أكان الشاعر مُختارًا

ص: 322

في ارتكابه الضرورات أم مضطرًا إلى ذلك، فغايتنا الرئيسة تنصب حول التماس شيءٍ من النظائر النثرية الواردة في كلامه ( علیه السلام) لجملة من القواعد النحوية التي حُكم عليها بأنها من الضرائر الشعرية، لنُثبت بذلك أنها ليست مقتصرة على لغة الشعر فقط، بل هي واردة في النثر أيضًا، وبهذا يظهر مدى نقص استقراء النحويين، وإغفالهم لنصوص نهج البلاغة في التقعيد النحوي.

ولمّا كانت الضرورات مرتبطة بالشعر، والشعر ما لا يحيط به أحد تعذّرَ حصرُها وإحصاؤها، على أن هذا لم يمنع علماء العربية من وضع تقسیمات عامة تنطوي تحت كل قسم مباحث فرعية، ولعل لابن السراج قصب السبق في تثبیت مبادئ التصنيف في الضرورة، إذ قال: ((ضرورة الشاعر أنْ يضطر الوزن إلى حذف أو زيادة أو تقديم أو تأخير في غير موضعه وأبدال حرف أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل أو تأنیث مذكر على التأويل وليس للشاعر أن يحذف ما اتفق له ولا أن یزید ماشاء بل لذلك أصول يعمل عليها))(27)، وقد راعى تلك الأصول أغلب من جاء بعده مثل السيرافي (28)، وابن عصفور(29) وأبو حيان (30) .

وقد تناول البحث نماذج من مسائل الضرورة الشعرية منقسمًا على المباحث الآتية:

ص: 323

المبحث الأول: توكيد جواب الشرط بنون التوكيد:

للتوكيد في العربية أنماط مختلفة وأساليب متعددة من ذلك التوكيد بنونَي التوكيد الثقيلة أو الخفيفة، وهما حرفان من حروف المعاني، قد اتفق النحويون على دلالتهما على التوكيد، وإنْ كان التوكيد بالثقيلة أشدَّ دلالةً كما نُقل عن الخليل(31).

وقد دار خلافٌ بين النحويين في أصلهما، فذهب البصريون إلى أنهما أصلان، على حين يرى الكوفيون أنَّ المشددة هي الأصل (32)، وهما حرفان يختصان بالدخول على الأفعال، فيؤكد فيهما الفعل المضارع جوازًا أو وجوبًا(33).

ومن المواضع التي اختلف فيها النحويون هي دخول نون التوكيد في جواب الشرط، فقد ذهب فريق منهم إلى أنّ هذا التوكيد إنّما يجوز في الشعر لا في النثر، قال سيبويه: ((وقد تدخل النون بغير «ما» في الجزاء، وذلك قليلٌ في الشعر، شبهوه بالنهي حين كان مجزوماً غير واجب)) (34) نحو قول الشاعر کمیل بن معروف (35): (من الطويل)

فمهما تَشَأ مِنْهُ فَزازَةُ تُعْطِكُمْ ٭٭٭ ومهما تَشَأ مِنْه فزارَةُ تَمْنَعَا

وقد انتهج مذهبَ سيبويه هذا جمعٌ من علماء العربية منهم الفرّاء وهو يعرض لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ» (سورة النمل من الآية: 18)(36)، وقد أكد هذا المذهبَ المبّردُ (37)، وابنُ السراج (38)، والسيرافي (39)، وأبو علي الفارسي (40)، والقيرواني (41)، وأبو البركات الأنباري (42)، والزمخشري (43)، وابن الحاجب (44)، وآخرون (45).

إنَّ حمل الشاهد الشعري على الضرورة الشعرية لا يمنع من تعليله وبيان وجهه

ص: 324

في العربية، إذ ((ليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها))(46)، ومن هنا ذهب علماء العربية إلى أنَّ علة توكيد جواب الشرط - وهو مما لا يجوز في سعة الكلام - هي مشابهته للنهي، وقد فسر هذا أبو علي الفارسي بقوله: ((شبهوا الجزاء لمّا أدخل النون عليه بالنهي؛ لأن الجزاء فعل مجزوم کما أنَّ النهي فعل مجزوم وهو غير واجب کما أنَّ النهي غير واجب))(47)، أي إنَّ العلة علة مشابهة، فالعرب ((يشبهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله في جميع الأشياء))(48)، وبحسب هذا الفهم فالمفترض أن يكون هذا داعيًا إلى قبول هذا التوكيد في غير الشعر لا قصره عليه، ولعل الذي دعاهم إلى هذا هو نقص استقرائهم وعدم التقصّي بدقة عن شواهد في غير الشعر؛ لأنَّ الشواهد على تلك المسالة كثيرة من القرآن الكريم (49) وغيره.

كان على النحويين أن يستندوا إلى هذه النصوص القرآنية وسواها في تعديل القاعدة النحوية؛ فالضوابط النحوية يجب أن تخضع للنصوص الفصيحة المسموعة وتستند اليها وليس العكس، لكننا رأيناهم يتمسكون بما تقرر لديهم محاولین تأويل هذه النصوص على الحذف والتقدير، بل جزم ابن السراج بعدم جوازه فقال: ((لا يجوز: إن تأتني لأفعلن))(50).

إنَّ النحويين - من أجل الخروج من تضارب السماع والقياس - قد ذهبوا إلى أنَّ الفعل المؤكَّد بالنون ههنا لم يقع في جواب الشرط، بل وقع في جواب قسَمٍ دلَّتْ عليه (اللام) الموطئة للقسم المحذوفة في (إنْ)، وعلى هذا يكون التركيب قائمًا على الشرط، إلا أنَّ جوابه قد حُذِفَ لدلالة جواب القسم المقدَّر عليه، لحذف (اللام) الموطئة للقسم قبل (إنْ)(51)، وتأكيدهم على حذف (اللام) الموطئة للقسم إنما أصله الخلاف في جواز وقوع الجواب للشرط مع تقدم القسم عليه، فإنَّ الثابت لدى أكثر النحويين أنه إذا اجتمع الشرط والقسم فإنَّ الجواب للسابق

ص: 325

منهما؛ قال سيبويه : ((فلو قلت: إن أتيتني لأُكرمنَّك، وإن لم تأتني لأغمنَّك، جاز؛ ولأنه في معنی: لئن أتيتني لأكرمنك ولئن لم تأتني لأغمنك، ولا بد من هذه اللام مضمرة أو مظهرة؛ لأنها لليمين، كأنك قلت: والله لئن أتيتني لأكرمنك))(52).

وهذا الرأي لم يصمد أمام كثرة الشواهد النحوية المخالفة لما قرروه (53)، هذا من وجه، ومن وجه آخر فإنهم في الوقت الذي يُصرُّون على تقدير (اللام) الموطئة للقسم کي يسوّغوا دخول (اللام) في فعل الجواب نجدهم حين يُجاب القسم بالشرط يحملون (اللام) الموطئة على الزيادة أو على الضرورة الشعرية (54)، وفي هذا خلط واضح وجلِّي أساسه تقديم القاعدة والقياس على أدلة السماع الموثوق بها، لهذا نراهم يذهبون في توجيه الأفعال التي اقترنت بنون التوكيد في جواب الشرط إلى تقدير القسم (55).

لما تقدم كلِّه كان ينبغي الوقوف عند تلك الشواهد والنظر في سياقاتها والقرائن المحيطة بها للوصول إلى ضوابط نحوية تؤسس لقاعدة عامة على ألاّ تغفل ما يتفرع عنها من مسائل استنادًا إلى الموروث اللغوي المحتج به، وإذا كان استقراء النحويين قد أوصلهم إلى قاعدة ترى إجابة المتقدم من الشرط والقسم واجبة عند اجتماعهما فإننا لسنا ملزمين بهذا استنادا لما استقريناه من شواهد تخالف هذا.

واذا تقرر هذا فإنَّ السياق والقرائن الدلالية المحيطة في النص لها أثر في فهمه وبيان المراد منه؛ لذا إنَّ حمل تلك النصوص على حذف (اللام) الموطئة للقسم فيه بُعد وتكلف، إذ التركيب لم يكن بحاجة إلى توكيد الشرط والقسم عليه، فمدار الكلام في آية سورة الأعراف هو الحديث عن قصة نبيِّنا آدم وحواء (علیهما السلام) وبیان خشيتهما من الخسران المهدِّد لهم؛ لذا عمدَ النص إلى توكيد الفعل بالنون؛ لأنهما يخافان تحققه ووقوعه، لكنهما يطمعان بغفران ذنوبهما والعفو عنهما؛ لذا لم

ص: 326

يُقسما على هذا، وهذا ما دعاهما إلى التذلل والمسكنة للتعبير عمّا صدر عنهما من المخالفة؛ لذا قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» والمعنى أنَّ ((خسران الحياة يهددنا وقد أطل بنا وما له من دافع إلا مغفرتك للذنب الصادر عنا وغشيانك إيانا بعد ذلك برحمتك وهي السعادة لما أن الانسان بل كل موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أن من شأن الأشياء الواقعة في منزل الوجود ومسیر البقاء أن تستتم ما يعرضها من النقص والعيب، وإن السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة الربوبية))(56)، وبهذا يكون فعل الشرط قد أُجيب بالقسم (57) بفعل مؤکَّد بنون التوكيد، وما يعضُد هذا أن القرآن الكريم أشار إلى قصة النبي نوح (علیه السلام) فقال الله تعالى: «قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ» ( سورة هود: 47)، فلم يعمد النص إلى استعمال (اللام) الموطئة للقسم، بل جاء على الشرط فقال: ((وإلا تغفر...))؛ لأن النبي (علیه السلام) - كغيره من البشر - يطمع في مغفرة الله تعالى؛ لذا لم يؤکِّد الشرط المنفي.

وكذا الحال في آية سورة المائدة فإنَّ الذي دعا إلى أن يُعتنی بتوكيد جواب الشرط بنون التوكيد دون توكيد الشرط هو مراعاة السياق وظروف المقال أيضًا، فإنَّ توكيد الفعل (لَيَمَسَّنّ) فيها إنما جاء لبيان أنَّ مستحِق العقوبة هو من عاند وأصرَّ على فعلته، وتنبيهًا على أنَّ العذاب هو جزاء مَن دام على الكفر ولم ينقلع عنه (58). فمدارُ القول وأهميته تشديد العقوبة على هذا الصنف من الناس، أمّا الذين لم ينتهوا فلهم فرصة في التوبة والعودة إلى الصواب لهذا لم يكن ثمة ما يدعو إلى التوكيد والتشديد باستعمال (اللام) الموطئة للقسم، ودليل هذا أن الله تعالى قال في عَقب الآية: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ».

ص: 327

ومن الشواهد العلوية على هذه المسألة قوله (علیه السلام) في خطبة له في قسمة الأرزاق بين الناس: ((فإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِیرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ؛ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً)) (59).

كلامه (علیه السلام) في النهي عن الحسد بأنّ من يرى عند أخيه زيادة أو نماء في اد تلك الأمور فلا يحمله ذلك على الافتنان المفضي إلى الحسد والغيرة (60)، ((لأن من نظر في أحوال الدنيا الى من فوقه يستحقر ما عنده من نعم اللهّ، فيكون ذلك فتنة عليه)) (61)، فالتعليق الشرطي قائم في التركيب بدليل أن الإمام قرن النهي ب(الفاء) وهي جملة جواب الشرط، وقد جاء فعلها مؤكدًّا بنون التوكيد.

ومثله قوله (علیه السلام) في مقطع من كتاب إلى مالك الأشتر: ((وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطأ،

وأفْرَط عَلَيْكَ سَوْطُكَ أوْ سَيْفُكَ أوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَما فَوْقَها مَقْتَلَةً، فلا تطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إلى أَوْلِياءِ المَقْتُولِ حَقّهُمْ))(62).

فالفعل (تطمحن) الواقع في جواب شرط (إن ابتليت) جاء مؤكَّدًا بنون التوكيد.

ومثله قوله (علیه السلام) في إحدى حِكَمه: ((مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ فَلاَ يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ))(63).

والنحويون يقدِّرون في مثل هذه الشواهد (لام) مضمرة موطئة للقسم قبل (إن) والتقدير (لئن)(64)، وهذا لا يصح مع وجود (الفاء) في الأفعال (تكونن) و( تطمحن)، فهي مما تربط فعل الشرط بجوابه.

ولعل ما يدحض تلك التقديرات كثرة الشواهد النثرية من القرآن الكريم وكلام الإمام (علیه السلام) فهما کافيان لإبطال القول القاضي بحمل التركيب على

ص: 328

الضرورة الشعرية، ولهذا ذهب ابن مالك إلى جوازه في سعة الكلام (65)، وتابعه الرضي فقال: ((وقد تدخل نون التأكيد اختيارًا في جواب الشرط))(66)، وهو ما رآه الشاطبي (67)، وناظر الجيش (68)، وأكده الاشموني (69)، وتبنّي هذه المسألة من المحدثين الدكتور خليل بنيان الحسون(70).

وصفوة ما ورد أنَّ القسم يصح أن يقع جوابًا للشرط، ولا داعي إلى تكلف التقدير والتأويل؛ لأنه ليس من الصواب أن يُعمد إلى تأويل تلك النصوص النحوية الكثيرة، ومما ينتج عن وقوع هذا القسم في الجواب توكيد الفعل المضارع بنون التوكيد، فأصل المسألة هو جواز وقوع القسم جوابا للشرط، وهو ما تحقق بورود الفعل مسبوقًا ب (لا) الناهية، فأوكد جوازا (71) ؛ لأن مدار الكلام معتمِد على الجواب.

واستنادًا إلى ما تقدم ذكره يمكن إعادة صوغ القاعدة النحوية بالآتي: جواز إجابة الشرط بالقسم، بفعل مؤكد بنون التوكيد في السعة والاختيار لا في الضرورة الشعرية فقط، استنادًا إلى ما ورد في البلاغة فضلاً عن القرآن الكريم وكلام العرب.

ص: 329

المبحث الثاني: إبقاء ألف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر:

قرر النحويون أن ألف (ما) الاستفهامية تُحذف إذا سُبِقت بحرف جر، على أنْ تبقى الفتحة دليلًا عليها، وتعليل هذا الحذف إما للفرق بين الاستفهامية والموصولة(72)، أو للتخفيف لكثرة الاستعمال (73)، أو للدلالة على التركيب؛ إذ إنَّ ترکیب حرف الجر مع (ما) الاستفهامية يصيِّر هما ككلمة واحدة موضوعة للاستفهام للحفاظ على صدارة الاستفهام (74)، على أنَّ وجوب حذف الف (ما) الاستفهامية مقصور على المجرورة بحرف الجر، أما المجرورة بالإضافة في نحو: مجيء ما جئت فالحذف فيها ليس لازمًا(75).

وقد اختلفت آراء العلماء في حكم هذا الحذف، فذهب قسم من النحويين إلى أنّه واجب (76)، ومقيس(77)، ومن سنن العربية (78)، وذهب ابن جني إلى أنَّ حذف الألف لغة ضعيفة (79)، وعدَّه الهروي لغة(80)، وللزمخشري رأيان في توجيه هذا الحذف، فرأى في أحدهما أنَّ إثبات الألف جائز (81)، وأشار في الآخر إلى أنّ اثباتها قليلٌ شاذ(82).

ولما كان الوجوب النحوي في تلك المسالة منتقضًا بعدد من الشواهد الشعرية التي جاءت فيها الف (ما) الاستفهامية مثبتة بالرغم من جرها بحرف الجر في مثل قول حسان بن ثابت (83): (من الوافر)

على مَا قَامَ يَشْتمنِي لئيم ٭٭٭ كخنزيرٍ تَمرّغ فِي رَمادِ

ذهب جملة من النحويين إلى حمل هذا الإثبات على الضرورة الشعرية وقصروه عليها، ومن بينهم القزاز (84)، والعكبري (85)، وأبو حيان الذي يقول: ((والمشهور أن إثبات الألف في «ما» الاستفهامية، إذا دخل عليها حرف جر، مختص بالضرورة))(86).

ص: 330

وتابعهم على ذلك ابن هشام (78)، والأشموني(88)، والأزهري (89)، ومن المحدَثين محمود شكري الآلوسي(90)، وأحمد الحملاوي(91)، وعبد السلام هارون(92).

إنَّ اثبات الف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر لم يكن مقتصرًا على الشعر فقط، بل هو وارد في الموروث اللغوي الفصيح، فقد جاء في مواطن متعددة من الحديث النبوي الشريف، هذا فضلا عن مجيئه في قراءة عيسی وعکرمة التي مرّ ذكرها، من ذلك قول النبي محمد (صلی الله علیه وآله) للإمام علي (علیه السلام): ((بِمَا أَهْلَلْتَ

يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النبي (صلی الله علیه وآله) قَالَ: فَاهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ)) (93)، وقوله (صلی الله علیه وآله): ((لَيَأْتِیَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ مِنَ الْمَالِ، أمِنْ

حلالٍ أم مِن حَرامٍ)) (94).

وربما وقع نظر عدد من النحويين على بعض هذه الشواهد فاستند اليها في تجویز هذا الاثبات مطلقًا، ولعلّ الفراء يقف في مقدمتهم، اذ قال: ((وإذا كانت «مَا» في موضع «أي» ثم وصلت بحرفٍ خافضٍ نُقصت الألف من «مَا» ليعرف الاستفهام من الخبر. ومن ذلك قوله: «فِيمَ كُنْتم» «عَمَّ يتساءَلُونَ» وإن أتممتها فصواب)) (95)، وأخذ به الزمخشري في أحد قوليه(96) وقد مر ذكره، وصرح بمثل هذا الرازي في توجيه (ما) في قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» (سورة آل عمران من الآية: 159) (97).

وممن أيد ذلك أيضّا ابن مالك بعد أن احتج بالشواهد الحديثية التي ذكرناها، ورأى جواز إثبات الألف إلا أنه حكم عليها بالشذوذ، إذ قال: ((وشذ ثبوت الألف في «بما اهللت»، و«لا يبالي المرء بما اخذ المال» (...)؛ لأنّ (ما) في المواضع الثلاثة استفهامية مجرورة فحقها أنْ تحذف فرقًا بينها وبين الموصولة)) (98)، ثم حمل بيت حسّان على الاختيار لا الاضطرار لإمكانه ان يقول (علام قام...)(99)، وابن

ص: 331

مالك في حكمه على تلك الشواهد بالشذوذ يخالف المنهج الذي سار عليه في كتابه (شواهد التوضيح) الذي عمد فيه إلى تعديل الكثير من القواعد النحوية احتكامًا إلى نصوص الحديث النبوي الشريف، وهذا ما نبّه عليه محقق الكتاب الدكتور طه محسن (100)، على أن وصف الشاهد الحديثي في هذه المسالة بالشذوذ لم يقتصر على ابن مالك بل سبقه في ذلك ايضا العكبري(101).

يبدو لي مما تقدم أن القصد بشذوذ الشواهد الحديثية معناه خروجها عن الباب وقياس النحويين، إلا أنها لم تشذ في استعمال العرب لاسيما عند فصحائهم وبلغائهم، وهذا ما نص عليه ابن السراج قائلا: ((والشاذ على ثلاثة أضرب: منه ما شذ عن بابه وقياسه ولم يشذ في استعمال العرب له)(102)؛ لذا يجب أن يستند إليه في تعديل القاعدة النحوية، لأنها بنيت على استقراء ناقص؛ لأن من أنماط الشاذ ((الشاذ المقبول؛ فهو الذي يجيء على خلاف القياس، ويقبل عند الفصحاء، والبلغاء)) (103)، ولا شك في أنَّ النبيَّ محمدًا (صلی الله علیه وآله) أفصح من نطق بالضاد، ويحدِّث الناس بما يعرفون وبما هو شائع عندهم؛ لذا قيل: إنَّ الشاذ هو ما ((يكون في كلام العرب كثيرًا لكن بخلاف القياس)) (104)، ولهذا فالاحتكام إلى ما سُمع في تعديل أقيسة النحويين أصل يعتد به (105)، ومن أجل هذا ذهب الفراء إلى تجويز هذا الاثبات مطلقًا من دون قصره على الشعر، وهو منطق صائب وسليم يفرضه الواقع اللغوي المؤيد لهذا الإثباث، الذي ورد في النثر الفصيح من كلام العرب (106)، الأمر الذي جعل الرضي يحكم على هذا الحذف الالف بالجواز لا الوجوب (107)، ولهذا فإن الأولى تصحيح القاعدة بالاستناد إلى ما سمع وإن كانت قياسًا، وهذا ما عليه الازهري الذي وصف المسالة بالضرورة في موضع، وصرح في موضع آخر إلى جواز ورودها في الشعر والنثر مستندًا في ذلك إلى قراءة عكرمة وعیسی(108).

وخلاصة ما تقدم يظهر لنا أنَّ اثبات الف (ما) الاستفهامية عند سبقها

ص: 332

بحرف الجر في غير التركيب ليس وقفًا على لغة الشعر، بل هو وارد في النثر في أفصح النصوص وأبلغها أيضا، من ذلك قول الإمام علي (علیه السلام) في دعاء کمیل: ((يا اِلهي وَرَبّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ لِاَيِّ الاُمُورِ اِلَيْكَ اَشْكُو وَلما مِنْها اَضِجُّ وَاَبْكي

لِاَليمِ الْعَذابِ وَشِدَّتِهِ، اَمْ لِطُولِ الْبَلاءِ وَمُدَّتِهِ)) (109).

واذا كان النحويون قد امتنعوا من توجيه إثبات الف (ما) الاستفهامية دلاليًا، لأنهم يعدونه اضطرارا يلجأ اليها الشاعر للهروب عيوب الوزن على رأي من حمل الضرورة على هذا (110)، فإننا بوسعنا الاستدلال بالسياق لبيان ذلك، إذ إنَّ الناظر في الشواهد التي ذكرناه يجد أنَّ ثمة جامعا مشترکًا بينها وهو وجود القرينة الدالة على استفهامية (ما)، وهذا أحد الأسباب التي يذكرها النحويون على وجوب حذف الف (ما)، فهم يسعون إلى ايجاد دليل للفرق بين الاستفهامية والموصولة، والدليل واضح وموجود فيما استشهدنا به، وهو (أم) المعادلة والسياق، فهي کافية لبيان استفهامية (ما) من دون الحاجة إلى حذف ألفها؛ لذا يمكننا القول: إن (أم) المعادلة كما كانت شرطا يدل على همزة الاستفهام المحذوفة يمكننا الاستدلال بها على تحديد (ما) الاستفهامية من الخبرية، فالشيء يردُ مع نظيره کما یردُ مع نقيضه كما يقول ابن جني (111).

وقد يقال: ما الدليل على الإثبات في قراءة عكرمة وعیسی، قلت: الدليل موجود وواضح، وهو السياق، فإنّ الإجابة التي وردت في الآية اللاحقة دليلٌ على الاستفهام، فقال تعالى: «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» ( سورة النبأ: 1 - 2).

وبهذا نصل إلى تعديل القاعدة النحوية في ضوء تلك النصوص الفصيحة بالقول: يجوز إثبات (ما) الاستفهامية في السَّعة والاختيار بشرط أمن اللبس وإيضاح المُراد لورود ذلك في نهج البلاغة.

ص: 333

المبحث الثالث: اقتران خبر (كاد) ب(أنْ):

(كاد) فعل من الافعال الناسخة يدخل على الجملة الاسمية، فيرفع المبتدأ اسمًا له، ويكون الخبر خبرًا له في موضع نصب، وهو من أفعال المقاربة، فقولنا: (كاد زيد يقوم) معناه: (قارب القيام ولم يقم)(112).

وقد منع النحويون وقوع خبره اسمًا حملًا على ما يناظره في المعنى، من مثل (عسی) (113)؛ لذا فالغالب في خبره أن يكون فعلًا مضارعًا متجردًا من (أن)؛ لأن (أن) تخلص الفعل للاستقبال و(كاد) موضوع للقرب فيتدافع المعنيان(114).

على أن أقيسة علماء العربية لم تمنع الشعراء من استعمال (أن) في خبر (كاد)، إذ وردت بعض الشواهد الشعرية مخالفة لما قرروه من ذلك قول رؤبة (115): (الرجز)

رسمٌ عفا من بعد ما قد امَّحي ٭٭٭ قد كاد من طول البلى أن يمصحا

لهذا قرر سيبويه أنه محمول على الضرورة الشعرية، فقال: ((وكدت أن أفعل لا يجوز إلا في شعر؛ لأنه مثل كان في قولك: كان فاعلا ويكون فاعلا))(116)، وأكد ذلك في موضع آخر محتجًا ببيت رؤبة المذكور آنفًا (117).

يظهر من تعليل سيبويه أنه حمل (كاد) على (كان) في أنَّ خبر هما لا يأتي مقترنًا ب(أنْ) فهما متشابهان من هذه الناحية، إلا أن ابن بابشاذ عدَّ ذلك نوعًا من المخالفة بینهما، ذكر ذلك وهو يوازن بين (عسی) و (كاد) من حيث اقتران خبرهما ب(أن)، إذ قال: ((فإن رأيت «أن» في أخبار هذه فإنما هي مشبهة ب(عسی)، وإذا رايتها محذوفة «عسى» فإنَّ (عسی) مشبهة ب(کاد) واخواتها للتقارب الذي بينهما، فمثال مجيء (أن) في خبر (كاد) قول الشاعر: قد كاد من طول البلى أن يمصحا (...) فهذه

ص: 334

وجه مخالفة هذه الافعال لكان واخواتها لأن (كان وأخواتها) لا تدخل (أن) في اخبارها لا يجوز: کان زيد أن يقوم))(118).

فسيبويه على وفق هذا التعليل قد حمل (کاد) على (كان) في عدم مجيء خبر هما مقترنًا ب(أن) على الضرورة الشعرية، أما ابنُ بابَشاذ فرأيه يتجه إلى تجويز اقتران خبر (كاد) ب (أن)، إذ قرنه بما يخالفه وهو عدم جواز اقتران خبر کان ب(أن). ويبدو لي أن كلا التعليلين - فيما يخص مشابهة (كان) - يفتقر إلى الدقة والاستقراء التام، فلیس سیبویه دقيقًا، ولا ابن بابَشاذ مصيبًا؛ لأنَّ اقتران خبر( کان) ب(أن) ليس ضرورةً شعرية كما ذهب الأول، ولا ممنوعًا کما رأى الثاني، فهو وارد في فصيح الكلام(119)، في قوله تعالى: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ» (سورة يونس من الآية: 37)، وفي قول الإمام علي (علیه السلام): ((فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ سُبَّتَهُ)) (120).

أما وجه التعليل الآخر وهو حمل (كاد) على (عسی) فإن الذي دعا إليه هو المشابهة بينهما في معنى المقاربة، ف(عسی) لمقاربة حصول الفعل في المستقبل؛ لأنه يدل على طمع وترج (121)، لهذا اقترن خبرها ب(أن) الدالة على المستقبل، أما (كاد) فهي لمقاربة الفعل في الحال لذلك لا يقترن خبرها ب(أن) (122)، وهذا سبيل في العربية واسع ذكره ابن جني قائلاً: ((العرب إذا شبهت شيئا بشيء مکنت ذلك الشبه لهما، وعمرت به الحال بينهما)) (123).

وقد سلك مذهبَ سيبويه في حمل تلك المسالة على الضرورة الشعرية عددٌ من العلماء منهم المبرّد (124)، وابن السراج (125)، والزجّاجي (126)، والفارسي (127)، والجرجاني (128)، وأبو البرکات الأنباري (129)، وغيرهم (130).

والحق أنَّ هذا النمط التركيبي واردٌ في عدد من الشواهد التثرية - ولم يكن بابه

ص: 335

الشعرَ كما صرح بذلك سيبويه ومتابعوه - فقد ورد في الحديث النبوي الشريف في أكثر من موضع منها قوله (صلی الله علیه وآله): ((كاد الفقر أنْ يكون كفرًا، وكاد الحسد أن يسبقَ القدر)) (131)، كما ورد مثل هذا الاقتران في مواضع أُخر من السنة المطهَّرة(132)، ونقل الازهري عن العرب قولهم: ((كاد زيد أن يموت و» أنْ» لاتدخل مع «کاد»)) (133)، ومن شواهد هذا الاقتران في الكلام العلوي المبارك قوله (علیه السلام) في فضل الشهيد وأجره: ((مَا اَلْمُجَاهِدُ اَلشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ

فَعَفَّ لَكَادَ اَلْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ))(134).

يريد الامام (علیه السلام) بهذا القول بيان أهمية العفاف وترك القبيح والمنكر في تقويم سلوك الفرد وأخلاقه، فأوضحَ أنَّ من يمتنع عن فعل القبيح مع قدرته عليه له أجر مجاهد استشهد في سبيل الله تعالى، ولعل وجه الشبه بين الشهادة والعفاف هو طهارة النفس ونقاؤها ((وذلك لشدة أخذ الانسان زمام نفسه، حتى إنَّ الفاعل لذلك كأنه ملائكة في طهارة النفس)) (135)، إذ إنَّ صفة العفة تلك ترتقي بصاحبها إلى منزلة الملائكة الذين لا يفعلون القبيح أبدًا، وتقترب بسلوكه من صفاتهم، وقد دلَّ الامام على ذلك باستعمال ما يدل على المقاربة وهو الفعل (كاد)، غير أن ترك القبيح هي صفة واحدة من بين صفات كثيرة قد تحلى الملائكة بها؛ لذا فمن شاء الاقتراب من درجة الملائكة عليه امتلاك صفات أُخر، ومن هنا كان استعمال (أنْ) في خبر (كاد)، في إيحاء منه (علیه السلام) إلى أن درجة القرب تحتاج إلى أن تكون أشدَّ حين التخلق بصفات أُخر، هذا فضلًا عن أن هذا الاقتران قد يشير إلى تحقق هذه الصفة في المستقبل؛ لأنَّ (أن) المصدرية تدل على المستقبل، ولعل ما يعضُد هذا إيراد صفة (الشهيد)، ومعلوم أن أجر الشهادة إنما يتم في يوم القيامة وهو مستقبل، وهذا يناسب ذكر (أن) التي تُحيل المعنى إلى المستقبل،

ص: 336

فالعفيف إنما يكون من الملائكة وبدرجتهم في يوم الحساب، على أنه لا يكون من جنسهم؛ لأن (ال) في الملائكة عهدية، وهذا من بديع التقابل الدلالي.

ومن الشواهد العلوية أيضًا قوله (علیه السلام) لعقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه): ((فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلِمَهَا وَكَادَ أَنْ

يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ اَلثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إلى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَ تَئِنُّ مِنَ اَلْأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟))(136).

يشير كلام الأمام (علیه السلام) إلى الحادثة التي جرت بينه وبين أخيه عقیل (رضي الله عنه)، وهي حادثة من حوادث كثيرة يذكرها أرباب السِّيرة والتاريخ في الإشارة إلى عدل الإمام علي (علیه السلام)، وقوله (كاد أن يحترق) يدل على أنه قد احمي الجديدة ليعتبر عقيل من حرارة نارها لا لإيذائه بها، إذ ((الحديدة لم تتصل بجسم عقيل، وانّما اقتربت منه فحس بلفحها)) (137)، ففعل الإحراق لم يحصل؛ لذا كان مناسبًا إيراد (أن)؛ لأنها تدل على تراخي حصول الفعل وتحقيقه في المستقبل، ولا يمكن أن يكون مراد الإمام من ذلك إحراق عقيل والدليل على ذلك قول الإمام (علیه السلام) نفسه إذ قال: (ثم أدنيتها من جسمه..)، ولا شك في ذلك لأنه لم يُذنب، وحتى وإن افترضناه ذنبًا فليس جزاؤه الإحراق، ولذا لم يتدافع المعنيان، فاستعمال (كاد) دلَّ على أنَّ الحديدة إنما اقتربت من جسد عقیل قربًا شديدًا مما جعله يشعر بحرارتها وهذا يتفق مع دلالة (كاد) التي تدل على ((شدة قرب الفعل من الوقوع)) (138)، لكن مجيء (أن) الدالة على الاستقبال أعطي دلالة التراخي وعدم الإحراق، وبهذا لم يتدافع المعنيان.

لذا تبين لنا أن ذکر (أن) وعدم ذكرها في خبر (كاد) لم يكن الداعي اليه اضطرارَ الشاعر کما قيل، بل لبيان دلالة القرب وشدته، وفي هذ يقول عبد القاهر الجرجاني: ((وقد علمنا أن «کاد» موضوع لأن يدل على شدة قرب الفعل

ص: 337

من الوقوع، وعلى أنه قد شارف الوجود))(139)، وأكد هذا المعنى آخرون(140) ، وقد يكون من أجل هذا اشترط النحويون في خبرها أن يكون فعلا لا اسمًا؛ لأنَّ الاسم لا دلالة فيها على الزمن كما هو معلوم، لهذا اشترطوا وقوع الفعل في خبرها، وما هذا إلا إرادة للزمن بصيغة الفعل، أو مداناته وقرب الالتباس به ومواقعته(141).

اتضح مما تقدم أنَّه نمَط شائع في كلام العرب نظمًا ونثرًا، وليس کما نُقل عن أحدهم بأنه ترکیب لا يقوله عربي!(142)؛ لذا فإنَّ نقص الاستقراء فيما يخص هذا النمط واضحٌ وجلي ولا يمكن ردُّه أو نقضه، وهذا ما جعل نحويين آخرين يحتكمون إلى تلك النصوص مقررین جوازه في السَّعة والاختيار، منهم ابن يعيش (143)، وابن مالك الذي يقول: ((وهو مما خفي على أكثر النحويين أعني وقوعه في كلام لا ضرورة فيه والصحيح جواز وقوعه إلا أن وقوعه غير مقرون ب«أن» أكثر وأشهر من وقوعه مقرونا ب«أن» ولذلك لم يقع في القرآن إلا غير مقرون ب«أن»)) (144)، وكذلك في نهج البلاغة فقد ورد الخبر مقترنا ب (أن) أكثر (145)، وأكد القول برفض القول الضرورة في هذه المسألة أيضًا الرضي، وابن عقيل والاشموني والازهري والسيوطي (146)، وأكد ذلك الدكتور محمود فجال من المحدثين (147).

نخلص مما تقدم إلى أنَّ هذا الاقتران مما يجوز في السعة والاختيار وليس وقفًا على الشعر كما ذهب فريق من النحويين، وكان الباعث على هذا الاقتران بیان شدة القرب من عدمه، فشدة القرب من عدمه أو التراخي في حصول الفعل هما الفيصل في توجيه هذا الاقتران کما اتضح هذا في الشواهد العلوية، واستنادًا إلى كلِّ هذا نصل إلى تعديل القاعدة النحوية على النحو الآتي: يجوز في السعة والاختيار اقتران خبر (كاد) ب(أن) لبيان الفارق الزمني بين الاقتران وعدمه، استنادا إلى ورود الشواهد النثرية الفصيحة المؤيدة لذلك من نهج البلاغة فضلا عن الحديث النبوي الشريف وكلام العرب، وليست المسالة مقتصرةً على الضرورة الشعرية.

ص: 338

المبحث الرابع: اقتران خبر (لعل) ب(أن) أو وقوعه فعلا ماضيًا(148)

(لعلَّ) من النواسخ الحرفية المشبَّهة بالفعل يعمل عمل (إنَّ)، اختلف اللغويون والنحويون فيه من حيث البساطةُ والتركيبُ، فيرى البصريون أنَّه حرف مرکَّب و(اللام) فيه زائدة(149)، على حين ذهب الكوفيون إلى بساطته (150)، وهو ما نُسب إلى أكثر النحويين (151).

ويرد (لعلَّ) لمعان متعددة منها: الترجي، والخوف، والتوقع، والتعليل، والتمني والطمع والاشفاق، والشك، والتحقيق (152)، والبصريون يُرجعون هذه المعاني كلَّها إلى لترجي والإشفاق (153)، وهو في تلك المعاني إنما يدخل على المُمْكِن القابل للتحقّق (154).

وهو حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، ويشترط النحويون في خبره أن يكون فعلا مضارعا مجردًا من (أن)، هذا في سعة الكلام، أما في الضرورة الشعرية فيجوز هذا الاقتران قال سيبويه: ((وقد يجوز في الشعر أيضا لَعلِّي أن أفعل، بمنزلة عسيت أن أفعل)) (155). وسار على هذا جمع من العلماء منهم المبرد(156)، وابن السراج (157)، والزمخشري (158)، وابن الصائغ (159).

وقد علل النحويون هذا الاقتران بالحمل على (عسی) اذا هما للترجي والاشفاق، فحُملت (لعل) على (عسی) في جواز اقتران خبرها ب(أن)؛ لأن الأصل في خبرها إما أن يكون اسمًا صريحًا أو فعلًا مضارعًا غير مقترن ب (أن)، کما حُملت (عسی) على (لعل) في العمل، فخروج (عسی) عن عمل الرفع والنصب على الترتيب إلى عمل النصب والرفع، فيقال: عسايَ وعساك وعساه، مقترضة

ص: 339

عمل النصب والرفع على الترتيب من (لعلّ) (160)، وهذا من قبيل التقارض في اللغة (161).

ومما ينقض توجيه هذا الاقتران على الضرورة الشعرية وروده في مواطن كثيرة من السنة النبوية الشريفة، من ذلك قول النبي محمد (صلی الله علیه وآله): ((لعلك أنْ تخلفَ حتى ينتفعَ بك أقوام، ويضر بك آخرون))(162)، وقوله (صلی الله علیه وآله): ((إنما أنا بشٌر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أنْ يكونَ ألحن بِحجتِه مِن بعض))(163)، کما جاء في مواضع متعددة من مرويات أئمة أهل البيت (علیه السلام) (164)، فضلًا عن وروده كثيرًا في كلام العرب (165).

ومن شواهد هذا الاقتران في الكلام العلوي المبارَك قوله (علیه السلام) في الخوارج حين أنكروا تحكيمَ الرجال: ((وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الاُمَّةِ، وَلاَ تُؤْخَدُ بِأَكْظَامِهَ)) (166).

يُشير كلامه (علیه السلام) إلى قضية التحكيم والمدة التي اشترطها أجلًا لها، وهو جواب للخوارج الذين سألوا عن الهدف من وراء تعيين هذه المدة، فالإمام إنما أراد بيان ذلك بانَّه يرجو الله سبحانه وتعالى أنْ تصلحَ هذه الأمة في هذه الهدنة التي يتوقف فيها القتال فيُترك لها الخيار في النظر فيما يُصلحها، ولا يُؤخذ عليها الطريق إلى الهدى والرجوع إلى الحق، إذا لم تقبل تلك المدة أو الأجل نكون قد منعنا بعض الناس من العودة إلى الحق (167)، فاستعمال (أن) في خبر (لعل) إنما جاء متساوقًا مع تعليل النحويين، بأن ذلك محمول على (عسی)؛ لأن الامام في معرض رجاء الله عز وجل، على اننا ممكن ان نستند إلى هذا الشاهد في الاستدلال على مجيء (لعل) للتعليل وهو ما ذهب إليه الأخفش والكسائي (168)، فسياق النص كفيل بتأكيد ذلك المعنى، فهو (علیه السلام) في بيان سرد الاسباب من وراء

ص: 340

اشتراط تلك الهدنة، إذ قال: ((فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل ويتثبت العالم ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة))، وبهذا يكون الإمام (علیه السلام) قد جمع بين معنَي الرجاء والتعليل في سياق واحد.

وقد جاء هذا الاقتران في موضع آخر من نهج البلاغة أيضًا في كتاب له (علیه السلام) إلى عامله على أذربيجان، قال فيه: ((وَلَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ لَكَ،

وَالسَّلاَمُ))(169).

إنَّ اقتران خبر (لعل) ب(ان) في مواضع كثيرة من الشعر والنثر يبعد القول بحمل المسالة على الضرورة الشعرية؛ لهذا قرر عدد من النحويين إلى تجويز هذا الاقتران في الشعر والنثر، فقد وجعله الرضي كثيرا في الشعر قليلا في النثر (170)، وذهب ابن هشام إلى وروده كثيرا ولم يخصه في الشعر فقال: ((ويقترن خبرها ب«أن» كثيرًا حملا لها على «عسی»)) (171)، على حين جوزه آخرون مطلقًا من غير بيان حكم الكثرة أو القلة (172)، وهذا منهج سليم؛ لأن الوجه النحوي ((إذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه))(173)، ولا شك في أنه استعمال شائع كما اتضح في عدد من الشواهد، فضلا عن أنه لم يخرج عن أقيسة النحويين وضوابطهم؛ لذا فالقياس عليه جائز.

ومما يجدر ذكره أن للنحويين آراءً مختلفة في التوجيه الإعرابي للمصدر المؤول الواقع خبرًا ل(لعل)، فقيل هو على التشبيه ب (عسى) ف(أن) في موضع نصب، كأنك قلت: قاربت أن تفعل (174)، وقيل نُصب بإسقاط الجار (175)، وقيل: في الكلام محذوف فتقدير قولنا مثلا: لعل الله أن يحفظ العراق، لعل الله صاحب حفظ العراق(176)، وقيل: على الاخبار بالمصدر للمبالغة.

ولم يرتض قسم من العلماء تلك التقديرات لكثرة الشواهد الواردة في هذا

ص: 341

الاقتران(177)، وعدَّ الدكتور فاضل السامرائي هذا الاقتران من قبيل التعبيرات الفصيحة على غير القياس، فلم يقبل عدها على اسقاط حرف الجر، لأنه لو كان كذلك لجاز اظهاره، كما أن تأويلها على معنى (قارب) لا يصح فيما لا مقاربة فيه (178)، على أنه ليس كل ما يصح تقديره في الاعراب تصح دلالته ومعناه، إذ ثمة فرق بين تقدير الاعراب وتفسير المعنى (179).

ومما يتصل بخبر (لعل) أن النحويين نسبوا لمبرمان (ت 326 ه) منعه وقوع الفعل الماضي خبرا له (180)، لأنها تدل على الرجاء وهو مستقبل، ونُقل عن الرماني القول بهذا أيضاً (181)، وأكد ذلك الحريري قائلا: ((ويقولون: لعله ندم ولعله قدم، فيلفظون بما يشتمل على المناقضة وينبئ عن المعارضة، ووجه الكلام أن يقال: لعله يفعل))(182)، وقد اعترض على ذلك ابو حيان، ورأى جوازه على حكاية الحال الماضية (183)، وقد اعترض ابن هشام على رأي الحريري مستدلا على مجيء خبر (لعل) فعلًا ماضيا بشاهد من السنة النبوية وبشواهد شعرية أيضًا(184).

وما ذهب اليه ابن مبرمان ومن تابعه منتقض بما ورد على لسان أمير المؤمنين، إذ قال (علیه السلام): لسائل سأله: أَكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره: ((ويحك، لعلّكَ ظَنَنْتَ قضاءً لازماً، وقَدَراً حاتِماً، ولو كان كذلك لبَطَلَ الثوابُ والعقابُ، وسَقَط الوعدُ والوعيد))(185).

يذكرُ العلماء أن الإمام (علیه السلام) بعد عودته من صفّين سأله رجل شامي: يا أمير هل كان مسيرنا إلى حرب أهل الشام بقضاء اله تعالى وقدره؟، يريد السائل من هذا أنه اذا كان مسيرنا بقضاء الله تعالى وقدره لم يكن لنا في تعبنا ثواب، فلا اختيار لنا فيه ولا ثواب لنا على فعله؛ لذا جاء قوله (ويحك لعلك...) رفعًا

ص: 342

للوهم الذي يتصوره السائل، بأن ما يحصل من قضاء الله وقدره ينبغي ألا يدفع إلى الظن بسلب حرية اختيار العبد؛ لأن ذلك سيؤدي إلى بطلان مبدأ الثواب والعقاب (186).

فاستعمال الفعل الماضي خبرًا ل(لعل) إنما جاء لبيان ما استفهم عنه السائل عن حالة حدثت في الماضي، فهو يريد أن يستوضح من الإمام ما حدث في صفين بعد مدة من عودتهم منها؛ لذا دل الخبر (ظننت) على حكاية الحال الماضية، وبهذا يكون النص ناقضًا لما ذهب اليه مبرمان، ومتفقًا مع مارآه ابو حيان، على أنَّ ذلك لا يمنع من ورود الفعل الماضي في الدلالة على الاستقبال في خبر (لعل)، لورود شواهد تؤيد هذا (187)، زيادةً على ((ثبوت ذلك في خبر (ليت) وهي بمنزلة (لعل)))(188).

وبهذا نصل إلى تعديل القاعدة النحوية في ضوء ما تقدم ونقول: يجوز اقتران خبر (لعل) ب(أن) في السعة والاختيار، حملا على (عسى)، كما يجوز أيضا وقوعه فعلا ماضيا خلافا لمبرمان ومن تابعه.

ص: 343

الخاتمة والنتائج

1. تُوصف أمة العرب بأنها أمة شعرية، وقد انعكس اهتمامها في الشعر على جوانب من حياتها وتفكيرها من ذلك الاعتداد به كمصدر رئيس من مصادر الاحتجاج النحوي، مما أسهم بكثرة خروج الشعراء عن بعض الأقيسة النحوية، وسمي هذا الخروج بالضرورات الشعرية، فقد قصر النحويون بعض الأساليب على لغة الشعر وحده من دون النثر استطاع البحث نقض ذلك بإيراد شواهد نثرية من كلام الإمام في نهج البلاغة فضلًا عن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكلام العرب النثري لِما عُدّ مقتصرا على الشعر، وكانت المسائل التي عالجها البحث على النحو الآتي:

2. أظهر البحث جواز توكيد جواب الشرط بنون التوكيد في السعة والاختيار.

3. تبيَّن في البحث جواز إبقاء ألف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر نظمًا ونثرًا.

4. قرر النحويون أن خبر (كاد) لا يقترن ب(أن) لتدافع المعنيين، فإن ورد فهو مقتصر على لغة الشعر فقط، لكن البحث نقض ذلك وذهب إلى جواز اقتران خبر (كاد) ب(أنْ) لبيان دلالة تحقق الخبر في المستقبل.

5. جواز اقتران خبر (لعل) ب(أن) حملًا على (عسى)، لاشتراكهما في معنى الترجي والإشفاق.

6. جواز ورود خبر (لعل) فعلًا ماضيًا خلافا لابن مبرمان.

7. والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على نبينا محمد وآله الطاهرين.

هوامش البحث:

1. ينظر: تاريخ النقد الادبي والبلاغة حتى نهاية القرن الرابع الهجري، د. محمد زغلول سلام، 59

ص: 344

، والأصول: 79 - 80.

2. الخصائص: 3 / 191.

3. ينظر: كتاب العين: 7 / 7 (ضر)، وتهذيب اللغة: 11 / 315(ضر)، ولسان العرب: 4 / 483 (ضرر).

4. القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي: 1 / 288

5. معجم مصطلحات الفقه الجعفري، د. أحمد فتح الله: 263.

6. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب: 2 / 100،

7. الصاحبي: 468، وينظر: المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 2 / 399.

8. ينظر: شرح جمل الزجاجي: 2 / 549، وخزانة الأدب: 1 / 23، لغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية: 98، والضرورة الشعرية دراسة اسلوبية، إبراهيم محمد: 61.

9. ينظر: الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين، ابراهيم بن صالح الحندود: 404.

10. ينظر: الخصائص: 3 / 191، 3 / 62 - 63، وشرح جمل الزجاجي: 2 / 594، ولغة الشعر دراسة في الضرورة: 100 - 103.

11. ضرائر الشعر: 13، وينظر: شرح جمل الزجاجي: 2 / 594، وارتشاف الضرب: 5 / 2377، وهمع الهوامع: 3 / 273.

12. ينظر: شرح الرضي على الكافية: 1 / 44، وخزانة الادب: 1 / 33.

13. ينظر: مغني اللبيب: 72، وخزانة الادب: 1 / 31، وهمع الهوامع: 3 / 273، ولغة الشعر دراسة في الضرورة: 98.

14. ينظر: خزانة الادب: 1 / 31.

15. ينظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 6.

16. ينظر: خزانة الادب: 1 / 31، والضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 6.

17. ينظر: شرح جمل الزجاجي: 2 / 549، وارتشاف الضرب: 5 / 2377، ولغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية: 92، والضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحوين: 397.

18. شرح التسهيل: 1 / 202، وينظر: شرح الكافية الشافية: 1 / 300، والضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين: 399.

19. ينظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 6، وسيبويه والضرورة الشعرية، إبراهيم حسن: 35، وشواهد الشعر في كتاب سيبويه، د. خالد عبد الكريم جمعة: 438.

20. شواهد الشعر في كتاب سيبويه: 437.

ص: 345

21. الكتاب: 1 / 32، وينظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 18.

22. الكتاب: 1 / 26، وينظر: الأشباه والنظائر: 2 / 201 - 202.

23. ينظر: المصدر نفسه: 1 / 29، 32، 48، 99.

24. الضرورة الشعرية، دراسة أسلوبية: 12 - 13.

25. الاشباه والنظائر: 2 / 201.

26. الضرورة الشعرية، دراسة اسلوبية: 15

27. الأصول في النحو: 3 / 435

28. يُنظر: ما يحتمل الشعر من الضرورة، تح: د. عوض بن حمد القوزي: 34 - 35.

29. يُنظر: ضرائر الشعر: 16.

30. يُنظر: ارتشاف الضرب: 5 / 2378.

31. يُنظر: الكتاب: 3 / 509، وشرح المفصل: 9 / 37، والنحو الوافي: 4 / 167.

322. يُنظر: الإنصاف في مسائل الخلاف: 2 / 650، ومغني اللبيب: 443.

33. يُنظر: تمهيد القواعد: 2 / 3917 - 3933، والتراكيب اللغوية في العربية، د. هادي نهر: 135 - 138.

34. الكتاب: 3 / 515، ويُنظر: المقاصد الشافية: 5 / 550.

35. يُنظر: الكتاب: 3 / 515، والمقاصد الشافية: 5 / 550، وخزانة الادب: 11 / 388، تمهید القواعد: 2 / 3934. والبيت في الحماسة، البحتري، تح: د. محمد إبراهيم حور، وأحمد محمد عبيد: 57

36. ينظر: معاني القرآن: 1 / 162، وخزانة الادب: 11 / 389..

37. يُنظر: المقتضب: 3 / 14.

38. يُنظر: الأصول في النحو: 2 / 200.

39. يُنظر: ما يحتمل الشعر من الضرورة: 81.

40. يُنظر: التعليقة: 4 / 18.

41. يُنظر: ما يجوز للشاعر في الضرورة: 326

42. يُنظر: البيان في غريب اعراب القرآن: 1 / 386، والنحويون والقرآن: 133

43. يُنظر: المفصل: 331

44. يُنظر: الإيضاح في شرح المفصل: 2 / 275، وشرح التصريح: 2 / 307

45. يُنظر: الضرائر: 20، وارتشاف الضرب: 1 / 656.

ص: 346

46. الكتاب: 1 / 32، ويُنظر: الضرائر: 18.

47. التعليقة: 4 / 18 - 19.

48. الكتاب: 3 / 278.

49. يُنظر: النحويون والقرآن: 133.

50. الأصول في النحو: 2 / 161.

51. يُنظر: البحر المحيط: 3 / 544، والدر المصون: 5 / 285 ، واللباب في علوم الكتاب: 9 / 65، 10 / 287، وإعراب القرآن وبيانه: 2 / 535 - 536.

52. الكتاب: 3 / 65 - 66.، وينظر: الأصول في النحو: 2 / 161، والبيان في غريب إعراب القرآن: 2 / 161، وشرح الكافية الشافية: 3 / 1615، والنحويون والقرآن: 241.

53. يُنظر: الصفحة من هذا البحث.

54. يُنظر: شرح الرضي على الكافية: 4 / 457، وتوضيح المقاصد: 3 / 1290، وحاشية الخضري: 2 / 126.

55. يُنظر: المحرر الوجيز: 1 / 465، واللباب في علوم الكتاب: 7 / 461، واعراب القرآن وبيانه: 2 / 535 - 536.

56. الميزان: 6 / 265.

57. يُنظر: إعراب القرآن وبيانه: 2 / 536 .

58. يُنظر: مفاتيح الغيب: 12 / 60، وأنوار التنزيل: 2 / 138.

59. شرح (المعتزلي): 1 / 312. ((الغفيرة: الكثرة والزيادة)). لسان العرب: 5 / 27 (غفر).

60. ينظر: شرح (البحراني): 2 / 5، وفي ظلال نهج البلاغة: 1 / 168.

61. منهاج البراعة (الراوندي): 1 / 192.

62. شرح (المعتزلي): 17 / 111، الوكزة: الطعنة، ووكزه: طعنه: يُنظر: كتاب العين 5 / 394: (وكز).

63. شرح (المعتزلي): 18 / 380.

64. يُنظر: الكتاب: 3 / 65 - 66، والاصول في النحو: 2 / 161، وشرح الرضي على الكافية: 4 / 110.

65. يُنظر: شرح الكافية الشافية: 3 / 1403 - 1405، وخزانة الادب: 11 / 388.

66. شرح الرضي على الكافية: 4 / 485، وينظر: خزانة الادب: 11 / 388.

ص: 347

67. ينظر: المقاصد الشافية: 5 / 550، وخزانة الادب: 11 / 388.

68. يُنظر: تمهيد القواعد: 2 / 3934.

69. يُنظر: شرح الاشموني: 3 / 122.

70. يُنظر: النحويون والقرآن: 133.

71. يُنظر: المصدر نفسه: 3 / 509، وأساليب التوكيد في القرآن الكريم، عبد الرحمن المطردي: 43

72. يُنظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 292، وأمالي ابن الشجري: 1 / 330، وشرح المفصل: 4 / 9، ومغني اللبيب: 394، والاتقان في علوم القرآن: 2 / 288.

73. يُنظر: الانصاف في مسائل الخلاف: 2 / 572.

74. يُنظر: الانصاف في مسائل الخلاف: 2 / 572، وشرح الرضي على الكافية: 3 / 50، والبرهان في علوم القرآن: 4 / 403، وأساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، د. قيس اسماعيل الأوسي: 381.

75. يُنظر: الكتاب: 4 / 164، والمقاصد الشافية: 8 / 96 - 97.

76. يُنظر: كتاب الأزهية في علم الحروف، الهروي، تح: عبد المعين ملوحي: 85، ومغني اللبيب: 394، والاتقان في علوم القرآن: 2 / 288، والأساليب الإنشائية في النحو العربي، عبد السلام هارون: 195.

77. يُنظر: همع الهوامع: 3 / 461.

78. يُنظر: فقه اللغة وسر العربية، تح: السقا واخرون: 348.

79. يُنظر: المحتسب: 2 / 347، والبحر المحيط: 10 / 383، والقرآن الكريم واثره في الدراسات النحوية،د. عبد العال سالم مكرم: 327

80. يُنظر: كتاب الأزهية: 86.

81. يُنظر: الكشاف: 4 / 11 - 12، ويُنظر: البحر المحيط: 9 / 58.

82. يُنظر: الكشاف: 2 / 92.

83. يُنظر: المحتسب: 2 / 347، ومغني اللبيب: 394، وهمع الهوامع: 3 / 461، وخزانة الادب: 6 / 99، والبيت في ديوانه: 1 / 258، وهو فيه على خلاف ما يرويه النحويون فروايته فيه: ففيم تقول يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد، وعلى هذا فلا شاهد فيه،

84. يُنظر: ما يجوز للشاعر في الضرورة: 317.

85. يُنظر: اعراب ما يشكل من الفاظ الحديث النبوي، تح: د. عبد الحميد هنداوي: 66.

ص: 348

86. يُنظر: البحر المحيط: 9 / 58.

87. يُنظر: مغني اللبيب: 394.

88. يُنظر: شرح الأشموني: 4 / 16.

89. يُنظر: شرح التصريح: 3 / 1487.

90. يُنظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 327.

91. يُنظر: شذا العرف في فن الصرف، تح: نصر الله عبد الرحمن نصر الله: 160.

92. يُنظر: الاساليب الانشائية في النحو: 195.

93. صحيح البخاري: 2 / 140 (1557)، السنن الكبرى، النسائي، تح: حسن عبد المنعم شلبي: 4 / 51 (3710)، وبحار الأنوار: 30 / 627.

94. صحيح البخاري: 3 / 59 (2083).

95. معاني القرآن: 2 / 292.

96. ينظر: الكشاف: 4 / 11 - 12.

97. يُنظر: مفاتيح الغيب: 9 / 406 - 407.

98. شواهد التوضيح: 217.

99. يُنظر المصدر نفسه: 218.

100. يُنظر: شواهد التوضيح: 31.

101. يُنظر: إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث: 66.

102. الأصول في النحو: 1 / 57.

103. کتاب التعريفات: 124.

104. المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

105. يُنظر: الخصائص: 1 / 126.

106. يُنظر: شرح شافية ابن الحاجب ؉ تح: محمد نور الحسن وآخرينِ: 1 / 297.

107. يُنظر: شرح الرضي على الكافية: 3 / 50 وخزانة الادب: 6 / 99.

108. يُنظر: موصل الطلاب الى قواعد الاعراب، تح: عبد الكريم مجاهد: 149.

109. إقبال الأعمال: 3 / 335، وينظر: المصباح، الكفعمي: 558.

110. يُنظر: المقاصد الشافية: 8 / 97.

111. يُنظر: الخصائص: 2 / 203

ص: 349

112. ينظر: شرح المفصل: 7 / 119.

113. يُنظر: الكتاب: 3 / 12، والمقتضب: 3 / 75، وتوضيح المقاصد: 1/ 515 - 517، والنواسخ في كتاب سيبويه، د. حسام النعيمي: 78.

114. يُنظر: الأصول في النحو: 2 / 207، واللباب في علل البناء والإعراب: 1 / 194 وشرح المفصل: 7 / 119، والإيضاح في شرح المفصل: 2 / 91، وتوضيح المقاصد: 1 / 515، وشرح ابن عقيل: 1 / 330.

115. ينظر: الكتاب: 3 / 160، والمقتضب: 3 / 75، والبيت في ديوانه: 172، وقوله (يمصحا) من:

((مصح الشيء مصوحا: ذهب وانقطع)) الصحاح: 1 / 405 (مصح).

116. الكتاب: 2 / 12.

117. يُنظر: المصدر نفسه: 3 / 160، وإعراب القرآن (النحاس): 1 / 237.

118. شرح المقدمة المُحسِبة، تح: د. خالد عبد الكريم: 1 / 352 - 353.

119. يُنظر: النحويون والقرآن: 274.

120. شرح (المعتزلي): 6 / 280.

121. يُنظر: لسان العرب: 15 / 54 (عسا).

122. ينظر: شرح المفصل: 9 / 124، والتوطئة، أبو علي الشلوبيني، دراسة وتحقيق: د. يوسف أحمد المطوع: 299.

123. الخصائص: 1 / 305.

124. يُنظر: المقتضب: 3 / 75.

125. يُنظر: الأصول في النحو: 2 / 207.

126. يُنظر: حروف المعاني والصفات، تح: علي توفيق الحمد: 67.

127. يُنظر: الإيضاح العضدي: 78

128. يُنظر: كتاب المقتصد: 1 / 361.

129. يُنظر: أسرار العربية: 129.

130. يُنظر: التوطئة: 299، والمقرب: 1 / 98، وضرائر الشعر: 47 - 48.

131. الكافي: 2 / 307، والدعاء للطبراني، تح: مصطفى عبد القادر عطا: 1 / 319 (1048).

132. يُنظر: الكتاب المصنف في الاحاديث والآثار لابي شيبة، تح: كمال يوسف الحوت: 7 / 478، 7 / 555، والسنة: ابن حنبل، تح: د. محمد سعيد سالم القحطاني: 1 / 133، صحيح البخاري

ص: 350

: 2 / 29 (1015)، سنن أبي داوود، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد: 4 / 272 (4888)، وسنن النسائي: 3 / 84 (1366)، والكافي: 8 / 217، المحلى بالآثار، ابن حزم: 7 / 487.

133. تهذيب اللغة: 10 / 179 (كود)، وينظر: لسان العرب: 3 / 382 (كود)، وتاج العروس: 9 / 121 (كود).

134. شرح (المعتزلي): 20 / 233.

135. توضيح نهج البلاغة: 4 / 483.

136. شرح (المعتزلي): 11 / 245، الميسم: المكواة أو الحديدة التي يوسم بها، والجمع مواسم ومیاسم. ينظر: لسان العرب: 12 / 636 (وسم).

137. توضيح نهج البلاغة: 2 / 382.

138. دلائل الإعجاز، الجرجاني، قرأه وعلق عليه: أبو فهر محمود محمد شاكر: 275، ويُنظر: الزمن النحوي في اللغة العربية، د. کامل رشيد: 185.

139. دلائل الإعجاز: 275.

140. یُنظر شرح المفصل: 7 / 119، والمقرب: 1 / 99، وشرح التصريح: 1 / 284 - 285.

141. يُنظر: الكتاب: 3 / 11، وشرح کتاب سيبويه (السيرافي): 3 / 202، والمقرب: 1 / 99، والزمن النحوي: 185

142. يُنظر: خزانة الادب: 9 / 349 وهو راي علي بن حمزة البصري.

143. يُنظر: شرح المفصل: 7 / 121.

144. شواهد التوضيح: 159.

145. يُنظر: شرح (المعتزلي): 8 / 287، 9 / 269، 19 / 257.

146. يُنظر: شرح الرضي على الكافية: 4 / 220، والمساعد: 1 / 295، وشرح الأشموني: 1 / 276 - 278، وشرح التصريح: 1 / 284، وهمع الهوامع: 1 / 474 - 476

147. يُنظر: الحديث النبوي في النحو العربي، دراسة مستفيضة لظاهرة الاستشهاد بالحديث في النحو العربي، ودراسة نحوية للاحاديث الواردة في أكثر شروح ألفية ابن مالك: 189.

148. مجيء خبر (لعل) فعلا ماضيا ليس ضرورة، لكننا ذكرنا هنا لاتفاق الموضع وهو الخبر.

149. يُنظر: كتاب العين: 1 / 89، والكتاب: 3 / 332، واللامات: 135، والإنصاف في مسائل الخلاف: 1 / 281، والجنى الداني: 579.

150. يُنظر: الإنصاف في مسائل الخلاف: 1 / 218 / 219، وشرح المفصل: 8 / 88، والجنی

ص: 351

الداني: 579.

151. يُنظر: الجنى الداني: 579.

152. یُنظر: مغني اللبيب: 379، وتمهيد القواعد: 3 / 1291 - 1294.

153. يُنظر: همع الهوامع: 1 / 488.

154. يُنظر: شرح ابن عقیل: 1 / 308، وارتشاف الضرب: 1240، وتمهيد القواعد: 3 / 1293.

155. الكتاب: 3 / 160.

156. يُنظر: المقتضب: 3 / 74.

157. الأصول في النحو: 2 / 207.

158. يُنظر: شرح المفصل: 8 / 86، وخزانة الادب: 5 / 345.

159. يُنظر: اللمحة في شرح الملحة، تح: إبراهيم بن سالم الصاعدي: 2 / 539.

160. يُنظر: الكتاب: 2 / 375، وشرح الكافية الشافية: 1 / 77، ومغني اللبيب: 203، والنحو الوافي: 1 / 242.

161. ينظر: ظاهرة التقارض في النحو العربي، أحمد محمد عبد الله: 234.

162. صحيح البخاري: 2 / 81 (1295)، وسنن أبي داوود: 3 / 112 (2864)، وکنز العمال: 6 / 6 (14592).

163. صحيح البخاري: 9 / 25 (6967)، وسنن أبي داوود: 3 / 301 (3583).

164. يُنظر: الوافي، الفيض الكاشاني: 21 / 33، 6 / 29.

165. يُنظر: دراسات لأسلوب القرآن: 1 / 2 / 604 - 605.

166. شرح (المعتزلي): 8 / 103، والاكظام جمع كظم وهو مخرج النفس من الخلق يقال: اخذت بكظمه أي بمخرج نفَسه، يُنظر: الصحاح: 5 / 2022 - 2023 (كظم).

167. يُنظر: شرح (الموسوي): 2 / 351، وتوضيح نهج البلاغة: 2 / 263.

168. يُنظر: الجنى الداني: 580، ومغني اللبيب: 379.

169. شرح (المعتزلي): 14 / 103.

170. یُنظر: شرح الرضي على الكافية: 4 / 446، وحاشية الصبان 3 / 332.

171. مغني اللبيب: 379، وينظر: خزانة الادب: 5 / 345.

172. يُنظر: شرح التصريح: 1 / 297، وشرح الاشموني: 1 / 290، وهمع الهوامع: 1 / 492، وتمهيد القواعد: 3 / 1383، والنحو الوافي: 1 / 622.

ص: 352

173. الخصائص: 1 / 127.

174. يُنظر: الكتاب: 3 / 160، وكتاب اسفار الفصيح، الهروي، دراسة وتحقيق: د. أحمد بن سعيد بن محمد قشاش: 1 / 327.

175. يُنظر: مغني اللبيب: 43.

176. يُنظر: التذييل والتكمیل: 5 / 157.

177. يُنظر: مغني اللبيب: 201 - 202.

178. يُنظر: الجملة العربية تأليفها واقسامها: 122.

179. يُنظر: الخصائص: 1 / 281.

180. يُنظر: التذييل والتكميل: 5 / 23، وهمع الهوامع: 1 / 492، ودراسات لأسلوب القرآن: 1 / 2 / 600.

181. يُنظر: البرهان في علوم القرآن: 4 / 395.

182. درة الغواص في أوهام الخواص، تح: عرفات مطرجي: 36، وينظر: مغني اللبيب: 280.

183. یُنظر: التذييل والتكميل: 5 / 23.

184. يُنظر: مغني اللبيب: 377

185. شرح (المعتزلي): 18 / 227.

186. يُنظر: شرح (البحراني): 5 / 297، وتوضيح نهج البلاغة: 4 / 292.

187. يُنظر: مغني اللبيب: 377.

188. المصدر نفسه: 377، ويُنظر: البرهان في علوم القرآن: 4 / 395، ودراسات لأسلوب القرآن: 1 / 2 / 600.

ص: 353

المصادر والمراجع

۞ القرآن الكريم.

1. ارتشاف الضرب من لسان العرب، أبو حيان الأندلسي (ت: 745 ه)، تحقیق وشرح ودراسة: د. رجب عثمان محمد، مراجعة: د. رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 1، 1998 م

2. أساليب الإنشاء في كلام السيدة الزهراء (علیها السلام) دراسة نحوية بلاغية، عامر سعید نجم، العتبة العلويَّة المقدسة - النجف الأشرف، 2011 م.

3. الأساليب الإنشائية في النحو العربي، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 5، 2001 م.

4. أساليب التوكيد في القرآن الكريم، عبد الرحمن المطردي، الدار الجماهرية - ليبيا، ط 1، 1989 م.

5. أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، د. قيس إسماعيل الأوسي، بیت الحكمة - بغداد، 1988 م

6. الاستقراء الناقص وأثره في النحو العربي، د. محمد بن عبد العزيز العميريني، دار المعرفة الجامعية - الأزاريطة - مصر، 2007 م.

7. الأشباه والنظائر في النحو، السيوطي، تح: د. عبد العال سالم مکرم، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط 1، 1985 م

8. الأصول في النحو، ابن السَّرَّاج (ت: 316 ه)، تح د. عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط 3، 1996 م.

9. الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، أبو البركات

ص: 354

الأنباري، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة - القاهرة، ط 4، 1961م.

10. الإيضاح في شرح المفصل، ابن الحاجب، تح: د. إبراهيم محمد عبد الله، دار سعد الدين - دمشق، ط 2 ، 2013 م.

11. بناء الجملة العربية، د. محمد حماسة عبد اللطيف، دار غريب - القاهرة، 2003 م.

12. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، محمد تقي التستري (ت 1415 ه)، دار أمير - طهران، ط 1، 1418 ه

13. البيان في غريب إعراب القرآن، ابو البرکات الأنباري، تح: د. طه عبد الحميد طه، مراجعة: مصطفى السقا، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 1980 م.

14. تاريخ النقد الأدبي والبلاغة حتى نهاية القرن الرابع الهجري، د. محمد زغلول سلام، المعارف - الإسكندرية (د.ت).

15. التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية تطبيقية، د. هادي نهر، الجامعة المستنصرية - كلية الآداب، 1987 م

16. تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، الدماميني (ت: 827 ه)، تح: د. محمد بن عبد الرحمن بن محمد المفدى، ط 1، 1983 م.

17. التعليقة على كتاب سيبويه، أبو علي الفارسيّ، تح: د. عوض بن حمد القوزي، ط 1، 1990 م

18. توضیح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، المرادي (ت: 749 ه)، شرح وتحقيق: عبد الرحمن علي سليمان، دار الفكر العربي - بيروت، ط 1، 2008 م

19. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر البغدادي (ت: 1093 ه)

ص: 355

، شرح وتحقیق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 4، 1997 م

20. الخصائص، ابن جنّي (ت: 392 ه)، تح: محمد علي النجّار، المكتبة العلمية - مصر، (د.ت).

21. ديوان أبي دواد الإيادي، حققه وجمعه: أنوار أحمد الصالحي، ود. أحمد هاشم السامرائي، دار العصاء - دمشق، ط 1، 2010 م.

22. ديوان الأخطل، شرحه وصنَّف قوافيه وقدم له: مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2، 1994 م.

23. ديوان الأعشى الكبير، میمون بن قيس، تح: د. محمد حسين (د.ت).

24. دیوان امرئ القيس، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف - القاهرة، ط 5، (د.ت).

25. دیوان جرير بشرح محمد بن الحبيب، تح: د. نعمان محمد أمين طه، دار المعارف - القاهرة، ط 3، (د.ت).

26. دیوان حسان بن ثابت، حققه وعلّق عليه: د. وليد عرفات، دار صادر - بيروت

27. سیبویه والضرورة الشعرية، د. إبراهيم حسن إبراهيم، ط 1، 1983 م.

28. شرح التسهيل، ابن مالك (ت: 672 ه)، تح: د. عبد الرحمن السيد، ود. محمد بدوي المختون، دار هجر - القاهرة، ط 1، 1990 م

29. شرح التسهيل المسمى (تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)، ناظر الجيش (ت: 778 ه)، دراسة وتحقيق: د. علي محمد فاخر وآخرين، دار السلام - القاهرة، ط 1، 1428 ه

ص: 356

30. شرح التسهيل (القسم النحوي)، المرادي، تحقيق ودراسة: محمد عبد النبي أحمد، مكتبة الإيمان - المنصورة ،ط 1، 2006 م.

31. شرح الدمامني على مغني اللبيب، الدماميني، صححه وعلق عليه: أحمد عزو عناية، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت، ط 1، 2007 م.

32. شرح الرضي على الكافية، الرضي الأسترابادي (ت 686 ه)، تصحیح وتعليق: يوسف حسن عمر، منشورات جامعة بنغازي، ط 2، 1996 م.

33. شرح المفصَّل، ابن يعيش (ت: 643 ه)، إدارة الطباعة المنيرية - مصر، (د.ت).

34. شرح جمل الزجاجي (الشرح الكبير)، ابن عصفور (ت: 669 ه)، تح: د. صاحب أبو جناح، وزارة الأوقاف العراقية، 1980 م.

35. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت: 656 ه)، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل - بيروت، ط 1، 1987 م.

36. شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي، دار الرسول الأكرم، دار المحجة البيضاء - بيروت، ط 1، 1418 ه.

37. شرح نهج البلاغة، میثم البحراني (ت 689 ه)، ط 2، 1404 ه.

38. شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار للمجلسي، علي أنصاريان، مؤسسة النشر الإسلامي - طهران، ط 1، 1408 ه.

39. شواهد الشعر في كتاب سیبویه، د. خالد عبد الكريم جمعة، مطبعة الدار الشرقية - مصر، ط 4، 1989 م.

40. الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها، ابن فارس (ت: 395 ه)، شرح وتحقیق: السيد أحمد صقر، السعودية - مكة المكرمة، (د.ت).

ص: 357

41. ضرار الشعر، ابن عصفور، تح: السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس - بیروت، ط 1، 1980 م.

42. الضرائر ومايسوغ للشاعر دون الناثر، محمود شكري الآلوسي، شرحه: محمد بهجة الأثري، المكتبة العربية - بغداد، (د.ت).

43. الضرورة الشعرية دراسة أسلوبية، السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس - بیروت ، ط 3، 1983 م.

44. الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة على ألفية بن مالك، إبراهيم بن صالح الحندود، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، السنة الثالثة والثلاثون، العدد الحادي عشر بعد المائة، 2001 م.

45. القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية، د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة علي جراح الصباح - الكويت ، ط 2، 1978 م.

46. القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي، دار الفكر - دمشق ، ط 1، 2006 م.

47. الكتاب، کتاب سيبويه، سیبویه (ت: 180 ه) تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 3، 1988 م.

48. كتاب العين، الخليل الفراهيدي (ت: 175 ه)، تح: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، وزارة الثقافة والإعلام - دار الرشید بغداد، 1980 م.

49. کشف المشكل في النحو، الحيدرة اليمني (ت: 592 ه)، تح: د. هادي عطية مطر، مطبعة الإرشاد - بغداد، 1984 م.

50. الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي (ت: 427 ه)، تح: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نصير الساعدي، دار إحياء

ص: 358

التراث العربي - بيروت ، ط 1، 2002 م.

51. اللامات، الزجاجي، تح: مازن المبارك، دار الفكر - دمشق ط 2، 1985 م.

52. اللباب في علل البناء والإعراب، العكبري، تح: د. عبد الإله النبهان، دار الفكر - دمشق، ط 1، 1995 م

53. لغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية، د. محمد حماسة عبد اللطيف، دار الشروق - القاهرة، ط 1، 1996م.

54. ما يحتمل الشعر من الضرورة، السيرافي، تحقیق وتعلیق: د. عوض بن حمد القوزي، جامعة الملك سعود - الرياض، ط 2، 1991 م

55. المزهر في علوم اللغة وأنواعها، السيوطي، تح: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 1998 م

56. معاني القرآن وإعرابه، الزجّاج (ت: 311 ه)، شرح وتحقيق: د. عبد الجليل شلبي، عالم الكتب - بيروت، ط 1، 1988 م.

57. معاني القرآن، الأخفش الأوسط (ت: 215 ه)، تحقيق: الدكتورة هدى محمود قراعة، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 1، 1990 م.

58. معاني القرآن، الفرّاء (ت: 207 ه)، تح: أحمد يوسف النجاتي، ومحمد علي النجار، وعبد الفتاح إسماعيل، دار المصرية - القاهرة (د.ت).

59. معاني النحو، د. فاضل السامرائي، دار الفكر - عمّان، ط 2، 2003 م.

60. معجم ألفاظ الفقه الجعفري، د. أحمد فتح الله، مطابع المدوخل - الدمام، ط 1، 1995 م.

61. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية - بغداد

ص: 359

، 1989 م.

62. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، تح: د. مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله، دار الفكر - دمشق، ط 6، 1985 م.

63. المقتضب، المبرّد، تح: محمد عبد الخالق عضيمة، القاهرة، ط 3، 1994 م

64. النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة، عباس حسن (ت 1978 م)، دار المعارف - القاهرة، ط 3 (د.ت)

65. النحويون والقرآن، د. خليل بنيان الحسون، مكتبة الرسالة الحديثة - الأردن، ط 1، 2002 م.

66. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، السيوطي، تح: عبد الحميد هنداوي، المكتبة التوفيقية - مصر، (د.ت).

ص: 360

العدول في الظواهر التركيبية في خطاب نهج البلاغة

اشارة

م. د. أحلام عبد المحسن صكر

جامعة ذي قار كلية التربية للعلوم الإنسانية

ص: 361

ص: 362

المقدمة:

يعد العدول هو كسراً لشبكة العلاقات التي يقيمها الاستعمال العادي بين الكلمات ووضعها ضمن شبكة علاقات جديدة خاصة بالخطاب الأدبي (1)، إذ إن مستوى الخطاب المألوف يتميز بشفافية عالية تسمح للمتلقي باختراقها إلى مردودها الخارجي مباشرة لأنه جاهز بصفة دائمة، وحاضر في المخزون الذهني، أما لغة الخطاب الأدبي فأنها تتميز بكثافة شديدة، لا تسمح للمتلقي بهذا الاختراق السريع، وإنما تتطلب منه أن يتوقف إزاءها لينشغل بعناصرها البسيطة أو المركبة المجاوزة أو غير المجاوزة التي تربط في مرجعيتها الدلالية بعدّة احتمالات علقت بها من طول الاستعمال أحياناً ومن طبيعة السياق أحياناً أخرى وهي خصيصة شعرية في الصياغة الأدبية (2).

والعدول إجراء تفرضه طبيعة الموقف ومقاصد الخطاب، وله وظيفة رئيسة (ماثلة فيما تحدثه من مفاجأة تؤدي بالمتلقي إلى الغبطة والإمتاع والإحساس بالأشياء إحساساً متجدداً)(3).

وذلك ان المتلقي الذي وصل إلى مرحلة التشبع جراء ما هو مكرر وتقليدي لا ينتبه على الكلمات والصياغة وما ترمز إليه إلا إذا وضعت على نحو مدهش ومبتكر (4).

ومن مظاهره في خطاب النهج:

1 - التقديم والتأخير

وهو باب تتبارى فيه الأساليب، فأنهم أتوا به دلالة على تمكنهم من الكلام وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق (5).

ص: 363

والجملة العربية لا تنماز بحتمية في ترتيب عناصرها ألا في بعض الرتب التي يمثل العدول عنها خروجاً عن اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية (6).

ولعل ظاهرة التقديم والتأخير من أبرز الظواهر اللغوية التي منحت قواعد اللغة هذه الطاقة الحركية، فهو (باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية لا يزال يفتر لك عن بديعة ويفضي لك إلى لطيفة ولا تزال تری شعراً يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تنظر فتجد سبب إن راقك ولطف عندك إن قدّم في شيء وحوّل اللفظ عن مكان إلى مكان)(7)، ومنحت هذه الظاهرة المتكلم حرية صياغة الجملة وتشكيل عناصرها التشكيل الذي يجعل الجملة أدق إعراباً عن نفسه وأكثر استجابة لتصوير ما هو موضع اهتمامه من عناصر التركيب (8).

وتكسب هذه الظاهرة الكلام جمالاً وتأثيراً لأنه سبيل إلى نقل المعاني في ألفاظها إلى المخاطبين كما هي مرتبة في ذهن المتكلم فيكون الأسلوب صورة صادقة لإحساسه ومشاعره (9).

وهو تقنية لسانية، وظاهرة أدائية تعتري الخط الأفقي للتراكيب يتمثل في تحريك العناصر المؤسسة لكيانات التركيب، أي احد طرفي الإسناد وما يتصل بهما من متعلقات وأركان تكميلية من أماكنها الأصلية إلى أماكن جديدة، أثر العمل بمبدأ تحاور المواقع والمراتب وتبادلها لتخرج بذلك اللغة من الطابع النفعي المجرد من الإيحاء إلى طابع فني ولغة إبداعية نابضة ذات قدرة على إفراز المعنى العميق والدلالة البعيدة(10).

ويأتي ترتيب الكلمات في الكلام ترجمة لترتيب ما في النفس من معان وينظر إلى مواقع الكلمات وجريانها طبق خواطر النفس وألوان الحس، ويمثل بذلك

ص: 364

العنصر المتقدم بؤرة

التركيز والمحطة التي تستقطب العناية والاهتمام (11).

ويتضمن أسلوب التقديم والتأخير أبعاداً نفسية ونكتاً ولطائف بلاغية كثيرة (12)، وقد أشار إلى جملتها عدد من النحويين والبلاغيين (13).

وإذ يعمد خطاب النهج إلى هذا الفن القولي فإنما يستهدف التركيز على جملة من المعاني الإضافية ومن بينها المعاني النفسية.

- تقديم المسند إليه:

إن مرتبة المسند إليه التقديم لان مدلوله هو الذي يخطر في الذهن أولاً لأنه المحكوم عليه، والمحكوم عليه سابق للحكم (14)، فالمسند وصف والمسند إليه موصوف، والعادة أن يتقدم الموصوف ثم تتلوه صفته(15).

ففي قوله (علیه السلام): (فمَا أعظمَ منَّةَ اللهِ عندنَا حن أنعمَ علينا بِهِ) (16)، یوحي تقديم المبتدأ (ما) على الخبر (أعظم منة الله) بدلالة التعظيم والمدح لشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وجاء تق-دي-م المسند إليه واجباً لأن المبتدأ إذا كان اسماً مستحقاً للصدارة في جملته أما بنفسه مباشرة كأسماء الاستفهام وأسماء الشرط وما التعجبية وكم الخبرية وأما بغيره كالمضاف إلى واحد مما سبق وجب تأخر الخبر (17).

كما في قوله (علیه السلام): (وما للطُّلقاءِ وأبناءِ الطُّلقاءِ والتمييزَ بین المهاجِرينَ

الأولینَ)(18)، يصور تقديم المبتدأ (ما) على الخبر شبه الجملة ((للطلقاء) دلالة التوبيخ والذم للمخاطب فضلاً عن استفهامه ب (ما) التي هي لغير العاقل ليؤكد فكرة الخطاب ومعناه.

ص: 365

كما يتقدم المسند إليه وجوباً الواقع بعد (أما) لأن الفاء لا تقع بعدها مباشرة، ولان الخبر الذي تدخل عليه لا يتقدم على المبتدأ (19)، نحو قوله (علیه السلام): (فأنا لله وأنا إليه راجعونَ، فلقَد استُرجعتِ الوديعةُ، وأخذتِ الرهينةُ، أمَّا حُزنِي فسرمدُ

وأمَّا ليِلِي فمسَّهدٌ) (20)، إذ يشير الخطاب إلى مدى الحزن والألم في نفسه (علیه السلام) لمصابه في فقده الزهراء (علیه السلام)، وقد جاء المبتدأ (حزني، وليلي) متقدماً وجوباً على الخبر (سرمد، ومسهد) الذي يصور حزنه الأبدي وسهره الليالي لفراقها (علیه السلام).

وقد يؤتى بالمسند إليه مقدماً لأغراض (21)، منها لتعجيل المساءة (22)، کما في قوله (علیه السلام): (فالويلُ لمنْ أنكرَ المقدرَ، وجحدَ المدبرَ)(23)، يتجلى من تقديم المسند إليه ((الويل) دلالة الوعيد والتهديد، فضلاً عن ما في تقديمه من إثارة للرعب والخوف في نفس المخاطب، والويل كلمة تقال لكل من وقع في عذاب أو هلكة (24). كما يتقدم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة معنى تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي (25)، نحو قوله (علیه السلام): (إنَّما أجتمعَ رأيُ ملئكُمْ عى اختيارِ رجلینِ أخذْنَا عليهِمَا ألاَّ يتعدَّيَا القرآنَ فتاهَا عنهُ وتركَا الحقَّ وهما يبصرَانِهِ) (26).

يشیر تقديم المسند إليه (هما) على الخبر الفعلي (يبصرَانِهِ) إلى دلالة توكيد تحايل ومكر المخاطبين لتركهم طريق الحق مع معرفتهم به، فقصر الفعل على الفاعل من دون أن يكون له شريك إذ أفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي معنى التخصيص (27)، اي (هو ان يكون الفعل فعلاً قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له وتزعم انه فاعله دون آخر أو

دون كل أحد)(28). ويشير تخصص المسند إليه بالخبر الفعلي إلى دلالة التقريع والتأديب في قوله (علیه السلام): (كيفَ تُسيغُ شَراباً وطعَاماً وأنتَ تعلمُ أنَّكَ تأكُلُ حرَاماً وتشربُ حرَاماً) (29).

ص: 366

إذ تقدم المسند إليه (أنت) على الخبر الفعلي (تعلم) لأن المعنى إرادة تقريره بأنه الفاعل، وكان أمر الفعل في وجوده ظاهراً وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن، أي تنحو بالإنكار إلى نفس المذكور - الفاعل -، وأبيت أن تكون بموضع أن یجيء منه الفعل وممن يجيء منه وان يكون بتلك المثابة (30).

ويتناسب تقديم المسند إليه مع مقام الوعيد والتحذير في قوله (علیه السلام): (فإنْ أنتُم لم تستقيُموا لي على ذلك لم يكُنْ أحدٌ أهونَ عليَّ ممن أعوجَّ منكُمْ)(31).

فقدم المسند إليه (أنتم) على الخبر الفعلي المنفي (لم تستقيموا) لتقوية الحكم وتقريره (32)

کما يتقدم المسند إليه لإفادة التعميم بالنص على عموم السلب، أي شمول النفي لكل فرد من أفراد المسند إليه، وبيان ذلك إن الوسيلة الغالبة في تحقيق عموم السلب هي تقديم أداة من أدوات العموم على أداة نفي إذ لا تقع الأولى في حيز الثانية وحينئذ تكون أداة العموم المسند إليه المقدم لإفادة التعميم بالنص على عموم السلب (33)، كما في قوله (علیه السلام): (وما كلُّ ذي قلبٍ بلبيبٍ ولا كلُّ ذي سمعٍ بسميعٍ ولا كل ذي ناظرٍ ببصیرٍ)(34).

يصور تقدم المسند إليه (كل) على الخبر شبه الجملة دلالة التحذير والوعظ للسامعين.

وقد يمثل العنصر المتقدم بؤرة التركيز التي تستقطب العناية والاهتمام، نحو قوله (علیه السلام):

(إنَّ حزنَنَا عليهِ على قدرِ سرورِهِم بهِ إلاَّ أنَّهُم نقصُوا بغيضاً ونقصنَا حبيباً) (35)، فالخطاب رسم صورتين الأولى: الحزن عليه وعبر عنها بالمسند إليه (حزننا عليه)

ص: 367

، والأخرى السرور لأعدائه وعبر عنها بالمسند (على قدر سرورهم به)، والح-زن والسرور نقيضان وهما من الحالات التي تصيب الإنسان وتعبر عما في داخله، ولأهمية المخاطب جاء الخطاب مؤكداً ب (أن) للدلالة على مبلغ ذلك الحزن لفقده، لان المنشيء إذ (يغير العناصر التي يشتمل عليها سياق الجملة، فانه يغير في الوقت نفسه القوة الترابطية بين الكلمات)(36).

- تقديم المسند:

المسند هو المخبر به أو المحكوم به (37)، ويتقدم المسند على المسند إليه في السياق الاسمي وجوباً (38)، إذ كان الخبر له الصدارة في الكلام، فلا يصح تأخيره(39)، نحو قوله (علیه السلام): (عجباً لأبن النابغةِ يزعمُ لأهلِ الشامِ أنَّ فيَّ دعابةً وانّي أمرؤٌ تلعابةٌ...

فإذا كان عند الحربِ فأيُّ زاجرٍ وآمرٍ هو؟ ما لم تأخُذ السيوفُ مآخذَهَا)(40).

يتجلى من التقديم الواجب للمسند (أي) على المسند إليه (هو) دلالة التعجب والإنكار من المخاطب، فضلاً عن السخرية منه لذله وجبنه عند الحرب وعدم المواجهة.

ويقدم المسند على المسند إليه للتعظيم وكثرة الاهتمام فضلاً عن الاختصاص والحصر (41)، كما في قوله (علیه السلام): (من كفاراتِ الذنوبِ العظامِ، إغاثةُ الملهوفِ

والتنفيسُ عن المكروبِ) (42).

يشير تقديم المسند شبه الجملة (من كفارات) على المسند إليه (إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب) إلى دلالة الاطمئنان للمتلقي لوجود كفارة لذنوبه، واللهفة والكرب من الحالات التي تصيب نفسية الإنسان لأمر ما مما يدخل الهم والكرب إليه.

ص: 368

وقد يحفز تقديم المسند المتلقي ويمده بالقدرة على استكناه ما وراء التراكيب من ظلال وقيم دلالية، وحتى تأخذ بذلك العبارة موقعها المناسب في نفسه نحو قوله (علیه السلام): (فاتَّقِ اللهَ يا بنَ حنيفٍ ولتكففْ أقراصُكَ، ليكونَ من النارِ خلاصُكَ)(43).

تكمن القيمة التعبيرية في تقديم المسند خبر كان (من النار) على المسند إليه اسمها (خلاصك) في التعبير عن دلالة التخويف والتحذير، وقد حقق التقديم والتأخير فائدتين احداهما صوتية والأخرى نفسية، إذ نرى تقديم (من النار) على (خلاصك) حافظ على التوازن الصوتي العام وعلى الانسجام الموسيقي الخاص برعاية الفاصلة، والى جوار هذه الفائدة الصوتية ثمة فائدة نفسية دلالية هدفها الإشارة إلى حالة الخوف من ذكر النار ولا يكاد قلب يخلو من هذا الهاجس.

وقد يفيد تقديم المسند التشويق إلى ذكر المسند إليه (44)، كما في قوله (علیه السلام): (إنَّ من أحبِّ عبادِ اللهِ إليهِ عبداً أعانهُ اللهُ على نفسِه فاستشعْرَ الحُزنَ وتجلببَ الخوفَ)(45).

يصور تقديم المسند خبر إن (من أحب) على المسند إليه اسمها (عبداً) دلالة النصح والوعظ، وقد أفاد التقديم في إثراء المعنى المطلوب وإحداث الغموض الفني المقصود في ذهن المتلقي في أول سماعه الخطاب.

وقد يقترن تقديم المسند الفعلي بعنصر المفاجأة، لان كل تقديم وتأخير في العبارة الواحدة يولّد معنى(46)، ومن ذلك قوله (علیه السلام): (فقد بلغنِي عنكَ قولٌ هو لكَ وعليكَ فإذا قَدِمَ عليك رسُولي فارفعْ ذَيلكَ واشدُدْ مئزرَكَ واخرجْ من جحرِكَ واندبْ من معَكَ) (47).

إذ يصور تقديم الفعل (بلغني) على المسند إليه الفاعل (قول) دلالة الغضب من المخاطب، وقدم المسند مراعاة لعلم المخاطب بالمسند إليه وجهله بالمسند، لان المخاطب كان يثبط القوم من الخروج مع الامام (علیه السلام). ويتقدم المفعول به

ص: 369

على الفعل لإفادة دلالة الاهتمام والتخصيص أو الحصر (48)، إذ الأصل في الفعل أن يتقدم على معموله ولا يتعداه إلى غيره (49)، ففي قوله (علیه السلام): (وقد دعوتُنا إلى

حكمِ القرآنِ ولستَ من أهلِهِ، ولسَنا إياكَ أجْبنَا ولكنَّا أجبنَا القرآنَ في حكمِهِ)(50).

تقدم المفعول به (إياك) على فعله (اجبنا)، ويشير سبق المفعول به بالنفي إلى نفي تخصيص الإجابة للمخاطب لأنه ليس أهل لذلك، ويتجلى من ذلك معنى السخرية والاستهزاء بالمخاطب، وقد استدرك في الخطاب الإجابة للقرآن وحكمه.

ونجد في تقديم المفعول به على الفاعل في قوله (علیه السلام): (الحمدُ للهِ الذي لا

يبلغُ مدحتهُ القائلونَ ولا يحصِيِ نعماءهُ العادُّونَ ولا يؤدِّي حقهُ المجتهدونَ)(51).

دلالة التعظيم والاهتمام بالمتقدم، فقدم المفعول به (مدحته، نعماءه، حقه) على الفاعل (القائلون، العادون، المجتهدون) إذ إن مدار الخطاب منصب عليها وهي المبحوث عنها، فكان الأولى بها أن تتقدم على الفاعل لأنها الأهم في الذكر، لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما هي في الواقع.

وإذ تتبادل المعمولات مواقعها الوظيفية في التركيب، فأن ذلك يشير إلى إنتاج مدلول نفسي لا يتأتى في الترتيب الطبيعي، من ذلك في قوله (علیه السلام): (اللَّهُمَّ إليكَ أفضت القلوبُ، ومدَّت الأعناقُ، وشخصَت الأبصارُ، ونُقلت الأقدامُ وأنضَيت

الأبدانُ)(52).

فقد تقدم شبه الجملة من الجار والمجرور (إليك) على الفعل (أفضت) للدلالة على التخصيص، وهذا التقديم يشعر المتلقي بجو من الطمأنينة والسكينة في الدعاء، إذ يتناسب مع المقام الذي يحتم هذا الإجراء ويفرضه ويشير إلى ما في النفس من التوجه في الدعاء، وتلك سمة إيمانية نفسية نحس بها.

ص: 370

ويبدو مما تقدم ان ظاهرة التقديم والتأخير - بوصفها عدولاً يقتضيه السياق ومقاصد الخطاب - لها أثر في بيان المعاني النفسية في خطاب النهج لان ( النفس إنما تعني بتقديم من تهتم بشأنه وذلك لأنه ماثل نصب العينين وان التفات الخاطر إليه في ازدياد)(53).

- الحذف:

ويعد من الظواهر الأسلوبية التي احتضنتها اللغة العربية لميلها إلى الإيجاز والاختصار، فهو عدول عن التركيب الأصلي إلى تركيب آخر بحذف جزء منه لدلالة يقتضيها السياق ولتوظيف طاقاته الإيحائية.

وقد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة (54)، ويتصل الحذف بالمعنى اتصالاً وثيقاً، فهو (يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة)(55).

وقد وصفه الجرجاني (ت 471 ه) بقوله: (هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ عجيب الأمر شبيه بالسحر فأنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك انطق إذا لم تنطق وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن، وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر)(56).

إذ يعتمد الحذف على تغييب بعض الدوال والتعويض عنها بوساطة شحن الدوال الأخرى بالمدلولات التي تجسد الثراء والتوازن والتوازي وتوفر جانب الأدبية في النص (57).

وهذا يعني أن الحذف عارض ترکیبي لا يلغي المحذوف تماماً بل يغيبه في البناء الظاهري ويتستر عليه في ذهن المتلقي مؤقتاً لغايات جمالية وفنية يعمد إليها

ص: 371

المبدع، إذ أن

بعض العناصر اللغوية يبرز أثرها الأسلوبي بغيابها أكثر من حضورها (58).

فعندما يحذف الخطاب ماهو واضح ومكشوف من الدلالات أنما يترك المجال لكل قاريء بأن يستوحي الدلالة بحسب خبرته وتجربته التي تتناسب مع المحذوف في الخطاب (59)

إذ يدخل البنية دائرة الكثافة بحيث لا يخترقها المتلقي الا بعد معاناة فيكون اكتساب المعنى شبيهاً باكتساب التصور، فيزداد الكلام حسناً وتزداد النفس لذة (60).

يشغل الحذف حيزاً في خطاب النهج إذ انه يعتري الجملة والمفرد والحرف، وقد يكون وراء استعمال هذا الأسلوب لمحات نفسية يلحظها المتلقي من السياق العام اعتماداً على القرائن المقامية.

ومن مظاهر ذلك في خطاب النهج:

- حذف الجملة:

تحذف الجمل في اللغة من الكلام تجنباً للإطالة وجنوحاً إلى الاختصار، ولذلك نلحظ أن حذفها يقع في الأساليب المركبة من أكثر من جملة كالشرط والقسم والعطف والاستفهام (61)، لذا يقوم الحذف بوصفه سلوكاً لغوياً بتحويل الجزء المحذوف من إطار الخطاب إلى إطار الدلالة

ومن ذلك حذف جملة جواب الشرط، كما في قوله (علیه السلام): (متى أشفِي غيظِي إذا غضبتُ أحینَ أعجزُ عن الانتقامِ فيقال لي: لو صبرتَ، أم حن أقدرُ عليهِ فيقالُ لي لو عفوتَ)(62). تحقق ایجاز هذا الخطاب عن طريق الحذف وتضييق

ص: 372

بنيته السطحية اثراءً لبنيته الدلالية، وفيه إشارة الى الترغيب، إذ يجب التأني عند الغضب في شفاء الغيظ وحذف جملة جواب الشرط وتقديرها (لو صبرت لكان أولى، ولو عفوت وان العفو بك أولى) (63) وأكثر الحذف في جواب (لو) من دون أن تتقدم أو تكتنف جملة تدل على المحذوف، وإنما يعلم المحذوف بالقرينة العقلية وبما یلي من سياق اللفظ (64)، فالخطاب يحمل في طياته قيماً تربوية للسلوك الإنساني. وتحذف جملة القسم ويستغني عنها باللام وهو حذف جائز (65)، فإذا قيل (لأفعلن، أو لقد فعل، أو لئن فعل، ولم يتقدم جملة قسم فثم جملة قسم مقدرة)(66)، نحو قوله (علیه السلام): (ولوددتُ أنْ اللهَ فرَّقَ بيني وبينكم وألحقنِي بمن هو أحقُّ بي منكُمْ)(67). الخطاب يدل في سياقه على التحسر والألم عنده (علیه السلام) حتى تمنى فراقهم واللحوق بمن هم أحق به منهم، وقد حذف جملة القسم، والتقدير: أقسم والله (68)، وقد أضفى القسم على سياق الخطاب دلالة التوكيد، لان القسم جملة تؤكد بها جملة أخرى، والغرض منه توکيد المقسم عليه سواء أكان نفياً أم أثباتاً(69)، أي توكيد شعوره بالألم والحسرة لما لا يرتضيه من أفعالهم ويأتي حذف جملة القسم ليكون مناسباً لمقام تحقير المخاطب، كما في قوله (علیه السلام): (ولئن كان ما

بلغنِي عنكَ حقاً لجملُ أهلكَ وشسعُ نعلِك خَيرٌ منكَ)(70). فحذف جملة القسم من الخطاب والتقدير: أقسم بالله، ثم أخذ في توبيخه والحكم بنقصانه وحقارته إن حق ما نسب إليه ذلك بتفضيل جمل أهله وشسع نعله عليه (71). وفي حذف الجواب باعث إلى تصوره فيكون له أثره في نفس المتلقي (72)، وإنما (صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لان النفس تذهب فيه كل مذهب ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان) (73). كما في حذف جواب الاستفهام في قوله (علیه السلام): (ولكنْ بمنْ وإلى مَن؟ أريدُ أنْ أداويَ بكُم وأنتم دَائي)(74)

ص: 373

يصور حذف جواب الاستفهام الذي تقديره بمن كنت أستعين عليكم، والى من أرجع في ذلك (75)، دلالة الندم والغضب من المخاطبين لتحايلهم وشقاقهم وقلة طاعتهم له.

وان عملية استدراج المتلقي وتحفيز طاقته الفكرية والانفعالية في تلقي الخطاب من أساسيات الوظيفة الفنية التي يضمنها المنشيء أسلوبياً بنية لا يذكرها، التي تشير باللمح إلى دلالات مخبأة (76)، نحو حذف جواب الاستفهام في سياق الدعاء في قوله (علیه السلام): (قلت يا رسولَ اللهِ ماذا لقيتُ من أمتكَ من الأودِ واللدَدِ؟ فقال: أدعُ عليهِم) (77). يصور الحذف دلالة الظلم الذي لاقاه الإمام (علیه السلام) منهم حتی شکاه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، فحذف جملة جواب الاستفهام والتقدير: لقيت من الأود واللدد ما لاقيت، إذ كان في غاية الكرب من تقصيرهم في إجابة ندائه ودعوته إلى الجهاد (78)، وأفاد الحذف في إثراء الدلالة حتى تجسد ذلك في دعائه عليهم. وترتبط أسلوبية الحذف لغوياً بطلب الخفة والإيجاز إذ (إن العرب تحذف لسعة الكلام)(79)، ومن السعة لمح الدلالة، كما في قوله (علیه السلام): (صف لنا العاقل فقال: هو الذي يضعُ الشيءَ مواضعَهُ، فقيل: فصف لنا الجاهل، قال: قد قلتُ)(80)

والحذف هنا أبلغ من الذكر لما فيه من دلالة على تحقير الجاهل، يعني ان الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه فكأن ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل (81).

- حذف الكلمة:

هو نوع يعتري التراكيب الاسنادية، إذ يكون العنصر المحذوف يستغني عنه بالقرينة الدالة عليه (82)، كحذف المبتدأ في قوله (علیه السلام): (جفاةٌ طغامٌ، وعبيدٌ أقزامٌ، جُمّعُوا من كلِّ أوبٍ، وتلقطُوا من كُلِّ شوبٍ)(83).

ص: 374

يوحي الحذف بدلالة التحقير من شانهم، ووصفهم بكونهم عبيداً إما لأنهم عبید الدنيا وأهلها أو لان منهم عبيداً، والمرفوعات الأربعة أخبار لمبتدأ محذوف، أي هم جفاة (84).

ويكثر بعد القول ومشتقاته من أفعال وأسماء ذكر الخبر وحذف المبتدأ اعتماداً على الدليل من السياق اللفظي السابق (85)، نحو قوله (علیه السلام): (الم تقولوا عند رفعهِمُ المصاحفَ حيلةً وغيلةً ومكراً وخديعةً: أخوانُنَا وأهلُ دعوتَنا) (86)، في الخطاب حذف المبتدأ بعد القول والتقدير (هم إخواننا)، وفي الحذف إشارة إلى غضبه (علیه السلام) من هذا الرأي ، لان رفع أولئك للمصاحف ظاهره الاجتهاد في الدين وباطنه عدوان أي حيلة للظلم والغلبة، وأوله رحمة لهم منكم وآخره ندامة لكم عند تمام الحيلة عليكم(87).

ويؤدي الحذف إلى تقصير المسافة بين الوحدات وتسريع النطق مما يضفي على الخطاب سمة التهديد والوعيد، كما في قوله (علیه السلام): (وأيمُ اللهِ لتؤتنَّ حيثُ أنتَ، ولا تتركُ حتى يخلطُ زبدُكَ بخاثرِكَ وذائبكَ بجامدِكَ)(88)، فحذف الخبر من السياق والتقدير (موجود) إذ توعده على تقدير قعوده وأقسم ليأتينه بالمكان الذي هو به من لا يتركه، وهو كناية عن غاية الخوف (89).

واستغنى عن ذكر الفاعل، في قوله (علیه السلام): (فإنَّ الجهادَ بابٌ من أبوابِ الجنةِ فمن تركهُ رغبةً عنهُ ألبسهُ اللهُ ثوبَ الذلِّ وشملهُ البلاءُ وديثَ بالصغارِ والقماءةِ وضربَ على قلبهِ بالإسهابِ)(90).

ولا تقف فائدة الحذف في الخطاب عند الاقتصاد في التعبير وتوخي الإيجاز في الأداء لكون الفاعل مفهوماً من السياق، وإنما تتعداه لإشاعة جو الرهبة والخوف عند المخاطب التارك للجهاد

ص: 375

وإذ يريد الخطاب التركيز على صورة مؤثرة في الدعاء يعمد إلى حذف الفعل لتبرز الدلالة ويتمحور الذهن حولها من أجل تأكيد إشارات نفسية، كما في قوله (علیه السلام) (اللَّهُمَّ سُقْياً منكَ مُحييةً، مرويةً، تامةً) (91).

وقد جاء الفعل (أسقنا) محذوف وجوباً، لان (سقياً) من المصادر التي يجب حذف عاملها، ولا يجوز استعمال فعلها ولا إظهاره فانتصب بفعل مضمر، وجعلوا المصدر بدلاً من اللفظ بذلك الفعل (92)، فلو أظهر الفعل صار کتکراره من دون فائدة وبعض النحاة يظهر الفعل تأكيداً وليس بالكثير (93).

وهذه المصادر تستعمل للدعاء - له أو عليه - منصوبة بفعل مضمر متروك إظهاره (94)، فمن الدعاء عليهم نحو قوله (علیه السلام) (وعلمُوا أنَّ الناسَ عندنا في الحقِّ أسوة فهربوا إلى الأثرةِ فبُعداً لهم وسُحقاً)(95).

أي لما كان شأنهم ذلك وعرفوا العدل عندنا في الحق هربوا إلى الاستئثار والاستبداد عند معاوية، ولذلك دعا عليهم بالبعد والسحق، وهما مصدران وضعا للدعاء والتقدير: بعدوا بعداً، وسحقوا سحقاً(96).

وقد يقصد التعبير من حذف الفعل وإطلاق المدلول الاسمي ليشمل مساحات نفسية معبرة عن معنى التحذير، كما في قوله (علیه السلام): (فنفسَكَ نفسَكَ فقد بیَّنَ اللهُ لكَ سبيَلكَ) (97)، إذ أمر المخاطب أن يحفظ نفسه بسلوك تلك السبل عما يلزم مخالفتها والعدول عنها وان الله تعالى بين له سبيل طاعته المأمور بسلوكها (98)، والتحذير أسلوب عرفته العرب ويقصد به التحذير من شيء، ويحذف فيه الفعل مع فاعله المخاطب، والتقدير أحذرك (99).

وارتبطت قيمة حذف المفعول به بالغرض من حذفه الذي يغني دلالة الفعل في التركيب (100)، وإذ كان غرض المتكلم أن يثبت معنى الفعل للفاعل من دون أن

ص: 376

يتعرض لذكر المفعول(101) نحو قوله (علیه السلام): (فصاحبُهَا كراكبِ الصعبة إنْ أشنقَ

لها خرمَ وإنْ أسلسَ لها تقحَّمَ) (102)، والمراد أن الصاحب بتلك الأخلاق في حاجة إلى المداراة في صعوبة حاله کراکب الصعبة، وحذف المفعول به والتقدير (خرم أنفها، وتقحم المهالك) كذلك صاحب أخلاق المخاطب والمبتلى بها إن أكثر عليه إنكار ما يتسرع إليه أدى ذلك إلى مشاقته، وان سکت عنه أدى ذلك إلى الإخلال بالواجب وذلك من موارد الهلكة (103).

وإذ يريد التعبير التركيز على صورة مؤثرة يعمد إلى حذف المضاف ليبرز المضاف إليه ويتمحور الذهن حوله من أجل توضيح نفسية المخاطب، نحو قوله (علیه السلام): (إنّي أريدك للهِ وأنتم تريدونَنِي لأنفسِكُم)(104).

ولا يخفى ما في الخطاب من دلالة مكثفة للمعنى، إذ يشير إلى صورتين الأولى مراد الإمام (علیه السلام) ونسب إرادته لهم إلى الله تعالى، والأخرى مرادهم للدنيا، وقد حذف المضاف والتقدير (لحظوظ أنفسكم) وفيه إشارة إلى الاختلاف بين حركاته ومقاصدهم، ثم بين الفرق أي إنما أريد طاعتكم لإقامة دين الله وإقامة حدوده وانتم تريدونني لحظوظ أنفسكم من العطاء والتقريب وسائر منافع الدنيا(105).

قد يوحي حذف حرف الجر في الخطاب بدلالة الحزن والألم من منطلق إن الحذف يؤدي إلى (إحداث نوع من التخفيف على الجهاز النطقي والاقتصاد في بذل المجهود العضلي عند المتكلم)(106)، بما يناسب حالة الحزن في قوله (علیه السلام): (فأحفِهَا السؤالَ واستخبرْهَا الحالَ) (107).

فالخطاب من كلام له (علیه السلام) عند دفن الزهراء (عليها السلام) کالمناجي به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد حذف حرف الجر (عن) لتحقيق ملحظ دلالي إذ أراد أن يرمز به للتشكي إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من أمته

ص: 377

بعده والغلظة عليه في القول على قرب عهدهم منه (صلى الله عليه وآله) (108).

يتضح مما تقدم، أن الحذف قد صّور عدداً من المعاني النفسية في الخطاب، فهو يعد عاملاً مهماً في الإیجاز والاختصار، فضلاً عن ما فيه من إثراء الدلالة بما يوحيه من معان تضاعف من إدراك المتلقي وإحساسه بالفكرة التي تدل عليها العبارة (109).

3 - الالتفات:

عني القدماء بالالتفات بوصفه ظاهرة تعبيرية، لها أهميتها فيما تحدثه من أثر في المتلقي، وذلك (إن الكلام أذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه، من إجرائه على أسلوب واحد)(110).

ويعد من شجاعة العربية، لان الشجاعة هي الأقدام لان الرجل الشجاع یرکب ما لا يستطيعه غيره ویتورد ما لا يتورده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام فأن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات (111).

وإذا كان الاهتمام بالالتفات على انه نقل للقول من المخاطب إلى الغائب ومن الواحد إلى الجماعة، فأن مفهومه الأوسع والأبلغ يشمل كل تحول أو انكسار أو عدول للأسلوب ونقل الكلام من حالة إلى أخرى مطلقاً، داخل النسق التعبيري الواحد (112).

ولعل الوقوف عند هذه الظاهرة يعد من الأهمية، لما تضفيه من قيمة دلالية تسهم في تحديد الأبعاد النفسية لخطاب النهج.

ويحدث الالتفات على مستوى الضمائر، إذ إن (العدول في استخدام الضمائر برنامج أسلوبي يخطط له المرسل وليس مصادفة لغوية، لذلك ينبغي رصد كل

ص: 378

التبدلات الطارئة على مسيرة الضمائر ومعرفة قدرتها على التوصيل والتعبير)(113)، لان الضمير اللغوي ينطوي على ازدواجية صريحة فهو كلي في اللغة جزئي في الكلام: (أنا أو أنت أو هو) ضمائر يمكن أن يقولها أي شخص فتعنيه بذاته، وهذه الازدواجية التي يحملها الضمير تسمح أن نميز بين الضمير والشخص، فالضمير هو الملفوظ اللغوي في صيغه المعروفة والشخص هو المعنى الخارجي، فالعلاقات اللغوية الداخلية هي التي تحدد الضمير والعلاقات اللغوية الخارجية هي التي تحدد الشخص(114).

ألا إن هذه الضمائر شأنها شأن أية ظاهرة لغوية أخرى يمكن أن تخرج من نطاقها المحدود داخل الجملة النحوية التقليدية لترتبط بأعلى نماذجها بالمعنی الداخلي للخطاب، لان الالتفات من الفنون ذات الأثر الفعال في تنويع أنماط الكلام تلبية لبواعث نفسية شتی (115).

ففي قوله (علیه السلام): (وأشهدُ أنَّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) عبدهُ ورسولهُ،

أرسلهُ لإنفاذِ أمرهِ وإنهاء عذرهِ وتقديم نذرهِ، أوصيكُمْ عبادَ اللهِ بتقوى اللهِ الذي ضربَ لكم الأمثالَ) (116).

فقد عدل الخطاب من ضمير التكلم في (أشهد) إلى ضمير المخاطب في (أوصيكم)، فالسياق آثر هذه البنية للالتفات ليحقق إيقاظاً ولفتا مناسباً لمقتضى المعنى في التحذير والوعظ للمتلقي وتذكيره بنعم الله تعالى عليه.

وقد يكون الالتفات من التكلم إلى الغيبة، نحو قوله (علیه السلام): (وإنَّ معي لبصرَتي، ما لبَّستُ على نفسي، ولا لبِّسَ عليَّ وايمُ اللهِ لأفرطنَّ لهم حوضاً أنا ماتحُهُ لا يصدرونَ عنهُ ولا يعودونَ إليهِ) (117).

يصور الالتفات بالانتقال من ضمير التكلم (معي) إلى ضمير الغيبة (لهم)

ص: 379

دلالة التحذير والوعيد، إذ يشير ذلك إلى قوة المواجهة المؤكدة بالقسم لتهويل الخطب عند المتلقي، فالصور الالتفاتية هي أن يجمع بين حاشيتي کلامين متباعدي المآخذ والأغراض وان ينعطف من إحداهما إلى الأخرى انعطافاً لطيفاً من غير واسطة، تكون توطئة للصيرورة من أحدهما إلى الآخر على جهة من التحول (118).

وقد يحقق الالتفات تجسيداً للموضوع الذي تؤخذ منه العبرة وتدنو به الحقيقة الدالة من القلوب المعتبرة، نحو قوله ( علیه السلام): (بكُم أضربُ المدبرَ،

وأرجو طاعةَ المقبلِ، فأعينُوني بمناصحةٍ خليةٍ من الغشِّ، سليمةٍ من الريبِ)(119).

إذ جاء الالتفات من ضمير الخطاب (بکم) إلى ضمير التكلم في (أرجو)، إذ يصورلنا هذا الانتقال بتوجيه الخطاب إلى المخاطب والاهتمام به، والعطف عليه بضمير التكلم في طلب العون والنصح الخالي من الغش والريب لما في ذلك من أثر في نفس المرسل والمخاطب، فالعدول عن ضمير الخطاب إلى ضمير التكلم يشير إلى واقع التأثير في نفس المتلقي.

فالالتفات هو استئناف نظام جديد في صياغة التراكيب يخالف النسق الأول ويتصل بتوزيع النسق النحوي وتنويعه على نحو ينتج شکلاً بلاغياً جديداً(120).

يكون الالتفات أحياناً من الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بالإشارة النفسية من حيث التغير النفسي الناتج عن التغير الأسلوبي، كما في قوله (علیه السلام): (فاعلمُوا - وأنتم

تعلمونَ - بأنَّكُمْ تاركُوَها وظاعنونَ عنها واتعظُوا بالذين قالوا: (من أشد منا قوة)، حُمِلُوا إلى قبورِهِم فلا يدعَوْنَ رُكباناً) (121).

فالالتفات يشير إلى تهويل ما هم قادمون عليه وظاعنون إليه، بتركهم الدنيا، فخاطبهم بضمير المخاطب (أنتم) ثم انتقل إلى ضمير الغيبة في (قالوا) للدلالة على النصح والوعظ بمن سبقهم، فضلاً عن إن أسلوب الخطاب أخص من

ص: 380

أسلوب الغيبة (122)، فاستعمل الأسلوب الأخص في ذكر المتلقي الأخص لتقوية المعنی و تصویر ماهو مقبل عليه.

وقد يحصل الالتفات في صيغ الأفعال (الماضي والمضارع، والأمر) أو ما يسمى بالالتفات الزمني لان الزمن والحدث يمتدان ليشملا بعداً إنسانياً يستوعب جانباً هاماً من حركاتنا وأفعالنا ومشاعرنا (133).

ففي قوله (علیه السلام): (أضاءتْ به البلادُ بعد الضلالةِ المظلمَةِ، والجهالةِ الغالبةِ،

والجفوَةِ الجافيةِ والناسُ يستحلُّونَ الحريمَ ويستذلُّونَ الحكيمَ)(124).

يصور الالتفات بالانتقال من الماضي إلى المضارع دلالة المدح لشخص الرسول (صلى الله عليه وآله)، إذ نجد ان الفعل الماضي (أضاءت) هو الذي يؤسس النسق الطبيعي للتركيب، كونه يؤسس بداية الخطاب ويتحدث عن أحداث انتهى زمانها، ثم ينقطع هذا النسق بالفعل المضارع (يستحلون، ويستذلون) لتوضيح حالتهم المتجددة في هتك المحرمات والإذلال للحكیم كما إن الفعل المضارع يوضح الحال، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن الإنسان يشاهدها وليس كذلك الفعل الماضي (125).

ومن الانتقال من المضارع إلى الماضي، في قوله (علیه السلام): (الحمدُ للهِ الفاشِي في الخلقِ حمدُهُ والغالبِ جندُهُ والمتعالِي جدُّهُ، أحمدُهُ على نعمِهِ التوأمِ وآلائِهِ العظامِ

الذي عظمَ حلمُهُ فعفَا وعدلَ في كلِّ ما قضَى)(126).

تتجلى من الالتفات دلالة التعظيم والتمجيد للذات الإلهية المقدسة، فالعدول من الفعل المضارع (أحمده) إلى الفعل الماضي (عظم، وعدل) لتجدد الحمد على النعم وثبوت العظمة والعدل والعطاء الإلهي، ولان إيثار الماضي والعدول إليه دال على مبالغة في الثبوت والاستقرار (127). فاستعمل الأسلوب الأخص في ذكر الفعل الأخص.

ص: 381

ويحصل الالتفات بالانتقال من الماضي إلى الأمر، نحو قوله (علیه السلام): (وألقَى إليكُمُ المعذرةَ، واتخذَ عليكُمُ الحُجةَ وقدَّمَ إليكُمْ بالوعيِد، وأنذركُمْ بن يديْ عذابٍ شديدٍ فاستدرِكُوا بقيةَ أيامِكُمْ) (128).

تكمن القيمة التعبيرية للالتفات في الدلالة على تحذير السامعين من الوقوع في العذاب الشديد بعد إلقاء الحجة عليهم فالعدول من الماضي (القی، واتخذ، وقدم، وأنذركم) إلى الأمر (استدركوا) إنما يفعل ذلك توكيداً لما أجرى عليه فعل الأمر لمكان العناية بتحقيقه، فعدل عن ذلك إليه للعناية بتوكيده في نفوسهم (129).

فالانتقال من صيغة إلى أخرى أنما یکون من أجل الالتفات ليكمل أمر الخطاب وتتفاوت درجته في البلاغة (130).

کما يحصل الالتفات من المضارع إلى الأمر، وانه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى أخرى طلباً للتوسع في أساليب الكلام فقط، وإنما يقصد إليه تعظيماً لحال من أجرى عليه الفعل المستقبل وتفخيماً لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أجرى عليه فعل الأمر (131)، نحو قوله (علیه السلام): (إنَّما مَثلي بينكُمْ كمثلِ السراجِ في الظلمةِ يستضِيءُ بِهِ من ولجَهَا فأسمعَوا أيُّها الناسُ وعُوا وأحضِرِوا آذانَ قلوبِكُمْ)(132).

فالالتفات يشير إلى ما في نفسه (علیه السلام) من الحرص الشديد على مصلحة قومه، فهو لا يريد لهم إلا ما يريده لنفسه لان مثل هذا الأسلوب أدلّ على التلطف بهم وادعى إلى قبول النصح، فانتقل بالتعبير من المضارع (يستضيء) إلى الأمر (أسمعوا، وعوا، وأحضروا)، فضلاً عن النداء الذي يقوي البعد الدلالي للخطاب.

فالانتقال من أسلوب إلى آخر أدخل في القبول عند السامع وأكثر لنشاطه وأعظم في إصغائه (133)، فهو ليس حيلة من حيل جذب المتلقي وتشويقه، لان ما

ص: 382

يحدث فيه من انحراف عن النسق، أو انتقال في الإيراد الكلامي من صيغة إلى أخرى ليس انتقالاً استطرادياً، وليس تعليقاً على ما قيل أو ما حدث أو ما شابه ذلك من وسائل تطرية نفس المتلقي والترويح عنه، وإنما ينحصر الأمر في بيان معنى على قدر كبير من الرهافة والخفاء لا يلفت المتلقي إليه أو إلى البحث عنه إلا إدراكه للتغير الحادث في النسق اللغوي للخطاب (134).

الخاتمة

• يشير العدول في الظواهر التركيبية إلى طبيعة الموقف ومقاصد الخطاب، ولعل ظاهرة التقديم والتأخير من أبرز تلك الظواهر، إذ يمثل العنصر المتقدم بؤرة التركيز التي تستقطب العناية والاهتمام، وإذ يعمد خطاب النهج إلى هذا الفن فانما يستهدف التركيز على جملة من المعاني الإضافية ومن بينها المعاني النفسية.

• صور الحذف عدد من المعاني النفسية في خطاب النهج، فضلاً عن كونه عاملاً مهماً في الإيجاز والاختصار، لما فيه من إثراء للدلالة بما يوحيه من معان تضاعف من إدراك المتلقي وإحساسه بالفكرة التي يدل عليه الخطاب.

• لعل الوقوف عند ظاهرة الالتفات يعد من الأهمية لما تضيفه من قيمة دلالية تسهم في تحديد الأبعاد النفسية لخطاب النهج، لانه من الفنون ذات الأثر الفعال في تنويع أنماط الكلام تلبية لبواعث نفسية.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

هوامش البحث:

(1) ينظر: بنية اللغة الشعرية: 15.

(2) ينظر: البلاغة العربية، قراءة أخرى: 204.

(3) الانزياح من منظور الدراسات الأسلوبية: 166.

(4) ينظر: المصدر نفسه: 162.

ص: 383

(5) ينظر: البرهان: 3 / 303.

(6) ينظر: البلاغة والأسلوبية: 248.

(7) دلائل الإعجاز: 106.

(8) ينظر: الجملة العربية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة (بحث): 167.

(9) ينظر: المعاني في ضوء أساليب القرآن: 196.

(10) ينظر: في نحو اللغة وتراكيبها: 92.

(11) ينظر: دلالات التراكيب: 175.

(12) ينظر: الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية: 112.

(13) ينظر: دلائل الإعجاز: 106 وما بعدها، والتقديم والتأخير في القرآن الكريم: 11 - 56.

(14) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 308.

(15) ينظر: نحو المعاني: 86.

(16) نهج البلاغة:خ 160 / 285.

(17) ينظر: النحو الوافي: 1 / 447.

(18) نهج البلاغة: ك 28 / 488.

(19) ينظر: النحو الوافي: 1 / 449.

(20) نهج البلاغة: خ 202 / 403.

(21) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 59 - 76.

(22) ينظر: الإيضاح: 135.

(23) نهج البلاغة: خ 185 / 340.

(24) ينظر: لسان العرب: 9 / 428.

(25) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 312.

(29) نهج البلاغة: خ 127 / 233.

(27) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 63.

(28) دلائل الإعجاز: 128.

(29) نهج البلاغة: ك 41 / 525.

(30) ينظر: دلائل الإعجاز: 116 - 117.

(31) نهج البلاغة: ك 50 541.

(32) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 319.

ص: 384

(33) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 88 - 89.

(34) نهج البلاغة: خ 88 / 144.

(35) نهج البلاغة:ح 325 / 677.

(36) محاضرات في علم النفس اللغوي: 215.

(37) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 92.

(38) ينظر: شرح الكافية: 1 / 260 - 263.

(39) ينظر: النحو الوافي: 1 / 452.

(40) نهج البلاغة: خ 89 / 136

(41) ينظر: معاني النحو: 1 / 140.

(42) نهج البلاغة: ح 24 / 602.

(43) نهج البلاغة: ك 45 / 536.

(44) ينظر: مفتاح العلوم: 422.

(45) نهج البلاغة:خ 87 / 140.

(46) ينظر: الجملة العربية والمعنى: 230.

(47) نهج البلاغة: ك 63 / 579 - 580.

(48) ينظر: معاني النحو: 2 / 76، وأسرار التقديم والتأخير في لغة القرآن الكريم: 72.

(49) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 335.

(50) نهج البلاغة: ك 48 / 540.

(51) المصدر نفسه: خ 1 / 17.

(52) المصدر نفسه: ك 15 / 473.

(53) دلائل الإعجاز: 100 - 101.

(54) ينظر: الخصائص: 2 / 360.

(55) إعجاز القرآن (الباقلاني): 2 / 190.

(56) دلائل الإعجاز: 146.

(57) ينظر: علم اللسانيات الحديثة: 363.

(58) ينظر: جدلية الإفراد والتركيب: 181 - 182.

(59) ينظر: القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي: 100.

(60) ينظر: البلاغة العربية، قراءة أخرى: 222.

ص: 385

(61) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 203.

(62) نهج البلاغة: ح 194 / 638.

(63) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 450.

(64) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 255.

(65) ينظر: المصدر نفسه: 256، والحذف والتقدير في النحو العربي: 215.

(66) مغني اللبيب: 2 / 174.

(67) نهج البلاغة: خ 116 / 219.

(68) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 549.

(69) ينظر: الحذف والتقدير في النحو العربي: 214.

(70) نهج البلاغة: ك 71 / 591.

(71) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 385.

(72) ينظر: اللغة في الدرس البلاغي: 189.

(73) النكت: 70 - 71.

(74) نهج البلاغة: خ 121 / 223.

(75) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 554.

(76) ينظر: الأسلوبية مدخل نظري ودراسة تطبيقية: 137.

(77) نهج البلاغة: خ 70 / 108.

(78) ينظر: شرح نهج البلاغة: 2 / 348.

(79) التحليل اللغوي في كتاب سيبويه: 276.

(80) نهج البلاغة: ح 235 / 645.

(81) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 458.

(82) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 177 - 178.

(83) نهج البلاغة: خ 238 / 453.

(84) ينظر: شرح نهج البلاغة: 4 / 193.

(85) ينظر: الحذف والتقدير في النحو العربي: 250.

(86) نهج البلاغة: خ 122 / 225.

(87) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 556.

(88) نهج البلاغة: ك 63 / 580.

ص: 386

(89) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 372.

(90) نهج البلاغة: خ 27 / 60 - 61.

(91) المصدر نفسه: خ 115 / 216.

(92) ينظر: الحذف والتقدير في النحو العربي: 233.

(93) ينظر: شرح المفصل: 1 / 114.

(94) ينظر: الطراز: 250 - 251.

(95) نهج البلاغة: ك 70 / 590.

(96) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 384، والحذف والتقدير في النحو العربي: 233.

(97) نهج البلاغة: ك 30 / 495.

(98) ينظر: شرح نهج البلاغة: 4 / 250.

(99) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 227.

(100) ينظر: اللغة في الدرس البلاغي: 186.

(101) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 200.

(102) نهج البلاغة: خ 3 / 29.

(103) ينظر: شرح نهج البلاغة: 1 / 178.

(104) نهج البلاغة: خ 136 / 244.

(105) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 583.

(106) قراءة يحيى بن وثاب في ضوء علم التشكيل الصوتي: 130 - 131.

(107) نهج البلاغة: خ 202 / 403.

(108) ينظر: شرح نهج البلاغة: 4 / 8.

(109) ينظر: في البنية والدلالة: 131.

(110) الكشاف: 1 / 12.

(111) ينظر: المثل السائر: 2 / 135.

(112) ينظر: أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية: 55.

(113) تبادل الضمائر وطاقته التعبيرية، ( بحث ): 20.

(114) ينظر: أقنعة النص: 50 -51.

(115) ينظر: فن الالتفات في مباحث البلاغيين (بحث): 65.

(116) نهج البلاغة: خ 83 / 120 - 121

ص: 387

(117) المصدر نفسه: خ 10 / 39.

(118) ينظر: منهاج البلغاء: 315.

(119) نهج البلاغة: خ 118 / 220.

(120) ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: 214.

(121) نهج البلاغة: خ 111 / 209.

(122) ينظر: من أساليب التعبير القرآني: 98.

(123) ينظر: البنيات الأسلوبية: 196.

(124) نهج البلاغة: خ 151 / 263.

(125) ینظر: الطراز: 267.

(126) نهج البلاغة: خ 191 / 355.

(127) ينظر: الطراز: 268.

(128) نهج البلاغة: خ 89 / 139.

(129) ينظر: المثل السائر: 2 / 145.

(130) ينظر: الطراز: 267.

(131) ينظر: المثل السائر: 2 / 144.

(132) نهج البلاغة: خ 187 / 349.

(133) ينظر: الطراز: 269.

(134) ينظر: قراءة جديدة لتراثنا النقدي: 879.

ص: 388

المصادر والمراجع

1. أساليب المعاني في القرآن: السيد جعفر السيد باقر الحسيني، الطبعة الأولى، مؤسسة بوستان کتاب، 1428 ه.

2. الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية: د. مجيد عبد الحميد ناجي، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1984 م.

3. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية: حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998 م

4. الأسلوبية مدخل نظري ودراسة تطبيقية: فتح الله احمد سلمان، مطبعة الدار الفنية للنشر والتوزيع، د. ت.

5. إعجاز القرآن: أبو بكر الباقلاني (ت 403 ه)، تحقيق: أحمد صقر، الطبعة الخامسة دار المعارف، القاهرة، 1995 م.

6. أقنعة النص في قراءات نقدية في الأدب: سعيد الغانمي، الطبعة الأولى، مطبعة دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991 م.

7. الانزياح من منظور الدراسات الاسلوبية: د. أحمد محمد ويس الطبعة الأولى، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بیروت، 2005 م.

8. الإيضاح في علوم البلاغة: الخطيب القزويني (ت 739 ه) تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، الطبعة الخامسة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1980 م.

9. البرهان في علوم القرآن: بدر الدين بن عبد الله الزركشي (ت 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، دار عالم الكتب للطباعة والنشر، المملكة العربية السعودية، 2003 م.

10. بلاغة الخطاب وعلم النص: صلاح فضل، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة

ص: 389

والفنون والآداب، الكويت، 1992 م.

11. البلاغة العربية، قراءة أخرى: محمد عبد المطلب، الطبعة الأولى، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، 1997 م.

12. البلاغة والأسلوبية: محمد عبد المطلب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984 م.

13. البنيات الأسلوبية: في لغة الشعر الحديث: مصطفى السعدني، مطابع رواء، الاسكندرية، 1987 م

14. بنية اللغة الشعرية: جان کوهن، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، المغرب، 1986 م.

15. التحليل اللغوي في كتاب سيبويه: شعبان عوض جمعة العبيدي، الطبعة الأولى، ليبيا، 1991 م.

16. التقديم والتأخير في القرآن الكريم: محمد أحمد عيسى العامري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1996 م.

17. الجملة العربية والمعنى: فاضل صالح السامرائي، الطبعة الأولى، دار ابن حزم، لبنان، 2000 م.

18. الحذف والتقدير في النحو العربي: علي أبو المكارم، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2008 م.

19. الخصائص: أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 ه)، تحقيق: محمد علي النجار، الطبعة الرابعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ادارة التراث، 1999 م.

20. دلائل الاعجاز: عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه)، تحقيق محمود محمد شاکر، الطبعة الخامسة، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2004 م.

21. دلالات التراكيب، دراسة بلاغية: د. محمد محمد أبو موسى، الطبعة الثالثة،

ص: 390

الناشر مکتبة وهبة، القاهرة، 2004 م.

22. شرح الكافية في النحو: رضي الدين الاستراباذي (ت 686 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.

23. شرح المفصل: ابن يعيش موفق الدين يعيش بن علي (ت 643 ه)، عالم الكتب، بیروت د. ت

24. شرح نهج البلاغة: ابن میثم البحراني (ت 679 ه)، الطبعة الأولى، دار الرافدين، العراق، 2009 م.

25. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز: یحیی بن حمزة العلوي (ت 749ه)، مراجعة: محمد عبد السلام شاهين، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1995 م.

26. ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: طاهر سليمان حمودة، الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، الاسكندرية، د. ت.

27. علم اللسانيات الحديث: عبد القادر عبد الجليل، الطبعة الأولى، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2002 م.

28. في البنية والدلالة، رؤية لنظام العلاقات في البلاغة العربية: سعد ابو الرضا، منشأة المعارف، مصر، د. ت.

29. في نحو اللغة وتراکیبها ( منهج وتطبيق): خليل أحمد عمايرة، الطبعة الأولى، عالم المعرفة، المملكة العربية السعودية، 1984 م.

30. قراءة جديدة لتراثنا النقدي: عز الدين إسماعيل، النادي الثقافي، جدة - السعودية، 1990 م.

31. قراءة يحيى بن وثاب في ضوء علم التشكيل الصوتي: أحمد طه حسنين، الطبعة الأولى، مكتبة وهبة، القاهرة، 2004 م.

ص: 391

32. القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي: محمود البستاني، الطبعة الأولى، مجمع البحوث الإسلامية، ایران، 1414 ه.

33. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل: ابي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه)، راجعه: يوسف الحمادي، الناشر مكتبة مصر، د. ت.

34. اللغة في الدرس البلاغي: عدنان عبد الكريم جمعة، الطبعة الأولى، دار السياب للطباعة والنشر، لندن، 2008 م.

35. المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر: ضياء الدين بن الاثير (ت 637 ه)، تحقيق: أحمد الحوفي، وبدوي طبانة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت.

36. محاضرات في علم النفس اللغوي: حنفي بن عيسى، الطبعة الثانية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980 م.

37. المعاني في ضوء أساليب القرآن: عبد الفتاح لاشين، الطبعة الثالثة، دار المعارف، 1978 م.

38. معاني النحو: فاضل صالح السامرائي، الطبعة الثانية، دار الفكر للطباعة والنشر، عمان، 2003 م

39. مغني اللبيب عن كتب الاعاريب: ابن هشام الانصاري (ت 761 ه)، قدم له: حسن حمد، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1998 م.

40. مفتاح العلوم: ابو يعقوب يوسف بن ابي بكر محمد بن علي السكاكي (ت 626 ه)، الطبعة الأولى البابي الحلبي، مصر، 1973 م

41. من أساليب التعبير القرآني، دراسة لغوية وأسلوبية في ضوء النص القرآني: د. طالب محمد إسماعيل الزوبعي، الطبعة الأولى دار النهضة العربية، بيروت،

ص: 392

1996 م.

42. منهاج البلغاء وسراج الادباء: ابي الحسن حازم القرطاجني (ت 684 ه)، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، الطبعة الثالثة، دار الغرب الاسلامی، بیروت، 1986 م

43. نحو المعاني: أحمد عبد الستار الجواري، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1987 م

44. النحو الوافي: عباس حسن، الطبعة الأولى، آوند دانش للطباعة والنشر، 2004 م

45. النكت في إعجاز القرآن: أبو الحسين بن عيسى الرماني (ت 384 ه)، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقیق محمد خلف الله ومحمود زغلول سلام، دار المعارف، مصر، د. ت.

46. نهج البلاغة: صبحي الصالح، الطبعة الرابعة، ایران، 1431 ه.

البحوث والدوريات

1. تبادل الضمائر وطاقته التعبيرية، محمد ندیم خشفة، مجلة البيان الكويتية، العدد 290، آیار، 1990 م

2. الجملة العربية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، نعمه رحيم العزاوي، کتاب المورد، دراسات في اللغة، بغداد، 1986 م.

3. فن الالتفات في مباحث البلاغيين، جلیل رشيد فالح، بحث في مجلة آداب المستنصرية، بغداد، العدد التاسع، 1984 م.

ص: 393

ص: 394

الفرائد العلوية

في إثراء القواعد النحوية

(دراسة في نصوص نهج البلاغة)

م. د. ظافر عبيس الجياشي

المديرية العامة للتربية في المثنى

ص: 395

ص: 396

توطئة:

من المجمع عليه أنَّ كلام الإمام عليّ (عليه السلام) قد شغف قلوب العلماء، والأدباء ملازمة ومطالعةً، وملأ أسماعهم وأبصارهم، واستهوتهم روائعه وسحرتهم أساليبه وألوانه، فوصفوه بما يدلّ على بعد أثره فيهم، وإعجابهم به حتى قال الجاحظ (ت: 255 ه) في البيان والتبيين: ((قال عليّ بن أبي طالب کرم الله وجهه: «قيمة كلّ امرئ ما يحسن»! فلو لم نقف من هذا الكتاب إلاّ على هذه الكلمة، لوجدناها کافية شافية، ومجزية مغنية؛ بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصّرة عن الغاية، وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره))(1). ورأى فيها الشريف الرضي (ت: 406 ه): ((الكلمة التي لاتصاب لها قيمة، ولاتوزن بها كلمة، ولاتقرن إليها كلمة))(2).

إذ تتأتي أهمية هذا البحث النحوي في نهج البلاغة، أنَّه ضمَّ فرائد نحوية وقعت في مباحثَ حول كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكلامه من النصوص التي يستشهد بها في الدرس النحوي، وقد حاولت فيه أن أُلمع إلى ما وجدته من إشارات وفرائد نحوية في نهج البلاغة، يمكن أن تضاف إلى الدرس النحوي وتثريه؛ لأنّها من ابتکارات الإمام (عليه السلام) التي لم يصرح بها النحويون في مصنفاتهم. واقتضت طبيعة البحث أن يقسم على: توطئة ومبحثين، جاء المبحث الأول بعنوان القيمة العلمية لنهج البلاغة، وجاء المبحث الثاني موسماً بالفرائد العلوية في نهج البلاغة، تلاهما الخاتمة بأهم نتائج البحث.

397

ص: 397

المبحث الأول: القيمة العلمية لنهج البلاغة

كان الإمام عليّ (عليه السلام) الطالب الأول في مدرسة القرآن، وتحت رعاية معلمها النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله)؛ لذا أجاد الإمام في محاكاة تلك المدرسة وذلك المعلم، وكتاب نهج البلاغة صورة صادقة للسان العربي المبين الذي اعزّه الله بالقرآن الكريم وحفظه، فهو المعنى الجامع المانع للعربية وعلومها.

لقد أفنى العلماء والأدباء حيزاً كبيراً من حياتهم في توضيح هذا السفر الخالد، وجلاء معالمه وروائعه، وإبراز قيمته، ولا نراهم وقفوا على الاحاطة بكل طاقات العطاء فيه. فكلامه حظي بما لم يحظ به کلام غيره من والعلماء والادباء من العناية التامة والاهتمام البالغ، فيراهم المتابع على امتداد القرون والاعصار بين جامع لحكمه، وراوٍ محدث لخطبه، وحافظ لقواله، ومتأثر باسلوبه، وناظم لحكمه؛ لأنّه (عليه السلام) فتح أمامهم جوانب فكرية واسعة، وآفاق علمية غير متناهية فصالوا على كلامه وأخذوا معاني أقواله، ومباني ألفاظه.

فكلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بكلّ صوره وأشكاله وجوانبه دعامة قوية لتراث الحضارة الإنسانية، وركيزة قويمة للشخصية الانسانية، لا تستأثر به مجموعة دون أخرى، ولا يختص به أهل ملة ونحلة دون غيرها، ولا ينحصر في أهل مذهب دون غيرهم من أهل المذاهب، وإنمّا كان مرجعاً حياً ونبعاً فكرياً متدفقاً لكل البشرية والاجيال والقرون والاحقاب، واصبح ينبوعاً صافياض وثروة فكرية، ومناعة علمية لكتاب اللغة العربية والمتطلعين إليها قديماً وحديثاً ينتهلون من لغته ويقتبسون من معانيه الوهاجة، ومبانيه المستقيمة ما يقوم لهم

ص: 398

فنهم وينمي من حصيلتهم في اللغة والأدب والفكر والمعرفة(3).

وقديماً استعان به کبراء العربية لأدبهم وتفكيرهم كعبد الحميد الكاتب (ت: 132 ه) الذي كان يضرب به المثل في الكتابة والخطابة في أوائل القرن الثاني الهجري، وابن نباتة (ت: 374 ه)، واضرابهم من الكتاب والادباء والبلغاء، فاكسبهم هذا الخصب المخضوضر في بيانهم وأسلوبهم وأدبهم ممّا لم يعهد من ذي قبل. فهذا عبد الحميد الكاتب يشهد له حين قيل له: ((ما الذي خرجك في البلاغة؟ فقال حفظ کلام الأصلع يعني عليّ بن أبي طالب))(4)، وفي موضع آخر قوله: ((حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع (يعني به علي بن أبي طالب) ففاضت ثم فاضت))(5).

وابن نباته يعترف بأنه إنما أخذ ماله من ذوق وفكر وأدب عن الإمام، وهو الذي كان يضرب به المثل في خطباء العرب في العهد الإسلامي: ((حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب))(6).

ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ((فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء وفي كلامه قبل دون کلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة))(7). ويعقد مقارنة بين أسلوب الإمام واسلوب ابن نباتة بقوله: ((نحن نذكر في هذا الموضع فصولا من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة (رحمه الله) وهو الفائز بقصبات السبق من الخطباء وللناس غرام عظیم بخطبه وكلامه ليتأمل الناظر کلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبه ومواعظه وكلام هذا الخطيب المتأخر الذي قد وقع الإجماع على خطابته وحسنها وأن مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية))(8)، ويخرج بنتيجة مفادها:

ص: 399

((فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام - نهج البلاغة - بعين الإنصاف يعلموا أن سطراً واحداً من کلام نهج البلاغة يساوي ألف سطر منه بل يزيد ويربي على ذلك))(9).

وأما حديثاً فقد قيل فيه الكثير، من ذلك قول الأستاذ محمد حسن نائل المرصفي: ((نهج البلاغة ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجة واضحة على أن علياً كان أحسن مثال حيّ لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته. إجتمع لعليّ في هذا الكتاب مالم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربّانيّين، من آيات الحكمة السابغة، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة، وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر. خاض عليّ في هذا الكتاب لجّة العلم، والسياسة والدين، فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرّزا، ولئن سألت عن مكان كتابه من الأدب بعد أن عرفت مكانه من العلم، فليس في وسع الكاتب المترسّل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق، أن يبلغ الغاية من وصفه، أو النهاية من تقریظه. وحسبنا أن نقول: أنه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، والمنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة.)) (10).

ويقول الشيخ محمود شكري الآلوسي: ((نهج البلاغة قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) ما هو قبس من نور الكلام الإلهيّ، وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبويّ))(11).

وقال ميخائيل نعيمة: ((إن علياً لمَن عمالقة الفكر، والروح، والبيان في كل زمان ومکان))(12).

ما تقدم ذكره عن مكانة نهج البلاغة في الأدب واللغة أنه المنبع الفذّ الذي

ص: 400

التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة، هذا يحدونا ويدفعنا الى تقحم الصعاب وركوب المصاعب والاسباب للغوص في هذا البحر الندي واكتشاف اسراره اللغوية ومبانيه النحوية، إذ وقفنا على بعض القواعد والمباني النحوية التي لم يتطرق إليها أو يدرسها أهل صناعة النحو، لتضاف الى ماذكره النحويون، من دون الخوض في المجالات الأخرى، فاحببنا أن تكون باكورة أمل وبداية جادة في إعادة القراءة في هذا السفر الخالد والافادة منه في الدرس النحوي.

ص: 401

المبحث الثاني: الفرائد العلوية في نهج البلاغة

النصوص الخالدة تنماز بقوة متنها الناشئ من تمكن منشئها من تكوينها؛ لما يمتلكه من أدوات لغوية وبراعة فنية في بناء العبارة وتمكن راسخ في التأثير في الآخرين واستيعابه كل الأحداث مع مرونة نصيّة لجميع الأزمان وإمكان انطباقه على أكثر من مصداق.

ففي نهج البلاغة من ((غرائب الفصاحة، وجواهر البلاغة العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في کتاب))(13). فكلامه (عليه السلام) ((دون كلام الخالق وفوق کلام المخلوقين))(14)، وهو على ما ذكر يقع ضمن دائرة الاستشهاد النحوي.

وإذا كانت لغة الشعر في لسان لغة ما تختلف عن لغة النثر؛ لأنَّ الأولى تخضع لقيود لا تخضع لها الأخرى كالضرورة الشعرية وغيرها؛ فإن لغة الشعر كانت موضع اهتمام النحويين العرب وهم على وعي بهذا ((فقد فرقوا بين الشعر والنثر وتحدثوا عن الضرورة الشعرية حديثا ينم عن فهمهم لما يقع أحياناً في اللغة من خروج على الشائع واعتمادٍ لأقيسة يُركن إليها على ضعفها))(15). وقد صرّح العلماء بذلك، فالفراء (ت: 207 ه) يرى أنَّ لغة القرآن الكريم ((أعرب وأقوى في الحجة من الشعر)) (16). وكذا أبو الحسن الرماني (ت 386 ه) الذي يعتد بلغة القران ويراها أصح من الشعر في الاحتجاج (17). وإذا كان الكلام النثري بهذه المنزلة وتلك الصفات في نهج البلاغة، فحري بالنحويين أن ينهلوا من معين نهج البلاغة، ويجعلوه مصدراً من مصادر استشهادهم، ويقعدوا قواعدهم ويؤسسوا

ص: 402

أقيستهم على كلامه.

ونحاول أنْ نلمع إلى ما وجدناه و تتبعناه من إشارات وفرائد في نهج البلاغة يمكن أنْ تضاف إلى الدرس النحوي وتثريه، من ذلك:

أولاً / الفرائد الظرفية:

1) مجيءُ ظرف المكان (أينَ) معرباً لا مبنياً:

تحدث سیبویه (ت 180 ه) عن الظروف المبهمة وذكر منها ظرف المكان (أين) إذ قال: ((هذا باب الظروف المبهمة غير المتمكنة وذلك لأنها تضاف ولاتصرّف تصرّف غيرها ولاتكون نكرة وذاك: أين، ومتى، وكيف، وحيث.....))(18)، فالأداة أين كما قال عنها ابن فارس (ت 395 ه) تكون ((استفهاماً عن مكان نحو: أين زيدٌ؟ وتكون شرطاً لمكان نحو: أين لقيتَ زيداً فكلمهُ بمعنى في أي مکان))(19).

ولم يشر أحد من النحويين إلى أنّها تكون معربة صراحة، الّلهمّ إلاّ إذا قيست على ما ذكره الرضي الاسترابادي (ت 688 ه) عند شرحه الأسماء المبنية ((وإذا نقلت الكلمة المبنية وجعلتها علماً لغير ذلك اللفظ فالواجب الإعراب))(20).

وقد صرح بإعرابها بعض شراح نهج البلاغة عند ذكرهم قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): ((وَلاَ يَنْظُرُ بِعَیْنٍ ولاَيُحَدُّ بِأَيْنٍ وَلاَيُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَلاَيُخْلَقُ

بِعِلاَجٍ)(21).

منهم الشارح المعتزلي (ت: 656 ه) إذ یرى في قوله: (ولا يحد بأينٍ) أنّ ((لفظة أينٍ مبنية على الفتح، فإذا نكرتها صارت اسماً متمكناً كما قال الشاعر (22):

ليت شعري وأين مني ليتٌ ٭٭٭ إنّ ليتاً وإنّ لواً عناء)(23).

ص: 403

فعلى ما ذكره الشارح تكون (أين) اسماً معرباً لأنّها نكرت قياساً على ليت، ولو.

بيد أنَّ الشارح التُستَري (ت: 1157 ه) لم يوافق الشارح المعتزلي بكونها نُكرت فأعربت؛ بل هي اسم متمکن أصلاً، قال بعد ذكر قول المعتزلي آنفا: ((قلتُ في ما قالَ أولا: إنَّ (أين) في قوله (عليه السلام)) ولا يحدُ بأينٍ) أريد به لفظه فهو اسم متمكن لا أنّه نكرة، وإنما يقال في مثل: (صه) أنّه قد ينكر فيدخله التنكير لا هنا، وثانياُ إنّ البيت الذي استشهد به كان (أين) فيه على أصله مبنياً على الفتح وإنّما (ليت) و (لو) أريد بهما فيه اللفظ فصارا اسمين وأعربا، لا (أين) كما هو مدّعاه)) (24).

في حين أبدى الشيخ محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه) رأياً بدا أكثر وضوحاً، إذ قال: ((لفظ (أين) يسأل به عن المكان، فإن أردت مكاناً خاصاً بنيتهُ على الفتح، وإنْ أردت أي مكان أعربت))(25).

ولا يخلو ما ذكره الشيخ على وضوح عباراته من بعد فلسفي للسؤال عن نوع المسؤول المعني، وفيه الماء مما ذكره الشارح المعتزلي.

والذي نراه بعد الرجوع إلى نصّ الإمام (عليه السلام) وإنعام النظر فيه وتأملهِ، أنَّ باستطاعة الإمام أن يعبر ب(ولايحدُ بأينَ)، غير أنّه أراد النفي العمومي للمكان الإلهي؛ لأنّ الأين عبارة عن نسبة الجسم إلى المكان وهو سبحانه منزّه عن ذلك لبراءته عن التحيز. قال (عليه السلام): ((مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَغَیْرُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ))(26) فلا يحده شيء فتكون (أين) اخسمًا معرباً وتنوینه تنوين تنكير، وقد وقع نكرة في سياق نفي فأفاد نفي عموم الأمكنة عن الله تعالى، وهذه الغاية من إعراب (أين) وتنوينها.

ص: 404

2) تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف:

معنى التعلق هو: ((الارتباط المعنوي لشبه الجملة بالحدث، وتمسكها به، كأنَّها جزء منه، لا يظهر معناها إلا به، ولا يكتمل معناه إلا بها)) (27).

وهذا يعني أنَّ التعلق هو ارتباط، وهذا الارتباط يضم طرفين: الأول شبه الجملة، والآخر اللفظ الدال على الحدث، وهذا الارتباط لا تكون الحاجة له بقوة واحدة في الطرفين ((إذ حاجة شبه الجملة إلى الحدث أقوى من حاجة الحدث إلى شبه الجملة، وذلك يتضح من عبارات (كأنها جزءٌ منه)، (ولا يظهر معناها إلا به). أما عبارة (ولا يكتمل معناه -الحدث - إلا بها) فإنَّ اكتمال المعنى هنا نسبي. أي: إنَّ المعنى يمكن أن يكون كاملاً في الجملة من دون الحاجة إلى شبه الجملة، لكن بذکرها سيكون المعنى أتم، وأكمل)(28).

والمراد ب(شبه الجملة) هو الظرف (الزماني والمكاني)، وحرف الجر الأصلي مع المجرور (29)، ف(التعلق) من شروط الظرف والجار والمجرور ليكونا شبه جملة، إذ إنَّ حرف الجر غير الأصلي لا يتعلق.

وتعلق الظرف بالفعل التام المتصرف في نهج البلاغة، له فوائد جمة تترتب عليه منها: تحديد زمان الفعل، ومكانه، ومصاحبته، وتوكيده، وشرطيته (30)، ومثال ذلك: تحديد زمان الفعل، وهي الدلالة الرئيسة لظرف الزمان؛ لأنَّ الدلالة الزمانية من مقتضيات الأفعال، لكن هذه الدلالة لا تكون دقيقة كدقتها بالتقييد بظرف الزمان، من ذلك قوله (عليه السلام): ((لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِینَ

نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله)...))(31).

الشاهد فيه تعلق الظرف الزماني (حين نزل) بالفعل التام (سمع) ليفيد

ص: 405

التحديد الدقيق لزمن الفعل، إذ عُلِمَ من صيغة الفعل (سمع) أنَّه قد وقع في الزمن الماضي، لكن ليس على وجه الدقة، ولهذا تعلق الظرف (حين) بالفعل ليدل على زمان وقوعه بصورة دقيقة، فسماعه (عليه السلام) لرنَّة الشيطان وقع حين نزل الوحي على الرسول (صلى الله عليه وآله)(32).

غير أن للظرف فوائد لم يشر إليها النحويون وهي: المقابلة، وأكمال دلالة الفعل، ففي المقابلة استعمل الإمام علي (عليه السلام) الظرف متعلقاً بالفعل لينبِّه المتلقي على اختلاف الحال في زمنٍ واحدٍ أو في زمنين مختلفين؛ ليُلفت نظر المتلقي إلى إجراء مقابلة ومقارنة ما بين حالةٍ في زمنٍ معين وأخرى تقابلها أو تضادها في الزمن نفسه أو في زمنٍ آخر، وهذه فائدة جديدة لتوظيف الظرف في اللغة العربية وجدت في نهج البلاغة لم يلتفت إليها علماء النحو، من ذلك قوله (عليه السلام): ((فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِینَ فَشِلُوا وَتَطَلَّعْتُ حِینَ تَقَبَّعُوا وَنَطَقْتُ حِینَ تَعْتَعُوا، وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللَّهِ حِینَ وَقَفُوا))(33).

الشاهد فيه تعلق الظرف الزماني (حين) في الجملة الأولى بالفعل (قام)، وفي الجملة الثانية بالفعل (تطلع)، وفي الجملة الثالثة بالفعل (نطق)، وفي الجملة الرابعة بالفعل (مضی)؛ ليفيد إظهار المقابلة بين أمرين في الزمن نفسه فقيامه (عليه السلام) بالأمر يقابل (فشلهم)، و(تطلعه) یُقابل (تقبعهم)، و (نطقه) يُقابل (تعتعتهم) و(مضيه بنور الله) یُقابل (وقوفهم)، وهذا التعلق للظرف مع الفائدة التي أعطاها (المقابلة) يتناسب مع السياق الذي ذُكِرت فيه هذه الجمل، إذ جاءت في خطبةٍ له (عليه السلام) يذكر فيها فضائلَه، وهذه الأفعال تكون الفضيلة فيها ظاهرةً إذا قُوبلت بمواقفَ غيره من الناس، ولو حُذف الظرف في هذه الجمل لذهبت هذه الفائدة(34).

ص: 406

ومن ذلك أيضاً قوله (عليه السلام): ((فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا

وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا. وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا وَوَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا)) (35).

الشاهد فيه تعلق الظرف (بعد) في الجملة الأولى بالفعل (عزبت)، وفي الثانية بالفعل (احلولت)، وفي الثالثة بالفعل ( انفرجت)، وفي الرابعة بالفعل (سهلت) وفي الخامسة بالفعل (هطلت)، وفي السادسة بالفعل ( تحدَّبت)، وفي السابعة بالفعل (تفجرت)، وفي الثامنة بالفعل (وبلت). ودلّ هذا التعلق في هذه الجمل السابقة أفاد إظهار المقابلة، والتضاد ما بين صفتين في زمنين مختلفين، ف (عزوب الشدائد) - أي ابتعادها - يقابله (دنوها)، و(حلاوة الأمور) تقابل (مرارتها) ، و (انفراج الأمواج) يُقابل (تراكمها)، و(إسهال الصعاب) يُقابل (انضابها) ۔ أي تعبها -، و(هطول الكرامة) يُقابل (قحوطها)، و(تحدب الرحمة) - أي عطفها عليه - يُقابل (نفورها)، و(تفجر النعم) يُقابل (زوالها)، و (وبول البركة) - أي کثرتها - يُقابل (ارذاذها) - أي قلتها.

وقد وظف الإمام (عليه السلام) هذا التقابل، لإظهار نعمة الأخذ بالتقوى، فالشيء يكون أوضح وأظهر إذا وُضِعَ مع ما يضاده ويقابله، وهذا الإيضاح أراد (عليه السلام) منه الاتباع من المخاطبين، ولاسيما أنَّ هذه الجمل ذُكِرَت في سياق التوصية بالتقوى، ومَن يُوصي بشيء فإنَّه لايُوصي إلا لاتباع هذه الوصايا. لذا استعمل الإمام (عليه السلام) الظرف (بعد) لأداء هذه الفائدة ولو حُذف الظرف لذهبت هذه الفائدة (36). وقد جاء توظيف هذا التعلق والفائدة التي أفادها متلائمًا

ص: 407

مع السياق الذي جاء فيه.

أمّا فائدة وفرادة إكمال دلالة الفعل، ففي اللغة العربية وبحسب قوالبها القواعدية توجد مجموعة من الأفعال لا تستغني عن ظرف المكان، ومن ثم تكون فائدة تعلق ظرف المكان بهذا النوع من الأفعال هي إكمال دلالة الفعل، وكان الإمام علي (عليه السلام) قد استعمل ذلك في نهج البلاغة بذكر مجموعة من ظروف المكان المتعلقة بأفعالٍ لا تتم الفائدة منها إلا بهذا التعلق من ذلك قوله (عليه السلام): ((أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَلَأَمَ بَیْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا))(37).

الشاهد فيه تعلق الظرف المكاني (بين) بالفعل (لأم) - أي قرن - ليفيد هذا التعلق إكمال معنى الفعل، والفعل (لأم) لا يمكن أن يستغني عن الظرف فلا يمكن أن تقع المقارنة إلا بين شيئين؛ لذا ذکر (عليه السلام) الظرف (بينَ مختلفاتها) ليتمم معنى الفعل.

ومنه قوله (عليه السلام): ((يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ))(38).

الشاهد فيه تعلق الظرف (بين) بالفعل (يؤلف) ليكمل معنى هذا الفعل، إذ لا يتم معنى (التأليف) إلا بذکر مکان وقوعه؛ لذا استعمل (عليه السلام) الظرف (بينهم) لإكمال هذا المعنى ولا يمكن أن يحذف الظرف إذ إنّ هذا يؤدي إلى أن يبقى الفعل من دون محل وهذا لا يمكن أن يكون(39).

وظهر ممّا ذكر تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف في كلامه (عليه السلام) في نهج البلاغة الذي أعطى دلالات وفوائد مختلفة منها ما يوافق الدلالة العامة لهذا التعلق في العربية وهي تحديد زمان الفعل ومكانه ومصاحبته وتوكيده، وشرطيته، ومنها ما هو جديد لم يتنبَّه إليه علماء النحو مثل المقابلة وإكمال دلالة الفعل.

ص: 408

ثانياً / الفرائد الشرطية:

1) تصدُّرُ الاستفهام جواب (لو):

ذكر النحويون: إنَّ جواب (لو) لا يأتي إلاّ جملةً فعليَّةً، فعلها إمَّا أن يكون ماضیاً مثبتاً، أو منفيّاً ب(ما)، أو مضارعًا مجزومًا ب(لم) (40)، فالاستفهام لا مكان له في جواب (لو) - في الأغلب -؛ لأنَّ (اللام) وهي الرابط اللفظي الوحيد لجواب (لو) لا يصلح اقترانها بالاستفهام، لذا قال النحويون: إنَّ جوابها لا يأتي إلاّ جملةً فعليَّةً(41)، فضلًا عن ذلك فإنَّ الطلب يدلُّ على إحداث الفعل فوراً - من حيث الزمن - في الغالب، وسياق (لو) مفروض الصدق في الماضي.

وقد يأتي الاستفهام في جواب أدوات الشرط الجازمة، وحينئذٍ يجب أن يقترن بالفاء، لكن لم يرد في القرآن الكريم، ولا في كتب النحويين - بحسب الاطلاع - أنَّ جواب (لو) - وهي من أدوات الشرط غير الجازمة - قد جاء جملةً استفهاميَّةً.

وقد ورد في نهج البلاغة وقوع الاستفهام في جواب (لو) في موضعٍ واحد، وهو قول الإمام علي (عليه السلام): ((أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِدًا

تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ فَرَجَعْتَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَلَإِ وَالْمَاءِ فَخَالَفُوا إِلَی الْمَعَاطِشِ وَالْمَجَادِبِ، مَا كُنْتَ صَانِعًا؟))(42).

الشاهد فيه مجيء جواب الشرط: (مَا كُنْتَ صَانِعاً؟) جملة استفهامية استفهامها حقيقي (43)، ومجيء الاستفهام في جواب (لو) أمرٌ غيُر وارد کما مرَّ، فكيف إذا كان هذا الاستفهام من غير رابط؟!، فلا يحسن أن يكون الجواب من غير رابط إذا كان جملةً استفهاميَّة، إلاّ إذا كان الاستفهام بالهمزة، قال الرَّضي الاسترابادي في الكافية: ((وإذا كان جواب الشرط مُصدَّرًا بهمزة الاستفهام، سواء كانت الجملة فعليَّة أو اسميَّة لم تدخل الفاء)) (44)، غير أنَّ أداة الاستفهام في النص المتقدِّم هي (ما)، وقد

ص: 409

أُجيز حمل أدوات الاستفهام الأُخَر على الهمزة، بعدم اقترانها بالفاء، وقد تدخل الفاء فيها، لعدم عراقتها في الاستفهام(45)، فعدم ارتباط (ما) في النص المتقدم له ما يسوّغه، وإنْ كان الرضي يتحدث على الفاء في جواب الشرط الجازم.

زد على ذلك إنَّ الجواب (مَا كُنْتَ صَانِعاً؟) لا يستحسن أن يقرن باللام، إذ إنَّ (ما) حينئذٍ تكون نافية لا استفهاميَّة، وعليه يمكن القول: إنَّ اقتران الجواب بالشرط - هنا - هو اقترانٌ معنوي، وهو أفضل من الاقتران اللفظي؛ لأنَّه يعطي دلالات إضافية زيادةً على دلالة التعليق (الارتباط)، ومن هذه الدلالات أنّ هذا الشرط مجازي غرضه إثارة المخاطب الذي يكلِّمه الإمام (عليه السلام)، ومعرفة مدى استجابته لقول الحق الذي بَانَ له بعد أنْ سأل الإمام (عليه السلام) - عمَّا أرسله أصحابه أن يعلمهم به - وسمع منه، واقتنع بأنَّه على حق، وخصومه على باطل، فضرب له الإمام مثلاً بأسلوبٍ شرطي، ختمه بأسلوب الاستفهام، والكلامُ ((إذا نُقِلَ من أسلوبٍ إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطريةً لنشاط السامع، وإيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائِهِ على أسلوبٍ واحد))(46)، لذا أجاب هذا الرجل عن سؤال الإمام بالإيجاب وبايعه فيما بعد(47).

ومن الأمور التي ساعدت على الانتقال من أسلوب الشرط إلى أسلوب الاستفهام في تركيبٍ واحد، ومن غير رابطٍ لفظي، هو طول جملة الشرط، لذا قال البلاغيون: ((إنَّ الكلام إذا جاء على أسلوبٍ واحد وطال، حَسُنَ تغییر الطريقة))(48)، وهو ما جاء في النص المتقدِّم(49).

2) جواب (لمّا) مضارع منفي ب(لم):

اختلف النحويون في تحديد دلالة (لمّا) فمنهم من يرى أنّها ظرفية بمعنی (حين) ومنهم من يرى أنّها حرف فيه معنى الشرط؛ لأنّها تؤدي معنى الربط

ص: 410

والتعليق، ذهب سيبويه أنّها حرف وجود لوجود(50)، وعدّها بمنزلة (لو) قال: ((هي للأمر الذي قد وقع لوقوع غيره وإنّما تجيء بمنزلة «لو» لما ذكرنا، فإنّما هما لابتداء وجواب))(51). ويدل کلام سیبویه أنّها تختص بالفعل الماضي، وتقتضي جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما (52).

أمّا ابن السراج (ت 316 ه) ومن تابعه الفارسي (ت 377 ه)، وابن جني (ت 392 ه) فقد ذهبوا إلى أنّها ظرفية بمعنى (حين) (53)، وجمع ابن مالك (ت 672 ه) بين المذهبين إذ عدّها ظرفاً بمعنى (إذا) فيه معنى الشرط (54)، واستحسن ابن هشام (ت 761 ه) هذا الرأي معللاً ذلك؛ أنّها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة (55)، ((وإذا قُدّرت ظرفاً كان عاملها الجواب))(56).

والظاهر أنّ (لمّا) تدل على الربط والتعليق والظرف، فالربط فيها أنّها تدخل على جملتين وتقوم بعملية الربط بينهما، ومعنى التعليق، أنّها تعلّق الجواب بفعل الشرط، أمّا معنى الظرف فإنّها لا تخلو من معناه فكما أنّ الأدوات (متی وحیثما وأينما) ظروف ثم أصبحت کنایات تدل على الشرط، فكذلك الأداة (لمّا) فإذا عُدّت ظرفاً بمعنى (حين) تكون الجملة الواقعة بعدها في محل جر بالإضافة فيكون الترابط ترابط تتمیم ویکون الظرف نفسه متعلقاً بفعل الجواب ویکون الترابط (ترابط تقیید) (57).

جاء فعل الشرط ماضياً في نصوص نهج البلاغة التي وردت فيها الأداة (لمّا)، وهذه هي ميزتها فأنّها تختص بالفعل الماضي، كذلك الحال في جوابها(58)، ولم يأتِ جملة اسمية، أو فعلاً مضارعاً، كما ورد ذلك في القرآن الكريم، من ذلك قوله (علیه السلام): «فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ، نَكَثَتْ طائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقسطَ آخَرُونَ» (59).

الشاهد فيه مجيء كل من فعل الشرط وجوابه بصيغة الماضي (نهضتُ)

ص: 411

(نكثتْ)، و(لمّا) ربطت الجواب بالشرط وجعلته معلّقاً به، فنكوث الطائفة ومروق الأخرى وقسط الآخرون متعلق بالنهوض بالأمر، وهي بمعنى (حين) والتقدير: حينَ نهضتُ بالأمر، نكثتْ طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون.

وقد جاء في نهج البلاغة نص واحد ورد فيه جواب (لمّا) مضارعاً منفياً ب (لم) وهذه الصيغة التركيبية لم ترد في القرآن الكريم، ولم نألفها عند النحويين في مصنفاتهم. وهي قول الإمام علىّ (عليه السلام) في الخوارج لمّا أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في التحكيم: «وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَی أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ،

لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ المُتَوَلّی عَنْ كِتَابِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی» (60).

الشاهد فيه جاء فعل الشرط (دعانا) ماضياً، والجواب (لم نكنْ) مضارعاً منفياً ب(لم)(61).

ثالثاً / الفرائد القسمية:

لقد تفرد (عليه السلام) في استعمال التركيب القسمي (برأ النسمة). فإذا كان القسم الصريح يُعلم بمجرد لفظه كون الناطق به مقسماً، نحو: أحلف بالله، فغير الصريح ((ما ليس كذلك نحو: علم الله وعاهدت وواثقت، وعليّ عهد الله وفي ذمتي ميثاق، فليس بمجرد النطق بشيء من هذا يُعلم كونه مقسماً؛ بل بقرينة كذكر جواب بعده نحو: عليَّ عهد الله لأنصرن دينه))(62)، ولا يأتي القسم اعتباطاً؛ بل لغرض مقصود ((والغرض منه توكيد الكلام الذي بعده من إثبات أو نفي)) (63).

وقد استعمل الإمام تركيباً قسمياً أشار الشراح إلى سبق الإمام إليه، وتفرده، وإبداعه فيه، حتى عدّوه من مبتكرات الإمام ومختصاته ،هو (برأ النسمة). وردَ في نهج البلاغة في أربعة مواضع (64)، في قوله (عليه السلام) حين أوصى بعدم

ص: 412

عصيانه ويصف مثيري الفتنة: ؉فَو الَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ إِنَّ اَلَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ (صلى الله عليه واله وسلم) مَا كَذَبَ اَلْمُبَلِّغُ وَلاَ جَهِلَ اَلسَّامِعُ ؉(65). إذ يرى الشارح الراوندي في قول الإمام: ((وبرأ النسمة أي خلق النفس وهذا قسم الإمام علي (عليه السلام) خاصة)) (66).

وتبعه فيما قال الشارح المعتزلي بقوله: ((وبرأ النسمة أي خلق الإنسان، وهذا القسم لايزال أمير المؤمنين يقسم به، وهو من مبتكراته، ومبتدعاته))(67). ولم يجد الباحث حسب تتبعه واستقرائه من أشار إليه من النحويين؛ فغرض الإمام (عليه السلام) من القسم هو أنْ يقول: إنَّ ما أخبركم به ليس من عندي؛ بل هو من عند رسول الله، وفيه أشار إلى أنَّ ما يخبرهم به مأخوذ عن الله سبحانه.

رابعاً / الفرائد التعجبية:

ومن ذلك:

1) التعجب السماعي (لله بلاء فلان):

للتعجب في العربية صيغ متنوعة، منها القياسية، والمبوب لها في النحو صيغتان أحداهما: صيغة (ما أفعله) نحو: ما أحسن زيداً، وصيغة (أفعل به)، نحو: أحسن بزيد (68)، والأخرى السماعية وعبارتها كثيرة لم يبوب لها في النحو ((لكونها لم تدل عليه بالوضع؛ بل بقرينة نحو: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ» (البقرة / 28)، والله دره فارساً، وسبحان الله))(69). ووردت الصيغة المذكورة في أعلاه في قول الإمام علي (عليه السلام): ((للهِ بِلاَءُ فُلاَنٍ فَقَدْ قَوَّمَ اَلْأَوَدَ وَدَاوَى اَلْعَمَدَ))(70). يقول الشارح المعتزلي: ((الله بلاء فلان، أي الله ما صنع))(71). بمعنى التعجب من عمله الحسن في سبيل الله، ويروى (لله بلاد فلان) إي لله البلاد

ص: 413

أنشأته وابتنته (72).

2) الاستفهام التعجبي باستعمال التركيب (فما عدا ممّا بدا):

الاستفهام طلب يراد به معرفة شيء مجهول، أي استعلام ما في ضمير المخاطب (73) وهو الغرض الأساس منه، غير أنَّه قد يضاف إليه معنىً آخر، حينما يكون صادراً من متعجب، ویسمی استفهاماً تعجبياً؛ فيكون الغرض من إيراده إثارة العجب عند من يخاطب به، أو يتلقاه نحو قوله تعالى: «مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ» (النمل / 20)(74).

ووقع هذا النوع من الاستفهام في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس لمّا أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل: «فَقُلْ لَهُ يَقُولُ

لَكَ اِبْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَأَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا » (75). ويذهب الشريف الرضي إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) ((أول من سمعت منه هذه الكلمة، اعني: فما عدا مما بدا))(76)، وتابعه في هذا القول شراح نهج البلاغة منهم الشيخ المحمودي في نهج السعادة، قال: ((هذه كلمة فصيحة ما سبق علياً (عليه السلام) احد إليها))(77)، وعدّها الشيخ ناصر مکارم الشيرازي من الروعة بمكان حتى أصبحت مثلاً يحتذى به ((وهي عبارة بعيدة المدى تشير إلى مسالة وهي: ما الذي صرفك عن الحق إنْ اتضح لديك، إلى الباطل، والعبارة من الروعة، واللطافة بحيث أصبحت مثلاً في الأدب العربي)) (78).

رابعاً / الفرائد الإنابية:

من ذلك إنابة (إلى) مناب (الباء)، إذ انفرد بعض الشراح ببعض المسائل النحوية التي لم ينص عليها النحويون، أو يشيروا إليها(79) وهي:

ص: 414

ذكرها الشارح المعتزلي عند شرحه قول الإمام علي (عليه السلام): «مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا وَلاَزَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا». (80) إذ يرى الشارح المعتزلي في قوله (عليه السلام): (يعتصم إليها): ((أي بها فأناب إلى مناب الباء كقول طرفة(81):

وإنْ يلتقي الحي الجميع تُلاقِني ٭٭٭ إلى ذروة البيت الرفيع المصمد))(82).

ورأى بعض النحويين في البيت الذي استشهد به المعتزلي أنّ (إلى) بمعنى (في)(83)، وذهب آخرون أنَّها باقية على أصلها (84). ويمكن أن يضاف هذا المعنى إلى معاني الحروف حسب رأي القائلين بالنيابة الحرفية.

هذا بعض ما وجدته من أقوال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) فيها آراء نحوية أشار إليها شراح نهج البلاغة، وذكر الباحث بعضها؛ لضيق المجال، ويمكن لمن ينعم النظر ويستقصي الشروح أن يجد أمثال ذلك (85).

ص: 415

الخاتمة

1 - كان الإمام عليّ (عليه السلام) الطالب الأول في مدرسة القرآن، وتحت رعاية معلمها النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لذا أجاد الإمام في محاكاة تلك المدرسة وذلك المعلم، وكتاب نهج البلاغة صورة صادقة للسان العربي المبين الذي اعزّه الله بالقرآن الكريم وحفظه، فهو المعنى الجامع المانع للعربية وعلومها.

2 - كلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بكلّ صوره وأشكاله وجوانبه دعامة قوية لتراث الحضارة الإنسانية، وركيزة قويمة للشخصية الانسانية، إذ كان مرجعاً حياً ونبعاً فكرياً متدفقاً لكل البشرية والاجیال والقرون والاحقاب، واصبح ينبوعاً صافياً وثروة فكرية، ومناعة علمية لكتاب اللغة العربية والمتطلعين إليها قديماً وحديثاً ينتهلون من لغته ويقتبسون من معانيه الوهاجة، ومبانيه المستقيمة ما يقوم لهم فنهم وينمي من حصيلتهم في اللغة والادب والفكر والمعرفة.

3 - ظهر للباحث عند مطالعته نهج البلاغة وشروحه بعض الإشارات والفرائد النحوية التي يمكن أن تزاد على الدرس النحوي وتثريه؛ لأنها لم تستعمل من قبل النحويين لذا فهي تعد من مبتكرات الإمام (عليه السلام) ومختصاته، إذ سمعت منه أول مرة وهي:

أولاً / مجيء (أينٍ) ظرف المكان معرباً لا مبنياً، ولم يشر أحد من النحويين إلى أنّها تكون معربة صراحة، ولإعرابها بعدٌ دلالي، وعند إنعام النظر فيه وتأملهِ، ظهر أنَّ باستطاعة الإمام أن يعبر بالمبني، غير أنّه أراد بحسب السياق النفي العمومي

ص: 416

للمكان الإلهي؛ لأنّ الأين عبارة عن نسبة الجسم إلى المكان وهو سبحانه منزّه عن ذلك لبراءته عن التحيز. فلا يحده شيء فتكون (أينٍ) اسماً معرباً وتنوينه تنوین تنكير، وقد وقع نكرة في سياق نفي فأفاد نفي عموم الأمكنة عن الله تعالى، وهذه الغاية من إعراب (أينٍ) وتنوينها.

ثانياً / تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف. وتعلق الظرف بالفعل التام المتصرف في نهج البلاغة، له فوائد جمة تترتب عليه منها: تحديد زمان الفعل، ومكانه، ومصاحبته، وتوكيده، وشرطيته، غير أن للظرف فوائد لم يشر إليها النحويون وهي: المقابلة، وأكمال دلالة الفعل، ففي المقابلة استعمل الإمام علي (عليه السلام) الظرف متعلقاً بالفعل لينبِّه المتلقي على اختلاف الحال في زمنٍ واحدٍ أو في زمنين مختلفين؛ ليُلفت نظر المتلقي إلى إجراء مقابلة ومقارنة ما بين حالةٍ في زمنٍ معين وأخرى تقابلها أو تضادها في الزمن نفسه أو في زمنٍ آخر، وهذه فائدة جديدة لتوظيف الظرف في اللغة العربية وجدت في نهج البلاغة لم يلتفت إليها من قبل.

ثالثاً / أمّا فائدة وفرادة إكمال دلالة الفعل، ففي اللغة العربية وبحسب قوالبها القواعدية توجد مجموعة من الأفعال لا تستغني عن ظرف المكان، ومن ثم تكون فائدة تعلق ظرف المكان بهذا النوع من الأفعال هي إكمال دلالة الفعل، وكان الإمام علي (عليه السلام) قد استعمل ذلك في نهج البلاغة بذكر مجموعة من ظروف المكان المتعلقة بأفعالٍ لا تتم الفائدة منها إلا بهذا التعلق.

رابعاً / تصدُّرُ الاستفهام جواب (لو). لم يرد في القرآن الكريم، ولا في كتب النحويين - بحسب الاطلاع - أنَّ جواب (لو) - وهي من أدوات الشرط غير الجازمة - قد جاء جملةً استفهاميَّةً، إلا أنه ورد في نهج البلاغة وقوع الاستفهام في

ص: 417

جواب (لو).

خامساً / جواب (لمّا) مضارع منفي ب(لم). وقد جاء في نهج البلاغة نص واحد ورد فيه جواب (لمّا) مضارعاً منفياً ب (لم) وهذه الصيغة التركيبية لم ترد في القرآن الكريم، ولم نألفها عند النحويين في مصنفاتهم.

سادساً / الفرائد القسمية. لقد استعمل الإمام تركيباً قسمياً أشار الشراح إلى سبق الإمام إليه، وتفرده، وإبداعه فيه، حتى عدّوه من مبتكرات الإمام ومختصاته، هو (برأ النسمة). ولم يجد الباحث حسب تتبعه واستقرائه من أشار إليه من النحويين.

سابعاً / الفرائد التعجبية. ومن ذلك: التعجب السماعي (لله بلاء فلان) ووردت الصيغة المذكورة في نهج البلاغة بمعنى التعجب من عمله.

ثامناً / ومنه الاستفهام التعجبي باستعمال التركيب (فما عدا ممّا بدا). يذهب الشريف الرضي إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) أول من سمعت منه هذه الكلمة، وتابعه في هذا القول شراح نهج البلاغة.

تاسعاً / الفرائد الإنابية. من ذلك إنابة (إلى) مناب (الباء)، إذ انفرد بهذه المسألة النحوية بعض شراح النهج، والتي لم ينص عليها النحويون، أو يشيروا إليها.

وختاماً فهذه محاولة جادة وبنية خالصة، حرصت أن تكون صحيحة في مضامينها سليمة في مؤداها، فإن أصبت فلله الحمد والمنة، وإن كانت الأخرى فحسبي أني دَرِبٌّ مغرمٌ بنهج البلاغة، ولغته العربية أتلمس الصواب، وانشد الحقيقة فالكمال لله وحده.

ص: 418

هوامش البحث:

1. البيان والتبيين، الجاحظ: 1 / 58 - 59.

2. نهج البلاغة ، الشريف الرضي، ضبط نصه الدكتور صبحي الصالح: 482. والموجود في نسخ نهج البلاغة وشروحه: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، ينظر: شرح نهج البلاغ، ابن أبي الحديد المعتزلي: 18 / 230، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي: 8 / 285، والمعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، محمد الدشتي: 157.

3. نهج الحياة (مجموعة بحوث ومقالات حول نهج البلاغة)، موسسة نهج البلاغة: 131 - 132.

4. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، الثعالبي: 197.

5 . مصادر نهج البلاغة، عبد الله نعمة: 26.

6. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، التستري / 1 / 62.

7. شرح نهج البلاغة، (المعتزلي): 1 / 24.

8. المصدر نفسه: 7 / 211.

9. المصدر نفسه: 7 / 214.

10. تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي: 1 / 87 - 88.

11. المصدر نفسه: 87.

12. من بلاغة الإمام علي في نهج البلاغة، عادل الاسدي: 67.

13. من خطبة الشريف الرضي، نهج البلاغة: 11.

14. (شرح نهج البلاغة (المعتزلي) 1 / 8.

15. أصول النحو العربي، د. محمد خير الحلواني: 76.

16. معاني القرآن، الفراء: 1 / 14.

17. الرماني النحوي، مازن المبارك: 275.

18. الكتاب، سيبويه: 3 / 285، وينظر: اللمع في العربية، ابن جني: 11.

19. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، احمد بن فارس: 146.

20. شرح الكافية في النحو، رضي الدين الاسترابادي: 3 / 268.

ص: 419

21. نهج البلاغة: 262.

22. أبو زيد الطائي، والبيت من شواهد سیبویه، ينظر: الكتاب: 3 / 267. والمقتضب، المبرد: 1 / 235، وخزانة الأدب، البغدادي: 7 / 299.

23. شرح نهج البلاغة (المعتزلي) 10 / 89.

24. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 1 / 365.

25. في ظلال نهج البلاغة، الشيخ مغنية: 4 / 22.

26. نهج البلاغة: 40.

27. إعراب الجمل وأشباه الجمل، فخر الدين قباوة: 273.

28. تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة، محمود عبد اللامي (أطروحة دكتوراه): 4.

29. ينظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: 1 / 134؛ ومغني اللبيب: 2 / 99،

30. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 85 - 94.

31. نهج البلاغة: 301.

32. ينظر: المصدر نفسه: 85 -86.

33. نهج البلاغة: 80 - 81.

34. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 95 - 96.

35. نهج البلاغة: 313.

36. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 96 - 97.

37. نهج البلاغة: 40.

38. المصدر نفسه: 241.

39. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 98 - 99.

40. ينظر: شرح التسهيل، ابن مالك 4 / 100، والجنى الداني، المرادي: 283.

41. ينظر: شرح الكافية الشافية، ابن مالك: 3 / 1639، وشرح التصريح 4 / 225، وهمع الهوامع 4 / 348 - 349.

42. نهج البلاغة: 244 - 245.

43. ينظر: منهاج البراعة: 10 / 113.

48. شرح الكافية: 4 / 113.

45. ينظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

ص: 420

46. الكشَّاف: 1 / 120.

47. شرح نهج البلاغة (المعتزلي): 9 / 299.

48. البرهان في علوم القرآن: 3 / 325 - 326.

49. ينظر: تراكيب الأسلوب الشرطي في نهج البلاغة دراسةٌ نحويَّةٌ، کریم حمزة حميدي (رسالة ماجستير): 180 - 182.

50. ينظر: شرح قطر الندى، ابن هشام: 92.

51. الكتاب: 4 / 234.

52. ينظر: مغني اللبيب: 280.

53. ينظر: المصدر نفسه: 280.

54. ينظر: شرح التسهيل: 3 / 417.

55. مغني اللبيب: 280.

56. المطالع السعيدة، السيوطي: 471.

57. ينظر: في بناء الجملة العربية، د. محمد حماسة: 287.

58. ينظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي: 3 / 85، والبرهان في علوم القرآن: 4 / 384.

59. نهج البلاغة: 49.

60. نهج البلاغة: 182.

61. ينظر: أسلوب الشرط في نهج البلاغة - دراسة نحوية تطبيقية، يُسري خلف سمير (رسالة ماجستير): 100 - 103.

62. شرح التسهيل: 3 / 63.

63. اللباب في علل البناء والإعراب، أبو البقاء العكيري: 1 / 144.

64. ينظر: نهج البلاغة: 50، 147، 374، 415.

65. نهج البلاغة: 147.

66. منهاج البراعة، الراوندي: 1 / 441.

67. شرح نهج البلاغة (المعتزلي) 7 / 99.

68. ينظر: کتاب شرح اللمع في النحو ، أبو الحسن الباقولي: 309، وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، ابن هشام الأنصاري: 3 / 250 - 257.

69. توضیح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، ابن أم قاسم المرادي: 1 / 885.

ص: 421

70. نهج البلاغة: 350

71. شرح نهج البلاغة: (لمعتزلي) 12 / 4، وينظر: شرح نهج البلاغة (علي محمد علي دخيل) مج: 1 / ح 4 / 3.

72. ينظر: حدائق الحقائق، قطب الدين الكيدري: 2 / 215، وإرشاد المؤمنين إلى معرفة نهج البلاغة المبين، السيد يحيى الجحاف: 2 / 647، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (الخوئي) 14 / 333.

73. ينظر: كتاب الحدود في النحو، الرماني: 42، وشرح المفصل، ابن یعیش: 8 / 150.

74. ينظر: البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها، عبد الرحمن الميداني: 278 - 279.

75. نهج البلاغة: 74.

76. المصدر نفسه: 1 / 77. 77.

77. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 1 / 193.

78. نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة، الشيخ الشيرازي: 2 / 160.

79. ينظر: رصف المباني في شرح حروف المعاني، المالقي: 80 - 83، والجنى الداني: 385 - 390.

80. نهج البلاغة: 183.

81. ينظر: دیوان طرفة بن العبد: 30.

82. شرح نهج البلاغة: 8 / 107.

83. ينظر: کتاب معاني الحروف، أبو الحسن الرماني: 115، وأدب الكاتب، ابن قتيبة: 395.

84. ينظر: الأصول في النحو، ابن السراج: 1 / 415، وشرح الكافية: 4 / 272.

85. ينظر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8 / 250.

ص: 422

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. إتمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، توثيق الكتاب، الشيخ محمد عساف، مراجعة الدكتور فريد السيد، ط / 1، الناشر: مؤسسة الاعلمی للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1426 ه.

2. أدب الكاتب، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، (ت: 276 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 4، الناشر: المكتبة التجارية الكبری ۔ مصر، 1382 ه - 1963 م.

3. إرشاد المؤمنين الى نهج البلاغة المبين، السيد يحیی بن إبراهيم الجحاف الزيدي، (ت: 1102 ه)، تحقيق: محمد جواد الحسيني الجلالي، تقديم محمد حسين الجلالي، ط 1، الناشر: منشورات دلیل ما، قم - إيران، 1422 ه - 1380 ش.

4. أسلوب الشرط في نهج البلاغة - دراسة نحوية تطبيقية، يُسري خلف سمير (رسالة ماجستير) قدمتها إلى مجلس كليّة الآداب في الجامعة المستنصريّة، 1430 ه - 2009 م.

5. الأصول في النحو، أبو بكر محمد بن سهل السراج النحوي، (ت 316 ه)، تحقيق، الدكتور عبد الحسين الفتلي ط 3، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1408 ه - 1988 م.

6. أصول النحو العربي، الدكتور محمد خير الحلواني، (د.ط)، 1979 م.

7. إعراب الجمل وأشباه الجمل، تأليف الدكتور فخر الدين قباوة، ط 5، الناشر دار القلم العربي حلب - سورية، 1409 ه - 1989م.

ص: 423

8. أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، جمال الدين بن هشام الأنصاري، (ت: 761 ه)، تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط 6، الناشر: دار الندوة الجديدة، بيروت - لبنان، 1980 م.

9. البحر المحيط، أبو حيان محمد بن يوسف الاندلسي، (ت: 745 ه)، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمد معوض، وشارك في التحقيق د. زکریا عبد المجيد النوقي، ود. أحمد النجولي الجمل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1422 ه - 2001 م.

10. البرهان في علوم القرآن، بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي (ت 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط / 3، الناشر: مكتبة دار التراث - القاهرة، 1984 م.

11. البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها، عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّکَة الميداني، ط / 1، الناشر: دار القلم - دمشق، 1416 ه - 1996 م.

12. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، العلامة المحقق الشيخ محمد تقي التستري، تحقیق: مؤسسة نهج البلاغة، ط 1، الناشر: دار امیر کبیر - طهران، 1418 ه - 1376 ش.

13. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر، (ت: 255 ه)، تحقيق: فوزي عطوي، ط / 1، الناشر: دار صعب - بیروت، 1968 م.

14. تراكيب الأسلوب الشرطي في نهج البلاغة دراسةٌ نحويَّةٌ، كریم حمزة حمیدی (رسالة ماجستير) قدمها الطالب الى مجلس كلية التربية (صفي الدين الحلِّي) في جامعة بابل، 1432 ه - 2011 م.

ص: 424

15. تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة، محمود عبد اللامي (أطروحة دكتوراه)، قدمها الطالب إلى مجلس كلية التربية في جامعة بابل، 11429 ه - 2008 م.

16. توضیح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، الحسن بن أم قاسم المرادي، (ت: 749 ه)، تحقيق: عبد الرحمن علي سلمان، ط 1، الناشر: دار الفكر العربي القاهرة، 1422 ه - 2001 م.

71. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي (ت: 429 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط / 1، الناشر: دار المعارف - القاهرة، 1965 م.

18. الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن أم قاسم المرادي، (ت: 749 ه)، تحقيق: فخر الدين قباوة، ومحمد ندیم فاضل، ط / 1، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، 1413 ه - 1992 م.

19. حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة، العلامة قطب الدين الكيدري البيهقي، من اعلام القرن السادس الهجري، تحقيق: عزالدين العطاردي، ط 1، الناشر: مؤسسة نهج البلاغة، نشر عطارد، قم - ایران، 1426 ه.

20. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي (ت: 1093 ه)، تحقيق: محمد نبيل طريفي، والدكتور اميل بديع يعقوب، ط 1، الناشر: دار الکتب العلمية، بيروت، 1998 م.

21. دیوان طرفة بن العبد، شرحه وقدّم له: مهدي محمد ناصر. ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان 1407 ه - 1978 م.

22. رصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد عبد نور المالقي، (ت: 702 ه)

ص: 425

، تحقيق: أحمد محمد الخراط، (د.ط)، الناشر: مجمع اللغة العربية بدمشق، (د.ت).

23. الرماني النحوي في ضوء شرحه لكتاب سيبويه، مازن المبارك، ط / 3، الناشر: دار الفكر - دمشق، 1995 م.

24. شرح ابن عقیل، قاضي القضاة بهاء الدين عبدالله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري، (ت: 769 ه) تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بیروت 1423 ه - 2002 م.

25. شرح التسهيل (تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد)، جمال الدين محمد بن عبدالله بن مالك، (ت: 672 ه)، تحقيق: د. عبد الرحمن السیَّد، د. محمَّد بدوي المختون، ط / 1، الناشر: دار هجر - القاهرة، 1990 م.

26. شرح التصريح على التوضيح على ألفية ابن مالك في النحو، لابن هشام الأنصاري، الشيخ خالد الأزهري (ت 905 ه)، ومعه حاشية الشيخ ياسين بن زيد العليمي، حقَّقه وشرح شواهده: أحمد السيد سيد أحمد، راجعه: إسماعيل عبد الجواد عبد الغني، الناشر: المكتبة التوفيقية، القاهرة، (د.ت).

27. شرح الكافية الشافية، جمال الدين محمد بن عبدالله بن مالك، (ت: 672 ه)، تحقيق: د. عبد المنعم أحمد هريدي، ط / 1، الناشر: دار المأمون للتراث، المملكة العربية السعودية، جامعة أم القرى، 1982 م.

28. شرح قطر الندى وبلّ الصدى، جمال الدين ابن هشام النصاري، (ت: 761 ه)، ومعه کتاب سبيل الهدى بتحقيق شرح قطر الندى، محمد محيي الدين عبد الحميد، ط / 4، الناشر: منشورات ذوي القربی، 1427 ه.

ص: 426

29. شرح الكافية في النحو، رضي الدين محمد بن الحسن الاسترابادي، (ت: 688 ه)، تحقیق: يوسف حسن عمر، ط 1، الناشر: مؤسسة الصادق (ع) - طهران، 1395 ه - 1975 م.

30. شرح المفصَّل، ابن يعيش النحوي (ت: 643 ه)، صحَّحه وعلَّق عليه: مشيخة الأزهر، عنيت بطبعه ونشره: إدارة الطباعة المنيرية - مصر، (د.ت).

31. شرح نهج البلاغة، عز الدين بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني المعتزلي (ت: 656 ه)، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، ط / 1، الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي - قم، 1378 ه.

32. شرح نهج البلاغة، علي محمد علي دخیل، ط / 1، الناشر: دار المرتضى، بيروت - لبنان، 1406 ه - 1986 م.

33. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، أبو الحسن أحمد بن فارس (ت: 395 ه)، تحقيق: الدكتور عمر فاروق الطباع، ط / 1، الناشر: مكتبة المعارف ، بيروت - لبنان، 1414 ه - 1993 م.

34. في بناء الجملة العربية، د. محمد حماسة عبد اللطيف، ط / 1، الناشر: دار القلم، الكويت، 1402 ه - 1982 م.

35. في ظلال نهج البلاغة، الشيخ محمد جواد مغنية، ت: 1981 م، تحقیق: سامي الغريري، ط 1، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، قم - ایران، 1425 ه - 2005 م.

36. الكتاب، سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت: 180 ه)، تحقيق وشرح: د. عبد السلام محمد هارون، ط / 2، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة

ص: 427

- مصر، دار الرفاعي - الرياض، 1402 ه - 1982 م.

37. کتاب الحدود في النحو، أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، (ت: 384 ه)، تحقيق: الدكتور مصطفى جواد، ويوسف يعقوب، ط 1، الناشر: المؤسسة العامة للصحافة والطباعة - العراق، 1388 ه - 1999 م.

38. کتاب شرح اللمع في النحو، أبو الحسن علي بن الحسين الباقولي، ت: 543 ه، ط 1، الناشر: دار الکتب العلمية، بيروت - لبنان، 1428 ه - 2007 م.

39. کتاب معاني الحروف، أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، (ت: 384 ه)، تحقيق: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي، ط / 3، الناشر: دار الشروق، جدة - السعودية، 1404 ه - 1984 م.

40. الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعُيون الأقاويل في وجُوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538 ه)، تحقیق وتعلیق ودراسة: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمّد معوّض، شارك في تحقيقه: د. فتحي عبد الرحمن حجازي، ط / 1، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض، 1998 م.

41. اللباب في علل البناء والأعراب، أبو البقاء عبد الله بن الحسن العكبري، (ت: 616 ه) تحقیق: الدكتور غازي مختار طلیمات، ط 1، الناشر: دار الفكر - دمشق، 1416 ه - 1995 م.

42. اللمع في العربية، أبو الفتح عثمان بن جني، (ت: 392 ه). تحقیق: فائز حسون، (د.ط)، ط / 1، الناشر: دار الكتب الثقافية - الكويت، 1972 م.

43. مصادر نهج البلاغة، عبد الله نعمة، ط 1، الناشر: دار الهدی ۔

ص: 428

بيروت، 1972 م.

44. المطالع السعيدة شرح السيوطي على ألفية المسماة بالفريدة في النحو والتصريف والخط، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911ه)، تحقيق وشرح د. طاهر سليمان حمودة، الناشر: الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1401 ه - 1981 م.

45. معاني القرآن، أبو زکریا یحی بن زیاد الفراء (ت: 207 ه)، تحقیق: أحمد يوسف نجاتي، ومحمد علي النجار، وعبد الفتاح اسماعیل شلبي، وعلي النجدي ناصف، (د.ط)، الناشر: دار السرور (د.ت).

46. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، جمال الدين ابن هشام الأنصاري (ت 761 ه) تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: مكتبة اية الله العظمی المرعشي النجفي، قم - ایران، 1404 ه.

47. المقتضب، أبو العباس محمد بن یزید المبرد، ت: 285 م تحقيق: محمد عبد الخالق عطية، (د.ط)، الناشر: عالم الكتب، بيروت، (د.ت)

48. من بلاغة الإمام علي في نهج البلاغة، عادل حسن الاسدي، ط / 1، الناشر: مؤسسة المحبين، قم - ایران، 1427 ه - 2006 م.

49. منهاج البراعة، العلامة الميرزا حبیب الله الهاشمي الخوئي، ت: 1324 ه، ضبط وتحقيق: علي عاشور، ط 1، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ومؤسسة المظفر الثقافية - النجف الاشرف، 1429 ه - 2008 م.

50. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت 573 ه)، ط / 1، الناشر: مكتبة المرعشي - طهران، 1406 ه.

ص: 429

51. نفحات الولاية (شرح عصري جامع لنهج البلاغة)، الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، ط / 1، الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قم - إيران 1426 ه.

52. نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) جمع أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي، (ت: 406 ه) ضبط نصّه وابتكر فهارسه، د. صبحي الصالح، ط / 4، الناشر: دار الكتاب المصري - القاهرة، ودار الكتاب اللبناني - بيروت،، 1425 ه - 2004 م.

53. نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) جمع أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي، ت: 406 ه، نسخة المعجم المفرس، اعداد الشيخ محمد الدشتي، ط: 6، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1422 ه.

54. نهج الحياة (مجموعة بحوث ومقالات حول نهج البلاغة)، موسسة نهج البلاغة، ط / 1، الناشر: مؤسسة نهج البلاغة، طهران / ایران، (د.ت).

55. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ محمد باقر المحمودي، ط / 1، الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر الإسلامي، طهران إيران، 1418 ه.

56. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، (ت: 911 ه)، شرح وتحقيق: عبد السلام هارون، د. عبد العال سالم مكرم، الناشر: عالم الكتب - القاهرة 1200 م.

ص: 430

المحتويات

أثر الحذف في تماسك النص في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه

أ.م. د. كاظم عبد الله عبد النبي

كلية الإمام الكاظم علیه السلام

مقدمة...11

التمهيد:...11

أولًا: التماسك في حذف العبارة...13

ثانياً: التماسك في حذف الجملة ...23

رابعاً: التماسك في حذف (إنّ) واسمها...28

خامساً: التماسك بحذف كان واسمها...32

سادساً: التماسك في حذف الحرف...33

المصادر والمراجع...38

ص: 431

أثر نهج البلاغة في إثراء المعجم الشعري للمتنبي (ت 354 ه) أ.م.د. أنوار سعيد جواد م.د. بشری حنون محسن

جامعة كربلاء كلية العلوم الاسلامية

مقدمة:...43

أثر نهج البلاغة في اثراء المعجم الشعري للمتنبي...45

في مجال إفادة المتنبي من ألفاظ الإمام علي (عليه السلام):...46

إفادة المتنبي وتأثره بمعاني الإمام علي (عليه السلام):...51

الخاتمة:...66

المصادر والمراجع...72

أساليب التوكيد في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعيِّ (رحمه الله)

ضوء التماسك النحوي

أ.م. د. وفاء عبّاس فيّاض

جامعة كربلاء - كليّة العلوم الإسلامیّة

المقدمة:...77

التمهيد:...78

1- التوكيد في اللغة والاصطلاح:...78

التوكيد في اللغة:...78

التوكيد في الاصطلاح:...79

2 - آليات التماسك النحوي:...80

المبحث الأول: التوكيد اللفظي والمعنوي في العهد...83

التوكيد اللفظي في العهد:...83

التوكيد المعنوي في العهد:...91

ص: 432

المبحث الثاني: التوكيد بالأدوات...97

التوكيد بالقصر ب(إنّما):...99

التوكيد ب(قد):...101

التوكيد ب (ثمّ)...103

المبحث الثالث: التوكيد بنوني التوكيد...106

الخاتمة:...108

المصادر والمراجع...115

استراتيجية الخطاب الحجاجي في كتاب الإمام علي (عليه السلام) لمعاوية

أ. م. د. لمى عبد القادر خنیاب

كلية الآداب / جامعة القادسية

المقدمة:...123

توطئة:...124

إستراتيجية الخطاب الحجاجي:... 126

العتبة الأولى: (قطع صلة الخصم بحجته):...126

الحجة الأولى:...127

التمثيل:...127

الحجة الثانية:...129

العتبة الثاني / وعنوانها (فضل آل محمد):...131

العتبة الثالثة / (قلب الحجج):...132

قطاف البحث:...137

المصادر والمراجع...141

اعتماد كلام الامام علي (عليه السلام)...143

ص: 433

في المناهج التعليمية...143

وأثره في بناء الشخصية الإسلامية...143

الدكتور نجم الفحّام...143

مستشار المحكمة الدولية لتسوية المنازعات...143

قاض في المحكمة...143

المقدمة:...145

المبحث الأوّل: ما يحتمه القرآن العظيم في الإمام عليّ (عليه السلام)...146

المبحث الثّاني: ما يحتمه الصّادق الأمين ص في الإمام عليٍّ ع...156

المبحث الثّالث: ما يحتمه الواقع العملي والسّلوكي في الإمام علي عليه السّلام...168

المصادر والمراجع...190

الاستعارة أداة للمسكوت عنه في نهج البلاغة فن صناعة الخطاب

أ. د. نجاح فاهم العبيدي م. م. فراس تركي عبد العزيز جامعة كربلاء - كلية التربية للعلوم الإنسانية

المقدمة...201

أولاً: الاستعارة لغةً...202

ثانياً: الاستعارة اصطلاحاً...202

ثالثاً: أهمية الاستعارة...203

النموذج الاول...206

النموذج الثاني...207

النموذج الثالث...210

النموذج الرابع...213

النموذج الخامس...214

ص: 434

الخاتمة...216

المصادر والمراجع...221

الإنجاز بالقول في عهد الإمام علي (عليه السلام) - الأمر والنهي - دراسة تطبيقية على وفق نظرية أفعال الكلام العامة

أ. م. د أحمد جعفر داوود م. د حسين صالح ظاهر

كلية التربية - جامعة واسط مديرية تربية كربلاء

المدخل...225

الإطار النظري...228

الإطار التطبيقيّ...232

الخاتمة...245

المصادر والمراجع...249

التعليل في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

م. د. د. حميد يوسف إبراهيم كلية العلوم الإسلامية / جامعة ذي قار

مقدمة...255

تمهید...256

معنى التعليل وفائدته:..256

فائدة التعليل:...257

المبحث الأول...259

التعليل بالأدوات...259

1 - التعليل باللام:...259

2 - التعليل بالباء:...261

ص: 435

3 - التعليل ب(من):...262

4 - التعليل بالحرف (على):...262

5 - التعليل ب (حتى):...263

المبحث الثاني...264

التعليل المتحقق بالجمل أو بمضمونها:...264

1 - التعليل بالجملة الاسمية:...264

2 - التعليل بالجملة الاسمية المؤكدة:...265

3 - التعليل بالمفعول لأجله:...268

4 - التعليل في التركيب الشرطي:...269

5 - التعليل بجملة الطلب وجوابه:...270

6 - التعليل بالمشتقات:...271

7 - التعليل المستفاد في سياق الاستثناء المفرغ:...272

الخاتمة:...273

المصادر والمراجع...278

الحجاج وأثره في بناء العقيدة التوحيد في نهج البلاغة أنموذجا

م. د. موفق مجيد ليلو

جامعة الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) - ميسان

مقدمة...285

المبحث الأول: مفهوم الحجاج...287

الحجاج لغة:...287

الحجاج اصطلاحا...288

مفهوم الحِجاج في القرآن الكريم...290

ص: 436

تقنيات الحجاج...291

سمات النص الحجاجي...291

الأبعاد الحجاجية...291

المبحث الثاني: حجاجية التوحيد في نهج البلاغة...293

خصوصية النص العلوي...294

البناء المنطقي للنص...295

المظاهر اللغوية للحجاج في النص العلوي...297

أ. حجاجية التكرار في النص العلوي...297

ب. حجاجية النفي...304

ج - حجاج التعليل بالأداة...305

د - حجاجية البنية الصرفية...308

الخاتمة...312

المصادر والمراجع...315

الضرورة الشعرية بين أحكام النحويين وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

«دراسة في نقص الاستقراء النحوي»

م.م. حيدر هادي خلخال الشيباني

كلية التربية للعلوم الإنسانية - جامعة بابل

المقدمة...319

التمهید: الضرورة الشعرية وأهم مذاهب النحويين فيها:...320

المبحث الأول: توكيد جواب الشرط بنون التوكيد:...324

المبحث الثاني: إبقاء ألف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر:...330

المبحث الثالث: اقتران خبر (كاد) ب(أنْ):...334

ص: 437

المبحث الرابع: اقتران خبر (لعل) ب(أن) أو وقوعه فعلا ماضيًا:...339

الخاتمة والنتائج...344

المصادر والمراجع...354

العدول في الظواهر التركيبية في خطاب نهج البلاغة

م. د. أحلام عبد المحسن صكر جامعة ذي قار كلية التربية للعلوم الإنسانية

المقدمة:...363

- التقديم والتأخير...363

- تقديم المسند إليه:...365

- تقديم المسند:...368

- الحذف:...371

ومن مظاهر ذلك في خطاب النهج:...372

- حذف الجملة:...372

- حذف الكلمة:...374

3 - الالتفات:...378

الخاتمة...383

المصادر والمراجع...389

الفرائد العلوية في إثراء القواعد النحوية (دراسة في نصوص نهج البلاغة)

م. د. ظافر عبيس الجياشي

المديرية العامة للتربية في المثنى

توطئة:...397

المبحث الأول: القيمة العلمية لنهج البلاغة...398

ص: 438

المبحث الثاني: الفرائد العلوية في نهج البلاغة...402

أولاً / الفرائد الظرفية:...403

1) مجیءُ ظرف المكان (أينَ) معرباً لا مبنياً:...403

2) تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف:...405

ثانياً / الفرائد الشرطية:...409

1) تصدُّرُ الاستفهام جواب (لو):...409

2) جواب (لمّا) مضارع منفي ب (لم):...410

ثالثاً / الفرائد القسمية:...412

رابعاً / الفرائد التعجبية:...413

1) التعجب السماعي (لله بلاء فلان):...413

2) الاستفهام التعجبي باستعمال التركيب (فما عدا ممّا بدا):...414

رابعاً / الفرائد الإنابية:...414

الخاتمة...416

المصادر والمراجع...423

ص: 439

ص: 440

المجلد 5

هوية الکتاب

أعمال المؤتر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3666 لسنة 2019

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2 : 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3666 لسنة 2019

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2 : 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احادیث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الاخلاق الاسلامية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق - تاریخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية

المؤتمر العلمي الثاني (2)

أعمال المؤتر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

الجزء الخامس

للمدة

13 - 14 / ربيع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 3 / 12 / 2017 م

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1440 ه - 2019 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Info@lnahj.org

تنویه:

إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة تخلي العتبة الحسينية المقدسة مسؤوليتها عن أي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»

صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيم

مریم: 50

ص: 5

ص: 6

المحور اللغوي والأدبي

ص: 7

ص: 8

إنسانية الخطاب العلوي قراءة معرفية في الأبعاد القيمية

اشاره

م. د. آمال خلف علي آل حيدر كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

ص: 9

ص: 10

توطئة

نظر الإمام علي (عليه السلام) بدقة وعمق وشمول للإنسان ، و درس جميع أبعاد حياته وعلاقته مع خالقه، ونفسه، ومجتمعه، وحكومته وغير ذلك، فوضع له نظاماً خاصاً لهذه الحقوق والواجبات، وجعله مسؤولاً عن رعايتها وصيانتها؛ ليُنشئ مجتمعاً إسلامياً تسوده العدالة الاجتماعية، والعلاقات الوثيقة بين أبنائه القائمة على أساس الثقة والتعاون والمحبة، وغير ذلك مما يسهم في تنظيم العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع، وكان للإمام علي (عليه السلام) الدور الكبير في وضع المناهج التربوية الحية لتنظيم سلوك الإنسان ، فضلاً عن تطوير حياته وبناء حضارته على أُسس رصينة تضمن له الاستقرار النفسي من خلال بيان معنى الاسلام الحقيقي للناس، وإنه دين الأخلاق والصفح والحلم، ودين التسامح الذي يظهر الإنسان فيه مدى حبه للآخرين وسعيه للارتباط معهم بروابط إنسانية قائمة على أسس الخير والمحبة ، ودعا أيضاً إلى نبذ التعاليم الجاهلية والالتزام بالتعاليم الاسلامية التي أنقذت الإنسان من الجهل والظلم والضلال ، و يبدو ما ذكرناه آنفاً واضحاً جلياً في ثنايا الخطاب العلوي، سواء کان خطباً أو رسائل تهدف إلى بث روح الإخاء والمحبة بين المسلمين فضلاً عن حرصه على وحدة الصف والكلمة.

ص: 11

المطلب الأول: القيم الأخلاقية وأبعادها في أنسنة الخطاب العلوي

أسس الإمام علي (عليه السلام) دعائم العلاقة السليمة التي ينبغي أن تقوم بين الإنسان وخالقه، كالتسليم المطلق لإرادته تعالى شأنه، والعبودية الخالصة له والخشية والخوف منه، فضلاً عن طاعته والتوجه إليه وحده دون غيره، فضلاً عن علاقة الأفراد فيما بينهم، من خلال عنايته (عليه السلام) بتربية المجتمع الإسلامي الإنساني، حيث جاءت محاولاته لمعالجة الانحراف الأخلاقي في المجتمع فضلاً عنه في الإنسان نفسه، من خلال التعرف على جذوره العميقة أولاً، حيث عزا السبب الرئيس في انحراف المجتمع إلى حب الدنيا و التعلق بحبالها الواهمة کا ورد في الحديث النبوي الشريف ((حبُ الدنيا رأس كل خطيئة))، إذ يترتب على هذا الحب فقدان بصيرة الإنسان، فضلاً عن تعطيل العقل وإعمال الشهوات والهوى التي تصبوا إليها النفس الخاسرة.(1)

يشخص الإمام (عليه السلام) مجموعة من العقاقير الإنسانية لمعالجة الانحراف الإنساني في المجتمع منها:

أولاً: - التقوى

ورد في إحدى خطب الإمام (عليه السلام) التي تضمنت وصفه الدقيق للمتقین موضحاً السر الكامن وراء وصولهم إلى هذه المرتبة من الكمال المتمثل بالتقوى بقوله ((فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطِقُهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيُهم التواضع، غضوا أبصارهم عمَا حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهُم، نُزلَتْ أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزلَتْ في

ص: 12

الرخاء، ولولا الأجل الذي کُتِبَ لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفةَ عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب، عظُمَ الخالقُ في أنفسهم، فَصَغُرَ ما دونَهُ في أعيُنِهِم))(2)، يصف الإمام المتقين فيقول: «فالمتقون فيها هم أهل الفضائل« أي إن المتقين في الدنيا هم أصحاب الفضائل بل أهلها أي أصل الفضائل، فهي تنبع منهم، ثم يوالي الإمام (عليه السلام) وصفهم فيقول: »منطِقُهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيُهم التواضع «فلا يقولون بألسنتهم إلا الصواب والحق والصدق، أما ملبسهم فهو البساطة والتواضع فضلاً عن عدم التكلف للملبس، فهم لم يشغلوا أنفسهم بأمرٍ غير ذا أهمية عندهم، أما مشيُهم فينماز بالتواضع وعدم الكِبَر والخُيلاء، فهم بذلك مصداق للحديث الشريف «مَنْ تواضع لله رفعه الله «تواضعوا لله فرفع شأنهم فضلاً عن مراتبهم، واستغرق الإمام في وصفهم فأضاف «غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم« انتهج المتقون خطاً مستقيماً لأنفُسِهم فأشاحوا بأبصارهم عما حرمه الله، وصموا أسماعهم عن غير العلم النافع في رضا الله تعالى، فالتقوى تعني الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه وهي في (عرف الشرع والقرآن عبارة عما يتقی به من النار)(3)، إن للتقوى مضمون قرآني محض جاء به الاسلام فكراً مجسداً بسلوك عملي؛ لأنها تعني امتزاج النظرية بالتطبيق(4) فكانوا مصداقاً فعلياً للتقوى، كذلك تابع أمير المؤمنين وصفه للمتقين فقال: «نُزلَتْ أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزلَتْ في الرخاء، ولولا الأجل الذي کُتِبَ لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفةَ عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب« يتبين من هذا الوصف حال المتقين الذين لا يأبهون بالبلاء النازل أو الذي ينزل تباعاً في ساحتهم، فقد وطنوا أنفسهم على التسليم المطلق لمشيئة الخالق فلا يستشعرون الألم الظاهري بل على العكس من ذلك فأنهم يتذوقون حلاوة الإيمان من خلال مرارة البلاء؛ لأنه يقربهم الله زُلفي

ص: 13

، فضلاً عن الرغبة الكبرى لملاقاة العلي القدير؛ تشوقاً للفوز بثوابه وخوفاً من عقابه إن طالت بهم الآجال ، أما قوله (عليه السلام) «عَظُمَ الخالق في أنفسهم، فصَغُرَ ما دونه في أعينهم« أي صاروا لا يعظمون شيئاً سوى الله سبحانه وتعالى وهذا مصداق لقول أمير المؤمنين «إنما عبدتك لأنك أهلاً للعبادة «فتصاغر كل ما هو دون مرتبة الإله تعالى شأنه في أعينهم، كذلك ما ورد في وصية الإمام علي (عليه السلام) للحسنين عليها السلام حيث قال: - ((أُوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وأن بغتكما، ولا تأسفا على شيئٍ منها زوي عنكما، وقولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً، أُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومَنْ بلغه کتابي بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جد کما يقول (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)، الله الله في الأيتام فلا تُغبُوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم))(5) يوصي الإمام ولديه بوصايا خاصة وأخرى عامة وثالثة مشتركة، فالخاصة منها هي ألا تبغيا الدنيا وأن بغتكما، أي لا تُجْهِدا أنفسكما بطلب الدنيا حتى وإن طلبتكما؛ لأن طالب الدنيا لا يلقى إلا العناء والتعب، حتى وإن تذرع بضرورة الكسب فهذا الكسب سيتُرك ورائه كما قال تعالى ((وللآخرة خيرٌ لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى))(6)، كذلك عدم الضجر والتأسف على ما تأخر أو مُنِعَ عنكما لعل فيه خيرٌ لكما لقوله «ولا تأسفا على شيء زوي عنكما«، وقول الحق في أصعب الأحوال «وقولا بالحق، وأن تبغيا من عملكما الأجر من الخالق لا من المخلوق «واعملا للأجر«، وأن تكونا خصماء للظالم وللمظلوم عوناً وابغيا في ذلك القربة لله تعالى «وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً«، أما الوصايا العامة «ونظم أمركم« أي أن تعمدوا إلى تنظيم أموركم بالشكل الذي يضمن سير العمل بالوجه الأمثل، كذلك ذکر الإمام (عليه السلام) «صلاح ذات بينكم «أي لا تتركوا أمراً فاسداً بینکم واعمدوا

ص: 14

إلى إصلاحه فإنه أنفع للمجتمع فضلاً عن أفراده وكما يصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام) مع ما للصلاة والصيام من الأجر والفضل عند الله، أفاض الإمام (عليه السلام) في وصاياه العامة فذكر الأيتام وأعطاهم مساحة في المجتمع حيث شدد على رعايتهم في كافة المجالات التربوية والاجتماعية فضلاً عن الاقتصادية فقال: «الله الله في الأيتام فلا تُغبُوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم«، أما وصيته المشتركة فهي تقوى الله، ويهدف إلى دعوة الناس للتعاون فيما بينهم والتطوع لخدمة بعضهم بعضاً، فضلاً عن الاهتمام بمناطق الضعف والحاجة في المجتمع من خلال الحث على إصلاح هذا الضعف الحاصل في مختلف جوانبه الدينية والدنيوية.

ثانياً: - حُسن الخُلُق

إن المجتمع الذي لا يتعامل أفراده بالأخلاق الحسنة، لا يمكن له بلوغ الأهداف السامية لبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الأخلاق هي مَنْ يُوصِلْ الإنسان إلى المقامات الإنسانية العالية ولا ينبغي أن يقتصر التمسك بالأخلاق الحسنة على إظهارها عند التعامل مع الآخرين فقط من دون أن تترك أثراً على تنمية الشعور الأخلاقي الإنساني المتمثل بالروح، ومن ثم ترجمتها على مستوى العمل الظاهري، لقد تجلت القيم الأخلاقية بمضامينها الإنسانية العالية، كالتحلي بروح الصفح والعفو، والتعايش، والتسامح، فضلاً عن ترك التحاسد في وصية الإمام (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) عند انصرافه من صفين حيث قال ((وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وعود نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخُلق التصبر، یا

ص: 15

بني اجعل نفسك میزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب أن تظلمَ، وأحسن كما تحب أن یُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك))(7) يُعني هذا النص باستنهاض الإنسان ليمارس دوره الفاعل في الحياة، ويستظهر طاقاته الكامنة من خلال تسلحه بعلو الهمة والطموح المشروع، يوضح الإمام (عليه السلام) مجموعة من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يعمل الإنسان جاهداً لكسبها فيقول: «فأحبب لغيرك ما تحب أن تظلمَ من خصال حُسن الخُلُق أن تُحب لغيرك ما تُحبهُ لنفسك من الخير وعدم الظلم، «وأحسن کما تحب أن يحسن إليك» وكما يُجب الإنسان أن يُحسن إليه بالقول والفعل فعليك أن تُحسن للآخرين قولاً وفعلاً، «واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك« وأن تكره ما يصدر منك من أفعالٍ او أقوال لا توسم بالصحة، وأن لا تُجمل قبيح أفعالك قبالة أفعال غيرك، «وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك« وأن تقبل ما يصدر من الناس کما تريد أن يقبلوا بما يصدر منك، وهذا مصداق لنص الحديث الشريف «حب لأخيك كما تُحب النفسك» وهذا يعني التخلص من حُب الأنا، بل يُجاوز ذلك بإيثار أخيه المسلم على نفسه ومشاركته إياه في السراء والضراء، وكل ذلك يرجع إلى الأصل الأول وهو حُسُنُ الخُلُق الذي لأجله اختار الله عزَ وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(8)

ثالثاً: - الصبر والتصبر

إن القيم التي توزعت في أرجاء النهج تنماز بالأخلاقيات الرفيعة ذات الطابع الإنساني، والتي استمدت جذورها الإنسانية من القرآن الكريم والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والتي تمثل الحجر الأساس لرقي المجتمعات.(9)

ص: 16

حيث يصف الإمام (عليه السلام) الصبر والتصبر بأنهما نِعم الخُلُق، وکما جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ»(10)، حيث يُعد الصبر والصلاة الأداتان المفضلتان لتمكين الإنسان من التحرك، ومواجهة التحديات الصعبة التي يواجه بها أئمة الكفر والضلال، فلابد من توافر الصبر في علاقة الإنسان بنفسه ومساحة اشتغاله، كذلك الصلاة التي توضح علاقة الإنسان بالله تعالى شأنه.(11)، يُعد الصبر العنصر الحافظ والمحامي للمجتمعات من التراجع وبذل الأرواح وخوض الصعاب لأجل الوصول إلى الهدف الأسمى، ولابد من الإشارة إلى أن الصبر نوعان، صبرٌ محمود وهو الصبر على الطاعات والعبادات وترويض النفس على ترك الشهوات، وصبرٌ مذموم وهو الصبر على الذل والهوان(12)، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) ((لا یُعدم الصبور الظفر إن طال به الزمن))(13)، كذلك قوله (عليه السلام) ((مَنْ ركب مركب الصبر اهتدى إلى ميدان النصر))(14)، فالصبر هو الطريق المُوصلة إلى الصواب وإن طال به الوقت.

رابعاً: - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقال (عليه السلام) أيضاً ((وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين مَنْ فعله بجُهدك، وغاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود، والجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء، ومَنْ جاهد على إقامة الحق وفِق، والمجاهدون تفتح لهم أبواب السماء، وثواب الجهاد أعظم الثواب))(15)، إن الأمر بالمعروف وإنكار المنكر واجب على كل مسلم، فيوجه الإمام (عليه السلام) نظر المجتمع نحوهما فيقول ((وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباین مَنْ فعله بجُهدك)) يتوجب على الفرد المسلم بأن

ص: 17

يأمر بالمعروف ويحثُ عليه مثل بِرُ الوالدين، وحُسن الخُلُق، والعفة، والإنفاق في سبيل الله وغيرها كثير مما أُثِر من المعروف، فضلاً عن الترغيب بالمعروف معللاً هذا الأمر بالمعروف؛ کینونته من أهل المعروف، أي يكون المعروف ممدوحاً أينما ذُکِر وبأي حال ذُكِر، أما إنكار المنكر، فوجب أن يكون الإنكار باليد، أي تغيير المنكر بالفعل، واستخدم الإمام (عليه السلام) مفردة «اليد» كناية عن الفعل، فضلاً عن إنكار المنكر باللسان، فنری استخدام لفظة «اللسان» كناية عن القول بإنكار المنكر، إذن لابد من إنكار المنكر قولاً وفعلاً، فضلاً عن مباينة أي - ترك - من اعتاد فعل المنكر بكل الجهد، لكيلا يكون على المؤمنين من حرج في عدم القدرة على تغيير الحال.

ص: 18

المطلب الثاني: القيم العبادية وأثرها في التكامل الإنساني

للقيم العبادية مقاصد و آثار متعددة منها ارتباط المخلوق بالخالق جلَ وعلا والذي يوصله إلى المقصد الأساس وهو «تزكية الإنسان« فتعمل القيم العبادية على تزويد الإنسان بالطاقة المحركة، ولكي يصل الإنسان إلى مستوى التكامل لابد أن يعمل جاهداً لاكتساب القيم العبادية فضلاً عن القيم الأخلاقية على أرفع المستويات مثل الاهتمام بالعدل في علاقته بخالقه أو بأسرته أو بأصدقائه أو بمجتمعه أو بأمواله أو بنفسه، ويذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له في أركان الإسلام وفضل القرآن ((إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه، الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الإسلام، و كلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقامُ الصلاة فإنها المِللة، وإيتاء الزكاة فإنها فريضةٌ واجبةٌ، وصوم شهر رمضان فإنه جُنةٌ من العقاب، وحجُ البيت واعتمارهُ فإنهما ينفيان الفقرَ وير حضان الذنب، وصلة الرحِم، فإنها مَثراةٌ في المال، ومنسأةٌ في الأجل، وصدقة السر فإنها تُكفِر الخطيئة، وصدقةُ العلانية فإنها تدفع مِيتَةَ السوء، وصنائع المعروف فإنها تَقي مصارعَ الهوانِ، أفيضوا في ذكر اللهِ فإنه أحسن الذكرِ، وارغبوا فيما وعدَ المتقين، فإن وعدهُ أصدقُ الوعودِ، واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضلُ الهدي، واستنوا بسنتهِ فإنها أهدى السُنن، وتعلموا القرآن فإنه أحسنُ الحديثِ، وتفقهوا فيهِ فإنه ربيعُ القلوبِ، واستشفوا بنورهِ فإنه شِفاءُ الصدورِ، وأحسنوا تلاوتهُ فإنه أنفعُ القصصِ، فإن العالمَ العاملَ بغيرِ علمهِ کالجاهلِ الحائرِ الذي لا يستفيقُ من جهلهِ، بل الحجةُ عليه أعظمُ، والحسرةُ لهُ ألزمُ، وهو عندَ اللهِ ألومُ))(16) بين الإمام (عليه السلام) ضرورة التمسك بقيم السماء العبادية التي من شأنها رفع مستوى الإنسان

ص: 19

إلى التكامل الإنساني والذي يسعى الإمام جاهداً لإيصال أفراد المجتمع إليه، من خلال الحث المستمر على لزوم الطاعة لفروض السماء، من توحيدٍ لله تعالى شأنه، وإيماناً برسوله، وجهاداً في سبيله، فضلاً عن إقامة الصلاة والصيام، والزكاة وحج البيت الحرام وتعاهد الصدقة سراً كانت أم جهراً، وقراءة القرآن والغور في أعماقه لاستخراج كنوزه الثمينة، فضلاً عن الالتزام بسنة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله).

كذلك اهتم الإمام (عليه السلام) ببيان فلسفة جملة من التشريعات العبادية قائلاً: ((فرض الله سبحانه الإيران تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاءً لإخلاص الخلق، والحج تقوية للدين، والجهاد عزاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة، وترك الزنا تحصيناً للأنساب، وترك اللواط تكثيراً للنسل، والشهادة استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشریفاً للصدق، والاسلام أماناً من المخاوف، والإمامة نظاماً للأمة، والطاعة تعظيماً للإمامة))(17)، وضح الإمام (عليه السلام) علل التشريعات العبادية موضحاً وشارحاً لها حيث علل الإيمان تطهيراً للنفس البشرية من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن خصلة الكِبرَ، والزكاة سبباً للرزق، والصيام اختباراً للخلق في صبرهم على الطاعات، والحج إظهاراً لقوة الدين، والجهاد إعزازاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للناس كافة، والنهي عن المنكر ردعاً للمتجاوزين على حرمات الله، والقصاص حماية للنفوس المحترمة، وإقامة الحدود تعظيماً للحرمات وعدم انتهاكها مجدداً، وترك شرب الخمر صيانة

ص: 20

للعقل البشري، وترك الزنا تحصيناً للأنساب من الاختلاط المحرم، وترك الكذب شرفاً للصدق، فلا يجتمع الكذب والصدق إطلاقاً؛ لعلو مرتبة الصدق في المجتمعات، حتى لو خفتت أنواره لفترة من الزمن، والاسلام يضمن الأمن الإنساني بمختلف صنوفه، والإمامة دستوراً ينظم حياة المسلمين في كل ما تحتاج إليه، والطاعة تعظيماً للإمامة وهو مصداق للآية الكريمة في قوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا أطیعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول))(18)، فكل ما تطرق إليه الإمام من قیم عبادية هي كفيلة بتكوين المجتمع الإنساني المتكامل

ومن خطبة له (عليه السلام) في بيان قدرة الله تعالى وتمجيده قال ((فأمَا أهل طاعته فأثابهم بجواره، وخلدهم في داره، حيث لا يضعن النزَال، ولا تتغير بهم الحال، ولا تنوهم الأفزاع، ولا تنالهم الأسقام، ولا تعرض لهم الأخطار، ولا تشخصهم الأسفار، وأما أهل المعصية فأنزلهم شرَ داره، وغلَ الأيدي إلى الأعناق، وقرن النواصي بالأقدام، وألبسهم سرابيل القطران، ومقطعات النيران في عذاب قد اشتد حره، وباب قد أُطبق على أهله في نار لها کلبٌ ولجبٌ، ولهبٌ ساطعٌ وقصيفٌ هائلٌ، لا يضعن مقيمها، ولا يفادي أسيرها ولا تُفصم كبولها. لا مدة للدار فتفني، ولا أجل للقوم فيُقضى))(19).

إن الحديث عن تزكية النفوس وتطهير الطباع وتنمية دواعي العفة والطهارة ليست شعارات عاطفية، أو کمالات خُلُقية، وإنما هي أصل لتماسك المجتمع وأساس بقائه، فضلاً عن بناء الشخصية الإنسانية للمجتمع المسلم وتحصينه ضد محاولات الهدم والتخريب، لذلك تستدعي ضرورة العمل الجاد في الدعوة إلى الله تعالى والحث على القيم العبادية بكافة تمثلاتها، والدعوة إليها، والتذكير

ص: 21

بالله واليوم الآخر، والحساب والعقاب، من خلال العمل على تعزيز الترابط بين الناس والقرآن وعِبَرهِ وحِکَمِهِ وأحكامه، ولا يغفل ذا لُبٍ رشيد عن المخاطر والصعاب التي تَحُفُ بحياة المؤمنين المتمسكين بدينهم، والتي بُنيت على العبودية لله تعالى، وعلى الطهر والعفاف والفضيلة، حيث يعمل الشيطان وجنوده جاهداً للإطاحة بمن يسير على جادة الصواب ، وهذا مصداق قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا»(20). إن القيم العبادية ليست رأياً بشرياً ولا نظاماً وضعياً، وإنما هي قیم ربانية المصدر عبادية المقصد يُراد بها وجه الله ورضوانه، فيها الأسوة والقدوة، كما جاء في قوله تعالى «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(21)، وفيها الاقتداء والهداية كقوله تعالى «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ»(22)

ص: 22

المطلب الثالث: المجتمع الإنساني في الخطاب العلوي قراءة قيمية

شهد المجتمع الاسلامي متغيرات في المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مما تطلب جهداً كبيراً من الإمام علي (عليه السلام) في إعادة الناس إلى القرآن والسنة النبوية، فكان لابد للإمام أن يبين مجموعة ليست بالقليلة من المعطيات الفكرية التي واكبت حركة النمو القيمي والمعرفي، فضلاً عن المتغيرات السياسية بعد انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد عمد الإمام إلى صرف أنظار العقلاء للأساس الذي يقوم عليه المجتمع فضلاً عن الأساس الذي يقوم عليه الأمن الإنساني ألا وهو ( القيم الفكرية )، حيث ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال ((مَنْ استحكمت لي فيه خصلة من خصال الخير احتملتهُ عليها، واغتفرتُ فَقْدَ ما سِواها، ولا أغتفر فَقْدَ عقلٍ ولا دين، لأن مفارقة الدين مفارقة الأمن، فلا يتهنأ بحياة مع مخافة، وفَقْد العقل فَقْدُ الحياة، ولا يُقاس إلا بالأموات))(23)، نلحظ من محتوى الحديث بيان التلازم القيمي بين الأمن والتوحيد الله تعالى، فكل مجتمع فارق الدين فلابد ألا يهنأ بحياته، وعدم الهناء الذي أشار إليه الإمام هو انعدام الأمن في المجتمع.(29) وتؤكد سيرة الإمام علي (عليه السلام) مع أفراد المجتمع في سياسة الدولة من خلال وضعها في إنجاح التنمية الإنسانية، فضلاً عن توجيهاته لولاته وموظفيه في الأمصار، ومن أبرزها عهده لمالك بن الأشتر حين أوكل إليه ولاية مصر والذي يُعد دستوراً إنسانياً للحكام، حيث أكد على تطبيق

ص: 23

العدل والمساواة بين أفراد المجتمع، فضلاً عن حفظ حقوقهم المادية والمعنوية، وإن اختلفت أديانهم وتوجهاتهم حيث قال الإمام (عليه السلام) ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق))(25)، تتجلى أبهى صور الإنسانية في هذا العهد من خلال الوصايا التي تدعو إلى اللين وخفض الجناح في حدود المعقول والواجب، من إظهار الرحمة والمحبة، وعدم التسلط على الرعية التي لا تمتلك حولاً ولا قوة قبالة الحاكم، ونرى الوصف الإنساني الدقيق الذي أكد عليه الإمام بقوله ((إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق)) الذي يُراد منه إشعار الحاكم بإنسانيته لا بحاکميته على الرعية، فيكون سبُعاً ضارياً ينتهز الفرص المناسبة لينال من فريسته إلاّ ترسيخاً للفكر الإنساني في الأذهان ضمن الدستور العلوي، وقيمية هذا التصنيف تمثل الامتداد الطولي إلى النظرية الإنسانية التي يمثلها الخطاب السماوي فالقيم التي عرضها الخطاب العلوي هي قيم قرآنية حث عليها الله جل جلاله

نرى أن الإمام (عليه السلام) يلفت نظر واليه إلى ما هو أهم من أخذ الضرائب من الناس، وهو ما يعرف آنذاك ب (جباية الخراج)، وإنما عمله الرئيس هو إصلاح أمور أهل البلد في كافة الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية حيث يقول (عليه السلام): ((هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر، في عهده إليه حين ولاَه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها))(26)، حيث يؤكد الإمام (عليه السلام) على إعطاء الأولوية للتنمية الإنسانية من خلال طرق مختلفة، منها زيادة الإنتاج مبيناً ذلك في قوله (عليه السلام) ((ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ

ص: 24

من نظرك في استجلاب الخراج))، يوجه الإمام نظر وُلاتَهُ إلى ضرورة استصلاح الأرض بكافة الطرق الممكنة لما فيه الخير والصلاح للأمة؛ لأنه مدعاة لعمارة الأرض البور فضلاً عن الفائدة المتوخاة منها، بدأً من تشغيل الأيدي المعطلة عن العمل إلى عمران الأرض سواء كان بالزراعة أو الصناعة أو تشييد المباني أكثر من الاهتمام بمقدار الخراج المستحصل من هذه الأرض.

ص: 25

الخاتمة

تكمن فلسفة العمل الإنساني بالقيم التي يُؤمن بها الإنسان، والتي تُشكل سلوكاً واقعياً في الخارج، وهذه القيم تمثل المنظومة المعرفية التي يستمد منها الإنسان محركيته، والمنظومة المعرفية للإمام علي (عليه السلام) منظومة قرآنية؛ لذا کشف البحث عن نتاجها في: -

1. کشف البحث عن القيم الأخلاقية التي رسمت ملامح البعد الإنساني في الخطاب العلوي المتمثلة ب (حُسن الخُلُق والتقوى والصبر والسلم والتسامح).

2. کشف البحث عن إنسانية الخطاب العلوي التي تمثلت ب «حب الخير»، و «التعاون«، و «النصح والارشاد« ومسعى الإمام علي (عليه السلام) بإيجادها في السلوك العملي الإجرائي.

3. أثبت البحث أن الخطاب العلوي خطاب قيمي، لم يبتعد عن دائرة الخطاب المعرفي، بل هو خطاب إصلاحي تجسدت فيه المفاهيم السماوية، وشكلت المنطلقات له

4. بين البحث أسس بناء المجتمع الإنساني، من خلال قراءة الأبعاد القيمية في المجتمع وفق المنهج القرآني والعمل على تفعيلها.

5. أثبت البحث أثر القيم العبادية في التكامل الإنساني عن طريق إرساء دعائم العلاقة السليمة بين الإنسان وخالقه.

6. أظهر البحث روعة توظيف الخطاب العلوي في معالجة أمراض المجتمع، لاسيما في الجوانب الأخلاقية التي تُشكل جوهر حركة الإنسان الإيمانية.

ص: 26

هوامش البحث:

1. ينظر: أعلام الهداية 2 / 290.

2. نهج البلاغة / 329، 330.

3. البحر المحيط 2 / 101.

4. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة 418، 419.

5. نهج البلاغة / 452، من وصية له عليه السلام 47.

6. سورة الضحى: آية: 4، 5.

7. الإمامة والسياسة 1 / 89.

8. سورة القلم: آية: 4.

9. الإنسانية المثالية عند الحسن بن علي عليها السلام، دراسة تحليلية في تراثه / 55.

10. سورة البقرة: آية: 153.

11. ينظر: في رحاب القرآن 8 - سنة التعميم في القرآن / 168.

12. ينظر: مکارم الأخلاق ورذائلها 2 / 42.

13. نهج البلاغة 4 / 40.

14. بحار الأنوار 68 / 96.

15. تصنیف غرر الحکم 175 - 190 و 331 - 330، المعجم الموضوعي لنهج البلاغة 140 - 150 و 216 - 239.

16. نهج البلاغة / 186، 187.

17. أعلام الهداية 2 / 289.

18. سورة النساء: آية: 59.

19. نهج البلاغة / 185.

20. سورة النساء: آية: 27.

21. سورة الأحزاب: آية: 21.

22. سورة الأنعام: آية: 90.

23. بحار الأنوار 5 / 59.

24. الأمن الإنساني في خلافة الإمام الحسن عليه السلام / 61.

25. نهج البلاغة / 170.

26. نهج البلاغة / 457.

ص: 27

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. الأثر القرآني في نهج البلاغة دراسة في الشكل والمضمون، تأليف د. عباس علي حسين الفحام، ط 1، 1430 ه - 2010 م، لبنان - بيروت.

2. أعلام الهداية 2 / الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لجنة التأليف في المعاونية الثقافية للمجمع العلمي لأهل البيت عليهم السلام ، ط 6، 1630 ه - 2009 م، لبنان - بيروت.

3. الإمامة والسياسة، أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت 276 ه)، ط 3، 2009 م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

4. الأمن الإنساني في خلافة الإمام الحسن عليه السلام - دراسة مقارنة بين مفاهيم القرآن والعترة ومفاهيم الأمم المتحدة رؤى نظرية أم وسائل تطبيقية، السيد نبيل الحسني، ط 1، 1438 ه - 2016 م، مؤسسة علوم نهج البلاغة، العراق - كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة.

5. الإنسانية المثالية عند الحسن بن علي عليهما السلام (دراسة تحليلية)، تأليف الدكتور رحیم کریم علي الشريفي ، ط 1، 1435 ه - 2014 م ، دار البرهان، بيروت - لبنان.

6. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي (ت 1111)، ط 2، 1403 ه - 1983 م، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان.

7. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي محمد بن يوسف الغرناطي (ت 745 ه)،

ص: 28

ط 2، 1392 ه - 1978 م، دار الفكر.

8. تصنیف غرر الحکم، عبد الواحد الآمدي التميمي من علماء القرن الخامس الهجري.

9. في رحاب القرآن 8 - (سنة التعميم في القرآن)، محمد مهدي الآصفي، ط 1، 1424 ه - 2003 م، المشرق للثقافة والنشر، یاران - طهران.

10. المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، اویس کریم محمد (معاصر)، مجمع البحوث الإسلامية، ط 2، 1408 ه، مشهد.

11. مکارم الأخلاق ورذائلها، ولي أمر المسلمين السيد علي الخامنئي، إعداد السيد علي عاشور، ط 1، 1428 ه - 2008 م، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان.

12. نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ط 1، 131 ه - 2010 م، مطبوعات دار الأندلس النجف الأشرف، بيروت - لبنان.

ص: 29

ص: 30

أوصاف خَلْق الانسان في نهج البلاغة الخطبة الغرَّاء العجيبة إنموذجا دراسة أسلوبية

اشارة

م. د. سحر ناجي المشهدي

ص: 31

ص: 32

المقدمة

في هذه الدراسة سنسلط الضوء على أهمية الالفاظ الواصفة للخلق الانساني في وصف الامام علي (عليه السلام) في نهجه الثري تفصيلا وبيانا، وبيان أهم الأوصاف التي جاءت في (الخطبة العجيبة أو الخطبة الغرّاء) التي بينت أوصاف الانسان منذ بدأ تكوينه نطفة فعلقة ثم مضغة..... الخ.

و فيها بيان لعظمة الخالق في وصفه للانسان، إذ ركزت دراستنا على انسانية الامام في وصفه بالفاظ متداولة مستنبطة من النهج القرآني الذي تعدد فيه وصفه الخلقي الانساني الذي أخذ بعدين في هذا الوصف (البعد او الدلالة الحقيقية و البعد او الدلالة المجازية)، واكثر خطب النهج التي حفلت بهذه الأوصاف هي هذه الخطبة؛ و لعل السبب في وسمها بهذا الاسم لوصفها الانساني الخلقي.

و دراستنا تقوم على الوصف التحليلي للخطبة ودراسة الالفاظ تحليلا لغة واصطلاحا ومن ثم دراستها داخل السياق العلوي ووظيفة المفردة اللغوية جمالية واداء.

فشغلت الفاظ مراحل خلقه مساحة واسعة من الخطاب العلوي غطى فقرات كاملة و مستقلة، و منهجنا في البحث هو الدراسة التحليلية الأسلوبية التركيبية؛ لفهم طبيعة النص العلوي و معرفة اسراره، وقد تنوعت مصادر البحث فجاءت تاريخية و بلاغية وادارية و شروح للنهج، و آخر دعوانا ان الحمد لله رب الهالمين و الصلاة و السلام على نبي المرسلين سيدنا محمد و آله و صحبه أجمعين.

أولاً: الخطبة الغراء (النَّص):

قالَ أميرُ المؤمنين عليُ بن أبي طالبٍ (عليه السَّلام): «أمْ هَذا الذَّي أنْشَأه في

ص: 33

ظلماتِ الأرحامِ، و شُغُفُ الأستارِ، نُطْفة دِهاقاً، و عَلَقَة محاقا، و جنیناً و راضعاً، وولِيداً و يَافعاً، ثمَّ منحَه قلباً يافعاً، ولسَاناً لافِظاً، وبَصَراً لاحِظاً، ليفهمَ مُعتبراً، ويقصّر مزدجراً، حتى إذا قامَ اعتداله، واستوى مثاله، نفرَ مستکبراً، وخَبطَ سادِراً، ماتحاً في غرب هواه، کادحا سعياً لدنياه، في لذات طربه، و بذوات أربه ثمَّ لايحتسب رزية، ولا يخشع تقية، فماتَ في فتنته غريراً، وعاشَ في هفوتهِ يسيراص، لم يُفِد عوضاً، و لم يقضِ مُفترضاً، دهمته فجعات المنية في غبر جماحه، و سنن مراحه، فظلّ سادراً، و باتَ ساهراً، في غمرات الآلآم، و طوراق الأوجاع و الأسقام، بين أخٍ شقيق، ووالد شفيق، وداعية بالويلِ جزعاً، و لادمة للصَّدِر قلقاً، والمرء في سكرةِ ماهثة، و غمرة كارثة، و أنّةٍ موجعة، و جذبة مكربة، و سوقة متعبة، ثم أدرج في أكفانه مبلسا، و جذب منقادا سلسا، ثم ألقي على الاعواد رجیع و صب، و نضو سقم، تحمله حفدة الولدان، و حشدة الاخوان، الى دار غربته، و منقطع زورته، و مفرد وحشته، حتى اذا انصرف المشيع، و رجع المتفجع، أقعد في حفرته نجيا لبهتة السؤال، و عثرة الامتحان. و اعظم ما هنالك بلية نزول الحميم، و تصلية الجحيم، و فورات السعير، و سورات الزفير، لافترة مريحة، و لادعة مزيحة، و لاقوة حاجزة، و لاموتة ناجزة، و لاسنة مسلية، بين اطوار الموتات، و عذاب الساعات! إنا بالله عائذون!

عباد الله، أين الذين عمروا فنعموا، و علموا ففهموا، وانظروا فلهواء وسلموا فنسوا! امهلوا طويلا، و منحوا جميلا، و حذروا اليما، ووعدوا جسيما! احذروا الذنوب المورطة، و العيوب المسخطة.

أولي الأبصار و الاسماع، و العافية و المتاع، هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار! أم لا؟ «فأنى تؤفكون«! أم أين تصرفون؟ أم

ص: 34

بماذا تغترون! وإنما حظ احدکم من الأرض، ذات الطول و العرض، قید قده، متعفرا على خده! الآن عباد الله و الخناق مهمل، والروح مرسل، في فينة الارشاد وراحة الاجساد، و باحة الاحتشاد، و مهل البقية، و أنف المشية، و إنظار التوبة، وانفساح الحوبة، قبل الضنك و المضيق، و الروع و الزهوق، و قبل قدوم الغائب المنتظر و إخذة العزيز المقتدر». نهج البلاغة: خ 83 / 71 - 74

ثانياً: الدراسة:

«أمْ هَذا الذَّي أنْشَأه في ظلاتِ الأرحامِ، و شُغُفُ الأستارِ، نُطْفة دِهاقاً، و عَلَقَة

محاقا، و جنيناً و راضعاً، وولِيداً و يَافعاً(1).

بدأ الامام (عليه السلام) خطبته ببيان خلقة الانسان و ما انعم عليه من نعم ظاهرة وباطنة مستفهما ب(أم) التي أختلف شُراَّح النهّج فيها، اذعدها المعتزلي (ابن ابي الحديد) على احد الوجهين: إمَّا أن تكون (استفهامية) على حقيقتها، أو (منقطعة) بمعنى (بل) بل اتلو علیکم نبأه(2)، أما البحراني فرجح الاستفهام؛ لأنه في معرض التقريع و اعتبار النفس و الخلقة على جزئیات النعم، وكأن (أم) معادلة لهمزة الاستفهام والتقدير: أليس الله فيما اظهره من العجائب عبرة للانسان، أما الخوئي فقال: «لايخفى مافي ماذكره من الاغلاق و الابهام بل عدم خلوه من الفساد، إذ لم يفهم من كلامه أن (أم) متصلة ام منفصلة، فان قوله: (أم) للاستفهام مع قوله: وكأن (ام) معادلة همزة الاستفهام يفيد کون (أم) متصلة إلا أنه ينافيه قوله هو استفهام في معرض التقريع لأنّ (أم) المتصلة لابدّ أن تقع بعد مزة التسوية»(3).

ثم أتم كلامه بأنه يجوز جعل (أم) متصلة مسبوقة بهمزة الاستفهام اي اذکرکم وأعظکم بما ذکرته وشرحته لكم أم أذكركم بهذا الذي حاله كذا و كذا، ويجوز

ص: 35

جعلها منفصلة مسبوقة بالهمزة للاستفهام الانکاري الإبطالي، و التقدير أليس فيما ذكرته تذكرة للمتذر و تبصرة للمتبصر، بل في هذا الانسان الذي حاله فلان، واختتم قائلا: «وهذا كله مبني على عدم كون الخطبة ملتقطة و أن لا يكون قبل قوله (عليه السّلام) أم هذا (آه)، حذف وإسقاط من السيد، وإلا فمعرفة حال (أم) موقوفة على الاطلاع و العثور بتمام الخطبة(4)

وقوله: (في ظلمات الارحام) هما ظلمنا البطن و الرحم، اذ خلق الانسان بالترتیب (عناصر و مرکبات تغذيه ثم أخلاط وبعدها النطفة و العلقة و المضغة و العظلم و اللحم)

قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(5).

وجاء في ترتيب احواله و تنقل السن به الى ان يتناهی شبابه في فقه اللغة و سر العربية: «مادام في الرحم فهو جنين فإذا وُلِد فهو وليد ومادام لم يستتم سبعة أيام فهو صديغ، لأنّه لا يشتد صدغه الى تمام السبعة ثم مادام يرضع فهو رضيع ثم اذا قطع عنه اللبن فهو فطيم «و جاء في ترتيب سن الغلام «يقال للصبي اذا وُبِد رضيع وطفل ثم فطيم ثم دارج ثم حَفْر ثم يافع ثم شَدخ ثم مُطَبَّخ ثم کوکب»(6).

وذكر لنا (عليه السلام) اثنان وعشرون اسماً منصوباً (نطفةً، علقةً، جنيناً، راضعاً، و ليداً، يافعاً، معتبراً، مزدجراً، مستكبراً، سادراً، ماتحاً، کادحاً، لا يحسب، لا يخشع، غریرا، مبلسا، منقادا، سلسا، رديع، صب، نضو سقم، و نجيا) كلها أحوال، و العامل فيها ما قبلها من الأفعال، و (سعیًا) مصدر و (في

ص: 36

الذات طربه) متعلق ب (کادحاً) و قد يحتمل الحال، و (تقية) مفعول لأجله، و(يسيراً) صفة، و تقديره زمانا يسيرا، و (جزعا، قلقاً) منصوبان على المفعول له(7).

بدأ الامام حديثه عن خلقة الانسان ذاماً له عن نشأته في (ظلمات الأرحام): و الظلمات قد تكون ظلمة البطن و الرحم و المشيمة، و شغف الأستار و الشُغُف غلاف القلب، ثم بدأ يتحدث عن مراحل تكوينه؛ تحقيراً له متصدراً بالنطفة، و ذكر العناصر ثم المركبات التي تغذيه (نطفة، علقة، مضغة، عظام، لحوم،..... الخ)

ثالثا: الألفاظ التي تدلُّ على مراحل خلق الانسان:

1. النًّطفة: ورد هذا اللفظ في اكثر من موضع من النهج(8).

ف«النون و الطاء و الفاء اصلان أحدهما جنس من الحلي، و الآخر ندوة و بلل، ثم يستعار و يتوسع به، و النطفة هي الماء الصافي»(9).

وقد اطلقت في القرآن الكريم للدلالة على الماء القليل للرجل، الذي يكون منه الولد، فالفاظ القران لم تطلق لتحبس ولكنها وجدت ليتم تداولها و الارتقاء بدلالتها(10).

وتشكل المرحلة الأولى لتشكيل الجنين، وقد وردت في قول الإمام (عليه السلام) تحقيرا للانسان قائلا: «أم هذا الذي أنشأناه من نطفة دهاقاً»(11)، فوصفت ب(دهاقا)، و الدَّهَقُ: خشبيتان يُغمَزُ بهما الساق، و كأس دِهاق: مَلأى. و أدهقتها: شددتُ ملأها(12).

وجاء هذا اللفظ مفردا في ستة مواضع أخرى من النهج، منها قوله (عليه

ص: 37

السلام): «و قد رأيت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم»(13).

وقال في موضع آخر: «ما لابن آدم و الفخر أوّله نطفة و آخره جيفة و لايرزق نفسه ولايدفع حتفه»(14)

وجاء هذا اللفظ مجموعا على زنة (فُعَلُ): «كلاّ و الله إنهم (الخوارج) نطف في أصلاب الرّجال و قرارات النساء»(15)، و مجموعا على زنة (فِعَال) في قوله الى عامله على الصدقات: «و ليروحها (الناقة) في الساعات و لیمهلها عند النطاف و الاعشاب»(16).

2. العَلَقة: وهي المرحلة الثانية من رحلة الجنين في رحم أمه وتطلق من قبل و العَلَقُ: الدَّمُ الجمد قبل أن ييبس و قطعته عَلَقة(17).

قال ابن فارس: «العين و اللام و القاف أصل كبير صحيح يرجع الى معنی واحد، وهو أن يناط الشّيء بالشيء العالي. ثم يتسع الكلام فيه، و المرجع كله الى الاصل الذي ذكرناه، ... و العلق: الدم الجامد، و قياسه صحيح، لأنه يعلق بالشيء؛ و القطعة منه عَلَقَة»(18)

قال تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ»(19)

وخلق الانسان اي ابن آدم، من دم، وأراد بالانسان الجمع، فكلهم خلقوا من علق بعد النطفة، و العلقة قطعة من الدم الرطب، وخص الانسان بالذكر تشریف له؛ اذ بين قدر نعمته عليه بأنه صار بشراً سوِّيا من علقة مهينة(20) و يبدأ العلوق في اليوم السابع لللقيح، فتعلق النطفة في جدار الرحم(21).

(مِحَاقاً) «ام هذا الذي أنشأناه في ظلمات الارحام...... نطفة دهاقا و علقة محاقا»، ويقال لمحقه الله فانمحق: ذهب خيره و برکته و نقص، وهو آخر الشهر

ص: 38

اذا انمحق الهلال فذهب(22).

جعل العلقة محاقا؛ لأنّها لم تحصل لها الصورة الانسانية بعد.

3. الجَّنين: مادام في الرحم يسمی جنینا قال تعالى: «وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ»(23) الجيم و النون أصل واحد، وهو الستر، يقال: أجنت الحامل الجنين أي الولد في بطنها و جمعه أجِنَّة(24).

4. الرَّاضِع: مابعد الولادة فيكون راضعا يمتص ثديها، قال ابن فارس: «الراء و الضاد و العين أصل واحد، وهو شرب اللَّبن من الضّرع أو الثّدي. تقول رَضِع المولود يرضَع»(25)

قال في صفة اصحاب الجمل: «وان اعظم حجتهم لعلى انفسهم يرتضعون أما قد فطمت»(26)

وعلى زنة (فَعَال) «فلما احلولت لكم الدنيا في لذتها و لا تمكنهم من رضاع اخلاقها»(27)

و متصلا ب(ها): «حتى تقوم الحرب بكم على ساق.... حلوا رضاعها»(28)

و جاء اسم الفاعل (راضع) في صفة الانسان إذ قال الامام (عليه السّلام) «أنشأناه في ظلمات الارحام... و جنینا و راضعا«(29)

5. الوليد: الولد: اسم يجمع الواحد و الكثير للذكر والانثى، و الوليد هو الصبي، و الوليدة الامة، ويقال: وَلَدُ الرجل ووُلْدُه في معنىً، و وَلَدُه و رَهْطُه في معنىً، و شاة والد: حامل، و الجميع وُلَّد(30).

قال ابن فارس: «الواو واللام و الدال: أصل صحيح، و هو دليل النَّجل و النسْل، ثم يقاس عليه غيره. من ذلك الوَلد، و هو للواحد و الجميع، و يقال

ص: 39

للواحد وُلْدٌ أيضاً«(31)

و تکرر لفظ (مولود) منها قوله (عليه السلام): «من الوالد الفان، المقر للزمان، المدير العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، و الظاعن عنها غدا؛ الى المولود المؤمل مالايدرك»(32)

و فيها وصية الامام لابنه الحسن (عليه السَّلام) جمع فيها اصناف المواعظ و النصائح، فجرد نفسه الزّكية والداً للكل او مثالا لكل الاباء، وابنه الحسن ولدا لكل الأولاد فهو امام مبشر ومنذر بلا سلاح.(33)

6. الفطيم: فطمت الصبي أمّه تفطمه: تقطعه عن الرِّضاع، و الغلام فطيم و مفطوم، و الجارية فطيمة و مفطومة(34).

قال ابن فارس: «الفاء و الطاء و الميم أصل صحيح يدلُّ على قطع شيء عن شيء. يقال: فَطَمَت الأم ولدها، و فطمت الرجل عن عادته.. ومنه فِطام الأم ولدَها»(35).

و جاء فطيما على زنة (فعيلا) في قوله (عليه السّلام):(36)

7. اليافع: اليَفاع: التلُّ المُنيف، و كل شيء مرتفع يَفاع، و غلام يفعة، وأيفعَ ويَفَعَ اي شبَّ و لم يبلغ، وجمعه أيفاعٌ(37).

قال ابن فارس: «الياء و الفاء و العين: كلمة تدلُّ على الارتفاع. فالیَفَاع: ماعلا من الارض. ومنه يقال: أيفعَ الغُلام، إذا علا شبابه، فهو يافع ، ولا يقال مُوفِع»(38).

ص: 40

رابعاً: أنواع السجع في الخطبة الغرّاء:

السجع أو الفاصلة هي الكلمة الاخيرة في القرينة، و يسميها بعضهم قافية النثر(39).

ويعرف بأنه: «توافق الفاصلتين في الحرف الاخير من النثر»(40)

وأتضح في خطب الامام هيمنة السجع على النصوص. وقد تنوعت أنواع السجع:

1. السجع المطرف: و هي ان تتفق الكلمتان في حروف السجع لا في الوزن(41).

2. و عرفه ابن الزملكاني (ت 651 ه) قائلا: «فان فات الوزن سمي مطرفا»(42)

3. وذهب عبد العزيز عتيق بأنه ما: «اختلفت فيه الفاصلتان او الفواصل وزنا واتفقت رویا»(43)

4. المرصع: ماكانت احدى القرينتين من الالفاظ او اكثر مافيها مثل مايقابله من الاخرى في الوزن و التقفية أو ماتفقت فيه الفاظ احدى الفقرتين او اكثر في الوزن و التقفية.

5. المتوازي: ما اتفقت فيه الفاصلتان في الوزن و التقفية

6. المتوازن: ان تراعى في الكلمتين الاخيرتين من القرينتين الوزن دون التقفية(44). و يبدو ان نهاية بيت الشعر تسمى القافية ونهاية النثر سجعا ونهاية الآية فاصلة(45).

ويحتوي السجع على مؤثرات صوتية نغمية تتردد بشكل سلسا، ومن خلالها يستطيع الفرد ايجاد روابط بين طرفي الكلام للمتكلم و المخاطب، فيحدث ايحاءات بلاغية جمالية مما يجعل النص قويا متماسكا غير مجتزء، اذ تتشابه نهايات الفقرات و

ص: 41

سنقوم بتقسيم الخطبة الى فقرات لمعرفة انواع السجع الواردة فيها:

7. السجع المطرف: ورد هذا النوع من أنواع السجع في عدة مواضع من الخطبة و منها:

حتى إذا قامَ اعتداله: ا ع / ت / دَ ا / لُ / هُ 7 حروف

واستوى مثاله: مِ / ثَ ا / لُ / 5 حروف

اختلف الوزن بين المقطعين ف(اعتداله) على زنة (افْتِعَالهُ) و (مِثالُهُ) على زنة (فِعاله)؛ الا أنهما اتفقا في الروي لكل منهما (لُهُ)، وأفعالهما (قامَ و استوی) يدلان علی کمال الخلقة

(حتى اذا قام اعتداله) بتناسب و استقامة فأتمَّ خلقه و تناسبت اعضاؤه و كملت قوته فلما اتمّ خلقه نفی و استكبر و لم يأتِ ما امر وادركه الموت، و ذهب البحراني الى أنه استعار الغب لهواه فيملأ به ذو الغرب غربه من الماء و رشح الاستعارة بذكر المتح، لأن طرفي التشبيه مذکور و هو تشبیه بلیغ، و لأن الهوى يكون سببا لملأ الصحائف للاعمال(46).

و جاء السجع المطرف ايضا في قوله (عليه السلام): «نفر مستکبرا و خبط سادرا»

وتقطيعه: نفرَ مستکبراً: نَ / فَ / رَ / مُ س / تَ ك / بِ / رَاً 7 حروف

و خَبطَ سادِراً: خَ / بَ / طَ / سَ ا / دِ / رَاً 5 حروف

و الفاصلتان (مُسْتَكْبِراً، سَادِرَاً) اختلفا في الوزن (مُفْتَعِلاً، فَاعِلَاً)؛ إلاّ إنّهما اتفقا في في حروف الروي و التقنية (راً). وأفعالهما (نفر و خبط) على زنة (فَعَلَ) يدلان على الامتناع و الإباء و هي من صفات الانسان المغرور، و النفر: «النون

ص: 42

والفاء والراء: أَصل صحيح يدل على تجافٍ و تباعد. منه نفر الدّابة و غيره نِفاراً، و ذلك تجافيه و تباعده عن مكانه و مقره»(47).

أما الخبط «فالخاء والباء و الطاء أصلٌ واحد يدلُّ على وطءٍ و ضَرب. يقال خبط البعير الأرض بيده: ضربها. ويقال خَبَط الوَرَقَ من الشَّجَر، وذلك اذا ضربه ليسقُط»(48).

و قوله: مَاتِحاً في غرب هواه: هَ / و ا / هُ 4 حروف

کادِحا سعياً لدُّنياه: لِ / دُ ن / يَ ا / هُ 6 حروف

فالفاصلتان (هَواهُ دُنْيَاهُ) اختلفتا في الوزن؛ لكنّهما اتفقتا في في الروي لكل منهما (اه) و الفاظ (ماتِحاً و کادِحاً) على زنة (فاعِلاً)يدلان على اسم الفاعل (من قام بفعلي المتح و الكدح، و هما من صفات الانسان ف(المتح): الميم و التاء و الحاء أصيل يدلُّ على مَدَّ الشّيء وإطالته، و متح النهار: امتدَّ، والمَتح الاستقاء(49).

والكَدْح: الكاف و الدال و الحاء أصل صحيح يدلُّ على تأثير في شيء، و کدحه خدشه و کدح کسب زمنه قوله« إنّك كادح «ای کاسب(50).

لم يُفِد عوضاً: عِ / وَ / ضَ اً

و لم يقضِ مُفترضاً: مُ ف / تَ / رِ / ضَ اً

اتفق حرفا الروي (ضاً)، و اختلفا في الوزن ف(عِوَضَاً) على زنة (فِعَلاً)، و (مُفْتَرِضَاً) على زنة (مُفْتَعِلاً).

و قوله (عليه السلام): «ثم أدرج في أكفانه مبلسا و جذب منقادا سلسا»

مُبلِساً: مُ ب / لِ / سَ اً

ص: 43

سَلِسَاً: سَ / لِ / سَ اً

والفاصلتان (مُبْلِسَاً) و (سَلِسَاً) اتفقتا في حرفي الروي (سَاً) و اختلفتا في الوزن؛ ف(مُبْلِسَاً) على زنة (مُفْعِلاً) و(سَلِسَاً) على زنة (فَعِلاَ)، وأفعالهما (أدْرِجَ) و (جُذِبَ)

ف(أُدرِجَ، و جُذِب) دليل على أنّه مسيَّر، و أكفان و منقاد

حتى اذا أنصرف المُشِّيع: ا ل / مُ / شَّ / يِ ع

و رجع المُتفَجِّع: ا ل / مُ / تَ / فَ / جِ ع

فالمُشَيِّع: على زنة مُتَفَّعِل، والمُتَفَجِّع على زنة (مُتَفَعِّل) واتفقا في الروي (ع) فهو سجع مطرف، و(المُشَيِّع و المُتَفَجِّع) لفظان يدُّلان على من قام بحمل الميت لوداعه لمثواه الاخير

و أنْظِرُوا فَلَهوْا: أَن / ظِ / رُو / فَ / لَ / هُ و

سُلِّمُوا فَنَسُوا: سُ ل / لِ / مُ و / فَ / نَ / سُ و

اتفقت الفاصلتان في حرفي الروي (وا) واختلفتا في الوزن؛ ف (لَهَوا) على زنة (فَعَوا)، و (نَسُوا) على زنة (فَعُوا)، وافعالهما (أنظِرُوا) و (سُلِّمُوا)

احْذَرُوا الذُّنوب المُوَرِّطَة و العُيُوب المُسْخِطَة:

ا ل / مُ / وَ ر / رِ / طَ ة

ا ل / مُ س / خِ / طَ ة

اتفقت الفاصلتان في حرفي الروي (طَة) و اختلفتا في الوزن؛ ف(المُورِّطَة) على زنة (المُفعِّلَة)، و (المُسْخِطَة) على زنة (المُفْعِلَة)

ص: 44

والملاحظ التوافق بين (الذُّنوب و العيوب) فكلاهما على زنة (فُعُول) وهي صيغة جمع الكثرة، و الملاحظ أن الأمام وصف الذنوب ب(المُورِّطة) للدلالة على عظم هذه الذنوب

ووصف العيوب بصفة (المُسْخِطَة) للدلالة على السخط.

الأسماع: أَ ل / أ س / مَ / عِ

المَتَاع: أ ل / مَ / تَ / عِ

اتفاقهما في الروي دون الوزن

و قوله (عليه السلام): «فأنى تؤفكون أم أين تُصرَفُون! أم بماذا تَغْتَرُّن»

تٌ ؤ / فَ / كُ / وُ ن 6 حروف

تُ ص / رَ / فٌ / وٌ ن 6 حروف

تَ غ / تَ / ر رُ / وُ ن 7 حروف

اتفق السجع (تؤفكون و تصرفون) في حرفي الروي و الوزن؛ فكلاهما على زنة (تُفْعَلُوُن)؛ و لكنهما لم يتفقا في الوزن مع الفاصلة الثالثة (تَفْعَلُوُن) فأتفقوا في الروي واختلفوا في الوزن و هي من السجع المطرف، فختم المقاطع بحرف النون مسبوقا بحروف المد يحدث التطريب وهو ما اشار اليه الزركشي اذ ذهب الى ان ختم المقاطع بحروف المد و اللين واتباعها بالنون هي حكمة التمكن من التطريب(51).

تقول د. عائشة عبد الرحمن: «لعل جلال الفواصل القرانية في نسقها الفريد، يعفينا من لدد خصومة بين اصحاب اللفظ واصحاب المعنى، لا يعرفها

ص: 45

ذوق العربية المرهف في البيان الاعلى بالكتاب العربي المبين«(52).

المَضِيق: مَ / ضِ / يِق على زنة (مَفعِل)

الزُّهُوق: ز زُ / هُ / وُ ق على زنة (الفُّعُول)

اتفاق في الروي دون الوزن فهو سجع مطرف.

8. السجع المتوازي: ورد هذا النوع في اكثر من موضع من هذه الخطبة و منها:

((نطفة دِهَاقاً و علقة مِحاقاً)): نُ ط / فَ / ةٍ / د / ه ا / ق ا 9 حروف عَ / لَ / قَ / ةٍ / مِ / حَ ا / ق ا 9 حروف

ف(دِهاقَاً، مِحَاقَاً) علی زنة (فِعَالَاً) تساوى فيهما الوزن و حرف الروي فجاء (اقا) لكل منهما فهو من السجع المتوازي، و افعالهما (دهق) و (محق)، و فيهما يقول ابن فارس: (دهق): «الدال و الهاء و القاف يدلُّ على امتلاء في مجيء و ذهاب واضطراب. يقال أدْهَقْتُ الكأسَ: ملأتُها. قال الله تعالى: «وَكَأْسًا دِهَاقًا»(53)

و محق: الميم و الحاء و القاف كلمات تدلُّ على نقصان. و حقه: نقصه. و كلُّ شيء نقص وُصِف بهذا، و المَحاق: آخر الشَّهر إذغ تمحقَّ الهلال»(54) و نطف: «النون والطاء و الفاء أصلان أحدهما جنس من الحلي، و الآخرة نُدُوَّة و بلل، ثم يستعار و يتوسع فيه(55).

جَنيناً راضِعاً و وليدا يافعا: جَ / نِ ي / نَ اً / رَ ا / ضِ / عَ اً 10 حروف وَ / لِ ي / دَ ا / فِ / عَ اً 10 حروف

فالجنين و الوليد كلاهما على زنة (فَعِيل) تشابه وزنهما دون الاتفاق في حرف

ص: 46

الروي، و (رَاضِعَاً، يَافِعَا) على زنة (فَاعِلاً) اسم الفاعل من الفعلين (رضَعَ و يَفعَ) تشابه فيهما الوزن و الروي فجاء (عا) لكل منهما.

لَ ا / فِ / ظَ اً: 10 حروف

لَ ا / حِ / ظَ اً: 10 حروف، فجانس بين (لافظاً و لاحظاً) في الحركات و الوزن، واختلف بحرف واحد وهو عين الكلمة (الفاء و الحاء)، والجناس يبعث في الذهن للمتلقي و السامع تجاوب موسيقس تتماثل الفواصل فيه فتشد الاسماع و تهتز تاقلوب، و لتقوية جرس الالفاظ وجب الانتباه للسامع بألفاظ متجانسة، و السجع هو سجع متوازي اتفقا في الوزن و القافية.

لِيفهم مُعْتَبِرَاً: لِ / يَ فْ / هَ م / مُ ع / تَ / بِ / رَ اً 11 حرف

و يقصّر مزدجراً: يُ / قَ صُ / رُ / مُ ز / دَ / جِ / رَ اً 10 حروف

نلحظ تنويعاً في ايقاع السجع؛ وذلك لأنّه (عليه السلام) في مقام التعليل، والفرق بين المقطعين بحرف واحد، و السجع متزازي، اتفقت الفاصلتان في الروي (رَاً)، و في الوزن (مُفْتَعِلَاً)

في لذَّات طربه: لَ ذ / ذَ ا / تِ / طَ / رَ / بِ ه 4 حروف

و بدوات أربه: بَ / دَ / وَ ا / تِ / أَ / رَ / بِ ه 4 حروف

و الجناس واضح بين اللفظين و الاختلاف بينهما بحر في (أ، ط)، اتفقت الفاصلتان في الروي (ربه)، و في الوزن (فَعَلِهِ).

و الأرب: الهمزة و الراء و الباء لها اربعة اصول اليها ترجع الفروع: و هي الحاجة و العقل و النصيب و العَقد. فأما الحاجة فقال الخليل: الأرَب الحاجة، و ما أربك الى هذا، اي ما حاجتك وهو العقل، و منه الفوز و المهارة بالشيء، وهو

ص: 47

نصيب اليسر من الجزور(56).

ثمَّ لا يحتسب رَزِّية: (لا) رَ / زِ ي / يَ ه النبر (يَ ه)

ولا يخشع تَقِّية: (لا) تَ / قِ ي / يَ ه (يَ ه)

وكلا اللفظين منفیان ب(لا) النافية غير العاملة، وهي تنفي حدوث الفعل في الزمنين الحاضر والمستقبل و الفعلان (يحتسب و يخشع) يدلان على

والرَزِّية و التَّقية على زنة (فَعِّية) اتفقا في الوزن وفي حرفي الروي (ية)

فماتَ في فتنته غريراً: غَ / رِ ي / رَ اً

و عاشَ في هفوتهِ يسيرا: يَ / سِ ي / رَ اً

و کلا اللفظين على زنة (فعيلا) اتفقا في الوزن و في حرفي التقفية (رَ اً) وهو سجع متوازي،

و هنا مقابلة ضدية بين (مات و عاش)، وهنا يصور الامام (عليه السّلام) مرحلة اخرى ينتقل فيها الانسان الى رحلة جديدة، فمات: أصلها موت «الميم و الواو و التاء أصل صحيح يدلُّ على ذهاب القوة من الشّيء. منه المون: خلاف الحياة«(57).

دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ المَنِيَّةِ في غُبَّرِ جِمَاحِه: غُ ب / بَ / رِ / جِ / مَ ا / حِ / هِ

و سَنَنِ مِرَاحِهِ: سَ / نَ / نِ / مِ / رَ ا / حِ / هِ

وبين (جماحه و مراحه) اتفاق في الوزن (فعاله) و التقفية (احه)

فظلّ سادراً: فَ / ظَ ل / لَ / سَ ا / دِ / رَ اً 8 حروف

و باتَ ساهراً: بَ ا / تَ / سَ ا / هِ / رَ اً 8 حروف

ص: 48

وأفعال (ظلَّ وبات) يدلان على الاستمرارية، و(سادِراً و ساهِراً) بينهما جناس مضارع اذ اختلفا في حرف واحد وهو (الدال و الهاء) مع تقاربهما في المخرج، اتفقا في الوزن وفي التقفية، فجاء كلاهما على زنة (فاعلاً) وفي التقفية (رَاً) وبينهما سجع متوازٍ.

و السادر الخبط: خبط البعير اذا ضرب بيديه الى الارض، و مشي لايتوقی شيئا، و السادر: المتحير، و السادر: الذي لايهتم ولا يبالي ماصنع و يحتمل كلاهما.

السادر هاهنا (المغمى عليه) وكأنه السكران، و أصله من سدر البعير من شدة الحر وكثرة الطّلاء بالقَطِران فهو كالنائم لايحس، وأريد به (المرض)، و (لادِمة للصدر): ضاربة له، و التِدام النساء: ضربهنَّ الصدور عند النياحة. سكرة مُلْهِثة: تجعل الإنسان لاهثاً لشدّتها(58).

في غمرات الآلآم: ا ل / ء ا / لَ ا / مِ 7 حروف

و طوراق الأوجاع و الأسقام: ا ل / أ و / جَ ا / عِ 7 حروف

ا ل / أَ س / قَ ا / مِ 7 حروف

التوافق بين (الالام، الأوجاع، الأسقام) وهي الفاظ تدل على (الالم و الوجع و الضيق)

وكلها على زنة (أفْعَال) و هو جمع قلة

بين أخٍ شقيق: شَ / قِ ي / قِ ن

و والد شفيق: شَ / فِ ي / قِ ن

فالاتفاق في الوزن (فعيل) و القافية (يق)، و هو من السجع المتوازي، و

ص: 49

التناسب بين (أخ و والد) و كلاهما يدلان على صلة القربى

تحمله حفدة الولدان: حَ / فَ / دَ ة / ا ل / وِ ل / دَ ا ن 11 حرف

وحشدة الاخوان: حَ / شَ / دَ ة / ا ل / أ خ / و ا ن 11 حرف

تماثل الفواصل في عدد الحروف و المقاطع، و الجناس بين (الولدان و الاخوان) الذين يمثلون الاقارب، والسجع متوازي اتفقت حروف الروي (ان)، وتشابها في وزنيهما (فعلان) ، و(حفدة و حشدة) تدلُّ على صلة القرب.

الى دار غربته: غُ ر / بَ / تِ / هِ

و منقطع زورته: زَ و / رَ / تِ / هِ

و مفرد وحشته: وَ ح / شَ / تِ / هِ

اتفقت الفواصل (غربته و زورته و وحشته) في الوزن (فعلته) والقافية (تِه) فهو سجع متواز، و الفاظ (دار و منقطع و مفرد) نجد فيها

و اعظم ما هنالك بلية نزول الحميم

نزول الحميم: ا ل / حَ / مِ / ي م

و تصلية الجحيم: ا ل / جَّ / حِ / يِ م

و فورات السَّعير: ا ل / سَّ / عِ / يِ ر

و سورات الزَّفير: ال / زَّ / ف ي ر

و لفظ (أعظم) لفظ تفضيل و (ما) زائدة، دليل على أن أشدّ انواع العذاب هو (نزول الحميم)

ص: 50

جاءت الفواصل متوافقة بين (حميم و جحيم) کلاهماعلى زنة (فعيل) مسبوقة بأداة التعريف (ال) اتفقا في الوزن والقافية فالسجع متواز، و كذلك (السَّعير و الزَّفير) علی زنة (الفَّعيل اتفقا في الزنة و الروي (ير) و الالفاظ كلها تدلُّ على العذاب و البلاء و الجزاء.

وتناسق مجيء (فورات و سورات) على زنة جمع مؤنث سالم ليدل على قلتها.

لا فَترَة مُرِيحَة: (لا) مُ / رِ ي / حَ ه

ولا دَعَةٌ مُزِيحَة: (ولا) مُ / زِ ي / حَ ه

ولا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ: (ولا) حَ ا / جِ / زَ ه

و لا مَوتَةٌ ناجِزَةٌ: (ولا) نَ ا / جِ / زَ ه

اتفقت الفاصلتان (مريحة و مزيحة) في الوزن (فعيلة) وحرف الروي (حة) وهو من السجع المتوازي، وبين (حاجزة و ناجزة) على زنة (فاعلة) واتفقا في حرف الروي (جزة) وهو سجع متواز.

وتكررت في المقاطع (لا) النافية الزائدة للتوكيد، و بعدها جاء مصدر المرة (فترة، دعة، قوة، موتة) ويدل على المبالغة و القوة

بين أطوار الموتات و عذاب السَّاعات إنا بالله عائذون!

أطوَار المَوتاتِ: ا ل / مَو / تَ ا / تِ

و عَذَابِ السَّاعَاتِ: ا ل / سَّ ا / عَ ا / تِ

و کلا اللفظين على زنة (فعلات) وهو جمع مؤنث سالم؛ فلم يأتِ بالموت طورا واحدا، و لم يأتِ بعذاب ساعة واحدة؛ بل جاء بهما جمعا مؤنثا سالما اتفقت

ص: 51

الفاصلتان في الوزن، و في حرفي الروي (ات) وهو سجع متواز.

عباد الله، أين الذَّين عُمِّروا فَنَعِمُوا، و عُلِّمُوا فَفَهِمُوا، و أنْظِرُوا فَلَهوْا، و

سُلِّمُوا فَنَسُوا!

عُمِّروا فَنَعِمُوا: عُ م / مِ / رُ و / فَ / نَ / عِ / مُ و

عُلِّمُوا فَفَهِمُوا: عُ ل / لِ / مُ و / فَ / فَ / هِ / مُ و

وافعال الجواب (نُعِمُوا، فُهِموا) مبنية للمجهول، و الملاحظ اتصال الكلام بالفاء الواقعة في جواب الاستفهام ب(أين)

أُمهِلُوا طَوِيلاً، و مُنِحُوا جَمِيلاً، و حُذِّرُوا ألَيمَاً، و وُعِدُوا جَسِيماً!

أُمهِلُوا طَوِيلاً: أُ م / هِ / لُ / و طَ / وِ ي / لَ ن

مُنِحُوا جَمِيلاً: مُ نِ / حُ و / جَ / مِ ي / لَ ن التماثل في حروف الروي بین (لن)

حُذِّرُوا ألَيمَاً: حُ ذ / ذِ / رُ و / أَ / لِ ي / مَ ن

و وُعِدُوا جَسِيماً: وُ / عِ / دُ و / جَ سِ ي / مَ ن التناسب في الروي فتلفظ (من)؛ إلاّ أنَّها تكتب (لاً)، و اتفقت الفواصل في وزنها على زنة (فَعِيلَاً) وجاء موقعهما مفعولا به لافعالهم

مَنَاص: مَ / نَ / ا ص

خلاص: خَ / لَ / ا ص

اتفاق في الوزن (فَعَال) وفي الروي (ا ص)

معاذ: مَ / عَ / ا ذ

ص: 52

مَلاذ: مَ / لَ / ا ذ

اتفاقهما في الوزن (فَعَال)، و في القافية (اذ)، و بينهما جناس غير تام، فاختلف اللفظان في عين الفعل (العين و اللام)

فِرار: فِ / رَ / ا ر

مِحار: مِ / حَ / ار

اتفاقهما في الوزن (فِعَال)، و في التقفية (ار)

الأرض: أ ر / ض العرض: عَ ر / ض

اتفاقهما في الوزن (الفَعْل) والروي (رض)

مهمل: مُ ه / مَ ل مرسل: مُ ر / سَ ل

اتفاقهما في الوزن (مُفْعَل)، و في حرف الروي (ل)

البقية و المشية و التوبة و الحوبة

9. السجع المتوازن: جاء هذا النع في عدد من مواضع الخطبة و كما يأتي:

((أم هذا الذي أنشأناه في ظلمات الأرحام، و شغف الأستار)):

الالفاظ - مقطع الفاصلة - عدد الحروف

الأرحام أ ل / أَ ر / حَ ا م 5 حروف

الاستار أ ل / أ س / تَ ا ر 5 حروف

استعمل الامام السجع في الفاصلتين، و هما (الأرحام، و الأستار) على زنة (أفْعَال) و هو وزن جمع قلة، و ختم بالمقطعين (حام و تار)، فأتفقا في الوزن دون

ص: 53

الروي وهو من السجع المتوازن، والفاظ ( ظلمات، الأرحام، والأستار): كلها تدلّ على (الخفاء و الستر)

ثمَّ منحَه قلباً يافعاً، و لسَاناً لافِظاً، و بَصَراً لاحِظاً،

يَ ا / فِ / عَ اً: 10 حروف

لَ ا / فِ / ظَ اً: 10 حروف

لَ ا / حِ / ظَ اً: 10 حروف

وكلًا من (يافعاً، لافظاً، لاحظاً) على زنة (فاعلاً) اسم فاعل، اتفقت (يافعا) و (لافظا، لاحظا) في الوزن دون الروي فهو من السجع المتوازن، و اشتقت الفاظهم من أفعال مختلفة (يفع) و (لفظ، لحظ) لكن الافعال كلها تدلُّ على وظيفة أجزاء البناء الجسماني للانسان؛ فالقلب هو الحافظ للمودة و الحب.

واللحظ: «لحظ العين؛ و لحَاظُها: مؤخرها عند الصُّدْغ»(59)، و اللسان يدل على وظيفة تأدية الكلام فيلفظ الكلام و اللفظ: «اللام و الفاء و الظاء كلمة صحيحة تدل على طرح الشَّيء؛ و غالب ذلك أن يكون من الفم. تقول: لفظ بالكلام يَبقِظ لَفظَا»(60).

و البصر يدل على الرؤية واللحظ و البصر: «

وداعية بالويلِ جزعاً: جَ / زِ / عَ اً

و لادمة للصَّدرِ قلقاً: قَ / لِ / قَ اً

اتفقا في الوزن (فَعِلَاً)، واختلفا في الروي (عاً، قَاً)

و المرء في سكرةِ ملهثة: مُ ل / هِ / ثَ ة

ص: 54

و غمرة كارثة: كَ ا / رِ / ثَ ة

و أنّةٍ موجعة: مُ و / جِ / عَ ة

و جذبة مكربة: مُ ك / رِ / بَ ة

و سوقة متعبة: مُ ت / عِ / بَ ة

اتفقت الفواصل في الوزن، فجاءت (مُلهِثة، مُوجِعَة، مُكرِبة، مُتْعِبَة) على زنة (مُفْعِلَة) واختلفت في القافية او (الروي) فهو سجع متوازن. ثم ذكر صفات حال الميت (و المرء في سكرة ملهثة) و (غمرة كارثة) قال الامام: «ثم ادرج في أكفانه مبلسا: حزينا، وجذب منقادا سلسا، سهلا لين، ثم القي على الاعواد، الاسرة، رجيع وصب و نضو سقم، من جهة ابتلائه بتارات الامراض کالابل الرجيع الذي يردد الاسفار (تحمله حفدة الولدان و حشدة الاخوان)

ثم ألقي على الاعواد رجیع و صب و نضو سقم

رجيع و صب: وَ ص / بٍ

و نضو سقم: سَ ق / مٍ

اتفق اللفظان فجاءا على زنة (فَعْلٍ) واختلفا في الروي، فهو سجع متوازن.

المُنتَظَر: مُ ن / تَ / ظَ ر (المُفتَعَل)

المُقتَدر: مُ ق / تَ / دَ ر (المُفتَعَل)

اتفق اللفظان في رویهما (ر) و في وزنيهما فهو سجع متوازن.

ويبدو لنا أن الأمام استخدم اسلوب التقريع لينبه الانسان على أنه مازال في حال التربية، و مسؤوليته إزاء اصحابه تدفعهه إلى الصلاح. و فيه تصویر عجز الانسان امام صنع الخالق و قدرته.

ص: 55

خامساً: الخاتمة

بعد هذا الرحلة مع (الفاظ الانسان في نهج البلاغة) توصل بحثنا إلى عدد من النتائج التي اجملت بالآتي:

1. كان لهذه الخطبة أثر كبير في حياة المسلمين في عهد الامام علي (عليه السلام)؛ إذ كشفت علاقة الانسان بربه، و علاقته مع نظيه من بني آدم، فقدم الامام وصايا إلى المجتمع الاسلامي بأسره وهي تهتم بالانسان، و علاقته بالخالق الجليل، فنهى النفس عن الأمل و الاعتماد على طول الاجل، وانتقاله من نطفة في رحم امه الى تشييع جثمانه الاخير وذكر (المشيع و المتفجع) و هي الفاظ تدلُّ على صورة الانسان وهو منقاداً الى حفرته و مثواه الاخير

2. وصور الجزاء بألفاظ (الحميم، السعير، الزفير، الجحيم) وفيها دلالة على الضيق و الحزن وذكر (الالام، الاسقام و الاوجاع) التي دلت على الوجع و الالم.

3. وظف الامام علي (عليه السلام) الالفاظ الدَّالة على خلق الانسان اتبّاعا لما جاء في القرآن الكريم؛ فبدأ بنطفة و علقة و جنین ثم راضع، و ولید، فطيم، و یافع، وكلُّها ألفاظ تدلُّ على مراحل تكوينه الجسماني، و هو ترتیب جاء أغلبه في المؤلفات التي تتناول المعجمات الموضوعية ك(فقه اللغة و سر العربية) للثعالبي.

4. تنوعت فواصل السجع في هذه الخطبة الغراء فجاءت بين المطرفة و المتوازية والمتوازنة؛ إلاّ أنَّ السجع المتوازي احتلَّ النصيب الوافر من هذه الخطبة ك(دهاقا و محاقا) و (راضعا و یافعا) و (معتبرا، ومزدجرا) ومن بعده المتوازن

ص: 56

ک(جزعا و قلقا) و (ملهثة و موجعة و مکربة ومتعبة) ومن ثم المطرفة ك(طربه و اربه) و (مستكبرا و سادرا) و

5. كثرت الاساليب البلاغية في الخطبة من تشبیه و جناس وهي من المحسنات التي تنمق الكلام و تزينه، و جاء الجناس غير التام في مواضع كثيرة من الخطبة ك(سادرا، و ساهرا) و شقيق، و شفيق).

6. و آخر دعوانا أن الحمد للهّ رب العالمين و الصلاة و السّلام على نبينا محمد وآله.

هوامش البحث:

(1) نهج البلاغة: خ 83 ، 71.

(2) ظ: شرح نهج البلاغة 344

(3) منهاج البراعة: 6 / 27 و شغف الاستار: غلاف القلب استعاره للمشيمة

(4) ظ: المصدر نفسه.

(5) المؤمنون 12 - 14

(6) فقه اللغة وسر العربية: الثعالبي: 76.

(7) ظ: منهاج البراعة: 6 / 27 و ظ: في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية:

(8) ظ: المعجم المفهرس لالفاظ النهج: 1486.

(9) مقاییس اللغة (مادة نطف): 5 / 440.

(10) دلالة الالفاظ: ابراهیم انیس: 106

(11) نهج البلاغة: خ 83، 72

(12) مقاییس اللغة: 3 / 364

(13) نهج البلاغة: خ 48، 47

(14) نهج البلاغة: الحكم القصار 454، 418.

(15) نهج البلاغة: خ 60، 53

(16) نهج البلاغة: ك 25، 284

(17) ظ: العين: 1 / 161

ص: 57

(18) مقاییس اللغة: 4 / 125

(19) العلق / 2

(20) ظ: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي: 20 / 107.

(21) ظ: الكليات و الجزئيات في القران الكريم: 18

(22) ظ: مقاییس اللغة: 3 / 56

(23) النجم / 32

(24) مقاییس اللغة: 6 / 21

(25) مقاییس اللغة: 2 / 400

(26) نهج البلاغة: خ 22، 37

(27) المصدر نفسه: خ 105، 106

(28) المصدر نفسه: خ 138، 139

(29) المصدر نفسه: خ 83، 72.

(30) ظ: العين: 8 / 71.

(31) مقاییس اللغة: 6 / 143

(32) نهج البلاغة: ك 31، 292

(33) ظ: منهاج البراعة: 20 / 6

(34) ظ: العين: 7 / 442

(35) مقاییس اللغة: 4 / 510

(36) نهج البلاغة: خ 192، 219.

(37) ظ: العين: 2 / 261

(38) مقاییس اللغة: 6 / 157.

(39) ظ: البرهان في علوم القران: الزركشي: 1 / 53

(40) المصدر نفسه:1 / 76.

(41) المصدر نفسه: 1 / 79، و ظ: الاتقان: السيوطي: 2 / 1.

(42) التبيان في علم البيان المطلع على اعجاز القرآن: 178.

(43) علم البديع: عبد العزيز عتيق: 217.

(44) ظ: الاتقان: 2 / 1.

ص: 58

(45) الصوت اللغوي في القرآن: محمد حسين الصغير: 144.

(46) ظ: منهاج البراعة: 6 / 28

(47) مقاییس اللغة: 5 / 459

(48) المصدر نفسه: 2 / 241.

(49) ظ: مقاییس اللغة: 5 / 293

(50) ظ: المصدر نفسه: 5 / 167

(51) البرهان في علوم القرآن: 1 / 89

(52) الاعجاز البياني للقران: 279

(53) مقاییس اللغة: 2 / 307

(54) المصدر نفسه: 5 / 301.

(55) ظ: المصدر نفسه: 5 / 440

(56) مقاییس اللغة: 1 / 90.

(57) مقاییس اللغة: 5 / 283

(58) ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 6 / 345

(59) مقاییس اللغة: 5 / 238

(60) المصدر نفسه: 5 / 259

ص: 59

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1. الاتقان في علوم القرآن: لجلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، دار الكتاب العربي، 1999.

2. الاعجاز البياني للقران و مسائل ابن الازرق (دراسة قرانية و بيانية)، ط 2، دار المعارف - القاهرة، 1984.

3. الايضاح في علوم البلاغة: محمد بن عبد الرحمن بن عمر جلال الدين القزويني (ت 739، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، ط 3، دار الجيل، بیروت

4. البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله (ت 794 ه)، تحقیق:

محمد ابو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، صیدا، بیروت، 1972 م.

5. الجامع لأحكام القرآن: لمحمد بن احمد الانصاري، دار الفكر، د.ت.

6. شرح نهج البلاغة: ابن ابی الحدید، تحقيق: محمد ابراهيم، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 2007 م.

7. فقه اللغة و سر العربية: لابي منصور الثعالبي (ت 430 ه)

8. كتاب العين: لابي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 100 - 175 ه) تحقيق: مهدي المخزومي و ابراهيم السامرائي، د.ت.

9. معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين احمد بن فارس بن زکریا (ت 395 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، د.ت.

ص: 60

10. الكليات و الجزئيات في القرآن الكريم (دراسة دلالية): رسالة ماجستير (سلام محمد یاسین) باشراف أ. د. يحيى عبد الرؤوف جبر، جامعة النجاح الوطنية، نابلس - فلسطين، 2011.

11. في ظلال نهج البلاغة (محاولة لفهم جديد): شرح: محمد جواد مغنية، دار الكتاب الاسلامي، 2005.

12. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبیب الله الهاشمي الخوئي، تحقیق: علي عاشور، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 2003 م.

13. دلالة الالفاظ: ابراهیم انیس ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1978 م.

14. نهج البلاغة و المعجم المفهرس لألفاظه: ط 1، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1990 م.

15. نهاية الايجاز في دراية الاعجاز: فخر الدين الرازي، مكتبة الاداب، مصر، 1367 ه.

16.ظ: التبيان في علم البيان المطلع على اعجاز القرآن: ابن الزملكاني کمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم (ت 651 ه)، تحقیق: د احمد مطلوب و د. خديجة الحديثي، ط 1، مطبعة العاني، بغداد، 1964 م.

17. علم البديع: عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، 1985.

18. الصوت اللغوي في القرآن: محمد حسين الصغير، ط 1، دار المؤرخ العربي، بيروت - لبنان، 2000 م.

ص: 61

ص: 62

الخطاب العلوي والولاة دراسة في استراتيجية الخطاب ودلالتها السياسية

اشارة

د. طالب حسين كلية الإمام الكاظم (عليه السلام)

ص: 63

ص: 64

مقدمة

يعد موضوع السلطة واحداً من أخطر المواضيع في الحياة الاجتماعية، وتتأكد خطورته في المجتمع الأسلامي، كون أن من يمسك السلطة فيه تكون له السيطرة على الأموال والنفوس التي اكد الشارع المقدس على حرمتها شبه المطلقة، فجعل الأصل فيها الحرمة في حين جعل الأصل في الأمور الأخرى الحل والبراءة.

ولهذه الخطورة الكبرى كان للسلطة حضور بارز في خطاب أمير المؤمنين عليه السلام کما عكسته نصوص نهج البلاغة، وهي نصوص مع صراحتها في بيان هذه الخطورة دينيا واجتماعيا وسياسيا، تثير اشكالية عندما نقرئها في ضوء منهج تحليل الخطاب المعاصر واستراتيجياته، حيث نجد ان هذه النصوص والخطاب في حالة كون المرسل اليه واليا له عليه السلام منتجة وفق استراتيجية واحدة وهي الاستراتيجية التوجيهية، في الوقت الذي يوجد تباین كبير بين الولاة من حيث علاقتهم بأمير المؤمنين عليه السلام في رؤيته لادارة المجتمع ومسؤوليات الوالي، فهناك من كان متاهيا مع شخصية أمير المؤمنين عليه السلام، وهناك من لم یکن يحمل الرؤية نفسها، بل نجده ينحرف عنه في أول اختبار حقيقي.

ومن هنا كان هذا البحث وإشكاليته، إذ حسب النظرية الحديثة في تحليل الخطاب، إن لكل خطاب إستراتيجية خاصة يستند اختيارها وإنتاجها على طبيعة العلاقة التي تربط المرسل بالمرسل إليه؛ التي بدورها لها تأثيرها على الهدف من الخطاب، مما يعني أن التنوع النوعي لعلاقة أمير المؤمنين مع ولاته؛ يفترض انتاج خطاب متنوع الاستراتيجية وليس خطابا باستراتيجية واحدة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، نجد ان الاستراتيجية التي أُنتِج خطاب أمير المؤمنين بها، في ادواتها و آلياتها - کما سيتضح في البحث - تضع الوالي في زاوية المسؤولية

ص: 65

والمساءلة، وهو أمر يتنافى مع خطاب الاسلام السياسي الاثني عشري الذي يمنح السلطة بعد ثيوقراطي وإمتيازا وفوقية على المجتمع ، بحيث ترجح كفته على كفة المجتمع عند التعارض في ادارته.

ووفق هاتين الجهتين كان لهذا البحث هدفان:

الاول: محاولة تحديد الدلالة التي تستبطنها وحدة استراتيجية أمير المؤمنين عليه السلام في خطابه لولاته، التي يمكن أن تفسر لنا عدم انتاجه بأحد الاستراتيجيات الاخرى التي تتوافق مع علاقته بولاته، قربا وبعدا.

الثاني: محاولة تحديد مدى شرعية ومصداقية خطاب الاسلام السياسي الذي يمنح السلطة بعدا ثيوقراطيا، وهل يجد له سندا في خطاب السلطة عند أمير المؤمنين عليه السلام.

والبحث في هدفيه هذين، إنطلق من قراءة كون الخطاب عندما انتج بهذه الاستراتيجية من قبل أمير المؤمنين عليه السلام أراد إيصال رسالة إلى المسلمين مفادها: أن لا كرامة للسلطة الا اذا أقامت حق وأزالت باطل، وان صاحب السلطة ليس له أي امتیاز دیني، بل المراقبة والمسؤولية والحساب علية أشد وأقسی.

وللتحقق من صحة هذه القراءة وإنتسابها فنيا إلى خطاب أمير المؤمنين عليه السلام، تم بناء البحث في ثلاثة مباحث تنتهي بخاتمة واستنتاج، وهي الآتي:

المبحث الأول: تم فيه تحديد الاطار النظري الذي ستتم معالجة موضوع البحث من خلاله ادواته وآلياته، فتم فيه تحديد ماهية الخطاب وانواع استراتيجياته، وبيان عناصره التي لها دور في استنطاق دلالة الخطاب.

المبحث الثاني: في هذا المبحث تم إستقراء نماذج من خطاب أمير المؤمنين

ص: 66

عليه السلام لولاته حسب درجات علاقتهم معه، وبيان الاستراتيجية الى انتجت فيها، التي ستكون الموضوع الذي سيستنطق في المبحث الثالث من حيث دلالته السياسية.

المبحث الثالث: سيمثل هذا المبحث المرحلة الأخيرة في اختبار القراءة التي تم الانطلاق في حل اشكالية البحث، حيث سيتم بيان التضاد بين الاستراتيجية التي أُنتج فيها خطاب أمير المؤمنين عليه السلام، وبين طبيعة العلاقة التي تربطه بولاته، وبيان الدلالة السياسية لهذا التضاد.

وأما الخاتمة فهي لبيان أهم نتائج البحث، التي ستمثل المعيار في تقييم خطاب الاسلام السياسي الاثني عشري المتعلق بطبيعة السلطة في المجتمع، والتي سيكون ها دورها الفكري والفني في حماية المجتمع من التسلط عليه باسم الدين و مذهب أهل البيت عليهم السلام.

ص: 67

المبحث الأول الخطاب بين اللغوي واللالغوي

اولا: البنية اللالغوية:

يعد لفظ الخطاب من الالفاظ التي تطورت دلالتها في الثقافة اللغوية العربية، فبعد ان كان ترادف لفظ الكلام والحديث(1)، صار اخص منهما، بعد أن أخذ دلالة اصطلاحية تتضمن عديد من المفاهيم نتيجة اختياره مقابلا لمصطلح discourse الذي بدوره تطور من «الدلالة اللسانية الكلاسيكية التي كانت تقابله مع الجملة واللسان الى الدلالة في لسانیات الخطاب التي تقوم بما يأتي:

1. انه تنظيم يتجاوز الجملة، فيستنفر بنیات غير الجملة مثل كعبارات الحظر التي لا تأخذ الشكل اللفظي للجمل قواعديا مثل عبارة لا تدخين.

2. ان هذا التنظيم لابد ان يكون موجه فهو زيادة على كونه مصمم حسب مرمی المتكلم فانه يتطور في الزمان.

3. انه شكل من اشكال الفعل اي انه عمل من المتكلم يهدف الى تغيير وضعية، وينظر اليه في اطارات نفسانية واجتماعية متنوعة.

4. انه متفاعل حيث ينسق الطرفان ملفوظاتهما كل حسب موقف الآخر بما يشمل ما هو غير لفظي مثل شأن المخاطب.

5. انه مظروف بمقامه فلا يكون المقام مجرد إطار او زينة تحيط به، بل ان الخطاب نفسه قد يقوم بتحديد مقامه وأن يحوره اثناء التلفظ.

6. انه مُتكَفَّل به فهو يرجع الى جهة هي مصدر التحديدات الشخصية والزمانية

ص: 68

والفضائية وتبين ما هو الموقف الذي تتوخاه مما تقول ومن مخاطبها.

7. انه محکوم بمعايير فهو يخضع كل سلوك اجتماعي لمعاییر اجتماعية عامة زيادة على معايير خاصة خاصة بقوانين الخطاب، فكل عمل تلفظ لا يمكن أن يقع من دون أن يسوغ حقه في تقديم نفسه بالصورة التي هو عليها.

8. ان الخطاب لا يكون له معنى الا داخل عالم خطابات اخرى يشق لنفسه طريقا خلالها، فالخطاب الفلسفي لا يستشهد دلاليا بالطريقة نفسها في الخطاب الاعلامي».(2)

ونتيجة لهذه العناصر فان الخطاب صار ينظر اليه على انه فعل لغوي يتضمن جانبين: «جانب شكلي وجانب وظيفي... يتضح الأول في كون الخطاب بناء او كتلة تفوق أو تساوي الجملة، وبالتالي فهو مكون من وحدات متماسكة ومنسجمة، واما الجانب الثاني؛ فينظر إلى الخطاب بانه استعمال اللغة من طرف الفاعل المتكلم»(3)، وهما متولدان من البعد القواعدي والبعد التداولي للغة، فان نحوية كل لغة توجب أن يخضع شكل الخطاب الى قواعد موضوعية لابد ان يلتزم بها منتج الخطاب في تشکيل بنية النص اللغوية؛ مادة الخطاب الملموسة، كما أن تداولية اللغة تمنح بعدا فنيا للنص وتبعا له الخطاب، حيث ان تنوع القواعد اللغوية وترابط المعجمي - القواعدي مع ما هو بلاغي - ابداعي يمنح منتج الخطاب القدرة على انتاج دلالات متعددة لم يكن بالإمكان انتاجها لو لم يتم الاستناد الى هذا الترابط، الذي به سيكون الخطاب اشبه ما يكون ب«جسم له ذاته وحركته وزمنه... يخضع لنظام داخلي؛ ولكنه يتحرك بحرية مستقلة... فهو لون يختلف عن النص»(4).

ومع هذا فان الخطاب لا ينتج تأثيره إلا بعد اكتمال مكوناته، وهي مكونات

ص: 69

ثلاثة لكل منها دورها في تحقق ماهية الخطاب:

1. المرسل: وهو منتج الخطاب ورسالته الذي لابد أن تكون له كفاءة لغوية وكفاءة تداولية التي من خلالها يستثمر راس ماله اللغوي والمعرفي والفكري في نص فعلي يتضمن رسالة خاصة، وهي خصوصية ناتجة عن المقصد الذي يسعى المرسل اليه الوصول اليه من خلال خطابه، فاذا كان «هدفه الاقناع فانه يختار من الادوات اللغوية والآليات الخطابية من يبلغه مراده، وان كان هدفه السيطرة مثلا يعمد الى الادوات التي تكفل تحقيقها»(5).

2. المرسل اليه: وهو مع كونه مَن يتوجه له الخطاب بعد انتاجه من المرسل، إلا أن له دوره في سلسلة انتاجه، اذ كونه مستقلا في وجوده التكويني عن المرسل، لا يمنع من أن يكون؛ من حيث انه المحل الذي يتحقق القصد فيه؛ في سلسلة العلة الفاعلية للخطاب، للارتباط السببي بين العلة الغائية والعلة الفاعلية(6)، لذا فان لغة الخطاب التي تعبر عن مقاصد المرسل تعتمد عليه، وعليه فانه یمارس بشكل غير مباشر دورا في توجيه المرسل عند اختیار ادواته والياته في صياغة الخطاب، لذا على المرسل أن يستحضر وضعه بعناصره المختلفة التي ترتبط برسالته، فيكون «المرسل اليه حاضرا في ذهن المرسل عند انتاج خطابه سواءً كان حضورا عينيا ام استحضارا ذهنيا، وهذا الشخوص أو الاستحضار... هو ما يسهم في حركية الخطاب، بل يسهم في قدرة المرسل التنويعية ويمنحه افقا لممارسة اختيار استراتيجية خطابه»(7).

3. السياق: وهو يمثل كل العناصر التي تحيط بطرفي الخطاب التي ترتبط بالظروف التي يُنتج الخطاب في اطارها، لذا یکون السياق المكون المشترك بينها بما يتضمنه من عناصر الزمان والمكان والحدث الذي يعالجه الخطاب

ص: 70

والخصوصيات المعرفية للمرسل اليه؛ وهو ما جعل السياق «ياخذ... الدور الفعال في الارسال والتلقي معا... [وذلك] ان المرسل لا يغفل السياقات في عملية انتاج لخطاب ما، كما لا يهمل المرسل اليه السياقات في فهمه لمعان ودلالات الخطاب»(8).

ثانيا: الخطاب استراتيجية بلاغية

إن الخطاب فعل كلامي تداولي؛ ينتجه المرسل لتحقيق هدف ما الذي يعد المؤثر الاساس في انتاجه ملفوظات الخطاب، كما انه يسهم في تأويلها من قبل المرسل اليه، إذ ان الخطاب «ليس مجموعة الفاظ وعبارات»(9) محصورة في اطار ما هو معجمي، وانما هو فعل انجازي تداولي لا تنتجه هذه الالفاظ والعبارات «إن لم ينجم عن المجموع الكلي لها دلالة تتجاوزها»(10).

إن هذا التجاوز انما هو عملية ابداعية من المرسل ينتجها من خلال المزج بين المعجمي والتداولي، لذا فإن الخطاب «لا يمكن او على الاقل لا يستقيم الا في اطار... الترتيب والنظام، وبالتالي فهو يفرض على اجزاء موضوعه مهما تداخلت وتشابكت وتزامنت انواعا من التقديم والتأخير»(11) وغير ذلك من من الآليات البلاغية التي تسمح بها قواعدية اللغة.

وهذا التجاوز واعادة الصياغة لما هو معجمي - قواعدي هو الاطار العام للاستراتيجية التي يستند اليها المرسل في التأثير في المرسل اليه، فهي تتمثل بكل «ما يتخذه المرسل للتلفظ بخطابه من اجل تنفيذ ارادته والتعبير عن مقاصده التي تؤدي لتحقيق اهدافه من خلال استعمال العلامات اللغوية وغير اللغوية وفقا لما يقتضيه السياق بعناصره المتنوعة ويستحسنه المرسل»(12).

ومن هنا تعددت الاستراتيجيات التي يعتمدها المرسل في انتاج خطابه

ص: 71

؛التي بدورها تعتمد على «تحقيق اهداف العملية التخاطبية... وتكون لها ميزات ومسوغات تخدم هذا الهدف»(13)، الذي يعد لهذا السبب احد معايير تصنيف استراتيجيات الخطاب، وعلى اساسه تصنف الاستراتيجيات الى الاصناف الآتية:

1. الاستراتيجية التضامنية: من خلالها يجسد المرسل علاقته بالمرسل اليه...

ومدى احترامه لها ورغبته في المحافظة عليها او تطويرها بازالة معالم الفروق بينها(14)، ويهدف المرسل باتباعها الى عديد اهداف تجمعها تعميق العلاقة مع المرسل اليه والحفاظ على الالفة بينهما(15)

2. الاستراتيجية التوجيهية: المرسل في هذه الاستراتيجية «يولي عنايته... تبليغ قصده وتحقيق هدفه الخطابي بإغفال جانب التأدب التعاملي الجزئي في الخطاب... ومن ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب ذا الاستراتيجية التوجيهية يعد ضغطا و تدخلا ولو بدرجة متفاوتة على المرسل اليه وتوجيهه لفعل مستقبلي معين»(16).

3. الاستراتيجية التلميحية: هي الاستراتيجية التي تكون فيها «البنية اللغوية الظاهرة للملفوظ مجرد ممر او معبر للوصول الى الفعل الإنجازي غير المباشر الذي يقصد اليه المتكلم»(17)، ويعتمدها المرسل عندما لا يريد تحمل مسؤولية الخطاب والعدول عن اكراه المرسل اليه او احراجه(18).

4. استراتيجية الاقناع: وهي التي يكون فيها الخطاب يهدف الى «اقناع المرسل اليه بما يراه المرسل، أي لإحداث تغيير في الموقف الفكري او العاطفي لديه»(19)، والمرسل يختارها لعديد أسباب في مقدمتها حرصه ان يتم استقبال الخطاب وتحقيق ما يهدف اليه من دون حاجة الى عنصر الضغط والاكراه، وذلك لأن «تأثيرها التداولي في المرسل اليه أقوى ونتائجها أثبت وديمومتها أبقى»(20).

ص: 72

وهنا لابد من الاشارة الى هذا التصنيف ليس بمعزل عن العلاقة بين طرفي الخطاب، لانها من ابرز عناصر السياق التي تؤثر في تحديد استراتيجيات الخطاب، إذ «لا يكفي وجود طرفي الخطاب لإتمام العملية التواصلية، فلابد من وجود علاقة ومعرفة مشتركة بينهما»(21)، وهو أمر له أهميته في خطاب امير المؤمنين عليه السلام کما سيتبين لنا في المبحث الثالث حيث ستكون طبيعة العلاقة السابقة على الخطاب لها دورها الاساس في الاستنطاق السياسي لهذا الخطاب.

ص: 73

المبحث الثاني: الولاة والخطاب التوجيهي

ان تنوع استراتيجية الخطاب ليس امرا شكليا محضا، بل هو تابع لتنوع رؤية منتج الخطاب حول موضوع الخطاب و المرسل اليه، مما يعني ان الاستراتيجية لها كاشفية مزدوجة ايجابية تتمثل بتحقيق الاسباب الموجبة لاختيارها، وسلبية تتمثل في عدم اختيار واحدة من الاستراتيجيات الاخرى التي يمكن ان تكون شكلا للخطاب.

ومن هنا لابد لنا من تحديد استراتيجية خطاب امير المؤمنين مع ولاته اولا؛ قبل استنطاق الدلالة السياسية التي تستبطنها، وفي هذا الاطار سنميز بين خطابين لأمير المؤمنين عليه السلام من حيث المرسل اليه، فهناك الخطاب الموجه الى مرسل اليه حاضر لديه بوجوده الخارجي مشخص بعناصره السياقية بحيث يكون الخطاب منتج على نحو القضية الخارجية، وهناك خطاب موجه الى مرسل اليه حاضر لديه بوجوده الذهني بحيث يكون الخطاب منتج على نحو القضية الذهنية، ولذا سنطلق على النوع الأول الخطاب الخارجي والثاني الخطاب الذهني.

اولاً: الخطاب الفعلي

في هذا النوع من الخطاب لدينا عديد من الناذج منها ما يكون المرسل اليه تربطه علاقة اقرب الى علاقة تماهي مع شخصية امير المؤمنين عليه السلام في رؤيتها السياسية العقائدية كعلاقته مع الاشتر، وهناك نماذج تكون بعيدة عن مثل هذه العلاقة كما في علاقته مع زياد بن ابيه، كما هناك من الولاة من يكون وسطا بين ذلك، وسنعرض لكل منها، مع انه يكفي النوع الاول ويكون تعميم

ص: 74

الدلالة الى النوعين الآخرين بقياس الاولوية.

1. خطاب الاشتر: المتمثل بعهده المعروف، وهو عهد تبدأ فقراته بأمر صريح تارة بالمادة وتارة بالصيغة، فالأمر بالمادة نجده في فقرات مثل:» هذا ما أمر عبد الله أمير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر...، وقوله: آمره بتقوى الله...، وقوله: وآمره بكسر شهوته...، والامر بالصيغة كما في قوله: لكن احب الذخائر إليك...، وقوله واشعر قلبك الرحمة للرعية...»(22).

کما نجد صيغ النهي في الخطاب؛ كقوله عليه السلام: «لاتنصبن نفسك لحرب الله...، وقوله: وإياك ومساماة الله...»(23).

وهذه الاوامر والنواهي جاءت بعد تصريحه عليه السلام في عتبة نص العهد أن هذا الخطاب موجه من مرسل لديه سلطة دينية - سياسية على المرسل اليه بقوله عليه السلام: عبد الله أمير المؤمنين.

كما أنه عليه السلام زيادة على استخدامه لأدوات الأمر والنهي وآلية تجاهل العلاقة الخاصة، استخدم زيادة على ذلك آلية أخری، كآلية التحذير؛ كما في قوله عليه السلام: «ان النفس أمارة بالسوء»(24)، وقوله عليه السلام: فانه لا يدي لك بنقمته(25)، وقوله عليه السلام: إن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال(26)، وقوله عليه السلام: من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجته(27).

کما يلاحظ انه عليه السلام عندما دخل في تفاصيل العهد، نجده قد أستند الى آليات لغوية يغلب عليها التحضيض والتعليل، وذكر العواقب التي تتداخل في النتيجة مع آلية التحذير، فقوله عليه السلام: وليكن احب الأمور إليك أوسطها في الحق... فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة(28)، وقوله عليه السلام: وإنما

ص: 75

عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء؛ العامة من الأمة، فليكن صغوك إليهم وميلك معهم، وقوله عليه السلام: ولا تعجلن الى تصديق ساع، فإن الساع غاش، وقوله (عليه السلام): لايدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله الى جلب إنفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق ترجو إنفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته(29)، وقوله عليه السلام: وأياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمته ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال النعمة وانقطاع سفك الدماء بغير حلها(30).

وهذه الأدوات والآليات تكشف عن كونه عليه السلام قد أتبع الاستراتيجية التوجيهية مع مالك الاشتر رحمه الله، إذ أن الصياغة الشكلية لهذه الاستراتيجية تتم من خلال الامر بأدواته والنهي والتحذير وذكر العواقب(31).

2. خطاب محمد بن ابي بكر: عندما نأتي الى هذا الخطاب، نجد أدوات وآليات خطاب الأشتر تتكرر هنا، فأمير المؤمنين عليه السلام عندما خاطبه بدء معه بالأمر، كقوله عليه السلام: أخفض لهم جناحك وأن لهم جانبك وأبسط لهم وجهك، ويعلل له اسباب هذا الإلزام من خلال آلية التحذير وذكر العواقب، بقوله عليه السلام: إن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب، فأنتم أظلم، وإن يعفو، فهو أكرم(32).

وزيادة على الأوامر؛ نجد التحضيض على الفعل من خلال صيغة التحذير بعواقب عدم القيام به، فبين عليه السلام أن متعلقات هذه الأوامر مما تعد من عدة الإنسان ليوم الآخرة، وذلك بقوله عليه السلام: فأحذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدوا له عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه

ص: 76

شر أبدا، أو بشر لا يكون معه خير أبدا(33).

3. خطاب عبد الله بن عباس: مع هذه الشخصية نجد ان التحذير هو الأداة الأبرز في الخطاب، كقوله (عليه السلام): إنك لست بسابق اجلك ولا مرزوق ما ليس لك، واعلم ان الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، وأن الدنيا دار دول، فما كان منها لك أتاك على ضعف، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك(34)، وعندما يخاطبه بأدوات الامر نجدها مقترنة بالتحذير والتذكير بعواقب الأمور، كما في قوله عليه السلام: سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب، فإنه طيرة من الشيطان، وأعلم أن قربك من الله ليباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار(35).

وهذا التحذير وذكر عواقب الأمور تطور الى تهديد فعلي بأقسى العقوبات عندما ارتكب ابن عباس مخالفة مالية، إذ خاطبه قائلا: «سبحان الله أما تؤمن بالمعاد أو ما تخاف نقاش الحساب»(36)، فنحن امام احدى آليات الاستراتيجية التوجيهية وهي السؤال التي تحصر المرسل اليه في زاوية ضيقة وذلك بضرورة الجواب الذي لن يكون في صالحه، إذ سوف يستعمله المرسل في الضغط عليه، وهو ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام، إذ بعد أن أجابه إبن عباس بأن المال الذي أخذه هو حقه في بيت المال، قال له أمير المؤمنين عليه السلام: «أما بعد؛ فإن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت المال من الحق أكثر ما لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل وإدعائك ما لا يكون؛ تنجيك من المآثم وتحل لك المحارم... فأرجع هداك الله الى رشدك وتب الى الله ربك، وأخرج للمسلمين من أموالهم، فعما قريب تفارق من ألفت وتترك ما جمعت وتغيب في صدع من الارض غير موسد ولا ممهد»(37)، فهنا كان جواب إبن عباس المنطلق في

ص: 77

توبيخه والضغط عليه كي يغير من موقفه ويرجع عنه.

كما انه عليه السلام استعمل آلية أخرى من آليات التوجيه، وهي آلية النداء التي دمجها مع آلية السؤال في سياق واحد، اذ خاطبه قائلا:» أيها المعدود عندنا - كان - من ذوي الألباب؛ كيف تستسيغ شرابا وطعاما وانت تعلم انك تأكل حراما وتشرب حراما»(38)، وهو دمج بهدف التوبيخ، إذ حسب مضمون النداء لا ينبغي له القيام بالفعل المستفهم عنه، لأنه لا ينسجم مع القيم التي نودي بها، ولكنه ذلك تخلى عنها، وهو أمر لا يجوز صدوره ممن يؤمن بقيم الدين الاسلامي وأحكامه، لذا بين أمير المؤمنين له عواقب عمله هذا؛ بقوله عليه السلام: «فأتق الله ورد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فانك إن لم تفعل ثم مكنني الله منك لأُعذِرَن مع الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحد إلا دخل النار»(39).

إلى هنا انتهينا من نماذج الولاة المقربون، وهي نماذج تدل بالأولوية على كون خطاب الولاة غير المقربين اي الذين لا يشاطرون أمير المؤمنين عليه السلام موقفه السياسي والاداري من يتولى مسؤولية حكم المجتمع، سيكون موجها لهم بالأستراتيجية نفسه، وهذا ما نجده بالفعل، ففي خطابه لزياد بن ابيه واليه على البصرة بعد ابن عباس، خاطبه بلغة الأمر الصارم «دع الإسراف مقتصدا وأذكر في اليوم غدا، وأمسك من المال بقدر ضرورتك»(40)، ثم يعقب هذه الأوامر بآلية الأستفهام، بقوله عليه السلام: «أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين وتطمع وانت متمرغ في النعيم... ان يوجب لك ثواب المتصدقين»(41)، فهنا قد ضمَّن أمير المؤمنين عليه السلام هذه الآلية آلية التحذير، لكون استفهامه استفهاما استنكاريا، وهما من آليات الأستراتيجية التوجيهیة، وهذا التحذير والتوبيخ نجده في خطاب والي آخر وهو المنذر بن جارود العبدي

ص: 78

وقد خان بعض ما ولّاه من اعماله، فقد خاطبه عليه السلام قائلا: «أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك... فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك إنقيادا ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك»(42)، وبعد هذه العتبة النصية التي محورها بيان فساده ونقصه «أخذ في توبيخه والحكم بنقصانه وحقارته»(43) بقوله عليه السلام: «لئن كان ما بلغني عنك حقا، لجمل اهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس باهل ان يسد به ثغر أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر أو يشرك في امانة، أو يؤمن على خيانة»(44). وهكذا نجد لغة الخطاب واستراتيجته في اطار واحد مع التباين في العلاقة مع المرسل اليه وهو ما له دلالته التي سنقف عليها في المبحث الثالث.

ثانيا: الخطاب الذهني

هذا النوع من الخطاب يكون موجها الى طبيعي المرسل الیه، مع غض النظر عن خصوصياته الشخصية، وقد أنتج أمير المؤمنين عليه السلام مثل هذا الخطاب عندما بين الصفات التي على من يتولى الولاية الإتصاف بها، ففي خطابه الى رعيته بدئه بالتوبيخ لهم بقوله عليه السلام:» أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المشتتة؛ الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، أُضاركم على الحق وانتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الاسد«(45)، وختمه بلغة تحذيرية تبين عواقب من يتصدى للولاية وهو ليس اهلا لها، وذلك بقوله: «قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم مهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول، فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة»(46).

ص: 79

إن هذا الخطاب فعل قولي خبري، يبين عدد من الصفات الواجب انتفاؤها عن الوالي، له فعل إنجازي تهديدي «القصد منه توجيه أفعال المرؤوسين«(47)، بقرينة عتبة نص هذا الخطاب المتقدمة التي يبن فیها أمير المؤمنين عليه السلام واقع المخاطبين بها من الباطل والنفور من الحق، إذ أن استمرارهم على هذا الواقع أمر مرفوض شرعا، مما دفعه عليه السلام الى انتاج هذا الفعل الإنجازي، لما يتمتع به من سلطة؛ وهي سلطة؛ وهي «السلطة الدينية التي تسوغ إستعمال هذه الاستراتيحية لمن يريد توجيه الناس وتبليغهم بما توجبه الشريعة، وبما تحرمه»(48).

ويظهر وجه الفعل الانجازي التهديدي من خلال بيان عواقب وجود هذه الصفات السلبية في الوالي وهي عواقب تؤدي الى ضياع الحقوق والظلم الاجتماعي وهلاك المجتمع، مع انه عليه السلام كان بمكنه ان ينتج الخطاب مستحضرا مرسل اليه مسلما يفترض فيه الالتزام بتعاليم الدين كما هو الاصل في فعل المسلم لملاك قاعدة اصالة الصحة، يبين فيه الصفات الايجابية التي لابد توفرها في الوالي، وهي الكرم والعلم والعدل والأمانة ومحيي السنة، واستعمال استراتيجية تلميحية او تضامنية تحرص على العلاقة الودية مع المرسل اليه، فهذا العدول الى الخطاب التهديدي لابد أن يستبطن دلالة تتعلق بموقف أمير المؤمنين حول منصب الحكم والولاية، وهذا ما سنحاول استنطاقه في المبحث القادم.

ص: 80

المبحث الثالث: الاستراتيجية والدلالة السياسية

قد تم الاشارة سابقا إلى أن استراتيجية الخطاب تتنوع وفق معايير ثلاثة، معيار العلاقة بين طرفي الخطاب ومعيار شكل الخطاب و معیار قصد الخطاب(49)، وإذا كانت هذه المعايير من الناحية النظرية منفصلة عن بعضها، فإنها من الناحية الوجودية مترابطة، اذ يمكن أن توجد علاقة سبية توليدية فيما بينها، التي تصل الى درجة العلاقة الجدلية، فإن منتج الخطاب لن يبدأ إنتاج خطابه إلا بعد أن يتولد لديه هدف يسعى إلى تحقيقه، وهذا الهدف وان كان من الناحية المفهومية مستقل عن طرفي الخطاب، إلا أنه في تحققه الفعلي له علاقة بالمرسل اليه، فإن طبيعة علاقته الفكرية والثقافية بالمرسل لها دورها في توليد الهدف عنده، لذا فإن العلاقة بين الطرفين «تنعكس... على تشكيل الخطاب بإختيار الاستراتيجية الملائمة التي تعبر عن قصد المرسل»(50)، وهذا الانعکاس انما هو نتيجة كون هذه العلاقة «من عناصر السياق المؤثرة... على تشكيل الخطاب»(51).

إذن على مستنطق الخطاب أن يتوقف عند العلاقة بين طرفي الخطاب في محاولته معرفة اسباب اختيار الاستراتيجية والدلالة المستبطنة لهذا الاختيار، وفيما يتعلق ببحثنا نجد أن علاقة أمير المؤمنين عليه السلام بالولاة المخاطبين لم تكن على درجة واحدة؛ فهناك الولاة القريبون وهناك الولاة الذين لا يملكون هذه القرابة، وهو ما تكشفه نصوص امير المؤمنين عليه السلام.

ص: 81

اولا - الولاة القريبون

لا نعني بالقرب هو القرب لأسباب شخصية، بل نعني القرب الناتج عن الاتفاق في الرؤية الدينية والسياسية والاتفاق في القيم التي يجب ان يحملها من يتولى المسؤولية في المجتمع المسلم، ويتمثل هؤلاء الولاة بمالك الاشتر و محمد بن أبي بكر وعبد الله بن عباس.

اما قرابة مالك، فلكونه» من وجوه الصحابة والتابعين، علاقته وإختصاصه بأمير المؤمنين عليه السلام مما اتفقت عليه الخاصة والعامة... قال فيه امير المؤمنين عليه السلام: «كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه و آله»(52)، وقد كان أمير المؤمنين يصرح في أكثر من مورد بعظم منزلته، ففي رده على إنزعاج محمد بن أبي بكر بسبب عزله وتولية مالك بدله، قال عليه السلام: «إن الرجل الذي کنت وليته مصر، كان لنا رجلا ناصحا، وعلى عدونا شدیدا ناقما، فرحمه الله، فلقد إستكمل أيامه ولاقی حمامه، ونحن عنه راضون، أولاه الله رضوانه وضاعف الثواب له«(13)، و في بيان أهليته الكاملة للولاية، خاطب اهل مصر قائلا:» أما فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله عزوجل لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الاعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار»(24)، وفي نعيه عندما أستشهد، قال عليه السلام:»... رحم الله مالكا لو كان جبلا لكان فندا، ولو كان حجرالکان صلدا، لله مالك وما مالك؟ وهل قامت النساء عن مثل مالك»(55).

إذن نحن أمام علاقة في أعلى درجات الترابط عقائديا وسياسيا، ومثل هذه العلاقة لا تقتضي الاستراتيجية التوجيهية، لان في هذه الاستراتيجية «يسعی المرسل الى تثبيت الفرق بينه وبين المرسل اليه بممارسة السلطة في خطابه... عندما يتكئ عليها عند التلفظ بالخطاب بتجسيدها في لغته»(56)، وهذا الإتكاء نجده

ص: 82

صريحا في خطاب أمير المؤمنين عليه السلام بقوله في عهده لمالك «هذا ما أمر به عبدالله أمير المؤمنين»(57)، فهو يتكلم معه بوصفه أميراً للمؤمنين أي بما يملك من سلطة، كما انه ناداه باسمه المجرد خاليا من أي وصف من الاوصاف التي اقرها له في مناسبات عديدة التي تقدمت قبل قليل، هذه الصفات التي تقتضي - وفق نظرية استراتيجيات الخطاب - ان تكون استراتيجية خطابه استراتيجية تضامنية، التي احدى مسوغات استخدامها «تطور العلاقة بين طرفي الخطاب»(58)، يسعی المرسل من خلالها إلى «الرغبة في تقريب المرسل اليه... ومنحها الأولوية في الخطاب»(59)، الأمر الذي يكون على العكس من الاستراتيجية التوجيهية التي تتجاهل هذه العلاقة في الخطاب(60).

وهذه المفارقة بين العلاقة بين طرفي الخطاب واستراتيجيته، نجدها تتكرر مع محمد بن أبي بكر، ففي الوقت الذي يصرح فيه أمير المؤمنين بالمنزلة الخاصة له، نجد استراتيجية خطابه اليه استراتيجية توجيهية، ففيما يتعلق بالمنزلة الخاصة اله عنده، فانه عليه السلام عندما نعاه عند استشهاده، قال: »عند الله نحتسبه ولدا صالحا وعاملا کادحا وسيفا قاطعا ورکنا دافعا»(21)، كما كان حريصا على مشاعره، وهو ما جسده في خطابه له عندما وصل اليه انزعاجه بسبب عزله عن ولاية مصر، إذ استخدم استراتيجية تضامنية معه، بقوله :» قد بلغنی موجدتك من تسريح الأشتر الى عملك، وانني لم ذلك استبطاء لك في الجهد ولا ازدیادا لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ماهو ایسر عليك مؤونة وأعجب لك ولاية»(62)، وهذه المنزلة لمحمد بن ابي بكر التي كشف عنها أمير المؤمنين عليه السلام، وصفته كتب علم الرجال؛ بأنه «رجل جلیل القدر؛ عظیم المنزلة؛ قريب من أمير المؤمنين... ومن السابقين المقربين منه ومن الحواريين»(63).

ص: 83

في هذه النصوص لأمير المؤمنين بحقه، نجد آلية بارزة من آليات الاستراتيجية التضامنية، وهي آلية المكاشفة مع المرسل إليه، من خلال «إستعمال الصراحة مع المرسل إليه(64)، وهي على العكس من استراتيجيته عندما خاطبه عن توليته الولاية ومنحه مسؤولية السلطة في المجتمع.

وهذا الأمر تكرر مع عبد الله بن عباس، حيث يصرح أمير المؤمنين بالمنزلة الخاصة له عنده، عندما خاطبه قائلا: «أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن من أهلي رجل أوثق منك في نفسي، لمواساتي ومؤازرتي، وأداء الأمانة عني»(65)، وهو على العموم يُعد «جلیل القدر، مدافع عن أمير المؤمنين عليه السلام»(66).

ثانيا - الولاة غير المقربين

وهم الولاة اللذين لم تكن لهم تلك المنزلة التي تقدمت للولاة المقربين، وكان إختيار أمير المؤمنين عليه السلام لهم لحسن الظاهر ولدواع إدارية بحتة، إذ الشخصيات المقربة مهما كان عددها لم تكن تكفي لسد وظيفة الوالي في كل الولايات.

وهؤلاء الولاة ومع التضاد بين علاقتهم به عليه السلام مقارنة مع علاقته بالولاة القريبين، نجد استراتيجية خطابه لهم هي تكرار للاستراتيجية نفسها مع الولاة المقربين، ففي خطابه لزياد بن أبيه عندما إستخلفه على البصرة بعد إبن عباس، قال له عليه السلام: «وإني أقسم صادقا لئن بلغني أنك خنت في في المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر والسلام»(67)، وهو خطاب له الاستراتيجية نفسها في خطابه عليه السلام إبن عباس عندما خان الأمانة في ولاية البصرة الذي تقدم في ص 12.

ص: 84

وفي خطابه الى المنذر بن جارود العبدي، بعد وصول الاخبار بأنه أساء التصرف، قال عليه السلام: «أما بعد فإن صلاح أبيك غرَّني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله... ولئن كان ما بلغني عنك حقا، لجَمل اهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك، فليس بأهل أن يُسد به ثغر، أو ينفد به أمر أو یعلی به قدر ، أو يشرك في أمانة، أو يُؤمن على خيانة»(68).

ثالثا: وحدة الاستراتيجية والدلالة السياسية

من خلال ما تقدم من تنوع العلاقة بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين ولاته، فإننا نكون أمام اشکالية نتيجتها إما طرح نظرية استراتيجيات الخطاب والنظر إليها على انها لا تصلح اطارا لتحليل الخطاب، واما تقدیم قراءة الخطاب أمير المؤمنين مع ولاته تفسر لنا انتاجه لهذا الخطاب وفق استراتيجية واحدة، هذا اولا، وثانيا لماذا كانت هذه الاستراتيجية توجيهية وليس غيرها من الاستراتيجيات الاخرى.

والسبب في هذا الانحصار لحل الاشكالية، انها جاءت نتيجة اقتضاء هذه النظرية أن تكون الاستراتيجية تابعة للعلاقة بين طرفي الخطاب، سواء في وحدتها وفي تنوعها، وحيث ان العلاقة كانت متعددة - كما تقدم قبل قليل -، كان لابد ان تتنوع الاستراتيجية، كأن تكون تضامنية او تلميحية، مع الولاة المقربين، و توجيهية مع الولاة غير المقربين، غير أننا نجد استراتيجية واحدة تعاملت مع جميع الولاة في علاقة واحدة ، بحيث تم التعامل مع المقربين وكأنهم غير مقربين.

إذن نحن امام احدى خيارين في حل الاشكالية إما التصرف في العلاقة وإما التخلي عن نظرية استراتيجيات الخطاب، وهذا الخيار الثاني غير وارد، لاسيما وانها تستند في التحليل الى لغة العرب وسننها في النحو واللاغة(69)، زيادة على انها

ص: 85

على أقل تقدیر کانت اصلا موضوعا للبحث، مما يعني إنه علينا البحث عن حل الاشكالية في طبيعة العلاقة بين طرفي الخطاب، الأمير عليه السلام والولاة، وهل انه قد قصد تغيير هذه العلاقة عند انتاج الخطاب؟

وبالفعل هذا ما قام به عليه السلام، فإن القارئ لخطابه المتعلق بالسلطة السياسية، يجده يلغي كل منزلة وخصوصية يمتلكها المخاطَب قبل استلامه السلطة، وعند استلامه السلطة سيكون في موضع الحساب والمراقبة، بغض النظر عن كونه ممن لايُخشى خيانته وانحرافه، لذا نجده عليه السلام بعد توبيخه إبن عباس وتوعده بأشد العقاب، بين له إن هذا التوبيخ والعقاب يشمل كل من يمسك سلطة ولو كانا سبطي النبي صلى الله عليه وآله؛ ولديه الحسن والحسين عليهما السلام، إذ قال له: «والله لو أن الحسن والحسين فعلا ما فعلت؛ ما كانت ما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما»(70).

إن هذا الإلغاء من أمير المؤمنين عليه السلام للعلاقة السابقة على إستلام السلطة، ناشئ عن رؤيته عليه السلام الى المسؤولية الدينية الكبيرة التي تقع على عاتقه، وعلى من يمنحه سلطة في المجتمع، إذ ان أي انحراف وخيانة في ممارسة هذه المسؤولية سيكون - وحاشاه الله - شريکا فيها، وهو ما صرح به عليه السلام، ففي خطابه لإبن عباس، قال: «ما جرى على يدك ولسانك من خير أو شر، فإنا شریکان في ذلك»(71)، ولذا كان يرى الواجب على صاحب السلطة أن يتخلى عن شأنیته الذاتية، ويتنزل الى مستوى عامة الناس، فيما هم عليه من واقع، وطبق ذلك على نفسه قبل غيره من الولاة، إذ يقول: «أأقنع نفسي بان يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم»(72).

ص: 86

والذي يؤيد هذا التحييد من أمير المؤمنين للعلاقة السابقة على الخطاب، وإلغاء دورها في اختيار استراتيجيته، أنه كان يبرز خصوصية هذه العلاقة ويشهد لمن يمتلك تلك الخصوصية بمكانته المميزة عنده، عندما يكون المخاطب خارج السلطة، وهذا ما لمسناه في خطاب الولاة المقربين، عندما يكونون في السلطة ومقارنتها مع تقييمه لهم خارج السلطة كما هو الحال في النماذج التي قدمناها.

وبالنتيجة؛ فإن استراتيجية خطاب أمير المؤمنين عليه السلام كانت على مقتضى النظرية، إذ نزل الوالي المقرب منزلة غير المقرب، ومن ثمة فإن العلاقة التي حكمت طرفي الخطاب لم تكن علاقة تضامن وقرب، بل كانت علاقة رئيس بمرؤوس، اي علاقة سلطة، وهي حسب النظرية تقتضي استراتيجية توجيهية، فلا إشكالية حينئذ.

ومن هنا ندرك مدى البعد في الرؤية بين ما يطرحه خطاب الاسلام السياسي عند بعض المنتسبين الى المذهب الاثني عشري من تصورات للسلطة في المجتمع و منحه الامتياز الثيوقراطي لمن يمسك بها، وبين رؤية أمير المؤمنين عليه السلام، فإذا الحسن والحسين ومالك الاشتر وابن عباس، تلغي كل خصوصياتهم الكمالية عندما يتعلق الأمر بالسلطة، فكيف يمنح البعض نفسه منزلة المعصوم ويكون الوصي على المجتمع!!!.

ص: 87

خاتمة واستنتاج

يمكن أن يطرح البحث خلاصة النتائج التي توصل إليها، من خلال ما تقدم من تحليل الخطاب أمير المؤمنين الموجه الى ولاته وفق نظرية استراتيجية الخطاب، في النقاط الآتية:

1. ان لكل خطاب استراتيجية خاصة تابعة لطبيعة علاقة طرفي الخطاب، یکون اختيارها، وجودا وعدما تابعا لموقف المرسل من اقراها وعدمه.

2. أن أمير المؤمنين يُحِّيد أو يُلغي العلاقة السابقة مع من يوليه السلطة السياسية.

3. أن الاستراتيجية التي انتج بها أمير المؤمنين عليه السلام لخطابه مع الولاة كانت استراتيجية توجيهية مستندا فيها الى علاقة السلطة معهم.

4. إن أمير المؤمنين يرى أن صاحب السلطة لا يملك أي امتیاز ثيوقراطي في ممارسة السلطة.

5. أن المسؤولية الدينية لمن يمسك السلطة أشد وأخطر مقارنة بمن لا يمسكها.

واستنادا إلى هذه النتائج يمكن القول: إن الثقافة التي يدعوا لها خطاب الاسلام السياسي من سلطة ثيوقراطية لا تجد لها سندا في خطاب أمير المؤمنين عليه السلام، بل انه ينفيها ويسلب عنها شرعية الانتماء الى الاسلام، مما يجعل من الواجب على اتباع مذهب أهل البيت الوقوف ضد هذه الثقافة، لأنها زيادة على لا شرعيتها الدينية، فانه تؤسس الى ديكتاتورية باسم الاسلام مما يفقدها الشرعية العقلائية والسياسية.

ص: 88

هوامش البحث:

1. ينظر: ابن فارس، ابو الحسين احمد: معجم مقاییس اللغة، ط 1، دار احیاء التراث العربي . بيروت 2001. ص 304.

2. الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت 1986، ص 103.

3. ينظر: معجم تحليل الخطاب: اشراف: باتریك شارودو - دومينيك منغنو، ترجمة: عبد القاهر المهيري - حمادي صمود، ط بلا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2008. ص 180 - 189.

4. قسمية، دليلة: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية الآداب واللغات، جامعة الخضر، الجزائر 2011 - 2012. ص 18.

5. بوحوش، رابح: الأسلوبیات و تحليل الخطاب، ط 1، مديرية النشر، الجزائر دت. ص 89.

6. ينظر الرابط: blog-post/05/2011 /Brahamiblogspot.com.

7. ينظر: الصدر، رضا: الفلسفة العليا، ط 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986. ص 146.

8. الشهري ، عبد الهادي ظافر: استراتيجيات الخطاب، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت 2004. ص 48.

9. الهيص، فريدة: استراتيجيات الخطاب في مقامات الحربري، رسالة ماجستير مقدمة لمجلس كلية الاداب، جامعة محمد خضر، بسكرة، الجزائر 2014 - 2015. ص 5.

10. الصفدي، مطاع: استراتيجية التسمية في نظام الانظمة المعرفية، ط 1، مركز الاناء القومي، بیروت 1986، ص 102.

11. م س، ص ن.

12. الجابري ، محمد عابد: تكوين العقل العربي، ط 3، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت 1988. ص 253.

13. الشهري: استراتيجية الخطاب، م س، ص 62.

14. قسيمة: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، م س، ص 79.

15. ينظر: الشهري: استراتيجية الخطاب، م س، ص 210.

16. م س، ص 261 - 262.

17. م س، ص 322.

18. م س، ص 370.

ص: 89

19. م س، ص 372 - 373.

20. م س، ص 445.

21. م س، ص 445.

22. قسمية: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، م س، ص 65.

23. نهج البلاغة ، ص 416 - 417.

24. م س، ص 417 - 418.

25. نهج البلاغة، ص 416 - 417.

26. م س، ص 417.

27. م س، ص 418.

28. م س، ص 418.

29. م س، ص 418 - 419.

30. م س، ص 434.

31. م س، ص ن.

32. ينظر: الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص

33. قسمية: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، م س، ص 90 - 116.

34. نهج البلاغة: ص 372.

35. م س، ص 373.

36. م س، ص 453.

37. م س، ص 455.

38. م س، ص 402..

39. ینظر: البحراني، میثم بن علي: شرح نهج البلاغة، ط 2، دار الحبيب، قم 1430. ص 876.

40. نهج البلاغة، ص 402.

41. م س، ص 403.

42. م س، ص 367.

43. م س، ص ن.

44. م س، ص 452.

45. البحراني: شرح نهج البلاغة، م س، ص 930.

ص: 90

46. نهج البلاغة، ص 452.

47. م س، ص 196.

48. م س، ص 197.

49. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 325.

50. م س، ص ن.

51. ينظر: الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 89، ص 114، ص 149.

52. م س، ص 88.

53. م س، ص ن.

54. الجواهري، محمد: المفيد من معجم رجال الحديث، ط 2، منشورات مكتبة محلاتي، قم 1424. ص 477.

55. وينظر: الخوئي، ابو القاسم: معجم رجال الحديث، ط 1، مطبعة الآداب، النجف الاشرف 1977. ج 14 ص 169 - 172.

56. نهج البلاغة، ص 396 397.

57. م س، ص 400.

58. الخوئي: معجم رجال الحديث، م س، ج 14 ص 171.

59. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 237.

60. نهج البلاغة، ص 416.

61. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 236.

62. م س، ص ن.

63. ينظر: م س، ص ن.

64. نهج البلاغة، ص 397.

65. نهج البلاغة، ص 396.

66. الجواهري: المفيد من معجم رجال الحديث، م س، ص 67.

67. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 302.

68. نهج البلاغة، ص 401.

69. الجواهري: المفيد من معجم رجال الحديث، م س، ص 338.

70. نهج البلاغة، ص 367.

ص: 91

71. م س، ص 452.

72. ينظر على سبيل المثال: الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 34، ص 92، ص 330.

73. نهج البلاغة، ص 403.

74. م س، ص 366.

75. م س، ص 407.

ص: 92

المصادر والمراجع

1 - ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، ط 1، دار احياء التراث العربي، بيروت 2001.

2 - البحراني، ميثم بن علي: شرح نهج البلاغة، ط 2، دار الحبيب، قم 1430.

3 - بوحوش، رابح: الأسلوبيات وتحليل الخطاب، ط 1، مديرية النشر، الجزائر د ت.

4 - الجابري ، محمد عابد: تكوين العقل العربي ،ط 3، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1988.

5 - الجواهري، محمد: المفيد من معجم رجال الحديث، ط 2، منشورات مكتبة محلاتي، قم 1424.

6 - الخوئي، ابو القاسم: معجم رجال الحديث، ط 1، مطبعة الآداب، النجف الاشرف 1977.

7 - الشهري، عبد الهادي ظافر: استراتيجيات الخطاب، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت 2004.

8 - الصدر، رضا: الفلسفة العليا، ط 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986.

9 - الصفدي، مطاع: استراتيجية التسمية في نظام الانظمة

المعرفية، ط 1، مركز الاناء القومي، بيروت 1986.

10 - الفيروزآبادي: القاموس المحيط، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت 1986.

11 - قسمية، دليلة: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية الآداب واللغات، جامعة الخضر، الجزائر 2011 - 2012.

12 - معجم تحليل الخطاب: اشراف: باتريك شارودو - دومينيك منغنو، ترجمة: عبد القاهر المهيري - حمادي صمود، ط بلا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2008.

ص: 93

13 - نهج البلاغة، ط 2، دار المختار، القاهرة 2007.

14 - الهيص، فريدة: استراتيجيات الخطاب في مقامات الحريري، رسالة ماجستير مقدمة لمجلس كلية الآداب، جامعة محمد خضر، بسكرة، الجزائر 2014 - 2015.

blog-post/05/2011 /Brahamiblogspot.com -15

ص: 94

تجليات الحجاج في الخطبة الغراء للإمام علي (عليه السلام) دراسة في وسائل الاقناع

اشارة

أ. م. د. مسلم مالك الاسدي

جامعة كربلاء / كلية العلوم الاسلامية

ص: 95

ص: 96

المقدمة

الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ وَدَنَا بِطَوْلِهِ مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَفَضْلٍ وَكَاشِفِ كُلِّ

عَظِيمَةٍ وَأَزْلٍ أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ وَسَوَابِغِ نِعَمِهِ وَأُومِنُ بِهِ أَوَّ بَادِياً وَأَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً وَأَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَإِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَتَقْدِيمِ نُذُرِهِ.

و وبعد:

في أمة تمور مورا في شتات الخلاف بين اناس سايروا طريقة محمد (صلى الله عليه واله) وتحالفوا مع الحق ونصروا المظلوم، وآخرين جانبوه وتتبعوا الشيطان وملذاته ووعوده الباطلة، وامم محيطة متربصة بالمسلمين تنتظر الانقضاض لاعادة هيمنتها ونفوذها وعزها التليد، بين هذا وذاك يقف بقية الله في الارض صادحا بالحق داعيا الى الله موجها الى الطريق القويم الى السراط المستقيم دعوة مبجلة ومدرجة في صحائف من نور تلقفها الناس حفظا ودراسة وتحبيرا فكانت النهج البليغ الذي ارتأى الباحث ان يكون بعضه ميدانا للدراسة وان تكون الخطبة الغراء هي المثال المدروس بالبحث الموسوم (تجليات الحجاج في الخطبة الغراء للإمام علي (عليه السلام) دراسة في وسائل الاقتناع) اقناع امة انجرفت بعض الشيء نحو حبائل الشيطان واخذ بعض افرادها السير في دهاليز الظلام فكان لابد من صوت صادح يوقف عجلتها الهاوية الى اتون الجحيم ويعيد نصابها الى الطريق القويم فوقف الامام خطيبا محذرا منفرا للناس موضحا المسالك وطرق الحق ومستقر متبعها ومحذرا لمن تخلف عنها من غضب الرب وناره، محاججا لهم في كل ذلك مستعملا لغة جميلة تجمع في مضانها الفخامة والجزالة والبلاغة تجتمع فيها اساليب الخبر والانشاء والبيان اساليب ابداعية اقناعية اثمرت كل منها في بناء

ص: 97

منظومة حجاجية وفرت في النهاية وكما ينقل راوي الخطبة ما اصاب القوم بعد سماعها من اقشعرار الجلود وبكاء العيون ورجفة القلوب خوفا من خشية الله وعقابه والطمع في نوال توبته وثوابه وكرمه.

لذا سنتتبع تلك الاساليب اللغوية المتوشحة بصبغة حجاجية استعملها الامام للوعظ والارشاد ولجلب القلوب والاسماع.

وسنعرض كل ذلك على شكل فقرات اولها: الاستفهام، الامر، النفي الشرط، الاستعارة، والكناية، مرتبة حسب وفرتها في النص.

1. الاستفهام:

الاستفهام احد الاساليب اللغوية والبنى التركيبية المهمة التي يلجأ اليها المرسل لكي يبعد نصوصه الابداعية عن المباشرة والتقريرية وليحقق الاثر الذي يبتغيه منها بعمل نوع من التواصل والتفاعل بينه وبين المتلقي من خلال الاستفهام عن الشيء وطلب الاجابة والاستفهام في معناه ((طلب العلم بشيء يكن معلوماً من قبل، وهو الاستخبار الذي قالوا فيه أنَّه طلب خبر ما ليس عندك، أي طلب الفهم))(1) ولكنه في الابنية الادبية يخرج عما وضع له في أصل معناه من طلب الفهم - الا نادرا - لتأدية معانٍ مجازية متعددة يساند الباث في ذلك تعدد أدوات الاستفهام وتنوع معانيها واستعمالاتها الامر الذي يسهم في منح الباث مقدرة لتحميلها بشتى الاغراض التي يرغب بإيصالها الى متلقيه ويجعلهم امام ايحاءات شتى بين الاجابة على تساءل مطلق وبين اعمال الذهن وكده لمعرفة مطلب السائل هل هو حقيقي ام ان له مآرب أخرى مجازية متوشحة بلمحة حجاجية مقصودة تتكشف بعد التركيز على عناصر السياق المختلفة وملابسات الحديث الذي ورد فيه الاستفهام وبسبب ما يتحف به المرسل من قدرة في ايصال

ص: 98

افكاره، ومن امثلة هذا العنصر في الخطبة الغراء قوله عليه السلام(2) ((فَهَلْ ينَتْظَرِ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ وَأَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ وَأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ وَأُزُوفِ الِنْتِقَالِ وَعَلَزِ الْقَلَقِ وَأَلَمِ الْمَضَضِ

وَغُصَصِ الْجَرَضِ وَتَلَفُّتِ الِسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَالْأَقْرِبَاءِ وَالْأَعِزَّةِ وَالْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ وَقَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً وَفِي ضِيقِ

الْمَضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ وَأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَعَفَتِ الْعَوَاصِفُ

آثَارَهُ وَمَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَصَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا وَالْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا وَالْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا وَلَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا)) يتوجه الامام بخطابه الى اصحابه متعجبا من جلد الانسان وشدته وعظيم كبريائه ومضائه بصورتين ركبتا بتوافق بين استفهام اول ب(هل) التي تعنى بالتصور الذي أفضى إلى انجاز فعل كلامي توشح بتموجات مستقبلية واقعة لا محالة فما بعد الشباب والجلد وغضارة الوجه الصحة، النوازل والامراض، وطول مدة البقاء، الفناء والموت والرجوع الى دار الحق بعد الغواية او الايمان في الدار الاولى فالأمام من خلال هذا العنصر قدم سؤالا ولكنه طرح الاجابة معه لأنها معروفة للداني والقاصي ولكن بين الاستفهام وجوابه اتت الفجوة التي طرحت ميدانا للحجاج فإذا كان المصير معروفا والعمر يمر كما تمر النسمة والفناء قادم والاخرة مشرعة ابوابها مستقبلة زوارها فلماذا العصيان والتخلق بالسوء والعيش بالمهالك وطلب العلو والرفعة؟.

وبعدها تعود الاداة (هل) مرة اخرى وهي ترد بالتعجب مرة اخرى لتحقق فعلا انجازيا ثانيا يمر فيه الموت حاملا في طريقة اروحا قطفت ورقتها، وساحت مع الردى، فعلا تعجبيا بين روحا مرتفعة لبارئها وبكاء الاقارب والاهل على

ص: 99

عزيز مفارق، فالأداة هل هنا لا تطلب من المتلقي الجواب عنها بل الجواب اختفت معالمه لأنه معلوم للجميع وبديهي ولكن بداهته مزلزلة لأنها تتحدث عن صدمة عميقة تحدث للإنسان عند إحساسه باقترابه من الختام، فهو لم ولن يتقبل من دون مقاومة مشهد انفصاله عن الأرض وبهائها، أو انفصاله عن أحبابه وأصحابه(3) على الرغم من علمه بحتمية الموت والخلاص، ولان هذا الامر من البديهيات القارة التي لا لبس فيها ولا نكوص ولكنه يضل راغبا في العيش فيها مها كانت ظروف عيشه، فالأمام يسأل الصحابة بصيغة الاستفهام ليصور مشهدا مستقبليا لهم وواقعا يخالج قلوبهم ونفوسهم يحسون باقترابه كلما سار بهم الزمن يتخوفون منه ولكنهم لا يقدمون لحياتهم بعده شيئا وهنا البؤرة التي التقت فيها عناصر الحجة.

وقوله(4) ((عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا وَأُنْظِرُوا فَلَهَوْا

وَسُلِّمُوا فَنَسُوا أُمْهِلُوا طَوِياً وَمُنِحُوا جَمِيلًا وَحُذِّرُوا أَلِياً وَوُعِدُوا جَسِيماً احْذَرُوا

الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَالْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ أُولِ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْعَافِيَةِ وَالْمَتَاعِ هَلْ

مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَاَصٍ أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَاَذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ

تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ وَإِنَّاَ حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَالْعَرْضِ قِيدُ

قَدِّهِ مُتَعَفِّراً عَىَ خَدِّهِ)) تستمر اليات التعجب مما يحصل من خروج على الطريقة، ومن تجاوز للحدود الربانية التي جعلت خطوطا معتمدة لا يمكن تجاوزها؛ ذكرها الامام (عليه السلام) اولا ثم يأتي بأدوات الاستفهام مستفهما عن افعال العباد متعجبا منها فمن انعم واعطي واكرم قوبل بالرفض وبالذنوب والاغترار والتجاهل على الرغم من معرفة الطريق واستشراف السبيل من لدن الانسان ومعرفته بان النهاية هي الموت الذي لابد ان يكون المرء ملاقيه يوما ولكنه على

ص: 100

الرغم من كل ذلك يتمادی بالعصيان، ولكي يكمل الامام صورته التعجبية من خلال هذا الاسلوب نراه يعمل على ان يجعل الجمل الاستفهامية متراكمة لان هذا التراكم أكسب النص بعداً دلالياً عميقاً؛ أدى إلى فتح فضاء تأويلي كبير يمنع انغلاق النص على الرغم من انتهائه(5) وهذا هو الأمر المتطلب اساسا فالمراد منه عمل نوع من التواشج بين المرء والثوابت والحقيقة التي تمثل مقداره و حجمه مقابل نعم الله وعقابه.

ومنها وقوله(6) ((وَلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالْبَاءَ وَإِخْوَانَهُمْ وَالْأَقْرِبَاءَ تَحْتَذُونَ

أَمْثِلَتَهُمْ وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَتَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَهِيَةٌ عَنْ

رُشْدِهَا سَالِكَةٌ فِي غَیْرِ مِضْمَرِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وَكَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا)).

تستمر صفة التعجب المحملة بشيء من الاستنكار المتخفية خلف اسلوب الاستفهام الذي جاء هذه المرة معتمدا على الأداة (الهمزة) التي تحمل في طياتها التصديق والتصور وتحتاج الى اجابة ولكنها اجابة انتفت الحاجة اليها في النص الان الباث لم يكن يتطلبها لأنها معروفة للمتلقي بل كان الجواب هنا داخلا في مدار التأثير وطلب الرجوع الى النفس ومراقبة المحيط او لستم أبناء القوم فأين هم؟ واین آبائكم؟ وأين اخوتكم وزوجاتكم؟ كلهم ساروا تباعا وذهبوا سراعا وتلقفهم الموت أوليس هذا الامر کافيا؟ ليعود الإنسان إلى رشده ويعيد بناء نفسه وتستقيم أخلاقه.

لقد حاول الامام من خلال هذا الأسلوب إجراء نوع من التفاعل بينه وبين المتلقي، بوساطة جعل الأخير يجيب في ذاته عن سؤال يكاد يكون جوابه ماثلا امامه ومتحققا في كل لحظة جوابا يكاد يكون هو مدارها وسنة منتهاها لا يتعدى الكائن المخيف الذي يدعى بالموت ومستقرها حفرة تسمى القبر.

ص: 101

2. الامر:

عندما يقف من يمتلك مقومات المجد والرفعة والسؤدد على اعواد الناس خطيبا وهو بليغهم وولي امرهم واعلاهم حسبا وافضلهم نسبا وأولهم ایهانا لابد ان تتوشح جمله بشيء من الأمر الذي يستعمل لتحقيق مبتغاه لذا نجد الخطبة الغراء تحتوي في مضانها شيئا مما تقدم بوساطة أسلوب يتميز بقدرته على منح المتكلم شعور بالقوة، لأنَّه في معناه الوضعي: ((صيغة تستدعي الفعل، وقول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على وجه الاستعلاء والإلزام))(7) ولكنها قوة حولها الامام للنصح والالتماس من عباد الله تقوى الله والسير في تعاليمه وتحقيق مطالبه وتقديس ذاته مستغلا تلك القوة لتحقيق معنی قصديا او تأثیرا مقصودا ((لان فعل الكلام الانجازي يتعدد بكونه فعلا انجز ضمن قول ما))(8) وهذا الانجاز نراه مرتبطا بأفعال الامر التي تلفظها الإمام أثناء خطبته يقول(9) ((فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ وَوَجِلَ فَعَمِلَ وَحَاذَرَ فَبَادَرَ وَأَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وَعُبِّرَ فَاعْتَبَرَ وَحُذِّرَ فَحَذِرَ وَزُجِرَ فَازْدَجَرَ وَأَجَابَ فَأَنَابَ وَرَاجَعَ فَتَابَ وَاقْتَدَى فَاحْتَذَى وَأُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَنَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِرَةً وَأَطَابَ سَرِيرَةً))

فعل الأمر في (أتقوا) فعل كلامي انجز الوعد والتهديد مع محاولة توجيه الافعال الى حوادث اخر لزيادة الاثر فالتقوى يجب ان توازن تقوى من سمع نداء الله وتعاليمه فخشع لها واقترف فعل الكسب واعترف بما جاء به الرب لم يكن مجانبا للحق او خارجا عن سبل الشريعة، تقوی من و جل خوفا من قوة الله فعمل الخير وسار بالصواب ورجع الى رشده وتاب عن ارتكاب المعاصي واقتدى بالصالحين واعمالهم واحتذى افعالهم، فامتلأت صحيفته بالعمل الصالح وطابت نفسه وسريرته بما لاقاه.

ص: 102

وقوله(10) ((وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ وَأَهَاوِيلِ زَللهَ

وَتَارَاتِ أَهْوَالِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ

بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ

وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ))

يعود الامام لدعوة العباد الى التقوی مکررا الفعل مرة فمرة ليحقق منه منجزا وليکمل دعوته وهذا التكرار للفعل لتحقيق غاية تأثيرية متطلبة من لدن الامام وينشدها النص (لان التكرار من الظواهر اللسانية التي تلبي حاجة نفسية وذهنية في حياة المتكلم))(11) فتكرار فعل التقوى تلبي حاجة في ذهن الامام تعايش معها منذ ولد وحاول أن يمرر شعلتها لانصاره واصحابه مذکرا و مکررا لها في اغلب مواطن اللقاء ومحددا فيها النعم وبترکها ما يجري على العباد من مهالك النقم فالتقوى يجب أن يحتذي طالبها بمن انصب الخوف من عذاب الله بدنه، وبمن اسهره التهجد وازال هو وقيام الليل عابدا نومه، وارجف ذكر الله لسانه خوفا من عذابه وسطوته وطمعا في نعيمه وكرمه.

وقوله(12) ((احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَالْعُيُوبَ الْسْخِطَةَ أُولِ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ

وَالْعَافِيَةِ وَالْمَتَاعِ)) يدخل الفعل الكلامي (احذروا) في تشكيل الأحداث المستقبلية منها والحاضرة فالحذر من ذنب يسعف الانسان بعد تمهل الى نار لا تحمد ويبعده عن جنة اعدت للشاکرین احذروا وقد منحكم الله ما يجنبكم المعاصي والآثام ومنحكم الابصار والاسماع والعافية والمتاع وكلها تتطلب الشكر ولكنها ايضا مصدر النقمة اذا ما استغلت من لدن البشر بالباطل والسوء ففعل الأمر حقق قوة انجازية حددتها إرادة المتكلم وقصده وهي ارادة متعلقة بطلب ايقاع المأمور به وعدم ایقاع المنهي عنه.

ص: 103

3. النفي:

النفي ((أسلوب لغوي يقصد به النقض والإنكار))(13) يستعمله الباث لدفع ما يتردد في ذهن المتلقي من أمور كان يعتقد بحدوثها، فيعمل على إزالة ذلك الاعتقاد و محو الشك بالنفي والإنكار(14) بوساطة جملة من الادوات (لا، ولن، وما، ولم، وليس.) وهذه الادوات تعد عوامل حجاجية توجه قول المتلقي في آن واحد(15) ((يحقق بها المتكلم وظيفة اللغة الحجاجية المتمثلة بإذعان المتلقي وتسليمه عبر توجيه الملفوظ))(16) والمتلقي الى ادراك النتيجة التي يريدها المتكلم ويعلم مغزاها لما يمتلكه هذا الاسلوب من وسائل اقناع متحققة من قوة تأثيرية تكسبه قوة حجاجية(17) تنتج من خلال السماح للمتكلم بالتعبير المتزامن عن صورتين متقابلتين الصوت الذي يتبنی جانب الاثبات وصوت المتكلم المتبني للنفي(18) وعند تتبعنا للمواضع التي ورد فيها هذا العنصر الحجاجي في الخطبة الغراء للأمام علي (عليه السلام) نراه ينفي ويقطع من خلال النفي مطالب العودة لتصحيح المسار واعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بعد ان وضع الحد ووصلت الانفس إلى مقام بارئها تنتظر حسابه يقول(19) ((الِامْتِحَانِ وَأَعْظَمُ مَا

هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ وَتَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ وَفَوْرَاتُ السَّعِيرِ وَسَوْرَاتُ الزَّفِرِ لَا فَتْرَةٌ

مُرِيحَةٌ وَلَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ وَلَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ وَلَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَلَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ بَیْنَ أَطْوَارِ

الْمَوْتَاتِ وَعَذَابِ السَّاعَاتِ إِنَّا بِاللِّهَ عَائِذُونَ))(20).

ان عاملية النفي الحجاجية في النص لا يمكن ادراكها إلا بإدراك النتيجة التي يريد المتكلم توجيه المتلقي اليها(21) فالنتيجة معروفة حددها السياق ووفرها النص فجهنم لا يفتر العذاب فيها ولا يسكن حتى يستريح المعذب من الألم ولا تكون فيها راحة ولا قوة تمكنه من حجز العذاب ورفعه ولا غفوة تسهم في تخفيف الالم

ص: 104

المبرح، كما يظهر في النص متحدثا اخر وبصورة غير مباشرة فنفي الراحه معناه هنالك تعب ونفي الدعة والسلامة معناها وجود الالم ونفي القوة تحضر مقابلها الضعف ونفي الموت معناها الحياة السرمدية المنتشية بالعذاب المتواصل إلى ما لانهاية له.

ومنها قوله عليه السلام(22): ((لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً وَلَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالً وَيَمْضُونَ أَرْسَالً إِلَی غَايَةِ الِنْتِهَاءِ وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ)) اکتسب النص بعدا حجاجيا لتكرار اداة النفي في النص مرتين وجهت المتلقي الى نتيجة واحده فالمنية لا تكف عن استئصالها للأحياء وهؤلاء لا يكفون عن عمل السيئات ويحتذون مثالا من محيطهم او ممن سبقهم من الآباء والأجداد على الرغم من معرفة هؤلاء لمستقر اولئك ومكانتهم التي تبوؤها من النار، ولكنهم تبع لهم وشيع لا يستنکفون عن مجاراتهم في الاعمال السيئة والدوام عليها.

وقوله(33): ((فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ الزُّهْدُ

شَهَوَاتِهِ وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ

السَّبِيلِ وَسَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَی النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ وَلَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِاَتُ الْغُرُورِ وَلَمْ تَعْمَ

عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَرَاحَةِ النُّعْمَى فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَآمَنِ يَوْمِهِ وَقَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَقَدَّمَ زَادَ الْجِلَةِ سَعِيداً))

لو تتبعنا النص السابق نلاحظ الاداة (لم) والتي تكررت مرتين اتت لنقض السيء واثبات الجيد فهي تساير النص الذي امعن كثيرا في وصف المومن وصفاته من وجه الاثبات والامر نفسه استمر من النفي الي انقض صفات سيئة ليدل على نقيضها فنفی کثرة النوم وتفتل العباد فيه لينصرف إلى التهجد وذكر الله والصلاة

ص: 105

وقيام الليل لعبادته ولم تعم المتشابهات بصره وبصيرته فلم يقع فيما يحذر منه، انه الانسان المتكامل الذي تجمعت فيه الصفات المتطلبة والمحببة إلى الرب والى رسله واوليائه، واذا كان صاحب هذه الصفات قد وجد فلماذا لا تتعاور الناس طريقته؟ ولماذا لا تسایر منهجهه؟

4. الشرط:

الشرط هو ((أحد أساليب نظم الجملة، يقوم على تعليق عبارتين، كثيراً ما تكون الأولى سبباً للثانية، أو مرتبطة بها على معنى من المعاني))(24)، أي أنَّه يتكون من جملتين ترتبط كل منها بالأخرى ارتباطاً وثيقاً، فتكون إحداهما سبباً لنتيجة تمثلها الجملة الأخرى، بحيث لا تستقل إحداهما عن الأخرى من حيث المعنى، ومن حيث التركيب(25).

فتكون الاحداث متعينة أو مشروطة بعضها ببعض يقول عليه السلام(26):

((حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَأَزِفَ النُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَی أَمْرِهِ مُهْطِعِنَ إِلَی مَعَادِهِ رَعِياً صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِسْتِكَانَةِ وَضَرَعُ الِسْتِسْلَامِ وَالذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ وَعَظُمَ الشَّفَقُ وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَی فَصْلِ الْخِطَابِ وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ وَنَكَالِ الْعِقَابِ وَنَوَالِ الثَّوَابِ.)) فجملة الشرط وجوابه جملة فعلية فيها تراتبية الزمن متغيرة سائرة بالنفس إلى مبتغاها مهما طال الوقت فلا بد للبعث من ازوف ولا بد للنشور والرجعة من وعد ولا بد للضرائح من أن تفتح وبقايا الانسان ان تجمع اینما كانت وانی اودعت فلا بد ان تجيب دعوة الداعي وتلتحق بالميعاد المحتوم الذي لاشك فيه وحتى مع

ص: 106

مجيء الجملة الفعلية التي لا تدل على الثبوت کما هو معروف مع الجمل الاسمية ولكنها هنا اثبتته ولكن اشرعت في مقياسها الازمنة وجعلت وقت هذا اليوم غير معروف لمن يسكن في البسيطة واثبتت علمه الله تبارك وتعالى.

ومنها قول (27): ((أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُاَتِ الْأَرْحَامِ وَشُغُفِ الْأَسْتَارِ نُطْفَةً

دِهَاقاً وَعَلَقَةً مِحَاقاً وَجَنِيناً وَرَاضِعاً وَوَلِيداً وَيَافِعاً ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَلِسَاناً

لَفِظاً وَبَرَاً لَحِظاً لِيَفْهَمَ مُعْتَبِرِاً وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَاسْتَوَى

مِثَالُهُ نَفَرَ مُسْتَكْبِاً وَخَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ

طَرَبِهِ وَبَدَوَاتِ أَرَبِهِ ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً وَلَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِراً لَمْ يُفِدْ عِوَضاً وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَسَنَنِ مِرَاحِهِ)) فالأداة (اذا) جاءت مرة اخرى مستعملة للمتوقع بحصوله وهو الاستنفار والتكبر الحاصلان بع اكتمال الخلقة نموا، امرا تعارف عليه الناس وبه جبلوا فبعد ان كان نسيا في ظلمات الارحام ويتسلسل خلقه من حال الى حال حتى الاكتمال ينجرف عاصيا مخالفا لسيد الكمال ولواهب المثل ومنعم المكارم و حتی مع مجيء الشرط وجوابه جملا فعلية متمتعة بغير الثبات لخروج بعض الانام عن القاعدة الاساس لكن الغلبة الغالبة تسایر ما طرح وهذا ما رغب الامام ان يوصله من خلال الشرط فالترابط الذي ولدته الأداة جاء مع مفعولاتها محاججة للمتلقي العاصي لربه والمبتعد عن اعرافه واحکامه والمنزاح عن نعیم طريقه السائر في ركب المتخلفين من العصاة والمتتبعين شهوات الكبر والهوى.

وقوله عليه السلام(28): ((فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا يُونِقُ مَنْظَرُهَا

وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا غُرُورٌ حَائِلٌ وَضَوْءٌ آفِلٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ وَسِنَادٌ مَائِلٌ حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَأَعْلَقَتِ

ص: 107

الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ وَمُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وَثَوَابِ الْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً وَلَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ

اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالً وَيَمْضُونَ أَرْسَالً إِلَی غَايَةِ الِنْتِهَاءِ وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ)).

تتكرر الأداة اذا وتأتي مرة بعد اخرى تنبي وتجمع بين صورتين الدنيا والاخرة الاولى كدر مشربها كثير الطين والوحل بما تلزق بالإنسان من ادرانها تغري الانسان بالنعم وتهلكه عن طريقها بوساطة منحه سبل الطمأنينة والدعة ثم تلقفته المنية سراعا وتقمصته بعد ان انهكت قواه واعتل جسده واصبح واقعا في شباكها مغترما من جمالها وزينتها وكل هذا صوره الامام لسامعيه جاعلا اداة الشرط کفاصل لما كان اولا وبعد الشرط نتيجة ذلك المتحصل ونهاية مورده فهما متلازمان معلومان للمتلقي لذا حاججهم عليه افضل الصلاة والسلام بما يعرفوه ولكنه يبني الإنسان ويصف اوليته ثم ينهي كل ذلك بنتيجة ذلك التصرف ازاء شبابه وعندما يزف الوقت وتدني المنية او تتحقق فيلتحق بربه وهو مغرم العمل سيء الفعل مجانب للصواب.

5. الاستعارة:

الاستعارة احد عناصر التعبير الادبي غير المباشرة والتي يتجه اليها الاديب او الباث لكي يحمل الرسالة بدلالات اخر غير محددة في النص بل تتطلب من المرسل اليه وقفة لمعرفة المراد منها وبهذا تحقق مشاركة فاعلة بينهما والاستعارة «مجاز بلاغي فيه انتقال معنی مجرد إلى تعبير مجسد، من غير التجاء إلى أدوات التشبيه أو المقارنة»(29) وهي صالحة في مختلف ضروب الكلام، وتكثر بصفة خاصة عندما يرتقي الفن إلى الذروة عند الاديب(30) لكونها طريقة مثلى لاستبطان الأفكار وتنقل تأثيراتها بما تخلفه من صور ورموز سواء أكانت العلاقة التي تخلقها بين

ص: 108

المعاني علاقة مشتركة أم ضدية، قريبة أم بعيدة، ولكونها تضع الأشياء في علاقات حية جديدة تفيد شرح المعنى، وتفعل في النفس ما لا تفعله الحقيقة، وتفيد تأكيد المعنى والمبالغة فيه والإيجاز، ثم أنها عنصر مهم من عناصر التوليد والتجديد(31) وبسبب ما يتمتع به هذا العنصر نراها ترد في اكثر من موضع في الخطبة الغراء كما يظهر في قوله(32) (عليه السلام): ((فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا يُونِقُ مَنْظَرُهَا وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا غُرُورٌ حَائِلٌ وَضَوْءٌ آفِلٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ وَسِنَادٌ مَائِلٌ حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَأَعْلَقَتِ الْمرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ الْمَضْجَعِ))

للتأثير في المتلقي قارب الامام بين الدنيا وصفات مادية مختصة بمتطلبات الكائنات فاستعارها لها فطابق بینها (زمانها) وبين ما يكدر الحياة ليبين لاصحابه حقيقتها وصفتها التي غابت عن بعضهم فاستعار المشرب لها من وجهة الاستعارة المكنية ولكنه شرب کدر کالماء الموحل كثير الطين وجعل لها منظرا ولكنه منظر قبیح مهلك لمن يتعلق بها يعيش من فيها غرورا حائلا لا بقاء بعده ولا عقب، ثم يستعير قمص الفرس وغيره لها من باب الاستعارة المكنية ايضا بعد ان میهن جسمه ويضعف فيرفع رجليه وينزلهما معا وبعدها يجعل للمنية اوهاق (حبال) الموت الذي تمسك بعنق الانسان لتتلقفه سراعا الى دار اخرى الى الاخرة صورة رسمها الامام وكثف معناها واسهب في رسم دلالاتها ليبين لهم حقيقة الدار التي ينعمون بها حياة ويستقتلون عليها وهي في حقيقتها كدراء غبراء لا استقامة فيها ولا دوام عيشها الم والخروج منها مشقة، فلماذا كل هذا الاندفاع لطلبها والرغبة في تحصیل مباهجها الزائلة.

ص: 109

وقال (33): ((وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِسْتِكَانَةِ وَضَرَعُ الِسْتِسْاَمِ وَالذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَانْقَطَعَ الَأمَلُ وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ وَعَظُمَ الشَّفَقُ وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَی فَصْلِ الْخِطَابِ وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ وَنَكَالِ الْعِقَابِ وَنَوَالِ الثَّوَابِ)).

تتمثل في النص صورة رسمت لتصور مشهد النشور والتوجه للحساب منظرا في حكم الغبيات التي انتشرت حيثياته في بعض الآيات القرآنية فلبوس الاستكانة والخضوع تغطي ارواح العباد فألبس الثوب وهو مادي ولكنه اضاف له الاستكانة التحول الصورة الى شيء اخر يمثل في حقيقته الخضوع والندم والضعف للأرواح الصاعدة الى ربها منتظرة الشروع في نشر صحيفة اعالها دون ان يكون للأخير اي قدرة للاعتراض او القول فالنص يفصح بمدلولات الضعف والتبعية والسكينة والانقياد وهوان الانفس انهيار الافئدة وخلت من المسرة وانتفى وانتهى الأمل من النجاة ولم يبقى لها سوى الانتظار لفصل الخطاب وانتظار الجزاء عقابا کان ام ثواب.

6. الكناية

الكناية من الأساليب البيانيّة التي من شأنها أن تمنح النصوص الشعريّة غنًى دلاليّاً بسبب التكثيف المعنويّ الذي تضمّه في طيّاتها، والذي تعبّر فيه عن المعنى المراد التعبير عنه في أقصر طريق لذلك عرفها الجرجاني بقوله: «هي أن یرید المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكنه يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه»(34)، وهي أيضا عدول عن التصريح بالمعنى إلى ما هو أجمل منه وأليق ؛ لخدمة أغراض تتصل بالأدب ورهافة الحس(35)، فالكناية ذات دلالتين تقوم كل منها في إنتاج معنی أولي

ص: 110

مباشر يمكن تشبيهه بالواجهة، وآخر عمیق ناتج عن فكرة اللزوم التي تحصل بعد التركيز في الغرض الذي يرمي إليه المتكلم(36)

يقول عليه السلام(37): ((وَأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ وَمُعَايَنَةِ الْمحَلِّ وَثَوَابِ الْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً وَلَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالً وَيَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَی غَايَةِ الِنْتِهَاءِ وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ)). تظهر علاقة الاستلزام في النص حركية المنية ونهاية عملها وموقع الانسان فيها فمكانه المرقد الضيق ومحله المشهد المؤلم والمرقد الضنك الموحش، کناية استغلها الامام لرسم صورة النهاية الدنيوية لجذب انظار اصحابه و ليبين لهم الامر عيانا و مصورا و واقعا بشيء الفوه وعايشوه فنهاية الجميع هذا المكان فلا هذا التدافع على طلب السعة والاندفاع في تحصيل الشهوات والرغبة في التمتع بالطيبات اذا كان الامر مألوفا والمرقد معدا والخارج من كل ما تقدم لا يستقدم للحياة نفسها مرة الاخرى.

ومنها قوله عليه السلام(38): ((وَالْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَغَمْرَةٍ كَارِثَةٍ وَأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ

وَجَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ وَسَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً وَجُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً ثُمَّ أُلْقِيَ

عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ وَنِضْوَ سَقَمٍ تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وَحَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَی

دَارِ غُرْبَتِهِ وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَمُفْرَدِ وَحْشَتِهِ)) يبرز في النص الاستلزام الذي انتجته الكناية التي يصور من خلالها النزع ولحظات افول الروح الى بارئها لحظة الغمرة الشدة التي تحيط بالعقل والحواس لتنقلها من زمن الى اخر قاطعة لأمل البقاء والتعلق في الدنيا وهو يعاني النزع وجذبة الروح جذبات النفس عند الاحتضار والشروع في نزع الروح وهوغير قادر على المانعة او الرفض حجج متسلسلة حاول الامام عليه السلام أن يقدمها للأصحاب والانصار والمسلمين من واقعهم

ص: 111

المعاش ومن محيطهم فالموت وقبله النزع جميعهم قد مروا به وشاهدوه عيانا يأخذ الاصحاب والاخوة والاباء دون جهد او معارضه وهو دائر بينهم يسقطهم من حيث لا يحتسبون فلم التكبر والغرور اذا كانت نهايتها بالجذب والسوقة المتعبة التي لا ينفك كائن من لقائها وتجربتها.

ص: 112

الخاتمة

بين وموت الجسد والنشور للحساب يقف الحق صارخا صادحا بالجمال موصفا لهما ببلاغة نادرة واساليب غراء تنثال منها الجزالة والقوة والبلاغة والصدق انثيالا، وتوصف بما النهايات والنتائج با ورد فيها عن النبي الاكرم عن جبرائيل عن الله فضمنها الامام عليه السلام في خطبته الغراء التي كانت مصورة لمشهد حقيقي لمستقبل القوم ووصفت الواقع الذ يعيشوه واين يتجه بهم هذا العيش الضال او السليم، بين هذا وذاك حاججهم الامام مستعملا جملة من الاساليب اللغوية التي حقق بها مراده و جذبت اليه افئدة القوم وعقولهم وجعلتهم في معترك بين حب الدنيا والطمع في نوال الاخرة بين حب التمتع القصير وتحقيق الرغائب وبين العيش السرمدي تحت ظلال الجنة التي دارت محاور الخطبة بجملتها حول ما تقدم

هوامش البحث:

1. البلاغة والتطبيق: 131.

2. نهج البلاغة: 167 - 168.

3. ينظر: الموت في الفكر الغربي: 23.

4. نهج البلاغة: 169.

5. ينظر / أسلوبية البناء الشعري؛ دراسة أسلوبية في شعر سامي مهدي: 98.

6. نهج البلاغة: 169.

7. الصاحبي في فقه اللغة ومسائلها وسنن العرب في كلامها: 138

8. التداولية جورج بول، ت قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الرباط، ط 1.

9. نهج البلاغة: 166.

10. م . ن: 169.

11. مدخل الى التحليل اللساني للخطاب الشعري: 39.

ص: 113

12. نهج البلاغة: 173.

13. إحياء النحو: 30.

14. ينظر / في النحو العربي نقد وتوجيه: 246.

15. العوامل الحجاجية في شعر البردوني: 10.

16. العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 47.

17. الحجاج احمد مطر: 107.

18. ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: 94.

19. ينظر: العوامل الحجاجية في شعر البردوني: 10.

20. نهج البلاغة: 172.

21. العوامل الحجاجية في شعر البردوني النفي انموذجا: 12.

22. نهج البلاغة: 163.

23. نهج البلاغة: 166.

24. قواعد النحو العربي وفق نظرية النظم: 351.

25. ينظر / في النحو العربي نقد وتوجيه: 284.

26. نهج البلاغة: 193.

27. نهج البلاغة: 171 - 172.

28. نهج البلاغة: 192 - 193.

29. معجم مصطلحات الأدب: 315، وينظر / اللغة في الأدب الحديث: 252

30. ينظر / فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين: 717.

31. ينظر / البلاغة الواضحة (البيان والمعاني والبديع): 365.

32. نهج البلاغة: 162.

33. نهج البلاغة: 163 - 168.

34. دلائل الإعجاز: 66، وينظر / نقد الشعر: 157، ينظر / نظرية اللغة في النقد العربي: 236.

35. ينظر / الكناية في البلاغة العربية: 113.

36. نهج البلاغة: 162 - 163.

37. نهج البلاغة: 162.

38. نهج البلاغة: 113.

ص: 114

المصادر والمراجع

1. إحياء النحو ، إبراهيم مصطفى إبراهيم، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951 م.

2. أسلوبية البناء الشعري، دراسة أسلوبية في شعر سامي مهدي، أرشد محمد علي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد - العراق، ط 1، 1991 م.

3. بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1992.

4. البلاغة الواضحة في (البيان والمعاني والبديع)، علي الجارم، مصطفی امین، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران - إيران ، ط 3، 1921 ه.

5. البلاغة والتطبيق، أحمد مطلوب - کامل حسن البصير، دار الكتب، جامعة الموصل، ط 2، 1999 م.

6. التداولية جورج بول، ت قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الرباط، ط 1.

7. الخطاب الحجاجي في ديوان لافتات 2 لأحمد مطر مقاربة تداولية، فوزية زيار رسالة ماجستير مطبوعة بالالة الكاتبة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، جامعة وهران الجزائر، 2001.

8. دلائل الإعجاز، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الجرجاني (ت 471 أو 474 ه)، تح: أبو فهر محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ن القاهرة، دار المدني، جدة، ط 3، 1993 م.

9. الصاحبي في فقه اللغة ومسائلها، وسنن العرب في كلامها، أبو الحسن أحمد بن فارس بن زکریا، تح: أحمد حسن بسج، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1997 م.

10. العوامل الحجاجية في اللغة العربية:، عز الدين الناجح، مكتبة علاء الدين للنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، 2011.

ص: 115

11. العوامل الحجاجية في شعر البردوني النفي انموذجا، الطاف اسماعيل احمد، مجلة كلية العلوم الاسلامية، جامعة بغداد، العدد 43، 2015.

12. فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين، مصطفى الشكعة، عالم الكتب، بيروت، 1981 م.

13. في النحو العربي نقد وتوجيه، د: مهدي المخزومي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا - بیروت، د. ت.

14. قواعد النحو العربي وفق نظرية النظم، د: سناء حميد البياتي، دار وائل للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، 2003 م.

15. الكناية في البلاغة العربية ، د: بشير كحيل، مكتبة الآداب، القاهرة - مصر، ط 1، 2006 م.

16. اللغة في الأدب الحديث (الحداثة والتجريب) جاکوب کورك، ترجمة: ليون يوسف، عزيز عمانوئيل، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1989 م.

17. معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبة، مكتبة لبنان، 1974 م.

18. الموت في الفكر الغربي، جاك شورون، ترجمة: كامل يوسف حسن، مطبعة الرسالة، الكويت، 1986 م.

19. نظرية اللغة في النقد العربي، د: عبد الحكيم راضي، مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ت.

20. نقد الشعر، أبو فرج قدامة بن جعفر(ت 337 ه)، تح: د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، د. ت.

21. نهج البلاغة، للامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب، شرحه الامام الأكبر: محمد عبدة، خرج مصادره: الشيخ حسين الأعلمي، شركة الاعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان،

ص: 116

جدلية الذوات في الخطاب العلوي قراءة إنسانية

أ. م. د. حازم طارش حاتم

كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

ص: 117

ص: 118

توطئة:

کشف أصول الخطاب العلوي في ضوء نظرية التلقي، ترسم لنا أبعاد نظرية التواصل التي يحققها الخطاب في ضوء ملابسات السياق الثقافي الخارجي، الذي تتغير به أصول المخاطبات؛ لأن مقتضيات الخطاب تستدعي ذلك، فظروف نشأة الخطاب، تحكي أهداف الخطاب، والغايات التي يرمي إليها، ولاسيما أن الخطابات وظيفتها الأساسية التأثير في المتلقي، وهنا يأشر نقطة الخلاف بين طرفي الخطاب في القضية المطروحة؛ ولاسيما أن الخطاب العلوي خطاب کوني، وأن تمثل بشكلها الخاص في مخاطباته، إلا أنه محمولاته الإنسانية ذات الأبعاد الإرشادية، والأساليب الإقناعية الحجاجية، كشفت عن جدلية الذوات المعبئة بالقيم الإنسانية غير أن هذه المفاهيم الإنسانية تتغایر بالمفهوم، فضلاً عن المنطلقات التي تأسس هذه المفاهيم وبواعثها التطبيقية التي تشكلت في الخطاب العلوي.

فالبحث يسعى إلى الكشف عن هذه المفاهيم الإنسانية بشقيها المتولدة من طرفي الخطاب، التي تمثل التناقض في الحد والمفهوم؛ لأن التغاير تغایر بالمنطلقات والركائز، فضلاً عن الفهم، والمنطلقات الإنسانية التي يدفع بها الإمام علي «عليه السلام» هي منطلقات أساسها القرآنية تنشد التكامل والرقي للإنسان، وتسعى إلى تجنبه المهالك، وبهذا الوعي تشكل الخطاب العلوي، وهو بذلك يجادل المفاهيم الإنسانية الواطئة التي تشكلت في نفس المتلقي، وحکیت سلوكه، والخطاب العلوي يحكي عملية الجذب بین المفاهيم، ولاسيما أن الخطاب العلوي يستعرض هذه المفاهيم على وفق جدلية المواقف بين أطراف الخطاب التي شكلت الخط البياني في استظهار القيم النبيلة التي تستدعيها المواقف، وهذه المواقف بالمقابل تظهر قيم تضاد قيم النبل، وهذا التقابل بين القيم يحكي الصور الإنسانية، المغايرة في المفهوم بين الذوات المتحاورة، والبحث يكشف عن مسوغات حركة الإنسان - المصلحة - التي تشكل المفهوم الإنساني

ص: 119

المطلب الأول: قيم الذوات المتجادلة وأبعادها الإنسانية

المنظور الإنساني منظور قیمي، وهذه القيم متنوعة تُسم في بناء إنسانية الإنسان، على هذا الأساس أن التجادل بين الذوات جدال قيمي، بواعثه المنظومة المعرفية التي تستند إليها الذات المتبادلة، وهذا ما عكسه الخطاب العلوي القائم على الدعوة الإنسانية قال أمير المؤمنين (عليه السلام»: ((أما بعد، فإنَّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندامة، قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لکم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة، والمنابذین العُصاة، حتّى ارتاب الناصح بنصحه، وضنّ الزند بقدح، فكنتُ أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبيحوا النصح إلا ضحی))(1))

يستهل أمير المؤمنين «عليه السلام« خطابه بمقدمة «كلية كبرى«، يبني عليها استدلاله الحجاجي الإقناعي من أجل إيقاع الأثر في السامع، فضلاً عن ذلك توليد قوة إنجازية تمثل فعلاً غير مباشر إزاء «الناصح«، وهو القبول والرضا، فقوله (عليه السلام)

إنَّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة (مقدمة کبری)، ثم ينتقل من هذه الكبرى إلا «المقدمة الصغرى«:

1. كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري.

2. ونخلت لكم مخزون رأيي.

3. لو كان يطاع لقصير أمر.

ص: 120

وهنا يستظهر الخطاب العلوي القيم الإنسانية التي تمثلت في «النصح»، الذي يستبطن الخير والحب للآخرين، لاسيما أن «الناصح« عالم ومجرب و مشفق، ويستلزم قبول قوله، والعمل بنصيحته، غير أن جدلية القيم تظهر في المخالفة الناصح؛ لأنهم «مخالفين» و «جفاة»، ومنابذین و «عصاة»، فصار حاله حال «قصير بن سعد اللخمي« مولى جذيمة الأبرش ملك على شاطئ الفرات، وكانت الزبّاء ملكة الجزيرة، وكانت من أهل باجرمي، وكانت تتكلم العربية، وكان جذيمة قدوترها بقتل أبيها، كتبت إليه أنها لم تجد مُلك النساء إلا قبيحاً في السماع وضعفاً في السلطان، وأنها لم تجد لملكها موضعاً ولا لنفسها كفؤاً غيرك فاقبل إليّ لأجمع ملكي إلى ملكك، وأصل بلادي ببلادك وتقلد أمري مع أمرك تريد بذلك الغدر، فلما أتی کتابها جمه جذيمة أهل الحجا والرأي من ثقاته، فعرض عليهم ما دعته إليه، فاجتمع رأيهم على أن يسير إليها فيستولي على ملكها، وكان فيهم قصير فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأي فاتر وغدر حاضر، فلم يوافق جذيمة، فهلك(2)، واستحضار الذاكرة التاريخية في ذهن المتلقي يولد تكثيفاً في الدلالات، فضلاً عن القيم المتقابلة التي شكلت جدلية في المنظومة المعرفية الطرفي الخطاب، والأمام علي «عليه السلام» يستظهر حاله مع القوم «فكنتُ أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبيحوا النصح إلا ضحی».

وهذا الاستظهار هو استظهار للقيم التي استدعاها المقام، ومظاهر هذا الاستدعاء «أنا» و «إياكم» في ذلك بعد أشاري يأشر المقابلة بين القيم التي شكلت صراعاً بين المتخاطبين، وهذا ما كان واضحاً في الاستشهاد الشعر ي.

وقال «عليه السلام» في ذم المتقاعسين عن الجهاد: ((يا أشباه الرجال ولا

ص: 121

رجال! حُلُوُم الأطفال، وعقول ربّات الحجال لو وددتُ أني لم أراكم، ولم أعرفكم معرفة. والله. جرّت ندماً، وأعقبت سدماً قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التّهمام أنفاساً، وأفسدتم علي رأيّي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قریش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب))(3)).

يستفتح أمير المؤمنين «عليه السلام« خطابه بالنداء، ويستعمل أداة «یا» التي تستعمل للقريب والبعيد، ودلالتها في الخطاب للبعيد، لغاية حجاجية يريد الكشف عن حالة التذمر وعدم القبول على القوم ثم يأخذ بالتعريف بهم:

أشباه الرجال ولا رجال!

حُلُوُم الأطفال.

وعقول ربّات الحجال.

والقيمة التي يظهرها الخطاب العلوي «فساد الرأي» و «العصيان» و «الخذلان»، التي هي نتاج عدم الدراية والمعرفة، التي جادلت قيم المعرفة والدراية بشؤون الحرب التي تكفل للإنسان إنسانيته وتحافظ عليها التي تمثلت بالقيم التي عرضها أمير المؤمنين «عليه السلام»، التي تبين ما على الإنسان القيام به إلاّ أن قيم «الخوف» و «حب الدنيا» أذهبت بالإنسان على خلاف ما يقتضيه العقل والعلم والمعرفة، مما أفقده إنسانيته، وهذا الصراع القيمي يتضح بعبارة الخطاب العلوي «وددتُ أني لم أراكم، ولم أعرفكم معرفةً. والله، ...، قاتلكم الله!»، وأمير المؤمنين «عليه السلام» ينأى بنفسه عن هؤلاء القوم الذين فقدوا إنسانيتهم، بفقدهم القيم، التي أكدها بقول قريش: «إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب».

ص: 122

وقال «عليه السلام» لأصحابه عندماعزم على المسير إلى الخوارج ((أيّها النّاس، إيّاكم وتعلّم النجوم إلاّ ما يُهتدى به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، والمُنجّمُ، کالكاهن، والكاهنُ كالسّاحر، والسّاحر، والسّاحر کالكافر، والكافر في النار سيروا على اسم الله))(4).

مقتضيات الخطاب استدعت من المتكلم التنبيه «أيّها«، فضلاً عن التحذير «إياكم»؛ لأن القيمة التي يعرضها الخطاب قيمة توحيدية أساسية تمثل ركيزة أساسية في معتقد الإنسان إلا وهي «التوكل على الله»، وهذا ما أثبته الخطاب في قوله «سيروا على اسم الله»، وهو بذلك يثبت قيم للإنسان أبعادها تكاملية تتشكل في بناء الجانب الروحي؛ لهذا جاء التنبيه والتحذير من فقدان هذه القيمة بإتباع «تعلم النجوم» التي هي باب إلى «الكهانة»، وهذه القيمة تحط من قيمة الإنسان، لهذا نجد بأن الخطاب تشكل بشكل استدلالي:

الكاهن كالساحر «مقدمة كبرى»

الساحر کافر «مقدمة صغرى»

الكافر في النار «النتيجة»

وهذا التقابل القيمي بين «مدعي الغيب» والذي «يتوكل على الله»، يولد بعداً إنجازياً «اتركوا الكهانة»، وهنا تقع الجدلية القيم التي تمثل الأبعاد المعرفية لطرفي الخطاب.

وفي خطبته «عليه السلام» التي يستنفر الناس فيها لمحاربة أهل الشام من قوله: ((أُفّ لكم! لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدو کم دارت أعينهم كأنهم من

ص: 123

الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يرتج علیکم حواري فتعمهون، وكأنّ قلوبكم مأنوسة فأنتم لا تعقلون))(5). في هذا النص توبیخ وضجر من أعمالهم وأفعالهم فقوله «عليه السلام» «أُفٍّ لكم!» أي تباً، واللام في «لكم« لبيان المتضجر لأجله(6)، ثم يعول على طاقة الاستفهام الإقناعية التي في الغالب على الضمني لا على الصريح، وهذا الأمر أهتم به دیکرو في «نظرية المساءلة» حيت بيّن أنّ الافتراضات الضمنية هي التي تجعل منه أسلوباً حجاجاً؛ لأن الإجابة مهما كان نوعها لابد من أن تسلم بتلك الافتراضات(7)، فالافتراض في الخطاب يقتضي «الإنكار» وهذا يمثل الحجة؛ لأن الاستفهام خرج من دلالته الأصلية طلب الجواب إلى دلالته المجازية.

أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟.

وبالذل من العز خلفا؟.

وهنا تتضح القيم المتضادة المتجادلة بين «الحياة الدنيا» و «الحياة الآخرة»، وبين «الذل» و «العز»، التي ترسم الخط التكاملي في بناء الدائرة الإنسانية للإنسان المؤمن، بخلاف الذين اتخذوا القيم المذمومة التي ترسم مستوى الهبوط الإنسانية؛ و لذا شبههم تشبيهاً مركباً، فمرة بأنّ أعينهم تدور حيرة وتردداً وخوفاً من أحد أمرين: إما مخالفة دعوته للجهاد، أو الإقدام على الموت، وفي كلا الأمرين خطر، ثم شبه حالتهم تلك في دوران أعينهم وحيرتهم بحال المغمور في سكرات الموت، الساهي فيها عن حاضر أحواله المشغول بما يجده من الألم، وهذا التشبية التمثيلي مأخوذ من قوله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ»(8)

وقال «عليه السلام» في توبيخ أصحابه من أهل الكوفة على التباطؤ عن نصرة

ص: 124

الحق: ((يا أهل الكوفة، ...، یا أشباه الإبل غاب عنها رُعاتُها! کُلّما جمعت من جانب تفرقت من آخر، ...، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قُبلها، إنّي لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألطُقُه لقطاً))(9).

المقتضى القولي استلزم من المخاطِب استخدام النداء، لغرض حجاجي تنبي المخاطَب ولفت انتباهه بما يجب عليه، فالمضمون القضوي للفعل القولي بأن المخاطبين «ليس رجال»، فالخطاب يحمل دلالة النفي والتقرير بحسب تصنيف «سیرل« تكمن قوته الإنجازية في إعلان الحجة على المخاطَب(10)، بعدما استعمل الاسم الصريح، ثم غایر بعد ذلك بقوله: «یا أشباه الرجال»، وهذا التغاير ما هو إلا تغاير في القيمة، والذي تمثل في سلوكه الخارجي في «التجمع» و «التفرق»، وهذه الجدلية في القيم كانت كمقدمة أولى لتقديم الحجة على المخاطب، وإلزامه بها مستعيناً بالصورة التشبيهية بيان انفراج الصحابة عن ابن أبي طالب في المعركة، بانفراج المرأة عند الولادة ، وفي ذلك كناية عن العجز والدناءة في العمل(11)، وهذا ما ولد فعلاُ إنجازياً توبيخياً، ثم استعمل الضمير الاشاري في موضعين:

1. إنّي لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي.

2. وإنّي لعلى الطريق الواضح ألطُقُه لقطاً.

وهنا جدلية القيم التي تظهر، لاسيما في الاستعمال البعد الاشاري الذي يحيل إلى ذات أخرى، تتقاطع معها في القيم(12)، ويرمي القول إلى إلزام المخاطِب بالحجة التي مفادها:

بما أني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي، وأني على الطريق يجب أن لا تتفرقوا عني؛ لأن في ذلك خسران؛ لأنهم فقدوا عقلاً مدبراً ورئيساً بارزاً،

ص: 125

فشبههم بالانفراج، وبما أنّ التمثيل يقوم على أساس المشابهة بين جمهور المسلمين بين العلاقات، فإنّ علاقة جمهور المسلمين بالإمام علي «عليه السلام« علاقة تتسم بالخوف من الجهاد(13).

وقوله «عليه السلام« في ذم المتقاعسين عن القتال: ((دعوتكم إلى نصر إخوانکم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إلىّ منکم جنيد، متذائب ضعيف «كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ»(14))(15).

تقابل القيم في الصورة التشبيهية بين الدعوة إلى (النصرة) و(التخاذل) من قبل القوم، تمثل في حالهم بحال الجمل المصاب بالقرعة الذي يردد صوتاً قبيحاً، وبحال البعير الهزيل المعقور عندما ينهض متثاقلاً، ويسير متثاقلاً، ثم يوظف النص القرآني في بيان حال القلة التي خرجوا بها إلى الحرب، وفي هذا دليل على الضعف والتخاذل، وهذا التجاذب بين القيم أخذ يشكل ملامح الإنسانية لدى طرفي الخطاب في ضوء المباني المعرفية التي يرتكز كلا الطرفين، لاسيما أن المتكلم مبانیه قرآنية.

ولجوء المتكلم إلى «القانون الإخبار« من المكونات الأساسية في عملية التواصل، وعملية تزويد المتلقي بالمعلومات تجعل هذه المعلومات حجة على المتلقي(16):

فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر.

وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر.

ثم خرج إلىّ منکم جنيد، متذائب ضعيف.

وفي قوله «إخوانكم« ترغیباً لهم على القتال، وبث الحمية في نفوسهم، ومن فاعلية الخطاب العلوي تضمين النص القرآني على سبيل صورة المشبه به، وهذه سمع أسلوبية للإمام «عليه السلام(17).

ص: 126

المطلب الثاني: جدلية التقابل الإنساني في الخطاب العلوي

السياق الخارجي هو الحاكم في رسم أسلوبية الخطاب، لاسيما إذا كان غرض المخاطِب أيقاع الأثر، فضلاً عن سرعة الإنجاز، وحتی یکون ذلك أتخذ المخاطِب «التقابل« مسلكاً لتوليد التفاعل المعرفي الإنساني؛ لأن التقابل «تضاد في المعاني(18)، قال ابن الأثير: ((واعلم أنّ في تقابل المعاني باباً عجيب الأمر، يحتاج إلى فضل تأمّل، وزيادة نظر وتدبّر،...، وهذا الباب ليس في علم البيان أكثر نفعاً منه ، ولا أعظم فائدةً))(19).

وأسلوبية الخطاب العلوي وظفت هذا التقابل في استظهر القيم الإنسانية المتقابلة التي تحكي الأبعاد المعرفية للذوات المتحاورة التي شكلها أمير المؤمنين «عليه السلام« في خطابه، فقوله: ((ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلبَهَا، وقلائدها ورُعُثها، ...، فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً، فيا عجباً! عجباً والله یُميتُ القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم! فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً رمی غار عليكم ولا تغيرون، وتغزَونَ ولا تعزُون، ويُعصى الله وترضون!))(20)).

أضحى الأخبار في ضوء «مبدأ التعاون» وظيفة أساسية في تقليل المسافة بين المتخاطبين للوصول، لاسيما أنه ضمن وقائع وأحداث واقعية تثبت صدق مضمون الخبر:

الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة.

ص: 127

فينتزع حجلها وقُلبَهَا، وقلائدها ورُعُثها.

واستعمال هذه التقنية «الوقائع والأحداث التاريخية« لبيان فضاعت الفعل، ووضاعة القيم ودناءتها، التي يحملونها، ثم يرتب الإمام «عليه السلام» على هذه الإحداث والوقائع حدثاً يمثل مقدار القبح «فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً»، وهذه المواجهة بين القيم ولدت صورة عن الهيئة التي كانوا عليها القوم، وبشاعة هذه الصورة، ومع بشاعة هذه الصورة وقباحة منظرها، التي تجسدت بأصل فعلهم التطبيقي نجد «اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم!»، والبدا الحق يقتضي عكس ذلك الفعل، وهذا ما يفسر وجه التعجب من قبل الإمام «عليه السلام» «فيا عجباً! عجباً والله يُميتُ القلب»، و «يجلب الهم»، لا بل توجيه القول مباشرة، وفضحهم، وفي ذلك حجة عليهم ، وقطع الطريق عنهم:

حين صرتم غرضاً یُرمی يُغار عليكم ولا تغيرون.

وتغزَون ولا تعزُون.

ويُعصى الله وترضون.

وهذه نتيجة في نفس الوقت صدرها الإمام في خطابه إلى المتلقي الحاضر، والغائب الكوني، وهي دعوة إلى الابتعاد «عن قبائح الأفعال« لاسيما التي تنافي الإنسانية؛ لأن الخاسر في ذلك هو الذي قام بالفعل، وليس الذي وقع عليه الفعل.

وقال «عليه السلام» في الخوارج: (( كلمةُ حق يُراد بها باطل! نعم إنّه لا حُكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا الله، وإنه لابدَّ للنّاس من أمير برٍ أو

ص: 128

فاجرٍ يعمل في إمرته المؤمن، ويستمع فيها الكافر))(21).

ارتدادات الحق على لسان المدعين، يراد منه إيهام العامة، فضلاً عن تحسين الصورة الخارجية لهم، بمعنى الحفاظ على الصورة الإنسانية الطالبة للحق، وهذه القيمة الإنسانية ثبتها الإمام «عليه السلام» نعم إنّه لا حُكم إلاّ لله»، ولكن هذه الدعوة من قبل المدعين كانت باطلة؛ لأنهم لا يعملون بها، ولا يسيرون عليها، وهنا جاءت الإشكالية القيمية بين «الإدعاء»، و «الواقع»، وهذا يخلق تناقض وصراع داخلي، الكاشف عنه السلوك التطبيقي العملي الذي هو خارج «الإدعاء»، والمسوغ لهذه الدعوة «لابدَّ للنّاس من أمير برٍ أو فاجرٍ»، وهم بذلك يريدون أن يقولون بحسب القول المضمر «لا يشترط إمامة الإمام علي عليه السلام»؛ كونه عادلاً، فتداخل القيم عکس حجم الصراع فيما بين الحقيقتين الواقعية وخلافها، عاما أن نتاج هذا الصراع الداخلي في المواقف المختلفة جعلت القيم تناقض السلوك الذي يمثل المنطلقات المعرفية للأشخاص التي تشكل جوهر القناعات، التي في ضوئها يتشكل السلوك الخارجي الذي يبتعد دائرة الإنسانية، والخطاب في طياته يستلزم فعلاً إنجازياً (التنبيه والحث على الإمساك بالحق قولاً وفعلاً).

وقال (عليه السلام): ((ما أنتم لي بثقةٍ سَجيس الليالي، وما أنتم بر کنٍ يُمال بکم، ولا زوافر عزٍ یفترق إليكم. ما أنتم إلا كإبل ضلَّ عنها رُعاتها، فکُلَّما جُمعت من جانب انتشرت من آخر))(22).

يكشف النفي في بعده التداولي عن الجوانب الإثباتية التي تحملها المحمولات الخيرية في صياغاتها المنفية، ويمكن بيان ذلك:

ما أنتم لي بثقةٍ سَجيس الليالي، أنا لا أثق بكم، وأنتم ليس أهل للثقة. وما أنتم بر کنٍ يُمال بكم - أنا لا اعتمد عليكم، وأنتم ليس أهل لأن يعتمد عليكم

ص: 129

ولا زوافر عزٍ یفترق إليكم

ما أنتم إلا كإبل ضلَّ عنها رُعاتها - أنتم قوم لا تملكون عقلاً، فتفرقتم عن الحق.

کشف القناع عن القيم في الخطاب العلوي، لاسيما الخطاب الموجه إلى الناس ينصحهم إلى الطريق السدید یرسم في بعده الإجرائي دعوة إلى هذه القيم؛ كونها تشكل قيماً إنسانية، فضلاً عن أنها تكشف عن المضادات لهذه القيم التي شكلت وجهاً لوجه جدلاً قيمياً، وهذا الجدل له أبعاد حجاجية تريد تصدير خطاباً إعلامياً يعلن فيه عن «القيم الإنسانية« التي تحفظ هوية الإنسان، وترسم الملامح الحقيقية للإنسان.

وقال عليه السلام: ((والله لا أكونُ كالضَّبع: تنام على طُول اللّدم، حتَّی يصل إليها طالبُها، ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمُقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المُطيع العاصي المُريب أبداً، حتّى يأتي عليَّ يومي)(23).

افتتاح الخطاب بالتوكيد بالقسم أعطي طاقة حجاجية عالية، وأنتج مفهوماً دلالياً هدم فيه الأفكار والآراء التي تشكل عالم خطاب الخصوم في صيغته: (ليس ق «قضية» ب «صادقة»)(24)، والمفهوم الذي هدمه الخطاب (لا أكونُ كالضَّبع)، التي (تنام على طُول اللّدم)، حتَّى يصل إليها طالبُها، ويختلها راصدها)، وفي ذلك فعلاً انجازياً يتمثل في «أنتم كالضّبع»، وهذا يستلزم منها صفاتها «تنام على طُول اللّدم»، و«يصل إليها طالبُها»، و«يختلها راصدها»، وفي ذلك حجة على متلقي الخطاب الذي تمثل بهذه القيم التي تحط من قدره، والتي تبتعد عن الإنسانية؛ لهذا كانت محل النفي والاعتراض من الإمام «عليه السلام»، واستدرك مؤشراً في البعد الذاتي إلى القيم التي مثلها في «الحق» و«السامع المطيع»، وقد لجأ المتكلم إلى استعمال العامل الحجاجي «لكن» من أجل تقيد الإمكانات الحجاجية(25)، فالقيمة

ص: 130

الحجاجية في هذا القول تخدم نتيجة واحدة «أني ملازم للحق، وتابع له» حتی يأتي يومي، وهذا العامل الحجاجي أصبح عنصر توجيه، وتعزيز للخطاب(26)، وبذلك تنكشف القيم الحقيقية الإنسانية التي أضحت تقابل القيم الهابطة، والتي بدورها أخذت تتجادل معها، فتولد الجدل المبني على القيم المعرفية التي تملكت الإنسان، وبرز في الجانب السلوك العملي الخارجي الذي يمثل المرآة العاكسة للمعطيات الداخلية للفرد الإنساني.

وقال «علیه السلام»: ((يزعم أنّه قد بايع بيده، ولم يُبايع بقلبه، فقد أقرَّ بالبيعة، وادّعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يُعرف، وإلا فليدخل فيما خرج منه))(27).

يستند المتكلم على تقنية «طرائق الفصل أو الانفصال «، وهي من التقنيات الحجاجيّة القائمة: ((على كسر وحدة المفهوم بالفصل بين عناصره المتضامن بعضها مع بعض، مردّه إلى زوج الظاهر / الواقع أو الحقيقة))(28)، ولا يتسنى هذا الفصل إلاّ في العناصر التي تؤلف وحدة واحدة يتم فصلها لغايات حجاجيّة، وهدف هذا الوصل استبعاد أحد العنصرين، ثم تأكيد العنصر المتبقي منها(29)، فالزعم: ادعاء - العلم والعلم يقتضي مطابقة الواقع، وهو أنه لم يبايع بقله، بل بايع بيده، وهذا غير مطابق للحقيقة وانفصال عنها، والحقيقة أنه بايع، وفي ذلك جدل بين الذات الواحدة التي خالفت المفهوم من أجل الإيهام، وهي بفعلها هذا ناصرت الباطل، وتركت الحق ، فالجدل الإنساني في القيم هو الذي يشكل المظهر السلوكي الخارجي، وهذا ما نجده في البيعة التي شكلت الجانب السلوكي للمفاهيم الداخلية التي على أساسها يفسر ذلك السلوك.

وقال (عليه السلام) ((والله لا يزالون حتَّى لا يدعوا الله محرماً إلاّ استحلُّوا، ولا عقداً إلاّ حلّوه، وحتّى لا يبقى بيت مدرٍ ولا وبرٍ، إلاّ دخله ظلمهم ونبا به سوء

ص: 131

رعيهم، وحتّى يقوم الباكيان يبكيان، باكٍ لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه))(30).

التوكيد بالقسم يعطي طاقة حجاجية عالية، وينتج مفهوماً دلالياً يهدم فيه الأفكار والآراء التي تشكل عالم خطاب الخصوم في صيغته: (ليس ق «قضية» ب «صادقة»)(31)، وهو يريد به أثبات:

لا يدعوا لله محرماً إلاّ استحلُّوا.

ولا عقداً إلاّ حلّوه.

والخطاب يريد تقرير نتيجة سلوكية من هذه المقدمات إلا وهي:

وحتى لا يبقی بیت مدرٍ ولا وبرٍ، إلاّ دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم.

وحتّى يقوم الباكیان یبکیان، باكٍ لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه.

فالتقابل القيمي في الخطاب العلوي يكشف عن حجم الصراع الداخلي، المبني في الأصل على الجوانب المعرفية التي تملكت الإنسان، التي تشكلت في صورتين «باكٍ لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه«، وهذا يمثل طرفي نقيض في الجوانب القيمية الإنسانية، وفلسفة الخطاب ترمي إلا بيان أحوال الناس ومسالكها إزاء المواقف الحياتية، وفيه دعوة إلى تبني القيم التي لا تناقض الإنسانية، بل التي تحقق فعلاً إنسانياً.

فالمنجز اللفظي في الخطاب العلوي يستند إلى مرتكزات أساسية لها علاقة وثيقة ببنية التكوين الفكري لذهنية الإمام «عليه السلام»، والتي لا يمكن فصلها عن المضمون القرآني(32)، وكان فيها الإمام (عليه السلام) ((يصدر عن رؤية كونية شاملة محاورها ثلاثة موضوعات لا انفصال بينها هي: الله والعالم والإنسان))(33).

ص: 132

الخاتمة:

تسمية الخطاب بأنه إنساني، أو توصيفه بالإنسانية قائم على أساس القيم التي يحكيها الخطاب في تضاعيف نصوصه؛ لأن القيم هي التي تحفظ کنه الإنسان، وجوهره، والخطاب العلوي يحمل الكثير من القيم؛ لأن بواعثه إرشادية توجيهيه تسعى إلى الحفاظ على الإنسان كونه قيمة عليا، وهو المخاطب في أصل الخطاب؛ لذا وقف البحث على نتائج منها:

1. أضحت المضامين الإنسانية في الخطاب العلوي أبعاداً حجاجية إقناعية، تستلزم الفعل الإنجازي من قبل المخاطَب.

2. شكلت القيمة الإنسانية في الخطاب العلوي حجةً على متلقي الخطاب، لاسيما أن المخاطب تمثلت فيه قیم «الجبن، والخوف، والرفض من الجهاد« مما تولد جدلاً بين القيم.

3. کشف الخطاب عن الصراع الداخلي في الذات الواحدة، وهذا الصراع قيمي يتضح ويبان بفعل المواقف التي يتعرض لها الإنسان.

4. التجأ الخطاب العلوي إلى تبني استراتيجيات متعدد تمثلت في أساليب متنوعة أظهرت تناقض القيم، لاسيما في السلوك الخارجي الكاشف عن الجوانب المعرفية المتبناة من قبل طرفي الخطاب.

5. بيّن الخطاب العلوي غاياته الخطابة في ضوء القيم الإنسانية التي يطرحها، ويقلبها القيم التي تعارضها وتناقضها، لاسيما في المواقف المحرجة، وهي دعوات الجهاد والنصرة، والدفاع عن الدين.

6. قرب الخطاب العلوي عن طريق الصور التشبيهية الكثير من الوقائع

ص: 133

والأحداث التاريخية التي كان لها مساس في الحاضرة العربية.

7. تضمن الخطاب العلوي الكثير من الأفعال غير المباشرة، من أجل توليد أفعال إنجازية تمثل دعوة صريحة من قبل المتكلم.

8. الخطاب العلوي لم يبتعد عن دائرة الخطاب القرآني في الجوانب الإنسانية، بل كان النص القرآني المعضد، والساند والحاضر في أصل الخطاب، بل لا ينفك عنه.

هوامش البحث:

1. الخطبة: 35.

2. ينظر: مجمع الأمثال: أبو الفضل النيسابوري: 234.، دار المعرفة - بيروت، تحقیق: محمد محيي الدين عبد الحميد

3. الخطبة: 27،

4. الخطبة: 79.

5. الخطبة: 34.

6. ينظر: مجمع البيان في تفسير القرآن: للطبرسي: 7: 80.

7. ينظر: البلاغة والحجاج من خلال نظرية المساءلة: لميشال ماير "بحث": 394: ضمن (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): إشراف حمادي صمود.

8. سورة الأحزاب: الآية: 19 - 33.

9. الخطبة: 97.

10. ينظر: نظرية الفعل الكلامي: 120.

11. ينظر: نهج البلاغة: ضبط نصه د. صبحي الصالح: 178. (الهامش).

12. ينظر: عن الذاتية في اللغة: إمیل بنفنست: 110.

13. ينظر: حجاجية الصورة الفنية في الخطاب الحربي "خطب الإمام علي" إنموذجاً": د. علي عمران: 94

14. السورة الأنفال: الآية: 6.

15. الخطبة: 39.

16. ينظر: الحجاج في الشعر بنيته و أساليبه: د. سامية الدريدي: 150.

ص: 134

17. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة: د. عباس علي حسين: 207.

18. ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: د. صلاح فضل 177،

19. المثل السائر: 2: 265.

20. الخطبة: 27.

21. الخطبة: 40.

22. الخطبة: 34.

23. الخطبة: 6.

24. ينظر: الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: د. عبد الله صولة: 270.

25. ينظر: الحجاج في درس الفلسفة: 54.

26. ينظر: العوامل الحجاجية في اللغة العربية: د. عز الدين الناجح: 25.

27. الخطبة: 8.

28. الحجاج: أُطُرُه ومنطلقاته وتقنياته: (بحث): 343، وحجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي (عليه السلام): 125.

29. ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة - بحث في النقد المعاصر: 132 - 133.

30. الخطبة: 98.

31. ينظر: الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: د. عبد الله صولة: 270.

32. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة "دراسة في الشكل والمضمون": د. عباس علي حسين: 350.

33. عبقرية الإمام علي: عباس محمود العقاد: 42.

ص: 135

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

الكتب المطبوعة

1 - الأثر القرآني في نهج البلاغة "دراسة في الشكل والمضمون": د. عباس علي حسين، ط 1، منشورات الفجر، لبنان - بيروت، 1430 ه - 2010 م.

2 - بلاغة الخطاب وعلم النص: د. صلاح فضل، ط 1، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1425 ه - 2004 م.

3 - الحجاج في البلاغة المعاصرة - بحث في النقد المعاصر: د. محمد سالم محمد الأمين الطلبة، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت - لبنان، 2008 م.

4 - الحجاج في الشعر بنيته وأساليبه: د. سامية الدريدي، ط 2، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، الأردن - إربد، 2012 م.

5 - الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: د. عبد الله صولة، ط 2، دار الفارابي - بيروت، كلية الآداب والفنون والإنسانيات منّوبة، ودار المعرفة للنشر - تونس، 2007 م.

6 - الحجاج في درس الفلسفة: إعداد وإنجاز خلية البحث التربوي لمادة الفلسفة بأكاديمية أنفا، (د - ط)، دار البيضاء، أفريقيا الشرق - المغرب، 2006 م.

7 - حجاجية الصورة الفنية في الخطاب الحربي "خطب الإمام علي" إنموذجاً": د. علي عمران، (د - ط)، مطبعة دار نینوی، دمشتق - سورية، 1430 ه - 2009 م.

8 - حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي "رضي الله عنه": د. کمال الزماني، ط 1، عالم الكتب الفحديث، الأردن - إربد، 1012 م.

9 - عبقرية الإمام علي: عباس محمود العقاد، (د - ط)، دار الفکر للطباعة والنشر، بيروت

ص: 136

10 - العوامل الحجاجية في اللغة العربية: د. عز الدين الناجح، ط 1، مكتبة علاء الدين للنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، 2011 م.

11 - عن الذاتية في اللغة: إميل بنفنست، ط 1، دار البيضاء، أفريقيا الشرق - المغرب، 2010 م و

12 - مجمع البيان في تفسير القرآن: الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه)، ط 1، دار القارئ دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت 1430 ه - 2009 م

13 - مجمع الأمثال: أبو الفضل النيسابوري، تحقیق: محمد محيي الدين عبد الحميد، (ط - د) دار المعرفة، لبنان - بيروت.

14 - نهج البلاغة: ضبطه نصه وابتكر فهارسه العلمية: د. صبحي الصالح: ط 1، مطبعة الرسول، إيران - قم، 1426 ه.

15 - نظرية الفعل الكلامي بين علم اللغة الحديث والمباحث اللغوية في التراث العربي الإسلامي: الأستاذ هشام إبراهيم عبد الله الخليفة، ط 1، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان - بیروت، 2007 م.

البحوث في الدوريات العلمية

1 - البلاغة والحجاج من خلال نظرية المساءلة: لميشال ماير "بحث": ضمن (أهم نظریات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): إشراف حمادي صمود، منشورات كلية الآداب - منّوبة، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس (د - ت).

2 - الحجاج: أُطُرُه ومنطلقاته وتقنياته: (بحث): ضمن (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): إشراف حمادي صمود، منشورات كلية الآداب - منّوية، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس (د - ت).

ص: 137

ص: 138

جزالة أسلوب الامام علي (عليه السلام) في مقام الحرب السبك المعجمي والحذف أنموذجين

اشارة

أ. د. حسن منديل حسن العكيلي

جامعة بغداد / كلية التربية للبنات

ص: 139

ص: 140

مقدمة

الحَمدُ للهِ رب العالمین، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ على النَّبِيِّ وآلهِ الطَّيْبِنَ الطَّاهِرينَ... وبعد.

فيتناول البحث أسلوب الامام علي (عليه السلام) وقوة فصاحتة ورباطة جأشه في لغته ولا سيما في الحروب التي خاضها، لكونها موقفا نفسيا خاصا يستدعي أسلوبا خاصا ولغة تنسجم مع المقام والحال التي تتطلبه الحروب وظروفها المختلفة، من الحذر والشجاعة ورباطة الجأش والصبر والقيادة الحكيمة، والمبادئ التي يحملها القائد المقاتل والالتزام بأخلاقيات الحرب وقواعدها. كل ذلك يؤثر في لغة القائد إذ يستدعي خطابا خاصا يوظف في رفع المعنويات لتحقيق الانتصار. وسنرى أن الأمام أقوى فصاحة وأدق تعبيرا وأكثر تماسكا وربطا في التعبير في مقام الحرب من السلم.

والبحث يتناول فقرات من خطاب الامام في مقام الحرب في ضوء معيار السبك المعجمي وهو من معايير علم النص السبعة اللذين يتجلى بهما التماسك الدلالي بين وحدات النص وانسجام معانيه، فضلا عن معيار الحذف، ذلك أن هذين المعيارين يمكن أن يكونا أهم مقياسين للغة في حال الظروف الشديدة والمواقف العسيرة يدلان على التماسك النفسي لانعكاسها على أسلوب الخطيب وشجاعته..

ولا بد من الإشارة الى أن هذا الموضوع تناولته احدى الطالبات (أميرة عبد الرسول) في رسالة ماجستير أشرفت عليها. وقد توسعت فيه وطبقت المعايير السبعة لعلم النص على خطب الامام علي ع في الحرب. ومن الله التوفيق هو حسبنا ونعم الوكيل

ص: 141

التمهيد:

علم النص:

النص من المفاهيم الجديدة التي بدأت تستعمل في اللغة العربية. والذي ظن بعض الدارسين أنه مجموعة من الجمل، بل هو وحدة كلية كبرى متكاملة، میزتها الأساسية تماسكها النحوي وترابطها الدلالي قصد الإبانة والإفادة. قيل أنه استدراك لما فات الدراسات السابقة، لوقوفها في التحليل عند مستوى الجملة. فلا يعني هذا أن

الجملة عفى عليها الزمن ولم يعد لها أهمية، وذلك لأن المنهج الجديد نفسه لا يغفل الجملة، بل ينظر اليها من خلال علاقاتها مع الجمل الأخرى المكونة للنص. وإن علم النص فهم النحوية محضا فهو لايزال في هذه المرحلة رهين لبعض قيود نحو الجملة أي لسانیات الجملة. ذهب أغلب مؤرخي نحو النص الى صعوبة نسبة هذا العلم الى عالم معين أو حصره في بلدٍ أو مدرسةٍ أو اتجاهٍ محدود(1).

وقد شهدت أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، تطوراَ ملحوظاَ في ميدان الدرس اللساني الحديث نتج عنه میلاد فرع معرفي جديد باسم علم النص، وقد ظهرت ارهاصات هذا العلم على يد العالم هاريس (harris) الذي يعد الأب الحقيقي لعلم اللغة التحويلي والتوليدي(2).

أما التوليدي فهو علم يرى في وسع أي لغة أن تنتج ذلك العدد اللانهائي من الجمل التي ترد بالفعل في اللغة، وأما التحويلي فهو العلم الذي يدرس العلاقات القائمة في مختلف عناصر الجملة(3).

أقام نحو النص بناءه على أنقاض نحو الجملة، في بداية النصف الثاني من

ص: 142

القرن الماضي في كتاب (تحليل الخطاب) الذي حث على ضرورة العلاقات النحوية بين الجمل.

ثم تطورت هذه الإرهاصات في السبعينيات من القرن نفسه على يد العالم الهولندي فاندایك ( vandaik) الذي دعا إلى أهمية أن يشمل الوصف النحوي لتلك العلاقات، وما يطرأ عليها من تغيرات في المستوى السطحي فقط.

فأثبتت قواعد هذا العلم ورسخت مضامینه على يد العالم الأمريكي روبرت دی بو جراند (robert de beaugrand ) في ثمانينيات القرن الماضي، ولاسيما بعد وضع سبعة معايير (السبك، الحبك، القصدية، تقبلية، الإعلامية، المقامية، التناص) يجب أن تتوافر في النص مجتمعة ليكون نصا(4).

يعدُّ النص أساس الإهتمام في الدراسات الراهنة فالإنتقال من نحو الجملة إلى نحو النصّ دليل على الإنتقال الى الدلالة، وهي لُبّ اللسانيات الحديثة فقد تناول هذا العلم النصّ وحدة لغوية متكاملة، والتي تعني في معناها الأولي نسيج، لما هنالك من تماسك وتشابك بالخيوط التي تشكل قطعة قماش، وكذلك الكلمات والفقرات بالنسبة للنص.

النّصيّة Textuality

تمثل النصيّة أو النصانية قواعد صياغة النص. وقد استنبط دي بوجراند و درسلر معايير يجب توافرها في كل نص، وإذا كان أحد هذه المعايير غير متحقق في النص فإنه يعد غير اتصالي. وهذه المعايير (السبك، الحبك، القصد، القبول، الاعلام، المقامية، التناص)(5).

تعتمد النصية على مجموعة من الوسائل التي تؤهلها إلى أن تكون نصية.

ص: 143

فعلاقات الاتساق القائمة في النص هي التي تكوّن النصية في النص. إذن النصية اكتمال النص جميع معالمه التي تؤهله الى ان يكون نصا. إن كل ما يتوفر على خاصية كونه نصا يمكن أن يطلق عليه (النصية). وهذا ما يميزه عمّا ليس نصا، ولكي تكون لأي نص نصية يجب أن يعتمد على مجموعة الوسائل اللغوية التي تخلق النص، بحيث تُسهم هذه الوسائل في وحدته الشاملة(6). إذن يجب التوافق بين النص من جهة، ووسائل المحافظة على معايير النصية من جهة أخرى، على وفقِ رؤية دي بوجراند ليكون ملائما(7).

ص: 144

المبحث الأول: الحرب وأخلاقها لدى الامام علي (عليه السلام)

نتناول هنا بعض التعاليم الحربية التي تمثل القاعدة الأساسية في الدخول الى الحرب. وكان الإمام علي عليه السلام خبيرا بأساسيات الحرب ومبادئها، مثلها مثل سائر الموضوعات التي تناولها في خطبه. كحديثه عليه السلام تارة عن المتقين، وأخرى عن الخلافة والأمارة، وثالثة عن شؤون الأسرة والمجتمع وغيره. يعطي الامام عليه السلام الحلول والمعالجات، وكيفية التعامل مع جزئیات تلك الموضوعات والتي منها موضوع (الحرب) فنجده عليه السلام يخاطب ابنه محمد ابن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجملومن کلام له (عليه السلام) لابنه محمّد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية يوم الجمل: ((تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُجُمَتَكَ، تِدْ في الاْرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ)) فهنا نجد مواصفات القائد الذي يتحمل مسؤولية الجند، بل وكل المعركة، وكأن عملية الحرب تبدأ اولاً من داخل المقاتل، ومن ثم ينطلق الى الخارج وسوف تكون أمامه حقيقة لا لبس فيها وهي (وأعلم أن النصر من عند الله سبحانه). وكأن القتال يقسم على قسمين، قسم يؤديه الجندي والآخر من عند الله عزّ وجلّ، ويكون واجباً على الجندي هو إحضار مقدمات النصر، ومستلزمات النصر فإذا فعلها المقاتل أي لم يزل مهما حصل ويعض ويعر ويتد ويرمي بالبصر اقصى القوم مع الغض سيكون المقاتل قد بذل أقصى غاية الجهد والباقي على الله عز وجل.

فإن فعل العبد واجبه، أتم الله عزّ وجلّ له نتائجه من ذلك العمل، طبعاً لا ننسى أن فعل الله عز وجل مرتبط بالمصلحة للعباد وكلامنا بحسب القاعدة العامة.

ص: 145

ومن التعاليم الأخرى قوله عليه السلام: ((فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا)) وهذا دليل آخر على ما قلناه لأن الذي في عقر داره لم يقم بواجباته، بل كان بين الاهل والولدان وبين الطعام والنيام فلم يوجد أي مقدمة من مقدمات الحرب التي ذكرها الامام من الغض وعدم الزل وأشباه ذلك ولما لم تأت المقدمات - التي هي من المقاتل - والبحث في الخطب الحربية يفرز الصفات التي يجب أن يتحلى بها المقاتل قبل الدخول للحرب والتي يبلغ عددها مايقارب أربع وأربعين خطبةً منها ماهي مصرّح بعنوان الحرب (صفين، النهروان....) ومنها ما لم يصرح بعنوانها إنما تعرف بمضمونها منها:

«وَإِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الاْرِقُ وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ».

وَلْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، فَوَالَّذِي لاَإلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّ لَعَىَ جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ».

«فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَی اللهِ، فَلْيَفْعَلْ«.

«اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ«.

«وَامْشُوا إِلَی الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً»

«إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لاَيَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلاَ يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ».

«وَلاَ تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلاَّ غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً»

«وَأَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا، وَوَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا».

«وَأَمِيتُوا الاْصْوَاتَ فَإِنَّهُ أطْرَدُ لِلْفَشَلِ».

الى غير ذلك مما ذكره الإمام في خطبة الحربية وهذا الجانب هو أول المعركة،

ص: 146

إذ يجب أن يعالج المقاتل هذه المسائل في داخل نفسه أي يدخل المعركة في نفسه. فإذا تهيّأت تلك المقدمات انتصر نفسياً وداخلياً، فهو الآن مستعد للقتال الخارجي وسيكون بعد ذلك (النصر بأذن الله تعالى).

وكان الأمر هو أن المقاتل عليه أن لا يفكر بالنصر الخارجي لأنه منه (سبحانه وتعالى) وعليه أن يعالج داخله لينتصر ثم ينطلق للخارج. وهذا وصف وتقسيم عجبني ولم يُسمع إلا منه عليه السلام. وفیما يأتي، نذكر شواهد تأريخية على ما ذكرناه أعلاه.

روى الواقدي(8) قال: حدثني عبدالله بن (الحارث) بن الفضيل عن أبيه، عن محمد بن الحنفية قال (لما نزلنا البصرة وعسكرنا بها وصففنا صفوفنا دفع أبي عليه السلام إليّ اللواء.... إلى أن قال: فجاء أمير المؤمنين عليه السلام وفي يده شسع نعل فقال ابن عباس ماتريد بهذا الشسع يا أمير المؤمنين؟ قال أربط به ما قد تهي (أي الشق أو الخرق) من هذا الدرع من خلفي فقال ابن عباس أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟ فقال عليه السلام (ولِمَ) قال أخاف عليك فقال (لا تخف أن أوتي من ورائي، فوالله يابن عباس ما وليت في زحف قط) ثم قال له (البس يابن عباس) فلبس درعاً سعدية ثم تقدم الى الميمنة فقال (احملوا) ثم الى الميسرة فقال (احملوا) وجعل يدفع في ظهري ويقول تقدم يابني فجعلت أتقدم وكانت إياها حتى انهزموا من كل وجه). وهذا النص يدل على أن المعركة قد حسمت منذ بدايتها لصالح الإمام عليه السلام بل قبل أن تبدأ (لماذا؟) لأنه عليه السلام طبّق ما قال من آداب الحرب. فلم يكن بعد ذلك يعير لأي شيء عنايةً فتارة يكون حاسراً في المعركة، وأخرى يصلي ركعتين لصلاة الظهر، وأخرى يحاول أن يصلح شسع نعله غير آبهٍ ولا مكترثٍ بما حوله من الصفوف بما حسمت لصالحه قبل

ص: 147

بدايتها.

وهنا نص آخر يدل على ما قلناه فقد جاء في كتاب بهج الصباغة، وكتاب الجمل للمفيد قال محمد بن عبدالله بن عمر بن دینار قال: (علي عليه السلام لابنه محمد: خذ الراية وامضِ - وهو خلفه - فناداه يا أبا القاسم فقال يا بني لا يستفزنك ماتری. قد حملتُ الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوي، وذلك إنني لم أبارز احداً إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدّث نفسك بعون الله تعالى بظهورك، ولا يخذلك ضعف النفس، فإن ذلك أشد الخذلان. قال يا أبه أرجو أن أكون كما تُحب. قال: فالزم رايتك فإن اختلفت الصفوف فقف مكانك وبين أصحابك فإن لم تبن من أصحابك فاعلم أنهم سيرونك. قال محمد: والله اني لفي وسط أصحابي، وصاروا كلهم خلفي، وما بيني وبين القوم أحد يردّهم عني، وأنا أريد أن أتقدم في وجوه القوم، فما شعرت إلا أبي خلفي جرّد سيفه وهو يقول: لا تتقدم حتى أكون أمامك فتقدم بين يدي يهرول ومعه سيفه وبعض من أصحابه، فضرب الذين في وجهه. فنظرت إليه يُخرج الناس يميناً وشمالاً ويسوقهم أمامه(9).

وهنا نجده عليه السلام يفعل ما يقول، فكان قد حسم المعركة لصالحه منذ البداية فلا يخاف الموت لأن هذا الأمر بيد الله سبحانه، ولا يبحث عن النصر لأنه من عند الله عزّ وجلّ، بل كان مالديه هو (إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالى بظهورك)(10). هذا هو مفتاح النصر في كل قتال، لذلك لم ترَ علياً عليه السلام دخل معركة إلا وخرج منها منتصراً ظافراً. وهذه حقيقة عجيبة وضعنا أيدينا عليها ولا ندري لماذا أهملها التاريخ العربي ولا سيما إذا علمنا - أن التاريخ - قضى أكثر من نصفه والى وقت قريب وهو عبارة عن الزمان الذي لا يخلو من قتال أو معركة، بل ربما ندعي أن الأمم التي عاشت بلا معارك طواها

ص: 148

التاريخ بلا ذكر لها الا يسيراً.

إن للامام علي عليه السلام نظرة خاصة للحرب لا يتميز بها إلا هو عليه السلام فلا يقاتل لأجل القتال وإنما في قتاله محکوم في حدود الله عزّ وجلّ فلا تجد عنده شهوة الانتقام أو نشوة النصر.

ولاشك في أنّ التخلص من هاتين الصفتين - أعني الانتقام أو نشوة النصر - لا يمكن السيطرة عليهما إلا مع تكامل النفس والتهذيب العالي والخلق الرفيع ففي (يوم النهروان) نجد الامام عليه السلام ظل يسعى الى آخر لحظة لهداية الخوارج قبل قتالهم، لأنه عليه السلام يعلم يقيناً إنه مع الحق والحق معه وأن من قتل بسيف علي عليه السلام فهو الى النار لا محال (لماذا؟) لان المعركة كما قلنا أعلاه لا للانتقام أو لطلب النصر، وإنما من أجل الجهاد في سبيل الله تعالى فمن لم يجاهد هنا فهو في نصرة الشيطان. يتبيّن أن أهم ميزة حاول الامام عليه السلام التركيز عليها هي جعل المعركة وساحتها كغيرها من المواطن الأخرى بلا فرق فإن ساحة القتال لا ميزة فيها على السوق والمسجد ونحوها. وفيما يأتي نذكر الشواهد على ذلك:

الشاهد الأول:

موقفه يوم الاحزاب (معركة الخندق) حين غلب عمرو بن ود وجلس ليحتز رأسه، بصق عمرو بوجه الامام عليه السلام، فقام يتمشى حتى سكن غضبه ثم عاد لاحتزاز رأس عمرو بعد أن سكن غضبه فالامام لم يقتل عمرو وهو غضبان حتى لا يكون قتله بدافع شخصي، وإنما انتظر حتى سكن غضبه ليكون قتله خالصاً لوجة الله(11). فلا شهوة للإنتقام ولا نشوة للنصر ولا طلباً للثأر، وإنما هو الابتغاء وجه الله عز وجل.

ص: 149

الشاهد الثاني

عندما استولى معاوية على الفرات في معركة صفين فقد منعوا أصحابَ الإمام عليه السلام من ورود الماء ولكن لما وصل الإمام وأصحابه الى الماء لم يمنعوا أهلَ الشامِ من الماء بل أمر الإمام عليه السلام أصحابه أن خلو بينهم وبين الماء وليأخذوا ما يحتاجون منه وعندما عاتبه بعض أصحابه على ذلك أجاب عليه السلام لا أفعل ما فعل الجاهلون(12).

الشاهد الثالث

مايروى عن ابن أبي الحديد في حرب صفين أنه (بسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فصلى عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمر عن صاخيه يميناً وشمالا فلا يرتاع لذلك)(13). إذن كما قلنا فإن ساحة المعركة والسوق والمسجد والشارع والبيت وفي أي مكان آخر فإن المؤمن لا يختلف حاله، وما أراد أن يثبته الإمام عليه السلام من ذلك هو أن المعركة لا تعني ترك الموعظة أو هداية الناس أو شرح مسألة في التوحيد أو العقيدة أو غيرها.

الشاهد الرابع

وكان عليه السلام في حرب صفين منشغلا بالحرب والقتال وهو مع بين الصفين يرقب الشمس فقال له ابن عباس: يا امير المؤمنين ما هذا الفعل؟ فقال عليه السلام انظر الى الزوال حتى نصلي فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين وهل هذا وقت صلاة أن عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة فقال عليه السلام: علام نقاتلهم؟ انما نقاتلهم على الصلاة(14).

ص: 150

فالواجب الأخلاقي لا يختلف عند المؤمن في ساحة المعركة، كما لا يختلف عنه في غيرها. ثم لا نجد في كلام الإمام عليه السلام في خطبة الحربية ما فيه تفاخر الجاهلية أو السخرية من الطرف المقابل أو الإستهانة به، وإنما يعدّه (أخاً في الدين أو نظيراً له في الخلق) لذلك يحاول جاهداً هدایته وإن جاء إليه ليقتله، وهذا من أغرب الأخلاق التي تميزت بها أخلاقيات الحرب.

قال الإمام عليه السلام يوصي أصحابه: ((لاتُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ

بِحَمْدِ اللهِ عَىَ حُجَّة، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ،

فَإذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى

جَرِيح، لاَ تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ

ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَالاْنْفُسِ وَالْعُقُولِ))(15).

إن ميزة الأخلاق ومحاولة هداية الناس والحلم وعدم الإنتقام منهم هو مما يميز قول الامام عليه السلام وفعله في حروبه كلها دفع الخطيب عليه السلام. فكان عليه السلام من أكثر الناس حلماً لم يقابل مسيئاً بإسائته ولقد عفا عن أهل البصرة بعد أن ضربوا وجهه بالسيف، وقتلوا أصحابه، وردّ عائشة الى المدينة، وأطلق عبدالله بن الزبير بعد الظفر به على عدوانه وتآلبه عليه وشتمه له على رؤوس الخلائق، وصفح عن مروان بن الحكم يوم الجمل مع شدة عداوته(16).

ص: 151

المبحث الثاني: السبك المعجمي

وهو مظهر مهم من بين مظاهر اتساق النص، الا إنه يختلف عنها جميعاً إذ لا يمكن الحديث فيه عن العنصر الافتراضي المفترض ولا عن وسيلة شكلية (نحوية) للربط بين عناصر النص(17). ويسمى ايضاً الربط الإحالي، وهو يقوم من خلال المعجم ويتم بوساطة اختيار المفردات عن طريق إحالة عنصر لغوي الى عنصر آخر، فيحدث الربط بين أجزاء الجملة أو المتتاليات الجملية من خلال استمرار المعنى السابق في اللاحق، بما يمنح النص صفة النصية(18). ويقسم السبك المعجمي الى قسمين(19) هما - التكرار والتضام

اولاً - التكرار Reiteration

وهو وسيلة من وسائل السبك المعجمي، وربما الأكثر شيوعا منها، ويعرفه محمد خطابي بانه شكل من أشكال الاتساق المعجمي، يتطلب إعادة عنصر معجمي أو مرادف له أو رش به مرادف أو عنصر مطلقاً أو اسماً عاماً(20). وأعتقد أن التكرار في العنصرين الأخيرين يشابه أو يتفق مع الاستبدال فهو ايضاً يستبدل عنصر بعنصر آخر أعم منه ويفي بمعناه وينقل محمد خطابي عن الباحثين بأن الاسماء العامة هي مجموعة صغيرة من الأسماء لها إحالة معجمية معمة، مثل (اسم الانسان، اسم المكان، اسم الواقع) وما شابهها (الناس، الشخص، الرجل، المرأة، الطفل، والولد، البنت)(21). ولا يتحقق التكرار على مستوى واحد، بل مستويات عدة، مثل تكرار الحروف والكلمات والعبارات والجمل، والفقرات، والقصص(22).

ص: 152

الإحالة التكرارية

وهي الإحالة بالعودة، وهي أكثر أنواع الإحالة دوراناً في الكلام وتتمثل في (Epanaphore) تکرار لفظ أو عدة الفاظ في بداية كل جملة من جمل النص قصد التأكيد(23).

من خطبة له (عليه السلام) ((فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَی اللهِ مِنَ اللهِ...))(24) وتَتطلبْ إعادة اللفظ (التكرار) وحدة الإحالة بحسب مبدئي الثبات والاقتصاد(25)، ولكنها تؤدي الى تضارب في النص حين يتكرر المشترك اللفظي مع اختلاف المدلولات(26). ويحتمل لإعادة اللفظ (التكرار) في العبارات الطويلة - أو المقطوعات الكاملة أن تكون ضارة لأنها تحبط الإعلامية ما لم يكون هناك تحفيز قوي. ومن صواب طرق الصياغة أن تخالف ما بين العبارات بتقليبها بوساطة المترادفات(27).

أشكال التكرار

1 - التكرار التام أو المحض (Full Rccurrehce)

وهو تكرار اللفظ والمعنى والمرجع واحد، أي تكرار الكلمة أكثر من مرة في النص.

ورد في نهج البلاغة أقوال يكررها الامام تکرار تام وله في ذلك أغراض.

من كتاب له عليه السلام الى معاوية: ((فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ فَقَدْ بَیَّنَ اللهُ لَكَ سَبِيلَكَ))(29). فكرر عليه السلام كلمة (نفسك) والهدف منه إحذر نفسك لأن النفس أمّارة بالسوء والإحالة قبلية داخلية وهي من القائل إلى المتلقي.

ص: 153

ومن كتاب له عليه السلام كتبه الى أهل الأمصار يخص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين: ((وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الاْسْاَمِ وَاحِدَةٌ، لاَ نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الاْيمَانِ باللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)، وَلاَ يَسْتَزِيدُونَنَا، الاْمْرُ وَاحِدٌ، إِلاَّ مَا

اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ!)(30). كرر عليه السلام لفظة واحد أو واحدة وذلك من أجل التوكيد والتثبيت الأصول المشتركة بين الطرفين لأن كل جانب يدعو الى الاسلام والغرض تصفية الخلافات بين الطرفين.

ومن وصاياه عليه السلام التي يبعثها إلى الجيش قال عليه السلام: ((وَتفَقَّدْ

أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ

صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.))(31). کرر عليه السلام لفظة (الصلاح) عدة مرات وايضاً كرر كلمة (سواه) وذلك للتوكيد عليها لأهميتهما لأن الصلاح علاج ووقاية من شح النفس، وإن صلاح هذه النخبة من القوم يؤدي الى صلاح الأمة وذلك بأستلام حقوقهم من الخراج. ويذكر الاستاذ مجيب سعد بأن الأمام كرر الفعل (عض) في ثلاثة خطب(32) أي يعرض اسلوب الإمام علي عليه السلام في أكثر من موضع من النهج ولم يتقيد بالخطبة الواحدة لأنه يتخذ المرجع واحد فإن المتكلم هو نفسه عليه السلام والمتلقي هو الجيش، فإن التوصيات والأوامر والحذر هو واحد في أي معركة ومع لقاء أي عدو، والغرض من تكرار هذا الفعل هو بعث روح الحماسة والقوة في الجيش جاء في بعض صور الامام وأكثر خطبه التكرار لألفاظ بعينها ففي المثال الاول (نفسك) والثاني (واحد) والثالث (الصلاح وسواهم) والرابع (عض) وكذلك تختلف أغراضه من خطبة الى أخرى. وهذا مما يترك اثره في ترديد اللفظ داخلی

ص: 154

المقصود غرضه. لاريب في إعادة الكلمة واسترجاع أصواتها أثره في إحداث الموسيقى(33). وهذا الأمر استوحى من سياق النص بأكمله لا بجملة واحدة يمكن لا يحدث فيها تکرار فهو على مستوى السياق للنص. ويبدو أنه حين يقتضي السياق تکرار لفظ ما فإن الايقاع سيكون مشدداً الى مضمونه بأشد ما یکون(34). وهذا نراه ايضاً في قوله عليه السلام في خطبة خطبها في صفين: ((أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لِاحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لِاحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ...))(35). کرر عليه السلام (لي، ولكم، علي وعلیکم) عدة مرات والغرض رفع الفوارق بين الخليفة أو القائد أو الأمام ورعيته وقارن بين حالات، وكرر الفعل (جری) المختلف صیغة التوكيد على العدل الالهي وصروف القضاء في خلقه وتقلبات الأمور الجارية على الناس من امتحانات و ابتلاءات من (افقار، اغناء، أمراض، إحياء، أمانة، وغير ذلك..) لتكرار الفعل سبع مرات أثره وإيقاعه في إحداث موسيقى ونغم خاص. ولهذا نرى الصيغة على هيئة الفعل ولم تأتي على هيئة اسم وذلك لعدم ثبات هذه الحقيقة.

3 - تكرار المعنى واللفظ مختلف

ويشمل الترادف وشبه الترادف كما في قول الامام عليه السلام: ((فَإِنَّهُ لَيْسَ

مِنْ فَرَائِضِ اللهِ عزوجلّ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً، مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشْتِيتِ

آرَائِهِمْ، مِنَ تَعْظيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ))(36). فكرر عليه السلام لفظتا (تفرق، تشتت)

ص: 155

وهما يتفقان في المعنى ويختلفان باللفظ وكذلك (أهوائهم، آرائهم) فالهوى ما تميل له نفسه والرأي ماتقره نفسه وهو تابع للهوى. فالمرجع واحد وهو الناس والعلاقة داخلية قبلية عادت علی سابق من كلام له عليه السلام في التخاذل والتقاعس عن الحرب ((أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا))(37). كرر عليه السلام الالفاظ المتفقه أو شبه متفقة بالمعنى ومختلفة باللفظ (أتلوعلیکم، أعظكم) (الحكم، الموعظة البالغة) و(فتنفرون، وتتفرقون) و(منها، عنها) اتفقت المتتاليات الجملية بمعناها واختلفت بالفاظها والغرض من ذلك توضيح مایُمَکَن في نفوس القوم من التخاذل والتقاعس. فالمرجع واحد وهو المخاطبون (انتم) والعلاقة قبلية داخلية.

ومن كلام له عليه السلام: ((فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَة خَلِيَّة مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَة

مِنَ الرَّيْبِ، فَوَ اللهِ إِنِّ لاَوْلَ النَّاسِ بِالنَّاسِ!))(38). كرر عليه السلام الالفاظ المترادفة (خلية وسليمة) و(من الغش ومن الريب) وكرر ايضاً بتكرار محض إني أولى الناس بالناس. خاطب الامام عليه السلام اصحابه منهم المرجع في الخطبة (انتم) والعلاقة داخلية فهي بين المتكلم والمتلقي والعلاقة قبلية. فكانت جميع الإحالات قائمة بدورها على أتم وجه إذ أحكمت هذه الوسيلة الإتساقية في ربط أجزاء النصوص ربطاً مسبوقاً جميلاً مؤديةً معناه بأتم وجه.

3 - التكرار الجزئي (Partial Rccurrehce)

وهو مایکرر بالاستعمالات المختلفة للجذر اللغوي.

ومن قول له عليه السلام ((وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْه))(39). فاشتق عليه السلام من جذر (نام - ينم) وكرر اللفظ لمشابهة الفعل الذي يفعله الانسان وسوء عاقبته.

وفي قول له عليه السلام ((راجِعَتُ الناسِ قد رجعتْ))(4). أخذ عليه

ص: 156

السلام من جذر رجع الفعل الماضي رجعت واشتق اسم الفاعل منه وهم الناس الراجعين نسبة للفعل الذي استعمله (رجعت).

وقوله عليه السلام: ((وَإِيَّاكَ وَالاْعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاْطْرَاءِ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ.))(40). كرر عليه السلام (الاعجاب، يعجبك) و (الثقة، اوثق) و (الاحسان، المحسنين) فأخذ من (عجب) و (وثق) و(حسن) هذه الألفاظ کررت باشتقاقها.

قال عليه السلام: ((إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ

بِغَیْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِىءٌ بِالْحُكْمِ بَیْنَ الْعِبَادِ، فِيَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ

يَوْمَ الْقِيَامةِ))(42). کررعليه السلام الألفاظ (سفكها، سفك، تسافكوا) واخذها من جذر (سفك) وايضاً كرر لفظة (دماء) وهو تكرار محض.

ومن كتاب له عليه السلام الى معاوية: ((فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَاجْتِيَاحَ

أَصْلِنَا، وَهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَفَعَلُوا بِنَا الاْفَاعِيلَ)(43). فكرر عليه السلام (هموالهموم) من جذر (همّ) و(فعلوالافاعيل) من جذر(فعل).

وظيفة التكرار وأهميته في أنه(44).

1. يسعى الى تدعيم التماسك النصي.

2. يسعى الى تحقيق العلاقة المتبادلة بين العناصر المكونة للنص، لتحقيق التماسك النصي وذلك عن طريق امتداد عنصر ما في بداية النص حتی اخره، وهذا العنصر قد يكون كلمة أو عبارة أو جملة فيساعد بربط

ص: 157

عناصر النص. يقوم التكرار بهذه الوظائف بشرط اساسي هو أن يكون العنصر المكرر نسبة وروده عالية في النص(45).

4 - التوازي

يتم بتكرار البنية مع ملئها بعناصر جديدة. وهو ربط بين عناصر متساوية في الحال عنصر سابق وعنصر آخر متصل به أو لاحق، كل من هذين العنصرين حر، أي له كيانه الوظيفي الكامل(46). ويعني نوعاً من التشابه، فلا تطابق تام ولا تمایز مطلق، وفيه يكون التكرار غیر کامل، إذ قد تتساوى الوحدات الدلالية في الطول(47).

ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض امراء جيشه ((فَانْهَدْ بِمَنْ أَطاعَكَ إِلَی مَنْ

عَصَاكَ، وَاسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ))(48). تساوت الوحدات الدلالية في الصيغة، فلا یزید بعضها على بعض بالطول وايضاً تتفق بالمعنی والايحاء الدلالي بين العبارتين (فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك) (واستعن بمن انقادمعك - عمن تقاعس عنك).

من كتاب له عليه السلام الى معاوية: ((وَكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ

جَلاَبِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا، وَخَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا، دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا،

وَقَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا، وَأَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا))(49). جاءت الوحدات الدلالية متوازية في كل شي حتى في الحركات والسكنات والطول والمعنى فوازی علیه السلام بين (تبهجت بزينتها مع خدعت بلذتها) و (دعتك فأجبتها مع قادتك فاتبعتها مع امرتك فأطعتها)، فشكلت ما يشبه الأزواج من الأعمدة التي يقام عليها البيت. أي قاعدة رصينة.

ومن كلام له عليه السلام: ((وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ، وَوُلاَةَ أَمْرِ

ص: 158

الاْمَّةِ؟ بِغَیْرِ قَدَم سَابِق، وَلاَ شَرَف بَاسِق))(50). جاء التوازي بين (ساسة الرعية وولاة أمر الأمة) (بغير قدم سابق، ولا شرف باسق) فكانت العبارات کحلقة سلسلة متصلة متماسكة ومتناسقة فظهر بمظهر منسجم تام المعنى والدلالة.

ومن كلام له عليه السلام کلم به الخوارج: ((فَأُوبُوا شَرَّ مَآب وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الاْعْقَابِ))(51). وازی علیه السلام بين اللفظتين (أوبوا - إرجعوا) الفعلين يدلان على العودة وأوبوا أي انقلبوا إلى ربكم وهي العودة الأخروية، وارجعوا وهو الارتداد على الاعقاب والعبارتان متوازيتان بكل مقاطعها.

ثانياً - التضام أو المطابقة أو المصاحبة المعجمية (Collacation)

وهو توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة نظراً لارتباطها بحكم هذه العلاقة أو تلك(52) والعلاقة النسقية التي تحكم هذه الأزواج في خطاب ما هي علاقة تعارض(53) کالالفاظ (بنت، ولد) (جلس، وقف، ليل ونهار) (أحب، أكره) وهناك علاقات أخرى مثل (الكل والجزء) أو عناصر من نفس الجزء العام مثل گرسي وطاولة.

وللتضام أثر في تقريب المعنى المراد، عندما يكون لبعض الألفاظ أكثر من معنی، وهي بموقعها هذا تقوم بما يحتاجه فهم النص من قرائن مقالية وعقلية وحالية(54)، وأيضا تفيد في فهم النص من خلال المشاكلة، وهي أن تأتي بلفظ يعبر عن المعنى أو يقربه لفهم المتلقي كما في قوله تعالى «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ»(55) فهنا الرد على المكر هو ليس مکر، إنما يراد به أن الله يأتي بها جئتم به لتقريب معنى العقوبة وهي جزاء مکرهم. فالمطابقة تؤدي دوراً مهماً في الصياغة اللفظية والترابط المعنوي والدلالي ويقسم التضام المعجمي الى أقسام:

ص: 159

1. التضام بجميع درجاته سواء كان بين الكلمتين تضاد کامل مثل (ولد بنت) ام كان بينهما تخالف أو تناقض مثل (أحب، أكره).

2. الدخول في سلسلة مرتبة مثل (السبت والاحد...).

3. لاقة الكل والجزء، الجزء والجزء مثل (بیت ونافذة وباب).

4. الاندراج في قسم عام مثل (طاولة، کرسي).

وقد يتسع التضام ويشمل مجموعة من الكلمات لا أزواجاً مثل (شعر، أدب، کاتب)

ومن كلام له عليه السلام ((أَلاَ وَإِنِّ قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَ قِتَالِ هؤُلاَءِ القَوْمِ

لَيْاً وَنَهَاراً، وَسِّراً وَإِعْلاَناً))(56). جمع الامام في هذه الخطبة بين المتناقضين (الليل والنهار) وهما أحد أقسام التضاد.

ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس الى أهل الشام: ((وَأَمَّا حَقِّي

عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْغِيبِ، وَالاْجَابَةُ حِنَ أَدْعُوكُمْ،

وَالطَّاعَةُ حِنَ آمُرُكُمْ))، في كلام الامام عليه السلام مطابقات كثيرة، منها مصاحبة الغيب والشهادة فهنا يعمم الوفاء والنصيحة اللذان هما حقه على رعتيه في المشهد والمغيب.

ومن كلام له عليه السلام: ((وَالْحَمْدُ للهِ كُلَّاَ لاَحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ)) يطابق الامام في كلامه بين مغيب النجم وظهوره اي لاستمرار حمده في كل أوقاته عليه السلام. ومن أمثلة التضاد بجميع درجاته فيصاحب عليه السلام بين المضادات (دنیا وآخرة، وجنة ونار).

ومن خطبة له عليه السلام: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ بِوَدَاع، وَإِنَّ

ص: 160

الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّاَع، أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمارَ، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ

الجَنَّةُ وَالغَايَةُ النَّارُ))(59) صاحب عليه السلام بين الازواج (دنیا، آخرة) (اليوم، غدا») و(الجنة والنار) فجمع بين المضادات في عبارة واحدة وكانت رائعة في جمع الاضداد.

ومن خطبة له عليه السلام: ((وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا))(60)، الجمع بين هذين الضدين دليل على انه في كل حالة من الاحوال كانت دعوتي لكم فبهذين الضدين اختصر عليه السلام من عبارات حتی تکفي هذا المعنى.

وكان من کلام له عليه السلام ترتیب و تسلسل الأحداث اذ جعل الإيمان بالله وبعث الانبياء والموعد الاخرة مرتباً في خطبته: ((الْحَمْدُ للهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ،

وَالْبَاسِطِ فِيهمْ بِالْجُودِ يَدَهُ، نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ،

وَنَشْهَدُ أَنْ لاَإِلهَ غَیْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً، وَبِذِكْرِهِ

نَاطِقاً، فَأَدَّى أَمِيناً، وَمَضَى رَشِيداً، وَخَلَّفَ فِينَا رايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ

تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ ومَنْ لَزِمَهَا لِحَقَ، دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلامِ، بَطِيءُ الْقِيَامِ))(61)، رتب عليه السلام خطبته على ترتيب أصول الدين بدأ بإثبات الوجود الإلهي، ثم النبوة لمحمد صلى الله عليه وعلى آله ثم الموعد والميعاد.

ومن خطبة له عليه السلام: ((وَالْحَمْدُ لله الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ

عَرْشٌ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إنْسٌ))(62) جمع عليه السلام بين (الكرسي والعرش) و(السماء والأرض) و (الجان والانس) دلالة العموم لكل الأشياء سواء كانت من مقسم واحد أو أضداد أو غيرها فهي معناها قبل كل المخلوقات أي جمع بهذه الأزواج كل الخلق الذي سبقه الوجود الألهي.

ص: 161

المبحث الثالث: الحذف

يُعد الحذف من القضايا التي عالجتها البحوث النحوية والبلاغية والأسلوبية بوصفه انحرافاً عن المستوى التعبيري العادي(63). إن الحذف وسيلة من وسائل السبك، توظّف داخل النص، ويختلف عن الإستبدال إذ إن الأخير يتضمن تعويض عنصر لغوي في النص بعنصر آخر، إنما المحذوف لا يحل محله شيء ولكن يمكن تقديره من خلال القرائن الموجودة في النص وتربط الحذف علاقة قبلية(64).

يقول الفقي المحذوف كالموجود، اذا وجد دليل يدل عليه. ويذكر محورين أساسين يقوم عليهما التماسك في تراكیب الحذف هما(65).

1. التكرار: ويحصل كون المحذوف من لفظ المذكور او مرادف له او متعلق به.

2. المرجعية: وتسهم في تقدير المحذوف وذلك لطبيعة علاقة المرجعية لما سبق.

ويبيّن أيضا اذا كانت المرجعية بين المحذوف والمذكور، فهي داخلية لاحقة (بعدية)، واذا كانت بين المذكور والمحذوف على الترتيب فهي سابقة (قبلية)(66). وينقل عن هاليداي أكثر أنماط الحذف التي تؤدي الى تماسك النص(67):

1 - حذف الاسم

نرى الإمام عليه السلام يحذف الإسم من العبارة أو القول فما يزيده إلا تماسكاً وانسجاماً، بعيداً عن الخلل والغموض في الكلام. ومن جواب له علي السلام الى معاوية: ((فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَاجْتِيَاحَ أصْلِنَا، وَهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَفَعَلُوا بِنَا الاْفَاعِيل، وَمَنَعُونَا الْعَذْبَ، وَأَجْلَسُونَا الْخَوْفَ، وَاضْطَرُّونَا إِلَی جَبَل

ص: 162

وَعْر....))(68). حذف عليه السلام العبارة (شرب الماء) في ومنعونا العذب، أي ومنعونا شرب الماء العذب. وأيضا حذف المصدر (جلسة) في وأجلسونا الحوف، وأصل الكلام وأجلسونا جلسة الخوف، وحذف المصدر (الصعود) في واضطرونا الى جبل وعر، أواضطرونا الى الصعود على جبل وعر. ولم يقع خلل في كلامه عليه السلام.

ومن كتاب له عليه السلام الى معاوية جواباً عن كتاب منه اليه: ((وَأَمَّا

طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ، فَإِنِّ لَمْ أَكُنْ لِاعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ))(69).

حذف عليه السلام (ولاية) من عبارة فأما طلبك الیّ الشام فلولا الحذف لقال فأما طلبك الى ولاية الشام.... فحذف عليه السلام الاسم من العبارة. و من قول له عليه السلام بحذف الاسم وكذلك حرف الجر ((اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ،

وَمُدَّتِ الاْعْنَاقُ، وَشَخَصَتِ الاْبْصَارُ، وَنُقِلَتِ الاْقْدَامُ، وَأُنْضِيَتِ الاْبْدَانُ. اللَّهُمَّ قَدْ

صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ))(70) فقد حذف عليه السلام (اليك) من (ومدت الاعناق) و(شخصت...ونقلت.... والضيت...) وكذلك حذف الفاعل من (صرح مكتوم الشنائن) وهو القوم. أي صرّح القوم بما يكتمون من البغضاء(71).

ومن وصية له عليه السلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: ((فَإذَا كَانَتِ

الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ فَاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً،....))(72). حذف عليه السلام (بعدوكم) أي اذا كانت الهزيمة بعدوكم ويدل على ذلك ما قال له بعدها (لا تقتلوا ولا تصيبوا..) أي أن الغلبة لكم والنصر. فحذف عليه السلام الإسم المجرور مع سبك العبارة وإتساقها.

ومن خطبة له عليه السلام: ((وَلَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ

لَهُ بَالمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ))(73). حذف عليه السلام الفاعل وهو (الله) تبارك

ص: 163

وتعال ثم عود عليه الضمائر المنفصلة والمتصلة (وهو، له) والدليل على المحذوف أمران الفعل - أمهل الظالم لن يفوت أخذه - وذلك أن الله يمهل العباد وإنه لا يفوته الظالم(74). والأمر الثاني قوله وهو له بالمرصاد.

من كتاب له عليه السلام الى معاوية جواباً: ((أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ

عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الاْلفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَفَرَّقَ بيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَكَفَرْتُمْ،

وَالْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَفُتِنْتُمْ))(75). حذف عليه السلام الضمير المنفصل (انتم) في العبارتين (انا امنا وكفرتم) و(انا استقمنا وفتنتم) فأن من الممكن أن يقول (انا امنا وانتم كفرتم) و (انا استقمنا وانتم فتنتم) ويدل على هذا الحذف ما تقدم من قوله عليه السلام (فإنا كنا نحن وانتم) ثم استرسل بالكلام ولم يذكر الضمير (انتم) والنفي بالضمير المتصل وان الحذف منسجم مع الكلام واضاف للكلام رونقا.

ومن وصية له عليه السلام المعقل بن قيس حين انفذه إلى الشام: ((اتَّقِ اللهَ

الَّذِي لاَبُدّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ، وَلاَ مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ، وَلاَ تُقَاتِلَنَّ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَكَ، وَسِرِ

الْبَرْدَيْنِ،غَوِّرْ بِالنَّاسِ، وَرَفِّهْ فِي السَّیْرِ))(76). فلو بسط الكلام وأورد المحذوف في كلامه في (وسر البردين) أي وسر في وقت أو زمن البردين ويقصد (بالبردين) وقت الصباح الباكر ووقت الليل اللذان يكونان باردان بالنسبة لليوم ولكنه اسقط هذه العبارة (في وقت) من النص وأتی به على أتم معنی.

2 - حذف الفعل

يعدّه دي بوجراند أكثر ما يلفت النظر لأن التراكيب الانجليزية يمكن أن تتخلى عن العناصر الأخرى بيسر أكبر، فالعبارات التي لا يذكر فيها الفاعلون أكثر انتشارا من العبارات التي تحذف افعالها(77).

ص: 164

في خطبة للامام عليه السلام وهو يقول لأصحابه عند الحرب: ((لاَ تَشْتَدَّنَّ

عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ، وَلاَ جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ))(78). فقد حذف الفعل في العبارة الثانية وهو (تشتدّنّ) لوروده في العبارة الأولى وعطف العبارة الأولى على الثانية فاستغنى عن ذكر الفعل مرة اخرى وذلك لمنع التكرار وطول الحديث الذي لا مبرر له.

ومن كتاب له علية السلام الى معاوية: ((وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ

الاْمْنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ))(79). حذف عليه السلام الفعل أحذرك الثاني في العبارة وأحذرك أن تكون مختلف العلانية والسريرة ويدل على ذلك «مختلف» المنصوبة لفعل محذوف والدليل الثاني على أن الفعل أحذرك هو الفعل الأول.

ومن وصية له عليه السلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: ((إِنْ كَانَ الرَّجُلُ

لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفِهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَيُعَیَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ.))(80). حذف عليه السلام الفعل (يعير) من عبارة وعقبة من بعده والأصل ويعير عقبه من بعده ومن كلام له عليه السلام للخوارج وهم مقيمون على إنكار الحكومة ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن القتل ليدور على الاباء والابناء والاخوان والقرابات فما نزداد على كل مصيبة وشدة الا ايماناً ومضياً على الحق وتسليماً للأمر وصبراً على مضض الجراح)). حذف عليه السلام الافعال عن الموارد الاتية (ومضياً.. وتسليماً... وصبراً...) أي أن التقدير في العبارات نزداد مضياً على الحق، ونزداد تسليماً للأمر، ونزداد صبراً على مضض الجراح ودلّ على المحذوف المرجع السابق في بداية فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا ايمانا.

وفي قوله عليه السلام لأصحابه في ساحة الحرب وهو يوجه الجيش، يحذف الفعل تارة وبحذف الاسم تارة أخرى ويحذف الاداة تارة أخرى. مع الحفاظ على

ص: 165

صورة الخطبة وهيبتها واتمام بلاغتها وفصاحتها ودون نقص أو خلل في التوجيه: ((إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهمْ دُونَ طَعْن دِرَاك يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ، وَضَرْب يَفْلِقُ الْهَامَ، وَيُطِيحُ العِظَامَ، وَيُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَالاْقدْاَمَ، وَحَتَّى يُرْمَوْا بِالمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسَرُ، وَيُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ، تَقْفُوهَا الْحَلاَئِبُ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ، وَحَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِر أَرْضِهِمْ، وَبِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَمَسَارِحِهِمْ))(81). حذف عله السلام (دون) من عبارة (وضرب يفلق الهام) ولولا الحذف لقال ودون ضرب يفلق الهام وكذلك حذفها من (ويطيح العظام) و (ينذر السواعد والاقدام) أي (ودون ضرب يطيح العظام) و(ودون ضرب ينذر السواعد والاقدام) فكان الحذف من العبارات السابقة ب(دون، طعن، ضرب). ثم حذف (حتى) من (يرجموا بالكتائب...) ولولا الحذف لكانت (وحتى يرجموا بالكتائب) وكذلك حذف الجملة (وحتى تدع الخيول) من عبارة (بأعنان مساربهم) أي تكون (وحتى ندع الخيول بأعنان مساربهم ومسارحهم).

تعددت أساليب الحذف في هذه الخطبة، مرة بالاسم، ومرة بالاداة، وأخرى بالجملة وكلها احالات داخلية قبلية أي توحى الى داخل النص والى ما قبله، مع الحفاظ على الاتساق والانسجام الواضحان في الخطبة مع وجود القرآئن الدالة على المحذوفات وجلية التقدير لمحذوفها. فاللجوء الى الحذف ينبع من دواع جمالية وبلاغية تزيد النص رصانة وتؤدي به الى التماسك وتفعيل المشاركة بين القائل والمتلقي في انتاج المعنى وتشكيله والافادة من التراكم المعرفي لدى كل منها وبذلك يكون الحذف هو استبعاد العبارات السطحية التي يمكن لمحتواها المفهومي أن يقوم في الذهن أو أن يوسع أو أن يعدل بواسطة العبارات الناقصة(82).

ص: 166

3 - حذف العبارة

قال الامام عليه السلام في ايام صفين لأصحابه وهو يصف حالتهم في المعركة فهم في أول الأمر كانوا مغلوبين وفي آخره تمكنوا وانتصروا على عدوهم: ((وَلَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَة، تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ))(83) فقد حذف عليه السلام المضاف في عبارة (بآخره) والتقدير بآخر المعركة أو آخر الأمر. والعلاقة بين المحذوف ومرجعه علاقة قبلية والمرجع ذكره للمعركة قبل هذا النص.

ومن خطبة له عليه السلام: ((أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَىَ بِمْ أُمَرَاؤُهُمْ))(85). حذف الامام عليه السلام (يا أيها الناس) وذكر أيها للإختصار عن هذه العبارة، من كل العبارات، المثال والتقدير یا ایها الناس الشاهدة ابدانهم، يا أيها الناس الغائبة عقولهم، المختلفة أهوائهم.

4 - حذف الجملة:

ومن كتاب له علية السلام الى معاوية: ((وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ

الاْمْنِيَّةِ، مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ))(85)، حذف عليه السلام الجملة في مختلف العلانية، والأصل وأحذزك أن تكون مختلف العلانية. قال الامام عليه السلام في بعض أيام وصفين وقد رآی الحسن عليه السلام يتسرع الى الحرب: ((الحرب: ((امْلِكُوا عنِّي هذَا الْغُاَمَ لاَ يَهُدَّنِ....))(86) اي احجر واعليه كما يحجر المالك على مملوكه(87). ف(عليّ) متعلقة بمحذوف تقديره استولوا عليه وابعدوه عني وفي قوله (املكوا) معنى البعد ولكنه اعقبه ب(عليّ) لأنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين إلا وقد أبعدوه عنه فلذلك قال (املكوا عليّ هذا الغلام)(88).

ص: 167

ومن كلام له عليه السلام الى الخوارج: ((فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ »صلى

الله عليه وآله»، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ بَیْنَ الاْباءِ وَالاْبْنَاءِ وِالاْخوَانِ وَالْقَرَابَاتِ))(89). فحذف عليه السلام عبارة - وأن القتل ليدور على كل من (الابناء، الاخوان، القرابات) وأصلها أن القتل ليدور على الأبناء وأن القتل ليدور على الاخوان وأن القتل ليدور على القرابات فالحذف منعا للتكرار وطول الحديث وثقل العبارات.

وما يترتب على المتلقي ليتواصل مع التحليل النصي بفهم وظيفة الحذف في التحليل من عدة جوانب(90).

1 - تقدير المحذوف.

2 - الصلة بين المحذوف والدليل عليه أو المذكور، أي البحث عن الدليل.

3 - صلة الحذف بكل من المرجعية والتكرار ومن بعد بيان نوع المرجعية.

الواضح أن الحذف مرغوب في بعض المواقف وبعض الظروف، والموقف هو الذي يحد كم من المواقف الشديدة التحديد، يعمد الناس الى الاقتصاد بها، بوساطة الحذف، أو الاختزال في وقائع البنية التعبيرية السطحية

ص: 168

الخاتمة:

تمخضت الدراسة عن تطبيق معيارين من معايير علم النص السبعة التي أوجدها العالمان: دي بوجراند ودريسلر ، هما معيارا السبك المعجمي والحذف على نص عربي عال للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، في كتاب نهج البلاغة.

إنَّ غاية علم النصّ فهم أوجه الترابط النحوي والدّلالي المتجاوزة للجملة الواحدة إلى سلسلة قصيرة، أو طويلة من الجمل تؤلف نصّاً محدداً. فكان التطبيق النصي سهلاً مرناً والنص متماسكاً ومنسجماً. وهذا شأن النص العربي عامة إذ إن اللغة العربية غير قاصرة عن احتواء علوم جديدة، أجنبية.

وإن أقوال الإمام كانت طيّعة للتطبيق لإحتوائها على عناصر التماسك النصي. ولا ننأى عن الصواب اذا قنا: إن نهج البلاغة يمثل أصالة اللغة العربية، ومعجم مفرداتها، ومنشأ بلاغتها وفصاحتها. وكانت شخصية الإمام واحدة من حيث الأسلوب والمضمون والمثل العليا التي وسمت خطبه من الشجاعة والأخلاق السامية، ملتزما مبادئ الدين الإسلامي وما جاء به النبي الأكرم. رابطا الدين بالسياسة، فكان ينهى عن السبّ والمُثلى وقطع الماء عن العدو كما فعل العدو، وأيضاً ينهى عن ضرب المرأة والجريح والطفل وكذلك ينهى عن قطع الشجرة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله الطيبين اوسلّم تسليما.

هوامش البحث:

1. عثمان ابو زنيد - نحو النص / 31

2. رمضان عبد التواب - مدخل الى علم النص / 188

3. المصدر نفسه

ص: 169

4. ينظر: النص والخطاب والاجراء - ص 103

5. نعان بوقرة مصطلحات الأساسية / 142

6. خطابي - لسانیات النص / 13، نقلا عن هاليداي ورقية حسني cohersion in english ص 2

7. نعمان بوقرة - المصطلحات الاساسية / 138

8. الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة / 355

9. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 13 / 483

10. المصدر نفسه

11. قصص بطولات الإمام عليّ عليه السلام / 9

12. المصدر نفسه

13. المصدر نفسه

14. ارشاد القلوب / 193

15. نهج البلاغة 3 / 14

16. ارشاد القلوب / 196

17. خطابي - لسانیات النص / 24

18. ليندة قياس - لسانیات النص / 124

19. خطابي- لسانیات النص / 24

20. المصدر نفسه

21. المصدر نفسه 25

22. الفقي - علم لغة النص 2 / 17

23. خطابي - لسانیات النص /

24. نهج البلاغة 1 / 63

25. الثبات: إن ثبات stabilrry النص بوصفه نظاماسیبرنطيقيا يتوقف على تماسك وقائع الانظمة المشاركة فيه.

26. النص والخطاب والاجراء / 303

27. المصدر نفسه / 306

28. عثمان بوزنید - نحو النص / 139

ص: 170

29. نهج البلاغة 3 / 37

30. نهج البلاغة 3 / 114

31. المصدر نفسه 3 / 96

32. بحوث المؤتمر العلمي الدولي الاول - جامعة الكوفة، نجيب سعد، البنية الكبرى / 93

33. التصوير الفني لخطب الامام علي عليه السلام / 218

34. المصدر نفسه / 219

35. نهج البلاغة 2 / 198

36. نهج البلاغة 3 / 106

37. - نهج البلاغة 1 / 188

38. المصدر نفسه 1 / 231

39. نهج البلاغة 3 / 121

40. المصدر نفسه 1 / 119

41. المصدر نفسه 3 / 108

42. المصدر نفسه 3 / 107 - 108

43. المصدر نفسه 3 / 8

44. الفقي - علم لغة النص 2 / 21 - 22

45. المصدر نفسه.

46. بحوث المؤتمر الدولي الاول، جامعة الكوفة - تقنيات الحجاج في نهج البلاغة، مؤید ال صوينت،

47. عثمان بو زنید - نحو النص / 147

48. نهج البلاغة 3 / 6

49. نهج البلاغة 3/ 10

50. نهج البلاغة 3 / 11

51. نهج البلاغة 1 / 106

52. خطابي - لسانیات النص / 25

53. المصدر نفسه

54. عثمان بو زنيد - نحو النص / 140

55. آل عمران / 54

ص: 171

56. نهج البلاغة 1 / 68

57. نهج البلاغة 1 / 84

58. المصدر نفسه 1 / 97

59. المصدر نفسه 1 / 70

60. المصدر نفسه 1 / 188

61. المصدر نفسه 1 / 193

62. نهج البلاغة 2 / 105

63. نعمان بوقرة - المصطلحات الأساسية / 106

64. ينظر - خطابي - لسانیات النص / 21

65. الفقي - علم لغة النص 2 / 221

66. الفقي - علم لغة النص 2 / 203

67. الفقي - علم لغة النص 2 / 196

68. نهج البلاغة 3 / 9

69. المصدر نفسه 3 / 16

70. نهج البلاغة 3 / 15

71. المصدر نفسه - الهامش

72. المصدر نفسه 1 / 187

73. المصدر نفسه 1 / 187

74. المصدر نفسه - هامش

75. نهج البلاغة 3 / 122

76. نهج البلاغة 3 / 13

77. النص والخطاب والاجراء / 363

78. نهج البلاغة 3 / 16

79. المصدر نفسه 3 / 11

80. المصدر نفسه 1 / 15

81. نهج البلاغة 2 / 4

82. النص والخطاب والاجراء / 301

ص: 172

83. نهج البلاغة 2 / 206

84. نهج البلاغة 1 / 188

85. المصدر نفسه 1 / 11

86. نهج البلاغة 2 / 168

87. الاثر القرآني في نهج البلاغة / 103

88. الاثر القرآني في نهج البلاغة / 103

89. نهج البلاغة 1 / 236

90. الفقي - علم لغة النص 2 / 225

ص: 173

المصادر والمراجع

1. التعريفات، ابو الحسن علي بن محمد الجرجاني المعروف بالسيد الشريف (ت 816 ه)، تقديم د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، العراق، (1406 ه / 1986 م).

2. توضيح نهج البلاغة - الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي - الطبعة المحققة الاولى - سوريا 1423 - 2002 م.

3. الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة - الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي توفي 413 هجرية طبعة مكتب الاعلام الاسلامي 1414 هجرية ایران.

4. أسس لسانیات النص، ماغورت هاینمان وفولفغنغ هاینمان - الطبعة الاولى، جمهورية العراق، بغداد - ترجمة عن الالمانية، أ.د. موفق محمد جواد المصلح. 2006.

5. أصول المعايير النصية في التراث النقدي سن بن محمد الديلمي، قم المقدسة طبعة ذوي القربی. عبد الخالق فرحان شاهي - رسالة ماجستير - كاية الآداب -جامعة الكوفة 1433 ه 2012 م

6. شرح نهج البلاغة - كمال الدين میثم بن علي بن میثم البحراني الطبعة الاولى - لبنان بيروت - 1430 - 2009 م

7. علم اللغة النصي - د- محمد ابراهيم الفقي- مدرس العلوم كلية الآداب - جامعة طنطا - الناشردار قباء - القاهرة الطبعة الأولى - 1432 - 2000 م.

ص: 174

8. قصص بطولات الامام علي عليه السلام - محمد حسن دخيل - طبعة دار المرتضی بیروت 1425 هجري

9. لسانیات النص - مدخل الى انسجام الخطاب - محمد خطابي – الناشر المركز الثقافي العالي - بيروت الحمراء - الطبعة الأولى 1991 م.

10. لسان العرب - العلامة ابن منظور - الناشر دار الحديث - القاهرة 1423 - 2003 م

11. مدخل الى علم النص، د. محمد الأخضر الصبيحي، الجزائر العاصمة الطبعة الاولى، الجزائر، 1429 - 2008.

12. مدخل الى علم لغة النص - روبرت ديبو جراند ولفغانغ دريسلر - جامعة فلوريدا - جامعة فينا - اعد الكتاب للطبع مرکز نابلس للكمبيوتر - الطبعة الأولى 1413 هجری - 1992 م - مطبعة دار الكاتب سمير اميس.

ص: 175

ص: 176

صفاتُ القضاة في نهج البلاغة قراءة تأويليّة

اشارة

الأستاذ المتمرّس

الدكتور حاكم حبيب الكريطي

ص: 177

ص: 178

أقام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام دولة العدل الإلهي مدة خلافته، على الرغم من كثرة الحروب التي فرضها مناوؤه عليه، لأنّهم يفقدون ما يتمنّونه حتما إذا عاشوا كغيرهم في تلك الدولة. ولما كان العدلُ هو الأسُّ المكين الذي أقام علیه دولته، فقد اهتم عليه السلام باختيار القضاة والولاة، لأنّهم همُ الذين يطبقون العدل الذي يُريده عليه السلام.

ومن هنا تكرّر ذكرُ هذين الصنفين في نهج البلاغة، وعلى الرغم من اختياره عليه السلام لهؤلاء بنفسه فإنّه عليه السلام كان يوصي من يختاره بوصايا، يستنبط منها الصفات التي يُريدها فيمن يختار، وهو بهذا يضع بعضاً من الأُسس التي ينهضُ عليها بناء الدولة من جهة، ومن جهة أخرى يقطع على المتربّصين طريقِ الاعتراض على من يختاره للعملِ قاضياً أو واليا.

لقد وضع الإمام عليه السلام أسس اختيار هؤلاء وحدّ صفاتهم في الكتب التي كان يبعثها لمن يختارهُ للقضاء، أو لمن يبعثه والياً ويكلُ إليه اختيار القضاة العمله، وبذا يضعُ أمام المسلمين عامةً ما يريدُهُ في القاضي من صفات، وبهذا يهيء هم الأمان بأنّ من يتولّى الفصلً بينهم مأمون في عدالته على وفقِ طاقةِ الإنسان، ويدفع أهل الخصومات إلى الانتباه إلى ما ينتظرهم من العدل عند القاضي، وبذا يتحقق ابتداءً الهدف التربوي الذي يسعى الإمام عليه السلام إلى تحقيقه والذي يتمثّل في تنبيه المسلمين إلى الصّرامة التي تنتظرُ من يريد أنْ يُجافي الحقّ في نزاعه مع الأخرين.

وقد ذكر الإمام عليه السلام من الصفات ما یُجسّدُ الروح الاسلاميّةِ الحقّة، وقيم العرف الاجتماعي التي أقرّها الاسلام، وتلك الصفات إذا اجتمعتْ في شخصٍ سيكون على قدر كبيرٍ من الهيبةِ التي تترك آثارها على المتنازعين ، إذْ يرون

ص: 179

أنّ من يقفون أمامه للفصلِ بينهم، يمتلك القدرة التي تُعينه على الإمساكِ بالحقّ وتعرية الباطلِ.

وقد اعتمدنا في قراءة الصفات منهجاً تأويليّاً يقوم على التقاط الألفاظ المركزية في النصوص، والعودة إلى المعجم العربي للوقوف على دلالاتها، وأخذ المعاني التي يقبلها السياق، دون الوقوف على المعنى الظاهر، وبهذا تنفتح دلالات النصوص على نحوٍ يظهرُ غزارة المعاني التي تحتملها الصفة الواحدة، من دون أن تشكّل هذه القراءة عبئاً على النصوص، أو تحميلها مالا تحتملُ. وهذا القراءة تجسّدُ ما نعتقدُ به من أنّ الإمام عليه السلام ينتقي من المفردات مايرى فيه القدرة على تجسيد مايريده من معاني الصفات التي يريد أن يتزيّن بها القاضي أو الوالي، وهذا شأنه عليه السلام في استعمال اللغة في خطبه وكتبه وحِکَمِهِ الواردة في نهج البلاغة، وفي غيره من مصادر المسلمين.

أسس اختيار القضاة:

يضع الإمام عليه السلام الأسسَ التي يُستندُ إليها في اختيار القضاة الذين يرادُ لهم أنْ يتصدّوا للحكمِ بين العباد، ويفصلوا فيما يقعُ بينهم من خصوماتٍ من أجلِ حمايةِ المجتمعِ من التّشتّتِ والفرقةِ والتناحرِ والتجافي، فيقول في عهده المالك الأشتر حينما ولّاهُ مصر: ((... ثمَّ اخترْ للحكمِ بين الناسِ أفضلَ رعیّتكَ في نفسكَ.))(1).

يُعطي الإمامُ عليه السلام للوالي (الحاكم) حقَّ اختيارِ القاضي بنفسه، ولم يشأ أنْ يختاره هو عليه السلام *** وهو خليفةُ المسلمين، وإنّما أرادَ أنْ يبني

دولةَ عدلٍ تقوم على مشاركةِ الآخرين من ذوي الشأني في بنائها، ومنهم الولاةُ، فأعطاهم هذا الأمرَ وجعلهُ حقّاً لهم.

ص: 180

ويضعُ عليه السلام الأسَّ الأوّلَ للاختياِر، وهو أنْ يكونَ المختارُ أفضلَ الرعيةِ في نفسِ الوالي. وهذه الأفضليةُ لا علاقة لها بمودة الوالي لشخصٍ دون آخر، وإنّما هي الأفضليّةُ التي تقومُ على العلمِ والخبرةِ والقدرةِ على استنباطِ الأحكامِ من القرآنِ والسُنّةِ، وهذا ما يتوسّمُه الوالي في أفرادِ رعيته، واستنادا إلى هذا يكون القاضي حاکماً و مُفتياً في آنٍ معا، ومن هنا فإنّنا لا نرى فرقاً بين الأمرين على وفقِ هذه الإشارةِ العلويةِ، كما ذهب إلى ذلك أحد العلماء حينما قال: ((على أنّه لم يعلمْ کون هذا حكماً شرعياً، أو حكماً ولائياً نافذَ المفعول إلى الآن، إذا الموقفُ يناسبُ أيضا كونه من تعاليمه عليه السلام، بما هو رئيس الحكومة لمالك الأشتر بما هو منصوب من قبله على مصر))(2).

ثمّ يذكرُ الإمام عليه السلام الصفاتِ التي يريدُها فيمن يتولّى القضاء من المسلمين وهي على النحو الآتي:

القدرة على تصريف الأُمور:

يُوجبُ الإمامُ عليه السلام أنْ يكونَ القاضي: ((ممّن لا تضيقُ به الأُمورُ، ولا تُمحكهُ الخصومُ))(3).

فالصفةُ الأولى تتمثلُ في قدرةِ القاضي على تصريفِ الأُمورِ التي تُعرض عليه، ولو كانتْ ملتبسةً ببعضها، إذْ يمتلك من الحنكةِ وحسنِ التدبيرِ ما یقوی بهِ على تخليص الملتبس. واللافت للنظرِ هنا أنّ الإمامَ عليه السلام جعل الأمورَ نفسَها تضيقُ بالقاضي نفسِه بأُسلوبٍ مجازيٍّ أسبغ على التعبيرِ بُعداً جماليّا، لنا أنْ نتصوّرهُ في أنَّ الأمور تضيقُ إذا رأتْ القاضيَ غيرَ قادرٍ على حلِّ ما یُشكلُ منها، وهي تمتلك القدرة على الاتّساعِ، فمن معاني الضيق: ((ما يكون في الذي يتّسعُ ويضيق))(4). وهذا الاستعمالُ البلاغيُّ لإسنادِ الضيقِ إلى الأمورِ، یعني فيما يعنيه،

ص: 181

أنّ على القاضيَ أنْ يمتلكَ من القدرةِ المعرفيّةِ ما يمكّنهُ من إيجادِ مخرجٍ لكلِّ ما یعرضُ له من دونِ أنْ يضيق صدرهُ بما يُواجههُ.

لا تُمحكه الخصوم:

أمّا الصفةُ الثانيةُ فهي: (لا تُمحِكهُ الخصوم)، ومن أجلِ الوقوفِ على ما يريدُهُ الإمامُ بهذه الصّفةِ، نعودُ إلى دلالةِ الجذر (محك) في المعجم. جاء في لسانِ العربِ المعاني الآتيةِ(5):

1 - محك: المَحْكُ المُشارَّة والمُنازعة في الكلام.

2 - المَحْكُ: التمادي في اللَّجاجَة عند المُساوَمة والغَضب ونحو ذلك.

3 - الجواد المَحِكُ: الذي يَلِجُّ في عَدْوِه وسيره.

4 - تَماحك البَيِّعان والخَصْمان: تَلاجَّا قال الفرزذق:

يا ابنَ المَراغَةِ والهِجاءُ إذا التَقَتْ *** أعناقُه وتَاحَك الخَصْمانِ

5 - رجل مَحِكٌ ومُاحِك ومَحْكانُ: إذا كان لَجُوجاً عَسِرَ الخُلقِ، وفي حديثِ عليٍّ

عليه السلام لا تَضِيق به الأُمورُ ولا تُمْحِكُهُ الخُصومُ،

6 - رجلٌ مُمْتحِكٌ ورجلٌ مُسْتَلْحِكٌ ومُتَلاحِكٌ في الغضبِ، وقد أَمْحَكَ وأَلْكَدَ

يكون ذلك في الغضبِ وفي البُخْلِ.

إنَّ نظرةً أولى على هذه المعاني تُظهرْ لنا أنَّ الّلجاجةَ والمنازعةَ وعُسرَ الخُلُقِ هي الإطار الذي يجمعُ المعاني الجزئيّةَ الواردة تحت الجذر (محك)، ولمّا كان عمل القاضي يقتضي الاستماع لحججِ المتخاصمين وهم يقفون أمامه، وكلُّ واحدٍ منهم يسعى إلى جرجرةِ الحقَّ إلى جانبهِ، فقد يقود هذا إلى التبرّمِ والضيقِ وتفلّتِ الصبرِ

ص: 182

من القاضي، وهنا يفقد القاضي صفةً رئيسةً من الصفات التي يوجبُها الإمامُ عليه السلام فيه.

أمّا المعاني الجزئية المشار إليها فتُعطينا التصوّر الآتي لاستعمالِ الإمامِ عليه السلام ل (تُمحِكُهُ الخُصُوم):

يُعطينا المعنى الأوّلُ ما يقعُ فيه المتخاصمان أمام القاضي من الّلجاجةِ التي تقودُ إلى الغضبَ (المعنى 2)، تحت تأثيرِ الخصومةِ، التي تجرفهما إلى المساومةِ والّلجاجةِ، كما يلجُ الجوادُ في عدوهِ وسيرهِ (المعنى 3)، واختيارُ صفةِ الجواد هنا تتماهى مع حالةِ المتخاصمَين أمام القاضي، فكأنّهما في سباقٍ من أجلِ السبقِ في الحصولِ على ميلِ القاضي لأحدِهما.

أمّا المعنى الرابعُ (تماحك البيّعان والخصمان)، فيومي هذا المعنى إلى أنَّ المتخاصمَينِ كأنّهما بائعان يقفان أمام القاضي، وكلُّ واحدٍ منهما يسعى إلى الغلبةِ في بيعِ بضاعته إلى القاضي، فيستعمل ما بوسعه من الّلجاجةِ من أجلِ تحقيق ذلك. ولا يخفى ما في هذه العبارة من تجسيدٍ لتصوير سلوك الباعةِ وهو يتمثّلُ في مايأتي به المتخاصمانِ أمام القاضي.

والمعنى الخامسُ (عُسر الخلق)، وفيه نقولُ: إنّ هذه الصفةَ قد لا تكونُ ملازمةً لمن يحضرُ أمام القاضي من المتخاصمَين، ولكنّها قد تتسرّبُ إلى من لا تکونُ ملازمةً له، تحت تأثير النزاع المحتدم مع خصمه، فتكون صفةً له في موطني النزاعِ هذا في مجلسِ القاضي.

ويبقى المعنى السادس (البُخل)، وهنا نقولُ: إنَّ أحدَ المتخاصمَينِ يُدرك أنّه على غيرِ الحقِّ، وهو يُواجهُ خصمهُ أمام القاضي، فيكون بخيلاً في إعطاءِ الحق لصاحبِهِ، فيلجّ ویُنازع ويرفع صوتَهُ، من أجل التعميّةِ على القاضي.

ص: 183

لقد رسم الإمامُ عليه السلام بهتين الكلمتين هذه الصورةَ لما يمكنُ أنْ يقع في مجلس القضاء، واستناداً إلى هذا، أراد علیه السلام أن يتجمّلَ القضاة بهذه الصفةسِ، وهي عدم الاستكانةِ لتأثيرِ (المماحكة) التي يستجلبُها المتخاصمان، وهما يحولان التأثيرِ على القاضي وهو يتصدّى للحكم بينهما.

لا يتمادى في الزلّة:

أما الصفةُ الثالثةُ التي يريدها الإمامُ عليه السلام للقاضي فتأتي في قولهِ: ((ولا يتادي في الزلّةِ))(6). فما المراد بها؟.

إنّ الخطأ مما يقعُ من الإنسانِ، فإذا وقع فيه وجبَ عليه أنْ يرجع بعد ظهور الحقِّ أمامه، والإمامُ عليه السلام عدّ ما يقعُ فيه القاضي من اضطرابٍ في الحكمِ زلّةً، والزلّةُ تكون في القولِ والخطيئةِ والرأيِّ والدينِ(7)، وزللُ القاضي يكونُ في هذه الأوجهِ الأربعةِ التي تقولُ بها اللغة، فحينما يقعُ في واحدٍ منها، يكون قد زلّ عن الطريقِ القويمِ. فإذا زلّ في القول، وقال حكمَهُ بلغةٍ تُشكلُ على المتخاصمينِ، عُدَّ هذا زللاً منه، يتحتّمُ عليه أنْ لا يتمادى فيه، أيْ لا يستمرّ، يُقالُ: ((تمادی فلانٌ في غيّهِ إذا لجّ فيه، وأطال مدى غيّه، أيْ غايتهِ))(8).

وقد تُعدُّ زلّةُ القاضي خطيئةً، لأنّ الحكمَ بغيرِ الحقِّ ضربٌ من الجورِ والتعسّفِ والظلمِ، وإنْ لم يكن مقصوداً، وهنا يجبُ الرجوعُ إلى الحقِّ، وليس في هذا ما يشين، فثمّةَ حديثُ نبويٌّ عدّ التوبةَ عن الخطأ ضرباً من ضروبِ الفضيلةِ، يقولُ صلى الله عليه وآله وسلم: ((كلُّ بني آدم خطّاء، وخيرُ الخطائين التوّابون))(9). والتوبةُ هي الرجوعُ من المعصيةِ إلى الطاعةِ، وهنا تتحقّقُ الفضيلةُ المذكورةُ في الحديثِ.

ص: 184

واستناداً إلى ما تقدّمَ - أيضا - صارتْ زلّةُ القاضي في الحكمِ زلّةً في الدينِ، وهنا صارتْ سرعةُ العودة إلى جادةِ الحقِّ واجبةً، حتى لا يكون متمادياً فيما وقع فيه من زلل في هذه القضيّةَ أو تلك على ما أوصى به الإمامُ عليه السلام.

بقي من معاني (الزلّة) معنى آخرُ أرجأنا الحديث عنه ليكتملَ ما أردناهُ من المعاني السابقةِ، والمعنى هو قولهم: زلّ: إذا زَلِقَ، أيْ لا تثبُت قدمُهُ، فيكون القضاءُ (زُحلوقةً) لا تثبتْ عليه الأقدام إلا بعد التثبّتِ والتأنّي، وهذا المعنى يتناغم مع ما أشار إليه الإمامُ عليه السلام. واستنادا إلى هذا المعني صار لزاماً على القاضي أنْ يتثبّتَ في أحكامه حتى لا تزّل قدمهُ فينحدر إلى مهاوي الخطيئةِ التي مرِ ذكرُها في المعاني السابقةِ.

لا يُحجم من الرجوع إلى الحقّ:

والصّفةُ الرابعةُ من صفاتِ القاضي تردُ في قوله عليه السلام: ((ولا يَحصَرُ

من الفيء إلى الحقِّ إذا عرفه))(10)، والوقوفُ على معاني المفرداتِ المركزيّةِ في النصِ يُعيننا على تلمّسِ بعضاً مما يبسطهُ الإمامُ عليه السلام، واللفظةُ المركزيّةُ الأولى هنا هي (یُحصَرُ)، ومن معانيها في المعجم العربي ما يأتي(11):

1 - حَصِرَ صدرُهُ: ضاق، والحَصَرُ: ضيّقُ الصدرِ.

2 - حَصَرَهُ یحصِرُهُ: ضيّقَ عليه وأحاطَ به.

3 - الحصيرُ والحصورُ: الممسكُ البخيلُ الضيّقُ.

4- الحصورُ: الهيوبُ المحجمُ عن الشيء.

فالقاضي على وفقِ هذه المعاني لا يضيقُ صدرُهٌ، ولا يُحجمُ عن الرجوعِ إلى الحقِّ إذا تبيّن له أنّه جافاهُ في حكمهِ، ولا يتهيّبُ من ذلك، وإنّما يتقبّلُ أمرَ العودةِ

ص: 185

إليه بصدرٍ رحبٍ، واستبشارٍ ورضا. وهنا يكون كريما لأنّ العودةَ إلى الحقِّ مما یُحمدُ به الإنسانُ، والكريمُ اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُحمدُ(12)، وهنا يحضُر معنی (الممسك البخيل الضيّق) رقم (3)، لمن يحصَرُ عن الرجوعِ إلى الحقِّ، إلى ما يأمرُ به الله تعالى.

أمّا اللفظةُ المركزيّةُ الثانيةُ في النصِ فهي (الفيء)، ومن معانيها التي تأتِلفُ مع السّياقِ ما يأتي:

1 - فاء إلى الأمرِ: رجع إليه.

2 - الفيء: ما كان شمساً فنسخه الظلُّ.

3 - الفيء: الغنيمة.

نخلصُ من النظر في قولِ الإمامِ عليه السلام على وفق المعاني السابقةِ إلى القولِ: إنّ القاضيَ إذا تبيّن له الحقُّ وعاد إليه بعد خروجه عن طريقه، يكونُ کمن ترك الوقوفَ في الشمسِ، ورجع ليستريح في الفيء أو الظلِّ، ويكون - أيضا - كمن حصلَ على غنيمةٍ بعودتهِ إلى الحقِّ. واستناداً إلى ما تقدّم يظهرُ لنا الاستعمالُ الفريدُ لمفرداتِ اللغةِ، وكيف استثمرها الإمامُ عليه السلام، بما يجعلها وسيلةً من وسائله عليه السلام في تربية المجتمعِ على نحوٍ جماليٍّ أخّاذٍ.

لا تُشرف نفسه على طمع:

أما الصّفةُ الخامسةُ التي ينبغي أنْ يتزيّن بها القاضي، فهي تتجلّى في قولِ الإمام عليه السلام: ((ولا تُشرفُ نفسُهُ على طمعٍ))(13). والإمامُ عليه السلام انتقى لفظةَ (تشرف) وهي تعني الاطلاع من فوق، ليُظهرَ من خلالها منزلةَ القاضي العالية المُشرفةَ على المنازل الأخرى، فضلاً عمّا تتضمّنه من دلالةِ الشّرفِ

ص: 186

والمجدِ التي يستلزمها علوُّ المنزلةِ وسموّها، ويقابلُ هذه المنزلةَ منزلة (الطمع)، التي تُعدُّ منقصةً لا يصحُّ أن يقترب منها الإنسانُ المسلمُ، فما بالُك بالقاضي المسلمِ المكلّفِ بالتفريق بين الحقِّ والباطلِ؟.

وعودٌ إلى معنی (تشرف)، وهو تطّلعُ عليه من فوق، يُظهرُ لنا بمفارقةٍ جميلةٍ البونُ الشاسعُ بين ارتفاعِ مرتبةِ القاضي، وانحطاطِ مرتبةِ (الطمع)، وقد ورد عن الإمام علي بن الحسينِ عليه السلام أنّ قطعَ (الطمع) ضربٌ من ضروبِ الخير في قوله: ((رأيتُ الخيرَ كلّه قد اجتمع في قطعِ الطمعِ عمّا في أيدي الناسِ))(14)، وورد عن الإمام الباقرِ عليه السلام أنّ (الطمع) ضربٌ من ضروبِ الذلِّ في قوله: ((بئس العبدُ عبدٌ له طمعٌ يقودُه، وبئس العبدُ عبدٌ له رغبةٌ تُذلّهُ))(15).

والإمامُ عليه السلام لم يكشفْ في قولهِ السابقِ عن نوع الطمعِ الذي يمكنُ أنْ تُشرفَ عليه نفسُ القاضي، ليجعل قولَه محيطا بأنواعِ الطمعِ كلّها، الكرامةِ والجاهِ والمالِ والحظوةِ، وكلّ ما يشغلُ نفسَهُ عن أيّ عرضٍ من أعراضِ الدنيا(16).

وثمّة أمرٌّ آخَرُ يُجسّدُهُ الفعلُ (تشرفُ) أيضاً، وهو أنّ هذه الصفةَ قد تقودُ إلى انحرافِ القاضي عن سبيلِ الحقِّ لوقوعه تحت تأثیر هواجسِ نفسِ التي تُمسكُ بها رؤيتُهُ للطمعِ ولو من علوٍّ شاهق. وهو لم يقعْ بعدُ فيما يطمعُ به. والإمامُ عليه السلام يُوصي ويُحذّرُ من خلال التركيز على هذه الصّفةِ. فصار ذكرُ الصّفةِ وسيلةً من وسئل تقويم سلوكِ القضاة.

بقي أمرٌ نرغب في الإشارة إليه وهو أنّ ابن أبي الحديد أضاف معنی آخر للإشراف وهو: الإشفاقُ والخوفُ(17)، وعلى الرغم من أنّنا لم نعثر على هذين المعنيين فيما رجعنا إليه من المعاجم، فإنّ السّياق قد لا يتناغم معهما، لأنّ مرتبةَ القاضي مرتبةٌ تتطلّع إليها الرقاب، وليس فيها ما يدعو إلى الإشفاق أو الخوف،

ص: 187

إلّا إذا كان ذلك من خشيةِ مجانبةِ الحقِّ، وهذا أمرٌ محمودٌ ومرغوبٌ فيه، ولكنّ ابن أبي الحديد لم يُرد هذا المعنى، وإنّما أراد المعنى السلبي للإشفاق والخوف.

التأنّي في الحكم:

يقولُ الإمامُ عليه السلام عن هذه الصّفةِ: ((ولا يكتفي بأدنی فهمٍ دون أقصاه وأوقفهم في الشّبهاتِ، وآخذهم بالحجج.))(18).

تُعدّ هذه الصّفةُ من الركائز الرئيسة التي يستندُ إليها القاضي قبل أن يحكمَ بين الخصمين، حتى لا يقع في دائرة الكفر التي تُحيطُ بمن لا يحكم بما أنزلَ الله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» المائدة 44، ومن هنا فإنَّ الفهمَ الأوّليَّ الذي يتشكّلُ في ذهنِ القاضي من سماعه حُججِ الخصومِ غير كافٍ، وإنّما عليه أنْ يبذل جهده من أجلِ الوصولِ إلى أقصى فهمٍ. وهذا هو شأنُ العلماء الذين يتحرّون الدقّةَ والتثبتَ وتقليبَ المسألةِ على ما الوجوه المحتملةِ لها. يقول الشيخ محمد جواد مُغنية عن الأناة التي يُوصي بها الإمام عليه السلام: ((لا يعلن الحكم النهائي إلا بعد التحري و الوقوف على جهات الدّعوى بأكملها، و البحث عما يتصل بالحادثة حكما و موضوعا. وهذه هي طريقة العلماء، فإنهم لا يتنبئون بشيء إلا بعد الاستقراء التام، و الملاحظات الدقيقة والوثوق بما يقولون))(19).

أمّا قوله عليه السلام (وأوقفهم عند الشُّبهةِ)(20)، فيعني أنّ على القاضي أنْ يكون أكثرَ الرعية تأنّيا ووقوفاً وتثبّتا عند المشكلات من الأمور، حتى يصلَ إلى دليلٍ يبني حكمَهُ عليه، وهذا هو المراد بالوقوفِ، فهو وقوفَ أناةٍ وليس وقوفَ ترك الحكم فيما یُشكلُ من الشبهات. وقد أبدى الإمام عليه السلام عجبه من الفرق المتخاصمة بقوله: ((فَيَا عَجَباً! وَ مَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ،

ص: 188

وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْب، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَ يَسِرُونَ فِي

الشَّهَوَاتِ))(21). فالعملُ في الشّبهات على وفقِ قول الإمامِ عليه السلام هو من الأخطاء التي يرتكبها من يعملُ ذلك، ومن هنا صار لزاماً على القاضي أن يُطيلَ الوقوفَ عند الشبهاتِ قبل أنْ يحكم فيما يعرضُ له منها.

ويبقى من هذه الصّفةِ قولُهُ عليه السلام (وآخذهم بالحُججِ)، وهذا يعني أنّ القاضي يجبُ أن يكون أكثَر النّاسِ أخذاً بالحججِ من المتخاصمَيين، لأنّه يحكمُ على وفقِ ما يتجمّعُ عنده من أدلّةٍ وحججٍ وبراهينَ، من دون أنْ يتعجّلَ في ذلك - کما قيّدته الصّفةُ السابقةُ -. هذا فضلاً عن أنّ الفقهاء ((لديهم قواعد و اصولا شرعية مقررة، وهي كثيرة بكثرة الموارد، منها قاعدة درء الحدود بالشبهات))(22).

عدم التبرّم بمراجعة الخصم:

وهذه الصّفةُ وردت في قول الإمام عليه السلام الآتي: ((وأقلّهم تبرّماً بمراجعةِ الخصمِ))(23).

إنّ وصيّة الإمام عليه السلام هذه تستدعي أنْ يكون القاضيُ صبوراً على الاستماع لحجج الخصوم ومراجعتهم فيما يقولونَ ليأخذ مما يسمعهُ وسائلَ الوقوف على حقيقةِ الأمرِ الذي بين يديه، ولا يبرم، والبرمُ: السأمُ والمللُ والضجُر(24). وما منْ شكٍّ أنّ كثرةَ الاستماع إلى ما يقولهُ الخصومُ تبعثُ في النفسِ شُمأزيزةً وقرفاً وضيقاً، وقد يخضعُ القاضي لهذه المؤثّراتِ فیبرم بما يسمعُ، وهنا قد يتسرّبُ الوهنُ إلى قدرته على انتقاءِ الحكمِ المناسب لهذه القضيةِ أو تلك. فيخرج عن طريقِ الحقِّ الذي يُريدهُ الله تعالى، ويقعُ عقلُه أسيرا لهواه. فلا يُنصف المظلومُ من الظالمِ، وهنا يكون واحداً من القاضيين اللذين يكونا في النارِ في قولِ الإمامِ عليه السلام: ((القضاةُ ثلاثةٌ واحدٌ في الجنّةِ و اثنان في النار: رجل جار متعمّدا

ص: 189

فذلك في النار، و رجل أخطأ في القضاءِ فذلك في النّار، و رجل عمل بالحقّ فذلك في الجنّة))(25).

الصبر على تكشّف الأمور:

قال الإمام عليه السلام عن هذه الصفة: ((وأصبرهم على تكشّف الأمور)). والصبرُ محمودٌ لذاته کما هو معلومٌ عند المسلمين، ولكنّ الإمام عليه السلام خصّ من يُكلّف بالقضاء بهذه الصّفةِ، فكأنّ الصبرَ بوجههِ العامِ ممّا يتحلّى به القاضي في الأصل، فتكونُ هذه الصّفةُ صفّةً إضافيّةً لصبرهِ، لأنّ الأمورَ التي تُعرضُ أمامه لا يتكشّف وجهها الحقيقي جملةً واحدةً في الغالب، وإنّما قد يتكشّفُ رويداً رويداً، بعد أخذٍ وردٍّ ومماحكاتٍ، ثمّ تقليب ذلك كلّه على الوجوه كلّها، وهذا يستدعي صبراً وأناةً ورويّةً وتمهّلاً بغية تخليص الحقِّ من الباطل، ومن هنا تظهرُ لنا أهميةُ الصبرِ المأمورِ به ليكون صفةً ملازمةً لمن يكونُ قاضيا.

وفي هذا المضمونِ نفسِهِ حذّر الإمامُ عليه السلام من تسربِّ المللِ إلى نفسِ القاضي، لأنّ في هذا مُجافاةٌ للصبر، يقول عليه السلام في وصيّةٍ له إلى قاضيه على الأهوازِ: ((وإياك والملالة فإنها من السُّخفِ والنذالةِ))(26). فقلةُ الصبِر تأتي من رقّةِ العقلِ أو ضعفه، وهذا لا يُناسبُ مقام الفصلِ بين الناسِ.

الصرامة عند اتّضاح الحكم:

أشار الإمامُ إلى هذه الصّفةِ بقوله: ((وأصر مهم عند اتّضاح الحكم))(27).

تأتي هذه الصّفةُ بعد أنْ يتبيّن للقاضي كلّ ما يتعلّق بالقضيةِ المبسوطةِ أمامه، أي بعد أنْ يعزمُ على الحكمِ فيها، ولا بأس أنْ نقف على المعاني التي يقدّمها لنا الجذر (صرم) لنقف على دلالة ما يريدُهُ الإمامُ عليه السلام بهذه الصّفةِ.

ص: 190

في لسان العرب(28):

1 - رجلٌ صارمٌ: ماضٍ في كلّ أمرٍ.

2 - رجلٌ صارمٌ: جلْدٌ ماضٍ شُجاعٌ.

3 - الصريمةُ: العزيمةُ على الشيءِ وقطعُ الأمرِ.

4 - الصَّريمةُ: إحْكامُك أَمْراً وعَزْمُكَ عليه.

5 - الصَّرامَةُ: المُسْتَبِدُّ برأْيه المُنْقَطِعُ عن المُشاورة.

6 - الصريمُ: الصبحُ لانقطاعه عن الليلِ.

ومن مزاوجةِ هذه المعاني ببعضها، تتّضحُ لنا هذه الصّفةُ على النحو الآتي:

يجبُ أنْ يكونَ القاضيُ ماضياً في كلِّ أمرٍ يُعرضُ أمامه، جلداً شجاعاً، مستبدّا برأيه (بحكمه)، منقطعاً عن مشاورةِ غيرهِ، لأنّه تثبّتَ من الأمرِ الذي أمامه، حتى بان له كالصبحِ الذي انقطع عن الليلِ، واستناداً إلى هذا يأتي حكمُهُ قاطعاً لا تردّدَ فيه، لأنّ التردّدَ في هذا الموطنِ يُضعفُ قوةَ الحقِّ التي يُريدها القاضي لحكمه.

لقد أعطتنا مفردةُ (الصّرامةِ) في هذه الصّفةِ أُفُقاً معرفيّاً ثرّاً ظهر في المعاني الستّةِ التي أمدّنا بها الاستعمالُ الاجتماعيُّ لها، وهذه المعاني أسبغتْ في الوقتِ نفسه على اللفظةِ حيويّةً وحركيّةً جعلتنا نتنقّلُ خلف المعاني التي تؤديّها من دون أنْ يشكّل ذلك عبئاً علينا، وإنّما منحنا متعةً فنيّةً اقترنتْ بالمتعةِ المعرفيّةِ التي نحنُ بصددها من هذه الصّفةِ التي وضعها الإمامُ عليه السلام للقاضي بين الناسِ.

بقي أنْ نشيرَ إلى أمر تسرّبَ من المعنى الخامس (المستبدّ برأيه المنقطعُ عن

ص: 191

المشاورة)، وهو أنَّ هذا المعنى قد يحملُ في ظاهره صفةً غير مرغوبٍ فيها (الانقطاع عن مشاورة الغير)، وهنا نقول: إنّ الحديثَ عن هذه الصّفةِ لا يأتي منقطعاً عن غيرها من الصفاتِ، وإنّما تكتملُ كلّها بإمساكِ بعضها ببعضٍ، فيكون استبداد القاضي برأيه مُغنياً عن آراء الآخرين بعد أنْ جمع الصفاتِ التي قدّمها الجذر (صرم)، ومن هنا يكونُ الاستبدادُ عدلاً في هذه الجزئيّةِ، ولو أراد القاضي أنْ يُشاورَ غيره لما انتهى إلى حكمٍ بالقضيّة لأن غيره في الغالبِ لا يمتلكُ من الصفاتِ ما يمتلكهُ هو.

وهذا الذي قدّمناهُ بشأنِ دلالةِ هذه المعاني، يكون حاضراً عند القاضي، بعد أنْ يتضحَ له الحكمُ في القضيّةِ، وهنا تكونُ الصرامةُ بالمعاني كلّها هي المستندُ الذي يشدُّ أزر القاضي وهو يحكم بما اتّضح له.

عدم التأثّر بالإطراءٌ أو الإغراء:

وردتْ هذه الصّفةِ في قولِ الإمامِ عليه السلام: ((لا يزدهيه إطراءٌ ولا يستميلهُ إغراء))(29).

نعودُ هنا إلى المعجمِ للوقوف على معاني الصّفةِ (لا يزدهيه إغراء)، ونأخذ أوّلا معاني (یزدهيه)، فيعطينا جذرها (زها) المعاني الآتيةَ(30):

1 - الزَّهْوُ: الكِبْرُ والتِّيهُ والفَخْرُ والعَظَمَةُ.

2 - الزَّهْو: الظُّلْمُ

3 - الزَّهْو: الاسْتِخْفافُ. وزَها فلاناً كلامُك زَهْواً وازْدهاه فازْدَهَى اسْتَخَفَّه

فخفّ. ومنه قولُم فان لا يُزْدَهَى بخَديعَة، وازْدَهَيْت فلاناً أَي تَاوَنْت به، وازْدَهَى فان فلاناً إذا اسْتَخَفَّه، ورجلٌ مُزْدَهٍ: أَخَذَتْه خِفَّةٌ من الزَّهْوِ أَو غیره.

ص: 192

وازْدَهاهُ على الأَمْرِ أَجْبَرَه

4 - زَها الرَّابُ اليءَ يَزْهاهُ رَفَعَه، والسّرابُ يَزْهى القُور والحُمُول كأَنه

يَرْفَعُها.

5 - وزَهَت الريحُ النباتَ تَزْهاهُ: هَزَّتْه غِبَّ النَّدَى، وزَهَتْه: ساقَتْه، والريحُ

تَزْهَى النباتَ إذا هَزَّتْه بعد غِبِّ المَطَر.

أما معنى (الإطراء)، فنقفُ على المعاني الآتية تحت الجذر (طرا):

1 - وأَطْرَى الرجلَ: أَحسَن الثناء عليه.

2 - أَطْرَى فلان فُلاناً: إذا مَدَحَه بما ليس فيه.

3 - وأَطْرَى: إذا زاد في الثناء، والإطراءُ مُاوَزَةُ الحَدِّ في المَدْحِ والكَذِبُ فيه.

ومن موالفةِ معاني الجذرين المذكورين تظهرُ لنا صورةُ الصفّةِ التي أراد الإمام عليه السلام بيانها وهي على النحو الآتي:

إنّ حسنَ الثناءِ أو مجاوزةَ الحدِّ في المديح أو الكذب فيه، لا يصحّ أنْ تؤثّرَ هذه الأقوالُ الثلاثةُ في من يتوخّى الحقَّ، ولا يمكن أنْ يقع تحت تأثيرها، فالمعنى الأوّلَ وإنْ كان صحيحاً، فلا يُخرج القاضي عن توازنه واعتدالهِ. أما المعنيان الثاني والثالثُ، فهما مما لا يُرتضى لما فيهما من الكذب، حتى وإنْ كانا في سبيل المبالغةِ والغلوّ التي يقبلها اللسان العربي في غير هذا الموضع. فإذا قُدّر للقاضي أنْ يُحسنَ الثناءَ عليه أحدٌ، أو يمدحهُ بما ليس فيه كَذِباً، فعليه أنْ يتماسكَ ولا يزدهيه ذلك، ومن زحزحة معاني (زها) إلى هذا الموضع وموالفتها مع ما قلناهُ، نقول: إنّ على القاضي أنْ لا يأخذهُ الكِبْرُ والتِّيهُ والفَخْرُ والعَظَمَةُ بما يسمعُ من الإطراء، ولا يستخفّه ذلك، فيرفعه فيبدو كالأشياء التي يرفعها السرابُ وما هو برافعها بحقًّ،

ص: 193

والسراب في اللغة: الذي يجري على وجه الأرض، يرفعُ الأشياء ويزهاها(31).

بيد أنّ ثمّةَ معنى من المعاني السابقةِ أرجأنا الإشارةَ إليه، وهو معنى (الظلم)، وهذا من أكثرِ المعاني التصاقاً بعملِ القضاةِ، فإذا استخفّ الإطراءُ القاضيَ انحرف إلى مواطنِ الزلل عن سبيلِ الحقِّ ووقع في دائرةِ الظلم التي ترتبطُ بغضبِ الله تعالى.

لقد انتقى الإمام عليه السلام اللفظتينِ السابقتينِ ليُعطينا هذا الحشدَ من المعاني الفرعيةِ التي تجتمعُ مع بعضها لتبرّز الصّفةِ التي أرادها بنمطٍ من التعبيرِ الاخّاذ.

أما قوله عليه السلام (ولا يستميلُهُ إغراء) فهو مرتبطٌ بما أظهرناه فيما مرّ من كلامنا قبل قليل، إذْ أنّ المعاني السابقةِ من (ازدهاء الإطراء للقاضي) قد تستميلُهُ إلى جهتها، وتلتصقُ به بفعلِ الكلام المؤثّر الذي نُظِمتْ فيه، والإغراءُ هنا مأخوذٌ من قولهم: ((غَرِيَ هذا الحديث في صَدْري... يَغْرى... كأَنه أُلْصِقَ بالغِراءِ وغَرِيَ بالشيء يَغْرى غَراً وغَراءً أُولِعَ به))(32)، ومن هنا فإنّ تلك المعاني المشارَ إليها، لا يخضعُ لها القاضي، ولا تستميلهُ، بل تزیده تمسّكا وثباتاً.

وصايا الإمام (عليه السلام) للقضاة:

كان من شأنِ الإمام عليه السلام أنْ يكتب لمن يُرسله قاضياً كتاباً، يحمّله جملةً من الوصايا التي يحتاجها الإنسانُ المسلم عامةً والقاضي خاصّةً لارتباطها بعمله الذي يتصدّى فيه للفصلِ بين المتخاصمين. وهذه الوصايا تتحولُّ إلى صفاتٍ يتزيّن بها القاضي أثناء عمله، فالصفاتُ الأولى التي مرَّ ذكرُها تكون ركيزةً لاختيار القاضي أوّل مرّةٍ، وهذه الوصايا ستصبحُ صفاتٍ بعد يروّضَ

ص: 194

القاضي نفسه عليها. وأغلب هذه الوصايا جاءت في كتابٍ أرسله الإمام عليه السلام إلى رفاعة لما استقضاه على (الأهواز) ومنها:

ترك الطمع:

نهى الإمامُ عليه السلام عن هذه الصفةِ في وصيتهِ لقاضيه المذكور، بقوله: ((ذر المطامع))(33). والطمعُ من الصفات التي كان الإمامُ عليه السلام يحذّرُ منها أصحابَه لما لها من تأثيرٍ على خضوعِ الإنسانِ المسلم لهوى النفس، فما بالُك بالقاضي الذي يتبوأُ مقعداً يفصل فيه بين الحقِّ والباطلِ؟ إذْ لا يمكنُ أنْ يتحقّقَ العدلُ على يديه إذا كان للطمع مكانٌ في نفسه.

وقد بيّن الإمامُ عليه السلام صورة الطمعِ في قولٍ آخرَ له، حينما وصفه بقوله: ((شعب الطمع أربع: الفرح، والمرح، واللجاجة، والتكاثر، فالفرح مكروه عند الله عز وجل، والمرح خيلاء، واللجاجة بلاء لمن اضطرته إلى حبائل الآثام، والتكاثر لهو وشغل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير))(34).

ولعلّ أول ما ينبغي الإشارة إليه هو أنّ الإمام عليه السلام يريد بالمطامع هذه المعاني الأربعة التي يجبُ أن يتجنبها الإنسان المسلمُ عامةً والقاضي خاصّةً، وقد بيّن سبب ترك الطمع فيها، فالفرحُ مكروهٌ عند الله تعالى، لأنّه غالباً ما يكون مرتبطاً بشؤون الدنيا. جاء في لسان العرب عن معنى الفرح ما يأتي: الفرحُ هو انشراحُ الصدرِ بلذّةٍ عاجلةٍ، وذلك في اللّذات الدنيويّة(35)، ومن هنا قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» القصص 76، ومن هنا أيضاً تأتي الكراهةُ التي أشار إليها الإمامُ عليه السلام. أما بقيّةُ المعاني التي خصّ الإمامُ عليه السلام ارتباطها بالطمع، فهي كالفرح المشار إليه مما يشغل المسلم بشؤون الدنيا ويُبعدهُ عن التفكرِ بالآخرةِ، وهي الخيلاءُ واللجاجةُ واستبدال الدنيا بالآخرة(36)، فهي

ص: 195

أيضا مما يقدحُ بسيرةِ القاضي، ويُخرجهُ عمّا مطلوبٌ منه التحلّي به على وفقِ هذا الجزءِ من وصيّةِ الإمام للقضاةِ عليه السلام.

بقي أنْ نشيرَ إلى أنّ التكاثَر الذي أشار إليه الإمامُ عليه السلام والّذي يشكّلُ ركنا رئيساً من أركان الطمع، غالباً ما يتجسّدُ في جمعِ الأموال، ولكي يُميتُ الإمامُ عليه السلام هذه الصفةَ في نفوسِ القضاةِ، أمر الولاةَ بالإفساح لهم في العطاء، كما أمر الأشتر النخعي واليه على مصر بذلك بقوله ك((وافسحْ له في البذلِ ما يزيلُ عِلّته))(37)، ليموت أو ينقطعَ داعي الطمعِ من نفسهِ، فيجلس للقضاء بين الناسِ، وهو حاضرُ الذهنِ، ليس في ذهنه شيء يفكّرُ به من شأنِ الثروة والمال، وإنّما يكونُ تفكيرهُ منقطعاً إلى ما بين يديه من حججِ المتخاصمين. واستناداً إلى ما تقدّم، فهذا الضربُ من الطمعِ منهيٌّ عنه، ولا يصحّ من القضاةِ خاصّةً أولاً ولا من غيرهم عامّةً(38)،

مخالفة الهوى:

وهذه الوصيةُ هي قوله عليه السلام ((وخالف الهوى))(39). ومخالفةُ الهوى ركيزةٌ رئيسةٌ من ركائزِ قوامِ الدينِ للمسلمين عامةً، يقولُ الإمامُ عليه السلام في موطنٍ آخرَ عن هذه الصّفةِ: ((نظامُ الدينِ مخالفةُ الهوى))(40). والمسلمُ الثابتُ على دينه يتمسّكُ بمخالفةِ هواهُ لأنّ ذلك كفيلٌ بسيره على منهجِ الحقّ، فإنْ أطاع هواهُ قادهُ إلى مواطنِ الزللِ. أما القاضي فيتحتّمُ عليه مخالفةُ هواه مرتين، مرةً بوصفهِ واحداً من المسلمين ليكون من الثابتين على دينهم، ومرةً لأنّه يقضي بين الناس، وقد يكون هواهُ إلى أحد المتخاصمينَ، وهنا قد يجورُ في حكمه بسببِ اتّباعِ هواه. ونرجّح هنا أنّ مرادَ الإمامِ عليه السلام من وصيّته للقضاةِ بمخالفةِ الهوى يتجسّدُ في هذا الوجه تماما، ولعلّ في حادثةِ تأنيبه لشريح القاضي عندما لم

ص: 196

يساوِ بينه وبين خصمه اليهودي في قضيةِ الدرعِ خير شاهدٍ على ما نرجّحه هنا، لأنّ شريحاً كان هواه مع الإمام عليه السلام، فلم يرض منه الإمام ميله إليه، وعدّ ذلك مثلبةً في قضائه، لأنّ اتّباعَ الهوى يصدُّ عن الحقِّ كما يقولُ عليه السلام في موطنٍ آخرِ(41).

تزيين العلم بالسّمتِ الصالح:

جاءتْ هذه الوصيةُ في قوله عليه السلام: ((وزيّن العلمَ بسمتٍ صالحٍ))(42). إنّ نظرةً أولى على هذا القولِ تُظهرُ لنا أنّ القاضي يمتلكُ علماً كافياً ليفصلَ بوساطته بين المتخاصمين، لذا كانت الوصيّةُ منصبّةً على تزيين العلم الموجود عند القاضي بالسمتِ الصالح، فما المراد بالسمتِ هنا؟. نعود إلى المعجم العربي للاستعانة بِما يُقدّمهُ لنا من معانٍ تتوافقُ مع السياق تحت الجذرِ (سمت)(43) ومن تلك المعاني ما يأتي:

1 - السمتُ: السَّمْتُ حُسْنُ النَّحْو في مَذْهَبِ الدِّينِ.

2 - السمتُ: يقالُ: إِنه لحَسَنُ السَّمْت أَي حَسَنُ القَصْدِ والمَذْهَب في دينه ودنْياه.

3 - السَّمْتُ: اتِّباعُ الحَقِّ والهَدْيِ وحُسْنُ الجِوارِ وقِلةُ الأَذِيَّةِ.

4 - التَّسْمِيتُ: ذِكْرُ الله على الشيءِ وقيل التَسْمِيتُ ذكر الله عز وجل على كل حال.

5 - السَّمْتُ: السَّیْرُ على الطَّريق بالظَّنّ وقيل هو السَّیْرُ بالحَدْس والظن على غير طريق.

يُظهرُ لنا النظرُ في هذه المعاني أنّ القاضيَ حسنُ القصدِ في دينه وما يذهبُ إليه في شؤونِه وفي شؤونِ دنياه، وهذا ما يجعله متّبعاً للحقِّ والهدي، وهذه الصفات تجعلُ العدلَ غرضاً يسعى إلى تحقيقه قبل أنْ يكون قاضياً، فإذا كان قاضياً تمسّك

ص: 197

بهذه الصفاتِ بقوةِ المحبِّ لها.

ولا بأس من الإشارةِ إلى أنّ معنى (حسن الجوار وقلّةَ الأذيّةِ) الوارد في (3)، يُعطينا صفةً اجتماعيّةً يريدها الإنسان المسلمُ لنفسه، لأنّها تُظهرُ امتزاجه

بمجتمعه وائتلافهُ معه فيحصلُ على رضا الله تعالى الذي أوصى بحسن الجوار

وكفّ الأذى(44)، وهذه الصّفةُ تتجىّ فيها الروحُ السمحةُ التي يُريدها الإسلامُ

للمسلمِ، ويتجىّ فيها وجهٌ اجتماعيٌّ مرغوبٌ فيه يحتّمهُ العقلُ. وهاتان الصفتان سيكون عمل القاضي ميداناً آخرَ لتجسيدهما، فقد يحكمُ القاضي بما بمعاقبةِ أحد المتخاصمين، وبوجود هاتين الصفتين ستكون رأفةُ القاضي حاضرةً في هذا الموطن، لأنّ العقوبة فُرضتْ للإصلاحِ.

ويبقى من معاني (السمت) المعنى الرابعُ وهو (السير على الطريق بالظنِّ)، وهذه الخصلةُ تُعين القاضي على كشفِ وجهِ الحقِّ فيما يُعرض أمامه، فكَأَنَّهُ مبصرٌ

لما غَابَ عَنهُ، فيعلم بتقديره وظنّه وحدسه حَتَّى كَأَنَّهُ يرى بعينيه ما بعد عِنْهُ، أو خفي عليه، وهذه الصفةُ تتسقُ تماما مع المقوّمات التي يستندُ إليها القاضي في عمله. وتهيّء له فرصةَ وضع يده على الحكم الذي يُناسبُ القضيّة التي ينظرُ فيها باحثا عن الحقّ.

لقد تبيّن لنا بحقّ دقّة مفردةِ (السمت) التي انتقاها الإمامُ عليه السلام، إذ امتزجتْ دلالتها الاجتماعيةُ مع صفةِ العلمِ التي يتزيّنُ بها القاضي قبل أن يُصبحَ قاضيا، لتتكوّن بذلك شخصيّته التي ستنهضُ بمهمّةِ القضاءِ بين الناسِ. واستناداً على هذا ندرك الآن لماذا عُدّ (السمتُ الصالحُ) جزءا من خمسة وعشرين جزءاً من النبوّةِ(45)

ص: 198

عدم المشاورة في الحكم:

وهذه الوصيّةُ جاءتْ في قوله عليه السلام: ((... ولا تُشاورُ في الفُتيا،

فإنّما المشورةُ في الحربِ ومصالحِ العاجلِ، والدينُ ليس هو بالرأيِّ، إنّما هو

الاتّباع))(46).

أوصى الإماُم هنا قاضيهِ بعدم التشاور مع غیره فيما يتّصل بالأحكامِ التي يفصلُ بها بين المتخاصمين، حتى لا يستند إلى ما جاء في الشريعةِ من تأكيدٍ على التشاورِ والمشورةِ، كما في قوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» آل عمران 159، وكما استشار رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في وقعة بدر الكبرى، وفي شأن الأسرى يومئذٍ(47)، وما جاء من ذكرٍ للمشورةَ هنا يخصُّ ضروباً من شؤونِ الحياةِ، ذكر منها الإمامُ عليه السلام المشورةَ في الحربِ، ومصالحَ المسلمين العاجلةَ التي لا تمسُّ ثوابتَ الشريعةِ، فالدين ليس رأياً يقوله المشاوِرُ، إنّما هو اتّباعٌ لما جاء في القرآن الكريم من أحكامٍ، وكذلك ما جاء من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي حفظها أهلُ البيتِ عليه السلام. وما من شيء إلا وله وجود في الكتاب والسنّةِ. يقول الإمامُ جعفرُ بنُ محمّد الصادق عليه السلام حينما سُئل عمّا يقضي به القاضي: ((قال: بالكتاب، قيل: فما لم يكن في الكتاب؟ قال: بالسنة؟، قيل: فما لم يكن في الكتاب ولا في السُّنةِ؟، قال: ليس شيءٌ من دينِ اللهِ إلا وهو في الكتاب والسنة، قد أكمل الله الدين، قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية. ثم قال عليه السلام: يوفُّقُ اللهُ ويسدّدُ لذلك من يشاءُ من خلقه وليس كما تظنون))(48)

واستنادا إلى هذا فلا مسوّغ للمشاورة في أحكامِ الله تعالى، وإنّما قد تصحُّ المشاورةُ مع أهلِ العقلِ والتجربةِ، من دون أنْ يكون المشاوِرُ خاضعاً في حكمه إلى

ص: 199

آرائهم، يقول الشيخ الطوسي: ((فإنْ اشتبه عليه بعضُ الأحكام ذاكرَ أهلَ العلمِ لينبّهوهُ على دليله، فإذا علم صحته حكم به وإلا فلا))(49). وهذا وإنْ حصل فيحصل في بعض الأحوالِ، لأنّ القاضي يجب أنْ يكون عالماً بما وليّه كما ظهر لنا ذلك في الصفاتِ السابقةِ.

لقد جعل الإمامُ عليه السلام هذه الوصايا سبيلاً خطّه للقضاةِ ليسروا عليه، وستكون المحطّاتُ المشارُ إليها صفاتٍ إضافيّةً للقاضي، إذْ أنّ التمسّكُ بها سيجعلُها من مكوّناتِ شخصيّةِ القاضي، وعندها سيتمثّلها الناسُ ليتحلَّوا بها، لأنّ مرتبةَ القاضي محلّ نظرٍ ومراقبةٍ منهم، بوصفها المرتبةَ التي يحمي صاحبُها حدودَ الشريعةِ ومعالمِ الدينِ.

الاهتمام بأحوال القضاة والنظر في عملهم:

إنَّ المهمّةَ الكبرةَ التي ينهضُ بها القاضي في إقامةِ العدلِ تحتّمُ أن يتهيأ له من مطالب الدنيا الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ ما يُبعدهُ عن النظر إلى ما في أيدي الناس، ومن هنا جاء اهتمامُ الإمامُ عليه السلام بأحوال القضاةِ وأوصى عامله على مصر بمراقبةِ هذا الأمرِ، ليكون ما يوصي به عوناً لهم على حبسِ أنفسهم عن شؤون الدنيا من أجلِ العدل الذي كُلّفوا بإقامته وحمايته. ومن مظاهر اهتمام الإمامِ عليه السلام ووصاياه بهذه القضيّةِ ما نُجملُ القولَ فيه فيما يأتي:

الأمر الأول الذي أشار إليه الإمامُ عليه السلام هو منعه أنْ يكونَ رزقُ القاضي على الناسِ الذين يقضي بينهم، وإنّما جعل عطاءه من بيت المالِ حتى لا يخضع لتأثير أصحابِ المالِ، يقولُ عليه السلام: ((لا بدّ من قاضٍ ومن رزقٍ للقاضي))(50). وهذه الوصيّةُ تُلجمُ من يريد أنْ يقولَ أن عمل القاضي منحصٌر بين متاخصمين، ولا يخصُّ المسلمين كلّهم في الظاهرِ حتى يكون عطاءهُ من بيتِ

ص: 200

المالِ، لأنَّ عملَ القاضي إقامةٌ للعدلِ الذي يريدهُ اللهُ تعالى لعبادهِ، ومن هنا صار

هذا العملُ يخصُّ المسلمين كلّهم.

ويلتفتُ الأمامُ عليه السلام إلى قضيّةٍ أخرى تخصّ عطاءَ القضاةِ وأرزاقهم، فيقول يوصي عامله بذلك: ((وافسحْ له في البذلِ ما يزيلُ علّتَهُ، وتقلُّ معه

حاجتُه إلى الناسِ))(51).

يوجّهُ الإمامُ عليه السام عامله إلى أهميةِ البذلِ للقاضي والتوسعةِ عليه في العطاءِ، حتى يكون عطاؤهُ كافياً لمعيشته من دون أن يحتاجَ إلى شيءٍ قد يخلُّ بحفظِ

منزلتهِ التي هو فيها، فيشغل نفسه بالبحثِ عمّا يسدُّ حاجاته. والملاحظُ أنَّ الإمامَ

عليه السلام، قال (ما يُزيل علّته) ليظهرَ هولَ الانشغال بأمور أخرى غیر القضاء، فالعلةُ في اللغة تعني ما يأتي:

1 - العلّةُ: الحَدَث يَشْغَل صاحبَه عن حاجته، كأَنَّ تلك العِلَّة صارت شُغْلاً ثانياً مَنَعَه عن شُغْله الأَول.

2 - العلّةُ: المرض.

وعلى وفقِ هذه المعاني، تكونُ زيادةُ العطاءِ للقاضي، عوناً له على عدمِ

الانشغالِ بأيّ أمرٍ سوى ما هو فيهِ من القضاءِ بن الناسِ، لأنّ انشغالهُ بتدبیرِ

شؤونِ حياتهِ يكون شُغلاً شاغلاً له يمنعهُ من شغله الأوّل وهو القضاء، وقد

يصلُ إلى حدِّ المرضِ، فيكون علّةً له. وبهذا يخلقُ لنا المعنى اللغويُّ ل(العلّة)

فضاءً دلاليّاً أراد الإمامُ عليه السلام من خلاله أنْ يبعدَ القاضي عن كلّ ما من

شأنه التأثر على قدرته عى الفصلِ بن الحقّ والباطلِ.

وإذا تحقّقَ هذا الذي أوصى به الإمامُ عليه السلام، يتحقّق الجزء الثاني من

ص: 201

قوله عليه السلام، وهو قلّةُ حاجةِ القاضي إلى الناسِ، مما يُبعدهُ عن الخضوعِ لتأثيرِ الحاجةِ المشارِ إليها، فلا يعبأ بعد هذا بما يمكن أن يميلَ بهِ عن سبيلِ الحقِّ الذي ينشده.

ويُضيفُ الإمامُ عليه السلام أمراً آخرَ يمتن به منزلة القاضي بقوله: ((وأعطهِ من المنزلةِ لديك ما لا يطمعُ فيه غیرهُ من خاصّتك))(52).

يُذكّرُ الإمامُ عليه السلام من خلالِ هذا القولِ بقضيّةٍ اجتماعيّةٍ لها قدرٌ من

الاعتبارِ في ذلك العصرِ، وهي القربُ من ذوي السلطانِ، ويُوصي بوجوبِ إعطاءِ

القاضي منزلة يتفرّدُ بها، لا تُدانيها منزلةٌ لأيٍّ من خاصةِ الوالي، ليأمن على نفسه

من وشايةِ الخاصّةِ به، ويكون مهاباً منهم، وعندها تهابه العامةُ فلا يجرؤ أحدٌ

عليه، خشيةً من سلطةِ الوالي الذي خصّه بهذه المنزلةِ.

ولا بأس من الإشارة إلى أنّ الإمامَ عليه السلام، أراد أنْ يُبشّعَ صورةَ الوشاةِ الذين قد تحملُهم الخشيةُ على قربهم من السلطانِ، على تقبيح صورةِ القاضي عنده، فعبّر عن فعلهم هذا بالاغتيالِ (ليأمن بذلك اغتيال الرجالِ له عندك)، فما الذي تؤدّيهُ لفظةُ (الاغتيال)؟. إنّ العودةَ إلى جذرِ اللفظةِ في المعجمِ يضعُ أمامنا المعاني الآتية(53):

1 - غالهُ الشيءُ غولاً واغتاله: أهلكه وأخذهُ من حيثُ لم يدرِ.

2 - غاله يغوله: إذا اغتاله، وكلُّ ما أهلك الإنسانُ فهو غول.

3 - الغولُ: كلُّ شيءٍ ذهب بالعقلِ.

4 - أتى غولاً غائلةً: أي أمراً منكراً داهياً.

5 - التغوّلُ: التلوّنُ.

ص: 202

إنَّ هذه الحمولةَ من المعاني التي أعطانا إيّاها الجذر (غول)، تُظهر بشاعةَ ما يمكن أنْ يقومَ به خاصّة السلطانِ إذا ما أرادوا تبشيعَ صورةِ القاضي، فهم يمكنُ أنْ يهلكوهُ دون أنْ يدري بما يفعلون على وفقِ المعاني رقم (1) و(2)، والإهلاك هنا يعني فقدان القاضي للمرتبة التي يتبوأُ عليها، وهذا الفقدانُ يكونُ بمنزلةِ الداهية التي تُهلكهُ على وفقِ المعنى رقم(4).

ويبقى من المعاني السابقةِ المعنى رقم (3)، الذي يشيرُ إلى ذهابِ العقلِ، وذهابُ العقلِ هنا قد يومئ إلى أنّ تغوّلَ الخاصّةِ على القاضي قد يدفعهُ إلى فقدان عقله مجازاً، لأنّه سيلجأ إلى مدافعةِ هؤلاء، وهذا ما سيُجبرهُ على الخروجِ عن السّمتِ الصالحِ الذي مرّ ذكرهُ وهو يحاولُ ردَّ كيدَ الخصوم، وبهذا يتحقّقُ اغتياله.

ومن هنا تظهرُ لنا الحمولةُ الضخمةُ من المعاني التي أراد الإمامُ عليه السلام إبرازها، وهي معانٍ تتناغم مع السياق تماماً، وتؤدي ما لا تؤدّيه عباراتٌ طويلةٌ عند غيرِ الإمام عليه السلام، على وفقِ الرؤيةِ التأويليّةِ التي نظرنا من خلالها إلى النّصِّ.

واستناداً إلى ما تقدّم وعندما تجتمعُ للقاضي دكّةُ القضاءِ مع القرب المشارِ إليه من صاحب السلطان، يكون قد تحقّقَ له من المنزلة ما لا تكون لأحدٍ غيره، وبذا تستقرُّ نفسُهُ، ولا يبحثُ عن أيِّ أمرٍ آخرَ فيشغله عن التدبّر في خصوماتِ الناسِ، ولعلّ ما تتحقّقَ له من منزلةٍ يُغريهِ ببذلِ كلّ مجهودهِ من أجلِ أنْ لا يشوب عملَه ما يكدّرهُ، فيفقد ما هو فيه من مرتبةٍ اجتماعيّةٍ، كان عملُهُ بالقضاءِ سبباً للحصولِ عليها.

ولأهميّةِ الأمورِ التي ذكرها الإمامُ عليه السلام في قوله السابقِ، شدّدَ على النظرِ فيها ومراقبتها، فقال لعامله: ((فانظرْ في ذلك نظراً بليغاً، فإنَّ هذا الدينَ

ص: 203

كان أسيراً في أيدي الأشرارِ يُعملُ فيهِ بالهوى، وتُطلبُ به الدنيا))(54).

يطلبُ الإمامُ عليه السلام هنا أنُ تُراقبَ الأمورُ التي ذكرها مراقبةً بليغةً، ويبذلُ الوالي جهدهُ في ذلك، لأنّ الناسَ اعتادتْ على نمطٍ من القضاءِ قبل تولّيه أمور المسلمين، يقوم على الهوى وتحقيقِ المصالحِ، لأنّ الدينَ من قبل كان أسيراً بيد الأشرار، ولا يخفى ما في الجزء من قوله عليه السلام من ألمٍ على ما كان عليه القضاءُ في السنين السابقةِ لحكمه عليه السلام، فالقضاء هو وجهُ تطبيقِ الدينِ على الأرضِ، ولما كان القضاةُ أشراراً والدينُ أسيرا بأيديهم، عزفوا عن جهةِ العدلِ وجعلوا الدنيا أكبرَ همّهم. يقولُ ابنُ أبي الحديد المعتزلي معلّقاً على قولِ الإمامِ عليه السلام هذا: ((هذه إشارةٌ إلى قضاةِ عثمان وحكّامهُ، وأنّهم لم يكونوا يقضون بالحقِّ عنده بل بالهوى لطلبِ الدنيا))(55). وقد ذكر الإمامُ عليه السلام هذه الحالة التي يواجهُها هو عليه السلام وقضاتُه بقولٍ آخرِ أكثر بياناً لما يُواجههُ عليه السلام بسبب فعلِ من سبقه حيث يقول: ((قد عملتِ الولاةُ قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين لخلافه، ناقضين لعهدهِ، مغيرين لسنته، ولو حملتُ الناسَ على تركها وحوّلتُها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتفرّقَ عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليلٌ من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرضَ إمامتي من كتابِ الله عزّ وجلّ، وسنةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله))(56)، ومن هنا تتضحُ لنا الحالُ التي كانَ الإمامُ عليه السلام يعملُ على إصلاحها من خلال الاهتمام بالقضاةِ وشؤونهم.

وعلى الرغم من تشديدِ الإمام عليه السلام على اختيارِ القضاة على وفق ما رأينا، فإنّه لم يتركْ ألأمرَ عند هذا الحدِّ، وإنّما شدّد على عاملهِ بمراقبة قضاء

ص: 204

القضاةِ بقوله: ((ثم أكثر تعاهد قضائه))(57)، والمراد ب(تعاهد) هنا: إحداث العهد بما يقضي به القاضي بين الناس، وهذا التعاهدُ وهذه المراقبةُ لعملِ القاضي، تدفعهُ إلى توخّي الدقّةَ فيما يُصدرُ من أحكامٍ، والتدبّر فيما الخصوماتِ، والتأنيّ في قبول الأقوال، ليصلَ إلى حكمٍ لا يُلامُ عليه، وربّما قد تلين شدّتُه لو شعر بقلّةِ التعاهدّ لعمله من واليه.

اختلاف القضاة في الأحكامِ:

تُعدُّ هذه القضيّةُ من القضايا الكبرى التي أولاها الإمام عليه السلام اهتماما كبيراً، لأنّها تتّصلُ بإقامة العدلِ والتفريقِ بين الحقِّ والباطلِ، وفي هذا حياةٌ للمسلمين والإسلامُ على السواءِ، والاختلاف في الفُتيا بين القضاةِ ينمُّ عن اختلاطِ الحقِّ بالباطلِ عندهم، ومن هنا يكونون غيرَ قادرين على الفصل بين الناسِ في خصوماتهم، ولذا شدّد عليه السلام على ذلك وهو يصفُ ما آلَ إليه أمرُ القضاةِ في الحقبِ السابقةِ -- كما مرّ بنا بعضٌ منه في موضعٍ سابقٍ. يقولُ عليه السلام: ((تردُ على أحدهم القضيةُ في حكمٍ من الأحكامِ فيحكم فيها برأيهِ، ثم تردُ تلك القضيّةُ بعينه-ا ع-لى غيره فيحكم فيها بخلافه))(58).

يشيرُ الإمام عليه السلام هنا إلى أنَّ الاختلافَ في الأحكامِ في القضيّةِ الواحدةِ نابعٌ من الحكمِ بالرأي، والاختلاف هنا هو التضاد بعينه، لأنّ القاضي الثاني يحكمُ في القضيةِ نفسها بخلاف ما حكم القاضي الأوّل، فلم يكن الاختلافُ في الحكمِ جزئيّاً حتى يُسوّغَ. وهذا الاختلاف المطلقُ آتٍ من الحكم بالرأي، وهو أمرٌ منهيٌّ عنه، فقد ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنه قال: ((نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الحكمِ بالرأي والقياس))(59)، لأنّ الحكمَ ينبغي أن يوضعَ على ما في كتابِ اللهِ وسنّةِ نبيّهِ حتى يتحققَ العدلُ

ص: 205

الذي أمر اللهُ تعالى به في قوله: «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء 58. ومن هنا قال الإمام عليه السلام في موطنٍ آخرَ عن وقوع الاختلاف: ((فإن ذلك ضياعٌ للعدلِ وعورةٌ في الدينِ وسببٌ للفُرقة، وإنّما تختلفُ القضاةُ لاكتفاءِ كلِّ امرئ منهم برأيه دون الإمام))(60).

واستناداً إلى ما تقدّم صار أمراً لازماً عودةُ القاضيين المختلفين في الحكمِ في القضيّةِ الواحدةِ إلى الإمام الّي استقضاهم، يقولُ عليه السلام: ((... ثمّ يجتمعُ القضاةُ بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيُصوّب آراءهم جميعاً، وإلههم واحدٌ ونبيّهم واحدٌ وكتابهم واحدٌ))(61).

إنَّ الاختلاف في الأحكامِ بين القضاةِ في القضيّةِ الواحدةِ يُنذرُ ببُعدهم عمّا يأمرُ به الله تعالى، فإذا وقع الاختلافُ واجتمع القضاةُ المختلفون عند من استقضاهم، صوّبَ آراءهم جميعاً، وهذا يعني أنّهم قضوا بخلافِ ما أمر به اللهُ تعالى، على الرغمِ من أنّ مصادرَ التشريعِ التي يستقون منها أحكامَهم واحدةٌ، فالإلهُ واحدٌ والنبيُّ واحدٌ والكتابُ واحدٌ، وليس ثمّة ما يقود إلى الاختلافِ المذكورِ إلا الحكمُ بالرأي.

ثمّ يُظهرُ الإمامُ عليه السلام بشاعةَ ما يحكمُ به القضاة بسيلٍ من الاستفهامات الإنكاريةِ التي التي لا تدعُ حجّةً بيد من يريدُ أنْ يحتجّ لاختلافِ الفُتيا، يقولُ عليه السلام متمّاً قوله السابقَ: ((أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه. أم نهاهم عنه فعصَوه. أم أنزلَ اللهُ دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه. أم كانوا شركاء له. فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه))(62).

ص: 206

إنّ استعمال الإمام عليهم السلام للاستفهام الإنكاري(43) على هذا النحوِ المتتابعِ، يضعُ أمامنا مقتَه الشّديدَ عمّا يقوم به القضاة من الفصل بين الناسِ بآرائهم من دون أن يلتفتوا إلى ما يأمر به اللهُ تعالى من الاحتكامِ إلى القرآنِ والسنّةِ کما أشرنا، يضعُ ذلك أمامنا من قدرةِ الاستفهامِ الإنكاري على الجمعِ بين الإنكارِ للفعلِ والتعجّبِ منه والنهيِّ عنه والتوبيخ للقائمين به، وهذا الضربُ من الاستفهام لا يحتاجُ إلى جواب، لأنّه لم يقعْ ولا يقع في المستقبلِ، لأنّه جاء مُخالفاً لما ينبغي على القضاةِ القيام به. ولذا استعمله الإمامُ عليهم السلام بهذا التكرار ليلفتَ نظر المتلقّي إلى هولِ خطأ الفعلِ الذي وقعَ القضاة فيه.

وثمّة رأيٌ للعلامةِ المجلسي في هذا الاختلافِ الذي نحنُ بصدده، يظهرُ فيه بشاعةَ هذا الأمرِ وخطورتَه على العقيدةِ والدينِ، وخدشَهُ للعدلِ الذي يُريدهُ اللهُ

تعالى سيادتهُ بن العباد، يقولُ: ((فإنّ هذا إنّما يكونُ إما بإلهٍ آخر بعثهم أنبياءَ وأمرهم بعدمِ الرجوعِ إلى هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبعوث وأوصيائه، أو بأنْ يكون اللهُ شرك بينهم و بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النبوّة، أو بأنْ لا يكون اللهُ عزّ وجّل بيّن لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم جميعَ ما تحتاج إليه الأمةُ، أو بأنْ بيّنهُ له لكن النبيَّ قصر في تبليغِ ذلك ولم يتركْ بين الأمّةِ أحداً يعلم جميع ذلك، وقد أشار عليه السلام إلى بطلان جميع تلك الصور))(64).

ثمّ يتمُّ الإمام عليهم السلام قوله السابق، فيقول: ((والله سبحانه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» الأنعام 38، فيه تبيانُ كلِّ شئ، وذكر أنّ الكتابَ يُصدّقُ بعضه بعضا وأنّه لا اختلافَ فيه، فقال سبحانه: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» النساء 82. وإنّ القرآنَ ظاهرُه أنيقٌ. وباطنُه عميقٌ. لا تفنى عجائبُهُ ولا تنقضي غرائبُهُ ولا تُكشفُ الظلماتُ إلا به))(65).

ص: 207

يُجيبُ الإمام عليهم السلام هنا مؤنّباً القضاة الذين اختلفوا في الأحكامِ، بثوابت عقديّةٍ يعلمها المسلمون جميعاً، فيذكر عليهم السلام أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شيء، بمعنى أنّ كلّ ما يحتاج إليه الإنسان المسلمُ في حياته موجودٌ في القرآن، فالله تعالى يريدُ للإنسانِ أن يصل إلى حدِّ التكاملِ والرقيّ، والمقصودُ ب (كلّ شيء) كلّ ما يصلُ بالإنسان إلى التكاملِ، فهو دعوةٌ لبناء الإنسان(66)، والقاضي في مقدمةُ من يستحقَّ البناء على وفقِ الرؤيةِ القرآنيةِ لأن تطبيق العدلِ الذي يريدهُ اللهُ تعالى لعباده منوطٌ به. وكلّ ما يحتاجُ إليهِ للتفريقِ بين الحقِّ والباطلِ في خصوماتِ الناسِ موجودٌ في القرآنِ.

ثم يذكرُ الإمامُ أنّ القرآنَ يُفسّرُ بعضُهُ بعضاً، فالقضيّةُ التي لا يوجد لها بيانٌ في الآيةِ القريبةِ منها، تجدُ لها بياناً في آيةٍ أخرى، وهذه القاعدةُ المعرفيّةُ تيسّرُ للقاضي الفصلَ في الخصومات بين الناس من دون اختلاف، وما يقعُ بين الفقهاءِ من اختلافٍ في الأحكامِ هو من عند أنفسهم، وليس من القرآن.

وقد يُقال أنّ بعضَ القضايا التي ينظرُ فيها القضاةُ قد لا يعرفون لها حلًّا من القرآن، وهنا نقولُ: إنّ الله تعالى جعل السنّةَ النبويةَ الركن الثاني الذي يستندُ إليه العبادُ في شؤونِ دينهم ودنياهم، وهي محفوظة عند أهلِ البيتِ، واللهُ تعالى أمر بالعودةِ إليهم فيما لا يعرفهُ المسلمُ فقال - جلّ شأنه -: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» النحل 43، وأهل الذكر في الآية هم أهل البيت عليهم السلام، فقد ورد عن أبي عبد الله عليهم السلام: ((الكتاب الذكر و أهله آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أمر الله عز و جلّ بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهال))(67).

ويبقى من قول الإمام عليهم السلام السابق (. وإنّ القرآنَ ظاهرُه أنيقٌ. وباطنُه عميقٌ. لا تفنى عجائبُهُ ولا تنقي غرائبُهُ ولا تُكشفُ الظلاتُ إلا به)،

ص: 208

وهذا القولُ متصلٌ باختلاف القضاةِ في الأحكامِ، فكيف نتأوّل ما يريدهُ الإمامُ عليهم السلام؟.

إنّ الإجابة هنا تقتضي الوقوفَ على معاني (الأنيق) الواردة في النصّ، ومن لسان العرب نستجلب المعاني الآتية التي تتلائم مع السياق(68).

1 - الأنقُ: الإعجابُ بالشيء، وإنّهُ لأنيقٌ مؤنِقٌ: لكل شيء أعجبك حسنهُ.

2 - أنقتُ الشيء: أحببته.

3 - المنظر الأنيق: إذا كان حسناً معجباً.

إنَّ المعنى العام الذي يجمعُ هذه المعاني هو: الإعجابُ بالشيء ومحبّته لحسنه وجماله، وبمقاربةِ هذه الصفاتِ لقول الإمامِ عليهم السلام، يكون ظاهرُ القرآنٍ حسناً جميلاً معجِباً، يُستلذُّ بقراءته، ويُتمتّعُ بمحاسنه، وهذا كلّه يكونُ سبباً للتدبّر في باطنه العميقِ، لكي يُستنبطَ منه ما يُحتاجُ إليه. ويجبُ أنْ لا يقع اختلافٌ فيما يُستنبطُ من القرآن، ويكون الحكمُ في الواقعةِ الواحدةِ واحداً، فإنْ وقع الاختلافُ فهذا من القضاة وليس من القرآنِ،

واستناداً إلى ما تقدّم فلا يمكن أن يصح وقوع الاختلافِ بين القضاةِ في الأحكامِ، لأنّ الله تعالى شاء أنْ ينظّمَ حياةَ الناسِ، بما يكفلُ لهم العيشَ بسلامٍ وأمانٍ، فإذا اختلفتْ الأحكامُ، وقع الناسُ في دائرةِ الفوضى. وهذا ما لا يصحّ أنْ يقعَ في المجتمع الإسلامي كما بينّةُ الإمامُ عليهم السلام في قوله السابق(69).

ويصفُ الإمامُ هذا الضربَ من القضاةِ الذي يجهلون ما يأمر به الله تعالى، فيصف من يكون من هؤلاء بقوله: ((جلس بين الناسِ قاضيا ضامنا لتخليصِ ما التبس على غيره، إن خالف من سبقه، لم يأمنْ منْ نقضِ حكمهِ من يأتي

ص: 209

من بعده، كفعله بمن كان قبله، وإنْ نزل به إحدى المبهماتِ، هيأ لها حشوا رثّا من رأيهِ، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لايدري أصاب أم أخطأ، إنْ أصاب خافَ أن يكونَ قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهلات، غاش ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع))(70).

وعلى الرغمِ من طولِ هذا النصّ الذي اقتبسناه من الإمام عليهم السلام، فإنّهُ يتضمّن تبشيعاً لصورةِ من يقضي برأيهِ أو يردّ رأيَ قاضٍ قبله بالرأي نفسه، ويُلاحظُ انتقاء الإمامِ عليهم السلام ل(حشوا رثاً من رأيه) للدلالةِ على أنْ لا فائدة مرجوّة ممن يقضي برأيه، بل سيكونُ جاهلاً من الذين لم يعضّوا على العلم بضرسٍ قاطعٍ، وهو يجلسُ بين الناسِ للقضاءِ بينهم.

ص: 210

كلمة في ختام البحث

يمكننا الآن أنْ نُجملَ النتائج الكبرى التي خلص إليها البحث، أما النتائج الأخرى فقد تكفّلت صفحاتُ البحثِ بالكشف عنها، وفيما يأتي أهم تللك النتائج:

1 - وضع الإمامُ عليهم السلام أولاً الأُسس التي يجب أنْ يُستندَ إليها في اختيارِ القضاۃِ، وقد ترسّختْ تلك الصفاةُ في النفوسِ حتى صارتْ صفاتٍ للقضاۃِ، وهي - كما أرادها - عليهم السلام صالحة للأزمانِ كلّها، بل بل تزدادُ الحاجةُ إليها كلّما مرّ الزمانُ، لأنّها تشكّلُ الركائز التي يُستندُ إليها في تطبيقِ العدلِ الذي يُريدهُ الله تعالى لعباده.

2 - تجلّتْ في بسط صفاةِ القضاۃِ الدقّةُ المعهودةُ في انتقاء الإمام عليهم السلام للمفردات التي يُعبّرُ بها عن الصّفةِ، فلم تُذكرْ صفةٌ وإلا وقيّدها الإمامُ بقیدٍ لغويٍّ يدفعُ الإنسانَ المسلمَ قبل القاضي إلى التفكير بالاقترابِ منها، إنٍ كانتْ حسنةً، والابتعادِ عنها، إنْ كانتْ سيّئةٍ.

3 - إنّ ما ذكرهُ الإمام عليهم السلام من صفاتٍ، منها ما قد يصحُّ أنْ يكون مشتركاً بين القضاۃِ وغيرهم، ومنا ما هو خاصٌّ بالقضاۃِ دون سواهم من الناس، لأنّها من وسائل القاضي في التفريقِ بين الحقِّ والباطلِ عند المتخاصمين.

4 - أوصى الإمامُ عليهم السلام القضاةَ بوصايا، ألزمهم التمسّكَ بها، وهي ستتحوّلُ إلى صفاتٍ بعد أنْ يُروّضَ القاضي عليها نفسُهُ وهو يتصدّى لفضّ المنازعاتِ بين المسلمين.

5 - سعى الإمام عليهم السلام إلى تحصين القضاۃِ من كلّ ما يمكنُ أنْ يؤثّر على

ص: 211

سيرهم في طريق العدل الذي يُريده الله تعالى لعباده وطبقة في دولته، فأمر الولاةَ بالاهتمام بمكانتهم الاجتماعية، ومراقبة شؤونِ عيشهم، حتى لا يشغلهم شيءٌ من أمر الدنيا عن التمعّن والتدقيق فيما يُعرضُ عليهم من شؤون المتخاصمين.

6 - اهتمّ الإمامُ عليهم السلام بمراقبةِ قضاءِ القضاةِ بنفسه، وأمر الولاةَ والعمالَ بذلك، حتى يضمن سلامةِ احقاقِ الحقِّ، وإبطال الباطلِ، ولئلا يشعر القاضي بالأمنِ المطلق، وهنا قد يقعُ تحت تأثير ذلك فيُصابُ بضربٍ من الفتور الذي قد يؤثّرُ على قضائهِ.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة 3 / 94.

2. القضاء في الفقه الإسلامي 67.

3. البلاغة 3 / 94.

4. ينظر: لسان العرب (ضيق).

5. ينظر: م. ن (محك).

6. نهج البلاغة 3 / 94.

7. ينظر: لسان العرب (زلل).

8. ينظر: لسان العرب (زلل).

9. سنن الترمذي 4 / 70، کنز العمّال 4 / 215.

10. نهج البلاغة 3 / 94.

11. ينظر: لسان العرب (حصر).

12. ينظر: لسان العرب (حصر).

13. نهج البلاغة 3 / 94.

14. الكافي 2 / 320.

15. م . ن.

16. ينظر: دراسات في نهج البلاغة 63.

ص: 212

17. شرح نهج البلاغة 17 / 59.

18. نهج البلاغة 3 / 94.

19. في ظلال نهج البلاغة 1 / 161.

20. كلمة (أوقفهم) هنا تعود على الرعية التي مرّ ذكرها في بداية البحث.

21. نهج البلاغة 1 / 156. ونشيرُ هنا إلى أنّ الشيخ التُستري ربط بين قول الإمام عليه السلام وبين (المتشابهات) الواردة في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» آل عمران 7. ينظر: نهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 19 / 144.

22. في ظلال نهج البلاغة

23. نهج البلاغة 3 / 94. وأقلّهم يعني: أقلّ الرعيّة.

24. ينظر: لسان العرب (برم).

25. دعائم الاسلام 2 / 531.

26. م ن: 2 / 534.

27. نهج البلاغة 3 / 94.

28. يُنظر: لسان العرب (صرم).

29. نهج البلاغة 3/ 94.

30. ينظر: لسان العرب (زها).

31. ينظر: نهج البلاغة (سرب).

32. لسان العرب ( غرا).

33. دعائم الإسلام 2 / 534.

34. کتاب سلیم بن قیس 473.

35. ينظر: تاج العروس (فرح).

36. في هذا إشارة إلى قوله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

ص: 213

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» البقرة 61.

37. نهج البلاغة 3 / 95.

38. ثمة ضربٌ ممدوح من الطمع، وهو الطمع في رضا الله تعالى، والطمع في دخول الجنّةِ وغيره.

ينظر تفصيل ذلك في: میزان الحكمة 2 / 2422،

39. دعائم الإسلام 2 / 534.

40. مستدرك الوسائل 12 / 116.

41. شرح نهج البلاغة 16 / 296.

42. دعائم الإسلام 2 / 536.

43. ينظر: لسان العرب (سمت).

44. جاء في الحديث الشريف عن المؤمن: (( .... وعزّهُ كفّ الأذى عن الناس))، ينظر: الخصال 1 / 7. وجاء في حدیثٍ أخرَ عن حسن الجوار: ((ليس من المؤمنين من لم يأمنُ جارهُ بوائقهُ)).

ينظر: الكافي 1 / 9، والأحاديث كثيرة في هاتين الصفتين.

45. ينظر: مجمع البحرین 2 / 413.

46. دعائم الإسلام 5 / 37.

47. ينظر: إمتاع الأسماع 1 / 97.

48. دعائم الإسلام 2 / 530.

49. المبسوط 8 / 99.

50. دعائم الإسلام 2 / 538.

51. نهج البلاغة 3 / 95.

52. نهج البلاغة 3 / 95.

53. ينظر: لسان العرب (غول).

54. نهج البلاغة 3 / 95.

55. شرح نهج البلاغة 17 / 59.

56. الكافي 8 / 83.

57. نهج البلاغة 3 / 95.

58. م، ن: 1 / 53.

59. مستدرك الوسائل 17 / 254.

ص: 214

60. دعائمُ الإسلام 1 / 360.

61. نهج البلاغة 1 / 54.

62. نهج البلاغة 3 / 55.

63. ينظر: أوضح المسالك 2 / 60، شرح الأشموني 2 / 149، شرح التصريح 1 / 348، همع الهوامع 3 / 250.

64. بحار الأنوار 2 / 284.

65. نهج البلاغة 3 / 55.

66. ينظر: الأمثل 8 / 292. رسائل المرتضی 2 / 220.

67. الكافي: 1 / 295، ويُنظر: الميزان: 12 / 147.

68. ينظر: لسان العرب (أنق).

69. ينظر تفصيل أكثر عن هذه القضيّةِ في: شرح نهج البلاغة 1 / 288.

70. بحار الأنوار 2 / 285.

ص: 215

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، المقريزي (أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني ت 845 ه)، تحقیق محمد عبد الحميد النميسي، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 1420 ه - 1999 م.

2. الأمثل (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل)، ناصر مکارم الشيرازي، نشر مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ط 1، التصحيح الثالث 1426 ه.

3. أوضح المسالك إلى ألفية إبن مالك - ابن هشام (أبو محمد عبدالله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبدالله بن هشام الأنصاري)، دار الجيل - بيروت، الطبعة الخامسة، 1979 م.

4. بحار الأنوار، الشيخ المجلسي (ت 1111 ه)، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، ط 2، 1403 ه - 1983 م.

5. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، التستري (محمد تقي كاظم محمد علي جعفر التستري ت 1420 ه)، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط 1، 2011 م.

6. تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي (محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني، أبو الفيض الملقب بمرتضى الزبيدي ت 1205 ه)، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية، د. ط، د.ت.

ص: 216

7. الخصال، الشيخ الصدوق (أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابویه القميت 381 ه)، صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، د. ط ، د.ت.

8. دراسات في نهج البلاغة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، لبنان ط 3 1981.

9. دعائم الإسلام ، النعمان المغربي (القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي ت 363 ه)، تحقيق: اصف بن علي اصغر فيضي، منشورات: دار المعارف. مصر.

10. رسائل المرتضى رسائل المرتضى، الشريف المرتضى (ت 436 ه)، تحقيق السيد مهدي رجائي، دار القرآن، 1405 ه.

11. سنن الترمذي، الترمذي (محمد بن عیسی بن سَوْرة بن موسی بن الضحاك)، تحقیق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بیروت، د. ط، د.ت.

12. شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، الأشموني (علي بن محمد بن عیسی ت 900 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 ه - 1998 م.

13. شرح التصريح على التوضيح، زين الدين المصري (خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد الجرجاوي الأزهري ت 905 ه، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 14212 ه - 2000 م.

14. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، منشورات مكتبة آية الله العظمی المرعشي النجفي، دار احیاء الكتب

ص: 217

العربية.

15. في ظلال نهج البلاغة محاولة لفهم جديد - الشيخ محمد جواد مغنية. دار العلم للملايين. بيروت - لبنان.

16. القضاء في الفقه الإسلامي، السيد كاظم الحائري، مجمع الفكر الإسلامي، ط 1، 1415 ه.

17. الكافي، الشيخ الكليني (ت 329 ه)، تحقيق علي أكبر غفاري، مطبعة حيدري، دار الكتب الإسلامي - آخوندي، ط 3، 1388 ه.

18. کتاب سليم بن قيس الهلالي، تحقيق: محمد باقر الأنصاري، منشورات: الهادي، ط 1، قم المقدّسة.

19. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين بن حسام الدين (ت 975 ه)، تحقيق بكري حياني وصفوة السقا، مؤسسة الرسالة، ط 5، 1401 ه - 1981 م.

20. لسان العرب، لابن منظور (محمد بن مكم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظورت 711 ه)، دار صادر، بيروت، ط 3، 1414 ه.

21. المبسوط ، السرخسي (شمس الدين أبو بكر بن محمد بن أبي سهل)، دراسة وتحقيق: خليل محيي الدين الميس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط 1، 1421 ه - 2000 م.

22. مجمع البحرين ومطلع النيّرين، الطريحي (فخر الدين الطريحي ت 1087 ه) تحقيق: سيد احمد الحسيني الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

ص: 218

النوري الطبرسي ت 1320 ه)، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مطبعة سعید، قم، إيران.

24. میزان الحکمة، محمد الريشهري، تحقيق وطباعة ونشر: دار الحديث، ط 1، د.ت.

25. الميزان في تفسير القرآن، للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ایران.

26. نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام -، جمع الشريف الرضي، تحقيق الشيخ محمد عبدة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.

27. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، لجلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق عبد الحميد هنداوي ، المكتبة التوفيقية، مصر.

ص: 219

ص: 220

نظام الترابط الحجاجي في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

د. حامد بدرعبد الحسين م. م.حسن رحیم حنون

كلية الدراسات القرآنية / جامعة بابل

ص: 221

ص: 222

المقدمة (مدخل نظري لروابط الحجاج)

الحجاج نظرية لسانية تهتم بالوسائل، والإمكانات اللغوية التي تمدنا بها اللغات الطبيعية لتحقيق بعض الأهداف والغايات الحجاجية فهي تنطلق من الفكرة الشائعة التي مؤداها إننا نتكلم عامة بقصد التأثير، فالجملة بإمكانها أن تشتمل على مورفيمات أو صيغ تصلح لإعطاء توجيه حجاجي للقول يضاف إلى محتواها الإخباري، وتوجيه المتلقي بهذا الاتجاه أو ذاك، ويزيد على ذلك إن الحجاج يشكل جانبًا مهمًا في المسار اللساني، ومن المداخل المهمة في مقاربة النصوص ذات الصبغة الإقناعية.

إن البعد الحجاجي والتداولي للروابط برز مع ديكرو في إطار صياغتة للتداولية المدمجة وهي النظرية التداولية التي تشكل جزءًا من النظرية الدلالية، إذ لمٌ يغفل دیکرو وزميله في أثناء صياغتهما ل(النظرية الحجاجيية في اللغة)، هذا الجانب المهم الذيٌ تمركز في أبنية اللغة بوصفها ظاهرة لغوية مهمة جدا تتدخل بطريقة مباشرة في توجيه الحجاج من خلال إحداث الانسجام داخل الخطاب والدفع باتجاه تحقيق البعد الإقناعً عبر استمالة المتلقي وتوجيهه نحو الغاية التي يريدها المتكلم.

ابان أبو بكر العزاوي الروابط الحجاجية بقولة: تربط بين قولين أو بين حجتين على الأصح (أو أكثر) وتسند لكل قول دورا محددا داخل الاستراتيجية الحجاجية العامة(1) وصنفها إلى:

الروابط المدرجة للحجج (حتى، بل، لكن، مع ذلك، لأن...)

الروابط المدرجة للنتائج (إذن، لهذا، بالتالي...)

الروابط التي تدرج حججا قوية (حتى، بل، لكن، لاسيما...)

ص: 223

روابط التعارض الحجاجي (بل، لكن، مع ذلك...)

روابط التساوق الحجاجي (حتى، لاسيما).

اولًا: روابط التعارض الحجاجً:

الرابط الحجاجي (لكن)

تربط لكم بين حجتين متفاوتين وتفيد معنى الاستدراك و تعني في النحو العربي «أن تنسب حكما يخالف المحكوم عليه قبلها كأنما لما أخترت عن الأول بخبر، فخفت أن يتوهم من الثاني مثل ذلك فتداركت بخبره إن سلبا وإن إيجابا، ولذلك لا يكون إلا بعد ملفوظ به، أو مقدر(2)، ولا تقع لكن إلا بين متنافيين بوجه واحد، و عرف عباس حسن الاستدراك، إنه ابعاد معنى فرعي يخطر على البال عند فهم المعنى الأصلي لكلام مسموع أو مكتوب(3)، وتقوم لكن «بإزالة الخواطر والاوهام التي ترد على الذهن بسببه، وهو يقتضي أن تكون ما بعد أداة الاستدراك مخالفا لما قبلها في الحكم المعنوي»(4).

ويتم الوصف الحجاجي للرابط لكن الذي يعبر عن التعارض والتنافي بين ما قبلها و ما بعدها، إذ يقدم المتكلم (أ) و (ب) باعتبارهما حجتين، الحجة الأولى موجهة نحو نتيجة معينة (ن)، والحجة الثانية موجهة نحو النتيجة المضادة لها، أي (لا - ن)، ويقدم المتكلم الحجة الثانية، باعتبارهما الحجة الأقوى، توجه القول لأول للخطاب برمته(5)، ولقد ميز ديكرو وأنسكومير، في دراستهما العديدة للرابط (لكن).

ومن ذلك قول الإمام علي (علیه السلام):((فَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ

مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَ وَهِلْتُمْ وَ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ لَكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا

ص: 224

وَ قَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ وَ لَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وَ هُدِيتُمْ

إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمْ اَلْعِبَرُ وَ زُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَ مَا

يُبَلِّغُ عَنِ اَللِّهَ بَعْدَ رُسُلِ اَلسَّمَاءِ إِلاَّ اَلْبَشَرُ)).

نلاحظ إن الرابط الحجاجي (لكن) قد عمل تعارضا حجاجيا بين ما تقدمه وما تأخر عنه، فالقسم الأول الذي سبق الرابط هو (فَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَ وَهِلْتُمْ وَ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ)، إذ كما هو شأن الانبياء و الأولياء، فانهم بسبب علمهم و اطلاعهم على ذلك العالم كانوا يبكون ذلك البكاء الشديد، و يبيتون ليالهم خائفين وجلين، و يسهرون الليل بالبكاء و التضرع و الناس لو كانوا يعلمون ذلك لما وجد إنسان عاصي، قد تضمن حجة تخدم نتيجة ضمنية هي (عدم معاينتهم)، أما القسم الثاني، الذي جاء بعد الرابط فقد تضمن حجة تخدم نتيجة مضادة للنتيجة السابقة (لا - ن) ليرفع التردد لدى المتلقي بواسطة الاستدراك الذي لا يعني إبطال الحجة الأولى وإنما مو إعادة التصحيح ما قد توهم به المتلقي إو تردد بقبوله وهذا ما تشير إليه الحجة الثانية بعد الرابط (مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا وقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ) التي تضمنت نتيجة ضمنية (محجوبة عنكم وغير محجوبة عن الراسخين في العلم)، ثم جاء الرابطان (الواو، إن) للربط بين اكثر من قضية و حجة غير متباعدين ليقررا الرابط بين الحجج التي جاءت بعد (لكن) (وَ قَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ وَ لَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وَ هُدِيتُمْ إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمْ اَلْعِبَرُ وَ زُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَ مَا يُبَلِّغُ عَنِ اَللَّهِ بَعْدَ رُسُلِ اَلسَّمَاءِ إِلاَّ اَلْبَشَرُ)، وهنا تکون الحجة بعد الواو دعمت النتيجة المتعلقة بالحجة الثانية.

إن الرابط الحجاجي كشف عن استدلالات حجاجية أخرى

ص: 225

1. إن التراتيب الحجاجية التي اوجدها الرابط (الواو) إلى الحجج قد اثبت قوة النتيجة (لو عاينتم / محجوب عنكم ثم جاء الرابط (إن) لإثبات قوة الحجة التي تلته مع الحجة التي سبقته.

2. إن الروح اذا خرجت من البدن، و طارت من قفص الجسد ظهر لها كل ما كان محجوبا مخفيا لهذا قال (علیه السلام) (و قريب ما يطرح الحجاب) نستخلص نتيجة ضمنية وهي لو كان الناس كلهم يعلمون و يطلعون على ذلك العالم لاختل النظام الاجتماعي، و لما زرع الزارع، و ما اتجر التاجر، وصارت الأشغال معطلة و الحالة مضطربة.

فالغاية التي أراد الإمام (علیه السلام) توضيحها تكمن في القسم الثاني من كلامه، فإن الحجة الثانية اقوى من الحجة الأولى فهي ستواجه القول برمته نحو تبني النتيجة الضمنية المضادة (لان)، فالإمام (علیه السلام) يعلم بعذاب القبر فهذا الامر غير محجوب عنه ولكن محجوب عن الأخرين، لذلك الحجة الثانية (ب) اقوى من الحجة الأولى (أ).

و ومن أمثلة ما جاء فيه الربط كلام له (علیه السلام) لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته: ((لا تَلْقَیَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ يَرْكَبُ اَلصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ اَلذَّلُولُ وَ لَكِنِ اِلْقَ اَلزُّبَیْرَ فَإِنَّهُ أَلْیَنُ عَرِيكَةً فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ اِبْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ

فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا))، فالحجة الأولى في قوله (علیه السلام) (لاَ تَلْقَیَنَّ طَلْحَةَ...) وهي حجة لا تكفي لحصول الاقناع لدى المتلقي ظاهرًا، فقد نهى الإمام (علیه السلام) ابن عباس انى يلقي طلحة، فأخبر انه كالثور الملتوي قرنه، او الثور الذي يرخي رأسه و يطأطأه، فيعقص قرنيه استعدادا للخصومة و المحاربة، و هذا اشارة الى استعداده

ص: 226

للشر بجميع معنى الكلمة، و أما قوله (علیه السلام): يركب الصعب: هو الذلول، فمعناه الاستهانة بالامور المستصعبة، و التهور في الاقدام و المجازفة في الاعمال، وشراسة الاخلاق و امال هذا الشخص لا ينفع معه الكلام لغروره، و اعجابه بنفسه، و لهذا نهى أمير المؤمنين (علیه السلام) ابن عباس ان يتفاهم مع طلحة.

ثم جاء الرابط لرفع التردد والتوهم لدى المتلقي في قبول كلامه بما تضمنة الحجة الثانية (اِلْقَ اَلزُّبَیْرَ فَإِنَّهُ أَلْیَنُ عَرِيكَةً)، من قوة تفوق الحجة الأولى ومؤدي هذه القوة الرابط (لكن) الذي افاد الاستدراك ابانة القصد من نهي ابن عباس عن لقاء طلحة، و امره أن يلقي الزبير، لأنه امكن التفاهم معه؛ لأنه لين الطبيعة و الجانب ينفع معه الكلام، ثم جاء تدعيم قوة الحجة الثانية بقوله: يقول لك ابن خالك» اي الإمام نفسه، و انما قال: ابن خالك و لم يقل يقول لك علي او أمير المؤمنين أو ابو الحسن لما في هذه الكلمة من الاستمالة و الاذكار بالنسب و الرحم، و لا يخفى ما فيها من الملاطفة، و التأثير في القلب و النفس.

الرابط الحجاجي (بل)

أداة ربط بين قولين ومعناها الإضراب عن الأول والأثبات للثاني، ويتحدد دورها في الربط نفيا أو إيجابا حسب السياق الذي ترد فيه(6) فهي تأتي» لتدارك كلام غلط فيه وتكون لترك شيء من الكلام وأخذ غيره(7)، فهي من أدوات الربط التي تستعمل للإبطال والحجاج، ولهذا الرابط حالان:

الأول: أن يقع بعده مفرد.

الثاني: أن يقع بعد جملة.

فإن وقع بعده مفرد فله حالان:

ص: 227

- إن تقدمه أمر أو إيجاب نحو: (إضرب زيدا بل عمرا) و (قام زيد بل عمرو) فإنه يجعل ما قبله كالمسكوت عنه، ولا حٌكم عليه بشيء ويثبت الحكم لما بعده.

- وان تقدمه نفي أو نهي نحو: (ما قام زيد بل عمرو) و(ولا تضرب زيدا بل عمرا) فإنه يكون لتقرير حكم الأول وجعل ضده لما بعده أي إثبات الثاني ونفي الأول.

- أما إذا وقع بعد (بل) جملة ، فيكون معنى الاضراب:

- أما الإبطال نحو قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ» المؤمنين: 70

- وإما الانتقال من غرض إلى غرض(8) نحو قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا» الأعلى: 14 - 16.

ومما جاء من ذلك في خطاب الإمام (علیه السلام) قوله: ((فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ

عَلَى اَلْمُلْكِ وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ اَلْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اَللَّتَيَّا وَ اَلَّتِي وَ اَللَّهِ لاَبْنُ

أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ اَلطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ اِنْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ

بِهِ لاَضْطَرَبْتُمْ اِضْطِرَابَ اَلْأَرْشِيَةِ فِي اَلطَّوِيِّ اَلْبَعِيدَةِ)).

وردت (بل) في هذه القول وهي من النمط الحجاجي الذي أفاد الاعتراض فقد توسطت بين حجتين فما تقدمها كان منفيا في حين جاءت الحجة التي تلتها مثبتة وبذلك يكون الرابط، قد أقام علاقة حجاجية بين نفي احتمال حصول (حرص الإمام على الملك، أو الجزع من الموت)، فالإمام (علیه السلام) اقسم باللهّ تعالى انه أشد انسا بالموت من الطفل بثدي امه، لأن محبة الطفل و ميله إلى ثدي امه أمر

ص: 228

طبيعي حيواني فهو في معرض الزوال، يعني إذا كبر الطفل و تجاوز سن الرضاع يزول ذلك الانس، و لكن انس علي (علیه السلام) بالموت لا يزول مهما عاش، وبين أثبات حقيقة سكوتة و عدم نهوضه بحقه و هو انه احتوي على عدم و اطلاع ببعض الأسرار التي أخبره بها رسول (صلى الله عليه وسلم) فيما يتعلق بالخلافة، و هي من علوم الامامة و مزاياها، و لا يشاركه فيها أحد من غير الأئمة و لا يستطيع أحد أن يسمع او يطلع على شيء من تلك الأسرار و لا يتمكن أن يتحملها (لو بحت به لاضطربتم اضطراب الارشية في الطوى البعيدة) لو باح او أظهر شيا من تلك الأسرار لاضطربت قلوب الناس كما تضطرب الحبال في الآبار العميقة، و ذلك لضعف القلوب و عدم استعداد النفوس.

و لعل الاستدراك الذي اتى به الإمام (علیه السلام) يكشف تكذيب قول من ينسب اليه الخوف من الموت، أو الحرص على الملك، أي بعد تلك المصائب و النوائب التي جرت عليّ لا أخاف من الموت، بل الموت أحب إلي من البقاء، و هذا شأن الرجال الغيارى أنهم يرجحون الموت على الحياة المملوءة بالفجائع و الفضائع، وهنا النتيجة المضادة الضمنية قد وجهت القول برمته نحو إقامة الحجة والبينة على (من ينتسب له الخوف أو الموت).

وورد أيضا الرابط الحجاجي (بل) في كتاب له (علیه السلام) إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة، قوله: ((مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِیرِ اَلْمُؤْمِنِینَ إِلَی أَهْلِ اَلْكُوفَةِ جَبْهَةِ اَلْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ اَلْعَرَبِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّ أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى يَكُونَ

سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ إِنَّ اَلنَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ فَكُنْتُ رَجُلاً مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اِسْتِعْتَابَهُ وَ

أُقِلُّ عِتَابَهُ وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَیْرُ أَهْوَنُ سَیْرِهِمَا فِيهِ اَلْوَجِيفُ وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا اَلْعَنِيفُ وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ قَتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ وَ بَايَعَنِي اَلنَّاسُ غَیْرَ

ص: 229

مُسْتَكْرَهِينَ وَ لاَ مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِینَ مُخَيَّرِينَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ دَارَ اَلْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا وَ جَاشَتْ جَيْشَ اَلْمِرْجَلِ وَ قَامَتِ اَلْفِتْنَةُ عَلَى اَلْقُطْبِ فَأَسْرِعُوا إِلَی أَمِيرِكُمْ وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اَللُّهَ)).

فالرابط هنا أقام علاقة حجاجية مركبة من علاقتين حجاجيتبن بين الحجة الاولى التي وردت قبل الرابط الحجاجي (بل) وهي (وَبَايَعَنِي اَلنَّاسُ غَیْرَ مُسْتَكْرَهِينَ

وَ لا مُجْبَرِينَ) والتي تحيل إلى نتيجة ضمنية (فالإمام (علیه السلام) لم يكره أحدا على البيعة)، وعلاقة حجاجية ثانية ترد بعد الرابط (بل)، (طَائِعِینَ مُخَيَّرِينَ) فهي تحمل نتيجة ضمنية مضادة للنتيجة للسابقة (بل ألجأوه (علیه السلام) إلى البيعة معه، و كانت رغبتهم في بيعته) كما وصفها خفاف الطائي لمعاوية قال: ((تهافت الناس على عليّ (علیه السلام) بالبيعة تهافت الفراش حتّى ضلّت النعل، و سقط الرداء، وطىء الشيخ))، فالرابط الحجاجي (بل) قد ربط بين الحجج والنتائج وأصبحت النتيجة الضمنية هي نتيجة القول برمته؛ لأن الحجة التي ترد بعد (بل) أقوى من الحجة التي ترد قبلها في إفادة المعنى الكلي وإقامة الحجة؛ لأن الإمام (علیه السلام) في الرسالة وضح لأهل الكوفة براءة من مقتل عثمان، ويدعم ذلك عندما بعث عمار والحسن (علیه السلام) إلى الكوفة ((فبعث عمّارا و الحسن عليه السّلام و كتب معهما كتابا: أمّا بعد، فإنّ دار الهجرة تقلّعت بأهلها فانقلعوا عنها، و جاشت جيش المرجل، و كانت فاعلة يوما ما فعلت، و قد ركبت المرأة الجمل، و نبحتها كلاب الحوأب، و قامت الفئة [الفتنة] الباغية يقودها [رجال] يطلبون بدم هم سفكوه، و عرض هم شتموه، و حرمة انتهكوها، و أباحوا ما أباحوا، يعتذرون إلى الناس دون اللهّ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ اللهّ لا يرضى عن القوم الفاسقين، اعلموا رحمكم اللهّ أنّ الجهاد مفترض على العباد، فقد جاء كم في داركم من يحثّكم

ص: 230

عليه، و يعرض علیکم رشد کم، و اللهّ يعلم أنّي لم أجد بدّا من الدخول في هذا الأمر)).

وأن أمير المؤمنين عليه السلام كان يمتنع من بيعة النّاس له فيختبيء عنهم و يلوذ بحيطان المدينة، و لما اجتمع النّاس إليه و سألوه أن ينظر في امورهم و بذلوا له البيعة قال لهم: التمسوا غيري، و لمّا جاء طلحة و الزبير إليه (علیه السلام) و هو متعوّذ بحيطان المدينة فدخلا عليه وقالا له: ابسط يدك نبايعك فإنّ النّاس لا يرضون إلا بك، قال عليه السّلام لهما لا حاجة لي في ذلك و أن أكون لکما وزیرا خير من أن أكون أميرا فقالا إن الناس لا يؤثرون غيرك و لا يعدلون عنك إلى سواك فابسط يدك نبايعك أوّل النّاس، وعلى هذا الأساس جاءت الحجة الثانية بعد الاستدراك تنفي حصول البيعة بالإجبار او الاكراه في الحجة الأولى، ومعلوم أن الاستدراك يقتضي أن يقع بين متنافيين أو متضادين أو متناقضين، وبما أن الجملة التي سبقت الرابط هي جملة أو قول مثبت فإن ما بعد الرابط يكون منفيًا أو مضادًا أو مخالفًا وهو ما إفاد القول (طَائِعِینَ مُخَيَّرِينَ)، ويدعم الحجة الثانية هو قوله لطلحة ((أو لم تبايعني يا أبا محمّد طائعا غير مكره؟ فما كنت لأترك بيعتي: قال طلحة: بايعتك و السيف على عنقي، قال: ألم تعلم أني ما أكرهت أحدا على البيعة؟ ولو كنت مکرها أحدا لأكرهت سعدا وابن عمر... و اعتزلوا فتركتهم...)).

ثانيا: روابط التساوق الحجاجي:

الرابط الحجاجي (حتى)

تعد من أدوات الفاعلة في الترابط حيث يكمن دورها في ترتيب عناصر القول، ويفهم معناها من السياق الذي ترد فيه، ويكتسب هذا الرابط أهميته من علاقته

ص: 231

الواضحة والقوية مع المعنى الضمني والمضمر، إذ أن دورها لا يقتصر کما لو نقول (جاء زيد) فتكون (حتی زید جاء) إذا، على إضافة معلومة جديدة إلى سياق القول بل إن دور هذا الرابط يتمثل في إدراج حجة جديدة تردف الحجة التي، كان مجيء زید کثیر متوقع، بل تسبقها وتساوقها والحجتان تخدمان نتيجة واحدة لكن بدرجات متفاوتة(9) من حيث القوة الحجاجية فتتساوق الحجتان في رفد النتيجة بالطاقة الحجاجية الفاعلة، ولكن تبقى الحجة التي يأتي بها الرابط (حتى) هي أقوى من الحجة التي سبقها، أي أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها، إذ يقول دیکرو أن: «الحجة المربوطة بواسطة هذا الرابطٌ ينبغي أن تنتمي إلى فئة حجاجية واحدة، والحجة التي ترد بعد هذا الرابط تكون هي الأقوى لذلك فإن القول المشتمل على الرابط حتى لايقبل الإبطال والتعارض الحجاجي»(10).

فالرابط (حتى) الملفوظ يساعد على تقوية إيقان المتقبل بالنتيجة بل إنه قبل ذلك يرسم له صورة المسلك الذي ينبغي عليه ان يقطعه للوصول إلى النتيجة وهو في أثناء ذلك كله يقوي النتيجة لا التي يروم الملفوظ إيصالها(11).

ومما جاء ممثلاً عن هذا الرابط قول الإمام علي (علیه السلام): (الكمال في خمس ألا يعيب الرجل أحدا بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه...))،

نلحظ إن الرابط (حتى) بالرغم من تنوع الغايات الاستعمالية له في هذا المثال التي تتجلى لنا نتيجة لتعدد زوايا النظر والقراءة له، فهو جاء من اجل تحقيق غاية حجاجية إقناعية، فجاء لبيان سبب، أي أن ما قبله علة وسبب وحجة لما بعده فیکون مرادفا ل(كي) التعليلية فيكون الكلام (الكمال في خمس ألا يعيب الرجل أحدا بعيب فيه مثله كي يصلح ذلك العيب من نفسه)، وهنا يمكن ان نعد ما قبله حجة وما بعده نتیجة، فالإمام (علیه السلام) يقدم حجة بأن لا يعيب الرجال احداً كي

ص: 232

يصلح ذلك العيب، فيقدم الإمام حديث في التربية الإنسانية.

ومن صور استعمال (حتى) قال (علیه السلام): ((لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ اَلنَّخَعِيِّ يَا كُمَيْلُ مُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَرُوحُوا فِي كَسْبِ اَلْمَكَارِمِ وَ يُدْلِجُوا فِي حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ فَوَالَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ اَلْأَصْوَاتَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَعَ قَلْباً سُرُوراً إِلاَّ وَ خَلَقَ اَللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ اَلسُّرُورِ لُطْفاً فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ جَرَى إِلَيْهَا

كَالْمَاءِ فِي اِنْحِدَارِهِ حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ)).

نرى الرابط الحجاجي (حتى) يقدم حجتين: الأولى (جَرَى إِلَيْهَا كَالْمَاءِ فِي

اِنْحِدَارِه)، والثانية (حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ)، وهذين الحجتين يخدمان النتيجة الضمنية (من عمل لخدمة أخيه الإنسان أثابه اللهّ في الدنيا قبل الآخرة)، فالنتيجة الثانية هي الأقوى، وعن أهل البيت (علیه السلام): ((إن للهّ عرشا لا يسكن تحت ظله إلا من أسدى لأخيه معروفا، أو نفّس عنه كربة، أو قضى له حاجة)).

فالخاصية الأساسية للروابط الحجاجية سليمة وتراتبية وسبب نعتها بهذه الصفة إنما يوفره الرابط الحجاجي من تقوية للحجة حتى يجعلها غير متساوية قوة وضعفا تأثيرا وإقناعا وبالتالي يكون هذا الرابط هو المحرك للعلائق الحجاجية داخل الملفوظ وداخل القسم الحجاجي(12)، فالرابط الحجاجي (حتى) يساعد على تقوية إيقان المتقبل بالنتيجة ويرسم له صورة المسلك الذي ينبغي عليه إن يقطعه للوصول إلى النتيجة(13)، وما يؤازر النتيجة الضمنية من قول الإمام (علیه السلام) قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : ((ما من عبد يدخل على أهل بيت مؤمن سرورا إلاّ خلق اللهّ له من ذلك السرور خلقا يجيئه يوم القيامة كلّما مرت عليه شديدة يقول: يا ولي اللهّ لا تخف فيقول له من أنت فلو ان الدنيا كانت لي ما رأيتهالك شيئا فيقول أنا السرور الذي ادخلت على آل فلان)).

ص: 233

ثالثا: روابط التعليل الحجاجي:

الرابط الحجاجي (لأنّ)

يعد الرابط (لأن) من أهم الفاظ التعليل والتفسير وهو يستعمل لتبرير الفعل ولتبرير عدمه، فضلا عن ربط النتيجة بسببها وبعلتها.

وقد جاء هذا الرابط في كلام له (علیه السلام) عند عزمه على المسير إلى الشام: ((اللَّهُمَّ إِنِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَ الْمَالِ وَ الْوَلَدِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَ أَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَ لَا يَجْمَعُهُمَا غَیْرُكَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً وَ الْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً)).

فالقسم قبل الرابط: ق 1 (اللهم أنت الصاحب في السفر) ق 2، (و أنت الخليفة في الأهل)، والمعنى ليس للهّ زمان و مکان، فهو مع المسافر تماما كما هو مع المقيم على السواء ولا يجمعهما غيرك)، بحیث یکون مصاحبا للمسافر، و خليفة على المقيم في آن واحد هذا محال بالنسبة لغيره تعالى، أما القسم بعد الرابط يتضمن ق 3 (لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً) ق 4 (وَ الْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً) والمعنى (الباقي مع المقيم مصاحبا للمسافر ولا يكون حاضرا مع المقيم، استحضر الإمام (علیه السلام) الرابط (لأن) الذي اعطي دلالة التعليل والتفسير، فالحجة الأقوى (ق 3 / ق 4)؛ لأنها اثبت کلام الإمام (علیه السلام) حول قدرة الله (عز وجل) وكانت مصداقا له إمام القوم وهي الأقرب للنتيجة الضمنية، و هي (قدرة الله (عز وجل) وعظمة وإنه مع العبد أينما كان): بدليل قوله تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ» الحديدة 4.

الرابط الحجاجي (لام)

تعد من أدوات الربط الحجاجي التي يكون ما بعدها علة لما قبلها ويطلق

ص: 234

عليها لام التعليل، ولام السبب، ولام کي، ويذكر المرادي» أن معنى اللام، في الأصل، هو الاختصاص، وهو معنى لا يفارقها، وقد يصحبه معان أخر، وإذا تؤملت سائر المعاني المذكورة وجدت راجعة إلى الاختصاص. وأنواع الاختصاص متعددة؛ ألا ترى أن من معانيها المشهورة التعليل...»(14).

خطاب الإمام (علیه السلام) يتضمن صورا متنوعة للرابط (الام) منها الجارة بمعنی التعليل نحو قوله (علیه السلام): ((إِنَّ للهَّ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمُ اللُّهَ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَی غَيْرِهِمْ)).

اشتمل النص المتقدم على اكثر من حجة وهي: ق 1 (منافع العباد)، وق2 (فيقرها في ايدهم)، وق 3 (فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَی غَيْرِهِمْ) و فالحجة الأقوى هي (ق) 3 وهي اقرب للنتيجة الموجودة في النص (يختصهم الله بالنعم)، والحجة في ق 3 جاءت تعليلا وتبريرا للنتيجة المصرح بها قبل الرابط فأحدث الرابط انسجاما بين النتيجة والحجج، و عليه يكون المعنى أن حكمة اللهّ سبحانه قضت أن يتخذ من بعض عباده وسيلة للبذل في سبيل الخير، فإن فعلوا أبقى النعمة بأيديهم، و إلا نقلها إلى من هو أولى، و أجدر، وقريب إلى ذلك قوله (علیه السلام): ((إذا وصلت اليكم النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر))، و ((فمن قام للهّ بما يجب في نعمه عرّضها للدوام و البقاء، و من لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال و الفناء)).

ونعثر على صورة أخرى ل(لام التعليل الناصبة) التي تنصب الفعل المضارع وقد قال بها الكوفيّون، أما البصريون، فهي عندهم لام جر والناصب (أن) المضمرة بعدها»(15)، من ذلك قوله (علیه السلام): ((وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ

اَلْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي اَلدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ

ص: 235

تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْكَ وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَی مَنْ يَشْفَعُ

لَكَ إِلَيْهِ)).

نلحظ الرابط الحجاجي جاء بعد التصريح بالنتيجة، (أمرك أن تسأله)، (و تسترحمه) والحجة يعطيك ويرحمك، فجاء الرابط بعد النتيجة مباشرا لتعليل الكرم والعطاء الإلهي للعباد، فالرابط إحال المعني برمتة إلى فعل الأمر والسؤال فجاءت الحجة جواباله، ليكشف الرابط قوة التماسك بين الحجج.

الرابط الحجاجي (كي)

«انّ (کَيْ) حرفٌ يُقارِب معناه معنى اللام؛ لأنها تدلّ على العلّة والغرض، ولذلك تقع في جواب (لَمِهْ)، فيقول القائل: لِمَ فعلتَ كذا؟ فتقول: ليكونَ كذا. وهذا المعنى قريبٌ من قولك: فعلت ذلك كَيْ يكونَ كذا؛ لدلالتها على العلّة، إلَّا أنّها تستعمل ناصبة للفعل ك(أنّ)، فلذلك تدخل عليها اللام، فتقول: جئت لِكَيْ تقومَ، کما تقول: لأنْ تقومَ»(16)، ويستعمل هذا الرابط لتفسير العلة وتبريرها وبيان الحجة وتوكيد النتيجة، ويستعمل کرابط مدرج للنتائج.

وقد جيء بالرابط (كي) في كلام له (علیه السلام) بالبصرة و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه: ((فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ أَشْكُو إِلَيْكَ

أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ

فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ، نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ

أَتَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ

قَالَ يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّ

لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَی فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ

كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِرِ فَقْرُهُ)).

ص: 236

النتيجة: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَ فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ.

الرابط: کیلا.

الحجة: يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ.

ففي هذا النص يتجلى لنا إن النتيجة فسرة وعللت الحجة ثم جاء الرابط الحجاجي (لكي) ليؤكد النتيجة، ثم يعمل الرابط الحجاجي على تدريج النتائج، فيكون المعنى: أَئِمَّةِ الْعَدْلِ يساووا أنفسهم بضعفاء الناس، فيكونوا قدوة للأغنياء کیلا يهيج بالفقير ألم الفقر فيهلكه، وندعم حجة الإمام (علیه السلام) بقوله: «إن الله جعلني إماما لخلقه، ففرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري، ولا يطغى الغني غناه»، وقال علي (علیه السلام): « إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغني، ولا يزري بالفقير فقره».

رابعا: روابط الوصل الحجاجي.

للوصل علاقة منطقية تتمثل في تكوين قضية مركبة انطلاقا من قضيتين، ويطلق فان دايك على روابط الوصل (روابط الوصل التشريكي)، «فهي تقوم بتكوين جملة مركبة من جمل بسيطة، وعلى ذلك فعمل هذه الروابط هو حصول الاجراء الثنائي»(17) فالوصل الحجاجي يتشكل من أدوات توفرها اللغة للمرسل ليربط بين مفاصل الكلام، فيتأسس بذلك العلاقات الحجاجية المنتظرة ، فحروف العطف (الواو، الفاء، ثم) لها قيمة حجاجية كبيرة، بالإضافة إلى ربطها بين قضيتين أو أكثر (حجتين او اكثر) لنتيجة واحدة، ووضعها سلما حجاجيا ترتب فيه هذه الحجج حسب قوتها(18)

ص: 237

الرابط الحجاجي (الواو)

وظيفة هذا الرابط الجمع بين حجتين ويعمل على ترتيب الحجج وربط بعضها ببعض وتقويتها، فالواو تنهض بوظيفة الجمع بين حكمين متطابقين عكس «بل» مثلا التي تنفي مايسبقها وتثبت مايلحقها، فإن ابن يعيش اعتبر ميزة الواو في جمعها بين شيئين(19) و من ذلك كلام له (علیه السلام) لما عزم على لقاء القوم بصفين: الدعاء:»

وتضمن خطاب الإمام (علیه السلام) هذا الرابط في خطبة، لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان، إذ قال: ((دَعُونِي وَ اِلْتَمِسُوا غَیْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ لاَ تَقُومُ لَهُ اَلْقُلُوبُ وَ لاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ اَلْعُقُولُ وَ إِنَّ اَلآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَ اَلْمَحَجَّةَ

قَدْ تَنَكَّرَتْ، وَ اِعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ اَلْقَائِلِ وَ

عَتْبِ اَلْعَاتِبِ وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِ فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ

أَمْرَكُمْ وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَیْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِیراً)).

إن البحث في هذا النص يبين لنا عمل الرابط الحجاجي، إذ قام بالوصل بين الحجج وعمل أيضا على ترتيبها بالشكل الذي يضمن تقوية النتيجة المطروحة ودعمها وهي (دَعُونِي وَ اِلْتَمِسُوا غَیْرِي)، فكونه وزيرا لهم خيرا لهم من إمارته، لأنّ بإمارته كانوا يخرجون عليه فيكفروا، فالكثيرين صارا بسبب إمارته (علیه السلام) في غاية الخزي و الشقاوة و المخاطبون بهذا الخطاب الطّالبون للبيعة بعد قتل عثمان، إذ يطمعون منه (علیه السلام) أن يفضّلهم في العطاء و التشريف و لذا نكث طلحة و الزبير في اليوم الثاني من بيعته، و نقموا عليه التسوية في العطاء.

ثم نجد اكثر من حجة في هذا الخطاب وهي: ق 1 (أَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَیْرٌ

لَكُمْ مِنِّي أَمِیراً)، ق 2(وَ لَعَيِّ أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ)،)،ق 3(وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا

ص: 238

كَأَحَدِكُمْ)، ق 4(وَ اِعْلَمُوا أَنِّ إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ

اَلْقَائِلِ وَ عَتْبِ اَلْعَاتِبِ)، ق 5(إِنَّ اَلآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَ اَلْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ)، ق 6(وَ

لاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ اَلْعُقُولُ)، ق 6(أَلْوَانٌ لاَ تَقُومُ لَهُ اَلْقُلُوبُ)،ق 7(فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ

وُجُوهٌ) فالربط بين الحجج قد انتهى إلى سلمية تدريجية باتجاه الحجة الأقوى، ثم باتجاه النتيجة، وهنا تتضح أهمية الروابط الحجاجيّة، إذ تدخل في إطار كيفية تجاوز مضمون الخطاب الثابت، حيث لا تكتفي بنظام اللغّة في الخطاب والتواصل فقط، وإنما تفرض قيودا دلالیًة على التأويل(20).

الرابط الحجاجي (ثم)

إنها روابط الحجاج تفيد الترتيب، وتدل على أن الثاني بعد الأول وبينهما مهلة، ومما ورد في خطاب الإمام (علیه السلام) ممثلاً عن هذا الرابط، قوله (علیه السلام): ((يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا يُرِيدُ عُثْاَنُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَنِي جَمَلًا نَاضِحاً بِالْغَرْبِ أَقْبِلْ وَ أَدْبِرْ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ ثُمَّ هُوَ الْنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ وَ الله لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً)).

وقد فصل القول في هذا النص الشريف الرضي إذ يقول: قال الإمام هذا الابن عباس، و قد جائه برسالة من عثمان، و هو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة بعد أن سأله مثل ذلك من قبل، وقال الشيخ محمد عبده: ((كان الناس ميهتفون باسم أمير المؤمنين للخلافة، و ينادون به، و عثمان محصور، فأرسل اليه عثمان يأمره أن يخرج الى ينبع، و كان فيها رزق لأمير المؤمنين، فخرج ثم استدعاه لينصره فحضر، ثم عاود الأمر بالخروج مرة ثانية))، لذلك نستجلي مجي الحجج المتتالية والمرتبة، ذات التنسيق المنسجم مع المقاصد المبتغاة من النص، فقد أفادت (ثم) في إقامة التراتبية في عرض الحجة،

ص: 239

فالرابط الحجاجي دلة على التراخي والمهلة للربط بين المعطوف والمعطوف عليه.

وقد جاء هذا الرابط في نص أخر للإمام (علیه السلام)، إذ قال: ((إِنَّ لِبَنِي أُمَيَّةَ مِرْوَداً يَجْرُونَ فِيهِ وَ لَوْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ كَادَتْهُمُ الضِّبَاعُ لَغَلَبَتْهُمْ))، وقد قال الشريف في هذا النص: و المرود هنا مفعل من الإرواد و هو الإمهال و الإظهار و هذا من أفصح الكلام و أغربه فكأنه (علیه السلام) شبه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية فإذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها، فالسياق الذي ورد فيه الرابط يدل على المهلة والتراخي، وإعطاء المهلة، وعلى هذا المعنى جاءت الحجج متراخية متباعدة زمنيا، منها حجة (الاخبار بالغيب الصريح)، وهذه من کرامات الامام (علیه السلام)، وحجة (كَادَتْهُمُ الضِّبَاعُ لَغَلَبَتْهُمْ)، أي لوحاربتهم الضباع دون الاسود لقهرتهم، وهذه الحجة تكشف عن نتيجة ضمنية، ضعف الدولة الاموية فحتى الضباع تقهرهم وبعض الشراح يقولون ربّما المراد بالضباع هنا أبو مسلم الخراساني و جيشه حيث كان في بداية أمره أضعف خلق اللهّ، و المعنى ان دولة الأمويين تبقى حتى يختلفوا فيما بينهم، و عندئذ يسلبهم الملك، ومن هذه الحجج نحصل على النتيجة هي (هلاك دولة الامويين)، ويدعم هذه النتيجة قوله (علیه السلام): (ستقبل الدنيا على بني أمية، ثم تدور عليهم فتطحنهم بكلكلها حتى الا ترى منهم باقية).

ص: 240

الخاتمة

خطاب الإمام (علیه السلام)، لا يتوقف عند حوار أعدائه، بل يتجاوز إلى حجاج أتباعه، فالحجاج في الدراسات الحديثة يعني الحوار الإقناعي وهذا الحوار لا يختص بالأعداء بل يتعلق فضلا عن ذلك بالأتباع؛ لأن الإمام (ع) في كلا الحالين يناقش أطروحة ما مستهدفا إمَّا تثبيتها وإمَّا نقضها وترسيخ أخرى، ولا يجعل اهتمامه ينصب على الجمهور أو الشخص المتلقي إلا بالمقدار الذي يقتضيه المقام، فحتى في الحجاج الموجَّه إلى أتباعه أو الجمهور (المحايد) كان يتصدى لما يطرحه الآخرون من أفكار، أو يؤسس لأطروحات تتعلق بالحكم أو علاقة الإنسان بربه و بالمجتمع الذي يعيش فيه، فهذه المباحث كلها تدخل في صميم عملية الحجاج، والحجاج بهذا المفهوم هو أوسع نظرة من الجدل المختص بالخصومة.

إن الشروط التي ذكرها اللسانيون للوقوف على حجاجية النص تتطابق على نحو كبير مع خطاب الإمام (علیه السلام)، فانطلق من مقتضيات الحال ومن المعارف المشتركة في محاولته إقناع الجمهور واستعمل أدوات اللغة بما يخدم هذا التصور، وبناء على ذلك كانت الروابط المستعملة ذات دلالة واضحة يفهمها الجمهور، کما إنَّ من صفات الحجاج الناجح، هو الادعاء بالحقيقة وتقديم الأدلة التي تدعم ذلك الادعاء، لذلك كان حجاج الإمام (علیه السلام) يتصف بالقوة في اعتماد أقوى الحجج والنتائج.

هوامش البحث:

1. ينظر: اللغة و الحجاج: 27

2. الجني الداني في حروف المعاني، تح: فخر الدين قباوة: 591.

3. ينظر: النحو الوافي: 3 / 632.

ص: 241

4. شرح المفصل: 80

5. ينظر اللغة والحجاج: 58.

6. ينظر: المقتضب: 1 / 5.

7. معاني الحروف: 6.

8. اللغة والحجاج: 61.

9. اللغة و الحجاج: 27.

10. المصدر نفسة: 73.

11. ينظر: العوامل الحجاجية في اللغة: 135

12. ينظر العوامل الحجاجية في اللغة: 133 - 124.

13. ينظر: المصدر نفسه: 134.

14. الجني الداني في حروف المعاني: 119

15. الجني الداني: 114.

16. شرح المفصل: 4 / 513

17. النص والسياق استقصاء في الخطاب الدلالي والتداولي: 83.

18. ينظر: الحجاج في المثل السائر لبن الأثير: 93.

19. ينظر: العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 153.

20. ينظر: عندما نتواصل نغير، إفريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2006: 82.

ص: 242

المصادر والمراجع

1. الجنى الداني في حروف المعاني، أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي (المتوفى: 749 ه، تحقيق: د فخر الدين قباوة - الأستاذ محمد ندیم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان ط 1، 1413 ه - 1992 م.

2. شرح المفصَّل: موفق الدين بن يعيش (ت 646 ه)، عالم الكتب، بیروت، د.ت.

3. شرح نهج البلاغة: عز الدين بن هبة الله بن محمد، ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركائه، مصر، 1387 ه - 1967 م.

4. عندما نتواصل نغير، عبد السلام عشير ، إفريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2006.

5. العوامل الحجاجية في اللغة العربية: د. عز الدين الناجح، ط 1، مکتبة علاء الدين للنشر والتوزيع، صفاقس - تونس، 2011 م.

6. اللغة والحجاج: د. أبو بكر العزاوي، ط 1، دار الأحمدية للطباعة، الدار البيضاء - المغرب، 1426 ه - 2006 م.

7. معاني الحروف، أبو الحسن علي بن عيسى الرمانيّ (ت 386 ه)، تحقیق عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقيّ، المكتبة العصرية، بیروت (1428 ه - 2008 م).

8. المقتضب: أبو العباس محمد بن یزید المبرد (ت 285 ه)، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بیروت، 1382 ه - 1963 م.

ص: 243

9. النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة (1974م).

10. النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدَّلالي والتداولي، فان دایك، ترجمة: عبد القادر قنیني، أفريقيا الشرق، بیروت، ط 1، 2000 م.

11. رسالة ماجستير

12. الحجاج في المثل السائر لابن الاثير، نعيمة يعمرانن، رسالة ماجستير، كلية الآداب واللغات، جامعة مولود معمري، الجزائر، 2012 م.

ص: 244

وصف ضلالة العلماء في نهج البلاغة قراءة تأويلية فكرية لفهم التناقض في وصف الشخصية

اشارة

أ.م.د. تومان غازي الخفاجي أ. م. د. خالد كاظم حميدي

الكلية الإسلامية الجامعة كلية الشيخ الطوسي الجامعة

ص: 245

ص: 246

مقدمة:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محم وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وبعد:

فإنّ معظم البحوث والدراسات التي كُتبت عن فهم النصوص القديمة التي مازالت تنبض بالحياة وكأنها تريد أن تقول لنا شيئا ذا بال يلبّي حاجات العصر، لم تعنَ بحلّ مشكلة التناقض التي وردت فيها، ومنها نصوص (نهج البلاغة) التي تصف الشخصيات المتناقضة في موضوع (ضلالة العلاء)، بسبب تحليل تلك النصوص بوساطة قوانين العقل المجرد، أو المنطق الأرسطي كأداة بحث صورية دقيقة الحساب تتوخى مبدأ الوضوح في المفاهيم والاستدلال على وفق قوانين العقل المجرد وهي: أولا: مبدأ ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها، وثانيا: مبدأ عدم التناقض، وثالثا: مبدأ الثالث المرفوع، الذي يمكن تسميته بمقياس العقل المجرد الثنائي القيمة الذي يعمل عمل الحاسوب الصناعي بالأرقام الثنائية (1 / 0) التكوين دائرة منطقية تقوّم الأحكام ب(إما حق × أو باطل) ولا ثالث بينهما.

هذه الأداة البحثية الدقيقة الحساب التي تبسط البحث العلمي وتسهل الحساب الدقيق السريع لا تفهم التناقض؛ لذلك ترفضه اعتمادا على قانون العقل المجرد الثاني، فلا يجوز أن يحكم العقل على هذا الشيء بأنّه مربع ودائرة في الوقت نفسه، وعلى هذا الأساس لا تصلح قوانين العقل المجرد وحدها أن تفهم التناقض الموجود في الواقع أو في النصوص، ومنها موضوع البحث الذي يسعى إلى تسليط الضوء على التناقض بين (العلم × والضلالة) غير المتعمدة، التي هي تمثل جهلا في الشخصيات العالِمَة الجاهلة التي وصفها الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة.

هذه هي مشكلة البحث وهي مشكلة التناقض داخل شيء واحد، وقد

ص: 247

أعددنا لحلّ هذه المشكلة أداة منهجية ب(سميناها بنظرية التأويل العربية)، التي قامت فرضيتها الأساسية على بعض المصادر الغربية التي تبحث في منهج (معرفة المعرفة). والفرضية تقول: (إنّ رأس الإنسان الحديث بعد القرن التاسع عشر أخذ يعمل كحاسوب ذي عقلين: العقل المجرد × والقلب التدبري)، لتكوين نظام إدراك داخلي، إذا انفصمت العلاقة بينهما يصبح العقل المجرد عقيما غير منتج لمعرفة جديدة، وإذا انفصم القلب التدبري عن العقل أصبح ملكة أهواء فاسدة الاستدلال؛ لذلك يوصف العقل المجرد وحده بأنّه (نور بلا حركة)، ويوصف القلب وحده بأنّه (حركة في الظلام)؛ لذلك يحتكم نظام الإدراك الداخلي إلى التعقل الحسيّ في الموضوعات الحسية التجريبية، لتكون نظام المنهج العلمي.

وقد وصفنا نظرية التأويل بأنها (عربية)؛ لأنّ مصطلحاتها ومفاهيمها واستنباطاتها معززة ومستخلصة من نصوص قرآنية فصيحة واضحة، فضلا عن وجود نص قرآني معرفي يؤكد ما توصلنا إليه عقلا باكتشاف نظرية التأويل العربية حتى أصبح هذا النص المعرفي مختبرا لفحص نجاعة نظريتنا في تأويل النصوص، فضلا عن أنّه يدعم النظرية بمعرفة أصيلة قامت على أساسها الحضارة العربية الإسلامية.

وقد اقتضت طبيعة البحث أن يقسم على مبحثين هما:

المبحث الأول: نحو نظرية تأويل عربية.

- المبحث الثاني: تأويل نصوص نهج البلاغة التي تصف ضلالة العلماء.

وقد انقسم هذا المبحث على ثلاثة مطالب، أولهما: ضلالة العلماء بسبب عمل العقل المجرد وحده، وثانيهما: ضلالة العلماء بسبب عمل القلب وحده کملكة أهواء، وثالثهما: ضلالة العلاء بسبب انفصام نظام الإدراك الداخلي عن الواقع.

ص: 248

سائلين المولى عزّ وجلّ أن يوفقنا لخدمة الفكر العربي الإسلامي بهذا الاكتشاف التجديدي، ويكفينا من شرّ ضلالة العلماء، عليه توكلنا وإليه ننيب، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

المبحث الأول: نحو نظرية تأويل عربية:

تشير بعض المصادر التي تبحث في موضوع (معرفة المعرفة) إلى أنّ رأس الإنسان يضمّ حاسوبا معقدا يشتغل بعقلين(1) يشتغلان معا كنظام إدراكي داخلي هما: (العقل المجرد × والتعقل القلبي)، والتعقل القلبي إذا لم يتحكَّم به العقل المجرد، يصبح ملكة أهواء فاسدة الاستدلال، ويصبح العقل المجرد من دون القلب التدبري عقيما لا ينتج معرفة جديدة؛ لأنّ القلب هو الذي يغذِّي العقل بإبداعاته؛ لذلك يوصف العقل المجرد وحده بأنه: (نور بلا حركة)، ويُوصف التعقل القلبي وحده بأنه: (حركة في الظلام) تسوّغ أهواؤه الخطأ والحُمق والهذيان.

يشتغل عقل الإنسان المجرد بمبدأ ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها، خُلقت هكذا وستبقى إلى أبد الآبدين؛ لأنّه يجرّد الأشياء من مادتها بالتقاطه صورة لها ذات تشکیل ریاضي (رقمي / هندسي) ويطبعها على طين المخ؛ لذلك يعدّ الواقع المتغير عبر مرور الزمن عالماً زائفاً وعرضياً ودنيوياً زائلاً. هكذا تدّعي أفكار العقل المجرد بأنها تحمل الحقيقة كلها وتفرض نفسها على القلب بأنّها تمثل (اليقين المطلق) أو (الدوغمائية)، التي تصادر حرية القلب الذي يعمل كملكة تعقّل تدبّرية تنظر في عواقب الأمور عبر صيرورتها الزمانية والمكانية، بمعنی ملاحقة

ص: 249

التحوّل في هوية الأشياء من حال إلى أخرى، کتحوّل النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة إلى غير ذلك. وتلك هي الحقيقة الواقعية التي يميل القلب إلى تأييدها على الرغم من أنّه لا ينكر الحقائق العقلية المجردة الثابتة كصور مطبوعة على طين المخ، وبهذا يصبح أمام القلب الحرّ خیاران في بحثه عن الحقائق، أحدهما: خيار الحقيقة العقلية المجردة من المادة كصورة عليا حين ينظر إلى رأس الإنسان، وثانيهما: خيار الحقيقة الواقعية المادية السفلى حين ينظر القلب إلى قدمي الإنسان، فيشكك فيما أملاه العقل المجرد عليه بادعائه بلوغ اليقين المطلق أو (الدوغمائية)، إذ يرى أنْ لا ثبوتَ هناك في هويات الأشياء، وإنّما صيرورة وتغيّر دائم من حال إلى أخرى عبر مرور الزمن.

ولكي يشتغل القلب بمبدئه الخاص وهو مبدأ حرية الاختيار بين مبدأ الثبوت من جهة، ومبدأ الصيرورة عبر مرور الزمن من جهة أخرى، فإنّه يدخل في حوار نقدي فلسفي تدبري مع العقل المجرد، يرفض فيه تلك الدوغمائية التي فرضها عليه العقل المجرد، ليصبح الإنسان حُرّاً في تفكيره و مسؤولاً عن اتخاذ قراراته بحريّة لا تنتکس نحو الأَهواءِ الفوضوية التي تستعبد الإنسان بإشباع طبيعته الحيوانية، وإنما حرية مقيدة بين مبدأين متناقضين: مبدأ العقل المجرد (ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها) من جهة، ومبدأ الواقع (عدم ثبوت هوية الأشياء وعدم اطراد طبيعتها، فهي متغيرة الهويات عبر مرور الزمن).

ولكي يكون اختيار القلب الحرّ صحيحاً لابدَّ له من صناعة مقیاس نقدي فکري مُدرّج بلغة تضمّ لغة العقل المجرد، ولغة الواقع العلمية، فضلا عن لغته العاطفية الخاصة به، أما لغة العقل فتقسم المقياس على كيفيتين متضادين؛ لأنه يعمل بلغة الأرقام الثنائية (1، 0) وهي لغة الحاسوب الصناعي، كالآتي: (أسود

ص: 250

قاتم = صفر) x (أبيض ناصع = + 1) ولا ثالث بينهما، كالآتي:

إما - أبيض ناصع

أو - أسود قاتم

أما لغة التعقّل الحسيّ الذي يرى وجود عدد لا يحصى من التدرجات بين الأسود القاتم والأبيض الناصع، أو بين (الصفر والواحد)، فتقسِّم المسافة اللانهائية التدرجات بين الصفر والواحد إلى مائة درجة ليصنع الحس له مقياسًا مئويًا كمقياس درجات الطلبة السهل الاستعمال الذي نقيس بهِ النسبة المئوية لدرجة (النجاح × الفشل)، أو (السواد × البياض). ولا فرق بين النسبتين؛ لأنهما متنافرتين دمجتا في كيفية واحدة مدرَّجة، فقولنا: ٪30 أسود، يعني 70٪ أبيض، ولغرض التخلص من لغة الأضداد العقلية المجردة المُبلبلة للتعقل الحسي، فإنّ التعقل الحسي يدمج لغة الكيفيتين المتضادتين، التي تقسم العالم على ظاهرتين أو ماهيتين أو جوهرين ثابتين، ويحولهما إلى ظاهرة كمية واحدة، وعندئذ لا يكون الأسود مضادًا للأبيض، وإنّما هما ظاهرة واحدة رمادية مقدارها أو نسبتها المئوية كذا، وكذلك لا يوجد في أساس العلم الحديث شيء اسمه حار ولا بارد، وإنّما درجة حرارة مقدارها كذا(2)، تاركاً الكيفيتين المتضادتين كحدّين عقليين مثاليين، لا وجود لهما في الواقع، أو يندر وجودهما؛ لهذا يُتخذان كسقفين لكلّ قياس حسيّ يمثلان الحدود القصوى للمقياس المئوي لأسود قاتم جداً (بدرجة الصفر)، وأبيض ناصع جداً بدرجة (100٪).

أما لغة القلب فإنّها تقسم المقياس المئوي بلغتنا التي تحمل شحنة عاطفية نحو تقسيم مقياس درجة الطالب على قسمين، من الصفر إلى 49%، فيعطيها

ص: 251

القلب معنى مؤلما هو فاشل، ثم يقسم درجة النجاح على (50 - 59% = مقبول)، (60% - 60 = متوسط)، (70 - %79 = جيد)، (80 - 89٪ جيد جدًا)، (90 - %99 = امتياز). تاركاً درجة (%100) كدرجة مثالية لا يأخذها إلا الأستاذ، أو الطالب النادر الوجود.

نلحظ هنا أنّ لغة العقل المجرد تدخل في المقياس (الحسي / العقلي)، وذلك من ملاحظة تقسيم المقياس المئوي على كيفيتين متضادتين هما: (فاشل × ناجح)، ثالث بينها؛ لذلك تُرضى لعبة المقاييس الفكرية النقدية رأس الإنسان المكوَّن من عقلين: (المجرد، والقلب نصف المجرد)، كنظام إدراك داخلي من جهة، وترضي أيضاً التعقل الحسي الخارجي من جهة أخرى كحكم عذل يقطع شك القلب في نقده للعقل المجرد باليقين العلمي التجريبي النسبي، الذي لا يلغي حسابات العقل المجرد الرياضية الدقيقة، وإنما يلغي ادعاء اليقين المطلق أو الدوغمائية فحسب، التي إذا رفضها العقل المجرد يدخل نظام الإدراك الداخلي: (العقل المجرد والقلب التدبري) في جدل عقيم لا ينتهي إلى يوم القيامة، ما لم يحتكما إلى طرف ثالث خارج رأس الإنسان، هو الواقع الموضوعي المستقل عن ذواتنا، الذي يؤيد القلب في نقضه لقرار العقل القطعي، حين يقدم الواقع شواهد تؤكد فعل الصيرورة بتغيير هويات الأشياء التي افترض ثبوتها العقل المجرد إلى الأبد، ليقر بالثبوت النسبي.

لذلك يمكن رسم المقياس الذي تشترك في تكوينه جميع ملكات الإدراك الداخلي (العقل المجرد والقلب من جهة، والإدراك الخارجي (التعقل الحسي) من جهة أخرى، بالمخطط الآتي:

لغة العقل

فاشل

ناجح

لغة الحس

لغة القلب

فاشل أدنى

فاشل أعلى مقبول / متوسط / جيد / جيد جدا / امتیاز

ص: 252

على هذا الأساس يعني النقد الفكري الحرّ بأنّه كلمة تقريرية تحمل معنى الأمر بفصل الحق من الباطل، عن طريق استعمال مقياس يقاس به ما هو معطى، فإذا كان الموضوع المنقود يتعلّق بالمعرفة الطبيعية الفيزيائية النظرية فإنَّ القلب يستعمل مقياس الواقع التجريبي المدرَّج مئويا كما هو مرسوم سابقا، وإذا كان موضوع النقد يتعلق بالمعرفة العملية السلوكية، فإنَّ القلب يلجأ إلى المقياس الأخلاقي وهو (الخير) الذي يعم المجتمع متجاوزا الأنانية، فيقسِّم المقياس السابق على قسمين عقليين: (خير × شر) ولا ثالث بينهما، ثم يقسِّم التعقُّل الحسيّ الخيرَ والشرَّ على درجات كمية، ويدرِّج القلبُ الخيرَ على أقسام تجمع تحت كلمة (الفائدة) أو القيمة العليا التي تتدرج من فائدة (الأنا) الخاصة التي تسمى ب(الأنانية) والتي تعمل بمبدأ غريزي (لذة × ألم) تجاه الغذاء والجنس، وهو مبدأ يأخذ اساً قلبيا هو (مقبول) لإشباع الجانب الحيواني في الإنسان وإلا انقرض ومات، ثم تأتي درجة قلبية تساوي (الأنا) بالآخرين ذكرها الرسول (ص) بقوله: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه))(4)، وتنتج من تساوي الألم واللذة، اللذين يحذف العقل أسماءَهما القلبية ويحولهما إلى لغة الأرقام الثنائية (1 / 0) كالآتي:

أنا = أنت....... (لغة المساواة القلبية التي نترجمها إلى لغة العقل بالآتي)

إما: أنا + أنت = 1 .......(1)

أو: أنا - أنت0 ..........(2) ولا ثالث بينهما.

تلي درجة المساواة القلبية (حبّ الأنا = حب الأنت)، درجة أعلى وهي درجة الأثرة، وفيها تحب الأنا الآخرين أكثر من نفسها، وهذه درجة الأنبياء والصالحين والشهداء، وتقدر درجة هذه الفئة ب(90 - %99) وهي درجة الامتياز، وقبلها المساواة بدرجة جيد جدا (80 - 89٪)، قبلها مساواة بدرجة جيد من (70 -

ص: 253

%79)، وقبلها درجة مساواة بدرجة متوسط (60 - 69٪)، وقبلها الأنانية بدرجة مقبول (50 - 59٪) مثلا.

أما الجزء الفاشل من المقياس المئوي فيسميه القلب ب(الشر)، ويبدأ بالشر المطلق كصورة عقلية مجردة من المادة لا وجود لها في الواقع، تسمى (إبليس، أو الشيطان) درجتها 0٪ من الخير. ويتدرج الشر حتى يبلغ درجة (45 - 49٪) من الخير، تلك الدرجة التي تحتاج إلى قرار قلبي للنجاح يسمِّيها القلب ب(الشفاعة).

والمهم هو أنّ النقد القلبي التدبري للعقل المجرد خلصنا من ادعاء العقل المجرد لليقين المطلق أو (الدوغائية)، وهي أهم انجازات فن التأويل الفلسفي، بمعنى الرجوع إلى الأول وهو القلب بوصفه ملكة تعقل حين يشتغل مع العقل المجرد، كنظام إدراك داخلي يقر فيه القلب بنتائج العقل المجرد، وينقضها في وقت إيقاعي شبه واحد، محتكما للواقع المتغيّر في استدراج الشواهد الحسية التي تسوغ حق النقض، ما يجعل كل معرفة بشرية نسبية، ولا وجود لمعرفة ذات يقين مطلق إلا عند الله، أو عند العقل المجرد إذا انفرد وحده، وتحجر وكأنه مدع للألوهية. ويلي إنجاز نقد التدبر القلبي أو (التأويل الفلسفي) لليقين المطلق، إنجاز مقياس الوظيفة الاجتماعية أو (الفائدة العامة) أو الخدمة، أو شمول الخير للمجتمع، كثقل يسمى (المضمون) في العلامة اللغوية القلبية الثلاثية، مقابل العلامة العقلية المجردة من المادة كشكل خفيف فارغ من المضمون (لفظ + مفهوم عقلي مجرد كلي واضح الحدود) تظهر صوره في تعريفات العقل المجرد الصورية للزواج بأنّه متعة، وللصوم امتناع عن الأكل والشرب في شهر معين ووقت معين، وللصلاة بأنها أعداد مضبوطة وحركات هندسية: قيام وركوع وسجود باتجاه معلوم. كل هذه الشكلنة السائدة عندنا اليوم، لا قيمة لها ولا فائدة فيها ما لم تؤدِّ فائدة اجتماعية

ص: 254

تتجاوز الفائدة الأنانية الضيقة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَن لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعدا))(5). وكذلك توجد أحاديث عن عدم نوال الصائم من أجر إلا الجوع والعطش، حين لا يقدّم الصوم فائدة لمجتمع الفقراء، أو يهذب النفس بترك العادات السيئة المؤذية للفرد وللمجتمع معا، وعليه يمكن تعديل تعريف الزواج بفائدته غير الأنانية (المتعة) السائد حتى الآن، بأنّه: (متعة + تجدد النسل)، وينقد القلب هذا التعريف ويضيف إليه الفائدة الاجتماعية بأن يعرفه: (متعة + تجدد النسل + يقوي الروابط الاجتماعية) إلى غير ذلك.

وعلى هذا الأساس يكون القلب الناقد للفكر المجرد مبتكرا ومطورا للمقاييس النقدية الفلسفية العملية، لأنّ النقد من دون مقياس نقدي عام يعدّ عبثا، ذلك أنّ تقويم شيء لا يتمّ إلا بالرجوع إلى شيء آخر غيره؛ الشيء الأول هو الموضوع المراد تقويمه، والثاني هو المقياس المستعمل للتقويم، مع ملاحظة أنّ المقاييس نفسها بحاجة إلى نقد أيضا لمعرفة حدود صلاحيتها أو عدم صلاحيتها لأداء وظيفة المقياس(6).

و(التأويل) بعدُ، يحصل داخل رأس الإنسان ذي العقلين، اللذين يعملان معا كنظام إدراكي داخلي(7)، أولهما: العقل المجرد صانع المفاهيم، أي التي يفهمها حين يقسِّم الأشياء إلى بسائط ويضع بينها حدودا واضحة ويلتقط لها صورة مرسومة بلغة الحاسوب الصناعي (0 / 1)، ويعني (الصفر) لا يمرّ تيار كهربائي في كهربائية المخ، ويعني (الواحد) يمرّ تيار. وبهذا يطبع العقل المجرد تصوراته على طين المخ بالرسم الهندسي كما يرسم الفرجال حين يثبت دبوسه على نقطة ثابتة تمثل (الصفر) بمعنى لا يتحرك، ثمّ يحرك طرفه الآخر فيرسم خطا هندسيا = + 1،

ص: 255

بمعنى يتحرّك.

وثانيهما: القلب الذي إذا ارتبط بالعقل المجرد بعلاقة فهو ملكة تعقل قلبي صانعة للثورات(8) العلمية والفكرية التي يعمّ خيرها المجتمع المحلي أو الانساني، الذي يكمن وراءه تفكُّر قلبي تدبري حرّ مبتكر، لا تقف ابتكاراته عند حد؛ لأنّه كلّما ابتكر معنى تدبریا، رسم له العقل المجرد صورة رقمية بلغة الحاسوب(0 / 1)، انتقده القلب مشككا في فكرة ثبوت هوية تلك الصورة، وقدَّم شاهدا من الواقع الحسيّ التجريبي على وجود تحوّل في هوية الأشياء عبر مرور الزمن، الذي غالبا ما يكون طويلا أو قصيرا، ما يجعل العلامة اللغوية القلبية ثلاثية ثقيلة لتضمّن لفظها معنيين: أولهما: معنى عقلي (مفهوم)، وثانيهما: معنى ناقد أو ناقض تأويلي بمعنى الرجوع إلى الأول وهو القلب، بخلاف العلامة اللغوية الصورية الخفيفة المجردة من المعنى القلبي الثقيل؛ لذلك تكون العلامات اللغوية للعقل المجرد ثنائية (لفظ + مفهوم عقلي صوري). ويتضح ذلك بالمخطط الآتي:

مفهوم عقلي - خط + 1 - نقطه 0 - علامة ثنائیة عقلیة

مفهوم عقلي - خط + 1 - خط - 1 - نقطة 0 - معنى قلبي (تأويل) - علامة ثنائية عقلية علامة ثلاثية عقلية / قلبية

هذه التشكيلات الصورية يضع لها الإنسان أسماء لفظية أو كتابية محسوسة لغرض التداول المعلوماتي بين شخص وآخر، ولا يهمنا هذا هنا؛ لأننا ناقش النظام الإدراكي الداخلي للإنسان كنظام منتج للمعاني اللانهائية التي تبدأ قلبية، وحين تتضح للعقل المجرد بلغة (النقطة + الخط) أو لغة الحاسوب الرقمية (0 / الجزء

ص: 256

1) وتصبح مفهومية ثابتة لطبعها على طين المخ، حتى ينتقدها القلب ثانية وثالثة إلى ما لانهاية، كالاتي:

نقطة 0 - خط + 1 - مفهوم - خط - 1 - (تأويل) - نفطه 0 - خط + 1 - مفهوم - خط - 1 - خط + 1 - (تأويل) - نقطه 0 - خط + 1 - مفهوم - خط - 1 - (تأویل) ...الخ

هكذا ترتقي الأمم بارتقاء معاني لغاتها القلبية التي لا تكفيها الألفاظ المحدودة؛ لذلك تلتجئ اللغة الاعتيادية إلى المشترك: (كلمة واحدة لها عدد لا يحصى من المعاني القلبیة)، نحو كلمة (الحب) التي تدلّ على الحبّ الأناني (حبّ الغذاء والجنس)، ثم الحبّ المكفوف نحو: حبّ الأم والأب والإخوة والجيران والمسلمين وسائر البشر كنظراء في الخَلْق. ثم حبّ المجردات نحو حبّ: (الوطن، والقومية، والأمة، والحرية)، ثم حبّ الله الذي يتفرّع إلى حبّ الله خوفا من ناره، وحبه طمعا في جنته، وحبه لا طمعا ولا خوفا الى غير ذلك.

وقد تتخلَّف الأمم فتفقد لغاتها جميع المعاني القلبية السابقة الرائعة ويقتصر معنى الحبّ عندها مثلا على المعنى الأناني الجنسي والغذائي حتى يظهر قادة وعلاء هذه الأمم بصورة إنسان ولكن قلوبهم قلب حيوان، قال الإمام علي (عليه السلام): ((وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً ولَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وأَضَالِيلَ مِنْ ضُلالٍ ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ... فَالصُّورَةُ صُورَةُ

إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ))(9).

والملحوظ في المخطط السابق أنّ المميز للغة العقل هو النقطة والخط الصاعد،

ص: 257

والمميز لنقض القلب هو الخط النازل، أما لغة التأويل فهي مجموع (الخط الصاعد + 1 والنازل - 1) = الصفر القلبي الذي يراه العقل المجرد كحدٍّ يعني اللاشيء أو العدم، في حين يراه القلب صراعا نابضا بالحياة؛ لأنّه يشبه عمل القلب البايولوجي: (انقباض + 1، وانبساط - 1 = صفر)، لذلك يمكن ترجمة معنى (الصفر القلبي) بلغة فلسفية غربية بأنّه يمثل قانون المنطق الجدلي الرئيس وهو: (وحدة وصراع الأضداد).

وهذا القانون الجدلي هو الذي يجمع بين العقلين: (المجرد والقلبي) في رأس واحد يعمل فيه القلب كالساعة داخل كلّ شيء، دافعة إياه الى التطور والتقدم الذاتيين الى الأمام، وكأنّ العالم كله مخلوق ناقصا ويتحرك ذاتيا بساعة قلبية تدفعه ذاتيا من الداخل نحو غاية الكمال، الذي إذا نسبناه إلى الله وحده، فإنّ العالم كله يسعى إلى بلوغ كمال الله كنقطة جوهرية أولى هي صفر العالم القلبي الذي قذف بالعالم المادي بلفظة (كن) فلم يكن كاملا فجأة، وإنّما بدأ (يكون) بالمضارع، متطورا إلى الأمام (+ 1) بصيرورة زمانية من حال أدنى إلى حال أعلى، ليعود (- 1) إلى نفس النقطة الجوهرية، عودة ليست عبثية، وإنّما عودة إبداعية ترتقي فيها المادة من بسيطة (غاز الهيدروجين) إلى أن تصبح إنسانا تميز بظهور عقل مجرد له قبل عشرين ألف سنة بقفزة تطورية بسيطة أخرجت رأسه فقط من اللاهوية مع الحيوان (مستوى الصفر من العقل)، فتميز من الحيوان بصفة (عاقل = +1)؛ تسمى هذه القفزة بقفزة ال(فصل) عن الحيوان مع بقائه موصولا مع طبقته العامة بمزية (جنس الحيوان).

والفصل هو عمل العقل المجرد، أما الوصل فهو نقض أو نقد قلبي تدبري يرجع بالإنسان إلى طبقته العامة التي تضم عددا لا يحصى من الكائنات الموصول

ص: 258

بعضها ببعض وصلا يجعلها غير متمايزة الهويات(10)، لذلك يقرّ القلب بالفصل العقلي (+ 1)، ولكن ينقضه بالوصل القلبي (- 1)، والنتيجة هي الصفر القلبي ( + 1 - 1 = صفر)، الذي يوجّه انتباهنا إلى الواقع التجريبي لنرى بمقياس التعقل الحسي المئوي كمية العقل أو كمية الحيوانية الباقية في الإنسان بما هو إنسان؛ أي كماهية مجردة، أو في الأفراد حين نلحظ تدرج تعقلهم البسيطة في الأطفال عند تعلمهم اللغة البشرية، ولا تكتمل عقولهم إلا في الأربعين من العمر، وهو العمر الذي تضعف فيه الغرائز الأنانية.

ويمكن مما تقدّم رسم مخطط وظيفي يبيّن عمل كهربائية العقلين معا بالمخطط الآتي، ابتداء من المدخلات In put، حتى المخرجات Out put، يعالج تعريف الإنسان بلغة الحاسوب: (حيوان = وصل = 0 / عاقل = فصل = + 1):

لغة اعتيادية - مدخلات In put - معالجة قلبية / عقلية مجردة - مخرجات Out put

إنسان

حيوان = وصل = صفر

قلب + 1 - 1 = صفر

يمر تيار كهربائي (+ 1)

لا يمر (- 1) ينقلب

عاقل = فصل = + 1

عاقل + 1

يمر تيار كهربائي (+ 1)

نعم + لا = ()

نعم + 1

نلحظ هنا أنّ عمل العقل المجرد وحده هو العمل بالفصل + 1، أي فصل الأشياء المدمجة وتحليلها بهويات ثابتة عمّا هو دونها من طبقة مدمجة معها هي مستوى جنس الحيوان. وتنطق سماعة العقل المجرد بكلمة نعم أو كلمة (حق + 1)، أو يضيء مصباح قناته؛ لذلك توصف قناته وحدها بأنّها: (نور بلا حركة) بسبب مرور تيار كهربائي فيها، ويفسِّر العقل المجرد قناة القلب غير الناطقة بأنها تنطق بالباطل أو العدم أو اللاشيء لعدم مرور تيار كهربائي في مخرجاتها، لأنّ

ص: 259

مقياس العقل المجرد فقير يضمّ كلمتين متضادتين فقط (حق × باطل) ولا ثالث بينهما، في حين يحتدم الصراع داخل قناة القلب بآلية تقرّ بما قرره العقل المجرد (يمر تيار + 1)، وتنقضها (لا يمر - 1) في وقت إيقاعي شبه واحد، وتقدِّم أسبابا واقعية تؤيد حق النقض بملاحظة ثمرة نتائج الحوار الجدلي القلبي الإبداعي الذي لولاه لبقي العقل المجرد عقيما، ما يوجِّه انتباهنا مباشرة إلى أساس العلم الحديث، وهو البحث عن الأسباب الواقعية التي تتملكها حواسنا والتي تبيّن أسباب عدم إضاءة مصباح القلب، بأنّها تمثل مظهرا زائفا لما يعتمل من صراع في الداخل، بدلا من التعلق بأسباب غيبية بعيدة خارقة لقوانين الطبيعة التي تدمر العقل المجرد؛ الملكة المميزة للإنسان من الحيوان، وتشلّ التعقل الحسيّ التجريبي العلمي، ويبقى القلب وحده متسكعا في أزمنة وأمكنة اسطورية حرّم الله علينا الخوض فيها، وأحلّ منهج البحث العلمي التجريبي قبل أكثر من 1400 عام، وذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ...»(11).

يظهر في الآية الكريمة أنموذج منهج البحث العلمي الذي تشترك به جميع ملكات الإدراك؛ الداخلية منها: (العقل المجرد، والقلب)، والخارجية: (التعقل الحسي)، ما يغلق مثلث الإدراك على نفسه بشكل هندسي يحصر الحقيقة في نقطة علم داخله تقلل من الجدل العقيم الدال على الجهل، بحسب المقولة المنسوبة للإمام علي (عليه السلام): ((العلم نقطة كثّرها الجاهلون))(12)، ويتضح مثلث الإدراك الذي تكوِّنه الملكات الثلاث في المخطط الآتي:

ص: 260

العقل - العلم نقطة - القلب -الحسن

يؤلف هذا الأنموذج المعرفي منهجا متطورا يجدد نفسه بنفسه، بخلاف معظم مناهج البحث الغربية، التي تخرج القلب أو مبدأ الحرية أو الإيمان من دائرة البحث، وتقصر العلم على ملكتين فقط هما: (العقل المجرد، والتعقل الحسي التجريبي). وقد سمينا هذا المنهج بمنطق علم النقطة، وسمينا آلية الجدل المعرفي الدائر في علم النقطة ب(نظرية التأويل العربية)؛ لأنّ مفاهيمها ومصطلحاتها التقنية الفكرية معرَّبة بمصطلحات قرآنية أصيلة مستمدة من الآية السابقة، وهي نصّ غفلنا عن فهمه فهما جيدا لمدة طويلة، وسنفهمه بوساطة آلية التأويل الفلسفي التي ابتكرناها وهي: (إقرار القلب بنتائج العقل المجرد، ونقضها في وقت إيقاعي شبه واحد، مسوِّغا حق النقض بأسباب موضوعية واقعية)، لنرى فاعلية هذه الآلية التأويلية الفلسفية في استقراء النصوص القديمة التي تشهد بنتائجها القيمة على صحة نظريتنا، ويشهد النص المعرفي القرآني السابق على أنّه نص معرفي قيل قبل أكثر من 1400 عام على ما يجري داخل نظام إدراكنا من جدل منهجي معرفي يجدد نفسه بنفسه، ويوجه انتباهنا نحو منهج البحث العلمي التجريبي العام، كالآتي:

1 - إجراء العقل المجرد استقراءه لظاهرة (موت الإنسان) التي يشهد عليها عدد لا يحصى من الوقائع المحصورة في حيّز الماضي والحاضر فحسب؛ لذلك يستخلص قضية كلية مطمئنا لها هي: (كل إنسان = فانٍ).

ثم يجري العقل حساب القياس الأرسطي الذي يدعّي أنّ نتائجه التنبّوئية

ص: 261

ذات يقين مطلق كالآتي:

كل إنسان = فانٍ..........(1)

وأنت = إنسان.............(2)

وبجمع المعادلتين وحذف الحدّ المشترك من طرفي المعادلة الجديدة، وهو (إنسان)، نحصل على نتيجة: (أنت = فانٍ) لا محالة في المستقبل کتنبؤ يقيني 100%.

2 - يقرّ القلب بنتائج العقل المجرد کحاسوب دقيقة سريع، ولكنّه ينقضها بسبب ادعاء العقل المجرد لليقين المطلق الذي يُخرج ملكة القلب من نظام الإدراك الداخلي، لذلك يطالب القلب بحقّ النقض على أن يقدِّم شواهد حسية تجريبية من الواقع، ولو شاهدا واحدا لينقض الحكم الكلي (اليقين المطلق النقي 100٪)، ويحوله إلى يقين نسبي 99٪. والشاهد الحسيّ هو الذي طلبه إبراهيم (عليه السلام) من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى عن طريق الشرح المفصّل الذي يجعل حواس التلميذ تتملك تفاصيله.

3 - سأل الله نبيه هل هو مؤمن بقضية إحياء الموتی؟ فأجاب ب(نعم) کایان قلبي من منظور أخلاقي لا إيمان علمي فيزيائي. وقد استدعى القلب العقل أن يبرهن على الإيمان القلبُ الأخلاقي ببرهان (الخلف): (كارثية النتائج الأخلاقية / الاجتماعية والنفسية اللاحقة زمانيا، تلزم العقل بتعديل فرضية عدم إحياء الموتى السابقة)، عن طريق تدخُّل قدرة كلية الإقامة العدل الإلهي بعد الموت، وهذه تلزم الإيمان بالله القادر على إحياء الموتی كضرورة (أخلاقية / اجتماعية ونفسية)؛ لأنّ عدم وجود الله يجعل كلَّ شيء مباحا، وهو ما يُفكك المجتمع ويحطم نفسية الإنسان الذي يرى أنّ الحياة عبث يتساوى فيها (الظالم والمظلوم)، و(الجاهل

ص: 262

والعالم)، و(المؤمن والكافر). وهذا هو برهان الفلسفة العملية القلبية، الذي يسير بالعكس: (النتيجة النافعة للمجتمع، تؤكد صحة الفكرة السابقة زمانيا) حتى لو سمّاها أسطورة، والعكس بالعكس.

4 - عَلِمَ الله أنّ نبيه لا يريد إحياء بعض الأموات بطريقة (کن فیکون)، أو بطريقة التدخّل المباشر للقدرة الإلهية الكلية كإعجاز يخرق قوانين الطبيعة ويُلغي دور العقل المجرد في استقرائه للواقع وإجراء عملية القياس الأرسطي؛ لذلك أبي الله أن يتدخّل حتى في شرح التجربة التي طلبها إبراهيم، فجعلها بيد نبيّه نفسه يلمسها ويراها ويقيسها بمساطره، لكي يطمئن قلبه بأنّ قضية (إحياء الموتى) تظهر جلية في قانون المنطق الجدلي الرئيس وهو قانون القلب (وحدة وصراع الأضداد)، إذ لولا وجود الموت داخل الحياة لاستحال علينا الموت، كذلك الحياة موجودة في الموت، وعليه يمكن تجربة إحياء الموتى على يد الإنسان کسبق علمي غير خارق القوانين الطبيعة خرقا خارجيا يدمّر حاسوب العقل المجرد تلك الجوهرة التي تميز الإنسان من الحيوان التي أبقى الله لها مجالا للمشاركة في حساب النتائج حسابا منطقيا أرسطيا، بدليل أنّ ابراهیم (عليه السلام) سأل ربّه عن كيفية إحياء موتی الإنسان، فأمره بإجراء التجربة على الطير، ليبقي للعقل المجرد دورا كأداة بحث ریاضي قياسية كالآتي:

الإنسان كائن حي................(1)

الطير = كائن حي..................(2)

والمساويان لشيء واحد متساويان، إذن:

الإنسان = الطير...................(3)

ص: 263

والطير = يمكن إحياؤه بالتجربة......(4)

وبجمع المعادلين وحذف المشترك (الطير) من طرفي المعادلة الجديدة نحصل على النتيجة المطلوبة: (الإنسان = يمكن إحياؤه بالتجربة).

وبهذا يشارك العقل المجرد والتعقل الحسي معا في الاستدلال، ما يطمئن القلب فينغلق مثلث الإدراك على نفسه حاصرا الحقيقة في نقطة موجودة داخل حيز هندسي ضيق، يقلل الجدل العقيم حولها، ويصبح الإيمان علميا يسوّغ للقلب حق نقض قرار العقل المجرد الأول (فناء الإنسان) لا محالة، ليعدل من کلیاته وادعائه اليقين المطلق في حساباته.

ولو رجعنا إلى النظام الاستنباطي العقلي في نظرية التأويل العربية، بدلا من الاستدلال اعتمادا على تأويل نصّ قد لا يؤمن به غير المسلم، فإنّنا نجد أسبابا موضوعية تُظهر حق النقض أو النقد، وتَظهر في الاستقراء غير التام، ما يسوِّغ للقلب نقض كليات العقل المجرد (كل إنسان = فانٍ)؛ لأنّها آتية من استقراء العقل للماضي والحاضر فحسب، لاستحالة استقرائه للمستقبل. وبهذا يقرّ العقل بخطئه، ويجعل المستقبل حيزا للممکنات، ما يفتح باب البحث العلمي في المستقبل، ويعزو عدم إمكان (إحياء الموتى) الآن إلى قصور أدوات البحث العلمي، أو عدم تطور العلم ككل.

وهذا يعني وجود قوانين تحكم العالم المادي، مختلفة عن قوانين العقل المجرد العامل بمبدأ ثبوت هوية الأشياء والأفكار؛ لأنّ قوانين الواقع المادي عاملة بمبدأ (الصيرورة) أي التحوّل من حال إلى أخرى تحوّلا ذاتيا، وكأنّ لكلّ شيء قلبا یحرِّکه ذاتيا، فالحيّ له قلب يعمل کساعة تدفعه ذاتيا إلى الموت، والميت أيضا له قلب يعمل کساعة داخلية تدفعه ذاتيا إلى الحياة ثانية، وهكذا دواليك من ميت الى

ص: 264

حي ثم من حيّ إلى ميت ثانية، ثم من میت إلى حيّ... الخ، و كلّ دورة يتطوّر فيها الإنسان حتى يبلغ درجة کالا من التعقل %99 ودرجة حيوانية 1٪.

بهذه الطريقة نفهم قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ»(13)، بأنّه يمثل (عملية نسخ دائرية مستمرة)؛ النسخ بمعنى التجديد والتطور من الخيّر إلى الأخير منه کحقيقة طبيعية لا يفهمها إلا القلب، لأنّها تشبه قانونه الذي يجمع بين الأضداد في وحدة إيقاعية: (انقباض + 1 / وانبساط - 1 = صفر)، وهذا يعني أنّ الحياة والموت متصارعان في حلبة واحدة، مرة يفوز ملاكم الحياة، ومرة يفوز ملاكم الموت الذي لا يموت أو يتقاعد، وإنّما يعاود الكَرَّة للنزال مع من غلبه، وما الثبوت الذي يراه العقل إلا شيء مؤقت. وهذا القانون القلبي العظيم هو الذي يسود الطبيعة ويجعلها تتحوّل من حال خيّرة إلى أخرى أخير منها، وهو لا يلغي دور الله، وإنّما يعززه ويبيّن قدرته الكلية؛ لأنّه يمثل (آية) أي علامة عجيبة موجودة في الآفاق وفي أنفسنا، لا يتدخل الله في تدميرها؛ لأنّه هو خالقها، وهي نفسها التي يتحدث عنها في (آية النسخ) بمعنی التجديد والتطور في الطبيعة أو في الواقع، وينعكس في الذهن نفسه کتجديد وتطور في الحكم على الواقع من الخيّر نحو الأخير منه، قال تعالى: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ...أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(14)، ف(الآية) هنا مشترك تدل على العلامة الواقعية العجيبة التي تتطور ذاتيا عبر مرور الزمن، والآية هي العلامة اللغوية (النص) کانعکاس ذهني يظهر في الحكم الذي يتغيّر مواكبا لتغير الواقع من الوضع الخيّر إلى ما هو أخير منه، وهو ما يدلّ على قدرة الخالق الكلية الموجودة في تذييل الآية الكريمة.

وخلاصة القول إنّنا قدمنا فلسفة تأویل عربية يرشدها منطق عملي (عقلي /

ص: 265

قلبي) کتطوير لفرع قدیم کاد يطويه النسيان، وهو التأويل القديم الذي يتناول ظاهرة جمع الأضداد وينسب تفسيرها إلى قوى غيبية سحرية أو شيطانية أو رحمانية خارقة لقوانين الطبيعة تشلّ العقل المجرد والتعقل الحسي التجريبي (البحث العلمي)، أو تؤوِّل النصوص بشطحات المفسِّر التي لا تطرد طبيعتها فلا يستطيع العقل المجرد استقراءها لتتضح هويتها الثابتة، ليطبعها على طين المخ كبرنامج منطقي جديد (مفهوم) تشتغل بموجبه رؤوسنا بعقلين: (مجرد، وقلبي)، برنامج سهل التعليم والتطبيق الذي اكتشفناه بعون الله في آلية: (موافقة القلب لقرار العقل المجرد، ونقضه في وقت إيقاعي) شبه واحد، ثم يقدِّم دليلا موضوعيا حسيا يدلّ على أحقية فكرة النقض)، ما يحمل العقل المجرد على تعديل ادعائه الليقين المطلق في استقراء کلیاته وحساباته الرياضية.

وهكذا يتضح التجديد في مفهوم التأويل القديم الذي ذكره الجرجاني (ت 816 ه) بأنّه انعکاس مباشر ساذج لقوانين الصيرورة الطبيعة في الذهن لم يصل إلى قلبها الذي يجمع بين الأضداد في وحدة ويعمل على دفع كلّ شيء متطورا ذاتيا إلى الأمام، أو بالقفز للأعلى في الأشياء التي تعود إلى حيث ما بدأت منه في دائرة: (الموت، ثم الحياة، ثم الموت ثانية...) متطورة إلى الأعلى بشكل حلزوني يفسح فيه الجيل الميت مجالا لتطور جيناته في أبنائه، وقد شهدت على قوانين الصيرورة تطور العلوم التجريبية الحديثة التي رصدت تحوّل الضد إلى ضده وبالعكس؛ لذلك اختلط التأويل القديم بالتفسير عند الجرجاني وهو يؤول آية إخراج الميت من الحيّ وبالعكس بقوله: ((إنْ أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإنْ أراد به إخراج المؤمن من الكافر، أو العالمِ من الجاهل، كان تأويلا))(15)؛ فإخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل) إذا كان بين

ص: 266

شيئين منفصلين بينهما علاقة تضایف ک(الابن والأب، والأستاذ وتلميذه) فإنّه لا يُسمّى تأویلا، وإنّما يسمى تفسيرا أدني من خروج البيضة من الطير، وخروج الطير من البيضة؛ لأنّ الله هنا يتحدَّث عن التناقض في الطبيعة الذي لا يعني الاستدلال الفاسد الذي ينقض العقلانية المنطقية الأرسطية، وإنّما التناقض الذي يسوّغ الاستدلال العقلاني في المنطق الجدلي كانعكاس لمنطق قلب الطبيعة، وهو ينتج من استنباط صحیح انطلاقا من مقدمات متسقة. وقد ظهر هذا التناقض بداية القرن العشرين في العلم الملك وهو الفيزياء الذرية الذي مسّ أساس العلم التجريبي عن طريق سلوك جزئيات الذرة سلوکا متناقضا کموجة طاقة تسلك سلوکا ماديا في ((تناقض قويّ يبرز في العلاقة (موجة / جسیم)؛ لا يتعلق الأمر بتاتا بصراع بين كائنين مجتمعين هما: الموجة والجسيم، بل يتناقض في الواقع نفسه الذي يتدافع مظهراه منطقيا))(16).

ص: 267

المبحث الثاني: تأويل نصوص نهج البلاغة التي تصف ضلالة العلماء:

تبيّن مما سبق أنّ من أسباب الجهل والضلالة المعرفيين اللذين يقع بهما الإنسان وحتى العلاء ناتج من تعطّل إحدى ملكات الإدراك الثلاث: (العقل المجرد، أو القلب، أو الحس التجريبي)، ما يؤدي إلى انفتاح مثلث الإدراك، فتخرج الحقيقة أو (نقطة العلم) متسكعة في فضاء غير متناهٍ، فيكثر حولها الجدل العقيم الذي يدلّ على الجهل الكارثي، ويقود الإنسان والعالم إلى الجهل والضلال المعرفي، نظرا لتحطُّم النظام العلائقي للملكات الإدراكية، فلا تعي وهي متفرقة حدود صلاحياتها الوظيفية، وتفصيل ذلك بالآتي:

المطلب الأول: ضلالة العلماء بسبب عمل العقل المجرد وحده:

إنّ عمل العقل المجرد وحده یُصادر حرية القلب ويخرجه من نظام الإدراك الداخلي، نظرا لادعاء العقل المجرد اليقين المطلق كحكم يدعيه مقوما نتائج حسابه المنطقي التي اذا تفحصّنا حسابها القياسي، فإنّنا نجده عقیما؛ لأنّه يمثل تحصیل الحاصل، أو مصادرة على المطلوب أو مغالطة تخفي النتيجة في المقدمة الكبرى، ذلك أنّ المقدمة الكلية لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كانت نتيجتها صادقة(17). وهذا يعني أنّ العقل المجرد بلا قلب یکون عقيما غير منتج لمعرفة جديدة تتجاوز إمكاناته المعرفية المحدودة البسيطة الرائعة، وهي الاستقراء الرياضي، ومنه يعمم قضية كلية يتنبأ بوساطتها باطراد صفات جزئياتها في المستقبل اعتمادا على افتراض ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها)، نحو (كل إنسان = فان)، و(أنت = إنسان)، وبجمع المعادلتين وحذف الحد المشتركة (إنسان) تكون النتيجة (أنت فان) لا

ص: 268

محالة في المستقبل باليقين المطلق.

ومن أخطاء العقل المجرد عندما يعمل وحده هو تقويمه الأشياء على وفق مقياسه الحاد الذي يقسِّم الحكم على الأشياء بكيفيتين متضادتين: (أما أبيض × أو أسود) ولا ثالث بينهما.

وقد رصد الإمام علي (عليه السلام) هذا الخطأ الفكري العقلي الذي يُسيء إلى الواقع اللانهائي التدرجات عند الفقيه الذي يشتغل رأسه بعقل واحد، وهو العقل المجرد × لذلك استنكر فكر هذا الضرب من الفقهاء غير العالمين بعلاقة الله بعباده، وهؤلاء يحكمون على الله بعقولهم المجردة وحدها بأنّه رحيم بدرجة 100٪ فيشجعون الناس على ارتكاب المعاصي، أو يحكمون على الله بأنّه منتقم 100٪، فتيأس الناس من الرحمة ولا تبادر للتوبة؛ لأنّ الحكمين عقليين مجردین لا وجود لهما في الواقع، وإنّما يوجدان في مقياس العقل المجرد عند الحكم على صفات الله في ذاتها ولذاتها فيسبغ عليها العقل صفة الكلية. أما حين يحكم على صفات الله في علاقته بعباده فالمقياس الصحيح هو المقياس العملي المتعدد القيمة کالمقياس المئوي الذي يقوّم درجات الطالب، وهذا ما أكّده الإمام علي (عليه السلام) في وصفه للفقيه غير الجاهل بعلاقة الله بعباده مقابل الفقيه المبرمج عقله المجرد على المقياس الثنائي القيمة (أبيض × أسود) ولا ثالث بينهما، وذلك قوله (عليه السلام): ((الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللِّهَ ولَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللِّهَ ولَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ))(18).

يُمكن وصف هذه المقولة بأنّها تمثل نظرية تطبيق تأويلية، بمعنى الرجوع إلى الأول، وهو القلب التدبري، الذي يوصل ما فصله العقل المجرد، بالتطبيق العملي التدبري القلبي. وهذا الوصل الجدلي لم يلتفت إليه فريق من الفقهاء

ص: 269

المتزمتين الذين برمجوا عقولهم أنْ تحكم بمقياس العقل المجرد ثنائي القيمة: (إما أبيض × أو أسود) ولا ثالث بينهما، ما يجعل هؤلاء يضلون في أحكامهم من دون النظر القلبي التدبري الموجود في واقع الحياة التربوية، فضلا عن وجود في نصوص قرآنية كثيرة، التي جمعت بين الأحكام المتناقضة بحسب السياق المقامي، فالله تعالى (غفور رحيم) في مقام، و (شديد العقاب) في مقام آخر، فالصفتان لیستا ثابتتين عمليا؛ لأنّ الأمر متعلق بحركية العبد وعلاقته مع ربه ومع نفسه ومجتمعه، يُخطئ فيستغفر ويعمل صالحا فيغفر الله له، ولا يأس من رحمة الله الدنيوية إلا في لحظات الموت الأخيرة؛ لأنها ليست لحظات حرية ارادة.

ومن الذين وقعوا في أخطاء العقل المجرد عندما يعمل وحده هم (الخوارج)، وهم يمثلون تيارا فكريا سياسيا متطرفا، وهم الذين وصفهم الإمام علي (عليه السلام) بأنّهم طلاب حق أخطأوا في الوصول إليه، مقابل جماعة أخرى هم: (طلاب الباطل)؛ لذلك أوصى بالخوارج بعده بقوله: ((لا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ))(19).

فالخوارج - إذن - يعتمدون على العقل المجرد وحده في فلسفتهم العقلية المجردة من مادة الواقع الاجتماعي، التي ترى (أنّ الحكم لله وحده)، وتعني هذه المقولة في نظريتنا: (أنّ الحكم للعقل وحده)، وإلا كيف يتصل بهم الله في كلّ صغيرة وكبيرة، وكيف يتصلون به ويستجيب لهم كلّما أرادوا ذلك؟! وهذا يعني أنّ عقيدتهم يسيطر عليها العقل المجرد، أو أنّ رؤوسهم فيها حاسوب العقل يشتغل وحده بلا قلب تدبري يهذِّب السلوك في الوصول إلى الحق، فهُم قساة القلوب يفتكون بأي قوة تقف في طريقهم، فلا يسمحون بمناقشة أفكارهم الصورية حتى أنّهم كفّروا إمامهم وأمروه بأن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب کما شهدوا على أنفسهم

ص: 270

بالكفر وتابوا، فقال لهم (عليه السلام): ((أَبَعْدَ إِياَنِ بِاللَّهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ

اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِيِ بِالْكُفْرِ، لَقَدْ «ضَلَلْتُ إِذاً وما أَنَا مِنَ

الْمُهْتَدِينَ». فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الأعْقَابِ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلاً

شَامِلاً وسَيْفاً قَاطِعاً وأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً))(20).

إنّ مقولة الخوارج (لا حكم إلا لله) مقولة صورية إيمانية عقلية صحيحة 100٪، ولكنّها من دون قلب تدبري، تخلط النظرية المجردة بالتطبيق العملي السوكي، أو يجعلون النظر الصوري المجرد هو الذي يبرمج عقولهم وحده، فيصبحون مسیّرین غير أحرار، لعدم وضوح مجال التطبيق السلوكي الأخلاقي في أذهانهم الذي يشرح القواعد العملية لتقليل أخطاء السلوك الأخلاقي الموصل إلى الحق، فضلا عن عدم وضوح القواعد القلبية التي تتعلق بالعالم الفيزيائي؛ لذلك نجدهم فئة قليلة تواجه امبراطوريات في أوج عظمتها، فتفتك بهم جيوش هذه الدول ولا تتعاطف معهم الناس.

والقاعدة الأخلاقية السلوكية والطبيعية الفيزيائية الاجتماعية التي طبقها النبي (صلى الله عليه وآله) في الوصول إلى نظرية (لا حكم إلا لله) هي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) في جميع حروبه مع قريش طبق قاعدة (إحداث انعطافة تاريخية كبيرة بأقلّ الخسائر)، وذلك ما أوضحه المفكر التونسي الدكتور محمد الطالبي بأنّ عدد الخسائر في جميع حروب النبي (صلى الله عليه وآله) بلغت 110 ضحية من قريش، أما قتلى المسلمين فبلغ 91 ضحية(21)، لكن الخوارج لم يفهموا هذا؛ لأنّ رؤوسهم تشتغل بعقل مجرد من دون قلب، يلحظ عدد الأيتام والأرامل والأحقاد التي يخلفها طلب الثأر في مجتمع الحراك السياسي؛ لذلك وصف الإمام علي (عليه السلام) ضلال قلوب الخوارج وخطأ فلسفتهم العقلية المجردة في قولهم (لا حكم

ص: 271

إلا لله) بأنّها ((كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلا لِلِّهَ ولَكِنَّ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ

لا إِمْرَةَ إِلا لِلِّهَ وإِنَّهُ لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ ويَسْتَمْتِعُ

فِيهَا الْكَافِرُ ويُبَلِّغُ اللُّهَ فِيهَا الأجَلَ ويُجْمَعُ بِهِ الْفَيْءُ ويُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ ويُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ))(22).

أوضح الإمام (عليه السلام) في هذا النصّ الخطأ الفكري العقلي الصوري من دون قلب تدبري، الذي وقع به الخوارج، وهو الحكم بالمقياس الصارم (إما x أو) ولا ثالث بينهما، فالكون فيه حاکم و محکوم، ولمّا كان الله هو الخالق الكلي القدرة، فإذن هو الحاكم المطلق، وغيره من المخلوقين هم المحكومون، إذن (لا حكم إلا لله).

وقد وصف الإمام (عليه السلام) مقولتهم بأنّها (كلمة حق يراد بها باطل) يعني أنّها حق على مستوى النظر العقلي التجريدي الصوري، ولكنّها باطلة أو خطأ ومدمرة للواقع المادي عندما تطبق النظرية على الواقع بقلوب قاسية ضالة لا تمّيز بين النظرية وهي نتاج العقل المجرد، والتطبيق الذي هو نتاج التعقل القلبي التدبري، الذي يضع القواعد العملية لبلوغ الصورة العقلية المثالية المجردة من المادة كهدف بعيد. فإمارة المؤمنين وسيلة أو أداة للعدل بين الناس وفرض للنظام الشرعي عليهم، وليست غاية في ذاتها، فإذا طبقها الإمام الفاجر فلا مشكلة في نزول الإمام العادل عنها ليبقى معارضایهابه الإمام الفاجر، ولكن الخوارج لم يفهموا هذا، فاعتقدوا أنّهم ظلّ الله في أرضه، لذلك على الله أن يحكم بمقياس العقل الحاد (إما أن ينصرهم × أو يقاتلوا فيقتلوا ليدخلهم الجنة بالقوة) ولا ثالث بينهما.

ومن الأخطاء التي وقع بها الخوارج أيضا هو خطأ (إعمام الجزئي)، وهذا الخطأ العقلي المجرد هو الذي ولَّد كثيرا من الكوارث الفكرية القديمة والحديثة.

ص: 272

من ذلك اعتقاد بعضهم أنّ الحجاج بالسنّة النبوية وهي جزئية، أفضل من الحجاج بالقرآن الكلي، اعتمادا على قول الإمام علي (عليه السلام) لابن عباس: ((لا تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ ويَقُولُونَ، ولَكِنْ حَاجِجْهُمْ

بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً))(23).

فالإمام (عليه السلام) يُوصي ابن عمّه في جزئية الحجاج مع الخوارج فقط بأنّ غلبتهم تكمن باستعمال السنّة النبوية؛ لأنّ السنّة تمثل القلب التدبري الشارح لكليات القرآن، أو هي التي تنتصر بالوضوح العملي لموقف الإمام وأصحابه من الخوارج، ومن ذلك محو النبي لصفة (رسول الله) في صلح الحديبية مع الكفار، وقد محا الإمام (عليه السلام) في هدنته مع معاوية صفة (أمير المؤمنين) عنه، وهي إحدى تُهَمِ الخوارج للإمام علي (عليه السلام)، ولكنّ الإمام لم يخطئ في قياسه العملي في هذه القضية على تلك، لكنّ الخوارج جعلوا ذلك خطأ فكريا استراتيجيا، وهو ليس كذلك لأنه مجرد تهدئة صورية لحقن دماء المسلمين، والخوارج لم تفهم ذلك المعنى القلبي التدبري؛ لأن عقولهم تعمل بلا قلوب، والعقل حين يعمل بلا قلب تدبري يعمم الجزئيات، ومن ذلك تكفيرهم للإمام علي (عليه السلام) وتكفيرهم للإمام علي (عليه السلام) وتكفيرهم لكل مَن وقف إلى جانبه بقول أو بفعل، أو بعدم نصرتهم عليه؛ لذلك خطابهم الإمام بقوله: ((فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلا أَنْ

تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وضَلَلْتُ فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صى الله عليه وآله)

بِضَلاِ وتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي وتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِ سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا

مَوَاضِعَ الْبُرْءِ والسُّقْمِ وتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(صلى الله عليه وآله) رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ...))(24).

يظهر إعمام الجزئي جليا في بداية النص، وكذلك في نهايته إذ يهيمن العقل

ص: 273

المجرد وحده على الحكم بثبوت هوية الزنا على من زنى منذ أن فعل فعلته إلى يوم القيامة، بخلاف رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يرى قلبه التدبري أنّ الزاني يتطهّر عند تنفيذ العقوبة عليه؛ لذلك صلّى النبي (صلى الله عليه وآله) على الزاني المرجوم وورَّثه أهله، ولا عقاب عليه فيما يخص هذه الغلطة يوم القيامة؛ لأنّ حكم الله قد طبق عليه في الدنيا على يد رسوله (صلى الله عليه وآله)، وكذلك لا يمكن تجريد الزاني من كلّ حسناته بسبب خطأ واحد؛ لأنّ هذا التجريد غير عادل وهو خطأ فكري سببه (إعمام الجزئي).

المطلب الثاني: ضلالة العلماء بسبب عمل القلب وحده كملكة أهواء:

إذا عمل القلب وحده فإنّه لا يُسمّى قلبا تدبريا، أو ملكة تعقل؛ لأنّ القلب لا يكون كذلك إلا بارتباطه مع العقل بعلاقة لتكوين نظام إدراك داخلي، إذ يقبل القلب قرار العقل المجرد وينقضه في وقت شبه واحد متلمسا أسباب واقعية منطقية يرتضيها العقل تسوّغ حق النقض، أما إذا انفرد القلب وحده فيسمى ب(الأهواء) التي تحوّل التفكّر الإبداعي التأويلي كوعي وجودي ذاتي يُقذف إلى الخارج بفن (أولي الألباب) الثقيل بالمعرفة التدبرية، إلى نشاط غير معقول فوضوي يشبه (الحركة في الظلام)، إذ يتسكّع القلب وحده في (الأمكنة والأزمنة الأسطورية) ويدمج الذات بالموضوع فيؤدي إلى شطحات تأويلية سخيفة(25)، كقول بعض المتصوفة: (أنا الله) بدمج الذات الإنسانية (الأنا) العارفة بالموضوع الذي تفكر فيه (الله) فتساوي بينهما: (أنا = الله).

وقد حذَّر الإمام (عليه السلام) من الأهواء التي هي نتاج ملكة القلب عندما يعمل وحده من دون نور العقل، فيقول: ((إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ... ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ

ص: 274

الْمُعَانِدِينَ ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي

الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى(26)...))(27).

(الفتنة) هي غياب ملكة الحكم العقلي الصحيح المميز بمقياسه الحاد بين (الحق × الباطل) ولا ثالث بينهما، وإذا غاب هذا الحكم العقلي المجرد انفصم القلب عن نظام الإدراك واشتغل بالهوى، ولاسيما في ما يسمى بالقضايا المتشابهة، وأبرزها أنّ البشر يرون أنفسهم بأنهم متساوون من دون فوارق فردية، كذلك رأت العامة من الناس أنهم يشبهون الأنبياء فاحتجوا على الله لماذا اختار من بينهم هذا الرجل نبياً ولم يخترْ غيره، قال تعالى راداً على هذه الفتنة «قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»(28).

الفتنة - إذن - سببها التشابه الظاهري الذي تخدع فيه الحواسُ القلوبَ المفتونة فیستولي عليها الشيطان، أمَّا أصحاب العقول النيرة فيميزون بين (الظاهر) الخارجي المتشابه و (الباطن) الخفي الذي يكتشفه العقل بالحدس، كذلك أوضح الإمام علي (عليه السلام) انعدام النظام العقلي المنطقي أو انعدام العقلانية في وصف سلوك الذين يختلفون في الفتيا في قضية واحدة اعتمادا على دستور واحد. ويظهر ذلك في قوله: ((تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الأحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا

بِرَأْيِهِ ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَیْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِافِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ

الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الإمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وإِلُهُمْ وَاحِدٌ

ونَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالاخْتِافِ فَأَطَاعُوهُ أَمْ نَهَاهُمْ

عَنْهُ فَعَصَوْهُ))(29).

لفظة (علماء) مشتقة من (العلم)، والعلم يقتضي أن يسير بنظام منطقي

ص: 275

عقلاني استنباطي صارم في عملية الاستدلال؛ لذلك يرفض العلم التناقض في الحكم على قضية واحدة استنادًا إلى دستور واحد في وقت شبه واحد، وعليه يدلّ التناقض على تعطيل ملكة (العقل المجرد) ذات المقياس الصارم الثنائي الكيفيتين المتضادين (أسود × أبيض) ولا ثالث بينهما، وتعطيل العقل المجرد يجعل القلب ملكة أهواء تستدل متحركة في الظلام، وقد سمّاها الإمام علي (عليه السلام) ب(الحكم بالرأي) ما يجعل صاحب الشهادة العلمية التي أهلته أنْ يكون قاضياً أو عالما، شخصاً ضالاً استعبدت الأهواء عقله فألَهَ من يهواه من دون الله، قال ابن عباس (ت 68 ه): ((الهوى إله معبود، وتلا قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»(30)، وأضله الله على علم))(31).

يؤكد ابن عباس أنّ انفصام عقل العالم عن قلبه يجعل القلب ملكة أهواء تعود بالإنسان إلى أخس من الحيوان؛ لأنَّ الأهواء تدمّر ملكة العقل المجرد فيستعبد قلبَ العالِم المالُ أو الجاهُ أو أي شيء آخر يستولي على القلب كصنم معبود؛ لذلك يبدو العالِم في الظاهر کعالم جليل له صورة الإنسان المهيب، ولكن هذه الصورة الجميلة فارغة من المضمون الأخلاقي الذي يميز الإنسان من المجنون والحيوان؛ لذلك يوصف الإنسان بأنه (حيوان + أخلاق)، ولا يوصف الحيوان بالأخلاق.

ومثل هؤلاء قد وصفهم الإمام (عليه السلام) بوصف قاسٍ بأنّ صورهم صورة إنسان له قلب حيوان وذلك قوله: ((وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِاً ولَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وأَضَالِيلَ مِنْ ضُالٍ ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ... فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ))(32).

كلّ ذلك يحصل بسبب تحطُّم العلاقة بين نظام الادراك في رأس الإنسان الذي يعمل بعقلين (العقل المجرد × والعقل التدبري)، إذ يبقى القلب وحده فيتحوّل

ص: 276

من ملكة تعقل تدبرية ابداعية، إلى ملكة أهواء تسوغ الخطأ والحمق والهذيان، وربما تصيب الأهواء الحواس بداء الهلوسة فيشم الإنسان في براز حیوان امتطاه أحد الصحابة ريح المسك(33).

تبيّن مما سبق الأسباب الفكرية لضلالة العلماء بأنها ناتجة من قطع العلاقة بين ملكتي الإدراك الداخليتين (العقل المجرد × القلب) لذلك ربط الإمام (عليه السلام) ملكة القلب بالعقل حتى لا تضل طريقها بالأهواء التي تعمل بمبدأ غريزي حيواني (لذة × ألم) تجاه الجنس والغذاء. أما إذا ارتبط القلب بالعقل المجرد فإنّه يُصبح ملكة تدبّر إبداعية راقية، تملّ من الفكر المألوف والمتكرر والتلقين الببغاوي للعلوم القديمة، فتتمرد عليها بوصفها ثوابت عقلية طبعها العقل على طين المخ بحسب آلية نظرية التأويل العربية: (موافقة القلب لما أقرَّه العقل، ونقضه في وقت إيقاعي شبه واحد، مقدماً الدليل المنطقي الجدلي أو الحسي التجريبي المسوِّغ لحقّ النقض).

بهذه الآلية تصبح القلوب ملكات تعقّل إبداعية منتجة لأدب أولي الألباب أو (الآیات) بمصطلح القرآن الكريم؛ آیات ما بأنفسنا؛ لذلك أكد الإمام علي (عليه السلام) على تربية وتهذيب القلب الإنساني ولاسيما قلب الرجل، الذي يولد وحشية أنانية، وذلك قوله: ((قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ))(34)، بمعنى أنّ قلوب النساء أكثر عاطفة ورقّة، وعليه فهي لا تحب الاستقلال أو التمركز حول الذات، أما قلوب الرجال فإنّها تميل إلى الاستقلال أو (التمركز حول الذات).

وقد أكد الإمام (عليه السلام) على إبداعية القلوب التي تملّ من تكرار المألوف، وتخوض مغامرات فكرية في عوالم مجهولة لتغذي العقل المجرد بإبداعها،

ص: 277

وذلك قوله (عليه السلام): ((إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا

طَرَائِفَ الْحِكَمِ))(35).

وقد عَرَفَ الإمام (عليه السلام) سرَّ القلب البشري الذي يجمع بين المتضادات في وحدة، ومنها أضداد (الشهوة الأنانية × والتضحية من أجل الآخرين)، و(الأنانية) يعدّها الإمام علي (عليه السلام) جزءًا من الخير أو الحق الذي يتبع فيه الإنسان غرائزه، أو جزأه الحيواني فيميل إلى (الجنس والغذاء) على وفق مبدأ (لذة × ألم) لولاه لمات الإنسان وانقطع نسله؛ لذلك لا يمكن مطالبته بأن يرتقي قلبه ليعمل بمبدأ (المساواة) (الأنا) لل(أنت الآخر)، أو يعمل بمبدأ الأثرة (حب الآخر أكثر من حب النفس)، ما لم نتمكن من إشباع غريزته الجنسية وبطنه، لكنّ هناك ترتيباً على المقياس الحسي المئوي، يعطي درجة (المقبول) لهذا الإشباع الشهوي، وهناك درجات أسمى منها أخلاقية يجب أن تُعرف تدرجاتها على هذا المقياس، کما مرّ سابقا، وأقصى درجة سمو أخلاقي هي درجة الامتياز (90 - %99) وهي درجة الأنبياء والصالحين والشهداء والصديقين، التي لا يجب أنْ نقحمها ونفرضها بالقوة على قلوب عامة البشر فتدمرها؛ لأن الفرض بالقوة يولّد تغييرًا میکانیکیاً خارجیاً مدمرًا يختلف عن التغيير الذاتي الذي يحصل بالتربية القائمة على معرفة علمية، وهذا ما أكده الإمام علي (عليه السلام) بقوله: ((إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وإِقْبَالاً وإِدْبَاراً فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وإِقْبَالَهِا فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَ))(36).

وهذه الرؤية العلمية الراقية بسيكولوجية النفس البشرية والنفس الحيوانية الذكية أيضاً، هي نفسها من مكتشفات علم النفس السلوكي للإنسان أو الحيوان الذكي: (القرود، الكلاب، القطط، الخيول... إلخ)، كلّما سلك سلوكاً حسناً کُرِّم

ص: 278

صاحبه بما یُشبع شهوته، ولاسيما الغذائية لتنشيط الاستجابة الإيجابية، فيُصبح القلب مبصرًا متعلماً بالتجربة، وهناك طريقة مغلوطة لتغيير السلوك وهي العقاب على كل سلوك سيئ، وهذا ما نهى عنه الإمام (عليه السلام) لأنه يسبب عمی القلب کبصيرة إدراكية الذي يحول الإنسان والحيوان الذكي إلى آلة.

تُعدّ هذه الطريقة جناية على الإنسان بالذات، إذ تنظّم سلوكه بطريقة ميكانيكية خارجية مدمرة هي (الخوف)، أو الشعور بالألم؛ لذلك تتحيّن القلوب الخائفة والمتألمة الفرص للانتقام والثورة على من دمّر حريتها، في حين تتعاطف وتحزن على من رباها بالشعور باللذة تجاه السلوك الحسن، وتحوّل من رباها إلى بطل أو رمز حتى بعد موته.

المطلب الثالث: ضلالة العلماء بسبب انفصام نظام الإدراك الداخلي عن الواقع:

يُمثل نظام الإدراك الداخلي علاقة (العقل المجرد والقلب التدبري) اللذين يعملان معا بالية التأويل العربية: (موافقة القلب لقرار العقل المجرد ونقض حكمه بالتماس أسباب موضوعية تسوّغ حق النقض)، وإذا لم يعثر القلب على الأسباب الموضوعية الواقعية الحسية التي تسوّغ حق النقض يحدث جدل عقيم بين ملكتي الإدراك الداخليتين لا ينتهي إلى يوم القيامة؛ لأنّ مبدأ السببية الواقعية هو مبدأ العلم التجريبي كنوع من المعرفة التي تتملك تفاصيلها حواس الإنسان؛ لذلك يستطيع المشاهد أن يكرر التجارب التي شاهدها؛ لأنّه عرف أسباب حدوث هذه التفاصيل، ومن هنا عُرِّف العلم التجريبي بأنّه ((معرفة الشيء من خلال مسبباته))(37)، وإذا لم نعرف تلك الأسباب فإن العلماء يضلون بالاستدلال، أو يؤمنون بالأساطير والخرافات الشعبية المتداولة لمدد طويلة بحيث تأخذ شهرتها بين الناس أو بين العلماء أنفسهم وتسيطر على عقولهم كمسلات أو بدهيات لا

ص: 279

تقبل النقاش؛ لذلك وجّه الإمام (عليه السلام) من يدعي أنّه عالِم، ولاسيما في القضايا الحسية أن يستعمل ملكة الإدراك الخارجية، وهي التعقل الحسي الذي قوامه: (الملاحظة وقياس المعطيات بطريقة مباشرة)، ليكون التعقل الحسيّ حَکَماً بين العقل (المجرد والقلب) يحكم بينهما بكلمة الفصل، إذا دخلا في حوار جدلي عقیم طويل يكثِّر (نقطة العلم)، وكثرة النقطة تدلّ على الجهل.

وقد أوضحنا أنّ نظرية التأويل العربية نظرية معرفية تقوم على تكوين مثلث الإدراك الذي يحصر الحقيقة وسط حيِّز ضيق هندسي تكوِّنه ملكات الإدراك الثلاث: (العقل المجرد والقلب التدبري) كنظام إدراك داخلي، والتعقل الحسي کملكة إدراك خارجية مكملة وحاسمة للصراع الفكري الدائر في الداخل؛ لذلك ركز الإمام علي (عليه السلام) في الملاحظة المباشرة لمعطيات الحس لتفنيد نصوص الحسّ الشعبي ومنها: نظرية تلقيح أنثى الطاووس بوساطة التقاطها دمعة فَحْلِها من جفنه، وذلك قوله: ((وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُسُ... يُفْيِ كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ ويَؤُرُّ [ينكح] بِمَلاقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ لِلضَّرَابِ أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ لا كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ [النقل بالرواية]...))(38).

والمعاينة هي الملحوظة المحسوسة التي تؤيد حسابات العقل بأنّ (الطاووس طير وخصائص تلقیحه تشبه خصائص تلقيح كلّ الطيور)، بخلاف النقل بالرواية (اللغة البشرية المنفصمة عن الواقع)، التي يمكنها أنْ تنقل لنا الأكاذيب والخرافات والأساطير وتحيطها أحيانا بهالة من القدسية على الرغم من أنها من نتاج البشر غير المعصومين الذين يخطئون ويصيبون.

أما في العلوم التي تبحث في الموضوعات غير الحسية، أي غير الخاضعة للملاحظة والقياس المباشر للمعطيات، كالقضايا الإلهية والروحية، فإنّ نظام

ص: 280

الإدراك يجب أن يحذر من براهين العقل المجرد في مثل هذه القضايا؛ لأنّ العقل المجرد كحاسوب يعمل بالأرقام الثنائية يكون محدودا، وعليه يجب إقامة العقائد على الإيمان القلبي الديني معززا بما جاء به الوحي، أو الكشف العرفاني الهادئ الكاشف عن إيقاع التضاد في موضوع معرفة الصفات الإلهية مثلا، الذي يشبه إيقاع القلب (انقباض + 1 / انبساط - 1 = صفر)، والذي يتجنب الشطح الصوفي، وذلك يظهر في إجابة الإمام على سؤال بعضهم حين سأله عن رؤيته لربّه، فقال: ((أفأعبد ما لا أرى؟! فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ

ولَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ قَرِيبٌ مِنَ الأشْيَاءِ غَیْرَ مُلابِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَیْرَ مُبَايِنٍ مُتَكَلِّمٌ لا بِرَوِيَّةٍ مُرِيدٌ لا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لا بِجَارِحَةٍ لَطِيفٌ لا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ

كَبِیرٌ لا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ بَصِیرٌ لا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ تَعْنُو

الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وتَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ)(39).

ص: 281

خاتمة:

خلص البحث إلى جمل من النتائج لعلَّ أهمها ما يأتي:

1 - تبيّن من البحث أهمية نظرية التأويل العربية كأداة بحث في فهم النصوص القديمة، أو تدبّر معانيها القلبية، ولاسيما التي يرد فيها التناقض في الأحكام، إذ يعمل القلب بآلية تأويلية تجعله ملكة تعقّل مبدعة إذا عمل مع العقل المجرد كنظام إدراك داخلي وظيفي، وآليته الإبداعية المعرفية هي (موافقة العقل المجرد ×ونقض قراره الكلي المدعي اليقين المطلق النقي 100٪ مبيناً أسباب النقض الموضوعية المسوِّغة لحق النقض)، ليحمل العقل المجرد على تعديل مقدماته الكلية التي يستخرج منها نتائج تدعي بلوغ اليقين المطلق أو (الدوغمائية)، وهو قرار مفروض على قلب الإنسان التدبري العامل بمبدأ (الحرية) من العقل مستعملاً لغة القلب، وأهمها (اليقين) الذي إذا كان مطلقا 100٪ فإنّه يخرج القلب من نظام الإدراك؛ لذلك ينقضه القلب مسوِّغاً النقض بأسباب موضوعية لا يرّدها العقل المجرد، ما يجعل المعرفة الإنسانية نسبية لا تبلغ (اليقين المطلق)؛ لأنّ جميع الموضوعات العلمية المحسوسة (الطبيعة الفيزيائية والاجتماعية) التي يبحث فيها نظام الإدراك خاضعة لمبدأ (الصيرورة) أي التحول من حال إلى أخرى عبر مرور الزمن.

2 - فسَّر الأنموذج المعرفي النظرية التأويل العربية أسباب الأخطاء التي يقع بها حاسوب الرأس البشري المشتغل بعقلين: (العقل المجرد × التعقّل القلبي التدبري) بأنها ناتجة من انفصام العلاقة بين عنصري نظام الإدراك، ويأتي خطأ العقل المجرد حين يعمل وحده بأن نتائجه عقيمة تمثّل تحصيل حاصل أو مصادرة على المطلوب، ما يجعل الحساب العقلي المجرد بالقياس الأرسطي عقيماً.

ص: 282

أمّا أخطاء القلب حين يعمل وحده فهي أخطاء كارثية، إذ يتحول التعقّل القلبي إلى ملكة أهواء تتسکَّع في الأزمنة والأمكنة الأسطورية، وتُسوِّغ الخطأ والحمق والهذيان حين تتجوّل الأهواء في الظلام بفضاء ما تحت صوفي يحمل صاحبه على ضلالة القول (أنا الله) مثلاً.

3 - العقل المجرد يمثل رأس الإنسان الصوري المجرد من المادة، وملكة الحس التجريبي تُمثّل قدمي الإنسان الماديتين، أما قلب الإنسان فهو الوسط الذي يجمع بين المجرد من المادة (رياضيات العقل أو المنطق الأرسطي) من جهة، والمادي المحسوس من جهة أخرى، ولهذا تشترك ملكات الإنسان الإدراكية كلها في البحث عن الحقيقة، ملكتان داخليتان (العقل والقلب)، والأخرى خارجية (التعقّل الحسيّ)، لتكوين حيز هندسي ثلاثي يحصر نقطة العلم أو الحقيقة في حيز ضيق هو مثلث الإدراك المعرفي السليم، الذي استنبطناه عقلاً، وعززه نص قرآني معرفي لتكوين أنموذج معرفي مغلق، إذا انفتح بإهمال أي ملكة إدراكية فإن نقطة الحقيقة تضيع في فضاء لا متناه یکثر حولها الجدل العقيم الذي يدل على الجهل.

هوامش البحث:

1. المنهج، معرفة المعرفة، إدغار موران: 3 / 141، و 4 / 276.

2. ظ: المنطق، نظرية البحث، جون ديوي: 18.

3. ظ: الفلسفة الألمانية الحديثة، روديجر بوبنر: 156.

4. صحیح مسلم: 1 / 67، ح (45).

5. المعجم الكبير، الطبراني: 11 / 46.

6. ظ: الفلسفة الألمانية الحديثة، روديجر بوبنر: 156 - 157.

7. ظ: المنهج، الأفكار، إدغار موران: 4 / 279.

8. ظ: فلسفة فویرباخ بين المادية والإنسانية، نادية أحمد النصراوي: 7 (المقدمة).

9. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 142.

ص: 283

10. ظ: سیمیائيات التأويل، الانتاج ومنطق الدلائل، طائع الحداوي: 213.

11. سورة البقرة: 290.

12. مستدرك نهج البلاغة، الهادي کاشف الغطاء: 163.

13. سورة الأنعام: 95.

14. سورة البقرة: 260.

15. التعريفات الجرجاني: 0 4 (التأويل).

16. المنهج، الأفكار، إدغار موران: 4 / 413.

17. ظ: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا: 2 / 382.

18. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 669.

19. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 96.

20. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 94.

21. ظ: تجديد الفكر الإسلامي، دليل المسلم القرآني، محمد الطالبي: 128.

22. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 79

23. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 646.

24. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 241.

25. ظ: المنهج، معرفة المعرفة، إدغار موران: 3 / 149.

26. إشارة إلى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ».. سورة الأنبياء: 101.

27. نهج البلاغة، ضبط: د. صبحي الصالح: 87.

28. سورة إبراهيم: 10 - 11.

29. نهج البلاغة، ضبط: د. صبحي الصالح: 46.

30. سورة الفرقان: 63.

31. البيان والتبيين، الجاحظ: 1 / 235.

32. نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح: 140 - 141.

33. روى الطبري هذا الشعور الهلوسي المعتمد على الاستدلال الهذياني الأحمق في رواية له تتصل بمعركة (الجمل)، بقوله: ((وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتّونه، ویشمونه ويقولون: بعر جمل أمِّنا ريحه كريح المسك)). تاريخ الأمم والملوك، الطبري: 7 / 252.

ص: 284

34. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 663.

35. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 669.

36. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 694.

37. الفلسفة البراجماتية، أصولها ومبادئها مع دراسة تحليلية في فلسفة مؤسسها تشارلس ساندرس بیرس، د. علي عبد الهادي المرهج: 65.

38. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 471.

39. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 344.

ص: 285

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ت).

2. تاريخ الأمم والملوك، أبو جعفر محمد بن جریر الطبري (ت 310 ه)، منشورات الأعلمی للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 4، (1409 ه / 1989 م).

3. تجديد الفكر الإسلامي، دليل المسلم القرآني، محمد الطالبي، مطبعة معامل فنزي للطباعة، تونس، 2016 م.

4. التعريفات، أبو الحسن علي بن محمد الجرجاني المعروف بالسيد الشريف (ت 816 ه)، تقديم د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، العراق، (1406 ه / 1986 م).

5. سیمیائيات التأويل، الإنتاج ومنطق الدلائل، طائع الحداوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2006 م.

6. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه)، حقق نصوصه وصححه ورقمه وعدّ كتبه وأبوابه وأحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة (د.ت).

7. الفلسفة الألمانية الحديثة، روديجر بوبنر، ترجمة فؤاد کامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987 م.

8. الفلسفة البراجماتية أصولها ومبادئها مع دراسة تحليلية في فلسفة مؤسسها تشارلس ساندرس بیرس، د. علي عبد الهادي المرهج، دار الكتب العلمية،

ص: 286

بیروت، لبنان، ط 1، 2008 م

9. فلسفة فویرباخ بين المادية والإنسانية، نادية أحمد النصراوي، دار الرافدين بیروت، لبنان، ط 5، 2017 م.

10. مستدرك نهج البلاغة، جمع الهادي کاشف الغطاء، منشورات مكتبة الأندلس، (د.ت).

11. المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، مطبعة سلیمانزاده، قم، ط 1، 1385 ه.

12. المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد، دار إحياء التراث العربي، بیروت، ط 2، (د.ت).

13. المنطق، نظرية البحث، جون ديوي، ترجمة زكي نجيب محمود، میراث للترجمة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010 م.

14. المنهج، الأفكار، إدغار موران، ترجمة د. يوسف تيبس، أفريقيا الشرق، المغرب، 2013 م.

15. نهج البلاغة، ضبط نصه وأبتكر فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، مطبعة رسول، قم، ایران، ط 1، 1426 ه.

ص: 287

ص: 288

عتبة البداية في خطب نهج البلاغة (مقاربة سيميولوجية)

اشارة

م. د. صباح حسن عبيد التميمي

ص: 289

ص: 290

المقدمة:

تتمتع (البداية) بأهمية استراتيجية في النص عامة ونص خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - بشكلٍ خاص؛ لأنّها تمثّل العنصر الذي يكشف عن آليات تكوّن النص، وتشكّله التدريجي عموديا، وهي خلاصة تلخيصية لمناخ الخطبة الدلالي كله؛ إذ تمارس دورا فاعلا في تغذية أجزاء النص التي تليها؛ من خلال فتح الأفق الدلالي أمام المتلقي بما تحمل من حمولة علاماتية يرتفع - على إثرها - مستوى التعالق بين المتن والبداية الاستهلالية لاسيما حين يستغرق المتلقي في قراءة الخطبة، بعد أن يبدأ - بوساطة القراءة المتفاعلة - بربط خيوط العلامات التي أعلنها الاستهلال مع علامات المتن، فهي عنصرٌ علاماتي استشرافي يحمل بعدا تحفيزيا إغرائيا يوجّه القراءة نحو مناطق مهمة للكشف عن جغرافية النص بأكمله.

وقد وظّف الإمام علي - عليه السلام - هذه الاستراتيجية في تشكيل خطبته وتوجيهها نحو المتلقي، وأنتجها بوسائل تحفيزية اشتغلت على توظيف مخزون علاماتي؛ فتح أفق التلقي للمتلقي بقوة اقناعية شديدة، ولاسيما المتلقي المسلم عامة / والموالي لأمير المؤمنين بخاصة.

وقد اقتضت طبيعة الدراسة أن تتشكّل من مبحثين، وقع على عاتق الأول منهما مهمّة الكشف النظري عن مصطلح الدراسة فكان عنوانه (البعد التنظيري: البداية - قراءة في المصطلح والمفهوم والأبعاد)، وأما الآخر فقد وُسِم ب(البعد الإجرائي - خطبة الفتنة أنموذجا) ليشكّل المقاربة الإجرائية للدراسة وفيه اشتغال إجرائي على استراتيجيات البداية، والكشف عن وظائفها في الخطبة الأنموذج، وملاحقة الاشارات والعلامات اللغوية المُنتجة لحقل العلائق بين المنطقة القَبْلِيَّة

ص: 291

المقدمة

(البداية) و المركزية (المتن) والبَعْدِيّة (النهاية).

إنّ قيد الايجاز الذي يتطلبه البحث المؤتَمري أسلمنا إلى ممارسة إجرائنا على خطبة واحدة من خطب کتاب (نهج البلاغة) لكن هذه الحركة الإجرائية ستكون فاتحةً لمشروع كتاب موسّع ينهض على مقاربة خطب النهج كاملةً بحسب آليات المنهج السيميولوجي في قابل الأيام إن شاء الله تعالى، وآخر دعوانا: ((إِنَّا إِلَی اَللَّهِ رَاغِبُونَ وَاَلسَّاَمُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ اَلطَّيِّبِنَ اَلطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِراً)).

ص: 292

المبحث الأوّل: البعد التنظيري

البداية - قراءة في المصطلح والمفهوم والأبعاد والوظائف

1 - البداية المصطلح والمفهوم والاشتراطات في المنظور التراثي:

يُعدّ المصطلح مفتاحا علميا للتقنين، والتبويب، والضبط للاقتراب - في العلوم الانسانية - من المنحى العلمي الموضوعي، والابتعاد عن المجانية واستسهال الدرس النقدي، وقد عرفه التراثُ ووضعَ القدماء حدوده واشتراطاته، لكنّهم لم يستعملوا مفردة (مصطلح) الشائعة عند المحدثين اليوم بل استعملوا مفردة (الاصطلاح) وقد نقلَ المصنفون المعنيون بالمصطلح من القدماء البعد المفهومي له فقالوا أنه: عبارةٌ عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول، أو : إخراج اللفظ من معنی لغوي إلى آخر، لمناسبة بينهما، وقيل: هو اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى. وقيل: هو إخراج الشيء عن معنی لغوي إلى معنى آخر؛ لبيان المراد(1).

لقد زادت العناية بالمصطلح في التراث العربي بعد أن تنوّعت العلوم، وكثُرت الفنون، وكان لابد للعرب من أن يضعوا لما يُستجد مصطلحات تُعيّنه مستعينين على آليات وضع مصطلحي أهمها: الوضع، والقياس، والاشتقاق، والترجمة والمجاز، والتوليد، والتعريب، والنحت، وكانت هذه الوسائل والآليات سببا في اتساع قدرة اللغة العربية واستيعابها للعلوم والآداب والفنون، وقد بذل السَلَفُ جهدا محمودا في وضع المصطلح، وكان الأساس في المصطلح أن يتّفق عليه اثنان أو أكثر، وأن يُستعمل في علمٍ أو فنٍّ بعينه، ليكون واضح الدلالة مؤديا المعنى الذي

ص: 293

یریده الواضعون، ولم يروا بأسا في أن يضع المؤلّف مصطلحه فيشيع أو يُهمل؛ إذ لا مشاحة في المصطلح(2).

إنّ اشتراطات القدماء في وضع المصطلح ترتكز على دعامتين أساسيتين هما (الاتفاق ووضوح الدلالة)، وغالبا ما تتساوى في منظورهم الدلالة المعجمية والاصطلاحية، لكنّ المصطلح التراثي - شأنه شأن المصطلح في كل زمان - قد أنتج إشكالات متعددة أهمها: الاستسهال في استعماله في ضوء قاعدة: لا مشاحة في الاصطلاح، وتعدد المصطلح الواحد الدال على البعد المفهومي الواحد، فقد تجد مصطلحات عدة لمفهوم واحد عند الناقد الواحد، وقد يتكّرر المفهوم عند غيره دون زيادة أو تطوير، على أنّ هذا لا يعني أنّهم قد أهملوا اشتراطات الوضع المصطلحي اهمالا تاما، لكنّهم استسهلوها، ولم يقيّدوا أنفسهم بها، غير أننا - وبعد التمعن في منظومتهم المصطلحية لاسيما فيما يخصّ مصطلحنا المدروس - وجدنا أن المعيار الذي يُمکِّنَك من معرفة اختيار الناقد لمصطلحٍ بعينه وإن تكرّر المفهوم نفسه عند هذا ناقد بصور مصطلحية أخرى يتمثّل بالعنونة الفصلية، فإذا وجدتَ ناقداً قد عنونَ الباب أو الفصل الذي يشتغل فيه على مصطلح (الابتداء أو الاستهلال) بمصطلحٍ بعينه فإنّ هذا يعني أنّه يًفضّل استعمال هذا المصطلح للدلالة على ذاك المفهوم دون غيره، وإن استعمل مصطلحات أخرى في متن دراسته؛ ذلك أنّ اصطفائه للمصطلح ووضعه في منطقة العنونة يحمل بين طياته عناية خاصة بهذا المصطلح دون غيره، مما يوحي بتفضيله له، واختياره إياه من بين البدائل المتاحة له.

ويقع المصطلح موضع الدرس هنا - البداية - في الاشكاليات المصطلحية السابقة نفسها؛ إذ نعثر على مصطلحات متعددة لمفهومٍ واحير في التراث النقدي

ص: 294

والبلاغي، فقد استُعمِلَت مصطلحات: (الابتداء والابتداءات، والمَبْدَأ والَمَبادِئ والافتتاحات، الاستهلال، والمطلع) للدلالة على: المنطقة القَبْلِيّة التي يبدأُ بها النصُّ الشعري أو النثري، ولكنّهم لم يستعملوا هذه المصطلحات على وتيرة واحدة؛ إذ حقّق بعضها اشتراط الشيوع والاتفاق ووضوح الدلالة، وبقي بعضها الآخر في زاوية الشذوذ الاستعمالي المقتصر على ناقد أو اثنين، وسنشتغل في هذا المبحث التنظيري على نمذجة مصطلحية مفهومية تُحدّد الاتفاق المصطلحي عند القدماء في المصطلح المقروء على وفق المعيار الذي وضعناه - اعتماد العنونة بوصفها آلية کشف عن انتخاب الناقد للمصطلح التراثي.

ولا بدّ من التنويه إلى قضية غاية في الأهمية تتمثل في أنّ مساحة اشتغالنا على المصطلح المقروء ستقتصر على منطقة الوعي بالمصطلح في التراث التي تبدأ منذ منتصف القرن الخامس تقريبا، مع ظهور المدارس النقدية والبلاغية ومدرسة (البديعيات) فيما بعد، التي عُنيَت بالتبويب والتصنيف، وعمِلَت على وفق آليات ممنهجة تسير في ضوء ثنائية (التنظير والاجراء) بصورتها البدائية، وستكون مقاربتنا للمتن النقدي القديم بحسب سنة الوفاة حفاظا على التطوّر الزمني للتنظير النقدي والبلاغي استنادا إلى معيار العنونة المذكور سلفا وبحسب الجدول الآتي:

ت | اسم الناقد | وفاته | المصطلح بحسب عنونة الباب | کتابه

1 | ابن رشيق | 456 ه | باب المَبْدَأ، والخروج، والنهاية | العمدة(3)

2 | أسامة بن منقذ | 584 ه | باب المبادي والمطالع | البديع(4)

3 | ابن الأثير | 637 ه | في المبادئ والافتتاحات | المثل السائر(5) + الجامع الكبير(6)

4 | ابن ابي الإصبع | 654 ه | باب حُسن الابتداءات | تحرير التحبير(7)

5 | النويري | 733 ه | حسن الابتداءات | نهاية الأرب(8)

ص: 295

6 | القزوینی | 739 ه | الابتداء | الإيضاح(9)

7 | العلوی | 745 ه | في المبادی والافتتاحات | الطراز(10)

8 | القلقشندي | 821 ه | الابتداء وبراعة الاستهلال | صبح الاعشی(11)

9 | ابن حجة الحموي | 837 ه | حسن الابتداء وبراعة الاستهلال | خزانة الادب(12)

10 | ابن معصوم | 1120 ه | حسن الابتداء وبراعة الاستهلال | أنوار الربيع(13)

وفي ضوء الجدول السابق يمكننا أن نسجّل بعض الملاحظ على مصطلح (البداية) في الخطاب النقدي التراثي أهمها:

1 - سجّلت دلالة (البداية) حضورا لافتا للنظر؛ لأنّ المصطلحات التي هیمنت على عناوين الأبواب تنتمي كلّها للأصل (بدأ) الذي يرجع إليه مصطلح (البداية).

2 - حضور بعض المصطلحات المستعملة التي لا تنتمي للجذر (بدأ) لكن بنسبة لا تمكنها من منافسة المصطلح المهيمن ک(الافتتاح والاستهلال).

3 - إنّ الجمع يُشكّل ظاهرة بارزة في الاستعمال المصطلحي للمفردة في عينات الجدول السابق، ويقابلها انخفاض مستوى افرادية المصطلح؛ إذ استُعمِلت مصطلحات (ابتداءات) و (افتتاحات) و(مبادئ) بصيغة الجمع بدلا من ابتداء، وافتتاح، ومبدأ بصيغة المفرد.

4 - هناك ظاهرة أخرى تتصل بثنائية المصطلح، فالناقد لا يُعنون الباب بمصطلح واحد، بل يستعمل مصطلحين للدلالة على المفهوم الواحد مثل (المبادی والافتتاحات).

ص: 296

5. إنّ المصطلح الذي نجح في اجتياز معيار الشيوع والاتفاق في التراث هو مصطلح (الابتداء)، لكنه سيمرّ باختبار آخر يمثّله معیار تراثي آخر هو (وضوح الدلالة) فهل سيتجاوز هذا الاختبار ليتمّ تثبيته بوصفه مصطلحا منتخبا باتفاق المنظومة التراثية؟

لقد وضع النقاد والبلاغيون القدماء مفهوماً متقارباً لمصطلح (البداية)؛ إذ لم يختلفوا فيه إلاّ بحدود مقدرتهم التعبيرية، وأساليبهم الكتابية، أما فحواه العام فكلّهم أجمعوا على أنّه: أن يأتي الناظم أو الناثر في ابتداء كلامه ببيت أو قرينة تدلّ على مراده في القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده والكاتب أشدّ ضرورة إلى ذلك من غيره ليبتنی کلامه على نسق واحد دلّ عليه من أوّل عِلْم بها مقصده، إما فی خطبة تقليد، أو دعاء کتاب، فيأتي الكاتب في صدر المكاتبة بما يدلّ على عجزها؛ فإن كان الكتاب بفتح، أتي في أوله بما يدلّ على التهنئة، أو بتعزية أتى في أوّله بما يدلّ على التعزية، أو في غير ذلك من المعاني أتى في أوله بما يدلّ عليه؛ ليعلم من مبدأ الكتاب ما المراد منه. وبذلك يجعل مطلع الكلام من الشعر أو الرسائل دالا على المعنى المقصود من هذا الكلام إن كان فتحا ففتحا، وإن كان هناء فهناء، أو كان عزاء فعزاء، وكذلك يجري الحكم في غير ذلك من المعاني؛ إذ ينبغي لكل من تصدى لمقصد من المقاصد وأراد شرحه بكلام أن يكون مفتتح كلامه ملائما لذلك المقصد دالا عليه، فما هذا حاله يجب مراعاته في النظم والنثر جميعا، ويستحب التزامه في الخطب والرسائل والتصانيف، وهكذا حال التهاني والتعازی یکون مبدؤها وتصديرها بما يناسب ذلك المعنى ليكون معلوما من أول وهلة، فحيث يكون المطلع جاريا على ما ذكرناه فهو من الافتتاح الحسن، وحیث یکون جاريا على عكسه فهو معدود من القبيح.(14)

ص: 297

وإذا عدنا إلى معيار (وضوح الدلالة) الذي هو أحد اشتراطات القدماء في الاصطلاح على تسمية ما بوصفها مصطلحا، فإننا لا بدّ من أن نبحث في علاقة الدال الاصطلاحي بجذره اللغوي المعجمي، فمصطلح (الابتداء) يعود إلى الجذر (بدأ): بَدأْتُ باليءِ ابْتَدَأْتُ بالأَمْرِ بَدْءاً ابْتَدأْتُ به وبَدأْتُ اليءَ فَعَلْتُهُ ابْتِداءً وفي الحديثِ الخَيْلُ مُبَدَّأَةٌ يومَ الوِرْدِ أَي يُبْدَأُ بها في السَّقْيِ قبلَ الإِبِلِ والغَنَمِ، وبادِئُ الرأْيِ أَوَّلُهُ وابْتِداؤُهُ، وقال اللحياني أَنتَ بادئَ الرَأْي ومُبْتَدَأَهُ تُرِيدُ ظُلْمنا أَي أَنتَ في أَوَّلِ الرَّأْيِ تُريدُ ظُلْمنا(15).

ولا يخفى ما بين الجذر المعجمي والدال الاصطلاحي من التطابق القائم على دلالة البداية، والانطلاق، والأولية، والافتتاح، فكلّها دلالات تحملها الدلالة الاصطلاحية للمصطلح (الابتداء) الذي اجتاز معیار (الاتفاق) بحسب الجدول السابق، واجتاز معیار (وضوح الدلالة) مثلا تبين هنا بعد مقاربته معجميا.

وفي ضوء هذا نستنتج مخرجات مصطلحية تقضي باصطفاء مصطلح (الابتداء) عند القدماء استنادا إلى معياري (الاتفاق ووضح الدلالة) اللذين مثّلا أهم معايير الوضع المصطلحي في التراث، وبذلك ننأي بأنفسنا عن التعسّف في اختيار المصطلح التراثي، وإخضاعه لمعايير معاصرة بعيدة عن فضائه الزمكاني، ومرجعياته الثقافية، وأسسه المعرفية.

ولم يكتفِ النقاد والبلاغيون القدماء بوضع المصطلح وتحديد بعده المفهومي بالاتفاق التراكمي بل أخضعوا (المبدع) لاشتراطات تتجلّى في معظم مصنفاتهم على نحو مدرسي تعلیمي، تُشير كلّها إلى ثنائية (الخطأ والصواب)، وأسلوب (افعل ولا تفعل) الإلزامي الذي تقوم عليه ثقافتهم، فقد وضعوا أسسَ (الابتداء الحسن)، واستشهدوا له بشواهد متنوّعة قائمة على استقراء التراث الإبداعي الذي

ص: 298

سبقهم؛ لتشكّل معايير إبداعية يحاكيها المبدع إذا ما أراد لعمله النجاح، واستشهدوا بنقائضها (الابتداء المُستَقبَح)، ووقفوا عند أسباب ترديه، وقبحه؛ ليتجنبها المبدع، وينأى بنفسه عن الوقوع بمسببات القبح تلك، ويمكننا أن نلخّص اشتراطات الابتداء الحسن بالنقاط الآتية:(16)

1 - أن يراعي المبدع المقام وحال المُخاطَب، فيكون كلامه ملائما لمقصده، فيفيد المطلوب من أول وهلة، فإن كان هناءً فهناءً، وإن كان عزاءً فعزاءً.

2 - يتعيّن على المبدع النظر في أحوال المُخَاطَبين، وتفقّد ما يكرهون سماعه - في المدح والتهنئة خاصة - ويتطيرون منه، فلا يذكر في افتتاح قصيدةِ مديحٍ ما يُتطيّر منه.

3 - اتفق علماء البديع على أنّ عدم تناسب القسمين (الشطرين) في الشعر نقصٌ في حسن الابتداء.

4 - أن يتأنق المبدع فيه، ويأتي بأعذب الألفاظ، وأجزها، وأرقها، وأسهلها، نظماً وسبكاً، وأصحّها مبنىً، وأوضحها معنىً، وأخلاها من الرِّكّة والحشو والتعقيد.

فإذا جاء الابتداء عكس ما اشترطوا في حُسنه نُسب إلى القبح، ووسموه ب(الابتداء المُستقبح)، وقد استقرأوا التراث الشعري والنثري فوقفوا عند أهم الابتداءات المستقبحة؛ ليحترز المبتدئ منها، ويتجنبها في ابتداءاته.

إن كل ما تقدّم يحيل المتلقي المعاصر على الوعي النقدي والبلاغي التراثي بأهمية منطقة (البداية) وإستراتيجيتها في الأعمال الإبداعية في بعديها المكتوب (شعر ونثر) والشفاهي (الخطب)؛ إذ تمثّل عندهم نقطة إنطلاق قَبْلِيَّة نحو فتح آفاق المتن النصّي الذي يأتي بعدها أمام المتلقي، لتشتغل على استجابته النفسية

ص: 299

والعاطفية، وتضمن تلقيه الايجابي.

2 - البداية: سؤال الأهمية والأبعاد والوظائف في المنظور الحداثي:

ينحصر مجال اشتغالنا الأجرائي الذي سيأتي بمتنٍ ينتمي للحقل التراثي ومن هنا فإن العناية بمصطلح (البداية) من جهة الدال المصطلحي، والبعد المفهومي، ورهانات الاتفاق والاختلاف في المنظور الحداثي هي عناية تقع خارج حدود اهتمامنا هنا؛ لتشعّب الدرس النقدي الحداثي، وتضخّم اشكالياته المصطلحية بشأن المصطلح المدروس، فضلا عن أن العناية بمنطقة البداية بوصفها مصطلحا ذا أهمية بالغة يكاد ينحصر بأجناس أدبية بعينها تنتمي لحقل السرديات (رواية، قصة، سيرة ذاتية)، لكننا سنعتني بالبحث عن إجابات لأسئلة تتجه نحو تحقيب أهمية البداية وأبعادها ووظائفها في الدرس النقدي الحديث؛ لما في ذلك من فائدة توجّه البحث، وتحدّد مساراته الاجرائية، وبتعبير آخر فأننا سنقوم بنمذجة تنظيرية (تراثية حداثية) في محاولة منّا لتعميق الصلة بين الماضي والحاضر لخدمة الدرس النقدي المعاصر.

إن البحث عن إجابات للتساؤلات الآتية: ما أهمية البداية؟ وما وظائفها؟ وما أبعادها وحدودها؟ وهل هي منطقة ملتحمة جسديا مع متن النص أم أنّها عتبة ما قبلية؟ سيُشكّل محور عنایتنا في هذه الفقرة من التنظير؛ لأننا لم نرسّخ في التنظير التراثي السابق هذه الاجابات على نحو تفصيلي انطلاقا من ثقافة الايجاز التراثية وخصوصيته المرحلية.

تمثّل البداية لحظة حاسة تنعكس - بشكل أو بآخر - على أفق انتظار القارئ، ما دامت هي التي تعمل على تيسير ولوجه لعالم النص الحابل بالمفاجآت والانتظارات، انطلاقا من استجابته لفضول أخّاذ یکون مصدره قراءة المنطقة

ص: 300

الماقبلية (ومنها البداية) التي تُشكّل معبرا حاسما إلى عوالم النص، أما غياب عنصر الاثارة والتشويق والجذب في عناصر ما قبل النص، فيدفع القارئ إلى الاحجام عن خوض مغامرة القراءة في حالة (البداية) غير المحفّزة على متابعة القراءة، فكل بداية هي بمثابة نوع من عملية ترويض القارئ، وهي احدی رهانات البداية؛ الكسب ثقة القارئ، وتحفيزه على متابعة القراءة(17).

وتأتي أهمية البداية أو (الجملة العتبة) من كونها حلقة تواصل بين الباث والمُستَقبِل، وعبرها يتمّ تحديد العديد من المنطلقات الأولية التي تهم النص وإفضاءاته، فالبداية مجازفة وباب يقود المتلقي عبر اللغة وعلاماتها إلى عالم النص حيث يتشكّل البناء وتتفاعل المكونات من أجل تحقيق أدبية النص(18).

وتعد (البداية) - في المنظور الحداثي - عتبة أولى بعد عتبة العنوان، وتمثّل بناءً إدراكيا أوّلياً تتشكل معه أحاسيس وأُفق انتظار منسجم أو معدّل عن الأفق الذي خلقه العنوان - في النص الحداثي -، فهي استراتيجية لا تنفصل عن استراتيجيات (النص الموازي / العتبات)، فالتداخل بينهما دقيق، والترابط وطيد، وهي لا تقل اهمية عن بعض العتبات التي تحيط بالنص، ويمكن تصورها أنها موقع استراتيجي مشروط سواء في تعالقها مع العنوان أو مع ما هو خارج النص أو النص نفسه(19).

ولكنّ هذا الطرح يُفضي بنا إلى إشكالية (المكانية)، والتمظهر الموقعي لل(بداية)؛ لأنّ العتبة - كما هو راسخٌ في المنظور الحداثي - مكونٌ خارج نصّي، محیط بالنص، والبداية مكوّن ملاصق للنص، بل هو جزء لا يتجزأ من تكوينه اللغوي، فكيف نخرج من هذه الإشكالية التي لم يعتني بها المحدثون؟

لاشكّ أن الخروج من هذه الاشكالية يكمن في وضع حدود (المتن النصّي)، فهل النص هو (بؤرة المضمون) التي يحاول المبدع أن يوصلها لنا؟، فإن كان كذلك

ص: 301

فيمكننا أن نعد البداية عتبةً بوصفها منطقة قبلية تقع خارج تخوم (المتن النصّي)، وإن كان النص هو هذا الكيان اللغوي القابع خلف عتبة العنوان وما يحيط بها من عتبات أخرى، فإن البداية هنا هي جزء لا يتجزأ من هيكل المتن النصّي، فالرهان يكمن في النظر إلى النص، ولعلّ التجربة المقروءة تُحدّد عتبية البداية من عدمها، وهنا لا بدّ أن لا نُخضِع التجربة المقروءة إلى تصوراتنا القَبلِيّة الجاهزة، ونقحمها فيها، ففي عينة بحثنا هنا - خطبة الفتنة لأمير المؤمنين - تمثّل البداية عتبةً نصيّة تقع خارج المتن البؤري المركزي الحاوي للثيم المضمونية التي أراد الامام إيصالها، وقد عملت هي وجملة (مناسبة الخطبة) - التي نعدّها عتبة أخرى من صنع جامع النهج - على تهيئة المتلقي المعاصر لاستقبال النص، والانفعال معه، والاندماج في أنساقه الدلالة، والعلاماتية.

إن هذا الملفوظ الافتتاحي (البداية) يعمل على تنظيم دخول القارئ السلس في عالم النص، ومناخه الدلالي، وذلك باقتراح تعاقد ضمني للقراءة، يتأسس على أهمية بلاغة البداية المُشَفَّرَة في تلقي النص، والتحفيز على متابعة القراءة، إن هذا الملفوظ هو بمثابة العتبة المفضية إلى التخييل(20).

وتضطلع البداية بتحقيق وظائف متعددة ومتشعبة؛ إذ تتضافر استراتيجية خطاب البداية بعملية القراءة في أفق تحقیق نوع من التواصل الخفي المرغوب فيه، وذلك حينما يرتبط خطاب البداية بوعي القارئ، وفي هذا الأفق تُعطى للبداية مزية التوجيه، بشكل مسبق نحو نمط معين من القراءة، وذلك بما يتناسب ودرجة الوعي الثقافي والجمالي لهذا القارئ، وبهذا التواصل الخفي تُحرَّر قوى الأثر الكامنة في البداية (لغوية كانت أو أسلوبية أو دلالية)، وتقدّم نفسها بهذا الشكل أو ذاك، وعلى المستوى التعبيري يضطلع خطاب البداية بدور تخصیص بوصفه

ص: 302

فضاء تتحدد فيه السمات الأسلوبية الخاصة التي ستطبع النص بعد ذلك بطابعها، ومن ثمّ يبني النص منذ البداية بلاغته الكتابية الخاصة، القائمة إما على الشفافية المباشرة، أو النزوع إلى التصوير التشخيصي، تُضاف إليها وظيفة تأطير الحدث من حیث: مکان وقوعه، زمانه، وفاعله، وإما على الكثافة بما تحمله هذه الإستراتيجية من تشابك وتداخل(21).

ومن أهم وظائف (البداية) الوظيفة الإغرائية التي تعمل على جذب انتباه القارئ؛ وذلك بتحفيز رغبة القراءة لديه؛ إذ تسعى عتبة البداية بكل امكاناتها الفنية الى وضع القارئ في حالة ترقّب قصوى، في انتظار ما سيحدث، بحيث تحثّه البداية على الانغماس في تتبع التفاصيل؛ لمعرفة ما يثوي خلف سطور هذه البداية المشوّقة من أحداث ووقائع(22).

ومن إشكاليات عتبة (البداية) في الدرس النقدي الحديث تأطير حدودها المكانية وأبعادها الفيزياوية على الورق؛ إذ تشكّل عقبة عصية على الفهم البسيط، والتلقي السطحي المتسرّع لاسيما في الخطابات الابداعية المحكمة المداخل، التي تعمل على مراوغة القارئ، ولا تنصاع للقراءة من الوهلة الأولى، فقد تأتي مدمجة من المتن، وقد یمارس المبدع لعبة الخفاء والتجلّي مع المتلقي، فتارة يكشف عن بدايته، وتارة يخفيها، وقد أُنجزت محاولات متعددة في الخطاب النقدي الحديث للوصول إلى إمكانية وضع تعیینات تُحدّد أبعاد (البداية)، متی تبدأ؟ ومتى تنتهي؟ من أي الأماكن تنطلق؟ وأين تقف؟ لكنّها تبقى محاولات نسبية تتأرجح بين القبول وعدمه.

لقد وجد أحد الدارسين المحدثين أن هناك علامات نصيّة أساسية توحي للقارئ بحدوث الانتقال من (بداية) النص إلى عرضه، ولكنها علامات نسبية وليست نهائية، منها:

ص: 303

استحضار الكاتب التعيينات من نوع خطّي: نهاية فصل أو فقرة...

حضور آثار نهاية السرد الأوّلي المُفتتح به من خلال مؤشرات لغوية من قبيل: إذن، بعد هذه البداية، هذا التقديم...

الانتقال من مقطع سردي إلى آخر وصفي...

وغير ذلك من التعيينات التي تنتمي كلها - كما هو واضح - إلى حقل السرد.

ويخلص دارس آخر إلى القول أنه على الرغم من أهمية البداية فان النقاد المحدثین اختلفوا في تحديد نهايتها، فمنهم من قال أنها الجملة الاولى، ومنهم من رأي - وهم الاغلبية - أن هذه الجملة لا تكفي للتعرف على ما تؤديه البداية من وظائف، وقد اهتدى إلى وضع الكيفيات التي تتعيّن بها البداية في العمل الروائي عامة أهمها عندنا:(24)

1 - بعض العلامات التي يضعها المؤلف في نصه مثل: الفواصل، والنقاط، أو الرموز الكتابية الموحية بنقلة نوعية من البداية إلى ما بعدها.

2 - تخصيص بياض أو فراغ من شأنه أن يفصل بين البداية وما يليها ضمنيا.

وغيرها من العلامات المحددة لأبعاد البداية غير أنّها تلائم النصوص السردية الحديثة.

وبحسب ظنّي أن تحديد أطر نهائية لأبعاد (عتبة البداية) هو قضية نسبية غير ثابتة ترتبط بالتجربة المقروءة أيضا، وهي - من ناحية أخرى - تتصل بوعي المبدع المشكّل للنص، وفي تجربتنا المقروءة - خطبة الفتنة للامام علي - تتأطر أبعاد عتبة البداية بأطر دلالية، وشكلية كما سيتّضح، وفي خطب النهج تختلف أبعاد البدايات بحسب اختلاف الخطبة، وما وصل منها إلينا، وثُبّت في النهج.

ص: 304

المبحث الثاني: البعد الإجرائي

خطبة (الفتنة) أنموذجا

رقم الخطبة (92)

مناسبتها: ومن خطبة له (عليه السلام) يذكر ما كان تغلبه من الخوارج

نص الخطبة:

((أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ، وَاَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، فَإِنِّ فَقَأْتُ عَیْنَ اَلْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ

لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَیْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا(25) وَاِشْتَدَّ كَلَبُهَا(26).

فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ

وَبَیْنَ اَلسَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا(27) وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا(28)، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.

وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ(29) اَلْأُمُورِ، وَحَوَازِبُ(30) اَلْخُطُوبِ،

لَأَطْرَقَ كَثِرٌ مِنَ اَلسَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِیرٌ مِنَ اَلْمَسْئُولِينَ، وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ(31)

حَرْبُكُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَكَانَتِ اَلدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ اَلْبَلاَءِ

عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اَللُّهَ لِبَقِيَّةِ اَلْأَبْرَارِ مِنْكُمْ.

إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ(32)، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ(33)، يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ اَلرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً.

أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ

ص: 305

عَمَّتْ خُطَّتُهَا(36)، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ اَلْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا(35)، وَأَخْطَأَ

اَلْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا.

وَاَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ(36)، تَعْذِمُ

بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا

مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ.

وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ اِنْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ اِنْتِصَارِ

اَلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَاَلصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ(37)، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّة(38)، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى(39)، نَحْنُ أَهْلَ اَلْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ(40)، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اَللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ اَلْأدِيمِ(41)، بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ(42) لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا

اَلسَّيْفَ، وَ لاَ يُحْلِسُهُمْ(43) إِلَّا اَلْخَوْفَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ

يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ(44)، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ اَلْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَنِيهِ))(45).

تتشكّل بنية الخطبة العينة من ثلاثة محاور: عتبة البداية ثمّ المتن فعتبة النهاية، وتقع عتبة البداية في (123) کلمة، والمتن: (126) کلمة، والنهاية: (23) کلمة، وهي من الخطب ذات (البداية) المطوّلة؛ ولعلّ طول عتبة بدايتها جاء نتيجة حتمية لترسيخ دلالات: التنبيه، والتحذير والتخويف، والإغراء بالمتن الذي سيليها، وهو العنصر الحامل للمضمون البؤري، وتتحدد أبعاد (عتبة البداية) في الخطبة بوسائل تعیینية لغوية وطباعية شكلية، فتبدأ بقول الامام - عليه السلام -: ((أَيُّهَا اَلنَّاسُ، فَإِنِّ...)) وتنتهي بالتقرير في قوله: ((إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ...

وَيُخْطِئْنَ بَلَداً)، ثم يعقبها المتن النصّي الذي يبدأ بحرف الافتتاح والتنبيه (ألاَ)،

ص: 306

وتأتي (عتبة النهاية) بعده مبتدئةً بعنصر مكاني زماني تمثّل بالظرف (عند ذلك) في قوله ((فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ...)).

وتهدف مقاربتنا إلى تشریح بنية الخطبة مكتملة تشريحا عموديا تراكميا على مستوى المحاور: (عتبة البداية + المتن + عتبة النهاية) للبحث عن (العلامات) والعلائق التي تشدّ أواصر العلامات الكليّة في جسد الخطبة وتؤدي إلى انتاج الدلالة، وأفقيا على مستوى البناء الداخلي لكلّ محور من هذه المحاور على حِدة.

إن الدلالة هي سيرورة وليست معطىً جاهزاً سابقاً على الفعل، فالسلوك السيميائي ذاته، ليس سوى خروج عن إكراهات البيولوجي والطبيعي والولوج إلى عالم ثقافي مفتوح على كلّ الاحتمالات، وبهذا المعنى فإن كل واقعة تستند من أجل دلالتها إلى سيرورة داخلية تجمع بين العناصر المُكوّنة لها ضمن ترابط جليّ لا تنفصم عُراه، إن هذه السيرورة هي ما يُطلق عليه في الدرس السيميولوجي (السيموز) - بحسب بورس - أو الوظيفة السيميولوجية، فهي في تصوّر (بورس) السيرورة التي يشتغل من خلالها شيءٌ ما كعلامة، وتستدعي ثلاثة عناصر يُنظر إليها باعتبارها الحدود التي من خلالها تستقيم السيرورة وتتحوّل إلى نسق يتحكّم في انتاج الدلالات وتداولها وهي:

1 - متوالية صوتية (كلمات) تشتغل کتمثيل رمزي متعارف عليه عند مجموعة لغوية بعينها.

2 - موضوع يستند إليه التمثيل من أجل انتاج الصور الذهنية.

3 - مفهوم يحول الموضوعات إلى صور ذهنية تُغنينا عن الوقائع(46).

ولا شكّ إنّ ((الدلالة تكتسب إطارها الموضوعي من شكل (المُرْسَلَة) أي من

ص: 307

تلك العلاقات التي تنتظم العلامات داخل نسق دال أو داخل سيرورة للدلالات المفتوحة))(47)، إن فضح البعد الدلالي في كل نسق سيميولوجي يقتضي - بحسب بارت - البحث عن تفاصيل ذلك النسق ذاته عبر الأدوات التحليلية للسانیات؛ إذ تمنح اللسانيات المشتغل في التحليل الأدوات الفعّالة في تفكيك النص الأدبي أو أيّ نسقٍ من العلامات(48).

وبناءً على ذلك فإننا سنقارب بنية الخطبة مكتملةً بمحاورها الثلاثة السابقة عبر تقسیم کلّ محور منها لسانيا إلى مستويات اللغة المعروفة: (المعجمي + التركيبي + الدلالي/ التصويري) والتفتيش داخل كل محور عن الأنساق السيميولوجية التي تحكّمت بسيرورة دلالة الخطبة كلّها.

1 - المستوى المعجمي:

ينظر إلى المعجم - في الدرس السيميولوجي الحديث - على أنّه قائمة من الكلمات او الاشارات التي تتردد بنسب مختلفة أثناء نص معين، وكلما ترددت بعض الكلمات بنفسها أو بمرادفها أو بترکيب يؤدي معناها كوّنت حقلا أو حقولا دلالية(49).

وقد هيمن على معجم عتبة البداية حقلان دلاليان كان لهما تأثيرٌ قويٌّ في انتاج الدلالة الكليّة للخطبة - على المستوى المعجمي - عبر شبكة العلاقات التي ستتشابك فيها العلامات اللغوية - فيما بعد - لتبني نظاما دلاليا تمّ تشكيلُه بوعيٍّ عالٍ، وأول هذين الحقلين هو: (حقل الفتنة) المُولِّد لدلالة النص البؤرية المركزية، والآخر (حقل الأنا) المُنتِج لدلالات: الأحقية بالخلافة، والإمامة، والعلم اللدني، والأخبار بالمستقبل، والطرف الايجابي من ثنائية (الحق والباطل)، وهي دلالات سترتبط فيما بعد بالدلالة المركزية للمتن النصّي.

ص: 308

لقد ترددت مفردة (الفتنة) في عتبة البداية بنفسها مرتين في قوله: ((فَإِنِّي فَقَأْتُ عَیْنَ اَلْفِتْنَةِ))، وقوله: ((إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ...)) وتردّدت أيضا بما تفرع منها من مفردات تابعة لها وهي على أرض الواقع نتائج حتمية للفتن، وهي: (الغيهب، الشِدة، الضلال، القتل، الموت، الفقد، الكرائه، الحوازب، الفشل، الحرب، الضيق، البلاء)، وقد شكّلت مجتمعة حقلا دلاليا أنيط به إنتاج دلالة (الفتنة) على المستوى المعجمي في (عتبة البداية) لتؤدي وظيفة (الترهيب)، وتخويف المُخاطَب من عواقب الفتن، ونتائجها المدمّرة، على المستوى العملي: (قتل، حرب، دمار...) وعلى المستوى النفسي: (ضيق، ضلال، فقد، فشل...).

وبالانتقال إلى حقل (الأنا) نجد أن خطاب (عتبة البداية) يُضمر ثيمة مركزية تختبئ سیمیائيا تحت السياق الاضماري المتجلي في ضمائر (الأنا) = (المتكلّم) المهيمنة على نسق الاضمار في عتبة البداية خاصة: الياء في (إنّي)، والتاء في (فقأتُ)، والياء في (غيري)، و(أسألوني)، و(تفقدوني)، و(نفسي)، و(لا تسألونني)، و(فقدتموني)، والتاء في (أنبأتكم)، إن كل هذه الضمائر الأنوية - الضمير هو علامة مضمرة - قد تحولت في السياق إلى (علامات) لغوية ارتفعت فيها نسبة الأنوية ضد (الآخر) المناويء، وبالتمعن في تكرار (الضمائر الأنوية) تتكشف لنا حركة الصراع الحادة بين (الأنا) الامام - عليه السلام -، و (الآخر) = فاعل الفتنة والمعادل الموضوعي لها = (بنو أميّة) الذين يمثلون الطرف الآخر من معادلة (الحق - الباطل)، وتتصل بهذا الحقل حركية الأفعال في عتبة البداية؛ فالامام حين يستعمل (سلوني قبل أن تفقدوني) یکرّس عنصر (الترهيب والتخويف) التي تعمل عتبة البداية - منذ بدايتها - على تحفيزه لدى المُخاطب؛ ليعرف ما ستؤول إليه الأمور إن هو لم ينتشل نفسه، ويتشبّث بطرف الحق (الامام)، ويزداد الشعور بالضياع عند

ص: 309

المُخاطَب القريب (الجماعة التي يخطب فيها الامام) حين يؤشر (حضوره) - عليه السلام - في: (سلوني)، وهو فعل يؤسس لعلمه اللدني، وإخباره بالغيب، الذي يحتاجه المُخاطَب لاستشراف المستقبل، ثمّ يُسجّل غيابه في (تفقدوني) = المستقبل، وهنا تتلبّس (الرهبة) و(الخوف)، و(الضياع) المُخَاطَب من دلالة الغياب التي يحملها فعل الفقد، فإذا غاب الامام تصاعدت نسبة الغموض في فضاء الآتي، وأصبح المستقبل أكثر تخويفاً وإرعابا للمُخاطَب؛ لما يحمله من تیه، وعدم تكشّف، وشرود، وضياع.

وبالانتقال إلى المستوى التعالقي بين المتن النصي للخطبة - على المستوى المعجمي - وبين عتبة البداية تتكشف لنا العلائق القوية بين الاثنين؛ إذ نجد تمثلات معجم البداية السابق في المتن ظاهرة جلية فيما وقع من (تکرار) المهيمن (الفتنة)؛ إذ ترددت المفردة بنفسها وبضمائر تعود عليها (اثنتا عشرة) مرّة في قوله - عليه السلام -: ((أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ اَلْبَاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ اَلْبَلاَءَ مَن عَمِي عَنْهَا))، وقوله: ((تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى، نَحْنُ أَهْلَ اَلْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اَللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ اَلْأَدِيمِ))، لا شكّ إنّ الإلحاح على تردید (الفتنة) بنفسها أو بالمُضمَر التابع لها هو تكريس لفاعليتها البنائية التي ألقت بظلالها على دلالة الخطبة بالكامل، ولكن الدلالة هنا تنفتح ويتكشّف غموض علاماتها؛ إذ یُصرّح الأمام - عليه السلام - بمُسبب الفتن، وفاعلها، فيصبح المُخاطَب ممتلئ الذهن بعد أن كان خالي الذهن على مستوى زمانية وقوع الحدث (الفتنة) المستقبلي، وفواعل الحدث المركزية المُسبّبة له (بنو أمية).

ص: 310

وقد زادت هيمنة أنساق متفرعة من حقل (الفتنة) في المتن النصّي أيضا، حين استعمل المُخاطِب (الامام - عليه السلام -) مفردات معجمية تُحيل على القوّة والقسوة والخوف والوحشية من مثل: (الناب، الضروس، تعذم، تخبط، تزبن، شوهاء، جاهلية)؛ ولم ينتخب مفردات بديلة في معجم (الناقة) مثلا، ومن هنا لا بدّ من معاينة محور الاختيار الاسلوبي، وتشخيص قصدية المُخاطِب - الامام - عليه السلام -، في اختيار المفردات الدالة على الشدّة، والقسوة، فتوظيف هذه المفردات أدى إلى جعل (المتن النصّي) امتداد حتمي ل(عتبة البداية) التي اشتملت على كل دلالات الفتن المؤدیة إلى عالم مظلم تسوده الوحشية، وتغشى فضاءَه ظلماتٌ معتمة.

وعلى الرغم من اختفاء صوت (الأنا) في (المتن) وانخفاض نسبة حضوره، وشيوع ضمائر الآخر القريب (المُخاطَب)، إلا أن وجوده الضمني حاضرا؛ إذ يُقدّم أحداث مُستشرَفَة مستقبلية بآلية السارد كليّ العلم، ويتكشّف أسلوب السرد بشكل ظاهر في نسق الأفعال التامة والناقصة المستقبلية: (تجدُنَّ، تعذم، تخبط، تزبن، تمنع، يزالون، لا يتركوا، ولا يزال، لا يكون، تَرِدُ...) وكلّها تؤسس البناء السردي القائم على وحدة الحدث المستقبلي، ووحدة الشخوص، مع اختفاء عنصري المكان المعلوم، والزمان المُحدّد بتاريخ (يوم، شهر، سنة، عقد، قرن) ما عدا حضوره المستقبلي الغيبي المُضمر في أفعال الاستقبال، لكنّ صوت (الأنا) يُعاود الظهور في عتبة النهاية التي تغلق النص ببناء دائري يعود على البداية الأولى (الأحقية في الخلافة) مع إشارات فوات الأوان حين يقول الامام - علیه السلام -: ((فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ

جَزُورٍ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ اَلْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَنِيهِ.)).

ص: 311

يُفضي تحليل (المستوى المعجمي) لنص الخطبة كاملا إلى نتيجة واضحة تُحيل على قوّة سبك المحاور المُبنْيِنَة للخطبة الصادرة عن وعيٍّ حاذقٍ ببلاغة القول المتشكّلة من عناصر بنائية متآزرة تؤدي إلى بعضها البعض بانسيابية عالية دون إقحام ما ليس لها فيها، وهي ترسّخ مقولة (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق الشهيرة)، فضلا عن أنه - أي التحليل - يُبرز وظيفة عتبة البداية القائمة على ثنائية (الترغيب، والترهيب)، الترغيب المتج-لي في فتح شهية المُخاطَب إلى معرفة دلالات العلامات الغامضة المتموقعة في عتبة البداية، والترهيب المتحقّق بعلامات التخويف المتوزّعة بين البداية والمتن والتي تجلت على نحو انتشاري في المتن النقصّي لتحقّق مستوى علائقي عالٍ بين العناصر العلاماتية المشكّلة لجسد الخطبة في مناطق (البداية والمتن والنهاية).

2 - المستوى التركيبي:

سنحاول في مقاربتنا للمستوى التركيبي النحوي أن نغادر جمودية التركيب المتأتية من صرامة النظام القواعدي التعليمي للنحو العربي الذي حوّل اللغة إلى قطع حديدية مشكّلة بانتظام ما إن تحيد عن نظامها حتى ينقلها إلى حقل آخر في میدان آخر يُسمّى (علم المعاني)، لننتقل إلى تفعيل دور الجملة المشكّلة للتراكيب اللغوية الفاعلة في النص من حيث فاعليتها في خلق علامات سيميولوجية تُسهم في تفعيل حركية الدلالة وسيرورتها عبر جسد الخطبة كله.

إن بنية التركيب تتجسّد - على المستوى اللغوي - في الجملة التي هي البنية الاساسية الصغرى وفي النص الذي يمثّل البنية الكبرى(50)؛ لذا فإنّنا سنتحرّك تحركين الأوّل خاص على مستوى التركيب الجملي في الخطبة - بمحاورها الثلاثة کما فعلنا سابقا -، والآخر عام على مستوى العلائق بين التراكيب الجملية في

ص: 312

المحاور الثلاثة كلّها.

اشتمل التركيب الجملي في نص الخطبة كاملا على مؤشّرات تركيبية هامة، فعّلت دور محاورها، وزادت من شدّ أواصرها، وبنائها المُحكَم، ورسّخت فاعلية (عتبة البداية) من خلال تحقيق وظيفتها المنوطة بها، وسنوزّع اشتغالنا - على المستوى التركيبي العام للخطبة - على بنيتين: الأولى: (بنية التركيب الجملي - الفعلیة والأسمية)، والأخرى: (بنية التركيب القَصِري)، فنعمد إلى مقاربتهما في المحاور الثلاثة كلّ محورٍ على حدة، ثمّ ننتهي إلى تركيب النتائج في المستوى التعالقي.

إنّ أهم ما يلفتُ نظرنا في عتبة البداية على مستوى البنية التركيبية الجملية ارتفاع نسبة الفعلية (التامة لا الناقصة) على الأسمية؛ إذ ترددت التراكيب الجملية الفعلية تسعا وعشرين مرّة في الأفعال: (فَقَأَتُ، لِيَجْتَرِئَ، مَاجَ، اِشْتَدَّ، اسْأَلُونِي،

تَفْقِدُونِي، تَسْأَلُونَنِي، تَهْديِ، تُضِلُّ، أَنْبَأَتْكُهُم،ْ يقُتَلُ، يَمُوتُ، فَقَدْتُمُونِي، نَزَلَتْ، لأطْرَقَ، فَشِلَ، قَلَّصَتْ، شَمَّرَتْ، تَسْتَطِيلُونَ، يَفْتَحَ، أَقْبَلَتْ، شَبَّهَتْ، أَدْبَرَتْ، نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ، يُعْرَفْنَ، يَحُمْنَ، يُصِبْنَ، يُخْطِئْنَ)، ولا شكّ أن هذا التتالي الجملي الفعلي يحمل علامات: (الحركة، الاضطراب، الاختلال، التموّج، الارتفاع والانخفاض) التي تؤدّي كلّها إلى الإحساس بعدم الراحة، والإفضاء إلى الشعور بالرهبة، والخوف؛ لأنّك إذا كنتَ خالي الذهن من قضيّة ما، والأمور لديك محاطة بهالة من الغموض، وأنت بعيدٌ عنها في فضاء مغلق، وتسمع جلبة، وحركة شديدة، وانفعالات متتالية خارج فضائك المغلق وملاصقة له في الآن نفسه، فإنّ هذا كله سيُحرّك عندكَ الرهبة، والخوف من المجهول الآتي، والمستقبل الغامض، ستعيش في الحاضر - والحال هذه - بفضاء سكونيٍّ مريب، مشوب بالترقّب والحذر

ص: 313

والترصّد؛ لأنّك تسمع كلّ ذلك ولا تعرف نهايته أو مسبباته، وكذلك عتبة البداية فإنّ حضور البنية التركيبية الجملية الفعلية فيها، مع ما يرافقه من دلالة الحركة، والاضطراب، وعدم السكون، وعدم الراحة، يجعلها تُحقّق وظيفة (الترهيب) السابقة التي حققتها على المستوى المعجمي؛ لأن الحدث المركزي (فتنة بني أمية) لم يحن الإخبار عنه بعد، وهذا يولد رهبة فظيعة من الآتي الغائب، تزيدها رهبةً أخرى هذه المتوالية الجملية الفعلية الحاملة لدلالات: (الشدة، التموّج، الفقد، الضلال، القتل، الموت، النزول،، التباس الحق بالباطل - في شبّهت-، الإدبار، الإنكار، الحوم حول الشئ).

وتنتقل هذه الحركية المخيفة إلى فضاء (المتن) الجملي، فتُهيمن البنيات التركيبية الجملیة الفعلية على مستواه التركيبي محدثة ما أحدثته في البداية على نحو أكثر تخويفا، وفظاعة؛ إذ تتكرّر البنى التركيبية الجملية في الأفعال: (عَمَّتْ، خَصَّتْ، أَصَابَ، أبْصَرَ، أَخْطَأ،َ عَمِيَ، لَتَجِدُنَّ، تَعْذِمُ، تَخْبِطُ، تَزْبِنِ، تَمْنَعُ، یَتْرُكُوا، تَردِ،ُ يُفَرِّجُهَا، يَسُومُهُمْ، يَسُوقُهُمْ، يَسْقِيهِمْ، يُعْطِيهِمْ، يُحْلِسُهُمْ)، ولكنّ حضورها في (المتن) لم يتحقّق على وتيرة واحدة؛ إذا تتصاعد وتيرة الفعلية تارة، وتنخفض أخرى، في حركة عمودية متموجة هبوط ثمّ ارتفاع بحسب الدلالة، ففي قوله - عليه السلام -: ((وَاَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ، تَعْذِمُ

بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا

مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ.)) تتصاعد الوتيرة لأن المقام يتطلّب التوالي، والشدّة، والقسوة، والتخويف، وتنخفض في قوله: ((وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ

حَتَّى لاَ يَكُونَ اِنْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ اِنْتِصَارِ اَلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَاَلصَّاحِبِ

مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ)) ثمّ تعود لتتصاعد مرّة أخرى في قوله: ((ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اَللَّهُ عَنْكُمْ

ص: 314

كَتَفْرِيجِ اَلْأَدِيمِ، بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لاَ

يُعْطِيهِمْ إِلاَّ اَلسَّيْفَ، وَ لاَ يُحْلِسُهُمْ إِلاَّ اَلْخَوْفَ))، إنّ هذا التذبذب في نسبة حضور البنية التركيبية الفعلية مرتبطٌ بحساسية الحدث المسرود المُستَشرَف، فتتصاعد بتصاعد حدّة الحدث، وتنخفض بانخفاضه حتى وصول العقدة إلى الحل، ثم تأتي عتبة النهاية لترتبط بالبداية والمتن - على المستوى العلائقي - ارتباطا بنيويا فعليا، فتصدر عن متوالية فعلية تتطلبها الأحداث المستقبلية التي لا تعرف السكون: ((فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ

جَزُورٍ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ اَلْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونَنِيهِ.))، وهي عتبة نهاية تحيل على استشراف نهاية الأحداث في المستقبل بنضوب بني أُميّة، وفناء ملكهم القصّة المشهورة؛ قال ابن أبي الحديد (ت 656 ه) عن هذه النهاية: ((وهذا الكلام إخبار عن ظهور المُسَوِّدَة(51) وانقراض ملك بني أمية، ووقع الأمر بموجب إخباره صلوات الله عليه، حتى لقد صدق قوله: «تود قريش...» الكلام إلى آخره، فإن أربابَ السِّيَر كلهم نقلوا أن مروان بن محمد قال يوم الزاب لما شاهد عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بإزائه في صف خراسان: لوددت أن علي بن أبي طالب لا تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى والقصة طويلة و هي مشهورة))(52)، إنّ هذه الرواية غاية في الأهمية؛ إذ تُفصح عن العلم اللدني للامام علي - عليه السلام -، وترسّخ مقولة إخباره بالغيب، والمستقبل الذي سيقع، وعتبة النهایة هنا تعود بحركة ارتدادية إلى علامات عتبة البداية التي تُحيل كلّها على أحقية الامام بالأمر، وعلمه اللدني الذي لا يصله الآخر السلبي، واستشرافه للمستقبل الآتي، وتتجلّى هنا بلاغة الإمام - عليه السلام - القائمة على إحكام صنعة الكلام وبنائه على نحوٍ ترتبطُ فيه ابتداءاتِه بانتهاء ايه في تشكيلةٍ علاماتيةٍ تغذّي سيرورةَ الدلالةِ في جسد الخطبة كلّه.

ص: 315

وتُحقّق بنية التركيب القصري حضورا فاعلا في جسد الخطبة كلّه؛ على الرغم من انخفاض مستوى الحضور الكمّي لها، إذ ترد في البداية مرّة واحدة في قول الإمام عليه السلام: ((فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَالَّذِي نَفْيِ بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونَنِي

عَنْ شَيْءٍ فِياَ بَيْنَكُمْ وَبَیْنَ اَلسَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ

بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالَهِا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً،

وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.)) لكنّها على مستوى الحضور النوعي تحضر بفاعلية عالية؛ إذ تأتي مُحمّلَةً بعلامات هامة تؤشر ثيمة عملت عتبة البداية على ترسيخها وهي التخويف من فقد (المُستشرِف) = الامام - عليه السلام - و(إثبات العلم اللدني) له؛ إذ يأتي الاشتغال على التركيب القصري في عتبة البداية ضمن سياقها العام لتقرير ذلك وترسيخه لدى المُخاطَب؛ لأنّ بنية القصر هنا - بحسب رأيي - تمثِل تشكيلا لغوياً يُضمر صراعاً داخلياً بين (الأنا) = (الإمام - عليه السلام -) التي ستُفقد، والآخر المناوئ (بنو أمیّة)، فقصر فعل (الإنباء) على (المقصور عليه) = الإمام - عليه السلام - الذي يأتي بعد أداة الاستثناء على نحو إضماري في الفعل (أَنْبَأْتُكُم) - يعمل على تحقيق انتصار المقصور عليه (الإمام) على الآخر، وترسيخ مقولة (العلم اللدني) ويقتضي هذا من المتلقي إتباع المقصور عليه، ونبذ - الآخر المعادي.

وثمة انتظام علاماتي مُضمر عجيب بين التركيب القصري المتموقع في عتبة البداية والتركيبين القصريين اللذين تموضعا في (متن الخطبة)، وهو انتظام ناتج عن السيرورة الدلالية للخطبة كلّها؛ فبعد أن اشتغل التركيب القصري في عتبة البداية على ترسيخ دلالتي: (خوف الفقد) و(العلم اللدني) وقصره على الامام - عليه السلام -، جاء التركيبان القصريان في المتن ليشتغلا على دلالة (الترهيب

ص: 316

والتخويف) ذاتها؛ ذلك أن قوله التحذيري المبدوء بالقسم: ((وَاَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ

بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ، تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا،

وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ

غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ))

يحمل في تركيبه القصري دلالة (الترهيب) من الآتي بعد فقده، وعدم اتباعه، التي تُفضي إلى نتيجة حتمية تُرسم في تصوّر جماعة المُخاطَبين تتمثّل بإذلالهم، وتحقيرهم من لدن بني أمية إن لم ينصروا طرف الحق - الامام - في ثنائية (الحق - الباطل)، ويأتي التركيب القصري الثاني في قوله - عليه السلام -: ((وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ اِنْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ اِنْتِصَارِ اَلْعَبْدِ

مِنْ رَبِّهِ)) ليؤكّد ظاهرة الانتظام والتوافق بين التراكيب القصرية التي اتحدت لتشكيل شبكة علامية تنظم الدلالة على المستوى التركيبي بين البداية والمتن، فكأن التركيبين القصريين في المتن ما هما إلا (نتيجة) حتمية لل(سبب) الذي تمثّل بالتركيب القصري المتموضع في عتبة البداية.

3 - المستوى الدلالي (التصويري):

إذا كانت فاعلية التشكيل التصويري في النص تتجلّى في المستوى الجمالي الذي تنزاح به عن التقريرية وتُدخل المتلقي إلى عوالم خيالية، وتعمل على تفعيل ثنائية (المثير والاستجابة) في سلوكها هذا، فإنّ فاعليتها - في التحليل السيميولوجي - تبرز على نحو مزدوج؛ إذ تُفعّل الأبعاد العلاماتية المُضمرة في تشكيلها إلى جانب تفعيل الأبعاد الجمالية، ومن هنا فإن المُحلّل السيميولوجي يضطلع بمهمة ثنائية تقتضي تشريح (العيّنة التصويرية) على المستويين الجمالي والعلاماتي (لأنّ الصورة علامة مُشكَّلة فنيّاً)؛ لتحقيق هدفه المنشود: كيف أُنتِجت العلامة في النص؟ وكيف خلقت السيرورة (السيموز) الدلالية؟

ص: 317

وإذا كان المعنى يشير إلى كمٍّ ماديٍّ عديم الشكل وسابق على التمفصل (التَشَكُّل)، فإن الدلالة هي الناتج الصافي لهذه المادة وهي وجهه المتحقق بعد التشكّل، ولهذا فهي من جهة ليست مفصولة عن شروط انتاجها، فكل نسق له إرغاماته الخاصة، وله أنماطه في إنتاج دلالاته (النصوص، الصور، الوقائع الاجتماعية...)، وليست مفصولة من جهة ثانية عن التدليل ذاته، فالدلالة ليست معطى جاهزا - کما قلنا سابقا - بل هي حصيلة روابط تجمع بين أداة للتمثيل لا وبين شيء يوضع للتمثيل ضمن رابط ضروري يجمع بين التمثيل وما يوضع للتمثيل، أي ما يضمن الاحالة استقبالا على الموضوع نفسه في حالاته المتنوّعة(53)، فمعنى الشمس المادي - على سبيل المثال - يحيلنا على هذا الجرم السماوي، ولكنّ دلالتها لا تُنتج إلا إذا تشكّلت في نسق معين، فحين يقول السيّاب: (الشمسُ أجملُ في بلادي والظلام... حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق) فإنّ الشمس تُنتِجُ دلالتَها في هذا النسق بشكل مغاير لمعناها المادي الأوّلي، وتكتسب بعدا علاماتياً لا يتحقّق في معناها الفطري الأوّلي السابق.

إنّ العلامات التصويرية الدلالية الواردة في نص خطبة الامام تتشكّل في نسق عام تحكمه السيرورة الدلالية العامة للخطبة، والتي قد اتضح أغلبها في المستويين السابقين؛ لذا سنقف عند العلامات التصويرية في محاور الخطبة للتفتيش عن الدلالات المتفرّقة التي تُنتجها علاماتها خدمة للدلالة المركزية في نص الخطبة.

يتشكل المستوى التصويري الدلالي في الخطبة - بكلّ محاورها - من تشكيلات استعارية، ومجازية، وتشبيهية تعمل في كلّ محورٍ على حدة؛ لتخليق علامات وإشارات هامة من شأنها أن توجّه المتلقي المعاصر إلى نقاط الإضمار الدلالي الكامن خلف التشكيلات الجمالية التي تعمل في شبكة علائقية مشتركة لانتاج

ص: 318

الدلالة المركزية.

وتمثّل (عتبة البداية) - على المستوى الدلالي التصويري - السلطة المُهيمنة على الجماليات التصويرية المختزنة للعلامات، والاشارات الدالة في جسد الخطبة كلّه؛ إذ تؤدّي - بوصفها عتبة مُوَجِّهَة -: وظيفةَ الإغراء بالنسبة للمتلقي المعاصر - أنا وأنت وهم -؛ لفتح أفق التوقّع لديه، وحثّه للبحث عن مركزية الحدث الذي سيبثّه الامام - عليه السلام - في المتن بعد عبور البداية، ومحاولة التوليف بينها وبين المتن، ووظيفتي (الترهيب) و(الترغيب) بالنسبة للمُخاطَب الحاضر حضوراً زمانيا ومكانيا فعليا وقت إنتاج الخطبة في زمانها ومكانها التاريخي الحقيقي، فنصُّ الامام - عليه السلام - هو نصٌّ عابر للأزمنة، يصلُح لكلّ زمانٍ ومكان، وهو حين يصدر عن بناءٍ محكم بآليات بلاغة فاعلة، عالية المستوى، فإنّه يُعزّز من طرح عمومية الخطاب، الذي يُسجّل حضوره في كلّ زمانٍ ومكان، وتذوب فيه الخصوصية التخاطبية الضيّقة أو المحلية، وينفتح نحو الكونية الشاملة؛ لأنّ كلام الامام - عليه السلام - هو امتداد طبيعي لبلاغة الله - عزّ وجل - ورسوله - صلّى الله عليه وآله -، وهو ينتمي لحقل اللغة العُليا التي لا تُحدّدها أُطرٌ زمانية / مكانية، تقتحمُ بتجلياتها البلاغية، وبفعالية حضورها فيزياوية الزمن الطبيعية.

وقد حقّقت (عتبة البداية) وظائفها هذه بوسائل تشكيل جمالية تصويرية فاعلة يأتي في مقدمتها (التشكيل الاستعاري) الكامن في قوله - عليه السلام -: ((فَإِنِّ فَقَأْتُ عَیْنَ اَلْفِتْنَةِ)) وفاعلية هذا التشكيل تأتي من أهميته المركزية من خلال: (الموقعية) - حضوره في أول عتبة البداية -، و(أَسْطَرَة الصورة) التي أنتجت وظيفة (الترهيب والتخويف) من خلال الإحالة على عوالم وهمية خرافية قائمة على الأبعاد المثيولوجية الموروثة عند العرب، وإثارة ذهن المُخَاطَب بوسائل

ص: 319

تهويلية مثّلت عنده هاجساً نفسياً ماورائياً (الغول، السُعلاة) في المنظومة الثقافية قبل الإسلام وبعده.

فالغيلان مثلا وهي كائنات خرافية أسطورية کائنات خرافية أسطورية تتّسم بسمات خَلقية مشوّهة تميّزها عن الأنس - عيناها مشقوقتان بالطول لا بالعرض، وأما رجلاها فرجلا حمار(54) - كانت تمثّل أسطورة خرافية مرعبة لدى العربي قبل الإسلام وبعده، إنّ هذا الكائن الخرافي الوهمي الذي بين الانسانية والحيوانية، بين الذكر والأنثى والذي كان حقيقة ذهنية لدى العرب قبل الإسلام بقي في الذاكرة الشعبية بعد الإسلام(55)، ولا ريب إنّ بعض ما وصلنا من الأساطير وإن كان متأخّرا زمانياً بعد مجئ الإسلام لا يمنع من أنها حتى في تلك الصورة تحمل في تضاعيفها أصداء الماضي البعيد الذي لا يُمحى من الذاكرة الجمعية؛ لأنّ الرواية الجماعية - وهي ضرب من الرقابة الاجتماعية - قد احتفظت به، وتداولته وهو يُصّور لنا العالم الأسطوري الذي يتمّ استحضاره، ولا شك في أنّه قد استمرّ في التاريخ الإسلامي(56).

وقد تحقّقت هذه الأصداء المُخيفة في (التشكيل الاستعاري) السابق بوساطة آلية الاستبدال من خلال استعارة مفردة (عين) - عنصر بشري / حيواني مادي - لمفردة (الفتنة) - عنصر معنوي تجريدي لا يُحقّق حضورا فيزياويا ملموسا - في التركيب الإضافي (عين الفتنة)؛ وقد أنتجت هذه الحركة الانزياحية تحولاتٍ دلالية على مستوى الحقيقة والمجاز أدت إلى تفعيل دور الأسطوري الخرافي المُتخيّل وتراجع الحقيقي المادي الملموس، وقد أدّى ذلك إلى أسطرة الصورة من خلال الإحالة على (كائن مرعب مخيف بعين واحدة) يماثل الكائنات الأسطورية المترسّخة في ذاكرة المُخاطَب، وهذا يؤدي إلى تفعيل الإحساس بالخوف من هذه

ص: 320

الصورة المشوّهة التي ستظهر لهم في المستقبل القريب، وسيُشير لها الامام في متن الخطبة أيضا بتشكیلات جمالية أخرى.

ولا ريب أن التشكيل الاستعاري ليس ((مجرّد استخلاص لصفات مشتركة بين طرفيه، فقد يكون صورة لمشاعر صاحب التعبير تجاه الأشياء وموقفه نحوها))(57)؛ لذا فإنّ تشکیل (عين الفتنة) الاستعاري يؤشّر للمتلقي علامتين مهمتين أولاهما: (أحقية الامام واختلافه عن كل المتصدين لمسند الخلافة)، بوساطة مشهد البطولة والتفرّد - ((وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَیْرِي)) - المتحقق بِفَقءْ عينِ (الفتنة) من لدن الإمام - عليه السلام -، البطل الحقيقي في مشهد الصراع الدائر بين (الحق) - الإمام - و(الباطل) = (الفتنة ذات العين الواحدة) المعادل الموضوعي ل(بني أمية)، وقد أشار ابنُ أبي الحديد المعتزلي لذلك حين قال: ((ومعنی فقْئِه - عليه السلام - عينَ الفتنة، إقدامه عليها حتى أطفأ نارها، كأنه جعل للفتنة عينا محدقةً يهابُها الناس، فأقدم هو عليها، ففقأ عينَها، فسكنت بعد حركتها وهيجانها. وهذا من باب الاستعارة، وإنا قال: «ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري» لأن الناس كلَّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتبعُون مولِّيهم أم لا؟ وهل يُجْهِزُون على جريحهم أم لا؟ وهل يُقسِّمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال من يؤذّن كأذاننا، ويصلّي كصلاتنا، واستعظموا أيضا حربَ عائشة وحرب طلحة والزبير؛ لمكانهم في الإسلام... فلولا أنَّ عليّاً اجترأ على سلِّ السيف فيها ما أقدم أحدٌ عليها))(58)، وأمّا العلامة الأخرى فتتمثّل ب(دلالة الترهيب والتخويف) التي تحملها صورة (الكائن المشوّه المرعب = الفتنة ذات العين الواحدة)؛ للوصول إلى الهدف المركزي: التحذير من مغبّة عدم اتباع الحق = عليّ - عليه السلام -.

ص: 321

ومن التشكيلات الجمالية التي اشتغلت في عتبة البداية اشتغالا مزدوجا - جمالياً وعلاماتياً - التشكيل الكنائي المتمثّل بتشكيل: (شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ) في قوله - عليه السلام -: ((وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَكَانَتِ اَلدُّنْيَا عَلَيْكُمْ

ضِيقاً)) الذي هو نتيجة للكلام السابق المؤدّي لدلالة الفَقد: ((وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي

وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ اَلْأُمُورِ، وَحَوَازِبُ اَلْخُطُوبِ، لَأَطْرَقَ كَثِرٌ مِنَ اَلسَّائِلِينَ، وَفَشِلَ

كَثِرٌ مِنَ اَلْمَسْئُولِينَ))، وهو تشکیل متناص مع الآية القرآنية: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ» قد قِيل في تفسيرها أن ((الْكَشْفُ عَنْ سَاقٍ: مَثَلٌ لِشِدَّةِ الَحْالِ وَصُعُوبَةِ

الْخَطْبِ وَالْهَوْلِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الَمْرْءَ إِذَا هَلَعَ أَنْ يُسْرِعَ فِي الْمشْيِ وَيُشَمِّرَ ثِيَابَهُ فَيَكْشِفَ

عَنْ سَاقِهِ... فَإِذَا قَالُوا: كَشَفَ الْمَرْءُ عَنْ سَاقِهِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ هَوْلٍ أَصَابَهُ وَإِنْ لَمْ

يكن كشف سَاقه. وَإِذَا قَالُوا: كَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقٍ، فَقَدْ مَثَّلُوهُ بِالْمَرْأَةِ الْمُرَوَّعَةِ،

وَكَذَلِكَ كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقِهَا، كُلُّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ سَاقٍ))(59)، وهذا ينسحب على التشكيل الكنائي (شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ) الذي وظفه الإمام - عليه السلام - في عتبة البداية ليُسهم في تأكيد دلالة التهويل والتخويف والترهيب التي اشتغلت البداية على ترسيخها بوسائل تشکیل متعددة معجمية وتركيبية ودلالية.

فالتشكيل الكنائي السابق جاء متساوقا مع وظيفة البداية، لا ينفصل في دلالته، وقيمته، وفاعليته عن السياق العام لها؛ إذ يُفجّر الشعور بالرعب لدى المتلقي، ويُثير حساسيته تجاه المستقبل المرعب الآتي، ويفعّل في ذهنیته دلالات التخويف، والترهيب، وقد آزر التشكيل المجازي المتجلي في قوله - عليه السلام - ((وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ)) التشكيل الكنائي السابق لإنتاج الدلالة المطلوبة، وهو هنا (مجاز عقلي)؛ إذ أسند فعل (التقليص) = الانقباض لل(حرب) وهو ليس ها على وجه الحقيقة بل للمُتحاربين، فالفعل (قلّص) لغوية يحيل على: الانقباض

ص: 322

والانكماش الذي يسبقه التموّج والحركة الارتدادية: ((تقلّص الظلُّ وغيره، إذا انقبض.))(60)، ((وقَلَصَ وقَلَّصَ وتَقَلَّصَ، كله بمعنى انضمَّ وانزوى))(61)، وهي حركات لا تقوم بها الحرب؛ لأنّها واقعة مصنوعة بوساطة فاعلين (الجنود)، وليست متشكّلةً بإرادتها، قال ابن ابي الحديد - في قول الامام - عليه السلام - (وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ)) -: ((أراد انضمَّتْ واجتمع-ت وذلك لأنّه يكون أشدّ لها وأصعب من أن تتفرق في مواطن متباعدة ألا ترى أن الجيوش إذا اجتمعت كلُّها واصطدمَ الفيلقان كان الأمر أصعب وأفظع من أن تكون كلُّ كتيبة من تلك الجيوش تحاربُ كتيبةً أخرى في بلاد متفرِّقة متباعدة وذلك لأن اصطدام الفيلقين بأجمعهما هو الاستئصال الذي لا شوى له و لا بقيا بعده))(62).

إنّ الإمام - عليه السلام - يُصوّرُ - في هذا التشكيل المجازي - مشهدا عظيما فيه من التهويل، والتخويف الشيء الكثير؛ إذ أنّ انقباضَ الحرب وانكماشها، وتقلّصَ فضائِها المكاني بحركة ارتدادية متموّجة وعنيفة ما هو إلاّ نتيجة حتمية لشدّة التحام الفريقين المتقاتلين، وقوّة التصاقهما ببعضهما، إلى درجة انكماش الرقعة التي يتقاتلون عليها، وانقباضها بحيث لا يرى الناظر إلى ساحة المعركة من زاوية نظر فوقية إلّا كتلةً قاتمة؛ نتيجة للتلاحم والتشابك، وهو منظر مهول يُمشهِد حالة الرعب، والخوف، والقتل، والفتك ويعرضها أمام المُخاطَب الذي يفعّل حالة التخييل الذهني فيتصوّر هذا المشهد المرعب أمامه، ويتخيّل نفسه وسط المعمعة، فيُحقق المُثِير (التشكيل المجازي = قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ) استجابةَ المُخاطَب المتمثّلة بشعوره بالرهبة والخوف من المستقبل الآتي إذا بقي صامتاً أو وقف بجانب طرف الباطل ولم يُناصر الحق.

ويمتدّ هذا النس-ق التخويفي المُضمر في التشكيلات الجمالية إلى متن الخطبة

ص: 323

فيتجلّى في تشكيلات متعددة أهمّها الاستعارة في قوله - عليه السلام - واصفاً فتنة بني أمية: ((فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ)) وقوله: ((تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً،

وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى))، والتشبيه في تشكيل: ((كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ)) الذي سيأتي، فبوساطة الاستعارة الأولى: (فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ

مُظْلِمَةٌ) نتج علامات: الفوضى والحركة غير المدروسة، والاضطراب المُميت، والعتمة المُنتِجة للفضاء المظلم، وكلّها علامات تؤدّي إلى بثّ الشعور بالخوف لدى المُخَاطَب، وهو مشهد مخيف بغموض؛ لأنّ الأعمى - على سبيل المثال - إذا أُعطِي سيفاً وأُسند بسلطة تحميه وأُمر بالفتك بالناس في مكان ذي فضاءٍ مغلقٍ بإحكام سیقترف مجزرة دموية بشعة؛ إذ أن فقدانه النظر يُفقده رؤية وجوه من يفتك بهم، هذه الرؤية التي قد تُسهم في لجم عنفه عندما يرى عيون الأبرياء الصامتة تنظر إليه، وتستعطفه وهي تحاول التشبّث بالحياة التي قد يمنحها لها؛ إذا ما قرّر أن يُخفّف من قسوته، ويحد من خَرِقها، إنّ هذا المثال ينطبق على التشكيل الاستعاري السابق؛ فالفتنة خرقاء، تؤدّي إلى نتائج مدمّرة، وتصويرها بهذه الصورة يُحيل على العموم لا الخصوص الذي قد يختبئ خلفه بعض المُخاطبين، فيرى أنّ انزواءه، وعدم تدخلِه يحولُ دون وقوعه في حبائلها، والحقيقة أن الفتنة إذا وقعت عمّت.

وتُحقق الاستعارة الثانية (تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً: أي قبيحة) بعدا علائقياً فاعلا؛ إذ تعود بحركة ارتدادية إلى التشكيل الأستعاري الأوّل (عين الفتنة) المتجلي في (عتبة البداية)؛ لتآزرَه في خلق محورٍ مهمٍّ من محاور الدلالة في السياق الدلالي العام للخطبة، وهو محور (الترهيب والتخويف)؛ إذ أنَّ تشکیل الصورتين، وتركيبهما بصورة واحدة مركّبة يُنتج تشکیلا تصویریا فاعلا: (فتنة بعين واحدة مشوّهة قبيحة)، يعمل على تكريس دلالة التخويف التي تتآزر كلّ

ص: 324

مستويات الخطبة على إيصاله للمُخاطَب.

ويختزن التشكيل التشبيهي: (كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ) الوارد في قوله - عليه السلام -: ((لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ، تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا)) علامات دلالية هامة صدرت عن البعد المثيولوجي للناقة المُسنّة = (الناب) التي انقلبت رمزيتها في ظلّ الإسلام من دائرة المُقدّس - في الجاهلية - إلى دائرة اللامقدّس؛ إذ اقترنت بالشيطان والجهل والنفاق(63)، فتشبيه بني أميّة بالناقة الضروس السيئة الخُلق التي تعضُّ حالبَها هو تأكيد لسلبية الطرف الثاني من ثنائية (الحق - الباطل)، الذي يمثّل: الشيطنة والنفاق والجهل، وهو في الوقت نفسه - ترسيخٌ ضمنيٌّ لأحقية طرف (الأنا) = الامام - عليه السلام -، التي أحالت عليها علامات عتبة البداية، وهنا تتكشّف العلاقة الارتدادية - على المستوى التصويري الدلالي - بين عتبة البداية، والمتن النصّي للخطبة.

ص: 325

نتائج البحث وخاتمته

إنَّ أهم ما خرجت به مقاربتنا لعتبة البداية على المستويين التنظيري والإجرائي يتلخّص بالنقاط الآتية:

اتضحت للدراسة الأهميةُ الاستراتيجية التي تتمتع بها عتبة (البداية) في التراث، وقد كشفت عن وعي القدماء بمركزيتها، وبؤريتها؛ إذ مثّلت عندهم الركيزة الإنطلاقية المحورية التي يتشكّل - في ضوء نسقها المُنتَج - العمل برمّتِه؛ لذا اجتهدوا في خلق منظومة تعليمية صارمة قائمة على ثنائية (الخطأ والصواب)؛ لتنظيم توظيف هذه الآلية الاستراتيجية من لدن المبدعين، وضمان جودة استعمالها.

وجدت الدراسة أنّ أهمية البداية في الدرس النقدي الحديث تنبع من كونها لحظة حسّاسة تنعكس على أفق القراءة لدى المتلقّي، وتُحدّد مساراته، وممارساته القرائية في ضوء إغرائها له أو عدمه؛ إذ تُحدّد هذه الاستراتيجية طريقة دخوله للنص منذ تلقيه الأول.

کشفت الدراسة من خلال تشريح جسد الخطبة كاملة بعد مقاربة عتبة و البداية عن هيمنة حقل (الفتنة) وما تفرّع منه على المستوى المُعجمي؛ لمساندة عتبة البداية في تأدية وظيفتها المركزية القائمة على ثنائية (الترهيب والترغيب) التي ستمثّل سيرورة دلالية بؤرية تُهيمن على أنساق الخطبة كلّها.

أفرزت مقاربة المستوى المعجمي في عتبة البداية حقلا آخر تمثّبل بحقل (الأنا) المُفضي إلى دلالات الأحقية في الخلافة والعلم اللدني للامام - عليه السلام - والتي تؤدّي كلّها وظيفة (الترغيب والترهيب) أيضا.

إن هيمنة التركيب الجملي الفعلي على نص الخطبة يؤشّر حركية الأحداث

ص: 326

رغم سکونية (الفتن) قبل الولادة، لكنها بعد ولادتها تُفضي إلى هيمنة أنساق الاضطراب، وعدم الاستقرار، والفوضى، وهذا يتساوق مع الحركية المُنتَجة بوساطة نسق الأفعال التتابعي المتراكم، وكلّ هذا التتابع والتراكم يؤدي وظيفة (الترهيب والترغيب)؛ لأنّ التركيب الاسمي يُشيع الشعور بالهدوء والاستقرار لما فيه من ثبات، في حين أن التركيب الفعلي المهيمن على المستوى التركيبي في الخطبة يُثير عند المُخاطَب الشعور بعدم الراحة لاسيما إذا توالت التراكيب على هذا النحو الفعّال، وفضلا عن ذلك فإن التركيب الحَصْرِي لعِب دوراً هاماً في ترسيخ وظيفة (الترهيب والترغيب) المركزية.

أنتج المستوى الدلالي تشکّلات جمالية على نحو عمودي تدريجي (بداية + متن + نهاية) بوسائل تشکیل تراثية نهضت على محوري (الاستبدال): (الاستعارة والكناية) و (التماثل): (التشبيه)، فَعَّلَتْ دور العتبة، وساعدتها على إنتاج وظائفها المركزية: (الترهيب والترغيب).

كشفت الدراسة على المستوى التعالقي عن بناءٍ محكمٍ ربط محاورَ الخطبةِ العيّنة مع بعضها البعض ربطاً محکماً تآزرت فيه كلُّ عناصر الخطبة المحورية واللسانية / اللغوية والميتالغوية (الإحالية) في بناء دائري تُهيمن عليه خاصية الارتداد بين المحاور: (بداية = متن = نهاية) و(نهاية = متن = بداية).

هوامش البحث:

1. ينظر: التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفي: 816 ه)، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر: دار الکتب العلمية بيروت - لبنان، ط 1، 1983 م: 28، وينظر: الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسی الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفى: 1094 ه)، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1602 ه: 129 - 130، وينظر: کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم،

ص: 327

محمد بن علي ابن القاضي محمّد حامد بن محمد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (المتوفي: بعد 1158 ه)، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، ط 1 - 1996 م: 1 / 212.

2. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد، ط 1، 1989 م: 1 / 17.

3. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني (ت 456 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط 5، 1981 ه: 1 / 217.

4. البديع في نقد الشعر، أسامة بن منقذ (ت 584 ه)، تحقيق: د. أحمد أحمد بدوي، ود. حامد عبد المجيد، مراجعة: الأستاذ إبراهيم مصطفی، سلسلة تراثنا، الناشر: الجمهورية العربية المتحدة - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - الإقليم الجنوبي - الإدارة العامة للثقافة، د.ط، د.ت: 285.

5. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضیاء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (ت 637 ه)، تحقيق: د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر - القاهرة، ط 2، 1973 م: 3 / 96.

6. الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (المتوفي: 137 ه)، تحقيق:

مصطفی جواد، مطبعة المجمع العلمي - بغداد، 1375 ه: 187.

7. تحرير التحبير، في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع المصري (ت 654 ه)، تحقيق: د. حفني محمد شرف، لجنة إحياء التراث الاسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية الجمهورية العربية المتحدة، د.ط، د.ت: 168.

8. نهاية الأرب فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهّاب النّويري (ت 733 ه)، تحقيق: د. علي ابوملحم، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2004 م: 7: 110.

9. الإيضاح في علوم البلاغة، المعاني والبيان والبديع، الخطيب القزويني (ت 739 ه)، تحقیق ابراهيم شمس الدین، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2003 م: 322.

10. الطراز، یحیی بن حمزة العلوي (ت 745 ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية - بیروت، ط 1، 2002 م: 2 / 141.

11. صبح الأعشى في صناعة الانشا، أبو العباس أحمد القلقشندي (ت 821 ه)، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1922 م: 6 / 276.

ص: 328

12. خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجّة الحموي (ت 837 ه)، تحقيق: عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال - بيروت، ط 1، 1987 م: 1 / 19.

13. أنوار الربيع في أنواع البديع، علي صدر الدين بن معصوم المدني (ت 1120 ه)، تحقيق: شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان - النجف الأشرف - العراق، ط 1، 1968 م: 1 / 34.

14. ينظر: المثل السائر: 3 / 96، ونهاية الأرب: 7 / 110، والطراز: 2 / 141، وخزانة الأدب: 1 / 19، وأنوار الربيع: 1 / 34.

15. لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر - بيروت، ط 3، 1414 ه: 1 / 27.

16. ينظر: المثل السائر: 3 / 96، ونهاية الأرب: 7 / 110، والطراز: 2 / 141، وخزانة الأدب: 1 / 19، وأنوار الربيع: 1 / 34.

17. ينظر: البداية والنهاية في الرواية العربية، عبد الملك أشهبون، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، 2013 م: 33 - 32.

18. ينظر: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل - دراسات في الرواية العربية، شعيب حليفي ط 1، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، 2013: 91.

19. ينظر: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل - دراسات في الرواية العربية: 92، و البداية والنهاية في الرواية العربية: 54 - 55.

20. ينظر: البداية والنهاية في الرواية العربية: 34.

21. ينظر: م. ن: 35 - 36.

22. ينظر: م .ن: 30.

23. ينظر: م . ن: 26 - 27.

24. ينظر: فتوحات روائية - قراءة جديدة لمنجز روائي عربي متجدّد، د. عبد الحق بلعابد، ط 1، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية - ناشرون، بيروت - لبنان، 2015 م: 178.

25. الغيهب: الظلمة، وموجها: شمولها وامتدادها.

26. الكَلَب محرّكة: داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عضته أصيب به فجُنّ ومات، وشبه به اشتداد الفتنة حتى لا تصيب أحدا إلا أهلكته. وكلبها: شرّها وآذاها.

27. ناعقها: الداعي إليها، من نعق الراعي بغنمه صاح بها لتجتمع.

28. الركاب هنا: الإبل.

ص: 329

29. کرائه: جمع کريهة.

30. الحوازب: جمع حازب وهو الأمر الشديد.

31. قلّصت: بتشديد اللام: انضمت واجتمعت وانقبضت.

32. اشتبه فيها الحق بالباطل.

33. لأنها تُعرف بعد انقضائها وتنكشف حقيقتها فتكون عبرة.

34. الخُطة بالضم: الأمر، أي شمل أمرها لأنها رئاسة عامة، وخصت بلیتها آل البيت عليهم السلام -؛ لأنها اغتصاب لحقهم.

35. من عرف الحق فيها نزل به البلاء: الانتقام من بني أمية.

36. الناب: الناقة المُسِنّة، والضروس السيئة الخلق تعض حالبها، وتعذم: من عذم الفرس إذا أكل بجفاء أو عض، وتزين: أي تضرب، و درها: لبنها، والمراد: خيرها.

37. أي انتصار الأذلاء وما هو بانتصار.

38. شوهاء: قبيحة المنظر، مخشية: مخوفة مرعبة.

39. دلیل یُهتدی به.

40. بمكان النجاة من إثمها.

41. كما يسلخ الجلد من اللحم.

42. مملوءة إلى أصبارها: جمع صبر أي إلى رأسها.

43. من أحلسَ البعير إذا ألبسه الحِلس بكسر الحاء وهو كساء يوضع على ظهره تحت البرذعة، أي لا يكسوهم إلا خوفا.

44. الجزور: الناقة المجزورة أو الشاة المذبوحة: أي ولو مدة ذبح البعير أو الشاة.

45. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (656 ه)، تحقيق محمّد إبراهيم، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، دار الكتاب العربي، شارع المتنبّي، بغداد، ط 1، 2007 م: 7 / 30 - 31.

46. ينظر: السيميائيات - مفاهيمها وتطبيقاتها، سعید بنکَراد، دار الحوار - سورية، ط 2، 2005 م: 258 - 259.

47. السيميائيات العامة - أسسها ومفاهيمها، عبد القادر فهیم شیبانی، الدار العربية للعلوم ناشرون - بیروت، منشورات الاختلاف - الجزائر، ط 1، 2010 م: 46.

48. ينظر: السيميائيات العامة - أسسها ومفاهيمها: 48.

49. ينظر: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي - الدار

ص: 330

البيضاء، ط 4، 2005 م: 58.

50. ينظر: شعرية الجملة في الشعر العربي المعاصر، د. رابح بن خوية، عالم الكتب الحديث - إربد، ط 1، 2017 م: 5.

51. پرید: ظهور الدولة العباسية.

52. شرح نهج البلاغة: 7 / 39.

53. ينظر: السيميائيات - مفاهيمها وتطبيقاتها: 264.

54. ينظر: موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، د. محمّد عجينة، دار الفارابي - بيروت، ط 1، 1994 م: 2 / 14.

55. ينظر: موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها: 2 / 43.

56. ينظر: م . ن: 2 / 51.

57. فلسفة البلاغة - بين التقنية والتطوّر، د. رجاء عيد، منشأة المعارف بالاسكندرية، ط 2، 1988 م: 338.

58. شرح نهج البلاغة: 7 / 31.

59. التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 ه)، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 م: 29 / 96.

60. جمهرة اللغة، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321 ه)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين - بيروت، ط 1، 1987 م: 2 / 894.

61. الصِّحاح: تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط 4، 1407 ه - 1987 م: 3 / 1053.

62. شرح نهج البلاغة: 7 / 36.

63. ينظر: موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها: 1 / 286.

ص: 331

المصادر والمراجع

1. أنوار الربيع في أنواع البديع، علي صدر الدين بن معصوم المدني (ت 1120 ه)، تحقيق: شاکر هادي شكر، مطبعة النعمان - النجف الأشرف - العراق، ط 1، 1968 م.

2. الإيضاح في علوم البلاغة، المعاني والبيان والبديع، الخطيب القزويني (ت 739 ه)، تحقیق ابراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2003 م.

3. البداية والنهاية في الرواية العربية، عبد الملك أشهبون، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، 2013 م.

4. البديع في نقد الشعر، أسامة بن منقذ (ت 584 ه)، تحقيق: د. أحمد أحمد بدوي ود. حامد عبد المجيد، مراجعة: الأستاذ إبراهيم مصطفی، سلسلة تراثنا، الناشر: الجمهورية العربية المتحدة - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - الإقليم الجنوبي - الإدارة العامة للثقافة، د.ط، د.ت.

5. تحرير التحبير، في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع المصري (ت 654 ه)، تحقيق: د. حفني محمد شرف، لجنة إحياء التراث الاسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية، الجمهورية العربية المتحدة، د.ط، د.ت.

6. التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفي: 1393 ه)، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 م.

7. تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء، ط 4، 2005 م.

8. التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفي: 816 ه)، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان،

ص: 332

ط 1، 1983 م.

9. الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (المتوفى: 637 ه)، تحقيق: مصطفی جواد، مطبعة المجمع العلمي - بغداد، 1375 ه.

10. جمهرة اللغة، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321 ه)، تحقيق: رمزي منير بعلبکي، دار العلم للملايين - بيروت، ط 1، 1987 م

11. خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجّة الحموي (ت 837 ه)، تحقيق: عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال - بيروت، ط 1، 1987 م.

12. السيميائيات - مفاهيمها وتطبيقاتها، سعید بنکَراد، دار الحوار - سورية، ط 2، 2005 م.

13. السيميائيات العامة - أسسها ومفاهيمها، عبد القادر فهیم شیباني، الدار العربية للعلوم ناشرون - بیروت، منشورات الاختلاف - الجزائر، ط 1، 2010 م.

14. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (656 ه)، تحقيق محمد إبراهيم، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، دار الكتاب العربي، شارع المتنبّي، بغداد، ط 1، 2007 م.

15. شعرية الجملة في الشعر العربي المعاصر، د. رابح بن خوية، عالم الكتب الحديث - إربد، ط 1، 2017 م.

16. صبح الأعشى في صناعة الانشا، أبو العباس أحمد القلقشندي (ت 821 ه)، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1922 م.

17. الصِّحاح: تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري

ص: 333

(ت 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط 4،1987 م.

18. الصناعتين، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: نحو 395 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي و محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العنصرية - بيروت، 1419 ه.

19. الطراز، یحیی بن حمزة العلوي (ت 745 ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية - بيروت، ط 1، 2002 م.

20. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني (ت 456 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط 5، 1981 ه.

21. فتوحات روائية - قراءة جديدة لمنجز روائي عربي متجدّد، د. عبد الحق بلعابد، ط 1، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية - ناشرون، بیروت - لبنان، 2015 م.

22. فلسفة البلاغة - بين التقنية والتطوّر، د. رجاء عيد، منشأة المعارف بالاسكندرية، ط 2، 1988 م.

23. کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي ابن القاضي محمد حامد بن محمّد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (المتوفي: بعد 1158 ه)، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون - بیروت، ط 1 - 1999 م.

24. الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفي: 1094 ه)، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1402 ه.

ص: 334

25. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفي: 711 ه)، دار صادر - بیروت، ط 3، 1414 ه

26. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (ت 637 ه)، تحقیق: د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر - القاهرة، ط 2، 1973 م.

27. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد، ط 1، 1989 م:

28. المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، د. علي توفيق الحمد، ويوسف جميل الزعبي، دار الأمل - إربد، ط 2، 1993 م.

29. موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، د. محمّد عجينة، دار الفارابي - بیروت، ط 1، 1994 م.

30. نهاية الأرب فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهّاب النّويري (ت 733 ه)، تحقيق: د. علي بوملحم، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2004 م.

31. هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل – دراسات في الرواية العربية، شعیب حليفي، ط 1، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، 2013 م.

32. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (ت 637 ه)، تحقيق: د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر - القاهرة، ط 2، 1973 م.

33. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد،

ص: 335

ط 1، 1989 م:

34. المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، د. علي توفيق الحمد، ويوسف جميل الزعبي، دار الأمل - إربد، ط 2، 1993 م.

35. موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، د. محمّد عجينة، دار الفارابي - بیروت، ط 1، 1994 م.

36. نهاية الأرب فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهّاب النّويري (ت 733 ه)، تحقيق: د. علي بو ملحم، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2004 م.

37. هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل - دراسات في الرواية العربية، شعیب حليفي، ط 1، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، 2013 م.

ص: 336

المحور الاجتماعي والنفسي

ص: 337

ص: 338

الوعي الفكري للفرد ومسؤولية الدولة الإنسانية أساس التغيير الاجتماعي في حتمية المشروع الحضاري في فكر الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

الأستاذ الدكتور

سعد خضير عباس الرهيمي

كلية القانون - جامعة بابل(*)

ص: 339

ص: 340

المقدمة

لم تستقر البشرية عند حضارة معينة أو عند مدنية معينة، سواءً في أبسط أو أعقد مظاهرها. وليس جديدا إذا ذكرنا إنه بسبب ديناميكية «حركية» عنصرها الاساسي الإنسان «الفرد»، أخذت أحياناً طابعاً إيجابياً، وأحياناً أخرى طابعاً سلبياً. إن هذا التغير يعود حتماً إلى درجة المعرفة التي اكتسبها الإنسان من المصادر المتاحة له، سواءٌ كانت هذه المصادر داخلية النشأة، أم خارجية النشأة. تلك المعرفة التي أثرت في تكوين وعيه، حقيقياً كان أم زيفاً، ثم إنعكس بعد ذلك في تفاعله مع مجتمعه مساهماً في ازدهاره أو نكوصهِ. لقد صاحب الإنسانية في مسيرتها قيام سلطة عليا في كل جماعة إنسانية، لتحمي الأفراد بعضهم من بعض، وتمنع طغيان فئة على أخرى، في ممارسة مختلف أوجه الأنشطة. وكذلك لتحمي مكاسبهم من أي عدوان خارجي، ومن هنا ظهرت الدولة.

إنَّ ارتباط «الفرد والمجتمع والدولة» أمر حتمي وبديهي. وكذلك هو ارتباط عضوي و جوهري. ولكن عندما نتحدث عن وعي الفرد وأثرهِ في التغيبرِ الاجتماعي.(1)؟ وكذلك عندما نتحدث عن مسؤولية الدولة في احداث هذا التغيير؟ فإنَّ الأمر سیاخذُ بعداً آخرَ، لا بد من البحث في حيثياته وسبر أغواره لمعرفة نتائجه.

وفي الواقع، لايوجد فرد أو مجتمع يرفض العيش في حالة تقدم وأزدهار مستديمٍ في ظل حضارة إنسانية، أو على الأقل في ظل مدنية يعم فيها الرخاء. ولو تصفحنا التأريخ لم نجد حضارةً واحدةً، أو حتى مدنية في أبسط مظاهرها، استقرت واستوعبت إنسانية الإنسان بالكامل. فكل منها بُنيت بعد أن سَحقت بالمقابل شعبها أو شعوب أُخرى، أو حولتهم إلى عبيد، ليعيش عدد قليل من

ص: 341

الأسياد في حياة لم تستمر إلا لمدةٍ قليلة. ومع بزوغ فجر الحضارة الإسلامية، فقد تحرر الإنسان من ربق العبودية، واوجبت له القرآءة، وعظمت فكره ورشده، وغرست العلمية في ذاته. كما أصبح لكل فرد في المجتمع كيان مستقل، وأصبح لوعيه الفكري قيمة حقيقية متناسبة مع دوره في تطور الأمة. إن الموضوع الجوهري يتمحور في حقيقته حول مدى تناسب دور الفرد استناداً إلى مستوى وعيه الفكري مع منظومته المجتمعية التي تتأطر بمسؤلية الدولة. وهل يبقى هذا الدور عفوياً أم سينتظم على وفق منظومة قيمية وأخلاقية، تقوده وفق منهجية فكرية، ومن منظور عقائدي محدد؟ وهذا ما سنتناوله في التوطئة المنهجية الآتية:

توطئة منهجية: عصرنة المشروع الحضاري في الفكر العلوي

حقيقة، لم تخل أية مرحلة زمنية من مشروع حضاري، او تزامن عدة مشاريع حضارية. وسواء قُدِّر لها أَن تطبق على ارض الواقع أم لم تطبق، نجحت أم فشلت في فلسفة التطبيق. فإن الموضوع الجوهري يبقى مرتبطاً بالبحث عن ماهية وكينونة المشروع الحضاري المناسب للإِرتقاء بالفرد ومجتمعه في مسيرة التطور العام للشعوب. وهل سيتم في منظومة مغلقة أم منفتحة بكل عناصرها على المجتمعات الإنسانية الأخرى. وهل هناك حتمية لمشروع حضاري يرتبط به الفرد ومجتمعه ويعيش في ظلاله، أم لا توجد أصلا مثل هذه الحتمية. كل هذه الأسئلة وغيرها يمكن طرحها من قبل الباحثين من أجل فهم حقيقة سيرورة التطور العام لأي مجتمع، وهو يسعى حثيثة للوصول إلى ما أصطلح على تسميتها «الحضارة».

ومن الناحية الواقعية، فإنَّ تاريخ المجتمعات المعاصرة بقي وثيق الصلة بتراثه، ولا يمكن فصله عنه، مهما امتدت المدة الزمنية، ونحتت في أصولها العوامل الداخلية والخارجية. ومن هنا، فإن تناول موضوع المشروع الحضاري عند الإمام علي (عليه السلام)، یكون في غاية نضجه العلمي، خصوصاً إذا وجد سبيله نحو

ص: 342

التطبيق. ولكن سیستوقفنا الموضوع عند سؤال مهم جداً وهو: كيف يمكن إيجاد الصلة بين الأفكار التي طرحها الإمام علي (عليه السلام) في عصره، وبين الأفكار التي يتطلبها تنفيذ مشروع حضاريّ في عصرنا الحالي، حيث تفصل بيننا وبينه، مدة زمنية طويلة، تمتد لاكثر من ألف وأربعمائة سنة؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تثبيت الحقيقة الآتية: وهي انه هناك واجهتان لكلمات وخطب وكتب وأفكار الإمام علي (عليه السلام): حيث يقول الأستاذ مطهري وأقول: لكل مدرسة فكرية أسلوبها الكلامي الخاص، و لابد لمن يريد أن يدرك مفاهيمها كاملة من أن يتعرف على أسلوبها في البيان، ولابد لمن يريد أن يتعرف على أسلوبها من أن يدرك وجهتها الخاصة في نظرتها العامة إلى الإنسان و الوجود.(2) فالدراسة الدقيقة، والبحث المعمق، للمدة الزمنية التي عاشها الإمام (عليه السلام)، والظروف المحيطة به، وفي كيفية معالجته لها، تُظهر وجود الواجهتين الآتيتين: الواجهة الأولى:

وهي الواجهة الخاصة التي تختص بعصره. وهذه الواجهة ظهرت في خطبه و کتبه. مثالها ظهور الكثير من المخاطر التي كافحها مكافحة عملية على عهده، و مکافحة كلامية بالخطب و الكتب و سائر كلماته. مثالها، السياسة المالية، وكيفية إدارة ثروات الغنائم والفتوحات، التي ورثها. وستكون بمثابة أمثلة وتطبيقات عملية، يمكن الاعتبار منها لحل مشاكل معاصرة.

الواجهة الثانية: وهي الواجهة العامة، والتي تعبر عن التعاليم التربوية العامة في الإسلام، نابعةً من القرآن الكريم و كلمات الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله)، وهي التي ستكون المرجعية المباشرة في تطوير الأفكار التي سترد في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

ص: 343

أسئلة البحث

1. ماهي علاقة الفرد بمنظومته المجتمعية، وماهو مستوى الوعي الحقيقي المناسب الذي يجب أن يكتسبه للارتقاء بدوره لكي يصبح مؤثراً في هذه المنظومة؟

2. ما هي المنظومة المجتمعية الملائمة لتطور الوعي الحقيقي للفرد، بوصفها الحاضنة التي تمر فيها

مختلف ادوار حياته، وفقاً للمنظور العلوي؟

3. هل يبقى دور الفرد عفوياً أم سينتظم على وفق مقاییس قيمية وأخلاقية تقوده استناداً إلى منهجية

فكرية محددة؟

4. هل إن مسؤولية الدولة تصبح ضرورية للإرتقاء بمستوى الوعي الفكري للفرد، وما هي البيئة الفكرية

والامنية والصحية والاقتصادية المناسبة لذلك؟

5. ماهو النظام الذي يصلح للانسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟(3)

6. هل يمكن استنتاجُ مشروعٍ حضاريٍّ يستند الى منظور وفكر الإمام علي (عليه السلام)، إذا أنجزت شروطه الاساسية؟

المنهجية العلمية للبحث

مشكلة البحث

كتبنا هذا البحث من اجل معالجة مشكلة ارتبطت دائما في صميم التفكير

ص: 344

الانساني، وهو يفتش عن تحقيق انسانیته في مجتمعه. وتتمثل هذه المشكلة في اختيار مشروعه الحضاري المناسب. وقد كان للإمام علي (عليه السلام)، إسهامٌ أصيلٌ وفاعلٌ في التأسيس لهذا المشروع ضمن منظومته القيمية والأخلاقية والعقائدية المتمثلة بالفكر الإسلامي الحنيف.

إِن دراسة هذه المشكلة ستستدعي صياغة كثير من الأسئلة، وستتطلب محاولة الاجابة عنها، وكذلك اتباع منهجية محددة سنذكرها لاحقاً في البحث. كما أَنَّ تناول هذه المشكلة القديمة - الحديثة، ستُعد موضوعاً دقيقاً جداً. ذلك لانها ستكمن في محاولة التمييز لمشروعٍ حضاري حدد معالمه الإمام (عليه السلام) بوضوح في مواجهة تحديات المشاريع الحضارية الأُخرى، المتصارعة في المسيرة الانسانية الطويلة.

أسباب اختيار البحث

لقد أصبح أمراً ضرورياً البحث عن الاطار الجديد لكل دولة من دول العالم، لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تاركا الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في عالم أحادي القطب. إذ إنَّ مدة الصراعات السياسية بين هاتين القوتين العظميين، والتي دامت عشرات السنين، كانت نتيجةً لاختلافهما في كيفية إدارة ما بعد الحرب وإعادة بناء العالم. فخلال السنوات التالية للحرب، انتشرت الحرب الباردة خارج أوروبا إلى كل مكان في العالم، وإنعكست سلباً على الحياة السياسية. لقد أدى هذا إلى حدوث ضررٍ بليغٍ في الدول والمجتمعات والافراد، على الاخص في الدول النامية، ومنها تحديدا الدول الاسلامية في اسيا وافريقيا. وكذلك أدى الى مرور أغلب المجتمعات البشرية بعمليات تحول انتقالية عميقة جداً. إن هذه العوامل مجتمعة، دفعت مفکر و المجتمعات الإنسانية، باتجاه التفتيش

ص: 345

عن مسارات جديدة، للتطور الاقتصادي والاجتماعي ضمن مشاريع حضارية مستقلة تجنب شعوبها ويلات الدمار، التي نجمت عن التبعية والاستغلال. ولكن هذه المشاريع اختلفت في أختيار مقدماتها، فانعكست على نتائجها في حيز التطبيق. حيث سترد في البحث إن شاء الله تعالى تفاصيل هذا الموضوع.

أهمية البحث

إن أهمية البحث تكمن في تبيان الرؤى الفكرية للإمام علي (عليه السلام)، والبحث في منهجيته التي ستدلنا عن كيفية إدارة الصراع الفكري، في عالم يعج بأطاريح وتوجهات إيديولوجية أو مؤدلجة لا حصر لها. وكذلك البحث في إرثه العلمي، لمعرفة الأطروحة المناسبة لمرحلتنا الزمنية، والتي يمكن ان تتبلور بشكل مدنية أن لم نقل مشروعاً حضارياً، تتلائم مع طبيعة التحولات الجارية حالياً في مختلف المجتمعات الانسانية.

إنَّ المتتبع لرحلة الانسانية الطويلة ستستوقفه حضارات سرعان ما اندثرت، بالرغم مما سجلته من مآثر. وأخرى قائمة براقة في مظهرها، مملوئة جيوب «حفنة من قاطنيها، غرثی بطون غالبية ساكنيها، فهي تحمل أًفولها في جوهرها. إذاً، لا بد من استكشاف الطريق القويم على الهدي العلوي والذي لا يكون افضل من سابقه فقط، بل سيمثل الحل الأمثل في أُمة وسطا.

هدف البحث

يهدف هذا البحث إلى الإحاطة بالمفاهيم التي ابدعها امير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام). وذلك لإرساء الأسس المُنشِئة للمشروع الحضاري، والمتمثلة بمكونات المنظومة الاجتماعية أو بما يمكن تسميته مثلث الحياة السياسية وهو:

ص: 346

الفرد - المجتمع - الدولة. وكذلك إستقصاء آرائه في كيفية حدوث التأثير الفاعل والمتبادل بين الارتقاء بوعي الفرد، ضمن المنظومة القيمية العامة المؤطرَة بالفكر الإسلامي، وبين اضطلاع الدولة بمسؤليتها في توجيه و تنظیم و تعظيم هذا الوعي باتجاه التطور الهادف إلى إحداث تغيير اجتماعي أصيل، سيؤدي حتماً الى قيام حضارة مستدامة.

منهجية البحث

سنعتمد في بحثنا هذا في تحديد معالم المشروع الحضاري وتشييد صرحه الذي ارسی معالمه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، على المنهج التحليلي الإستنباطي. وستقتضي المنهجية تحليل النصوص من مصادرها الموثوقة، من أجل الوصول الى الكنوز الفكرية العلوية الأَصيلة. وكذلك من أجل فهم العوامل التي ساهمت في تكوين أسس هذا المشروع الانساني الضخم وبالتالي إبرازه الى حيز الوجود.

فرضية البحث

أستند هذا البحث إلى فرضية مفادها أن هناك مشروعاً حضارياً مسترشداً بالمنهج الفكري الإسلامي، أختطه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام). ولكي يمكن تطبيقه، لا بد من حدوث تغيير جوهري إيجابي في المنظومة الاجتماعية يؤدي الى تطورها. ويكون هذا التغيير مشروطاً بنهوض الدولة بمسؤليتها في تهيأة الظروف المناسبة للإرتقاء بالوعي الفكري للإنسان الى افضل مستوىً له.

خطة البحث

أولاً: التأصيل العلمي والتأريخي لمفهوم المشروع الحضاري في فكر الامام علي (عليه السلام)

ص: 347

1. التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي:

2. حث التركيبة الاجتماعية نحو الانفتاح على التطور والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات، ونبذ الإِختلافات

3. إعتماد سياسة مالية عادلة ومتوازنة

4. صياغة تدابير نوعية وذات استشراف مستقبلي لسياسة الدولة

ثانياً: تحديد كيفية حدوث الإِعتماد المتبادل للعناصر الأساسية في التطور الاجتماعي

1. ماهية الوعي الفكري للفرد كعنصر أساسي في المثلث السياسي

2. مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وإحداث تغيير مؤسساتي الإرساء التفاعل الاجتماعي الايجابي

1 - 2 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلاءَم مع تطوير الفرد والمجتمع

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني

2 - 3 - 2 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية

2 - 3 - 3 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني ووفقاً للمعايير الدولية

ص: 348

ثالثاً: حدوث التغيير في المنظومة الاجتماعية نتيجة للتغيير في البيئة العامة للفرد

رابعاً: أثر التغيير الاجتماعي في التمهيد للبيئة الملائمة للتطور إستناداً للهدي العلوي

أولاً: التأصيل العلمي والتأريخي لمفهوم المشروع الحضاري في فكر الامام علي (عليه السلام):

إِنَّ التأسيس للشروط المسبّقة لأي مشروع حضاري، تمثل قواعد انطلاقه نحو تشیید بنائِه و تحديد آفاقه المستقبلية. فالمشروع الحضاري في الفكر العلوي المستنير بالفكر الاسلامي الحنيف، تحددت خصوصیاته، بالشمولية والوسطية والإنسانية. فالتأثير القرآني شديد الوضوح في تفكير الإمام (عليه السلام)، من حيث المنهج ومن حيث المضمون، کما هو شديد الوضوح في كل جوانب تفكيره الأخرى، کالجانب التأريخي. فقد كانت معرفته بالقرآن شاملةً مستوعبةً لكل ما يتعلق بالقرآن من قريب أو بعيد.(4) کما کان متفرغاً بالكامل لتلقي التوجيه النبوي، ووعيه التام لما كان يتلقاه؛ فقد كان أعلم الناس بسنة رسول الله وكتاب الله.(5) كذلك فإن المعرفة النظرية عند الإمام (عليه السلام) قد اكتملت بالمعرفة العملية. فلو دققنا النص اللاحق (وسرت في آثارهم)، لتبين انه قد زار الآثار الباقية من الحضارات القديمة لتضاف الى رصيده المعرفي في الآثار العمرانية. كما انه قد خبر اربعة من أقطار الإسلام هي: شبه الجزيرة العربية، اليمن، العراق وسوريا(6).

فالمنهج الذي اختطه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في صياغة المشروع الحضاري، لم يركز على الفرد ويهمل المجموع، أو يركز على المجموع ويهمل الفرد، أو يركز على الجوانب الاقتصادية ويهمل الجوانب الاجتماعية و

ص: 349

الجوانب السياسية. فهو يخطط لكلياته من دون أن يهمل جزئياته، لكي ينسجم فكره مع فلسفة تطبيقه.

ومن أجل ابراز الخطوط الأساسية في فكر الإمام علي (عليه السلام)، بوضوح، لكي نتمكّن من فهمها، ومن ثم التوجه نحو تطبيقها على أرض الواقع، لا بد لنا من التخلص ابتداءً، من حالة التزاحم الفكري. حيث يبدو وجود تداخلٍ مع موضوع الحداثة، كظاهرة عالمية تسربت الى كل القطاعات الانسانية المختلفة من الفكر الى التاريخ والى الفعل الانساني والدين.(7) فلا بد من التركيز على فكرة التجريد، من أجل سبر أغوار هذا الموضوع الدقيق والحيوي والعميق. فلو تأملنا في قول الإمام (عليه السلام)، من وصيته إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام): «أي بني، إني وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتی عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى اليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم الى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من کدره، ونفعه من ضرره».(8)

فسيتضح كيف يستخلص الإمام علي (عليه السلام) من التأريخ، وهو يوجه عناية فائقة له، المرتكز الفكري للتوجه الحضاري. وتبياناً لذلك، يقول محمد مهدي شمس الدين وأقول: «على هذا المدى الرحب كان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، يتعامل مع التاريخ، لا كمؤرخ وانّما باعتباره رجل عقيدة ورسالة، ورجل دولة وحاکماً. ولم يستخدم التاريخ کمادة وعظية فقط وانّما كان يستهدف ايضاً منه النقد السياسي والتربية السياسية لمجتمعه والتوجيه الحضاري لهذا المجتمع».(9)

ففي نظر الإمام (عليه السلام)، يتدرج المنهج السليم، من استيعاب

ص: 350

حكمة التاريخ باتجاه فهم واقع الحياة المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وسنحاول إستقصاء كلٍ من هذه الجوانب وكما يأتي:

1 - التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي:

إِنَّ الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد إنساني متكافل، تحكمه حزمة من القواعد والتشريعات القرآنية، ومحاطاً في إطار التطبيق والممارسة بمكارم الأخلاق.(10)

لقد اعتمد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، على تغيير نمط الحياة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية للمسلمين على التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي.(11) کما توخی لبرنامجِه الإصلاحي ألا يكون لمرحلة محددة فقط، بل للمراحل اللاحقة أيضاً. أي فيه صفة الاستمرار، وبالتالي لم يستهدف معالجة حالة طارئة، إنما حمل رسالة لاستشراف المستقبل.(12) ومن أجل ذلك، فقد وضع قواعد للسلوك الاقتصادي والاجتماعي القويم للدولة وللفرد. فبالنسبة للدولة، فقد حدد دورها بدقة، حيث ورد عنه: «واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة فامنع الاحتكاراً فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهی عنه».(13) وكذلك ما ورد عنه: «ثمّ التجّار وذوي الصناعات فاستوص وأوص بهم خيراً لا المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفّق بيده لا فإنّهم موادّ للمنافع، وجلاّبها في البلاد في برّك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم أناس لمواضعها ولا يجترئون عليها من بلاد أعدائك من أهل الصناعات التي أجرى الله الرفق منها على أيديهم فاحفظ حرمتهم، وآمن سبلهم، وخذلهم بحقوقهم» فإنّهم سلم لا تُخاف بائقته، وصلح لا تُحذر غائلته، «أحبّ الأُمور إليهم أجمعها للأمن وأجمعها للسلطان ». فتفقّد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك. وليكن البيع والشراء

ص: 351

بيعاً سمحاً، بموازين أعدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع.»(14)

فیمکن إذاً، تلخيص نطاق عمل الدولة بالآتي(15):

ضرورة تدخلها من أجل توجیه اقتصادي مبرمج يستند إلى تخطيط دقيق يستهدف تحقيق التوازن الشامل في المنظومة الاقتصادية.

وجوب إسناد مراكز القرارات الحكومية الى كوادر متخصصة، وذات كفاية عالية، ومؤمنة ببرنامج السياسة الاقتصادية المستهدفة، لتتمكن أدارة الدولة من الوصول إلى أهدافها.

تفعيل منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، بحيث يكون النص التشريعي من السعة والفاعلية لكي يستوعب في كل مرحلة زمنية مستحدثات الحياة وبها تقضي به حاجة الأمة في تطورها.

منع سيطرة حالة الاحتكار التي ستحدث ضرراً كبيراً في السوق ويكون في مقدمة ضحاياها عموم الرعية. فهم المستهلكون لهذه السلع التي تم احتكارها.

إيلاء القطاع العام دوراً ديناميكياً في الاقتصاد الوطني لخدمة المجتمع الإسلامي.(16)

أما بالنسبة للفرد، فقد حدد دوره بدقة، من خلال تأكيده على الوعي الاقتصادي للفرد أولاً.(17) حيث ورد عن الإمام علي (عليه السلام): «أقل ما يلزمكم لله ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه».(18) ثم بيان أهميته في بناءً الدولة المستدامة بناءً أمثلَ على وفق المعايير الأخلاقية والدينية والعادات والتقاليد المستنبطة من الكتب السماوية ثانية.(19) وذلك يتضح من قوله (عليه السلام): أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر». فالإمام (عليه السلام)،

ص: 352

يؤسس أولاً لقاعدة فكرية ونظرية بضرورة التعلم والتفقه والتدبر، ومعرفة ما للمسلم وما عليه عند التعامل التجاري. وكذلك الايمان بها تعلم وعمل بما آمن به، كل في مجاله وعمله واختصاصه. حيث ورد عنه (عليه السلام): «ألا فاذكروا هادم اللذات ومنغص الشهوات وقاطع الأمنيات عند المساورة للإعمال القبيحة وأستعينوا الله على أداء واجب حقه».(20)

فإذا نظرنا إلى الجانب الاقتصادي العملي من قوله هذا، نجد ثانیاً قاعدةً عملية - تطبيقية، تحث الفرد على الإخلاص في العمل والأداء العالي لتحقيق الكفاية الاقتصادية في مختلف الأنشطة الحياتية والعبادية. وكذلك ربط العمل بالأجر الدنيوي والاخروي، لأنَّ العمل الصالح يؤدي إلى عدم انحراف القطاعات الاقتصادية عن الاهداف المحددة لها سلفاً.(21)

2 - حث التركيبة الاجتماعية نحو الانفتاح على التطور والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات ونبذ الاختلافات

لقد أولى الإمامُ عليٌّ (عليه السلام)، موضوع التطور الاجتماعي المستديم، القائم على التعايش المشترك بين أطياف البشر، ومختلف القوى، والشرائح الاجتماعية، أهميةً قصوى وأولوية في برنامج حكومته، منذ اليوم الأول لخلافته. فعلى الرغم من التركة المثقلة بالاضطرابات التي ورثها، فقد جاء إلى منصب القيادة في الأُمة الإسلامية وقد تمزقت أواصرها واضطربت ادارتها، وأصبحت السلطة المركزية - أي سلطة الخلافة - موضع شك من جماهير الأمة.(22) حيث كان المناخ السياسي مضطرباً أشدَّ الإضطراب في واقعه؛ فقد استقبل الضعفاء والمحرومون خلافة الإمام بالغبطة والسرور، وتلقتها الطبقة الأُرستقراطية من قريش بالحقد والكراهية. بينما استقبل الإمام تخطيطه في ضوء الإسلام وبهدي

ص: 353

القرآن وأضواء السنة بكثير من التقوى والورع.(23) ومن أجل اعتماد الشفافية والتوعية بين أوساط جماهير الأمة لإيضاح نهجه و سیاسته، فقد شنّ الإمامُ حملةً توعويةً تثقيفيةً. فقد روى ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن شيخه أبي جعفر الإسكافي، أن علياً (عليه السلام) صعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة.(24) فكان من خطبته : «ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون، ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا. ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدَّق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بینکم بالسويّة، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار».(25) لقد أعلن الإمام التزامهِ بنهجِ المساواۃِ بين أبناء الأمة، ومواطني الدولة الإسلامية. حيث كان مصمماً السير على خطى الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، بإقامة تنمية حقيقية شاملة. إذ من دونها لا يمكن أن تكون دولةً ولا أمةَ من غيرِ مجتمعٍ متماسك موحد، يقيم أفرادها ولاءاتهم للممجتمع عوضاً عن العشيرة أو القبيلة، وبالتالي فقد أنجز عنصر المواطنة.(26) لكي يكتمل أخيراً

ص: 354

المثلث السياسي: الفرد - المجتمع - الدولة. وأكد على ذلك بسياساته العملية، ومواقفه وتصريحاته العديدة. حيث ورد في كتابه المالك الأشتر، حينما ولاه مصر، ذات التنوع الديني، لبقاء قسم من أهلها على المسيحية(27)، قوله (عليه السلام): «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».(28) هذه الكلمات التي بقي صداها أكثر من الف وأربعمائة عام ليتم تداولها أخيراً في أروقة الأمم المتحدة في وقتنا الحاضر.

3 - إعتماد سياسة مالية عادلة ومتوازنة

لقد كانت سياسة التمييز في العطاء التي ورثها تمثل أحدى المشاكل المهمة في السياسة العامة للدولة. حيث أوجدت نقمة وسخطاً في العديد من الأوساط، لإنها ساعدت بصورة واُخرى على تنامي بذور الطبقية بين المسلمين، كمحصلة طبيعية لتراكم الأموال والثروات بين يدي بعض المسلمين، لاسيّما عند الأغنياء منهم، مما استدعى اتخاذ قراره الصارم بإلغائها.(29) حيث ساوى بين الناس، دون أي تفضيل أو تمييز. لاعتقاده بأن المساواةَ مبدأ لا يمكن المساومة عليه، ولا التنازل عنه، ولو كان ثمن ذلك اهتزاز عرش السلطة، لأن السلطة لديه لم تكن هدفاً وغاية، بل وسيلة لتحقيق المبادئ والأهداف الإسلامية(30). ومن أجل ذلك، فقد قرر تحمّل المضاعفات الخطيرة التي قد تنال من استقرار حكمه وسلطته . فقد كانت سياسته المالية امتداداً لسياسة الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، في تحقيق مبدأ المساواة بين الجميع وهو الأساس الذي لا رجعة عنه، لبناء مجتمع «العدل والاكتفاء والتوازن.(31) وهي تطبيق لمبدأ قرآني، حيث إِنًّ الأموال والثروات إنما هي ملك للهّ تعالى، وقد أُستخلف عليها الإنسان، ووضع لهذا

ص: 355

الاستخلاف شروطه وحدوده، لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ

وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ».(32) ولم يدخر الإمام (عليه السلام)، جهداً ولم يهدأ له بال إلا بعد اعادة الاُمور إلى نصابها القانوني والشرعي، كما أراد اللهّ والرسول، وهو ما عمل به بكل اصرار. لذا أصبحت اجراءاته في ترسيم المعالم المالية للدولة الإسلامية، في صميم العدل والمساواة بين المسلمين، وصولا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.(33) بل ذهب الإمام إلى تثبیت العدل الإجتماعي في سياسته المالية. (34) فإنَّ الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين: أولاهما التوحيد، وثانيتهما المساواة بين الناس. وكان أغيظ ما أغاظ قریشاً من النبي ودعوته، أنه كان يدعوها إلى هذا العدل والى هذه المساواة.(30)

4 - صياغة تدابير نوعية ذات استشراف مستقبلي لسياسة الدولة

إِنَّ البحث عن حقيقة الوضع السياسي، وشكل نظام الحكم، في أي مرحلة زمنية، إنما هو البحث عن المقصد الإِستراتيجي المستهدف تحقيقه. كذلك استقصاء حالة التنمية البشرية القائمة والمخطط لها بمختلف أشكالها. فمنذ تولي أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، للخلافة والحكم، نجد أنه كان مهموماً بتطوير حياة أبناء الأمة، وتنميتها في مختلف المجالات.(36) فقد كان الإمام عليه السلام في تدبيره سياسة الدولة، لا يكافح العصبية القبلية وحدها، ولا يسوي القضية المالية فحسب، ولا يعالج النفوس المتشتتة ليس غير، وإنما أراد أن يعود بالإسلام إلى ينابيعه الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ابتعد الناس عن هذا العهد طيلة ثلاثين عاماً، ومهمة العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح مهمة شاقة.(37) فلم یکن إذن مجرد زعيم ديني يعنيه نشر العقيدة وتطبيق الشريعة فحسب، ولا مجرد حاکم سیاسی میهمه توطيد سلطته وحكمه،

ص: 356

بل كان صاحبَ مشروعٍ حضاريٍّ يستهدف إسعاد الإنسان وتفجير طاقاته وكفاءاته، ليتمتع بحياة كريمة، ويتجه إلى الفاعلية والإنتاج، وذلك هو المقصد الأساس للعقيدة والشريعة. فكان يشجع الناس على الجهر بآرائهم السياسية، وأن لا يترددوا في الاعتراض على الخطأ أمام الحاكم، وأن لا يتعاملوا مع الحاکم بمنطق التملق والتزلف.(38) حيث يقول: «فَلا تُكَلِّمُونِ بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، ولا

تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ - أي عند أهل الغضب - ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ - أي بالمجاملة - ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِيِ فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّ لَسْتُ فِي نَفْسِيِ بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي».(39) كذلك فقد توجه نحو تنمية سياسية حقيقية تتكامل مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للنهوض بواقع الأمة. فلم يقم في إدارته للدولة الإسلامية على احتكار السلطة، عبر اجراءات مباشرة يصدرها، ويسنها ويطبقها بنفسه، بل كان في صميم قاعدة «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته». فقد كان يؤمن بأن المسؤولية هي مسؤولية تكافلية وليست فردية بين أبناء الأمة. ولكن في موقع المسؤولية والإرشاد، لم يطلق العنان للآخرين ويترك الأمر لهم على الغارب، بل كان في صميم النصح والتوجيه، وإذا ما اقتضى الأمر فالمساءلة والمحاسبة والتوبيخ والعزل، إذا دعت الحاجة إلى ذلك(40).

فالنزعة الديمقراطية في كتاب «نهج البلاغة» أبين من أن تحتاج إلى بيان. فهو فضل العامة على الخاصة، وإنْ سخط الخاصة، و هذا عرفان منه لخطر العامة و مبلغ تأثيرهم في صلاح الأمة وفسادها، فقال (عليه السلام):

«ان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، و آن سخط الخاصة يغتفر مع رضا

ص: 357

العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالى مؤونة في الرخاء و أقل معونة له في البلاء، و أكره للانصاف، و أسأل بالالحاف، و أقل شكراً عند الاعطاء و ابطاً عذراً عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. و انما عماد الدين و اجماع المسلمين، و العدة للأعداء: العامة، فليكن صفوك لهم، و میلك معهم». فهذا كلام صريح في تفضيلهم، والاعتماد عليهم(41).

ولا بد من إرساء البحث في الجانب السياسي عند موضوع القطاع العسكري. حيث أنَّ المهمات القيادية السياسية متصلة بالتعليمات العسكرية. فقد كانت شخصية الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) الزاهدة، يقظة متحركة صامدة تجمع إلى الزهد، والقوة، والإدارة، فكان تدبير الجيوش، وإدارة شؤون الأقاليم، وإلزام الأمراء والعمال والولاة بجوهر تعليماته الخالدة، التي لم تتجاوزها التعليمات الحربية العادلة، القائمة على أسس الدراسات العسكرية المتطورة في الحروب العالمية العامة، من أشتات مهمات الإمام التي جمعها الله له سيرة وقيادة. كما كان يأخذ بالتدبير الحربي الأسلم، فيرسم الخطط السليمة وخصوصاً على الصعد الآتية: الأول يتمثل بالإنضباط العسكري الدقيق في تقويم أمراء الجيوش، واختيار الأصلح من قواد الحرب، وإناطة القيادة العامة بالأكفاء من ذوي الخبرة والدراية بشؤون الحرب. أما الثاني فهو اختيار الموقع العسكري الأمثل، والتدبير الحربي الأسلم، والزمان القتالي الأولى. أما الثالث فيتم بتهيئة الفرص المتكافئة، ويوجه نحو الإعتصام والمنعة، ويحذر من الأنقسام والفرقة. لقد كانت هذه السنن الحربية التي خطط لها الإمام تنطلق من مبدأ الدفاع عن النفس، ولا تنجرّ إلى إرادة شهوة الحرب، وتنبعث من صميم تعاليم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في العفو والتغاضي، وتنسجم وطبيعة النظام الإسلامي في التوصل إلى معالي

ص: 358

الأمور، والابتعاد عن توافه الأغراض(42).

ثانياً: تحديد كيفية حدوث الاعتماد المتبادل للعناصر الأساسية في التطور الاجتماعي

سبق أن ذكرنا أن المثلث السياسي يتكون من: الفرد - المجتمع - الدولة. سنتناول في هذا المبحث دراسة وتحليل هذه العناصر. وسنبين ماهية كلاً منها مع التركيز على الجزء المرتبط مباشرة بالبحث. حيث سنحاول تفسير أثرها في تكوين الثقافة والوعي الفكري للفرد؛ ذلك لأنها ستكون ناتجةً من التفاعل بين المنظومة الفكرية و القيمية في المجتمع، و بين مكونات المجتمع الأخرى من جانب، و بين الدولة بكل مؤسساتها(43) من جانب آخر. كما يتبين الترابط الجوهري فيما بين مكوناتها و بين التأثيرات المتبادلة فيما بينها. وهذا سيؤدي إلى خلق منظومة قيمية جديدة للفرد أفضل من سابقتها، ضمن مجال بيئي جديد لاهو حتماً أفضل من سابقه أيضاً مما سيؤدي إلى البحث عن مشروع حضاري يستوعب الفرد و يتلائم مع المجتمع. وكما موضح في الشكل البياني الآتي:

1 - ماهية الوعي الفكري للفرد كعنصر أساسي في المثلث السياسي

بادئ ذي بدئ، يمكن وصف وعي الفرد الفكري بأنه على نوعين(46):

النوع ألاول: هو الوعي الحقيقي، الذي يتحدد بمدى قدرة الفرد على الاتصال المباشر مع البيئة المُحيطة به بوساطة منافذ الوعي المتمثلة بالحواس الخمس، و سيصبح من الممكن تعريفه: بأنه ما يمتلكه الإنسان من أفكار ووجهات نظر تتعلّق بالحياة ومفاهيمها وما يحيط به من بيئة.

النوع الثاني: فهو الوعي بالزيف، حيث يتباين واقع الإنسان بهذه الحالة مع

ص: 359

وجهات نظره وأفكاره، وقد يقتصر هذا التباين على واحد من جوانب حياة الفرد أو جميعها.

نستخلص من هذا، إنَّ الوعي الحقيقي هو الذي يكُوِّن الفكرة الحقيقية. وإذا أدركنا بأن الحقيقة هي الفكرة المطابقة للواقع، وتبيّنا بأنَّ الفكرة إذا كانت مطابقةً للواقع في ظرف معين، فلا يمكن أن تعود بعد ذلك فتخالف الواقع.(45) فسيتضح لنا أهمية المعرفة وقيمتها الموضوعية، ومدى إٍمكان كشفها عن الحقيقة. لذا، فإن الطريق الوحيد الذي تملكه الانسانية لاستكناه الحقائق والكشف عن أسرار العالم، هو مجموعة العلوم والمعارف التي لديها.(46)

شكل يمثل التأثيرات المترابطة بين تكوين الوعي الفكري للفرد و مسؤولية الدولة في المنظومة الإجتماعية

والقيمية في المجتمع

تکوین الوعي الفکري للفرد وإعداده لبناء المشروع الحضاري المستدیم

المجتمع

الدولة

ص: 360

فأرتفاع مستوى وعي الفرد الحقيقي سيبصِّرَهُ بحقيقة نفسه أولاً، وذلك تصديقاً لقوله تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»(47). وسيبصّرهُ بحقيقة وجوده، وضرورة تفاعله إيجابياً مع بيئته والارتقاء بها ثانياً، وذلك تصديقاً لقوله تعالى «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرُدُّونَ إِلَیٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ«(48). وهذا ما أشار اليه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بقوله: «كن لدنياك كأنك تعيش أبدا، وكن لآخرتك كأنك تموت غدا.(49) يقول الأستاذ مرتضى المطهري: إنَّ هذا الحديث من ألطف الأحاديث في الدعوة إلى العمل وترك الإهمال، سواء في الأمور الدينية والأخروية أو الدنيوية.(50) وكذلك قول الإمام علي (عليه السلام): «قيمةُ كل امرىءٍ ما يُحسِنهُ»(51) الذي أورده الجاحظ في كتابه البيان والتبيين وعلق قائلًا: «لو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها شافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية.(52) وهذا ما يجعل رجل رسالة وحاكماً كالإمام علي (عليه السلام)، حريصاً على أن يدخل في وعي أمته، التي يحمل مسؤولية قيادتها ومصيرها، نظرة إلى التاريخ سليمة تجعله قوة بانية لا مخرّبة ولا محرّفة.(53) فستكون النتيجة إندفاع الانسان باتجاه التفتيش عن المشروع الحضاري المناسب، الذي سيصبح مسألةً حتميةً، لكي يتلاءَم مع مستوى تطوره عبر المددِ الزمنية المختلفة. ولكننا سنقف هنا عند تساؤلات مهمة جداً هي:

- هل يستطيع الفرد، لوحده، أن يأخذ على عاتقه، موضوع إستبصاره بجميع الأمور والمسائل ما ظهر منها وما بطن؟

- وهل يستطيع الفرد، لوحده، أنْ يُحدث تغييراً جوهرياً في المجتمع، يقود إلى أنجاز مشروعٍ حضاريٍّ أكيدٍ ومناسبٍ، أم يحتاج الى كيان كبير منتظم ومنظّم إسمه «الدولة»، والتي تهتدي بفلسفة محددة، وتأخذ على عاتقها تهيئة البيئة

ص: 361

المناسبة لذلك؟

هذا ما سوف نتناوله في الموضوع الآتي:

2. مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وإحداث تغيير مؤسساتي لإرساء التفاعل الاجتماعي الايجابي

إنَّ العصر الحالي، يبرز دوراً متميزاً للدولة إزاء حصول أي تغيير المجتمعاتها. کیا يميّز دورها الايجابي، من خلال تحديد حقيقة أهدافها الاستراتيجي القابلة للتطبيق. إنَّ ادراك أوضاع أي بلد، ينطلق من فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع، والتي تمثل أحد المفاتيح الرئيسة في ذلك. حيث إن كل نظريات التغيير الاجتماعي والسياسي، قديماً وحديثاً، انطلقت من تصور ما لهذه العلاقة.(54) فقد تعامل ابن خلدون مع موضوع حدوث التغيير الاجتماعي، من خلال التتبع الدقيق لعمر الدولة، بوصفها موجهة للفعل السياسي والاجتماعي، نشوءا وتطورا، وضعفا وانهيارا. كما يؤكد أن التغيير سمة ثابتة من سنن العمران البشري، ولازمة أساسية من لوازمه، ولا يحصل تطور الأفراد والمجتمعات والدول إلا بها. حيث يقول: «إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول».(55)

أما عن ديناميكية عملية التغيير، من حيث السرعة والبطء أو القوة والضعف، فهذه ترجع إلى جملة الظروف المحيطة بعملية التغيير ذاتها. فبينما يعد ابن خلدون في القرن الرابع عشر أن عملية التغيير، شديدة الخفاء، ولاتقع إلا بعد أحقاب متطاولة، ولا يكاد يتفطن لها إلا الآحاد من أهل الخليقة. فإن عالم الاجتماع

ص: 362

الأمريكي ألفين توفلر 'Alvin Toner يرى بأننا نعيش في مجتمع متغير تحدث فيه التغيرات بصورة سريعة، ويصعب التحكم بها أو تعديلها. مما يؤشر على أن عملية التغيير محكومة بعامل الزمان والمكان. وحتى في هذا الزمن، الذي يوصف فيه العالم بالقرية الصغيرة، تتباين موجات التغيير عالميا تبعا لطبيعة كل مجتمع على حدة. فبينما تجري عملية التغيير بوتيرة سريعة في المجتمعات الغربية، تظل عملیات التغيير في البلدان النامية باهتةً وبطيئةً في كثير من الأحيان. ونتيجة خنق عملیات التغيير، يحدث التغيير فجأة بشكل عنيف، ويُحدث الكثير من الآثار السلبية.(56) ومن الملاحظ أنَّ التغيير في القيم والمعايير الثقافية، والذي يمثل أهم أنواع التغيير وأبعدها تأثيرا في المجتمع يتم ببطء شديد، وكثيراً ما لا يلاحظه أفراد المجتمع. أما التغيير على مستوى الواقع الاجتماعي اليومي فيمثل عملية مستمرة وماثلة في كل لحظة من لحظات الاجتماع الانساني. كذلك فإِنَّ تغيُّر النُظم الاجتماعية يكون أوضح وأظهر للعيان، كما أنه يتصل بالفرد من حيث أنه ينطوي على تغيير قواعد الدور أو تعلیمات أداء الدور.(57)

ويمكن فهم مدى إتساع دور الدولة ومدى تأثيرها في التغيير الاجتماعي من خلال المخطط اللاحق الذي يبين ذلك:

ومن أجل فهم مدى تأثير الدولة في خلق البيئة الحيوية المناسبة لتطور الفرد والمجتمع، سنحاول إبراز مسؤولية الدولة في ثلاثة محاور رئيسة، تشكل العناصر الاساسية في التغيير الاجتماعي، وهي:

2 - 1 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وبيئته الحيوية

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلائم مع تطوير الفرد والمجتمع

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد

ص: 363

2 - 1 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وبيئته الحيوية

إنَّ البحث في موضوع العنصر الاول من عناصر الدولة وهو العنصر الانساني، يقود الى محاولة استكشاف الخصائص الانسانية وتحفيزها داخل المحتوى الفكري للفرد، لكي تساعده على حل التناقضات في مجتمعه. ومن أجل توجيهه نحو خدمة مجتمعه و أُمته. كذلك فأن التأصيل للبعد الأخلاقي كونه رکناً مهماً من أركان الدولة، إنما يمثل شرطاً ضرورياً لنهضة الأمة. ذلك لأن جزءاً من المبدأ الصالح هو الأخلاق، وهذا يمثل فهماً حضارياً لصيرورة الأمة ونهضتها.(58) وقد عبر عن ذلك الحديث النبوي الشريف (إنما بعثت لاتمم مکارم الاخلاق).(59)

مخطط يبين مسؤوليات الدولة الأساسية(60)

وظيفة بناء المنظومة الأمنية - الأمن الداخلى - الأمن الخارجي

الوظيفة السياسية - الستراتيجيات العامة للبلاد - الوظيفة الرقابية

الوظيفة الإدارية والتشريعية - تنظيم الهيكل الإداري العام - التشريع

الوظيفة الإقتصادية التجارية - الزراعية - الصناعية - المالية

الوظيفة التعليمية - التربية و التعليم و التدريب - التعليم العالي و البحث العلمي

الوظيفة الإجتماعية - إعانة الفقراء - تحسين المستوى المعاشي العام - الوظيفة الترفيهية - الخدمات الأخرى

ص: 364

فمكارم الأخلاق تحتل أكبر مساحة من الدين، بل إن الدين كله خلق(61) فأخلاقيات الفرد المسلم تتجسد في الابتعاد عن الاساليب غير النظيفة التي تتعارض مع المتبنيات الفكرية له.(62) لان القاعدة الأساس في المبدأ الصالح الذي يعرضه الاستاذ الشهيد محمد باقر الصدر، هو الالتزام الاخلاقي وترجمة هذا الالتزام الى سلوكيات مستقيمة.(63) فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الإسلامي، وهي راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية.(64) فهناك ضرورة أن تكون الأخلاق عموداَ من أعمدة بناء الدولة، لانه ما من مجتمع يتمتع بأخلاقيات رفيعة المستوى، و تشیع فيه الفضيلة، ويكون أفراده ذوي إلتزام في السلوك، إلا أن يكون مجتمعاَ قد إقترب من الإستقامة الحقة.(65)

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلائم مع تطوير الفرد والمجتمع

بادیْ ذي بدء، لا بد من توضيح لماذا استخدمنا جملة تغيير مؤسساتي، ثم جملة - تطوير الفرد والمجتمع؟

سبق وتم شرح معنى التغيير(66)، ونضيف هنا، إنَّ التغيير قد یکون نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وقد يؤدي إلى تحسين أو إلى تخلف، كما إنه قد يتم بإِرادة الإنسان أو بدونها، كما إنه يمكن أن يكون جزئياً. وعموماً يمكن القول إنه التحول من الوضع الحالي إلى وضع جديد أفضل في المستقبل.

أما التطوير فهو وظيفة إدارية. فإذا كان مبنياً على أساس علمي سيؤدي الى التحسين والتقدم والازدهار. كما إنه لا يتم إلا بإرادة الإنسان ورغبته الصادقة، وشامل لجميع الجوانب المرغوب في تطويرها وتحسينها(67).

ص: 365

إنَّ جوهر التغيير المؤسساتي المبني على البحث المستمر عن الكفاءة والفعالية وحسن استخدام الموارد، يفترض أن يكون للدولة دورٌ محوريٌ فيه. فالتغيير المؤثر هو الذي يهدف إلى ضمان نجاح وسلامة تنفيذ التغييرات، والى تحقيق فوائد دائمة للتغيير.(68) كذلك فالتغيير يحتاج الى متطلبات لا يمكن تحقيق الاهداف بدونها، يأتي في مقدمتها وجود رغبة حقيقية في التغيير، وأن يكون نابعاً من الداخل، وتوافر المعلومات ثم إتخاذ القرار و البدأ في عملية التغيير.(69)

حقيقية، لقد كان الإمامُ عليُّ (عليه السلام)، سبَاقاً باستخدام الأساليب العلمية في الادارة والتخطيط الإستراتيجي. فقد أراد (عليه السلام)، أن يُحدث رغبة حقيقية لدى أفراد المجتمع آنذاك في عملية التغيير. فبدون هذه الرغبة لا تكون هناك حاجة للتغيير. أي إن التغيير لابد أن يكون نابعاً من الداخل وذلك تطبيقاً لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...»(70) كذلك فأن الأدلة التأريخية تؤكد إن الإمام (عليه السلام)، قد بدأ منذ اللحظة الأولى لتسلم زمام الحكم عقلية التغيير الحقيقية في كيان هذه التجربة. وواصل سعيه في سبيل انجاح عملية التغيير واستشهد، وخر صريع بالمسجد، وهو في قمة هذه المحاولة، أو في آخر محاولة انجاح عملية التغيير، وتصفية الانحراف، الذي كان قد ترسخ في جسم المجتمع الاسلامي، متمثلاً في معسكر منفصل عن الدولة الاسلامية الأم.(71) کما أن الإمام علي (عليه السلام)، قد ركز على موضوع توافر المعلومات، فبدونها لا ينجم التغيير. حيث نفذ نظاماً رقابياً وإدارياً ومالياً دقيقاً جداً، يعتمد على العيون التي يستقي منها الخليفة معلوماته، عن تصرفات الولاة والعمال في ولاياتهم البعيدة عن مركز الدولة، يشبه نظام الاستخبارات في وقتنا الحالي، لأنَّ هؤلاء العيون لا يعرفهم سوى الخليفة.(72) ومما عزز نظام المعلومات

ص: 366

هذا هو التطوع من بعض المسلمين.(73) علمًا بأن الخليفة وهو (الإمام علي (عليه السلام))، كان لا يأخذ كل المعلومات الواردة له دون تدقيق، بل يتثبت من هذه المعلومات قبل إصدار أيِّ حكم.(74) وهذا دليل على رقي الوعي الفكري لدى هذه الشريحة من أفراد المجتمع الإسلامي المعاصر للإمام (ع عليه السلام). لقد أدى كل هذا إلى فاعلية النظام الرقابي المتبع في تحقيق أهداف المراقبة، لاسيما في مراقبة تصرفات الموظفين التابعين للدولة الإسلامية.(75) وقد أشار الإمام علي (عليه السلام)، إلى ذلك عندما أمر الولاة أن يستعينوا في عملهم بمجموعة موثوقة من الأشخاص، ويجعلوهم عيوناً لهم (جهازاً) لمراقبة عمال الخراج والجزية. وهو مختلف عن الجهاز التابع للخليفة لمراقبة الولاة والعمال أنفسهم.(76) فمن قوله في كتابه إلى عامله على مصر مالك الأشتر: «ثم تفقد أعالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحداً منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.»(77) فلو دققنا في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، حين ولاه مصر لوجدناه قد ركز على نقطة أساسية عند بناء الدولة، وهي أن تكون هناك معرفة تامة بالمجتمع المراد حكمه.(78) حيث ورد فيه: «اعلم يا مالك أني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك».(79)

ويُفهم مما ورد في العهد المبارك إنه إذا أردت النجاح بتأسيس دولة أقوى مما كانت عليه سابقاً، كمصر ذات الارث الحضاري والتاريخي، ولان رعيتها قد خبروا الحياة السياسية والاقتصادية، وجربوا الدولة المدنية، يجب تطبيق البعد الإِقصادي

ص: 367

(جباية خراجها)، و البعد التنافسي (جهاد عدوها)، والبعد الاجتماعي (استصلاح اهلها)، و البعد البيئي (عارة بلادها)، والبعد المعرفي.(80) وكذلك معرفة كافة التفاصيل الأخرى المتعلقة بالدولة والتي هي موجودة ضمن نص العهد.

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد

لقد أصبح من المسلم به إن الحياة الإجتماعية تتطلب تنظیماً وادارةً وحمايةً للامن الإجتماعي، والقضاء بين الناس. وذلك التنفيذ يتطلب وجود هيأة سياسية عليا تملك الولاية وحق استعمال القوة بتنفيذ القانون.(81) وعلى المستوى العملي فإن هذا الدور مناط بالدولة. ومن أجل فهم دور الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد، والذي يوصل الى التطور الاجتماعي المستهدف، سنحاول الاستفادة من الدروس التي بعثها الينا الإمام (عليه السلام)، في تراثه العلمي، وذلك من خلال البحث والتحليل في النقاط الاتية:

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني

2 - 3 - 1 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية

2 - 3 - 3 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني وعلى وفق المعايير الدولية

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني

إنَّ مفهوم الأمن الفكري في الإسلام، والذي يعدُّ جزءاً من الأمن الإنساني، هو مفهوم متجذر في القرآن الكريم. كذلك فقد اتسع إلى نواحٍ أُخری کالأمن النفسي والأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، ولم يغفل عن

الأمن الأخروي.(82) وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ

ص: 368

إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا».(83) وقال تعالى: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».(84)

فالمحاججة الاولى، كانت في التوحيد وهو مدار حركة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام. حيث إنَّ الإيمان الحقيقي، هو ذلك الإيمان المرتكز على الإخلاص في التوحيد، وهو الذي يحقق الأمن الفكري.(85) فلا يخفى أنَّ التوحيد يُعدّ أساساً من أهم أُسس الدين الإسلامي، وعليه تبتني أهمُّ تعاليمه ونظريّاته بل عقيدته و شریعته.(86) إذ أن منطق الإسلام المبني على أساس التوحيد الخالص بما يشمل التوحيد القوة الفاعلة في العالم.(87) لقد تم طرح مفهوم «الأمن الإنساني»، وهو الصيغة المحسنة التي استقر عليها ما سُمي بالأمس مفهوم الأمن. وبعد أن شُخِّصت التطورات والتحولات التي طرأت عليه، وأصبح الأمن الفكري في مقدمته، أضحى ما هو طبيعي أن تأتي السياسات التنفيذية والإجرائية متطابقةً مع التشريعات التي أسستها، وهذا هو انعكاسٌ وتجلٍ للرؤية الفكرية التي قامت عليها الدولة. فعندما سارت أوربا في طريق الإصلاح، بدأت بإعادة النظر في قيمة الإنسان وكرامته وتساوي النوع البشري، الذي أدى بشكل طبيعي الى التزام الدولة بتوفير العيش الكريم وفرصة المشاركة المتساوية للجميع.(88) وبالتالي فإن إعادة النظر في قيمة الإنسان وكرامته، التي سُحقت لقرون طويلة، أصبحت أمراً لامناص منه. فالمنهج العلمي الذي اختطه الإمام عليٌّ بن أَبي طالب (عليه السلام)، قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وسبق فيه عصر النهضة و الإصلاح في أوربا، هو عبارة عن منظومة معرفية عن حال الأمة وعوامل تردیها و عوامل تقدمها. وقد تجمعت لدى الإمام من الملازمة التي كانت بينه وبين الرسول

ص: 369

الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، وما كان له من العلاقة مع الصحابة والناس، وماشهده من تحولات في الأمة في المدد المتعاقبة؛ فكانت قراءةُ الإمام (عليه السلام) لكل ذلك، قد مكنته من تقديم مشروعه الشامل، والذي به يتحقق الأمن الفكري.(89) کما بقي هذا المشروع شعلةً مضيئةً، بالرغم من محاولة طمس معالمه منذ القرن الأول للهجرة النبوية. فهو الذي وضع للأُمة مرتكزات تحقیق أمنها الفكري، وذلك بقطع الطريق على أئمة الضلال في اختيار مع ما يتناسب مع أهوائهم.(90)

وبالرجوع الى الأثر الخالد كتاب «نهج البلاغة«، وإلى الدراسات والكتب التي أُعدت حول هذا الموضوع وفي مقدمتها كتاب (الأمن الفكري في نهج البلاغة لمؤلفه السيد نبيل الحسني). فإن هناك رسالة أخرجها الإمامُ عليُّ (عليه السلام) الى الناس تتضمن أصولَ الأمنِ الفكريِّ، وإن اعتمادها سيكون مُنجياً في هذه الحياة. وكذلك الإستفادة منها في المساهمة في بناء المجتمعات الإنسانية.(91) ويمكن تلخيص بعض من هذه الأصول والتي لها صلة مباشرة بالأمن الفكري، وكما يأتي:

- القراءة التي تُعد من بين أهم الأصول التي توصل الى الأمن الفكري.(92)

- التعاون على الحق. حيث جاء في قول الإمام (عليه السلام): «وكونوا على الحق أعواناً».(93)

- التفقه بالدين ومعرفة الحلال والحرام.(94)

- اعتماد النظام الإنتخابي في الوصول الى الحكم.(95)

وإذا تتبعنا جذور مفهوم الأمن الإنساني في العصر الحديث منذ الإعلان العالمي الحقوق الإنسان عام 1945، نلحظ ظهور مفهوم الأمن الإنساني من خلال التركيز

ص: 370

على إرساء بعض القواعد الكفيلة بحماية حقوق الإنسان. كما ظهرت مساهمات عديدة كان أبرزها المساهمة الحقيقية لدفع المفهوم في تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. حيث تناول الإبعاد الجديدة للأمن الإنساني، من خلال أربع خصائص أساسية هي:

- الأمن الإنساني شامل عالمي، فهو حق للإنسان في كل مكان.

- مكونات الأمن الإنساني متكاملة يتوقف كل منها على الآخر.

- الأمن الإنساني ممكن من خلال الوقاية المبكرة، وهي أسهل من التدخل اللاحق.

- الأمن الإنساني محوره الإنسان ويتعلق بنوعية حياة الناس في كل مكان.

وتنبأ التقرير بأن تؤدي فكرة الأمن الإنساني على الرغم من بساطتها لثورة في إدارة المجتمعات في القرن الحادي والعشرين. كما حدد مكونات هذه الفكرة تتكون من شقين: الأول هو الحرية من الحاجة، والثاني هو الحرية من الخوف. مما يتفق مع مفهوم الأمن الإجتماعي القرآني.(96)

2 - 3 - 3 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية

بادىء ذي بدء، إذا سلمنا بأن النتائج محكومة بمقدماتها، فإن بناءَ وتطوير منظومة تعليمية لمجتمع قائم على المعارف، ومستفيد من حق التساوي،(97) من الامكانيات التعليمية، سينتج حتماً فرداً متطوراً واعياً لحقوقه وواجباته. إن المساواة في التربية والتعليم في النظام الحقوقي الإسلامي، تنطلق من التأكيد على موضوع المساواة التامة بين أفراد المجتمع، وضمان حقهم الكامل في الاستفادة من الإمكانيات التعليمية المتاحة. والآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية

ص: 371

الشريفة تؤكد على فضيلة العلم وضرورة أكتسابه.

فالمعرفة تُعد الصفة الاساسية للمجتمع الانساني الراهن. ومن خلالها تحققت معظم التحولات العميقة والمهمة في كل مجالات الحياة لما لها من علاقة عضوية بتنمية المجتمعات الإنسانية. والمعرفة ربما هي المتغير الوحيد الذي لا ينطبق عليه قانون تناقص الانتاجية الحدية. فكلما تزايدت المعرفة أدت الى تزايد انتاجية الانسان.(98) كذلك فأن المعرفة هي احدى المكتسبات المهمة للاقتصاد والمجتمع. فبناء القدرات الانسانية وتطويرها باعتبارها العنصر الانتاجي الرئيس والمحدد الاساسي للانتاجية، انما ينطلق من تطوير كفاية وقدرات الموارد البشرية.(99) «فالعلمُ مقرونٌ بالعملِ».(100) اذن، لا بد من الانتقال نحو مجتمع المعلومات و المعرفة. ففي ظل عصر العولمة و التنافسية الشديدة بين اقتصاديات الدول؛ اصبحت العلوم والتكنولوجيا هما النهج المعاصر الذي يفرز بذور النمو وبناء الثروات والاقتصاد. ونتيجة لتطور علاقة الاتصال بين المعرفة العلمية والقوة الاقتصادية؛ نشأ مفهوم سياسات العلوم والتكنولوجيا في برامج وحكومات الدول. ولكن هذا التوجه يتطلب اعداد مستلزمات مشروع تقييم اصول المعرفة الوطنية. بالإضافة إلى تهيئة وإعداد برامج تساعد على تكوين مناخ ايجابي لإنتاج المعرفة، وهذا يستوجب حتماً تدخل حكومي لتحديد الإطار المناسب للمنظومة التعليمية.(101)

فالمجتمع القائم على المعرفة والذي يسعى لتوفير طرقٍ جديدةٍ ومشوقةٍ للتعليم والتدريب، لابد أن يسعى للتكيف مع النظم التي تفرزها التطورات الحديثة والتعامل معها بدقة وفي مقدمتها العولمة. وقد أكد المؤتمر الدولي الثاني للتعليم التقني والمهني (سيؤل، 1999) على ضرورة أن تتكيف نظم التعليم التقني والمهني مع التطورات المهمة المتمثلة في العولمة، والتغيير الدائم للمعطيات

ص: 372

التقانية، والثورة المعلوماتية والاتصالية. ولكي يحقق التعليم المهني والتقني دوره المنشود في ضوء هذه التطورات والمتغيرات، فلا بد من تطويره بشكل

يضمن تمیزه بهدف إكساب الطلاب والمتدربين معارف و معلومات نظرية، ومهارات عملية ومهنية، والعمل على تشجيعهم على التعلم الذاتي، لتحقيق مبدأ الإستدامة والتعلم مدى الحياة.(102)

2 - 3 - 3 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية

اذا كان افراد المجتمع منذ بداية ولادتهم يأتون غير متساوين في الفرص، ومن حيث الوراثة، ومن حيث التربية الأُسرية، والوضع الطبقي وما إلى ذلك، وانعكاس ذلك لاحقاً على قدراتهم ومؤهلاتهم وبالتالي عدم الوصول إلى نقطة من المساواة، فإن ذلك يجب ألا ينطبق على الجانب الصحي لافراد المجتمع. فيجب أن يكون حق تساوي الجميع في الحصول على الخدمات الصحية أياً كان نوعها وشكلها، يوازي تماماً حق تساوي الجميع في الحرية، على حد تعبير جون راولز.(103) فإذا قاربنا بين مفهومي المساواة والعدالة، بحيث تكون العدالة صفة للمؤسسات الاجتماعية وليست صفة للفرد في العصر الحديث، فإن المصادر الإسلامية تحدثت بكثرة عن العدالة(104). حيث أكدت آیات قرآنية على مفهوم العدل. وقال الإمام علي (عليه السلام) في قولهِ تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ.....»(105): العَدلُ: الِإنصَافُ، والِإحسَانُ: التَّفَضُّلُ(106) فضمان الحصول على الخدمات الصحية وعدم التمایز بين الأفراد لا يتحقق إلا من خلال ضمانة حكومية تكفل وجود قطاع صحي عام فعالٍ في هذا المجال(107)

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني ووفقا للمعايير الدولية

اذا تأملنا قول الإمام علي (عليه السلام): «فلیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ

ص: 373

من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أَخرب البلاد».(108)

ثم تأملنا قول البروفيسور المعاصر مایکل باشون، الأستاذ في جامعة ستراثكلايد - بريطانيا. والذي ورد في كتابه الجغرافية الحضرية من منظور عالمي، والذي نصه:(109) .

«The policies of the national and local state can exert an important influence on urban change. Regulatory and taxation policies shape the environments that attract or repel investors" decisions about public investment determine whether infrastructure will be built».

وترجمة النص بشكل دقيق فيما يأتي:

«ويمكن لسياسات الدولة الوطنية والمحلية أن تمارس تأثيرا هاما على التغيير الحضري. وتشكل السياسات التنظيمية والضريبية البيئات التي تجتذب أو تصد المستثمرين، وتقرر القرارات المتعلقة بالاستثمار العام ما إذا كانت البنية التحتية ستبنى».

والآن لوقمنا بمقارنة النصين، سنتبين العمق الفكري، والملاحظة السبّاقة، والدقيقة، والمختصرة، التي وردت في قول الإمام علي (عليه السلام). حيث إنه:

- أولاً، نبّه عامله على مصر الى ضرورة اعطاء عمارة الأرض أولوية بالنسبة إلى الخراج. فإذا أعطينا مفهوم عمارة الأرض معناها الواسع، فسيكون شاملاً البنية التحتية، والطرق، والمياه،..... الخ.

- ثانياً، إنَّ سياسات الدولة تمارس تأثيرا مهماً على التغيير الحضري.

ص: 374

- ثالثاً، وبخلاف ذلك، أي أنَّ السياسة التي تهمل العمران، ستؤدي إلى خراب البلاد، والتي عبر عنها البروفيسور مایکل باشون.: ستشكل السياسات التنظيمية والضريبية البيئات التي تجتذب أو تصد المستثمرين.

حقيقة، إنَّ منشأ التطور هو العمران، وهو الذي يقود الى الحضارة. وقد عبر عن ذلك بن خلدون بقوله:

إن الحضارة هي نهاية العمران.(110)

إنَّ غياب التخطيط العمراني الفعال ستكون له عواقب خطيرة في ظل التوسع العمراني السريع الذي يشهده العالم. ففي الكثير من المناطق في شتى أنحاء العالم، من الممكن استشعار ذلك حقيقة. فآثارها واضحة في الإفتقار إلى السكن الملائم، ونمو الأحياء الفقيرة، والبنية التحتية غير المناسبة والمهملة، سواء كانت من الطُرق، أو وسائل النقل العام، أو المياه، أو الصرف الصحي أو الكهرباء..... الخ. وبناءً على ذلك، فإن تخطيط وإدارة المدن والقرى أصبحت على قدر كبير من الأهمية في أداء دورها كمحرك في التنمية المستدامة. وهذا ما أشار اليه مؤتمر الأمم المتحدة للإسكان والتنمية الحضرية المستدامة والذي سيعقد في كيتو بالإكوادور في الفترة من 17 - 20 تشرين الأول / أكتوبر، 2017. أول قمة للأمم المتحدة بشأن التوسع الحضري العالمي منذ اعتماد جدول أعال 2030 للتنمية المستدامة.(111)

فسيتضح جلياً من هذه المقارنات العلمية والعملية وهي واحدة من المقارنات بأنه يمكن تطبيق رؤى الإمامِ عليٍّ (عليه السلام)، على عصرنا الحالي، والاستفادة منها على أرض الواقع.

ص: 375

ثالثاً: حدوث التغيير في المنظومة الاجتماعية نتيجة للتغير في البيئة العامة للفرد

لا بد من التمييز - أولاً - بين التغيُّر الاجتماعي والتغيير الاجتماعي. حيث إن هناك فرقاً بيناً بينهما.(112) فالتغيُّر الاجتماعي يعرف على أنه التحول الذي يطرأ على البناء الاجتماعي، كزيادة عدد الأفراد في مجتمع معين أو نقصانهم. ويُعد التغيُّر الاجتماعي انتقالاً للمجتمع من حالة إلى حالة أخرى. ولا يشترط في هذا الانتقال أن يكون تطوراً، وإنما قد يكون تخلفاً وانحداراً.

أما التغيير الاجتماعي فهو التحول النابع من وجود ضرورة لإحداث تغيير معين في بيئة اجتماعية معينة أو في ناحية من نواحيها، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى حدوث تغيير واضح لا يحيد. فهو التحول الممنهج المدروس، الذي يتم تخطيطه بشكل حرفي بما يقلل من الأخطار، وتجنب السلبيات التي قد تنتج عن عملية التحول هذه. فالتغيير الاجتماعي يحتاج دائماً إلى تضافر المجموع من أجل تحقيق النتائج المرجوة، وبالتالي يكون التخطيط له موضوعاً حتمياً يٌظهر الدور الحاسم للدولة في إنجازه.(113)

نستخلص من كل ذلك، إن التغيير الذي سيحدث في المنظومة الاجتماعية، سيكون نتيجةً لمجموعتين من العوامل وهي كالآتي:

- المجموعة المرتبطة بالتطور الإِيجابي للوعي الفكري للفرد، کنتیجة لإعادة صياغة الشخصية الإنسانية على وفق أساس سلیم، ومنهج قويم، سيحقق التكامل و السعادة الفردية والإجتماعية.(114)

- إنَّ الإسلام قد أوجد القاعدة الفكرية الصحيحة للانسان في بناء الدولة، إِذ أَنَّ تلك القاعدة الفكرية، انما تنبثق عن مبدأ مطلق الكمال(115)، وإنَّ المقياس

ص: 376

الخلقي الذي يكون ميزان للسلوك، انما هو هدف مقدس في الوقت الذي يمثل طريقا مستقیما يُنبئ عن عقيدة صحيحة.(116)

حقيقةً، إنَّ السؤال الذي سينبثق هنا هو: هل ستنعكس هذه القاعدة الفكرية في بناء الفكر الإنساني القويم أيضاً، وبالتالي في مشروعه الحضاري؟ هذا ما سوف نجد الإجابة عنه فيما يلي.

رابعاً: أثرالتغيير الاجتماعي في التمهيد للبيئة الملائمة للتطور إستناداً للهدي العلوي

بعد أن بحثنا في الكيفية التي يحدث خلالها التغيير الاجتماعي. حيث توضح القصد من خلال التركيز على الوعي الفكري للفرد، ومسؤلية الدولة إزاء ذلك. نحاول الان معرفة الأثر الذي يتركه هذا التغيير على التطور العام للمجتمع. والسؤال الذي يطرح هنا هو هل يمكن إن تكون قد نشأت في ظل هذا التغيير حقوقٍ مکتسبةٍ للفرد، تندرج تحت عنوان حقوق الانسان، كنتيجة لحصول أرتقاء في وعيه الفكري؟ وهل ستمكنه أن يصبح جديراً بها وبالتالي تمكنه أن يصبح ملائماً للتطور باتجاه مشروعه الحضاري؟

إن الاجابة عن هذا السؤال يتطلب من الدولة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية ضمان الجوانب الآتية:

- حق الحياة

تُعدُّ حياة الانسان قيمةً ساميةً طبقاً لاحكام الشريعة الإسلامية المقدسة. وقد بینت ما ينبغي الالتزام به للمحافظة على هذا الحق. حيث يجب أن يكون كلُّ فردٍ في حالة أمان واحترام في تردده، ومكان إقامته، ومراسلاته، ومكالماته، وحواراته.

ص: 377

- حرية الفكر

يعد التفكير من المزايا الإنسانية العليا طبقاً لما ورد في المصادر الإسلامية وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة النبوية. حيث عُدَّ التفكر بين أعظم العبادات وأهمها.

فقد ورد ذكر التفكر في 18 آية، وهناك 149 آية أشارت الى التعقل. (117) قال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(118) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا عبادة مثل التفكر».(119) وقال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام): «ولا علم كالتفكر».(120) وقال ايضاً: “ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق (معرفة الله) وخافوا عذاب الحريق”.(121) وقال ايضاً: ”التفكُّر يدعو إلى البِّر والعمل به“. يقول المجلسي (رحمه الله) في شرح هذا الحديث: التفكّر المذكور في هذا الحديث المأثور يشتمل على جميع أنواع التفكّر الصحيح. فمثلاً التفكُّر في عظمة الله الذي يحمل الإنسان على خوف الله وطاعته. والتفكّر في الأخلاق المرضية الذي يدعو الإنسان إلى تحصيلها التجمُّل بها. والتفكُّر في الأحكام والمسائل الشرعية الذي يدعو الإنسان إلى العمل بها.(122)

- المساواة والعدالة الاقتصادية

المساواة الاقتصادية المطلقة حلم لا يتطابق مع طبيعة الانسان ودوافعه، ويكون ذلك نتيجة لفوارق البيئة الاجتماعية والتربوية. كما أنَّ الدافع الذاتي لدى بني الإنسان هو التفوق، وليس الميل إلى المساواة.(123) إنَّ المبدأ الأساسي هو إنَّ العمل جوهر القيمة الاقتصادية. وفي ضوء هذا المبدأ هناك إقرار باختلاف الأجور

ص: 378

والمكافآت. حيث نلحظ عدم التأسيس لفكرة حصول كل أفراد المجتمع على أجور متساوية.(124) فالمبدأ التشريعي القائل - مثلًا - إنَّ الحق الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل، يعالج مشكلة عامة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقدة، لأن طريقة توزيع المصادر الطبيعية على الافراد، مسألة قائمة في كلا العصرين.(125) کما نلحظ أيضاً، إن الاهتمام ينصب على رعاية التوازن في المستوى المعيشي لأفراد المجتمع. وهذا مابینه الأستاذ الشهيد السيد الصدر في كتاب إقتصادنا بما يأتي: «أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع و متداولاً بينهم، إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الافراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنه تفاوت درجة، وليس تناقضاً كليا في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.»(126) كما أنَّ التوازن العام في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات الإسلامية في مختلف الحقول، فإنها تساهمُ عند تطبيق الدولة لها، في حمايةِ التوازن.(127) كذلك فقد تبنى النظام الحقوقي الإسلامي عدداً من الإجراءات تستهدف موازنة المستوى المعاشي بين أفراد المجتمع؛ لمنع حدوث الفوارق الطبقية الواسعة. فاتباعُ سياسةٍ ماليةٍ مناسبةٍ وخصوصاً فيما يتعلق بالتشريع الضريبي وإنفاق عوائدها في الحفاظ على التوازن العام، ووضع أراضٍ تحت تصرف الدولة، وإنفاق عائداتها لدعم التوازن العام،(128) تمثل إجراءات أساسية للصالح العام، ولتحسين المستوى المعاشي، على الأخص فيما يتعلق بتوسيع القطاع العام. وفي هذا الصدد يذكر السيد الأستاذ محمد باقر الصدر في كتاب إقتصادنا ما نصه: «وقد يكون أروع نص تشريعي يحدد وظيفة الفيء، ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعاً عاماً، هو المقطع القرآني في سورة الحشر.(129) حيث يتضح حق

ص: 379

الجماعة كلها في الثروة، و في منع الاحتكار، وكذلك في وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة الطبقات التي تعيش دون خط الفقر. قال تعالى: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ...»...(130)

وقد ورد موضوع الفَيء (130) في نهجِ البلاغة، في أكثرِ من موضعٍ. فقد أكد الإمام علي (عليه السلام) على ضرورة تقسيم الفَيء على مستحقيه بقوله: «والفَيءُ فقَسَّمَهُ على مُستَحِقِّيهِ».(132) وكذلك بقوله: «..... لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ

خُنْتَ مِنْ فَيءِ المسلِمينَ شَيئاً.....».(133) وجاء في عهد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولاّه بلاد مصر: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسی والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك هم».((134)) حيث يتضح من النص السابق، تحديد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، المسؤولية المباشرة للحكومة في توفير الحد الادنى اللازم للعيش الكريم لكل فرد في المجتمع.(135) کما توجد مجموعة من التشريعات الإسلامية ذات الصلة بمبدأ التوازن، مثالها محاربة اكتناز النقود، والغائه للفائدة، وتشريعه لأحكام الإرث، وإعطاء الدولة صلاحيات ضمن منطقة

ص: 380

الفراغ المتروكة لها في التشريع الإسلامي، وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام.(136)

- المساواة المدنية والإجتماعية

استناداً إلى الفكر الإسلامي، فإن جميع أفراد المجتمع متساوون في شؤون المسؤولية، والجزاء والحقوق المدنية.(137) حيث تنعدم الفروق بين المواطنين على أساس اللون، الحاكم والمحكوم، مستوى الثراء........ألخ. ويؤكد القرآن الكريم ذلك في عدد من الآيات، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».(138) فرعاية شؤون الافراد، واستحقاقاتهم في المجتمع الإسلامي على درجة قصوى من الاهمية.(139) وقد وصف أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، ذلك بدقة في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر بقوله: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك».(140)

- المساواة في التربية والتعليم: تم شرح هذا الموضوع سابقاً.

- المساواة في حق العمل:

إنَّ النظام الحقوقي في الإسلام أقر هذا الحق، وأكد على ضرورته وأفضيلته لما له من علاقة في بناء الاقتصاد والمجتمع. بل ومنح حق الاختيار المشروع، وتكافؤ الفرص، على أن تؤخذ المؤهلات العلمية والقدرات التي اكتسبها الأفراد، في نيل المناصب الوظيفية لقيادة المجتمع لضمان تطوره.

ص: 381

الإستنتاجات:

لقد توصلنا من خلال البحث إلى قسمين من الاستنتاجات:

القسم الأول: الاستنتاجات النظرية، وهي:

1. إنَّ البحث في فكر الإمام علي (عليه السلام)، يستوجب التمييز بين واجهتين:

- الواجهة العامة، المتمثلة بالخطب والكلمات التي حملت رسائل لإستشراف المستقبل، ويمكن من خلالها استنتاج الأفكار والنماذج والأطاريح المعاصرة.

- الواجهة الخاصة، التي توجهت لعصره، وكانت تطبيقات عملية وحلول لمشاكل عاصرت الإمام. وهي في الوقتِ ذاتهِ، غاية في الأهمية لما تحمله من حلول لكثير من القضايا والمسائل الشائكة المعاصرة.

2. عدم وجود إنقطاع حضاريٍّ، بفضل الخطب و الكتب التي وجهها الإمام (عليه السلام)، الى جميع الناس في العصور، وذلك ضمن الواجهة العامة التي ذكرناها. وهذا يعني وجودَ صلةٍ تاريخيةٍ على الصعيدِ الفكريِّ والإجتماعيِّ، من شأنها احداث تغييرٍ منهجيٍّ أصيلٍ في المجتمع.

3. أرسى الإمام (عليه السلام) أُسُسَ مشروعٍ حضاريٍّ، يمكن لأي مجتمع، أو أية أمة، تشييد بنائهِ في أية مرحلة زمنية؛ نظراً لوجود قواعد فكرية عامة موجهة للإنسانية جمعاء، وليس لفرد معين، أو مجتمع معين، أو أمة معينة.

4. هناك مسؤولية مباشرة للدولة في الارتقاء بالوعي الفكري للإنسان، وذلك من خلال التخطيط، لإحداث تغيير مؤسساتي، وتهيأة بيئة عامة تتلاءم مع تطوير الفرد والمجتمع.

ص: 382

5. سيكون ظهور هذا المشروع الحضاري حتمياً، إذا توافرت ظروف التغيير الإجتماعي، وإذا حدث تطورٌ نوعيٌّ كفايةً في الوعي الفكري للإنسان، وفي ظل رعايةٍ إنسانيةٍ شاملةٍ وهادفةٍ ومخططٍ لها، تقوم بها الدولة.

القسم الثاني: الاستنتاجات العملية وهي:

1. إنَّ أية مشروع لا يمكن تنفيذه وضمان نتيجة إيجابية له، إلا إذا أكتملت شروطه النظرية أولاً، وتهيئة الأرضية المناسبة له ثانياً. وهذه دعوة للباحثين نحو توجيه بحوثهم ودراساتهم لإثراء الموضوع.

2. ضرورة تهيئة الأرضية المناسبة لهذا المشروع لكي يتسنى تطبيقه بدقة وعناية، ومن ثم انجازه على أرض الواقع. ويكون للدولة دورٌ رئيسٌ في كل مراحل انجازه، ويتم ذلك من خلال اعداد علميٍّ متكاملٍ وصحيحٍ لجميع الظروف والشروط السياسيةِ والتشريعيةِ والاقتصاديةِ والاداريةِ والصحيةِ والتعليميةِ والبيئيةِ، والتي سنتناولها في التوصيات الآتية.

التوصيات

1. في الجانب السياسي:

- تعميق فكرة أن يكون الولاء للوطن وليس للعشيرة أو القبيلة.

- توجیه وسائل الاعلام المختلفة نحو تعميق ثقافة المجتمع، واشاعة روح التسامح والحوار بين الأفراد. ويتم ذلك من خلال تشجيع المجتمع على تقبل الانفتاح على الآخرين، والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات التي تؤدي إلى الإنسجام الاجتماعي، ونبذ الاختلافات والتطرف.

2. في الجانب الاقتصادي

ص: 383

- اعتماد التخطيط القصير المدى والمتوسط المدى والطويل المدى ضمن ستراتيجية واضحة المعالم، من شأنها تعجيل التنمية الشاملة، الاقتصادية والاجتماعية.

- إعادة التوازن بين القطاعين العام والخاص في الاقتصاد الوطني، وبما يضمن تفاعلها الإيجابي.

- تبني سياسة اقتصادية، من شأنها القضاء على البطالة، والتضخم، ووضع سیاسة سعريةٍ تتناسب مع مستوى الأُجور.

3. في الجانب الاداري

- تنمية القدرات البشرية الحالية

- رعاية العاملين من خلال المحفزات المادية والمعنوية بحيث تساهم في خلق حالةِ استقرارٍ فکريٍّ واجتماعيٍّ.

- وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، بما يؤدي الى ملء مراکز القرارات بأشخاص ذوي كفايات علمية وادارية مناسبة.

4. في الجانب الصحي والأمني والثقافي

توفير الخدمات الصحية والامنية والثقافية بشكل يتناسب مع حاجة المجتمع.

5. في مجال التربية والتعليم

- الاهتمام بالتعليم والتدريب بمختلف مستوياته، بحيث تكون أعداد المدارس والمعاهد والجامعات متناسبة مع عدد الأفراد المتدفقين اليها.

- اصلاح نظام التعليم (التربوي والعالي)، باعتماد الأُسسِ الحديثةِ في تنميةِ

ص: 384

القدراتِ البشرية، وادخال انظمةِ التربيةِ و التعليمِ المعرفية في جميعِ المراحل.

- دعم البحث والتطوير كونه النشاط الأساس في خلق المعارف والابتكارات

- ربط مخرجات التعليم العالي بسوق العمل.

6. في الجانب الإجتماعي

سیاسة للضمان الاجتماعي والاعانات ولكافة طبقات المجتمع بما يضمن تقليص حدة الفوارق بين الافراد، وباتجاه القضاء على الإِنخفاض في المستوى المعاشي العام، ومنع الوصولِ الى خطِ الفقرِ.

ص: 385

الخلاصة

بينت التحليلات التي وردت في البحث، إنَّ هناك مشروعاً حضارياً يمكن استخلاصه من خطب و کلمات و کتب أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام). حيث توخي من خلالها، أن يعبّرَ عن حالة الرقي والتقدم والازدهار، التي يمكن أن يصل اليها الإنسان، في مرحلة معينة من تطوره، إذا تحققت الشروط الذاتية والموضوعية لذلك. وفي الحقيقة، إنما أراد أن يعبّر بهذا التطلع عن جوهر عقيدته، ويحاكي القرآن الكريم في مضمونه، في مدرسةٍ كان معلمها الأول الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله). فقد كان الإمام متوجهاً في مشروعهِ الى الإنسانية جمعاء، وليس إلى مجتمع معين، أو فئة معينة. ومن دون تمييز على أساس اللون، أو العرق، أو الطائفة، أو درجة القربي. وفي كل ذلك، كان يناشد استقامة الإنسان، التي تمثل أساس تقدمِه عندما خاطب وعيه الفكري، من أجل البلوغ بإنسانيته الى أقصى مداها، والذي عدها هدف التقدم وغايته ووسيلته. لقد نظرَ الإمام الى حركة الإنسان، من خلال تلازمها مع حاضنته الإجتماعية (داخل المجتمع الذي نشأ فيه)، من دون انسلاخه عن أبناءِ جلدتهِ، للمحافظة على المزايا والخصائص والأدوار التي اكتسبها، والتي تمكنهُ من الإضطلاعِ بمهامِ الحسم الصعبة والمصيرية، في سيرورة الإنسانية الطويلة. وبعد أن أكتملت صياغة الأطر النظرية، توجّه الإمام (عليه السلام)، الى رسم طريقة تنفيذ المشروع الحضاري. ولكنه وضع نصب عينيه، التخفيف من أعباء المسؤوليةِ الفردية، لتصبح مُلقاة على عاتقِ الدولة في تهيئة مستلزمات النهوض بالأمة. فقد أخذ بنظر الاعتبار ضرورة تسنُّم قيادات ذات كفاية عالية، ومؤمنة للإنجاز والإدارة، وتأخذ على عاتقها المسؤولية الكاملة، بإِتجاه قيام المشروع الحضاري.

ص: 386

هوامش البحث

(*) E-mail: aboforqan@yahoo.com

(1) الفرق بين التغيُّر والتغيير يدل التغيُّر على التحول المفاجئ في أحوال شيء معين، وهو مظهر واضح جداً يظهر على الشيء، وقد يحدث لكافة شؤون الحياة، وللمخلوقات المختلفة من خلال ما يعرف بالظواهر الكونية. أما التغيير فهو التحول الممنهج المدروس، الذي يتم تخطيطه بشكل حرفي بما يقلل من الأخطار، والسلبيات التي قد تنتج عن عملية التحول هذه. وفي الكثير من الأحوال قد لا تجدي عمليات التغيُّر المفاجئة في إحداث نقلة نوعية على أي مستوى من المستويات لعدة أسباب، وهنا تبرز الحاجة إلى وجود التغيير، الذي يتطلب التغيير وجود خطة واضحة المعالم، فلا تغيير من دون استشراف المستقبل، والتخطيط له، والإحاطة بكافة المتغيرات والعوامل التي قد تطراً وتحرف العملية عن مسارها الأساسي، كما يجب توقع حدوث إعاقة لعملية التغيير أيضاً، خاصة من أصحاب المصالح.

أنظر: أ.د. محمد الجوهري: علم الإجتماع، النظرية، الموضوع، المنهج، مصر، دار المعرفة الجامعية، 1998، ص 189 - 190 و ص 192 - 194.

أنظر كذالك في الموقع:

com.http://mawdoo3

(2) راجع أ. مرتضى مطهري: في رحاب نهج البلاغة، الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1992.

من ص 169 لغاية ص 173.

(3) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط 1998، 2، ص 11

(4) محمد مهدي شمس الدين: حركة التأريخ عند الإمام علي (ع)، (دراسة في نهج البلاغة)، بیروت، لبنان، ط 1، 1985، ص 29.

ص: 387

(5) المصدر السابق، ص 31.

(6) المصدر السابق، ص 32.

(7) أحسان العارضي: جدلُ الحداثةِ وما بعدَ الحداثة في الفكرِ الإسلامي المعاصر، قراءة موجزة في اشكالية العلاقة،

مركز الفكر الإسلامي المعاصر ط 1، 2013، ص 20.

(8) المصدر السابق، ص 27.

(9) المصدر السابق، ص 8.

(10) عدنان الحاج كاظم عليان: الإمام علي بن أبي طالب (کرمه اللهّ وجهه) ودوره في ترسیم معالم الدولة الإسلامية، ص 15. أنظر في الموقع:

: http://www.haydarya.com /maktaba_moktasah /10/book_ 29/ najaf 21.html

(11) د. حيدر عبد المطلب البكاء: المنهج الاقتصادي في نهج البلاغة (قراءة معاصرة)، ص 220. الموقع: http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_54/main htm

(12) أًنظر أ. د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الإقتصادي العام في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، مجلة المبين، السنة الثانية، العدد الثالث، نیسان 2017، ص 90.

(13) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: //:http bit.ly/2vKTCF9

(14) المصدر السابق

(15) أ. د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن......، مصدر سابق، الصفحات: 91 و93 و96.

ص: 388

(16) المصدر السابق، ص 23.

(17) د. حيدر عبد المطلب البكاء، مصدر سابق، ص 218.

(18) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 684.

(19) أ.د.يوسف حجیم سلطان الطائي: نظرية الاستدامة اللانهائية وأبعادها في فكر الإمام علي (عليه السلام) لبناء الدولة المستدامة، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية - العدد الثالث، 2017، ص 66.

(20) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 191.

(21) د. حيدر عبد المطلب البكاء، مصدر سابق، ص 204.

(22) د. زكي بدوي: الإمام علي (كرم الله وجهه) والتسامح الديني والسياسي، على الموقع:

https://goo.gl/fdVMUT

(23) أ.د. محمد حسين علي الصغير: الإمام علي (عليه السلام) قيادته سيرته، في ضوء المنهج التحليلي، ص 242، أنظر الموقع: http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/05/book_07/main.htm

(24) حسن الصفار: الإمام علي (عليه السلام) ونهج المساواة، على الموقع: .

https://goo gl/6ryQn4

(25) ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، ج 7 ص 37 الطبعة الأولى / 1987 م دار الجيل - بيروت.

(26) أ.د. زمان عبيد وناس: التنمية الاقتصادية في فكر أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مجلة المبين، مجلة

فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية - العدد الثالث، 2017. ص 119 - 120

(27) حسن الصفار: الإمام علي (عليه السلام) و نهج المساواة، على الموقع: .

https://goo gl/6ryQn4

ص: 389

(28) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 541.

(29) عدنان الحاج کاظم علیان، مصدر سابق.

(30) حسن الصفار، مصدر سابق. ص 21.

(31) عدنان الحاج کاظم علیان، مصدر سابق. ص 18.

(32) سورة الأنعام، الآية: 165.

(33) عدنان الحاج کاظم علیان، مصدر سابق. ص 28.

(34) أ.د. محمد حسين علي الصغير : مصدر سابق، ص 319.

(35) الدكتور طه حسين: الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، ج 1 ص10. في الموقع: http://www.muhammadanism.org/Arabic/book/Taha_Husain/grand_ riot_1.pdf

(36) أنظر أ.د. زمان عبيد وناس: مصدر سابق، ص 126.

(37) أ.د. محمد حسين علي الصغير: مصدر سابق، ص 330.

(38) حسن الصفار: التنمية الإنسانية في عهد الإمام علي عليه السلام، الموقع:

http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_93017.html

(39) نهج البلاغة خطبة رقم 207.

(40) عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، المقدمة، دار الكتاب العربي، بیروت، لبنان، 1997، ص: 129. وكذلك أنظر الموقع: / 15/ http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah ا book_207/abqariyat_alimam.pdf IIII

(41) أ. عبد الوهاب حموده: الآراء الاجتماعّية في نهج البلاغة، الموقع / https://goo.gl .

JVpHk6

(42) أُنظر في ذلك: أ.د. محمد حسين علي الصغير: مصدر سابق، ص 331 - 333.

(43) نظر ص 22 من بحثنا هذا.

(44) أُنظر الموقع:

http://mawdoo3.com

ص: 390

(45) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، مصدر سابق، ص 168.

(46) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، مصدر سابق، ص 95.

(47) القرآن الكريم، سورة القيامة، الآية (14).

(48) القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية (105).

(49) الأستاذ مرتضى مطهري: في رحاب نهج البلاغة، الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1992، ص 185.

(50) المصدر السابق: ص 185 - 186.

(51) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخيل، بيروت، 1 - 4، 2011. ص 616.

(52) أنظر أ. د. جواد كاظم نصر: الإمام علي (عليه السلام) مصدراً من مصادر الفكر الاسلامي، مجلة المبين، السنة الاولى، العدد الثاني، 2016، ص 170 - 171.

(53) محمد مهدي شمس الدين: مصدر سابق، ص 26

(54) أنظر: د. علي هلال: عن العلاقة بين الدولة والمجتمع. https://goo.gl/d3Jgbu

(55) أنظر: مراد بن علي زريقات: التغير الإجتماعي عند إبن خلدون، ورقة عمل مقدمة لندوة إبن خلدون التي تعقدها الجمعية السعودية لعلم الاجتماع، الرياض 2007. في الموقع:

http://www.murad-zuriekat.com/articles16.html

(56) أنظر: المصدر السابق.

(57) أنظر أ.د. محمد الجوهري: مصدر سابق.، ص 189 وص 192.

(58) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري: البعد الاخلاقي واثره في بناء الدولة في فكر محمد باقر الصدر، مجموعة

أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات،

بيروت، لبنان، شباط 2010. ص 530.

ص: 391

(59) أنظر الموقع: 1/ html. 109/19/http://islamport.com/d/1/alb

(60) انظر في ذلك:

- أ.د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الإقتصادي العام في ضوء عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر (رض)، مجلة المبين، السنة الثانية، العدد الثالث، نیسان 2017، ص 109.

انظر كذلك:

- د. حسين عمر : مبادئ المعرفة الإقتصادية، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط 1، 1989، ص 376.

(61) أنظر:

https://goo.gl/RTTTwR

(62) عبود الراضي: المنهج الحركي في القرآن الكريم، دار المنتدی، بیروت، ط 3، 2009 / 28. عناصر الدولة

في فكر الشهيد الصدر، مجموع أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني الأبحاث الفكر

والثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، شباط 2010، ص 530.

(63) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري: مصدر سابق، ص 531.

(64) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، دار للمطبوعات، بیروت، ط 20، 1987، ص 16 - 17.

(65) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري: مصدر سابق، ص 531 - 532.

(66) راجع الصفحات: 5 و 25 من بحثنا هذا.

(67) أنظر : د. عبد الرحيم محمد: التغيير ومبرراته وأسباب المقاومة، موقع شبكة الانترنيت:

http://dr-ama.com/?p=1451

(68) أنظر موقع:

https://ar.wikipedia.org

(69) أنظر: د. عبد الرحيم محمد، المصدر السابق

(70) القرآن الكريم، سورة الرعد، الآية (11).

(71) السيد محمد باقر الصدر: المحاضرة الأولى في موقع شبكة الانترنيت:

//:https

ص: 392

goo.gl/CXULJ2

(72) أنظر: أ.د. حسين على الشرهاني: منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في معالجة الفساد المالي، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الاولى - العدد الأول، 2016، ص 94 و ص 112.

(73) أنظر: المصدر السابق، ص 99.

(74) أنظر: المصدر السابق، ص 112.

(75) أنظر: المصدر السابق، ص 95.

(76) أنظر: المصدر السابق، ص 95.

(77) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع:

//:http bit.ly/2vKTCF9

(78) أنظر: أ. د.یوسف حجیم سلطان الطائي: مصدر سابق، ص 66.

(79) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: //:http bit.ly/2vKTCF9

(80) أنظر: أ.د.يوسف حجیم سلطان الطائي : مصدر سابق، ص 66.

(81) أنظر: د. محمد عودة: سيادة الدولة ومهامها الوظيفية في فكر السيد محمد باقر الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرین العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بیروت، لبنان، شباط 2010. ص 661.

(82) السيد نبيل الحسني: الأمن الفكري في نهج البلاغة، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط 1، 2015 م، ص 24.

(83) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (126).

(84) القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية (181).

(85) السيد نبيل الحسني: مصدر سابق، ص 27.

ص: 393

(86) السيد ابو الحسن نواب: الكرامة الإنسانية، دراسة في طهارة الانسان على ضوء الفقه الاسلامي، قم، نشر أديان، الاول 1389 ش / 1431 ق، ص 47.

(87) الأستاذ مرتضى مطهري:، مصدر سابق، ص 173.

(88) أنظر: نعمة العبادي: السياسات الامنية في مشروع الدولة عند الشهيد الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، شباط 2010. ص 620.

(89) أنظر: السيد نبيل الحسني: الأمن الفكري في نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 151 وص 179.

.179 ( 98)

(90) المصدر السابق، ص 60 وص 60 وص 134.

(91) المصدر السابق، ص 60 وص 134.

(92) المصدر السابق، ص 187.

(93) المصدر السابق، ص 189.

(94) المصدر السابق، ص 200.

(95) المصدر السابق، ص 220.

(96) أنظر: نعمة العبادي: ص 627.

(97) راجع ص 38 من بحثنا هذا.

(98) أ. د. سعد خضير عباس الرهيمي: الاقتصاد المعرفي أساس التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، مجلة جامعة بابل للعلوم الصرفة والتطبيقية، السنة 2011، المجلد 19، العدد 4، ص 522.

(99) المصدر السابق، ص 518.

(100) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخيل، بيروت، 1 - 4، 2011. ص 692.

(101) انظر في ذلك: أ.د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل......، مصدر

ص: 394

سابق ص 93 وص 109.

(102) حمدي محمد ابراهيم رجب: بناء منظومة تعليمية قائمة على التدريب المدمج وقياس فاعليتها في تنمية مهارات صيانة الحاسب الآلي لطلاب مراكز التدريب المهني، رسالة ماجستير، كلية التربية الأولى، جامعة حلوان، 2014، ص 3.

a very short of Law (103) Raymond Wacks; Philosophy introduction، Oxford University Press، NY، 2006، P.72.

(104) أًنظر: د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت: مبادىء حقوق الإنسان في الإسلام والمذاهب الأخرى، تعریب خلیل زامل العصامي، من إصدارات المجمع العلمي العالي للثقافة والفكر الإسلامي، مرکز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2011، 1، ص 245.

(105) القرآن الكريم، سورة النحل، الآية (90).

(106) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011. ص 656.

(107) أًنظر ص 36 - 37 من بحثنا هذا فيما يتعلق بالقطاع العام.

(108) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخيل، بيروت، 1 - 4، 2011. ص 554.

( 109) Michael Pacione، Urban Geography، A global perspective، NY ،2002،P 312.

(110) بن خلدون: المقدمة، الفصل الرابع، في الموقع: / https://ar.wikisource.org wiki (111) أُنظر الموقع: / http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar .

/habitat3

(112) أُنظر الموقع: http://mawdoo3.com /

(113) راجع ص 5 وص 25 من البحث.

(114) د. عبد الحسين العمري، مصدر سابق، ص 532.

ص: 395

(115) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، مصدر سابق ص 39.

(116) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري. مصدر سابق، ص 531.

(117) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت: مصدر سابق، ط 2011، 1، ص 219.

(118) القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية (191).

(119) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 220.

(120) نهج البلاغة، ص 174.

(121) نهج البلاغة، ص 91.

(122) أنظر: دستغیب: التفكر. على الموقع: https://goo.gl/TvePKF

(123) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 250.

(124) المصدر السابق، ص 251.

(125) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، مصدر سابق، 682.

(129) المصدر السابق، 682.

(127) المصدر السابق، 978.

(128) أنظر: د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 252.

(129) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، مصدر سابق، 665 - 666.

(130) القرآن الكريم، سورة الحشر، الآية (7).

(131) الفَيء: الغنيمة: تنال بلا قتال (واردات الدولة الإِسلامية)، أُنظر: نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011. ص 464 و ص 670.

(132) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 670.

(133) المصدر السابق، ص 464.

(134) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: http://bit.ly/2vKTCF9.

(135) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، مصدر سابق، 664.

(136) أنظر: المصدر السابق، 678 - 679.

ص: 396

أنظر كذلك: - أ.د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج....، مصدر سابق، ص 96 - 97 - 112.

(137) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 248.

(138) القرآن الكريم، سورة النساء، الآية (135).

(139) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 248.

(140) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: http://bit.ly/2vKTCF9.

ص: 397

المصادر والمراجع

أولا: مصادر البحث و مراجعه باللغة العربية:

1. القرآن الكريم.

2. البكاء، د. حيدر عبد المطلب: المنهج الاقتصادي في نهج البلاغة (قراءة معاصرة). الموقع: /54_ http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book main.htm

3. الجوهري أ.د. محمد: علم الإجتماع، النظرية، الموضوع، المنهج، مصر، دار المعرفة الجامعية، 1998.

4. الراضي، عبود: المنهج الحركي في القرآن الكريم، دار المنتدى، عناصر الدولة في فكر

5. الشهيد الصدر، مجموع أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، العارف للمطبوعات، بیروت - لبنان، شباط 2010.

6. الرهيمي، أ. د. سعد خضير عباس: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الإقتصادي العام في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، مجلة المبين، السنة الثانية، العدد الثالث، نیسان 2017.

7. الرهيمي، أ. د. سعد خضير عباس: الاقتصاد المعرفي أساس التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، مجلة جامعة بابل للعلوم الصرفة والتطبيقية، السنة 2011، المجلد 19، العدد. 4.

8. السيد نبيل الحسني: الأمن الفكري في نهج البلاغة، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط 1، 2015.

ص: 398

9. الشرهاني، أ.د. حسين علي: منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في معالجة الفساد المالي، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الأولى - العدد الأول، 2016.

10. الصدر، السيد محمد باقر: فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط 2، 1998.

11. الصدر، السيد محمد باقر: إقتصادنا، دار للمطبوعات، بیروت، ط 20، 1987.

12. الصدر، السيد محمد باقر: المحاضرة الاولى في الموقع: / https://goo.gl CXULJ2

13. الصغير، أ.د. محمد حسين علي: الإمام علي (عليه السلام) قيادته سيرته.. في ضوء المنهج التحليلي، في الموقع: _ http://www.haydarya.com/maktaba moktasah/05/book_07/main.htm

14. الصفار، حسن: الإمام علي (عليه السلام) ونهج المساواة، على الموقع:

https://goo.gl/6ry Qn4

15. الصفار، حسن: التنمية الإنسانية في عهد الإمام علي عليه السلام، في الموقع: http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_9301/. html

16. الطائي، أ.د. يوسف حجيم سلطان: نظرية الاستدامة اللانهائية وأبعادها في فكر الإمام علي (عليه السلام) لبناء الدولة المستدامة، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية - العدد الثالث، 2017.

17. العارضي، أحسان: جدلُ الحداثةِ وما بعدَ الحداثةِ في الفكرِ الإسلامي المعاصر، قراءة موجزة في اشكالية العلاقة، مركز الفكر الإسلامي المعاصر، ط 1، 2013.

18. العبادي، نعمة: السياسات الأمنية في مشروع الدولة عند الشهيد الصدر،

ص: 399

مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان، شباط 2010.

19. العقاد، عباس محمود: عبقرية الإمام علي، المقدمة، دار الكتاب العربي، لبنان، 1967. وكذلك أُنظر الموقع: .http://www.haydarya com/maktaba_moktasah/15/book_207/abqariyat_alimam.pd

20. العمري، د. عبد الحسين عبد الرضا: البعد الاخلاقي واثره في بناء الدولة في فكر محمد باقر الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، شباط 2010.

21. الموسوي، د. السيد علي مير ود. السيد صادق حقیقت: مبادىء حقوق الإنسان الإسلام والمذاهب الأخرى، تعريب خليل زامل العصامي، من إصدارات المجمع العلمي العالي للثقافة والفكر الإسلامي، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2011، 1.

22. بدوي، د. زكي: الإمام علي (كرًم الله وجهه) والتسامح الديني والسياسي، في الموقع: https://goo.gl/fdVMUT

23. بن خلدون: المقدمة، الفصل الرابع، في الموقع: .https: //ar.wilkisource/ org/ wilki

24. حسين، الدكتور طه: الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، ج1، ص10.

25. وأيضاً في الموقع: /http://www.muhammadanism.org/Arabic book/Taha Husain/grand riot 1.pdf

26. حموده، أ. عبد الوهاب: الآراء الاجتماعّية في نهج البلاغة، في الموقع: //:https goo.gl/JVpHk6

ص: 400

27. دستغيب: التفكر. على الموقع:

https://goo.gl/TvePKF

28. رجب، حمدي محمد ابراهیم: بناء منظومة تعليمية قائمة على التدريب المدمج وقياس فاعليتها في تنمية مهارات صيانة الحاسب الآلي لطلاب مراكز التدريب المهني، رسالة ماجستير، كلية التربية الأولى، جامعة حلوان، 2014.

29. مراد بن علي زريقات: التغير الإجتماعي عند ابن خلدون، ورقة عمل مقدمة الندوة إبن خلدون التي تعقدها الجمعية السعودية لعلم الاجتماع، الرياض 2007. في الموقع:

http://www.murad-zuriekat.com/articles16.html 30. شمس الدين، محمد مهدي: حركة التأريخ عند الإمام علي (عليه السلام)، (دراسة في نهج البلاغة)، بیروت، لبنان، ط 1، 1985.

31. عليان، عدنان الحاج کاظم: الإمام علي بن أبي طالب (کرمه اللهّ وجهه) ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية. في الموقع: / http://www.haydarya.com maktaba moktasah/15/book_29/najaf21.html

32. عهد الامام علي (عليه السلام)، الى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: http://bit.ly/2vKTCF9

33. عمر، د. حسين: مبادئ المعرفة الإقتصادية، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط 1، 1989.

34. عودة، د. محمد: سيادة الدولة ومهامها الوظيفية في فكر السيد محمد باقر الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بیروت، لبنان، شباط 2010.

30. محمد، د. عبد الرحيم: التغيير ومبرراته وأسباب المقاومة، في الموقع:

//:http dr-ama.com/?p=1451

36. مطهري، أ. مرتضى: في رحاب نهج البلاغة، الدار الاسلامية للطباعة

ص: 401

والنشر والتوزيع، بیروت، 1992.

37. النصر الله، أ. د. جواد کاظم: الإمام علي (عليه السلام) مصدراً من مصادر الفكر الاسلامي، مجلة المبين، السنة الاول، العدد الثاني، 2016.

38. نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011.

39. نواب السيد ابو الحسن: الكرامة الإنسانية، دراسة في طهارة الانسان على ضوء الفقه الاسلامي، قم، نشر أديان، الأول 1389 ش / 1431 ق.

40. هلال، د.علي: عن العلاقة بين الدولة والمجتمع. في الموقع: .

https://goo gl/d3Jgbu

41. وناس، أ.د. زمان عبيد: التنمية الاقتصادية في فكر أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية، العدد الثالث، 2017

42. ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، ج 7 ص 37 الطبعة الأولى / 1987م دار الجيل، بیروت.

43. http://mawdoo3.com/

44. http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/fehres1.htm

45. http: //www.org/ habitat3/sustainabledevelopment/ar

ثانياً: مصادر البحث ومراجعه باللغة الانكليزية:

Raymond Wacks; Philosophy 1- of Law a very Oxford short introduction University Press، NY، 2006.

2- Michael Pacione، Urban Geography، a global perspective، NY، 2002.

ص: 402

رعاية الأيتام وبناء أسرهم أثناء الحرب وتجلياتهم الإنسانية في نهج البلاغة

اشارة

الباحثة كفاح الحداد

ص: 403

ص: 404

مدخل

يمثل الايتام شريحة عامة موجودة في كل المجتمعات الغنية والفقيرة والمتطورة والنامية، وهي ايضا احدى الشرائح الهشة في المجتمع والتي يمكن التسلط عليها او سلب حقوقها او ظلمها بسهولة لضعف القدرة الدفاعية عنها كونها تمثل افرادا قاصرين يفتقدون إلى السند الاسري الحقيقي المتمثل في الاب الذي يمثل الامن الاقتصادي والاجتماعي للاسرة، والامر الاخر ان هذه الفئة هي من الشرائح الاجتماعية ذات الاعمار الصغيرة وهي بالتالي شريحة ضعيفة من حيث البناء والقدرة وهي ايضا لم تصل إلى مرحلة الوعي بالاوضاع الاجتماعية بما في ذلك الظواهر السلبية فيه مثل ابتزاز الضعفاء او استغلال الصغار وبتعبير اخر انها شريحة تحتاج إلى الحماية والرعاية والصيانة كونها تمثل أمل المجتمع ومستقبله الاتي وعلى هذا يفترض ان تتوفر لها الأرضية السليمة لنجاح عملية التنشئة الاجتماعية والتي من ضمنها تهيئة مستلزمات عملية التربية المادية والمعنوية مما يكون لها عونا على عبور مرحلة خطيرة ومؤلمة.

ولهذا جاءت التوصيات القرانية والأحاديث النبوية باهمية رعاية الايتام، وذلك كي يعيش اليتيم بامن وامان ريثما يستوي عوده ويشتد ساعده.

من هو اليتيم

اليتم: الانفراد، واليتيم - الصبي أو الولد: فقد أباه قبل البلوغ.. والجمع يتامی وأيتام. فاليتم في اللغة له معاني منها: الانفراد والفقد والانقطاع وكلها معاني تؤثر على وضع اليتيم المادي والمعنوي على حد سواء، وبمعنى آخر فاليتم له أعظم الأثر على نفس اليتيم وبالتالي ينعكس على سلوكه.

ص: 405

المعجم الوسيط(1)

واليتم في الناس: فقدان الصبي أباه قبل البلوغ.

يقول المفضل: أصل اليتم الغفلة، وبه سمي اليتيم يتيماً لانه يتغافل عن بره(2).

اليتيم بالمعنى الاصطلاحي الفقهي

يعرف اليتيم عند الفقهاء بأنه اسم لمن مات أبوه وهو لم يبلغ الحلم، فكل صغير مات أبوه قبل سن البلوغ هو يتيم سواء كان عنده مال ام لا وقد عرَف امير المؤمنين (عليه السلام) اليتيم بقوله (عليه السلام):

عن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «لا يُتْم بعد الحلم»(3). على هذا يمكن القول ان اليتيم هو الطفل الذي فقد اباه وهو لم يبلغ سن البلوغ، ويكون سن البلوغ للبنت بعد اكمال تسع سنوات قمرية وللذكر بعد اكمال خمسة عشر عاما قمريا، بمعنى ان اليتيم يكون عمره قبل هذه السن.

ويمكن تقسيم اليتامى إلى نوعين:

1. النوع الاول هم ابناء الشهداء الذين استشهد اباؤهم اما في جبهات القتال كما في حال الحشد الشعبي او نتيجة مقارعة الطواغيت والحكومات الظالمة فقضوا نحبهم على اعواد المشانق او في السجون أو المقابر الجماعية.

2. والنوع الثاني هم الذين مات اباؤهم نتيجة حوادث طبيعية كالمرض او حوادث السيارات وغيره.

ص: 406

اليتيم في القران الكريم

جاء ذكر اليتيم في القران الكريم تارة للتعريف بحقوقه واخرى لتبني الاليات السليمة في التعامل معه.. قال تعالى:

- «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(4).

- «كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ»(5)

- قوله تعالى: «يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ»(6).

- «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»(7).

- «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ»(8)

- «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ»(9).

- «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا»(10)

والملاحظ ان القران الكريم لم يخاطب اليتيم نفسه انما خاطب المسؤولين عن تربيته والمحيطين به کما خاطب باقي شرائح المجتمع.. كما أن القران الكريم ادان الظواهر الاجتماعية الخاطئة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي وعمل بها المسلمون الاوائل قبل نزول النصوص الدينية الداعية إلى رعاية اليتيم مثل دع اليتيم ومنع الطعام واكل مال اليتامى ظلما إلى غير ذلك. وكلنا يعلم أن الآيات من سورة الإنسان قد نزلت في اهل بيت العصمة (عليه السلام) في امير المؤمنين وزوجه فاطمة الزهراء وولديه ريحانتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن

ص: 407

والحسين عليهم افضل التحايا والسلام. والملاحظ أن ذکر اليتيم جاء مع ذكر المسكين والاسير وهؤلاء كانوا في ازمة خانقة بسبب الجوع فطرقوا باب الوصي (عليه السلام) و لثلاث ليال متواليات فنزل الذكر الحكيم يعظم هذا العطاء في سورة الدهر، وقد جاء الترادف (مسکینا ويتيما واسيرا) للتعريف بالشرائح الضعيفة في المجتمع ولالفات النظر إلى اهمية برهم واطعامهم كون السورة كلها نزلت في الثناء على آل البيت (عليهم السلام) لما قدموه من ایثار لاطعام هؤلاء الثلاثة رغم انه كلفهم المبيت على الطوي.

اليتيم في السنة النبوية الشريفة

روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: من مسح يده على راس یتیم ترحما، کتب الله له بكل شعرة مرت عليه يده حسنة.(11)

- وعنه (صلی الله علیه وآله وسلم) انه قال: (ان في الجنة دار لا يدخلها الا من فرح يتامى المؤمنين)(12).

روي أنّه لما أستشهد جعفر بن أبي طالب، أتی رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسماء فقال لها: «أخرجي لي ولد جعفر جعفر فأُخرجوا إليه فضمّهم وشمّهم(13).

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتقي الله عزّ وجلّ وأشار بالسبابة والوسطى»(14).

- عن عجلان: قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: من أكل مال اليتيم؟ فقال: «هو كما قال الله: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا» - قال هو من غير أن أسأله - من عال يتيماً حتى ينقضي يتمه أو يستغني بنفسه، أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار(15).

- عن سماعة بن مهران قال سمعته (عليه السلام) يقول: «إنّ الله عزّ وجلّ

ص: 408

وعد في مال اليتيم عقوبتين أمّا أحدهما فعقوبة الآخرة النار، وأمّا عقوبة الدنيا فهو قوله عزّ وجلّ «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(16). يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذریّته کما صنع هو بهؤلاء اليتامى(17).

- عن النبي (صلى الله عليه وآله): «من قبض يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنّة البتة، إلّا أن يعمل ذنباً لا يُغفر»(18).

لماذا الكلام عن اليتامى؟

سؤال يطرح نفسه دوما وربما نجد أنفسنا بحاجة للوقوف عنده:

- بداية تمثل الطفولة اهم واجمل مراحل الحياة وهي تلقي بتبعاتها على كل المسيرة الانسانية فاذا كانت هذه الطفولة معجونة بالحزن والاسى نتيجة غياب احد رکني التربية الاساسية فان الاثار تمتد مع امتداد العمر لان عملية التربية تبدأ مع الطفل حين ولادته وتستمر نتائجها مدى الحياة.

- ان الاهتمام باليتيم يساعد على توجيه النظر إلى هذه الفئة العاجزة عن تامين التزاماتها الحياتية والمالية، فاليتيم لا يستطيع التعبير عن حاجاته او مایرید، و بهذا تعرف لماذا وجه القران الكريم الخطاب لمن هم يحيطون باليتيم وليس إلى اليتيم نفسه.

- ولان اليتيم لا يفهم حقيقة الموت فقد يتصور أن غياب الاب نتيجة لسوء تصرفاته هو كأن يكون قد الح في اامر ما قبل وفاة الاب مما يجعله يشعر بالذنب طوال حياته، ومشكلة اليتامى (خاصة الصغار منهم) انهم لا يفهمون معنی الغياب الابدي.

بعض علماء التربية يجعلون تصنيف الطفل اليتيم ضمن فئة ذوي

ص: 409

الاحتياجات الخاصة والتي تستعمل للاطفال المعاقين اذ يعتبرون غياب الاب او الام اعاقة للعملية التربوية وبالتالي فهؤلاء بحاجة إلى رعاية مكثفة لاعانتهم على التكيف ضمن الأزمة التي يمرون بها.

ان اهم مشکلتان يعاني منها اليتامی هي:

1. افتقادهم لمصدر التوجيه والضبط والقانون المتمثل في سلطة الاب.

2. افتقادهم للامن الغذائي والحماية الاقتصادية باعتبار ان الاب هو مصدر تامين حاجات الاسرة الاقتصادية.

بما يعني ان الاسرة قد تتعرض للفقر والحرمان بسبب غياب الاب وهو ما وجدناه في كثير من الحالات حيث يعتري اسرة اليتيم والارملة الفقر مما يدفع بالاسرة إلى دفع هؤلاء اليتامى إلى سوق العمل منذ الصغر بما يعني انهم اجبروا على الانسلاخ عن طفولتهم ودخول عالم الكبار قبل أن يصلوا إلى السن التي يستطيعوا فيها العمل لعدم اكتمال البناء الجسدي والعقلي والادراكي، وتتعرض الكثير من البنات اليتيمات إلى الزواج القهري ماأن تصل إلى سن البلوغ لعجز اسرتها عن تامين حاجاتها الغذائية والاقتصادية ولهذا اعتبر امير المؤمنين (عليه السلام) (الفقر الموت الاكبر)(19).

3. ووهو القائل لابنه محمد بن الحنفية: يَا بُنَيَّ، إِنِّ أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْه، فَإِنَّه الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدَّينِ، مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ، دَاعِيَةٌ لِلْمَقْت!(20)

4. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ابتلي بالفقر فقد اُبتلي بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله، وعقله، والرقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه.(21)

ص: 410

دور الاب في الاسرة

يمثل الاب مصدر الأمن الاقتصادي والاسري ووجوده يعني الحماية والدفاع عن الاسرة كما انه يمثل القانون والضبط في الأسرة باعتبار ان القوامية مسندة اليه.. ولا ننسى ان الاب هو القدوة الصالحة لاولاده وله دوره في تشكيل الهوية الجنسية للاولاد الذكور کما انه السبب وراء نجاح البنات في الحياة لما يعززه من الشعور بالثقة والقوة والشجاعة عندهن، بالتالي فان غياب الاب يؤدي إلى عدة اثار منها ضعف الثقة بالنفس والتردد والاضطراب السلوكي اضافة إلى الشعور بالنقص وتعزيز الشعور بالحرمان، وكثير من الاطفال يصابون بالاكتئاب حينما يفقدون ابائهم حتى اولئك الذين يشعرون بالفخر في اللحظات الأولى للرحيل كأن يكون الاب مجاهدا بطلا شهيدا لكنهم مع مرور الأيام ينتابهم الاكتئاب. وفي الرواية المنقولة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مع اليتيم الحزين الباكي لان الاخرين ينعتوه بانه لا أب له بيان لهذا الحرمان فهو يبحث عن التعويض وايجاد البديل.

وفي لقائنا مع الكثير من ایتام شهداء النظام المباد كانت هناك مآسي كثيرة ورغم قدمها الا انها مازالت مؤثرة حتى الان وقد تركت بصماتها على حياتهم الحالية ويعمق احساسهم بالتوتر کلما تعرضوا إلى مفردات حياتهم السابقة رغم مرور عقود من الزمن على غياب الاب.

حتى على صعيد العلاقات الاجتماعية (خاصة عند الذكور) نجد ان هناك ضعفا وتلكؤا في العلاقات الاجتماعية سبه عدم وجود البديل المناسب الذي يساهم في بلورة هذه العلاقات وانضاجها بسبب تعدد البدلاء، ورغم انه في كثير من الاحيان تصبح الام هي الاب ايضا في وقت واحد الا ان تاثير الجدود والاعمام والاخوال والاصدقاء يبدو جليا ما يؤدي إلى حدوث تداخل في العملية التربوية.

ص: 411

ويخطئ من يتصوران حكاية الالم تنتهي حينما يصل الاولاد إلى سنين الرشد.. انهم يبقون مع الذاكرة الاليمة التي عاشوها لطفولة حزينة.. وكثير منهم لطول فترة الالم يصاب بالتوتر على صعيد الوضع النفسي والاجتماعي واحيانا يشعروا بالاهانة لكثرة المسح على رؤسهم وبطونهم خاوية!!؟ بل يشعرون بالذلة والاهانة في مواقف تبقى منحوتة في العقل الباطن.

لكل ماعرضناه يكون الطفل اليتيم هو حالة خاصة في المجتمع ویکون المجتمع مسؤولا عنه من خلال توفير فرص الحياة الكريمة لهم. بمعنى ان اليتم (في حال اهماله) هو عامل من عوامل ایجاد الاعاقة النفسية والاجتماعية اضافة إلى انه يساهم في زيادة نسبة الأسر الفقيرة في المجتمع فباعتبار ان الاب هو المسؤول عن توفير ما تحتاج اليه الاسرة من الشؤون الاقتصادية والمالية فان غيابه قد يدفع الاسرة إلى دفع الاولاد إلى سوق العمل وهم صغار وهذا يعني ضياع فترة الطفولة والدخول إلى عالم الكبار قبل الاستعداد له جسميا ونفسيا وقد يؤدي في كثير من الاحيان إلى ترك الطفل للدراسة وانشغاله باعمال مرهقة قد لا تدر عليه المال الكثير ويبقى يزاول هذه الاعمال حتى الكبر لعدم حصوله على التعليم المهني الكافي. وقد يؤدي حرمان الطفل من الأسرة نتيجة اليتم إلي عدم شعوره بالطمأنینه واحساسه بالوحدة والاغتراب حتى لو كان موجودا في جماعة.

بيد اننا لا ننسى انه حينما تتوفر الارضية المعينة للايتام والتي تلبي احتياجاتهم النفسية والعاطفيه فان هؤلاء الصغار قد يكونوا عظاما وياتي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ليكون النموذج الاسمى لليتيم الذي جعله اليتم يستشعر بالآم الناس قبل بعثته الشريفة وفي الآية الكريمة (الم يجدك يتيما فآوى)(22) بیان لبعض معاناته صلى الله عليه واله وسلم، وهذه الاية تشير إلى أهمية المأوى للايتام

ص: 412

باعتباره احد عوامل الاستقرار والشعور بالكرامة.

الموت في عيون الصغار

واحدة من اسباب معاناة اليتامی هو فهمهم وتفسيرهم لغياب الاب.. وفي احايين كثيرة تلجأ الأم إلى الكذب المستمر وتقول ان اباك سافر.. ويبقى الطفل ينتظر وينتظر مع شعوره المتزايد بالامتعاض الشديد.. اذ كيف ترکه الاب دون أن يخبره؟ ولماذا غاب طويلا؟ انه يفسر ذلك على ان الاب هجره (بارادته) فهو اذا لا يحبه!!.. ولذلك تشجع التوصيات الحديثة على ضرورة أعلام الأطفال بموت الاب مباشرة بعد الوفاة وان كان الأمر قاسيا لهم. كما في الرواية عن القطب الراوندي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«إن خديجة لما توفيت جعلت فاطمة تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله وتسأله: يا أبتاه أين أمي؟ فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) لا يجيبها، فجعلت تدور وتسأله: يا أبتاه أين أمي؟ ورسول الله لا يدري مايقول فنزل جبرائیل (عليه السلام) فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب كعابه من ذهب، وعمده یاقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون و مریم بنت عمران، فقالت فاطمة: إن الله هو السلام ومنه السلام و إليه السلام».(23)

هذه الرواية تبين لنا كيفية اعلام اليتيم بالخبر المؤلم، انه (صلى الله عليه وآله) اخبر ابنته ان امها رحلت إلى الابد ولكنه اعطى صورة جميلة للمكان الذي انتقلت اليه انه في بيت من قصب كعابه من ذهب، فالطفل يتصور الصورة الجديدة ومن المؤكد انها اجمل كثيرا عما كانت عليه حينها كانت في الدنيا فيقل الالم.

ص: 413

يطالع الاولاد صورة الموت في ما يشهدونه من احداث مثل موت طائر او موت الجد الكبير في السن او موت احد المعارف.. لكنهم لا يفهمون المعنى الاصلي اله خاصة اذا كانوا في عمر قبل السادسة ولهذا يكون اليتم اشد قسوة على الايتام الصغار لضعف الادراك عندهم.

وكما ذكرنا سابقا أن الطفل الصغير لا يفهم معنی (رحل إلى الابد) فكلمة الابد لم يستوعبها عقله الصغير بعد بل انه مازال قاصرا عن فهم ابعاد الزمان والمكان.

وتلعب شخصية الأم دورا كبيرا في ايصال المفهوم الصحيح للموت وآلية التعامل السليم معه وهذا هو العامل الرئيسي المؤثر على حالة التاقلم عندهم.

ولأن الموت حدث مفاجيء في اغلب الاحايين فان كثيرا من الامهات ينشغلن بامور الحداد والعزاء ولا يجدن الوقت الكافي للحديث مع الابناء عن رحيل الاب وهذا مايضاعف من حدة الازمة.. ولا ننسى ان الام هي ايضا بحاجة إلى رعاية نفسية واجتماعية ولكن للاسف يهمل هذا الجانب في مجتمعاتنا خاصة عند الامهات الصغيرات، وربما يساهم وجود طرف اخر کالجد والعم والخال والاخ الكبير في تخفيف الشعور بالازمة بالنسبة للاطفال.. كما ان ظروف الموت هي ايضا مؤثرة على الأولاد الان شهداء الحشد الشعبي ترعاهم المرجعية والمجتمع وظروف التشييع مما يجعل الابناء في وضع متوازن احسن بكثير من ابناء شهداء النظام المباد الذين لم يحظوا با جساد تدفن في قبور وعاشوا في اجواء ظاغطة كاتمة تمنع حتى من تفريغ الحزن بالبكاء.

يفسر الاطفال الفقدان بما يخسروه يقول الاطفال حينما يرحل الاباء من يشتري لي الشي الفلاني.. من يعلمني الدرس.. من ياخذني إلى مدينة الالعاب.. ثم انهم يربطون السبب بالنتيجة فاذا استشهد في الموصل فكل من يذهب إلى

ص: 414

الموصل يستشهد واذا مات في الجامعة فكل من في الجامعة يموت.. تختفي كل هذه التصورات حينما يدخل الابناء المدرسة ويرتقوا في العلم والتعلم، وهو بهذا التفكر بحاجة إلى مراعاة لمشاعرهم وتعزيز الشعور بالامان عندهم، ولهذا كانت رعاية اليتيم مؤثرة بشكل كبير قبل وصوله إلى سن البلوغ لانها تنتشله من مشکلات الطفولة وتساهم في تخليصه من العقد النفسية.

على هذا فالمطلوب أن نبين لهم الحقيقة ان الاب مات ولن يعود ابدا واذا كان شهيدا فالاولى ان يفتخر الابناء بانه بطل شجاع عظیم قاتل من اجل الوطن والدين فهذه تخفف من حدة الحزن والاسى.. وربما يكثر الأطفال الصغار من طرح الأسئلة فلنحذر من الخوض في تفاصيل متعبة لعقولهم الصغيرة كما انه ليس من الصحيح ان نتركهم بلا اجوبة ولو مختصرة.

ولعل من اقسى العقد التي تمر باليتامى قبل سن المدرسة خاصة واحيانا تمتد لما بعدها هو الشعور بالذنب خاصة اذا كان الطفل في لقائه الأخير قد سبب مشاكسات او توتر معين کان قام بضرب اخته الصغيرة فصاح الاب في وجهه وخرج ولم يعد!!.. يبقى الصغير يشعر انه هو سبب الوفاة وان الاب هجره لسلوكه الخاطيء واحيانا تذكَر الام الطفل بما قام به في اللقاءات الاخيرة فيصبح الطفل اکثر اكتئابا واكثر شعورا بالوحدة والانعزال وكل ذلك يترك اثره على الاداء الدراسي فيصاب بالخلل وعدم القدرة على التركيز.. ولا ننسى انه قد تظهر اثار جسدية لليتم المفاجيء مثل التبول اللاارادي والاستيقاظ فزعا من النوم والاصرار على رؤية الاب کما في ما يذكره التاريخ لنا من اصرار السيدة رقية بنت الحسين عليهما السلام على رؤية اباها ولو كان راسه في الطشت!! .. ان الاثر النفسي لليتم يبدا اولا من الصدمة في تلقي الحدث ثم محاولة تفسيره ثم التكيف مع الحدث

ص: 415

والذي يتماشى طرديا مع الاجواء المحيطة ومقدار الرعاية وتوفر البديل المناسب اللاب إلى غير ذلك. فالمطلوب اذا اخراج اليتامى من الصدمة الاولية لموت الاب والاثار والتبعات المتعلقة بها.

ويلعب الاشباع العاطفي دورا كبيرا في توفير الحاجات النفسية للاطفال واهمها الحاجة إلى الحب والحاجة إلى الأمان والحاجة إلى الشعور بتقدير الذات والتفاؤل بالمستقبل إلى غير ذلك.

وفي كثير من الاحيان يتم التعامل مع اليتيم باسلوب الحماية الزائدة والذي هو احد الاساليب الخاطئة في التربية والذي يؤدي إلى انتاج نماذج غير متوازنة للشخصية وفي أحايين كثيرة لا تتبنى المؤسسات المعنية بالیتامی اعدادهم مستقبليا ومنحهم التاهيل المهني فكيف سيكون حال اليتيم اذا انقطع عنه فجأة الطعام والغذاء والماوی؟ انه يصبح فريسة سهلة لاعداء البشر من الذين يستهدفون هذه الشرائح الضعيفة لابتزازهم ودفعهم نحو الانحراف.. وقد ادركت العتبات المقدسة هذا الخلل التربوي فقامت بتاهيل اليتامى للعمل وتوفير الأجواء المناسبة هم حتى بعد سن الرشد.

اليتامى وقت الحروب

تعتبر الحروب واحدة من أقسى الكوارث التي تمر بها الأمم والشعوب وتترك اثارها على الانسان والارض والحيوان والكون كله، كما انما من عوامل تدمير النسيج الاجتماعي من خلال التشرد والنزوح و فقدان بعض افراد الاسرة بالموت او الاسر. وبما ان الاسرة هي الكيان الاجتماعي الأول في المجتمع فان عوامل التفكك والتهديم تطال الأسرة في الحروب مما يؤدي إلى اضرار نفسية واجتماعية اضافة إلى الاضرار المادية وغالبا ما تكون التداعيات اخطر على الشرائح الهشة في

ص: 416

المجتمع والتي من ضمنها الاطفال والنساء وكبار السن وتكون الاضرار على الطفولة قاسية إلى أمد بعيد باعتبار ان مرحلة الطفولة هي مرحلة بناء الشخصية واكتساب الطفل للقيم الاجتماعية السليمة والصحيحة.. فالحرب تعني تدمير المدارس والمستشفيات مما يعني غياب التعليم والرعاية الصحية والحرب تعني زيادة عدد الاطفال اليتامى والمشردون والمعاقون، وفي إحصاءات اليونيسيف إن حروب العالم قتلت مليون طفل ويتمت مثلهم، وأصابت 5، 4 مليون بالإعاقة، وشردت 12 مليون وعرَّضت 10 ملايين للاكتئاب والصدمات النفسية، الجزء الأكبر من هذه الأرقام يقع في بلدان العرب والمسلمين مع الأسف!!.

وبشكل عام تؤدي الحروب إلى اصابة الاطفال بالصدمات النفسية والخوف والشعور بالإحباط والياس اضافة إلى ان الاحداث المؤلمة تبقى في ذاكرتهم على مر الزمن، وان اثار الحروب على الاطفال قد لا تظهر كلها وقت الحرب لانشغال الناس بها لكنها تطفو على المشهد الساخن حينما تضع الحرب اوزارها كما هو في الرواية التي سنذكرها عن أمير المؤمنين (عليه السلام) والمراة التي فقدت زوجها في معركة صفين اي بعد انتهاء المعركة.

ولا ننسى ان الحرب ومعارك التحرير قد تطال بعض اضرارها المدنيين من غير المقاتلين کما حصل في تحرير الموصل حيث احتجزت عصابات داعش المدنيين وجعلتهم دروعا بشرية ومنعتهم من الذهاب نحو القوات الامنية وقوات الحشد الشعبي بل انها قامت بقتل الكثير من الذين فكروا بالنزوح او اللجوء إلى الطرف العراقي مما أدى إلى زيادة اعداد اليتامی.

وفي حالة وقوع الحرب او حصول التداعيات الأمنية كالانفجارات التي حصلت لزوار الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء والكاظمية المقدسة

ص: 417

يبحث الاطفال عن الاب الذي يكون مصدر الحماية والرعاية والدعم النفسي والذي يقدم لهم التفسير السليم لما يحدث، فغيابه يشكل الما جديدا ربا يفوق الالم الذي احدثته الحرب نفسها اذ يغيب عمود الامن الاسري الذي يمكنه من انتشال الاطفال من تداعيات الحرب القاسية وفي أحايين كثيرة فان امتدادات الحرب تحول دون الوصول إلى عملية توافق نفسي واجتماعي مع الحدث مما يعني استمرار الازمة وتداعياتها.

ولا يخفى على احد ان اعداد الیتامی تتزايد وقت الحروب وفي النموذج العراقي من خلال الحرب ضد داعش ارتفعت نسبة الايتام وذلك لان اغلب المقاتلين في الحشد الشعبي كانوا شبابا في ربيع العمر وتركوا اطفالا صغارا، اضافة إلى الاطفال الذين اصبحوا يتامى بسبب ظروف الحرب من المدنيين او المحاصرين في المدن، وقد نقل التلفزيون العراقي مشاهد مروعة لما جرى في حرب تحرير الموصل اذ وجدوا اطفالا يتامی بقوا بمفردهم يبكون في البيوت بعد أن قتل الاباء، وفي الحرب العراقية الايرانية عثر الحرس الثوري على اطفال صغار تحت الأنقاض وكانوا يجهلون حتی اسماء ابائهم وقد سلموا كثيرا من هؤلاء الأطفال اليتامی إلى اسر تقوم برعايتهم مقابل مخصصات من الدولة ولكن باسماء جديدة!!.. ولا ننسى ان الحرب وكذلك الحوادث والانفجارات قد تؤدي إلى يتامى فاقدين لكلا الابوين وهنا تكون المصيبة اقسى واكثر الما اذ تزداد معاناة الاطفال وقد تؤدي إلى شعورهم بالاكتئاب الدائم او الاغتراب.. ولا ننسى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) عاش يتيما من طرف ابيه فقط وكانت امه معه إلى ست سنوات اضافة إلى كفالة جده وعمه.. ومما يزيد من مرارة حال اليتيم هو الامية التربوية التي تعيشها مجتمعاتنا تجاه المفاهيم التربوية بشكل عام وتجاه الأسس التربوية في التعامل مع

ص: 418

اليتيم مما يزيد الطين بلة، فاليتيم في مجتمعاتنا يتكفله الاعمام والاخوال لیکون خادما لاولادهم وينعت بنعوت غير مناسبة ويستولي على امواله إلى غير ذلك من الاخطاء التربوية التي تجد لها رواجا في مجتمعات لا تهتم باصول التربية السليمة.

وفي وقت الحروب تزداد الحاجة إلى رعاية الأيتام وذلك لاسباب منها:

1. بما ان الكثير من الأولادهم من ایتام المقاتلين وخاصة مقاتلي الحشد الشعبي والجيش فان الحق الأول للشهداء المقاتلين هو رعاية اسرهم وابناؤهم.

2. ان الاهتمام بالايتام يجعل المقاتلين يندفعون للقتال وهم على اطمئنان کامل علي مصير ابناؤهم واسرهم وان هناك يد ترعاهم.

3. وهذا يعزز لدى المقاتل نفسه الشعور بقدسية الاهداف التي يقاتل من اجلها.

ولا ننسى أن الاهتمام باليتامى يساهم في التاثير على الراي العام وتهذیب ميولهم وتعديل اتجاهاتهم، ولهذا نرى انه يساء استغلال شريحة اليتامى من اجل الحصول على مكاسب سياسية أو غيره، وهو ايضا استغلال هذه الارواح البريئة في تحصیل منافع ذاتية ولعله اقذر استثمار.

ومن شروط الصلح مع معاوية الذي عقده الامام الحسن (عليه السلام) بنداً جاء فيه «وان يفرق في أولاد من قتل مع امير المؤمنين يوم الجمل واولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم(14)

اليتيم في السيرة العلوية المباركة

- ومن عهده عليه السلام لمالك الأشتر لمّا ولّاه مصر قال: «و تعهّد أهل اليتم وذوي الرقّة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه(25).

ص: 419

- و من وصية له (عليه السلام) للحسن و الحسين (عليه السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: اَلله اَلله فِی اَلْأَیْتَامِ فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ وَ لاَ یَضِیعُوا بِحَضْرَتِکُمْ(26).((27))

- ويقول ايضا (عليه السلام): انا ابو اليتامى والمساكين(28).

- ويقول ايضا: بروا ایتامكم وواسوا فقرائكم(29).

- عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: «من ظلم يتيماً عقّ أولاده(30).

- ويقول (عليه السلام): «من اوى اليتيم ورحم الضعيف وادی امانته جعله الله في نوره الاعظم يوم القيامة(31)

- ويوصي (عليه السلام) الحسنين (عليه السلام) بقوله: اوصيكما بتقوى الله... وارحما اليتيم واغيثا الملهوف(32)

- ويقول (عليه السلام) لاحد الولاة «فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة، اسرعت الكرة وعاجلت الوثبة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لاراملهم و ایتامهم(33)

- ويقول (عليه السلام) ایضا: بئس القوت اكل مال اليتيم(34)

- يروي الكاتب المسيحي جورج جرداق القصة التالية عن مناقب أمير المؤمنين علي عليه السلام ويقول معلقاً: وأنا أكتب هذه القصة عن محبة علي عليه السلام وحنوه على الأطفال والأيتام انهمرت عيناي بالدموع، فابتلت الأوراق التي بين يدي وتبلل ما کنت كتبته... والقصة كما يلي:

ذات ليلة جاء علي عليه السلام بالطعام إلى أسرة فقدت معيلها وفيها أيتام، فوجد بين الأيتام طفلاً لا يهدأ، فسأله الإمام عليه السلام عن سبب ذلك. فقال الطفل: إن الأطفال يقولون لي أن لا أب لك.

ص: 420

فقال له الإمام عليه السلام: قل لهم إن علياً هو أبي.

وهذه شهادة واضحة

- وينسب للإمام علي قوله:

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** كما تأوهت للأيتام في الصغر

- عن زيد بن اسلم: كنت مع على عليه السلام امشي فانتهينا الا امرأة توقد تحت قدر لها فيه ماء وأولادها يبكون، فقال علي عليه السلام: ما شانهم يبكون؟ فقالت: هم ايتام وليس عندهم ما اطعمهم فافعل هذا وهم يظنون انه طبيخ حتى يناموا.

قال: فقال لي: مر بنا إلى دار الدقيق فانتهينا اليه، فقال: اشلل علي، قلت: احمل عنك، فقال من يحمل ذنوبي يوم القيامة؟ فحملها علي عليه السلام وقال: شانك والشحم، قال: فو الله لقد رايته ينفخ تحت القدر وان لحيته لفي الرماد حتى طبخ، ثم قال للمرأة: شانك والصبية.

فقلت: نخرج؟ قال علي عليه السلام: لا ابرح حتى اسمع ضحكهم كما سمعت بكاءهم.

قال: فشبع الصبية فلهوا وضحكوا، ثم انصرف علي عليه السلام.

- عن حبيب بن أبي ثابت أنّه قال: «جيء بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الإمام عليّ عليه السلام بإحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام من العسل، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء(35).

ص: 421

لماذا اهتم امير المؤمنين (عليه السلام) برعاية الايتام

احدى المعالم الواضحة في مدرسة اهل البيت (عليه السلام) هي رعاية اليتيم والاهتمام به وقد لقب امير المؤمنين (عليه السلام) بانه ابو الايتام لاهتمامه بهذه الشريحة ورعايته لهم بشكل واضح وصريح ولهذه الرعاية الخاصة عوامل عدة منها:

1. انه في زمن الجاهلية لم تكن هناك أي رعاية للايتام بل كانت حقوقهم ضائعة فكان سلوك الامام (عليه السلام) مع الايتام حتى قبل توليه السلطة هو للتعريف بموقع ومكانة واهمية رعاية اليتيم في الاسلام وبذلك كان للامام (علیه السلام) دور كبير في ازاحة الاساليب الخاطئة والظالمة في التعامل مع اليتيم.

2. لا ننسى ان رعاية الايتام هي صورة حاضرة في كل سيرة اهل البيت (عليه السلام) وهي في نفس الوقت صورة غائبة عن كل الخلفاء الذين حكموا سواء ماقبل الدولة الاموية اوما بعدها. وقد كان لرعايتهم (عليه السلام) لهؤلاء الايتام اثر كبير في نشر الفكر القويم لمدرسة اهل البيت (عليه السلام) وتاييد لواقعيتها واهتمامها باحوال المجتمع.

3. ان رعاية اليتامى تساهم في التعريف بمسؤولية الافراد والمجتمع والدولة تجاه اليتيم ليس كفرد بل كشريحة موجودة في المجتمع تحتاج إلى حماية ورعاية.

4. وتساهم رعاية الايتام في التعريف بحقوق الطبقة الهشة في المجتمع وذلك له اثر كبير في حماية حقوقهم ومصالحهم واصلاح الظروف المحيطة بهم واصلاح حالهم وتنمية مواهبهم.

5. ولتوجيه الاهتمام بتربية الاجيال الصالحة ضمن الافراد الذين يعيشون في اسر غير كاملة حيث يغيب احد الابوين او كلاهما مما يستوجب وجود البدلاء.

ص: 422

6. کما ان رعاية المسلمين للايتام يسد ابواب الانحراف عنهم وذلك لانه يقطع الطريق امام الانتهازيين والطامعين والمنحرفين والضالين الذين يستغلون الطبقات الضعيفة لمصالحهم الخاصة.

7. واخيرا فان الامام (عليه السلام) هو الصورة العليا للانسان الكامل العابد المجاهد وكأنه (عليه السلام) من خلال رعايته للايتام اراد ان يفعَل النموذج الاسلامي بان الاسلام ليس دين عبادة وصلاة فقط بل ان المسلم الحقيقي هو الذي يتفاعل مع قضايا المجتمع والامه ويعيش همومه.

ولا ننسى أنه حين يقوم أصحاب أعلى منصب حكومي برعاية اليتامى فإن الآثار الاجتماعية تکون أوسع من حيث تفعيل صورة القدوة الحسنة وأهمية التجرد عن الذات والنرجسية والانانية والاهتمام بالمجتمع وتفعيل مبدأ التكافل الاجتماعي.

الخطوط العشرة في رعاية الايتام عند أمير المؤمنين (عليه السلام)

1 - تحديد العمر

عن امير المؤمنين علي عليه السلام عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «لا يُتْم بعد الحلم(36). أي أنه (عليه السلام) حصر اليتم بمرحلة الطفولة الاولى إلى الطفولة الثانية وقبل الوصول إلى سن البلوغ حيث تعتبر هذه اهم مرحلة من عمر الانسان لما لها من دور تاسيسي في بناء شخصية الطفل وتنمية الضمير والتوجيه نحو القيم السليمة وهي ايضا مرحلة العجز اذ لا يقدر الطفل على المطالبة بحقوقه ويتعرض لاستغلال الآخرين لانه ضعيف ولا يمتلك القدرة البدنية والعقلية والقانونية. وتحرص الدول على توفير كافة مستلزمات النمو

ص: 423

للاطفال في هذه المرحلة لما تتركه من اثار على حياتهم المستقبلية وعلى مدى احساسهم بالسعادة والهدفية. وفي الحديث عن امير المؤمنين (عليه السلام): يُرخي الصبي سبعا ويؤدب سبعا(37).

ويقول الامام الصادق (عليه السلام): احمل صبيك حتى ياتي على ست سنين، ثم ادبه في الكتاب ست سنين، ثم ضمه اليك سبع سنين فادبه بادبك، فان قبل وصلح والا فخل عنه(38).

فالمطلوب تكثيف العناية باليتامى في هذه المرحلة وبعدها اي في مرحلة المراهقة الاولى والتي تبدا تقريبا من سن عش سنوات يصبح الطفل اكثر وعيا وادراكا لمفاهيم الحياة واكثر قدرة على الدفاع الاولي عن نفسه والاستعانة بالاخرين، وفي بعض الدول تستمر رعاية الايتام إلى سن ال 18 وهو سن الرشد العالمي، وفي ایران تستمر رعاية ايتام الشهداء إلى حين موتهم اذ تقوم الدولة بتوفير الخدمات الصحية والعلاجية والتعليمية لهؤلاء واذا ماتوفي احد منهم لسبب ما فانه بالاضافة إلى منحه دفتر التامين الصحي الذي يساعد في تخفيض الاجور الصحية وتوفير المكان الصحي في مستشفيات جيدة فانه يعطى له قبرا خاصا في مقبرة الشهداء وهذا تكريم جميل له، وتشمل مؤسسة العين التابعة للمرجعية الطلبة المتفوقين بعناية خاصة حيث تتبنى تقديم الاعانة المالية لهم حتى حصولهم على شهادة الدكتوراه، ومن المشاريع التي تقوم بها بعض المراكز على سبيل المثال هو تزويج اليتامى فيما بينهم خاصة الذين لا يجدون سكنا بعد مغادرتهم دور الرعاية فعلى هذا يجب ان نفرق بين تحديد سن اليتم وبين الرعاية لهم وبين الاهتمام بهم کاحدى شرائح المجتمع ولعل المراد من تحديد عمر اليتيم ان متطلبات رعاية اليتيم كاسباغ الحب والحنان وتوفير الحاجات الاساسية لمعيشته تكون مطلوبة تحت

ص: 424

عنوان رعاية اليتيم ولكن بعدها يصبح الاولاد ضمن شرائح المجتمع المستضعفة التي تحتاج إلى رعاية مستمرة إلى حين النضج ضمن مبدأ التكافل الاجتماعي.

2 - بيان حالهم والتعريف بانكسارهم:

(ومن عهده عليه السلام لمالك الأشتر لمّا ولّاه مصر قال: «وتعهّد أهل اليتم وذوي الرقّة في السن ممّن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه

وهذا تعريف بوضعهم العام انهم لاحيلة لهم في شيء بل انهم لا يقدرون على شيء لانهم صغار وهذه مأساة اليتيم انه طفل صغير غير قادر على المطالبة بحقوقه او تحصيلها وهو بحاجة إلى المحامي والمدافع عنه وليس هناك افضل من القائمين على شؤون الدولة في ان يقوموا بمراعاتهم وانصافهم وتوفير فرص الحياة الطيبة لهم فالاهتمام بالطفولة هو اهتمام بتنمية الموارد البشرية المستقبلية للبلد وهنا يكون ما جاء في عهده لمالك الاشتر بمثابة امر رئاسي إلى احد ولاته بضرورة الاهتمام بهذه الشريحة وهو ايضا توجيه النظر إلى ضرورة رعاية الايتام.

لقد كان الإمام علي (عليه السلام) يحمل قلقاً وهمًّا بالنسبة للايتام في المناطق البعيدة عن مركز خلافته ولهذا كان يعزز في وصاياه لولاته اهمية الاهتمام بالشرائح الفقيرة، يقول (ولَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَی مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، ولُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، ونَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِ جَشَعِي إِلَ تَخَیُّرِ الأطْعِمَةِ ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَمَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، ولا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ)(39).

فهذه التوصيات هي دعوة خالدة إلى الاعتناء باليتامى ومدارا تهم والرفق بهم.

3 - اكرامهم

ص: 425

كرم الله تعالى الجنس البشري بقوله عز وجل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(40).

و قال (صلى الله عليه وآله): اكرموا اولادكم وأحسنو ادبهم، يُغفر لكم.(41)

وقال علي موصياً كميل بن زیاد «ره»: يا كميل مُر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم(42)

وقال (عليه السلام): فمن أخذ بالتقوى غربت عنه الشدائد بعد دنوها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها»(43)

بل ان امير المؤمنين ليدافع عن النصراني حينما سلبت كرامته والقي في قارعة الطريق ففي الرواية: كان الإمام (عليه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف (عليه السلام) متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام): ما هذا؟ ولم يقل من هذا، و(ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، أي انه (عليه السلام) رأى شيئاً عجيباً يستحق أن يتعجب منه، فقال أي شيء هذا؟

قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف.

فقال الإمام (عليه السلام): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بيت المال راتباً(44).

وكل انسان بحاجة إلى تعزيز الشعور بالكرامة عنده فكيف اذا كان طفلا محروما من كان يكسبه هذه الكرامة بشكلها الواسع لو كان حيا!!.. فالاب لانه يمثل الامن والقوة والحماية يعتبر احد مصادر الشعور بالكرامة لدى الابناء ولهذا يتفاخر الابناء بابائهم بل يتسابقون في اسباغ كل الصفات الكمالية عليهم

ص: 426

خلال سعة الخيال التي يملكوها. ان الطفل اذا ماشعر انه انسان مكرم محترم فانه يعتز بنفسه واسرته ودينه ويكون ذلك سبباً لخلاصه من عقد كثيرة اهمها عقدة الحقارة والشعور بالنقص.

ومن صور اكرام اليتيم في القرآن هو تاكيد القرآن الكريم على اهمية رعاية الايتام وخاطب في ذلك عموم البشر ولم يطلب من اليتيم شيئا!! وفي سيرة الامير (عليه السلام) مايؤكد هذا التكريم فهو (عليه السلام) يرسل إلى مالك الاشتر امرا رئاسيا باهمية متابعة شؤون اليتامى كما انه رغم ماهو عليه من المكانة العظمى يلاعبهم ويلاطفهم ويقوم باطعامهم، كما انه يوصي بهم في اللحظات الاخيرة من عمره كما يوصي بالصلاة والقرآن !!.

عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: جيئ بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الامام علي عليه السلام بإحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام من العسل، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إن الامام أبو اليتامى وإنها ألعقتهم هذا برعاية الآباء(45).

وقد اشرنا في النقطة الاولى حول تحديد عمر اليتيم إلى جوانب من التكريم ولا ننسى ان ايتام الشهداء يكونوا بحاجة إلى تعزيز الشعور بالكرامة عندهم من خلال بيان منزلة ابائهم وبأنهم شهداء وبأنهم ضحوا من اجل المباديء السامية، وفي الرواية: نظر علي عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها، فقالت: بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك عليّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.

فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلا أصبح، حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال بعضهم:

ص: 427

أعطني أحمله عنك.

فقال: من يحمل وزري عنيّ يوم القيامة؟.

ونرى اهتمام الامام (عليه السلام) بحال المراة وايتامها بعد ما علم ان ابوهم استشهد في مامورية بعثه بها.

4 - العدالة مع الاطفال الآخرين

العدل مطلوب في كل جوانب الحياة وهو واحد من اهم اصول ومباني التربية الناجحة وفي الحديث: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان فقبل احدهما وترك الآخر فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): فهّلا ساويت بينهما(46).

وعن (صلى الله عليه وآله): اعدلوا بين ابنائكم كما تحبون ان يعدلوا بينكم في البر واللطف(47).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «أدّب اليتيم ممّا تؤدّب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك(48)

ما اروعها من كلمةّ!!.. فرعاية اليتيم تحتاج إلى شعور ابوي سليم نحوه ولابد من مراعاة العدالة خاصة اذا كان هناك اطفال اخرون في البيت، فالجميع بانتظار التعامل السليم من المربي مع الجميع. فهذه البراعم الغضة تواقة إلى العدالة كي تنشا التنشئة الاجتماعية السليمة ويكسر قلوبها غياب العدل وتبقى اثار ذلك مدى الحياة!!.

ينقل احدهم كان عمي هو كفيلنا وكان يشتري في العيد ملابس لاولاده ولا يشتري لنا!! قالها وعمره ستون عاما ولنا ان نقدر الالم النفسي الذي عاشه طوال عقود من الزمن.

ص: 428

واخر يقول: كان عمي هو كفيلنا وكان يجبرنا على الذهاب إلى الدكان عند الصباح الباكر واولاده نيام!!.

وتقول يتيمة: كان جدي كفيلنا فلما مات امرنا عمنا بمغادرة البيت لاننا لا نستحق ارثا ولم ندري اين نذهب!!

ان غياب العدالة في التعامل يؤدي إلى الشعور بالغبن وبقتامة الحياة وغياب روح التفاؤل، اذ يشعر اليتيم بان الحياة كلها ظلم حينما مات ابوه وحينما تعاملوا معه بتلك الصور المؤلمة ولعل اهم شيء نحتاجه في التعامل مع اليتيم هو زرع روح الامل وبيان ان الدنيا فيها ابتلاءلات وفيها اشراقات كي يتخلص من الصورة السوداوية التي عشعشت في مخيلته.

وهناك اساليب خاطئة في التعامل مع الايتام (وغيرهم) منها الحاية الزائدة له وتدليله بشكل تذوب فيه شخصيته الانسانية حيث يصبح معتمدا اعتمادا كليا على الآخرين كما تضعف عنده القدرة على تحمل المسؤولية وانخفاض ثقته بنفسه ومن الاساليب الخاطئة الاخرى هو تحميله مالا طاقة له بها والقاء المهام عليه مع اعفاء ابناء الكفيل من هذه المهام مما يولد عنده الشعور بالظلم والتعاسة او التفريق في التعامل بينه وبين اطفال الشخص الراعي

کما ان التذبذب في المعاملة يربك الاطفال، وهناك اسلوب خاطيء اخر هو المن على الطفل اليتيم فالكفيل يكرر دائما بانه يرعاه ناسيا وان هذا العمل مرهق له وبانه لو لم يكفله لكان خيرا له!!.. ولا ادري هل الايتام بحاجة إلى رعايتنا كي يكبروا بصحة ام انا نحن الذين بحاجة إلى زيادة روافد البر كي ناخذ اجورنا في الحياة الاخروية وهو اشد مانحن بحاجة اليه كما قال عليّ عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من عمال يتيماً حتّى

ص: 429

يستغني، أوجب الله عزّ وجلّ له بذلك الجنّة كما أوجب لأكل مال اليتيم النار»((49)).

ان الطفل الصغير يخزن الكلمات التي يسمعها بل انها تعيش معه طوال حياته، و قد رايت طفلا يتيما ذي خمس سنوات يقبل قدمي المربي لتهديده المستمر له بانه يطرده من البيت!!. نحتاج إلى تعلم اللطف والرحمة في التعامل مع الصغار كي يكون هناك خط واضح في التربية دون محاباة ودون انحراف ومن خلال تطبيق العدالة يتضح لنا صدق الكفيل لليتامى بانه یروم الخير لهم ويحرص عليهم.

5 - توفير الحاجات النفسية والعاطفية والفسيولوجية

الحاجة هي حالة من النقص والعوز والافتقار واختلال التوازن تقترن بنوع من التوتر والضيق لا يلبث ان يزول متى قضيت الحاجة وزال النقص سواء اكان النقص ماديا او معنويا، فالفرد يكون في حاجة إلى الطعام متى اعوز جسمه الطعام وفي حاجة إلى الامن متى احتواه الخوف وافتقر إلى الامن(50).

وکما هو معلوم فان الحاجات الفسيولوجية ترتبط بتوفير الطعام والملبس وغيره في حين ان الحاجات النفسية والعاطفية تتمثل في الحاجة إلى الامن والحب والتقدير والشعور بالانتماء واللعب والحاجة إلى المعرفة والحاجة إلى اكتساب مهارات الحياة اليومية والحاجة إلى اكتساب القيم الدينية والأخلاقية للجماعة وغير ذلك.

ص: 430

والطفل اليتيم يعاني من تخلخل في اشباع هذه الحاجات بسبب غياب الاب وهذا يعني الحاجة إلى توفيرها عند المهتمين برعايتهم، وتاتي الحاجات الفسيولولجية في اسفل هرم ماسلو وهي تشمل الطعام والملبس والمسكن وغيره وغالبا ما يكون الاب هو المسؤول عن توفيرها ثم تاتي مسئلة الحاجة إلى الامان وهي ايضا موكلة إلى الاب وبعدها تاتي الحاجات النفسية ومنها الحاجة إلى الحب

يقول جاري تشابمان في كتابه لغات الحب الخمس: (لكل طفل احتياجات عاطفيه اساسية لابد ان تلبى اذا كنا نرغب في طفل مستقر من الناحية العاطفية واهم شيء هو احتياجات الحب والمودة فالاحساس بالرغبة والانتماء هو ما يحتاج اليه الطفل وبدون الحب سيكون شخصا متخلفا من الناحية العاطفية والاجتماعية.. ويضيف.. في داخل كل طفل خزان للعاطفة في انتظار ان يملاء بالحب فعندما يشعر الطفل انه محبوب فانه سينمو بشكل طبيعي ولكن عندما يكون خزان الحب فارغا سيتصرف الطفل بشكل غير سوي فاكثر السلوكيات السيئة التي تصدر عن الاطفال تكون بسبب الرغبة الملحة في ملء هذا الخزان(51).

وفي الرواية: قال له: يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب فهو يناديهم يابني وهي أجمل كلمة غابت عن اليتامى!!. وهم يحبون سماعها لانها تشعر هم بانه مازال

ص: 431

هناك من يحبهم.

وفي أحايين كثيرة تستغرق الأرملة (أي أم الأيتام) في مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية واذا كانت الأم صغيرة السن (كما هي الحال في الكثير من شهداء الحشد الشعبي) تكون الصعوبات عليها أكثر وتكون هي بحاجة إلى الاشباع العاطفي ولهذا لا تستطيع تلبية حاجة الطفل نفسه إلى الحب والحنان مما يجعل الطفل عاجزا عن ملئ الخزان بالحب!!.

وفي دائرة اهتمام الامام علي (عليه السلام) بالايتام نرى أنه أعطى أهمية للحاجات الفسيولوجية والنفسية ففي الرواية:

عن حبيب بن أبي ثابت أنّه قال: «جيء بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الإمام عليّ عليه السلام باحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقّين کان بنفسه يطعم الأيتام من العسل، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء(52).

انه يطعمهم العسل کاشباع غذائي وهو يطعمهم بنفسه ليسد حاجة هؤلاء اليتامى إلى الشعور بالحب اي اشباع عاطفي.

وفي الرواية: ذات ليلة جاء علي عليه السلام بالطعام إلى أسرة فقدت معيلها وفيها أيتام، فوجد بين الأيتام طفلاً لا يهدأ، فسأله الإمام عليه السلام عن سبب ذلك. فقال الطفل: إن الأطفال يقولون لي أن لا أب لك.

فقال له الإمام عليه السلام: قل لهم إن علياً هو أبي.

وقد التقيت باحد المسؤولين في الحشد الشعبي كان يصطحب الأولاد إلى المتنزهات والمسابح ويضحكمهم ويلاعبهم كي يخفف عنهم وطء اليتم.

ص: 432

6 - توجيه الراي العام نحو الايتام

وذلك يتجلى من خلال الوصية الأخيرة بهم حيث قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللهَ اللهَ في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم(53).

ومن البديهي أن الوصية هي الكلام الاخير والامر الاخير الذي يجب تنفيذه وعلى هذا فقد خصهم بالذكر خاصة وانه كان راعيا للكثير منهم وكان يقدم لهم المؤنة اللازمة على هذا كانت وصيته (عليه السلام) دعوة خالدة إلى رعاية اليتامى والاهتمام بهم، وهي دعوة إلى عدم تضييعهم والتضييع قد یکون ماديا من خلال رميهم إلى ازقة التسول الأسنة وقد يكون التضييع معنويا من خلال عدم توجيههم الوجهة الصحيحة والسليمة ولهذا راينا ابناء علماء شهداء ضاعوا في احابيل الضلال لعدم تعهدهم ومنذ طفولتهم بالتوجيه الديني الصحيح.. فالرعاية مادية ومعنوية.. نفسية وبدنية.. دنيوية واخروية.

7 - الاستمرارية (فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم).

وذلك من خلال تقديم المعونة اليهم باستمرار وعدم قطعها لانهم يعتمدون على هذه المعونة كليا فليس من الصحيح ان يعيش اليتامى على مساعدات وقتية او متقطعة، والافضل ان يكون هناك برنامج خاص لرعايتهم كمثل الذي تقوم به مؤسسة العين الاجتماعية حيث تخصص لهم مرتبا شهريا وهذا له اثر في تعزيز الشعور بالكرامة عندهم من ناحية وفي انقاذهم من مخاطر التسول والانحراف کما تساهم في دعم الصحة النفسية لهم من خلال زيادة الشعور بالامن المستقبلي.

وقد اشرت في النقطة الأولى إلى رعاية الدول لهم وخاصة لايتام الشهداء إلى حين مماتهم.

ص: 433

8 - محاسبة النفس عند رؤية ايتام بلا معيل

وفي الرواية.. فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليّ عليه السلام إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول احد الصبيان من ذلك شياً قال له يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ مّما أمر في أمرك. فلمّا اختمر العجين، قالت: ياعبدالله، اسجر التّنور. فبادر لسجره، فلّما أشعله لفح في وجهه، جعل يقول: ذق ياعليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى.

كلنا مسؤولون عن رعاية الايتام وخاصة ايتام الشهداء باعتبار انهم قدموا التضحيات من اجل ان تنتصر الامة ويحيا الاخرون بكرامة ولهذا فكل قصور في رعاية هؤلاء يحمل وزره الجميع، والمطلوب ان يتحرك الجميع كل قدر استطاعته وضمن الاماكن القريبة منه ليكون عونا لهؤلاء اليتامى، وقد لا يقدر بعضنا على تقديم المال او غيره لكنه حتما قادر على اسباغ الحب والحنان ومداراة اليتیم نفسيا، كما يمكن للجميع ارشاد الارامل إلى المؤسسات الراعية لليتامى وتعريف هؤلاء اليتامى لدى هذه المؤسسات ولله الحمد فان هذه المؤسسات موجودة في كل مكان وفي كل المحافظات، وحتى اذا لم نستطع كل هذا فابواب الدعاء مفتوحة فلندعو لهم ان يعوضهم الرحمن عن فقدانهم لابائهم وان يرزقهم خير الدنيا والاخرة.

9 - الحث والتشجيع

قال عليه السلام: من رعى الأيتام، رُعي في بنيه(54)

لماذا يوجه الامام (عليه السلام) الانظار إلى الابناء؟ انها التفاتة تربوية مهمة فليس هناك شيء اغلى للفرد من ابنائه، فجل تفكير الانسان في بنيه وفي ما يوفره

ص: 434

ویترکه لهم وقديسوقه الحب الاعمى إلى ارتكاب الحرام لاجلهم قال تعالى (انما اولادکم واموالكم فتنة)(55) وهو بكلامه (عليه السلام) يدعو إلى التفكير المستقبلي في الاولاد من خلال مايقوم به الاباء، فمن رعى الايتام رعي في بنيه والكلام عام يشمل الكل حتى اولئك الذين لا يفكرون بالاخرة، فربما یکون حرصهم على اولادهم سببا لرعاية الايتام.

الانماط التربوية

نظر علي عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها، فقالت: بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك عليّ صبياناً يتامی، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس. فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلما أصبح، حمل زنبیلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك.

فقال: من يحمل وزري عنيّ يوم القيامة؟ فأتی وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي، فإن معي شيئاً للصبيان. فقالت: رضي الله عنك، وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب. فدخل وقال: أنيّ أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي، وبين أن تعلّلي الصبيان لأخبز أنا. فقالت: أنا بالخبز أبصر، وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعلّلهم حتی أفرغ من الخبز. فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليّ عليه السلام إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول احد الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بني، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ مّما أمر في أمرك. فلّما اختمر العجين، قالت: ياعبدالله، اسجر التّنور.

ص: 435

فبادر لسجره، فلّما أشعله لفح في وجهه، جعل يقول: ذق ياعليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامی. فرأته امرأة تعرفه، فقالت: ويحك، هذا أمير المؤمنين. فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا امير المؤمنين. فقال: بل واحيائي منك يا أمة الله، فيما قصرت في أمرك...(56)

حينما نتأمل هذه الرواية فاننا نجد أن الانماط التربوية التي استفاد منها امیر المؤمنين (عليه السلام) متعددة منها:

1 - التربية بالتغافل:

فهو لم يعاتب المرأة التي كانت تدعو عليه ولم يهاجمها او يثأر لكرامته بل تغافل عنها وكأنه ليس هو المعني بالكلام!!، وهذا الامر مهم فكثير من الأسر التي فيها ایتام قد تظهر فيها مشاكل او نزاعات او يعيش أفرادها تحت وطأة الضغوطات مما يؤدي بهم وبغيرهم وربما حتى اليتامى إلى اقوال وسلوكيات مؤلمة فالمطلوب عدم التوقف عند كل كلمة وكل صغيرة وكبيرة أي لابد من التغافل الذي هو ميزة من تكون لهم سعة الصدر والقدرة على التحمل فهو تدريب للمعاصرين بأن يكونوا ذوو صدر رحب في التعامل مع الاخرين وان لا يقفوا عند نقاط التانيب ويمكن أن يتداركوا الأمر فيما بعد باللين والرغبة في مساعدة الآخرين.

2 - التربية بالتسامح

وهو يلحق بالقسم السابق غير ان التغافل ظهر حينما سمع الامام كلامها في اول لقاء واما التسامح فهو بعد ان عرفت المراة أن من كان في بيتها ويطعم صغارها هو امير المؤمنين الذي طالما نالته بلسانها فحينما عرفته المرأة لم يؤاخذها بكلامها السابق ولم يذكرها بما کانت تدعو عليه!! وهذه غاية النبل، يقول القران الكريم: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*

ص: 436

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»(57).

نعم لا يلقاها الاذو حظ عظيم، وهذا الاسلوب القراني هو من اهتمامات التنمية البشرية المعاصرة التي تسعى لترويج مفاهيم التسامح بعد ان طغت ثقافة العنف في عموم المشهد الانساني.

أنه (عليه السلام) لم يؤاخذها بكلامها ولم يعاتبها مما جعلها تشعر بالخجل لموقفها وهكذا يجب ان يكون التعامل مع هذه الطبقة المرهقة المتوجعة.

3 - التربية باللعب:

فامير المؤمنين ويعسوب الدين عليه السلام انشغل بالصبيان واخذ يلعب معهم ويلاطفهم وهو تأكيد على حاجة الطفولة إلى هذا الاسلوب التربوي، واذكر اني كنت مرة في حفل تكريم لايتام فانشغلت الامهات بجمع الثياب للبنات الصغيرات وهؤلاء كانوا يطالبونني بالدمى!!.. وهذا النمط من التربية يساهم في فتح المنافذ الحسية وتنمية الاحاسيس الايجابية وزرع روح التفاؤل اضافة إلى افاضة اجواء البهجة على البؤساء.

4 - التربية بالقدوة

نقلت الرواية إلى الناس والينا على مر قرون من الزمن وتعلم الجميع درسا رائدا في كيفية التعامل السليم مع الشرائح الهشة والضعيفة في المجتمع دون ان يحول الزهو والغرور والمنصب الرفيع عن ذلك وهو تربية و توجيه لمن هم في مراكز الدولة على كيفية التعامل مع هذه الشريحة الصغيرة في العمر وللاسف يلجا صناع القرار إلى استغلال ضحكات الايتام وحاجاتهم المادية من اجل الدعاية الانتخابية اي ان هذا العمل له بعد دنيوي فحسب وليس لمرضاة الله وهذا من

ص: 437

اكثر الصور ظلما للطفولة ولقد رایت ذوي المناصب يجمعون اليتامی ویدعون وسائل الاعلام لتصور الحدث وتنقله لقاء نزر يسير من القوت لا يعادل عشر الاجرة التي دفعها ذوي اليتامی لسائق السيارة كي يوصلهم إلى هذا المكان!!.

فالمطلوب الاقتداء بسيرة امير المؤمنين (عليه السلام) في التعامل مع الأيتام، فلو کنت معلما اهتم بالطلبة الايتام ولو كنت مديرا اهتم بایتام الموظفين وتذكرهم ولو كنت مسؤولا فحسبك ماكتبه للاشتر وهكذا وافعل ذلك من اجل اخرة باقية وليس من اجل مناصب في دنيا فانية.. نعم لم يطلب منهم امير المؤمنين (عليه السلام) صوتا انتخابيا ولا درجة دنيوية بل طلب ابراء ذمته فهو المسؤول عنهم باعتباره خليفة المسلمين.

6 - التربية بالحب:

وهو احوج مایکون له اليتامى وفي الرواية (وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول احد الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بنيّ)

وهي كلمة يتمنى سماعها الأولاد العاديون فكيف بفاقدي ابائهم!!. وقد اشرنا إلى هذه النقطة سابقا.

4. التربية بالترهيب:

وهي رسالة موجهة لكل من يهمل يتيما او يؤذيه او يأكل ماله ظلما او يغض الطرف عن رعاية اليتامى وفي الرواية (فلّما أشعله لفح في وجهه، جعل يقول: ذق ياعليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى (انه انذار ابدي. وهو القائل: ظلم اليتامى والأيامي ينزل النقم(58).

5. التربية بالتواضع:

ص: 438

وهو امير المؤمنين وهو اخو الرسول (صلى الله عليه وآله) وصهره يبين النا اهمية التواضع في التعامل مع الفقراء والايتام في الرواية (فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة) وايضا (فلّما اختمر العجين، قالت: یا عبدالله، اسجر التنور. فبادر لسجره) نعم قام بكل ذلك بكل تواضع فالناس يتأثرون بالخلق والادب اكثر مما يتاثرون بالكلام في أحايين كثيرة.

6. التربية بالدعاء

وفي الرواية:... شيئاً قال له: يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ مّما أمر في أمرك.

وهو تعبير عن خلجات نفسه (عليه السلام) وعن المه وهذا درس بلیغ اللاجيال كلها.

7. التربية بالاحداث:

وفي الرواية:.. فرأته امرأة تعرفه، فقالت: ويحك، هذا أمير المؤمنين. فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا أمير المؤمنين. فقال: بل وأحيائي منك يا أمة الله، فيما قصرت في أمرك.

كل ماحدث كان له تأثيره الكبير على المرأة نفسها وقد كانت تشتكي منه وتدعو عليه فاصبحت في خجل شديد حينما عرفته وهو توجيه للاخرين في كيفية تدوير الاحداث التي تحصل إلى السار الفاعل في التغيير الايجابي الذييساهم في انتشال الاخرين من الشكوك والاوهام والتصورات السلبية.

والدلالات كثيرة لا يطيقها هذا البحث المتواضع

ص: 439

تجليات رعاية اليتيم على اليتيم نفسه والمجتمع

العقد ان رعاية الايتام والاهتمام بشانهم يساهم كثيرا في تخليصهم من والاضطرابات النفسية كما ان العناية باليتامى يساعد على تنمية الادراك الصحيح للمفاهيم الايجابية في الحياة كالايثار والرفق والمداراة مما يترك اثره في التوجيه السليم نحو هذه القيم، اضافة إلى ان هذه الرعاية تكون سببا لتنشئتهم التنشئة السليمة بعيدا عن استغلال الطامعين والانتهازيين مما يعني تنمية الانسان الصالح في المجتمع القادر على تحمل مسؤولياته المستقبلية.

ومن ناحية اخرى ان رعاية الايتام تترك اثرا على القائمين بها اذ انها تترك اثرا ايجابيا من خلال المسح على رؤوس اليتامى والابتسام في وجوه حيث يتخلص الفرد من الطاقة السلبية التي عنده ويستبدلها باخرى ايجابية وذلك لان الاطفال الصغار يمثلون واحدا من محطات الطاقة الايجابية مما يساهم في تقلیل التوتر والاكتئاب والقلق وواحدة من برمجيات التنمية المعاصرة هو اللعب مع الاطفال كي يتخلص الفرد من الاضطرابات النفسية بل ان هذه الوسيلة تعتبر من وسائل ايجاد الحلول المناسبة للمشكلات التي يعاني منها الفرد. وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أنکر منكم قساوة قلبه، فليدن يتيماً فيلاطفه وليمسح رأسه، يلين قلبه بإذن الله، فإن لليتيم حقاً(59) هذا بالاضافة إلى الاجر الكبير والمكانة القريبة من الرسول (صلى الله عليه وآله).. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «من مسح يده على رأس يتيم ترحّماً له، كتب الله له بكلّ شعرة مرّت عليه يده حسنة»(60)

كما ان هذه الرعاية ستساهم في بناء المجتمع من خلال ضخ النماذج الانسانية السليمة القادرة على خدمة المجتمع اضافة إلى تخليص الافراد من نزعة الانانية

ص: 440

والدوران على الذات وتعزيز مبادء التكافل الاجتماعي.

توصيات

1. آن رعاية الأيتام مسؤولية الكل ابتداء من القيادات العليا والمرجعيات والمؤسسة الدينية والاجتماعية إلى عموم الأفراد كل حسب قدرته ولابد من الاقتداء بسيرة امير المؤمنين (عليه السلام) من خلال تعامله مع الايتام.

2. لابد ان يأخذ الاعلام دوره الاساس في رعاية الأيتام عن طريق الحث والتشجيع وعرض النماذج الايجابية للمتطوعين بالرعاية واذكر انه انتشرت على اجهزة التواصل الاجتماعي صورة لأحد المتطوعين لرعاية اليتامى فكان يحلق لهم رؤوسهم بالمجان ويداعبهم، والغريب أن القنوات الاعلامية الخارجية استضافته وسلطت الضوء على تعامله في حين قال هذا العرض في القنوات المحلية!!.

3. السعي لتخصيص رواتب مستمرة للايتام حتى يصلوا إلى الوقت الذي يكونون فيه قادرين على اعالة أنفسهم.

4 - هناك كثير من المؤسسات تدعي رعاية الأيتام ولها اغراض سيئة اتمنى ان تكون هناك متابعة من قبل الجهات المعنية لكشفها وحماية الاطفال منها.

4. يفترض ان تكون هناك فرق متابعة لدور الأيتام ونصب كاميرا خفية فللاسف الكثير منها هي دور ایذاء الايتام وليس دور رعاية.

5. السعي لاكساب الايتام التعليم المهني الذي يمكنهم من الاستمرار في الدراسة حتى بعد قطع المعونات حين الوصول للسن القانونية.

6. الاهتمام بأسر شهداء الحشد الشعبي والجيش واقامة ندوات ودورات اللامهات للتعريف بالاليات السليمة في التعامل مع ابنائهم اليتامی.

ص: 441

7. رعاية الموهوبين والمتفوقين وتوفير فرص للدراسة الأكاديمية حتى المراتب العليا.

والحمد لله رب العالمين

هوامش البحث:

(1) إبراهيم الزيات وآخرون، المعجم الوسيط، ط (2)، دار إحياء التراث، مادة يتم، 2 / 1062

(2) ابن منظور، لسان العرب، الجزء 15

(3) الطوسي، المبسوط، ج 2، ص 281

(4) البقرة الاية 220

(5) سورة الفجر الاية 17

(6) البلد الاية 15

(7) الاسراء الاية 34

(8) سورة الماعون الاية 1 - 2

(9) سورة الضحى الاية 6 - 8

(10) سورة الانسان الاية 88

(11) علي بن بابویه، فقه الرضا (عليه السلام)، ص 172.

(12) محمد الريشهري، میزان الحکمة، ج 4، ص 3708.

(13) المجلسي - بحار الانوار، ج 79 - ص 92.

(14) الكليني، الكافي، ج 1، ص 406

(15) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 13، ص 192.

(16) سورة النساء الاية 9

(17) الشيخ الصدوق، ثواب الاعمال، ص 239.

(18) الكليني، الكافي، ج 1 ص 406.

(19) نهج البلاغة، قصار الحكم حكمة رقم 163

ص: 442

(20) نفس المصدر حكمة 316

(21) المجلسي بحار الانوار، ج 7، ص 72.

(22) سورة الضحى الاية 6

(23) المجلسي، البحار، ج 43، ص 27، وكذلك في الخرائج والجرائح، ج 2، ص 129، ح 4.

(24) راضي آل یاسین، صلح الحسن، ط 2، بغداد، دار الارشاد، ص 260

(25) نهج البلاغة، رسالة رقم 53، ص 426

(26) نهج البلاغة، ضبط صبحي صالح، رسالة رقم 47، ص 421.

(27) غب القوم: جاءهم يوم وترك يوما، أي صلوا أفواههم بالاطعام ولا تقطعوه عنها

(28) الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج 4، ص 206.

(29) عبد الواحد الآمدي، غرر الحکم، ص 344.

(30) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 13، ص 193.

(31) نفس المصدر، ج 1، ص 5

(32) محمد باقر محمودی، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغه، ج 7، ص 149.

(33) نهج البلاغة، ضبط صبحي صالح، رسالة 41

(34) کاظم مدير، الحكم من كلام امير المؤمنين (عليه السلام)، ج 1، ص 333

(35) الكليني، الكافي، ج 1، ص 406

(36) الطوسي، المبسوط، ج 2، ص 281.

(37) الطبرسی، مکارم الاخلاق، ص 239

(38) المجلسي، بحار الانوار، جزء 47، ص 7.

(39) نهج البلاغة، رسالة 45

(40) سورة الاسراء الاية 70

(41) الطبرسي، مکارم الاخلاق، ج 1، ص 478، ح 1651

(42) نهج البلاغة، الحكم القصار، حكمة 207

(43) نفس المصدر، خطبة 198

(44) العاملی، وسائل الشيعة، ج 11، ص 49، باب 19، ح 1.

ص: 443

(45) المجلسي، بحار الانوار، ج 9، ص 539

(46) الطبرسي، مکارم الاخلاق، ص 321.

(47) الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج 2، ص 46.

(48) العاملی، وسائل الشيعة، ج 21، ص 479

(49) المجلسي، بحار الانوار، ج 79 ص 271

(50) احمد عزت راجح، اصول علم النفس، ص80

(51) جاري تشابان، لغات الحب الخمس، ط 3، مكتبة جرير، السعودية.

(52) الكليني، الكافي، ج 1، ص 406.

(53) نهج البلاغة، ص 421.

(54) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 15، ص 167.

(55) سورة الأنفال، الاية 28

(56) المجلسي، بحار الانوار، ج 1، ص 52.

(57) سورة فصلت، الاية 34 - 35

(58) کاظم مدير، الحكم من كلام امير المؤمنين (عليه السلام) ج 1، ص 587

(59) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3، ص 287

(60) علي بن بابویه، فقه الرضا، ص 172

ص: 444

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

- أمير المؤمنين (عليه السلام)، نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، ضبط د صبحي صالح؛ انتشارات هجرت، ایران

- ابراهیم انیس وروفقاؤه، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط 4، 2004.

- ابن شهرآشوب، محمّد بن علي المازندراني، مناقب آل أبي طالب، دار الأضواء، بیروت، لبنان، ط 2، عام 1991.

- ابن فارس، معجم مقاییس اللغة، تحقیق شهاب الدين ابو عمرو، دار الفكر ط 2، 1998.

- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم، لسان العرب، القاهرة، دار الحديث، 2003

- ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، المبسوط في فقه الامامية، دار الكتاب الاسلامي، لبنان

- احمد عزت راجح، اصول علم النفس، الناشر المصري الحديث.

- احمد محمد مبارك الكندري، علم النفس الاسري، ط 2، مكتبة الفلاح، الكويت 1992.

- الحاكم النيسابوري، أبي عبد الله محمد بن البيع، المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان 2008.

- الحر العاملي، وسائل الشيعة، دار إحياء التراث العربي، بیروت، لبنان، ط. 1404.

- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه القمي، ثواب الاعمال، (قم، منشورات الرضی، د. - الطبرسي، رضي الدين أبي نصر الحسن بن فضل، مکارم الاخلاق، ط 6، (د. م، منشورات الشريف الرضي، 1972).

- العاملي، محمد بن الحسن الحر، وسائل الشيعة إلى تحصیل مسائل الشريعة، تحقیق عبد

ص: 445

الرحیم رباني، (بیروت، دار احیاء التراث.

- الكليني، ثقة الإسلام محمد بن یعقوب، الكافي، دار صعب ودار التعارف، بیروت، لبنان.

- المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، دار احیاء التراث، 1412، بیروت، ط 1، لبنان.

- المحمودي، محمد باقر، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، (بیروت، مؤسسة المحمودي، د.

- النوري، میرزا حسين، مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، تحقيق مؤسسة ال بيت، (بیروت، مؤسسة آل البيت، 1987).

- - جاري تشابمان، لغات الحب الخمس، ط 3، مكتبة جرير، السعودية.

- عبد الواحد الآمدي، غرر الحکم و درر الكلم، ط 3، طهران، 1360 ه.

- عز الدين علي بحر العلوم، مع اليتيم في القران والسنة، دار الزهراء، لبنان.

علي بن بابویه. فقه الرضا (عليه السلام) تحقیق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ایران، 1406

- الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء في احياء الأحياء، ط 2، دار إحياء التراث العربي، بیروت، لبنان، 1404 ه.

- كاظم مدير، الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ط 1، ایران، 1417 ه

- مجلة العلوم الانسانية عدد 27 سنة 2016، مقال الحرمان العاطفي عند الطفل اليتيم، فاطمة الزهراء خموين

- محمد الريشهري، میزان الحکمة، الدار الاسلامية للطباعة، بيروت، لبنان، 1985. 1403 ه.

ص: 446

المحتويات

إنسانية الخطاب العلوي قراءة معرفية في الأبعاد القيمية

م. د. آمال خلف علي آل حيدر - كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

توطئة...11

المطلب الأول: القيم الأخلاقية وأبعادها في أنسنة الخطاب العلوي...12

أولاً:- التقوى...12

ثانياً: - حُسن الخُلُق...15

ثالثا: - الصبر والتصبر...16

رابعاً: - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...17

المطلب الثاني: القيم العبادية وأثرها في التكامل الإنساني...19

المطلب الثالث: المجتمع الإنساني في الخطاب العلوي قراءة قيمية...23

الخاتمة...26

المصادر والمراجع...28

أوصاف خَلْق الانسان في نهج البلاغة الخطبة الغرَّاء العجيبة إنموذجادراسة أسلوبية

م. د. سحر ناجي المشهدي

المقدمة...33

أولاً: الخطبة الغراء (النَّص):...33

ثانياً: الدراسة:...53

ص: 447

ثالثا: الألفاظ التي تدلُّ على مراحل خلق الانسان:...37

رابعاً: أنواع السجع في الخطبة الغرّاء:...41

خامساً: الخاتمة...56

المصادر و المراجع...60

الخطاب العلوي والولاة دراسة في استراتيجية الخطاب ودلالتها السياسية د. طالب حسين - كلية الإمام الكاظم (عليه السلام)

مقدمة...65

المبحث الأول: الخطاب بين اللغوي واللالغوي...68

اولا: البنية اللغوية:...68

ثانيا: الخطاب استراتيجية بلاغية...71

المبحث الثاني: الولاة والخطاب التوجيهي...74

اولاً: الخطاب الفعلي...74

ثانيا: الخطاب الذهني...79

المبحث الثالث: الاستراتيجية والدلالة السياسية...81

اولا - الولاة القريبون...82

ثانيا - الولاة غير المقربين...84

ثالثا: وحدة الاستراتيجية والدلالة السياسية...85

خاتمة واستنتاج...88

المصادر والمراجع...39

تجليات الحجاج في الخطبة الغراء للإمام علي (عليه السلام) دراسة في وسائل الاقناع

أ.م.د. مسلم مالك الاسدي - جامعة كربلاء / كلية العلوم الاسلامية

المقدمة...97

1. الاستفهام:...89

ص: 448

2. الامر:...102

3. النفي:...104

4. الشرط:...106

5. الاستعارة:...108

6.الكناية...110

الخاتمة...113

المصادر والمراجع...115

جدلية الذوات في الخطاب العلوي قراءة إنسانية

أ. م. د. حازم طارش حاتم - كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

توطئة:...119

المطلب الأول: قيم الذوات المتجادلة وأبعادها الإنسانية...120

المطلب الثاني: جدلية التقابل الإنساني في الخطاب العلوي...127

الخاتمة:...133

المصادر والمراجع...136

جزالة أسلوب الامام علي (عليه السلام) في مقام الحرب

السبك المعجمي والحذف أنموذجين

أ. د. حسن منديل حسن العكيلي - جامعة بغداد / كلية التربية للبنات

مقدمة...141

التمهيد:...241

علم النص:...241

النّصيّة Textuality...143

المبحث الأول: الحرب وأخلاقها لدى الامام علي (عليه السلام...145

ص: 449

المبحث الثاني: السبك المعجمي...152

اولاً - التكرار Reitcration ...152

الإحالة التكرارية...153

أشكال التكرار...153

ثانياً - التضام أو المطابقة او المصاحبة المعجمية (Collacation)...159

المبحث الثالث: الحذف...162

1 - حذف الاسم...162

2 - حذف الفعل...164

3 - حذف العبارة...167

4 - حذف الجملة:...167

الخاتمة:...169

المصادر والمراجع...174

صفاتُ القضاة في نهج البلاغة قراءة تأويليّة الأستاذ المتمرسالدكتور حاکم حبيب الكريطي

أسس اختيار القضاة:...180

القدرة على تصريف الأُمور:...181

لا تُمحكه الخصوم:...182

لا يتمادى في الزلّة:...184

لا يُحجم من الرجوع إلى الحقّ:...185

لا تُشرف نفسه على طمع:...186

التأنّي في الحكم:...188

عدم التبرّم بمراجعة الخصم:...189

الصبر على تكشّف الأمور:...190

ص: 450

الصرامة عند اتّضاح الحكم:...190

عدم التأثّر بالإطراءٌ أو الإغراء:...192

وصايا الإمام (عليه السلام) للقضاة:...194

ترك الطمع:...195

مخالفة الهوى:...196

تزيين العلم بالسّمتِ الصالح:...197

عدم المشاورة في الحكم:...199

الاهتمام بأحوال القضاة والنظر في عملهم:...200

اختلاف القضاة في الأحكامِ:...205

كلمة في ختام البحث...211

المصادر والمراجع...216

نظام الترابط الحجاجي في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

د. حامد بدر عبد الحسين م. م. حسن رحیم حنون - كلية الدراسات القرآنية / جامعة بابل

المقدمة (مدخل نظري لروابط الحجاج)...223

اولًا: روابط التعارض الحجاجً:...224

الرابط الحجاجي (لكن)...224

الرابط الحجاجي (بل)...227

ثانيا: روابط التساوق الحجاجي:...231

الرابط الحجاجي (حتى)...231

ثالثا: روابط التعليل الحجاجي:...234

الرابط الحجاجي (لأنَّ)...234

الرابط الحجاجي (لام)...234

الرابط الحجاجي (كي)...236

ص: 451

رابعا: روابط الوصل الحجاجي...237

الرابط الحجاجي (الواو)...238

الرابط الحجاجي (ثم)...239

الخاتمة...241

المصادر والمراجع...243

وصف ضلالة العلماء في نهج البلاغة قراءة تأويلية فكرية لفهم التناقض في وصف الشخصية

أ.م.د. تومان غازي الخفاجي أ. م. د. خالد كاظم حميدي

الكلية الإسلامية الجامعة كلية الشيخ الطوسي الجامعة

مقدمة:...247

المبحث الأول: نحو نظرية تأويل عربية:...249

المبحث الثاني: تأويل نصوص نهج البلاغة التي تصف ضلالة العلماء:...268

المطلب الأول: ضلالة العلماء بسبب عمل العقل المجرد وحده:...268

المطلب الثاني: ضلالة العلماء بسبب عمل القلب وحده كملكة أهواء:...274

المطلب الثالث: ضلالة العلماء بسبب انفصام نظام الإدراك الداخلي عن الواقع:...279

خاتمة:...282

المصادر والمراجع:...286

عتبة البداية في خطب نهج البلاغة (مقاربة سيميولوجية)

م. د. صباح حسن عبيد التميمي

المقدمة:...291

المبحث الأوّل: البعد التنظيري...293

1 - البداية المصطلح والمفهوم والاشتراطات في المنظور التراثي:...293

المبحث الثاني: البعد الإجرائي...305

ص: 452

خطبة (الفتنة) أنموذجا...305

1 - المستوى المعجمي:...308

2 - المستوى التركيبي:...312

3 - المستوى الدلالي (التصويري):...317

نتائج البحث وخاتمته...326

المصادر والمراجع...332

المحور الاجتماعي والنفسي

الوعي الفكري للفرد ومسؤولية الدولة الإنسانية أساس التغيیر الاجتماعي في حتمية المشروع الحضاري في فكر الإمام علي (عليه السلام) الأستاذ الدكتور سعد خض ر عباس الرهيمي - كلية القانون - جامعة بابل

المقدمة...341

توطئة منهجية: عصرنة المشروع الحضاري في الفكر العلوي...342

أسئلة البحث...344

المنهجية العلمية للبحث...344

مشكلة البحث...344

أسباب أختيار البحث...345

أهمية البحث...346

هدف البحث...346

منهجية البحث...347

فرضية البحث...347

خطة البحث...347

ص: 453

أولاً: التأصيل العلمي والتاريخي لمفهوم المشروع الحضاري في فكر الامام علي (عليه السلام):...349

1 - التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي:...351

2 - حث التركيبة الاجتماعية نحو الانفتاح على التطور والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات ونبذ الاختلافات...353

3 - إعتماد سیاسة مالية عادلة ومتوازنة...355

4 - صياغة تدابير نوعية ذات استشراف مستقبلي لسياسة الدولة...356

ثانياً: تحديد كيفية حدوث الاعتماد المتبادل للعناصر الأساسية في التطور الاجتماعي...359

1 - ماهية الوعي الفكري للفرد عنصر أساسي في المثلث السياسي...359

2. مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وإحداث تغيير مؤسساتي لإرساء التفاعل الاجتماعي الايجابي...362

2 - 1 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وبيئته الحيوية...364

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلائم مع تطوير الفرد والمجتمع...365

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد...368

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني...368

2 - 3 - 2 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية...371

2 - 3 - 2 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية...373

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني ووفقاً للمعايير الدولية...373

ثالثاً: حدوث التغيير في المنظومة الاجتماعية نتيجة للتغير في البيئة العامة للفرد...376

رابعاً: أثر التغيير الاجتماعي في التمهيد للبيئة الملائمة للتطور إستناداً للهدي...377

الإستنتاجات:...382

التوصیات...383

الخلاصة...386

المصادر والمراجع...398

ص: 454

رعاية الأيتام وبناء أسرهم أثناء الحرب وتجلياتهم الإنسانية في نهج البلاغة الباحثة كفاح الحداد

مدخل...405

من هو اليتيم...405

اليتيم بالمعنى الاصطلاحي الفقهي...406

اليتيم في القرآن الكريم...407

اليتيم في السنة النبوية الشريفة...408

لماذا الكلام عن اليتامى؟...409

دور الاب في الاسرة...411

الموت في عيون الصغار...413

اليتامى وقت الحروب...416

اليتيم في السيرة العلوية المباركة...419

لماذا اهتم امير المؤمنين (عليه السلام) برعاية الايتام...422

الخطوط العشرة في رعاية الايتام عند أمير المؤمنين (عليه السلام)...423

1 - تحديد العمر...423

2 - بيان حالهم والتعريف بانكسارهم:...425

3 - اکرامهم...426

4 - العدالة مع الاطفال الآخرين...428

5 - توفير الحاجات النفسية والعاطفية والفسيولوجية...430

6 - توجيه الراي العام نحو الايتام...433

7 - الاستمرارية (فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم)...433

8 - محاسبة النفس عند رؤية ايتام بلا معيل...434

9 - الحث والتشجيع...434

ص: 455

الانماط التربوية...435

1 - التربية بالتغافل:...436

2 - التربية بالتسامح...436

3 - التربية باللعب:...437

4 - التربية بالقدوة...437

6 - التربية بالحب:...438

4. التربية بالترهيب:...438

5. التربية بالتواضع:...438

6. التربية بالدعاء...439

7. التربية بالاحداث:...439

تجلیات رعاية اليتيم على اليتيم نفسه والمجتمع...440

توصيات...441

المصادر والمراجع...445

ص: 456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.